صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

العلماء الوافدين من الأقطار على أحوال خصوصية غير منتظمة ولا مفيدة للعموم ، وفي هاته المدة الأخيرة أنشأ بعض الهنود ذوي التوفيق بواسطة العالم الجليل الشيخ رحمة الله (١) مؤلف كتاب إظهار الحق ، مدرسة بمكة المشرفة يقرأ بها الشيخ المذكور ومن معه من العلماء المجاورين بعض دروس في الهيئة والجغرافيا والطب وبعض علوم أخرى رياضيّة وعلم التصوّف أيضا. وبما ذكرناه بلغ السكان لا سيما الأعراب إلى درجة عالية في الجهل وفساد الأخلاق غير أن لطف الله حف بما حدث منذ مدة قريبة من انتشار طريقة الشيخ السنوسي ، الذي كنا ذكرناه عند ذكرنا لرجوعي من فرنسا ، لأن هذا الشيخ كان استقرّ بمكة المشرفة وأنشأ في جبل أبي قبيس زاوية نشر فيها طريقته فانبثت في قبائل أولئك الأعراب حتى كادت أن لا توجد قبيلة إلّا وفيها زاوية وشيخ يرشد إلى الطريق ، فحصل في القبائل نوع من معرفة أصول الديانة الإسلامية والفروض العينيّة والمحرمات الذاتيّة ودب في هؤلاء شيء من صلاح الحال وإن لم يكبحهم عن التعدي على عباد الله القاصدين لأحد الحرمين ، فيا اسفا على إهمال المعارف وضياعها في مكان ينبوع الحكمة وظهورها ، ولولا وجود أفراد من أطباء الدولة الذين ترسلهم لأحد البلدين الأكرمين أو البعض من الهنود العارفين بالطب على الطريقة القديمة ، لكن معرفتهم لذلك عن علم وتدريس للكتب على طريقة أخذ العلم حقيقة فلهم باع حسن في علاج الأمراض ، ولولا هؤلاء لحرمت السكنى في البلد التي يفترض على عموم الأمة وتعميرها ، فإن أبا حنيفة وغيره من الأئمة يقولون : «بحرمة سكنى البلاد التي لا طبيب بها» ، وكل من المدينة المنورة ومكة المشرفة يفترض حمايتها فكيف يسوغ إهمالها بأمر المعارف وأهلها حتى تخلو من طبيب لولا أولئك ، وإنما قلت في أطباء الهند إنهم عالمون بالطب على الطريقة العلميّة احتراسا من المدجلين ممن يدعي هذا العلم مع جهله المطبق به المتكاثر ظهورهم بالبلدان التي لا تتنبه حكوماتها لمنعهم من ذلك التدجيل لأنهم يضرون بجهلهم ، وقد شاهدت ذلك في نفس مكة عيانا حيث كنت مريضا بإبهام رجلي اليمنى حيث انقلب الظفر تدريجا وغاص في اللحم واشتدّ أمره حتى كاد يمنعني عن المشي ، وكان حصل لي مثل ذلك وأنا بباريس فجيء لي بطبيب خاص بذلك النوع من الأمراض وعالجني برفع الظفر بآلات وكيفيّة في عملها لم يحصل لي منها شدة ألم ، وجعل تحت ظفري ورقة من الرصاص صفيقة لكي لا يغوص ثانيا وقطع الظفر إلى محل التصاقه باللحم وعافاني الله بسبب ذلك ، فلما كنت بمكة وعاودني مثل ما وقع سابقا وذكرت لبعض الحاضرين عندي ما كان وقع ، أخبرني بأنه يوجد حكيم يفعل مثل ذلك فجيء به إليّ وكنت محترسا منه لكني رأيت معه آلات للقطع وغيره كثيرة متقنة وابتدأ في

__________________

(١) هو رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي الحنفي نزيل الحرمين ، باحث عالم بالدين. جاور بمكة وتوفي بها سنة (١٣٠٦ ه‍). الأعلام ٣ / ١٨ إيضاح المكنون ٢ / ٣٢٣ هدية العارفين ١ / ٣٦٦ ومعجم المطبوعات (٩٢٩).

٣٢١

العمل من غير كثرة ألم فظننت أنه عن علم فلم يفعل إلّا قطع الظفر لكن عقبه ألم كدت معه أن لا أستطيع المشي لولا لطف الله لأنه أراد الزيادة في القطع بعد ذلك فامتنعت ، لأنه ليس له من العلم شيء سوى كونه حلاقا حجاما تعود على فصد بعض الناس ، فأمثال هذا يمنعون شرعا عن مباشرة أعمالهم :

ولكن البلاد إذا اقشعرت

وصوح نبتها رعى الهشيم

فإذا خلت البلاد عن حكماء عارفين بعلم الطب يضطر الناس إلى هؤلاء الدجالين ، والحق أن أمر المعارف مع كونه واجبا في كل صقع وبلاد فهو في الحرمين أشد تأكيدا ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

مطلب في الأحكام

قد علمت ممّا مر في مبحث السياسة الداخليّة الأصول التي تجري عليها الأحكام وحاصلها : أن سيادة الشريف أمير الحجاز هو مرجع الحكم في قضايا الوقائع التي تقع بين القبائل ، وهو أيضا مرجع الشكايا من مظالمهم ، فيحذر رؤساءهم ومشايخهم ويأمرهم بما يراه وينفذ الحكم في الظالم بحسب اجتهاده هكذا الأصل ، ولكنهم الآن مستبدون بأمورهم كل قبيلة لا تخضع إلا لمشائخها ورؤسائها مما يذكر في زمن الفترة ، وكلّ يحكم باجتهاده واستبداده ولو في القصاص في الأنفس ، وإذا تعدت قبيلة على أخرى كان الأمر لمن هو أقوى ، فطاعتهم الآن لسيادة الأمير إنما هي ظاهريّة وهو وإن استطاع على إخضاعهم ولو بدون عساكر الدولة بل بمن ينضم إليه من بقية القبائل لكنه لا يقتدر على تنفيذ ذلك لما مرّ في أحوال السياسة الداخلية ، كما يرجع إلى سيادة الأمير فصل المضالم في أهل مكة والوالي هو الذي يجلس إلى فصل المظالم فيما يقع بين السكان في مكة أيضا ، فكأنها مشتركة بين الأمير والوالي لكن الوالي ينفرد بسائر مظالم جدة.

والمدينة المنوّرة يجلس فيها المحافظ في مثل ما ذكرناه ، وفي كل بلد حاكم يلقب قائمقام يجري ما ذكر أيضا في المسائل الخفيفة ، والمسائل الثقيلة ترفع إلى الوالي بمكة أو إلى سيادة الشريف الأمير ، والقبائل كلها مشايخها هم مرجع الحكم في سائر القضايا ، ثم أن كلّا من البلدين الأكرمين بها قاض هو مرجع الحكم في كافة النوازل الشخصيّة يجريها بمقتضى الشريعة ، وفي كل من البلدين مفت حنفي يسترجعه الخصوم في أحكام القاضي لكن القاضي ليس ملزوما باتباع فتواه بل لا يجري إلّا ما يراه وإن كان جاهلا ، والمفتي عالما ولا يخضع القاضي إلّا لأوامر باب مشيخة الإسلام في تخت السلطنة إن اقتدر الخصم إلى البلوغ إليه ، ولا يخفى ما في ذلك من المشقة لبعد الشقة ، كما يوجد في كل من البلدين الأكرمين محتسب له النظر في أمر المعاشات وقيم البيوعات وغش البائعين وخسران الكيل والميزان ، ويحكم في ذلك لكه بما يراه من الاجتهاد ولو بالضرب المبرح ، كما يوجد بهما مفات أخر على بعض المذاهب الأخر يرجع إليهم أهالي ذلك المذهب في

٣٢٢

الأحوال الشخصية ويفتونهم بحسب مذاهبهم ، وهؤلاء المفتيون كلهم يولون بأمر من الدولة العثمانيّة.

وأما بقيّة البلدان فجدة بها قاض يولى مثل السابقين وغيرها من البلدان يولى فيها نائب عن القاضي يعينه قاضي مكة لإجراء الأحكام الشرعيّة في البلد التي هو بها ، وبقيّة الإدارات والأحكام ترجع إلى القائمقام أو الشيخ وهو الذي يحكم بما يريد. والحاصل أن إدارة الأحكام بالحجاز لا زالت إلى الآن على شبه من النمط القديم أعني أنها ليس بها مجالس للأحكام العرفيّة وغيرها من القوانين الجارية بالممالك العثمانيّة الآن ، ويا ليت الأمر يجري حقيقة على المنهج الذي سلكه الخلفاء الراشدون كيف وهو مكان ظهور الشريعة وإقامة العدل وتأسيس التمدن الحقيقي الصالح لاستقامة الدنيا والآخرة والأمر لله وحده لا رب سواه.

مطلب في هيئة المساكن

المساكن بالحجاز تختلف بين حالها بالمدن وحالها بالقرى ، فأما المدن فالديار بها هي شبيهة بالنون الذي ذكرناه في مصر غير أنها في مكة تكثر طبقاتها حتى أنها ربما بلغت إلى الست طبقات كل منها مستكمل اللوازم لا يحتاج إلى غيره في السكنى ، والطبقة الأرضية لا يعتنى بها للسكنى وإنما هي للمرافق وجلوس الرجال بخلاف المدينة المنوّرة فإن دورها كل منها بها طبقة أرضية يسكن فيها في الصيف لأنها أبرد من العلوية ، غير أن المبيت بكل منهما يكون غالبا في الصيف في السطوح التي يجعل لها حرم كاف لوقاية السكان من السقوط ، والأبنية كلها لا تجصص حيطانها إلّا في بعض الديار الحسنة لأهل الثروة فإنها تجصص وتبيض حيطانها وتدهن سقوفها التي تجعل من عيدان النخل ويجعل عليها من أسفل ألواح لاصقة منظمة ويعلق فيها ثريّات. وأما بقية الديار وسائر الأبنية فإن الحيطان يسد فيها ما بين الأحجار بطين البناء المركب من الجير والطين ثم تبيض بماء الجير والسقوف تكون من عيدان النخل مكشوفة للرائي وفوقها حصير من أنواع الحلفاء وفوقه التراب ، وليس في الحجرات بلاط ولا غيره بل الأرض تكون ترابا عليها الحصير أو الزرابي (الابسطة) إلّا المدينة المنوّرة ، فإن الطبقة الأرضية مبلطة بأنواع من الأحجار الشبيهة بالمرمر والدرج في كل غير محسنة متعبة إلّا نادرا ، وديار مكة لا سيما المعدة للأجرة كل طبقة منها لا يوجد فيها مطبخ وإنما يطبخ أهلها بإحدى حجراتها بالفحم أو الحطب نادرا لإحضار مياه الاغتسال في الشتاء وأما في الصيف فلا يسخنون الماء للإستغناء عنه ولهذا لا يوجد في كل من مكة والمدينة إلّا حمّامان بكل منهما لأن السكان يغتسلون في ديارهم غالبا وهكذا بقيّة البلدان ليس بها حمّامات ، ومفروشات الديار على النحو الذي هو جار بمصر وغيرها من التشبه بالمفروشات التركية والأوروباويّة ومن غريب صناعتهم المغالق التي تقفل بها الأبواب فإن المفاتيح نحو عود مستطيل في آخره أسنان تدخل في ثقب في المغلاق وترفع إلى فوق

٣٢٣

ويجذب المغلاق بعجلة إذ ذاك فينفتح ولا ريب أنه سهل السرقة إذ تقليد المفاتيح على ذلك النحو يسير لكن الأمر الفظيع هو أن تلك المغاليق على شكل الصليب ، وقد رأيت على باب الحجرة النبويّة مغلاقا من تلك المغاليق وهو من ذهب تقشعر من رؤيته الجلود ، وقد خاطبت من يقتدر على تغيره فتعلل بأن ذاك لا يخطر على فكر أحد من الأهالي لجهلهم الصليب ، وبقي الحال على ما هو ولله الأمر.

هذا في المدن وأما في بقيّة البلاد الأخرى فكل دار تؤلف من طبقة واحدة إلّا نادرا من طبقتين ، وهي في الحقيقة بيوت لا ديار والفرق بين الدار والبيت أن الدار هي المسكن الذي يشتمل على جميع المرافق المحتاج إليها وأبواب حجراته إلى فسحة تكون في وسطها غالبا مكشوفة إلى السماء ، وأما البيت فهي التي مثل ما ذكر غير أنها لا فسحة بها مكشوفة أعني الفسحة التي فيها أبواب الحجرات وهذا هو الفرق اللغوي وإن كان الإستعمال مختلف بحسب الإصطلاح في البلدان فالحجاز ومصر مثلا يطلقون على الكل بيوت وتونس والمغرب يطلقون على الكل ديار ، وهاتيك البيوت في القرى الحجازيّة مظلمة غالبا إذ لا يجعل لها شبابيك على الطرقات وليس بها فسحة مشكوفة ، فغاية الأمر أن يجعل للحجرات منافذ للضوء بقرب السقوف احتراسا من كشف الساء لأنهم يشددون بحجبهنّ كما تقدم سابقا ، فتلك البيوت شبيهة بالغيران ولا تبيض بالجير إلّا نادرا ما عدا سطوحها التي هي على نحو سطوح المدن من الإتقان في تجصيصها لكي لا تخترقها الأمطار ، فتكاد هاته القرى أن لا تبين للناظرين إلّا إذا بلغوها خصوصا التي هي في مرتفعات الجبال السود فإنها لا تكاد تبين ، والحاصل أن الأبنية على العموم نسبتها للتمدن كنسبة بقيّة الصنائع التي مرّ ذكرها في مطلبها ، غير أنه يوجد في صناعة النجارة إتقان للرواشن وبعض الأبواب والشبابيك على العموم أي الطواقي المطلة على الطرقات أو غيرها ، لا يوجد بها زجاج يمنع دخول الريح إلّا نادرا في بعض الديار المترفة أهلها ، ومن الغريب أن ترى البيوت مفروشة بالزرابي في مدة الصيف مع شدة الحر هناك فهم في الحقيقة غير مستعدين للتوقي منه إلّا أهل المدينة فإنهم معدون الطبقات السفلى لذلك ، فيجعلون فيها بيتا رحيبا له جهتان يمنى ويسرى مرتفعتا الأرض عن الوسط الذي به حوض للماء غالبا وسقفه مكشوف إلى السماء ينجذب منه الهواء إلى أسفل ويكون الماء جاريا إلى ذلك الحوض ، ويجلس السكان بإحدى الجهتين التي يجعل بهما مساطب وأرائك وكل تلك الطبقة مبلطة بنحو الرخام كما ذكرنا سابقا ، وذاك مناسب لشدة الحر على خلاف من أهل مكة وغيرهم الذين ليس لهم مثل ذلك.

وأما الطرقات على العموم بالبلدان وغيرها فهي طبيعيّة ليس بها تحسين ولا صناعة ، وغاية الأمر أنها تكنس في المدن فهي نظيفة وأغلبها ضيق حتى يكاد أن لا يمشي ببعضها إلّا إنسان واحد في أن أصل الشريعة على خلاف ذلك ، فإن سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه لما استشير في بناء بلد للصحابة والجيش الذي فتح الفرس لما استوخموا أرض فارس وأمرهم

٣٢٤

باختيار أرض تشبه أرض العرب فاختاروا الكوفة ، فأمرهم ببناء بلد بها وأن تكون دورها لا تتجاوز الطبقتين وأن تكون طرقها العامة كل منها ثلاثة عشر ذراعا والطرق الخاصة سبعة أذرع عرضا والبطحاء التي تكون أمام المسجد ستون ذراعا في ستين وهذا هو الأصل الذي يستند إليه المذهب الحنفي في ذلك ، فانظر كيف كانت حالة البلدان في صدر الإسلام. ويؤيد هذا أن بئرحا التي هي بستان كان لأبي طلحة الأنصاري (١) رضي‌الله‌عنه قد كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجاه المسجد النبوي كما هو مذكور في صحيح البخاري رضي‌الله‌عنه ، فأين هو الآن من المسجد النبوي إذ بينهما الآن أبنية وديار وطرقات وأسوار وغير ذلك فيا أسفا على وقوع مثل هذا التغيير المخالف للشريعة المكدر للتمدن ومصالح الناس حقيقة ، فليس توسيع الطرق وتنظيفها من تقليد الإفرنج كما يدّعيه الجهلاء بل هو من شريعتنا التي تنوسي الإلتفات لمثل ذلك فيها ، وحيث كانت الطرق على نحو ما مر ذكره يكثر فيها الوحل زمن المطر غير أنها تنور ليلا من قبل الحكومة بفوانيس من القصدير والزجاج تعلق في الحيطان أو سقوف الأسواق ، لأن كل صناعة لها سوق يخصها وبعض هاته الأسواق بل أكثرها مسقوف بالألواح على نحو ما ذكرنا في أسواق تونس والحوانيت هيئتها أيضا على ذلك النحو ، وليس للديار جناين ولا بطحاآت خاصة وإنما أبوابها في الطريق تفتح إلى سقائفها المختلفة كبرا وصغرا ، وأما الطرقات خارج البلدان فهي على طبيعتها الأصلية وأغلب الطرق بين مكة والمدينة صالحة لمشي العجلات وتمر فيها المدافع الآن وهي مثل العجلات وكذلك الطريق بين جدة ومكة ، فيا ليت شعري أي مانع لاستعمال العجلات في السفر هناك فإني لم أر إلّا عجلة واحدة لوالي الحجاز بمكة ، وقالوا إنه ليس بها غيرها ورأيت بالمدينة عجلة قيل إنها لركوب بعض المرضى هي أشبه شيء بعجلات حمل السلع ملقاة في الطريق وكأن أمر الأمن هو الأساس.

مطلب في اللبس وبقيّة العادات

أما اللبس الرسمي فهو كاللبس بالدولة العثمانيّة الذي تقدم مثله في مصر وكذلك لبس الرجال هو مثل لبس أهل مصر والأعيان يلبسون جبة واسعة الأكمام كعلماء مصر إلّا أنها لها رقبة مرتفعة خصوصا للسادة الأشراف ويجعلون على رؤوسهم كوفيّة مطرزة بالحرير على أشكال حسنة بديعة تكون مكشوفة الوسط وعليها عمامة مكورة عظيمة يشدونها شدّا محكما جميلا وهي بيضاء. وأما الأشراف في القبائل فيجعلون على رؤسهم منديلا من الحرير ملوّنا وعليه عوض العمامة عقال من وبر الإبل مقصب بخيوط الفضة المذهبة ، ولكل واحد منهم مطلقا في البلدان أو

__________________

(١) هو زيد بن سهل بن الأسود النجاري الأنصاري (٣٦ ق ه ـ ٣٤ ه‍) صحابي. مولده بالمدينة. شهد العقبة وبدرا وأحدا وسائر المشاهد. توفي بالمدينة. الأعلام ٣ / ٥٨ طبقات ابن سعد ٣ / ٦٤ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ٤ وصفة الصفوة ١ / ١٩٠.

٣٢٥

القبائل خنجر يجعله في حزامه في وسطه من أمام وكأنها هي علامة الشرف مع لبسهم لعباءة يمانيّة أو عراقية مقصبة بالذهب ونحوهم في هذا سائر الأعيان من القبائل ، وبقيتهم يلبسون عباءة على قميص ويتمنطقون على القميص بمنديل أو غيره وكثير منهم يعلق على جنبه خنجرا والكل يلبسون في الأرجل النعال الحجازيّة ذات الشرطان التي تدخل بين الأصابع وتختلف جودة ورداءة على حسب ثروة اللابس ، وربما تدثر بعض أهل البلدان بالجبائب ذات الفراء المعروفة بالكرك ، ولبس نسائهم سراويل من نسيج الحرير أو المقصب بالذهب بحيث أنهنّ يتنافسن في صنعه على حسب الثروة والمكان والزمان للابسه ، ومثل السراويل فيما ذكر منتان يفتح صدره ويغلق ذو أكمام ضيقة لا تبلغ المرفقين وفوق الجميع نحو عباءة من المنسوجات الثمينة مشقوقة إلى السرّة من أعلا بلا أكمام واسعة جدّا حتى أنها تغطي أصابع الكف وإن كان لها ثقوب في محل الأكمام تخرج منها الأيدي ، وعلى رؤوسهنّ نحو المناديل من منسوجات صفيقة يحيطون بأطرافها شريطا مكعبا بخيوط الفضة أو الحرير على حسب الأحوال ، وفي أرجلهنّ أحذية من نوع البشامق التونسيّة ، وإذا خرجن من البيوت زدن على ذلك خفا من الجلد الأصفر مع رداء واسع جدا ذي أكمام ساتر للأصابع وخمار مسدل إلى السرة مثقوب جهة العينين ويلبسن أيضا المصوغ بأنواعه كلها.

وأما الأكل فإنهم يجلسون له على الأرض ويوضع على الخيوان وهو مثل ما تقدم في أكل أهل مصر غير أنه أكثر إداما من السمن وأكثر أبهرة ، والأعراب أكثر أكلهم. الأرز مع العدس ، ولا يأكل الجميع لحم البقر إلّا نادرا بحيث يستعير به الأعيان في المدن ، ويأكلون الجمل بكثرة ويبخرون الماء بالمصطكي أو بعود القرنفل ثم يجعلونه في أواني ويضعونها في ممرّ الريح لاكتساب البرودة.

وأما المواكب فأعظمها موكب الحج وقد تقدّم الكلام عليه ، ولأهل مكة موكب يسمى الرجبيّة يسافر به ذوو اليسر إلى زيارة النبي عليه وعلى آله أكمل الصلاة وأزكى السلام ، ويحصل من ذلك في المدينة المنورة موكب حافل في رجب ولكثرة إسراف أهل مكة في حجهم والتباهي بينهم فيما يفعلونه فيه ، يضطرّ بعضهم إلى تأخير فرضه إلى أن يبلغ سن الشيخوخة خشية المعرة من كونه لم يفعل تلك العادات الإسرافيّة في الرحل والمركب والخيام والمأكل.

وأما الأعراس فهي أقرب عندهم إلى الطريقة المشروعة من جهة عدم وجود المغنيات جهرة والملاهي إلّا الدفوف وشيء من غيرها مع حفظ التستر في النساء ، ولأهل المدينة عادة وهي أن الرجل إذا تزوج ببكر ودخل بها فلا يخرج من بيته أسبوعا تامّا إلّا أنه يجتمع بأحبائه في بيته وإن خرج يوما ولو للصلاة استاء أهل المرأة لأن ذاك دليل على أنها غير مستحسنة عند زوجها ، وأما الثيب فلا يعتبرون ذلك فيها. وأما المآتم فهي على الوجه

٣٢٦

المشروع من أكثر وجوهها فلا عياط ولا زياط ولا قراءة بالطرقات ولا ولائم من صاحب المأتم ، وإنما يفعلون في ذلك ما هو المشروع في السنة أجرى الله أحوالنا وأحوالهم جميعا على الوجوه المشروعة.

مطلب في اللغة

لا يخفى أن الحجاز هو ميدان بلاغة العرب ومجال تسابق فرسان الكلام لكن ذلك كله قد انعكس على ضده فلا تكاد تجد متكلما باللغة العربيّة المعربة حيث دخلت العبارات العجمية بين القوم منذ تغلب الأعجام على الدولة الإسلاميّة ، لأن الناس على مذهب أمرائهم فيقلدون الغالب والقوي حتى في نحلته وكلامه وما كفى ذلك في إدخال المفردات الأعجميّة حتى سرى الأمر إلى اللحن في الأعراب كما هو مقرر من قديم حيث ذكروا في سبب وضع علم النحو سماع سيدنا علي عليه‌السلام للحن في الكلام فأشار بوضع ذلك العلم ، ومن البديهي أن الأمر يتفاقم بطول المدة وشدة الأسباب ففي ذلك الوقت لم يكن إلّا اختلاط الأمة بأمم أخرى ثم ازداد بعد ذلك بتمكن الأعاجم من الدولة ففسدت اللغة في الحجاز فسادا كليّا حتى لم يبق من يكتب كتابة مستقيمة في الأعراب والألفاظ إلّا النادر ممن هم أهل علم ، وربما اضطروا إلى كتابة كثير من المفردات الأعجميّة لشهرتها وتعارفها وهجران ما يرادفها من أصل العربيّة ، وسبحان مقلب الأحوال وهو لا يتغير ولا يزال.

٣٢٧

الباب العاشر

في المملكة العثمانيّة

تنبيه : لما كانت هاته المملكة ليست كسائر الممالك التي مرّ الكلام عليها لا من جهة الذات ولا من جهة المعنى ، أما الذات فإنها مركبة من ممالك شتى كانت كل واحدة منها مستقلة بنفسها ولا يزال كل منها له صفات خاصة من جهة جغرافيته وجنسيّة أهله وعوائدهم وأخلاقهم وغير ذلك ، فيمتنع الكلام عليهم كلهم من هاتيك الجهات بصفة واحدة وإن تكلمنا على كل واحدة منها بانفرادها ربما عدل الكلام فيها جميع ما تقدم وما يأتي في الممالك التي شاهدناها ، ولذلك رأينا أن نتكلم عليها من الحيثيّة التي يدل عليها إسمها وهو كونها مملكة عثمانيّة إذ ليس هناك قطعة من الأرض تسمى في الأصل بهذا الإسم وإنما لكل منها باعتبار ذاته إسم خاص ، والجامع بينها في هاته التسمية إنما هو كونها تحت سلطة دولة سلطانها من هاته العائلة وهي العثمانيّة أي المنسوبة إلى عثمان الذي هو أول من تسلطن من العائلة وبقيت في ذريته إلى الآن.

هذا من جهة الذات وأما الحامل على مخالفة ما سبق في مثلها من جهة المعنى فلصعوبة الأمر أو تعسره لأن قول الحق صعب والكذب حرام ، ونحن وإن كنا في هذا القطر السعيد بأمنه في ظل خديوينا المعظم التوفيقي لا زال قرة لأعين أهل الإسلام ولكل سكانه من الأمن والحريّة ما يسيغ له أن يقول الحق ولا يخشى لومة لائم ، غير أن بعض مقتضيات الحال تستدعي الأقتصار في المقال فلا مخلص في الكلام على هاته المملكة العثمانيّة إلّا الإقتصار على الإجمال على حسب ما تسيغه الأحوال إلى أن ييسر الله بفضله أفراد هاته المملكة بتأليف خاص يحتوي على التفاصيل في الحقير والجليل ، ورحمته تعالى قريبة لا يعزب عن أمره شيء وهو على كل شيء قدير.

فصل في سفري إليها

قد تقدّم أنا ركبنا من مرسى ينبع في رجوعنا من الحج وقد كان ركوبنا في باخرة نمساويّة من أجمل البواخر البريديّة السيّارة بين الهند وأوروبا ، فاجتازت بجدة وحملت منها ذلك الطود الشهير ذا النسب الخطير والحسب المنير السيد سلمان القادري حفيد قطب الأقطاب الأكبر مولانا سيدي عبد القادر الجيلي رضي‌الله‌عنهم ، وهو نقيب أشراف بغداد أيضا وأكبر عائلته وكان حاجّا في ذلك العام فمن الله تعالى عليّ برفقته عندما اجتازت الباخرة بمرسى ينبع ، وركب في الباخرة أيضا بعض من الحجاج الترك العثمانيين والروسيين

٣٢٨

غير أنه لم يركب في الطبقة الأولى سوى السيد وبرفقته أخوه السيد أحمد وابن عمه السيد عبد القادر وجوار له وبعض من الخدمة القائمين بين يديه ، لأنه أبقاه الله قد اتخذ في الحجرة الكبرى في الباخرة إحدى زواياها واختص بها وفرش بها فرشا عربيّة وكانت خدمته هم القائمون بشؤونه زيادة عما يباشره خدام الباخرة مثل كونه يأكل منفردا هو ومن معه على مائدته الخاصة في الأرض من خصوص طعامه الذي يطبخه له طباخه الخاص ، غير أنه من مكارم أخلاقه كان يتحرى للأكل وقت أكل الرفقاء بحيث كنّا نتخاطب وكل منا على مائدته حتى على الطعام الذي بين يدي كل منا إذ كنت أجلس مع بقيّة ركاب الطبقة الأولى أنا وتابعي في ذلك الإيوان للفطور والعشاء ، وسارت بنا الباخرة ثلاثة أيام فوصلنا جبل الطور ووقفنا هناك مدة الحمية وهي يومان وأنزل كل من كان بالباخرة إلّا أصحاب الطبقة الأولى ومن أنزل أبقى رحله في الباخرة إلّا القدر الذي يحتاجون إليه ، وأخبرونا عند صعودهم أنه لم تحصل لهم مشقة لقلة الإزدحام وكان من هؤلاء الترك رجل من أهل بوسنه يعرف قليلا من العربي حصلت بيني وبينه مودة ، حتى استأذنت عليه رئيس الباخرة وأذن له في الجلوس معي بإيوان الطبقة الأولى وهو جميل الأخلاق له بعض مشاركة في النحو والفقه وقد ترجم يوما بيني وبين أحد الترك الروسيين من أهل ولاية قازان وإن كان تفهمه منه عسر جدّا لأن لغته مخالفة للغة التركيّة العثمانيّة ، وله بعض إطلاع على العربيّة من جهة كونه قرأ بضاعة مزجاة في الفقه فسألته عن حالة المسلمين أهل بلده من جهة الأحكام الروسيّة ، فكان مآل كلامه أن الروسية لا زالت محترمة لهم في أحوالهم الشخصية ولا يتداخلون فيما شجر بينهم إذ مرجعهم في ذلك إلى حكام منهم ، وكأن هذا خاص بأهل تلك الولاية التي صارت مع الروسية على توافق لطول عهد استيلائها عليهم ومحافظتهم على الشروط التي خضعوا بها إليها ، لأن الروسيّة مجرية في الولايات التي استولت عليها في الحرب الأخيرة مع الدولة العثمانيّة ما هو جار في بقيّة ولاياتها وألزمت جميع السكان من مسلمين وغيرهم بأن يكون التعليم بلغتها فقط لأن اللغة هي التي توحد الجنسيّة فإذا تنوسيت لغتهم صاروا روسيين حتى في الجنسيّة ، ثم أنّا وصلنا إلى خليج السويس الموصل بين البحر الأبيض والبحر الأحمر وهو إحدى مآثر هذا القرن ، لأن السفن صارت تصل من شطوط المغرب في أفريقيا إلى شطوط الصين والهند في أيام قليلة لا تتجاوز الشهر إلى أبعدها بعد أن كانت يلزمها عدة أشهر لأنها كانت يلزمها الخروج من خليج طارق ثم تحيط بجميع قارة أفريقية بالبحر المحيط ثم بحر الهند ، فلعمري أنها لمأثرة مفيدة للتجارة على العموم وإن كانت فيها مضرّات سياسيّة بالنسبة لكثير من المسلمين وقد روي أن عمرو بن العاص استأذن سيدنا عمر بعد فتحه لمصر ليفتح خليجا موصلا ما بين البحرين ولعله بهذا المكان الذي هو عليه الآن لأنه أصلح الأماكن لذلك حيث كانت بالوسط بحيرات عميقة مغنية عن حفر خليج فيها. ثم أن سيدنا عمر سأله عن هذا الخليج الذي يراد فتحه : هل يحصل به فصل بين أرض جزيرة العرب ومصر؟ فأجابه : بنعم ، فقال : لا أفصل بين أرض المسلمين بالبحر ، ويقال إن سيدنا علي رضي‌الله‌عنه قال للخليفة عندما استشار كبار الصحابة في ذلك أنه إذا

٣٢٩

تمّ ذلك الخليج تصير سفن الروم تضرب إلى جده وغيرها من مراسي بلاد العرب وليس للمسلمين سفن تعارضهم فيسهل عليهم غزو بلاد الإسلام ، ولذلك كتب سيدنا عمر رضي‌الله‌عنهم أجمعين إلى عامله عمرو بن العاص بأن يضرب عن ذلك صفحا ويمكن أن يكون الخليج في أصله موجودا في العهد القديم.

ثم أن الرمال تراكمت في إحدى جهاته على ما سيأتي ذكره فسدت البحر وامتدّ عرضها إلى أن صارت الأرض واحدة ما عدا البحيرات التي في الوسط على سمة واحد التي ربما دلت على اتصال البحر سابقا. ويدل على هذا أن بعض المفسرين روى في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) [الكهف : ٦٠]. في قصة موسى والخضر عليهما‌السلام ، أن بعض المؤرخين يقول إن المراد بالبحرين هما بحر فارس والروم أما بحر الروم فهو معلوم وأما بحر فارس المعروف الآن فيستحيل أن يتصل ببحر الروم الذي هو البحر الأبيض خصوصا في هذا الزمن القليل نسبيّا من زمن موسى عليه‌السلام إلى ما قبل البعثة المعروف فيه حالة الأرض على ما هي عليه الآن ، فلا يصح ذلك الكلام إلّا إذا كان البحر الأحمر يطلق عليه بحر فارس سابقا لأنه متصل به وقريب منه جدّا لأنهما يلتقيان الآن في جزيرة العرب أي شطوطها الجنوبيّة فلا يبعد أن يكون الإسم يطلق سابقا على الجميع سواء. واتصال البحر الأحمر ببحر الروم سهل جدّا لما مرّ بيانه ولما هو مشاهد بالفعل حيث اتصلا في هذا الزمن ، وسبب هذا الإتصال هو أن رجلا فرنساويّا يقال له فردنان دي ليسبس له مهارة في الهندسة وهو من مشاهير قومه بدى له يوما إمكان اتصال البحرين بهذا الخليج ، وأعانته على مرغوبه دولته لمآرب سياسيّة في قرب الإتصال بالهند لعله يمكن لها يوما ما أخذ الثار من الإنكليز على نحو ما سبق في تاريخ الدولتين ، فساعفهم على قصدهم والي مصر إذ ذاك سعيد باشا ابن محمّد علي باشا ، وكان الإنكليز من أشد المعارضين في ذلك سرّا وكأن الأقدار تقول لهم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] فإنهم حصلوا فيه على أكبر فائدة ، إذ صارت سفنهم هي أكثر السفن المارة به مع تحصيلهم على مآرب أخرى سياسية كتداخلهم في القطر المصري وغير ذلك زيادة عن كونهم صاروا هم المالكين للقسط الأوفر منه ومحصلين على أرباحه الباهرة ، وذلك لأن فردنان دي ليسبس ألف جمعيّة لذلك العمل وجعلت هاته الجمعيّة التي هو رئيسها رأس مال لمصاريف العمل وجعلته على أوراق ذات أسهم تباع وتشترى لكل من أراد ، وكان للحكومة المصريّة من تلك الأوراق ما مقدار قيمته نحو المائة مليون فرنك وآل الأمر بعد ذلك إلى بيع إسماعيل باشا خديو مصر لأسهم حكومته فاشترتها الدولة الإنكليزيّة تماما زيادة عما اشترته سابقا ولا حقا من الأسهم أفذاذا ، وصار دخل هاتيك السهام يوازي أصل قيمتها حتى صارت كل رقعة منها أصل سعرها خمسمائة فرنك تباع الآن بألفين وثلاثمائة فرنك أو نحو ذلك ، لأن تلك الجمعيّة شرعت في العمل وتممته بحفر خليج من البحر الأحمر بمحاذات مرسى السويس وأوصلته بالبحيرة الأولى ، ثم حفرت خليجا بين هاته البحيرة والبحيرة الثانية إلى

٣٣٠

أن وصلت إلى البحر الأبيض ، وعندما تم عملها عقد إسماعيل باشا خديو مصر لفتح هذا العمل الغريب موكبا مشهودا جعل به القطر المصري كأنه دار عرس واستدعى إليه ملوك أوربّا كلهم لمشاهدة مرور أول باخرة تمر في ذلك الخليج ، وكذلك أعيان غيرهم من الأروبّاويين وكل من قدم منهم فمصاريفه مدة إقامته بالقطر المصري على الحكومة المصريّة ، ولهم أن يتفرجوا حيث شاؤوا وقد ساح بعضهم حتى إلى السودان مع القيام بكل منهم على حسب مقامه أعظم قيام ووفد عليه من ملوك أوروبا العظام إمبراطور النمسا وإمبراطورة الفرنسيس أي زوجة الإمبراطور وولي عهد كل من إنكلترا والروسيا وبروسيا فضلا عن بقيّة الملوك المتوسطين والصغار ، وصرفت في ذلك كله من الحكومة المصريّة أموال تكاد أن لا تحصى تعاظمت بها ديونها وذلك كله لمآرب سياسيّة لم ينجح منها المقصود ونشأ عنها وحشة مع الدولة العثمانيّة آلت إلى الرضاء بعد صرف أموال باهظة ، ثم استقر عمل جمعيّة الخليج على إقامة فعلاء ومراقبين على محافظة الخليج ويستخلص على كل سفينة تمر فيه مقدار معلوم من الأموال على حسب حمولتها ونوعها حربيّة أو تجاريّة ، وفي رأس كل سنة تقسم الأرباح على أصحاب الأسهم بعد إخراج المصاريف المستمرة لأن الخليج من جهة السويس لم تزل الرمال تنثال عليه منذ فتحه إلى الآن لولا شدة العمل في رفع تلك الرمال ليلا ونهارا على مسافة طويلة تزيد عن العشرة أميال.

ومع ذلك كله فقد شاهدت في الباخرة التي اجتزنا فيها أن سيرها كان بطيئا جدا هناك وكذلك غيرها احتراسا من الغرز في الرمل مع كثرة العلامات المجعولة في المياه لمحل المرور ، ومع ذلك كله قد اصطدمت الباخرة في الرمل عدة مرار حتى أني خلت أنه عمل لا يدوم لشدة التعب الذي شاهدته من العملة في جلبهم للسفن والبواخر المصطدمة في الرمال حتى كأنها تجر بالأيدي مع كثرة ومداومة العمل بالآلات الرافعة للرمال ومع ذلك كله لا تجتاز فيه إلّا سفينة واحدة وفيه أماكن لوقوف السفن إذا كانت تعارضها سفينة أخرى أي إحداهما غادية والأخرى رائحة فتلك الأماكن وسيعة تمر بها السفينتان ولذلك يجعلون علامات على أعمدة مرتفعة في البر يمينا وشمالا ليدرك منها رئيس الباخرة ما يأمره به محافظو الخليج من الوقوف أو المشي السريع أو البطيء أو غير ذلك ، ولذلك رأيت رئيس باخرتنا قد أخرج كتابا فيه تلك العلامات وشرح المراد منها ليعمل بمقتضاها عند دخوله إلى الخليج وبسبب ذلك كانت السفن لا تتحرك فيه ليلا في تاريخ مرورنا وقد وقفنا مرة لمعارضة باخرة إنكليزيّة حربيّة ذاهبة إلى الهند حاملة للعساكر ، فلما مرت بنا خيل إلينا إنا راكبون في زورق مع أنا راكبون في أعظم البواخر البريديّة لكن عظم تلك الباخرة الحربيّة التي هي من نوع الفرقطين خيل إلينا ذلك ، فإنها كانت ذات ثلاث طبقات من المدافع وحاملة لأربعة آلاف وخمسمائة عسكريّا وكثير منهم معهم عيالهم وكانوا على همجيّة فإنهم لما رأونا صاروا يصرخون ويضحكون ، ثم وصلنا إلى مرسى الإسماعيليّة التي هي بوسط الخليج وبقربها ينصب جسر يصل بين آسيا وأفريقيا ولا ينصب إلّا عند وجود المارين

٣٣١

ويدفعون عليه خراجا للحكومة المصريّة ، وبتنا بالخليج ليلتين وفي صبيحة اليوم الثالث وصلنا إلى بورت سعيد ووقفنا بضع ساعات وكان عمال الحكومة المصريّة حارسون لباخرتنا لكي لا ينزل منها أحد لأنهم رسموا في ذلك التاريخ بأن لا يدخل إلى القطر المصري حاج إلّا من هو من أهله ، لأنه كان كثير من المغاربة يدخلونه وهم فقراء فربما حملوا الأهالي والحكومة مصاريف لرجوعهم إلى أوطانهم ، ولذلك أعلنوا بذلك التحجير. ثم قفلنا من هناك إلى أن وصلنا إلى مرسى بيروت أعظم مراسي ولاية الشام المعروفة بسورية فطلب مديرو جمعيّة تلك الباخرة من الركاب أن ينزل منهم إلى تلك البلدة كل من كان قاصدا القسطنطينيّة وما حولها ، وأما القاصدون بوسنه وهرسك وغيرها ممن تكون لهم مرسى تريست طريقا فإنهم يبقون في الباخرة لأنها قاصدة هناك توّا والذين ينزلون وكانت الباخرة تعهدت لهم بالوصول إلى القسطنطينيّة وما حولها فإنهم ينتظرون هناك إلى أن تأتيهم بعد خمسة أيام باخرة أخرى لجمعيّة الباخرة الأولى وتحملهم إلى مقاصدهم وكل من أراد من هؤلاء أخذ مصاريفه مدة انتظاره فله ذلك يدفعها إليه القيمون بأمر شركة تلك البواخر البريديّة النمساوية المسماة بشركة لويد ، وقد أخذ منهم بالفعل كثير ممن نزل لكن بعد مشقة لعدم التفاهم حيث كان أغلبهم من الترك الروسيين الذين قل من يعرف لغتهم ولإستشاطة بعضهم في مقدار المصاريف التي طلبها مع أن اللجنة مقومة لأهل كل طبقة مقدارا عن كل يوم لم أعلم ما هو لأني صرفت النظر عنه حيث كان النزول هناك من أعظم مرغوباتي لمزيد التأنس بذلك السيد الجليل القادري وللتعرف بتلك البلاد.

فنزلت هناك وكانت المرسى صعبة جدّا لبعد إرساء الباخرة عن الشط وركوبنا في زوارق مع هيجان البحر وبعد أن خلصنا رحلنا من الكمرك الذي لم نر من أهله إلّا خيرا ، دخلنا إلى البلاد راجلين لقربها وعدم وجود ما يركب حول الكمرك فدلني رجل من المتشبثين بخدمة المسافرين على منزل للمسافرين قريب من جهة طريقنا كاشف على البحر ، فإذا هو منزل لأحد الإفرنج مثل منازل أوربا المتوسطة الحسن وأخذت به بيتا واسعة ذات حجرة للنوم والصناديق وحجرة للجلوس واغتسلت في حمّامه بيتا واسعة ذات حجرة للنوم والصناديق وحجرة للجلوس واغتسلت في حمّامه وبتنا تلك الليلة والأكل فيه حسن.

ومن غد شرعنا في زيارة بعض أعيان البلاد والتفرج على منازهها ومنافعها ، فإذا هي بلد جميلة الوضع في سيح جبل مطلة على البحر وحولها كثيب رمل وجبل لبنان بحيث أن حدوده منها على نحو ربع ساعة مجعول له علامات وله إدارة ممتازة كما سيأتي في محله وواليه يسكن في الشتاء في بيروت وهو إذ ذاك رستم باشا ، وقد رأيته يوما راجعا من الجبل إلى داره متخذا أبهة فاخرة في عجلة يجرها ثلاثة من الخيل العتاق وأمامه فارس ووراءه أربعة من العساكر الخيالة متسلحين وبندقيّة كل منهم حاملها في وجهه ، وهذا الباشا هو شيخ مسنّ أصله طلياني خدم الدولة العليّة بنصح وشاخ في خدمتها وسمعت الثناء عليه في تلك البلد وغيرها من مسلمين وغيرهم ، غيور على الدولة محافظ على ناموسها ومصالحها

٣٣٢

ومن غريب ما سمعته عنه : أنه كان مرة يتفقد في جهات ولايته على ذلك الجبل فصادف أنّه يتفقد الجهة القريبة من طرابلس الشام ويصل إلى تلك الجهة آخر النهار وليس بقربه مكان صالح للمبيت إلّا بلد طرابلس ، فأرسل من صباح اليوم إلى متصرفها أي حاكمها يعلمه بأنه يبيت ضيفه وكان الوقت رمضان فعرضه آخر النهار ذلك المتصرف وعلماء البلد ووجهاؤها ثم دخلوا جميعا إلى دار المتصرف وجلسوا في إيوانها كلهم فدخل الخدمة بأطباق المشروبات المبردة والحلويات وكان الغروب لم يقع وكان هو أي رستم باشا لا زال على دين نصرانيته لكنه لما رأى تلك الأطباق داخلة وعلماء البلد ووجهاؤها جالسون اكفهرّ وجه وقال للمتصرف : ما هذا؟ فأجابه بأنه مشروبات مبردة ، فقال الباشا : أليس هذا رمضان؟ فتبسم المتصرف وقال تملقا من غير أن يريد إظهار قصده لمخالفة الدين نعم هو رمضان ولكن جنابكم مسافر وأنا أيضا مثلكم وها أنا ابتدىء بذلك وأخذ الكاس وشرب ، فاشتدّ حنق الباشا عليه وخاطبه بشدة بما معناه أنك إن كنت لم تراع ديانتك فأنا يجب عليّ أن أراعي دولتي ووظيفتي لأني متوظف ووزير لخليفة المسلمين وهذا المقام إنما جاءني منه وهاته البلاد بلاد مسلمين وهؤلاء الجمع مسلمون جاؤني لأجل وظيفتي فهبني نصرانيّا فإني أذب على الشعائر الإسلاميّة التي صرت بها أنا من أنا واقتدر بها على احتقارك وطردك أيضا من هنا فاخرج حالا حيث لم تراع سلطانك وإمامك الذي هو خليفة المسلمين ولا أهل البلاد التي أنت عليها ولا أنا الذي تعدني ضيفا ، فخرج المتصرف من المجلس وشكر الحاضرون كلهم عمل ذلك الباشا فقال لهم : ما فعلت هذا لأشكر وإنما هي واجباتي أديتها. ولعمري أن مثل هذا الرجل يحق أن يستخدم ويا ليت متوظفي الدولة كلهم على نمطه كثر الله من المخلصين الناصحين أمثاله ووفقه لسعادة الدارين.

وحاصل وصف هاته البلد هي أنها بلد جميلة المنظر لأن ديارها محسنة الحيطان من خارج وحسن أكثر طرقها غير أن بجانبي الطريق مجاري للمياه على عمق شبر مكشوفة ربما أضرت بالمارين ، والبناء طينه مخلط بالجير فهو حسن المنظر ويقرب شكل الديار من ديار تونس غير أنهم يجعلون لبعض الديار ذات الطبقات درجا مكشوفة في البطحاآت الخاصة بالديار ، وجعل في البلد طريق للعجلات وهذا الطريق واصل إلى دمشق الشام جعلته جمعيّة إفرنجيّة منتظم السير في أوقات معلومة وكراء معين وتغير الخيل في مراكز معينة ليلا ونهارا وكنت أردت الذهاب فيه إلى دمشق لكن قصر الوقت مع تعطل السير في الطريق لكثرة الثلوج منعني من ذلك.

وأعظم جوامع البلد الجامع المنسوب لسيدنا يحيى عليه‌السلام وهو جامع واسع نظيف وكذلك بقيّة جوامعها نظيفة وحماماتها جميلة نظيفة جدّا متقنة التحسين بأنواع المرمر وفوارات المياه وبها أسواق جميلة وإن كانت صغيرة على نسبة البلاد لأن البلد الأصليّة صغيرة ، وكثر حولها البناء المتقن على أشكال شتى منها قصر بديع صالح للملوك وحوله

٣٣٣

بستان مؤنق غاية التأنيق فيه من المرمر في البناء والرخام وأنواع المفروشات البديعة والأشجار وتقاسيم المماشي وهو لأحد الأهالي النصارى ذوي الثروة الكبيرة التي حصلت له من بعض خدمات له عند خديو مصر السابق ثم استحصل على أن يكون قنصلا للروسيا في بلده ، وتوجد بيوت أخرى حسنة تقرب من ذلك ، كما توجد مدارس علميّة أسسها القسوس من البورتيستانت الأميريكانيين ومن الجزويت الفرنساويين وقد أثرت هاته المدارس تأثيرا واسعا في المعارف هناك فتقدمت النصارى سكان بيروت في التحصيل على معارف جيدة من اللغة العربيّة نحوا ولغة وإنشاء وفي معرفة بعض اللغات الأجنبيّة وأغلب مبادي الفنون الرياضيّة حتى صاروا متأهلين للتقدم وتقلد الوظائف في بلادهم وغيرها ويحصلون ذلك في مدة قليلة لسهولة التعليم بالكتب التي اخترع بعضها نفس الأهالي وغيرها ، غير أن إنشاءهم بالعربيّة يكون غالبا على غير اللهجة الفصيحة والأسلوب العربي القح لأن غالب التلامذة يولعون باللغات الأجنبيّة فينسجون كتاباتهم العربيّة على منوال تلك اللغات فيصير السبك أعجميا في قوالب عربيّة يمجها من ذاق طعم البلاغة ، ودونك ما كنت رأيته من رسالة لأحد برعاء ذلك الوطن وهو البارع المتفنن رشيد الدحداح (١) كتب بها في ذلك المعنى نص محل الحاجة منها بعد أن ذكر ما طرأ على اللغة العربيّة الشريفة وما حصل لها من التغيير بالأساليب الأعجميّة إلى أن قال : «وكذلك لأجل تحبيب الفرنسيس للمسلمين يجب ترويج لسان العرب باللغة الفرنساويّة حتى تصير لباسا له ويصير لباسا لها فيبدأ بتبديل الأسماء فيجعل إسم المعلم ميخائيل ميشال أفندي ويبدل مريم بماريا وإذا كتب رسالة قلب رجلا على قدم. وتناول ريشة عوض القلم. وقال أخذت الحريّة لأكتب لكم أو عندي الشرف أن أخبركم أني قبلت رسالتكم المكرمة وبالطبع صرت ممنونا لما تضمنته من الإحساسات الودية. والشعائر الوطنية. ورأيتها ملهومة من روح الصداقة. وراغبة في دوام العلاقة. وأخذت الإحتياطات اللازمة لإدخالها في أعمدة الجرائد ليس فقط لأجل مسرتكم بل بالسبب الأقوى لأجل مصلحتنا ولكن من سوء البخت مراعاة الظروف توجبنا على نوع ما أن نتخذ التمهل بالعمل إلى فرصة وفوق كل شيء لأنه الآن حاصل هنا أفكار واستعدادات حريّة وأما عاملو الألقاب فبالضد ومع الإعتبار يقدم لكم الشكر ويهدي لكم السلام حبكم فلان وقس على ذلك ألف داهية. من التعبيرات الواهية. التي هي بالمقت حريّة والتي في أعجميتها سرف. كعندي الشرف. وما هو أحط من السفالة. كقبول الرسالة. وآلم من الصفع. كطبيعيّا وبالطبع. وأمر من ريب المنون. كالممنون. وأسمج من الخسائر. كهذا الإستعمال للروح والأفكار والتقدم والإستعدادات والإحساسات والشعائر». إلى أن قال «إما تشبثهم بمادة «ا خ ذ» فداء أصفر وموت أحمر ولو حرمت عليهم اليوم هذه

__________________

(١) هو رشيد بن غالب بن سلوم (١٢٢٨ ـ ١٣٠٦ ه‍) من وجهاء لبنان. اتخذه الأمير بشير الشهابي كاتبا لأسراره. ثم رحل إلى مرسيلية. مولده في عرامون (لبنان) ووفاته على ساحل بحر المانش في شمالي فرنسة. الأعلام ٣ / ٢٥ ومعجم المطبوعات (٨٦٧).

٣٣٤

المادة لكسروا الأقلام وعجزوا عن الكلام فتراهم يعبرون بها عن كل الأفعال العربيّة فيقولون اتخذ الباشا مأدبة للقناصل واتخذ الملاطفة لهم واتخذوا الدعاء للدولة إلى أن قال فيا للخسارة والأسف. على مرض اللغة وإشرافها على التلف. فوأيم الله أنه لصدع لا يلتئم. وجرح لا يلتحم» إلى آخر ما أطال به في تلك الرسالة المنشورة في جرائد عديدة عربية ، ومنها العدد ٩٥ من مرآة الشرق.

وهذا الكاتب وإن كان من أهل لبنان البارعين في العربيّة والفرنساويّة لإقامته بفرنسا وصيرورته من أغنيائها لكنه استفاد من ذلك التعليم لأن هذا التعليم شمل أهل لبنان أيضا بفوائده والحق يقال أن فوائده جليلة لحسن التعليم وإن أثر بعض تأثيرات سياسيّة في جلب طباع سهل الطبيعة إلى حب جنسيّة المعلمين لكنه من حيث التعليم له مزيّة معتبرة تقدم بها النصارى هناك على المسلمين حتى تفطن في المدة الأخيرة بعض المسلمين الغيورين لهذا المدرك ووجدوا واليا يمد إليهم يد المساعدة وهو مدحت باشا فعقد لهم جمعيّة تسمى جمعيّة المقاصد الخيريّة ومكنها من الأوقاف التي في البلد وكانت استولت عليها أيدي الإغتصاب والمنافع الشخصيّة فاستعانوا بها مع ما يوزعونه على أهل البلد من كل ذي حميّة وعلى أباء التلامذة وأنشأوا بذلك مدارس على نحو النوع السابق ذكره ، وكنت دخلت إلى كلا القسمين فرأيت من تلامذتهما ما يسر القلب ولعمري أنها لمأثرة جليلة تحق أن تذكر.

وهذا الرجل وهو مدحت باشا هكذا دأبه في كل ولاية وليها لا بد أن يترك فيها مأثرة تذكر وإن اعترى كثيرا منها بعده بعض الخلل ، إلّا أنها لا تزال قائمة لما فيها من المصلحة المشاهدة وهو في الحقيقة من أفراد رجال الدولة الذين يشتمل عليهم تاريخها نصحا وتدبيرا وعملا وعمله أكثر من قوله بحيث لا يجد القادح فيه قولا لولا عجلة فيه ، كأنّه حمله عليها مداومة ما يشاهده في وظائفه من التأنيات والتسويف الذي يستعمله الرؤساء في وظائف الدولة حتى صار لهم طبيعة والوقت لديهم ليس له اعتبار فأداه ذلك إلى انتهازه للفرص التي يجدها لإجرائه المصالح فعلا وجرأه ذلك لما أوقعه أخيرا فيما أداه إلى الوقوع في حتفه رحمة الله عليه رحمة واسعة. وقد حصل من تلك الجمعيّة فائدة لا تنكر في المعارف لأهل تلك البلاد وهي وإن تأسست في جميع البلاد الشاميّة لكنها كانت في بيروت أشد تقدما في المعارف حتى صارت هي أول البلاد الشاميّة في المعارف على العموم وإن كان لدمشق مزيد التقدم في الفنون الشرعيّة ، ثم أن أهالي بيروت وإن كانوا قسمين مسلمين ونصارى لكنهم جميعا في غاية الألفة بعضهم مع بعض وعوائدهم جميعا واحدة حتى في محاسن أخلاقهم ، وقد شاهدت من فضلاء القسمين ما أشكرهم عليه من محاسن الأخلاق والفرح بالضيف مثل الشيخ الدراكة البليغ البارع إبراهيم الأحدب (١) وله ديوان شعر شهير ، ومثل

__________________

(١) هو إبراهيم بن علي الأحدب الطرابلسي (١٢٤٠ ـ ١٣٠٨ ه‍) شاعر أديب ولد في طرابلس الشام تولى تحرير جريدة ثمرات الفنون وتقلد كثيرا من الرتب السلطانية مات في بيروت. الأعلام ١ / ٥٥ تاريخ الصحافة ٢ / ١٠١ تراجم علماء طرابلس (١٢٢).

٣٣٥

الأعيان الأجلاء حسين بيهم (١) وفخري بك رئيس الجمعيّة الخيريّة وعبد القادر القباني (٢) صاحب جريدة ثمرات الفنون ، إحدى الجرائد العربيّة المتكاثرة في هاته البلد لما في أهلها من التقدم الذي أشرنا إليه مع بعدها عن مراكز السياسة ومن أصحاب الجرائد الذين اجتمعت بهم هناك أيضا البارع المجيد المتفنن سليم البستاني (٣) صاحب جريدة الجنة وجريدة الجنان وهو من النصارى أعيان البلاد ، وممن اجتمعت به منهم أيضا الوجهاء الأعيان إبراهيم اليازجي (٤) ابن الحسن الذكر المتفنن اللغوي البليغ ناصيف اليازجي (٥) صاحب المقامات الشهيرة ، ومنهم سليم ثابت وغيرهم ، ومنهم الكاتب البارع حسن الجابي وهو وإن كان من أهالي دمشق إلّا أني اجتمعت به في بيروت لأنه قدم إليها صحبة والي الشام إذ ذاك مدحت باشا رحمه‌الله لأنه كان من كتاب الولاية المجيدين ، عربيّة وتركيّة فاستصحبه الوالي لنصحه ونجابته ثم ترقى بعد ذلك في خدمات الدولة العليّة ، وكذلك اجتمعت بالوالي المشار

__________________

(١) هو حسين بن عمر بن حسين العيتاني بيهم البيروتي (١٢٤٩ ـ ١٢٩٨ ه‍). فاضل مولده ووفاته ببيروت كان من وجوهها وناب عنها في مجلس النواب العثماني. وتولى رئاسة الجمعية العلمية السورية في بيروت. الأعلام ٢ / ٢٥٠ معجم المطبوعات (٦٢١).

(٢) هو عبد القادر بن مصطفى آغا بن عبد الغني القباني (١٢٦٤ ـ ١٣٥٤ ه‍) صحافي من أعيان بيروت.

أصدر جريدة ثمرات الفنون أسبوعية مدة (٣٣ عاما) وهو من مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية المعروفة إلى الآن وكان أول اجتماع عقدته سنة (١٢٩٦ ه‍) كان في داره. وهو أول من تولى رياستها ، وترأس المجلس البلدي ببيروت مدة وعيّن مديرا لمعارفها ومديرا للأوقاف أيضا. مولده ووفاته في بيروت. الأعلام ٤ / ٤٦ تاريخ الصحافة العربية ٢ / ٩٩.

(٣) هو سليم بن بطرس بن بولس بن عبد الله بن كرم البستاني (١٢٦٥ ـ ١٣٠١ ه‍). باحث من الكتاب من أهل عبية بلبنان جعل ترجمانا في دار الإعتماد الأميركية في بيروت. ساعد أباه في إنشاء جريدة الجنان ثم الجنة وكتب بحوثا كثيرة في دائرة المعارف لأبيه ، انتخب عضوا في بلدية بيروت وفي المجمع العلمي الشرقي توفي في بوارج من قرى لبنان ، الأعلام ٣ / ١١٦ تاريخ الصحافة ٢ / ٩٨ المقتطف ٩ / ١٧.

(٤) هو إبراهيم بن ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط اليازجي (١٢٦٣ ـ ١٣٢٤ ه‍) عالم بالأدب والفقه أصل أسرته من حمص وهاجر أحد أجداده إلى لبنان ولد ونشأ في بيروت تولى تحرير جريدة النجاح سنة (١٨٧٢) وانتدب لإصلاح ترجمة الأسفار المقدسة وكتب أخرى لليسوعيين. تعلم العبرية والسريانية والفرنسية وتبحر في علم الفلك وله فيه مباحث. تولى كتابة مجلة الطبيب. مات في القاهرة ثم نقل رفاته إلى بيروت. الأعلام ١ / ٧٦ تاريخ الصحافة العربية ٢ / ٨٨ معجم المطبوعات (١٩٢٧). أعلام اللبنانيين (١٢١).

(٥) هو ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط ، الشهير باليازجي (١٢١٤ ـ ١٢٨٧ ه‍) شاعر أديب أصله من حمص ومولده في كفرشيما بلبنان. استخدمه الأمير بشير الشهابي في أعماله الكتابية نحو (١٢ سنة) انقطع بعدها للتأليف والتدريس في بعض مدارس بيروت. وتوفي بها. الأعلام ٧ / ٣٥٠ أعيان البيان (٦٠) ومعجم المطبوعات (١٩٣٣ و ١٩٣٩).

٣٣٦

إليه هناك لما لي معه من المعرفة السابقة في باريس ولاقيت عنده مرة النصوح رائف باشا متصرف بيروت إذ ذاك ، ولقد شاهدت من هؤلاء الجمع إكراما يوجب عليّ الثناء عليهم جازاهم الله عني كل خير.

وأجل ما حصلت عليه في هاته البلاد أخذي للإجازة في الطريقة القادريّة من مولاي وسيدي السيد سلمان القادري ومثله أبقاه الله من يجيز ويحافظ على شريعة جده الأعلى عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، فإنه عندما أجازني قال لي ما معناه في أمر الأذكار وآداب الطريقة ليست هي إلّا الشريعة فقف على ما ورد به الشرع واعمل به فهكذا يكون المرشدون وما أجازني بذلك إلّا بعد مزيد الإلحاح تواضعا منه أبقاه الله ، إلى أن أتت ليلة سفري فساعفني بمرغوبي فودعته وسافرت صبيحة تلك الليلة إلى القسطنطينيّة في إحدى البواخر السابق ذكرها.

فوقفت بنا بضع ساعات على أزمير التي هي قاعدة إحدى ولايات الدولة ونزلت متفرجا على مرساها وما حولها فإذا هي ذات مرسى جميل حصين صنعه أحد الإفرنج برخصة من الدولة وفيه بواخر جمة وتصل سكة الحديد إلى رصيفه ، وهي ذات فرعين يمتدان إلى داخل الولاية شرقا وغربا وحول المرسى قشلاقات عسكرية ، وبعض ديار للإفرنج ، والطريق فيها واسع جميل وبقيّة الطرقات والأسواق ضيقة عليها آثار الهرم لأن غالب الأبنية من الأخشاب وقدم عهدها فلم أر ما يذكر إلا كونها بلاد تجاريّة لغنى الولاية بما منحها الله تعالى من كثرة الغلال والفواكه التي تحمل منها إلى سائر الآفاق مثل التين المجفف وغيره ، ثم مررنا على جزر كثيرة تابعة للدولة العليّة ذات جمال باهر لكثرة أشجارها وجبالها الخضر المتعممة إذ ذاك بالثلج ، ومن أجملها جزيرة رودس وجزيرة استاني كوي التي تشرح الخاطر بما كساها الله من حلل النبات والأشجار العظيمة ، ثم وصلنا إلى جنه قلعة قبيل الغروب من اليوم الثاني وهي باب الخليج القسطنطيني والبلدة ليست بشيء يذكر سوى أنها مقام حربي إذ حولها وأمامها من الحصون والطوابي والاستحكامات ما يدهش الناظر وهي كثيرة ممتدة على طول مضيق ذلك الخليج على فوهته إلى البحر الأبيض التي هي ضيقة جدّا لا تسع أزيد من مرور أربع بواخر جسيمة ، وتلك الحصون أكثرها لا يكاد يبين لتخلله وسط الجبال المحيطة بالجانبين وما يظهر منها تلوح منه مدافع ضخمة تكاد تخرق الجبال عند انطلاقها ، ولذلك يعد هذا المركز أعظم المراكز الحربيّة تحصنا بحيث لا يمكن أن يجتازه مجتاز بغير رضاء صاحبه ولا تدخله سفينة الآن ولو تجاريّة إلّا بالإذن من موظفي الدولة هناك ، ولذلك وقفت الباخرة هناك لأخذ الإجازة وهي لا تطول مدتها إلّا نحو نصف ساعة في أثنائها طافت بنا القوارب من البياعين لسلع تلك البلاد والمأكولات والفواكه والذي يمكن أن يذكر من سلعها ليس هو إلّا أباريق من طين مطلي بمعدن أخضر يصير به الطين صقيلا ويذهّب بأشكال ، وعلى نحو هاته الأباريق أوان أخر على أشكال مختلفة للمياه ، ثم دخلنا إلى بحر مرمره المتوسط بين فوهتي خليج

٣٣٧

الأستانة التي مر ذكر أحداها التي على البحر الأبيض والأخرى بجنب الأستانة على البحر الأسود ، فبقينا سائرين إلى طلوع الفجر وما انفلق الصبح إلّا وقد بانت مآذن جوامع القسطنطينيّة التي هي مثل غابة من النخيل وبينها قباب الجوامع الضخمة ، فأرست الباخرة في داخل الخليج على مقربة من القنطرة الموصلة بين إستانبول وغلطه وطافت بالباخرة القوارب لمن يكتري من الركاب وقوارب السلع ، ثم بعد هنيهة قدم إليّ البعض من أصدقائي مع زورق مخصوص للوزير خير الدين باشا التونسي أنزلوني فيه وتكفلت اتباعهم مع تابعي بإنزال صناديقي فنزلت ضيفا عند الوزير المذكور ، ثم بعد بضع أيام اكتريت دارا جميلة على الخليج وسكنت بها بعد أن اشتريت لها جميع مفروشاتها اللازمة وأحضرت من الخدمة اللازمين والطباخ مقدار الحاجة ، وأقمت ساكنا من صفر سنة ١٢٩٧ ه‍ إلى شعبان سنة ١٢٩٨ ه‍ وأحضرت إليّ إبني البكر من تونس ، وبقيت بالقسطنطينيّة مستريح الفكر والبدن متنعما بهوائها الحسن متأنسا بالأصدقاء ذوي الوفاء إلى أن حل بالوطن ما حل في سنة ثمانية من استيلاء الفرنساويين عليه ممّا كنت به أنذرت ولم تفد النصيحة لغلبة الهواء والله يقضي ما أراد ، فذهبت إلى إيطاليا لأخابر عائلتي في نقلتهم وبيع أملاكي وفي أثناء ذلك ذهبت إلى جنيف من مملكة سفيسرا فوضعت بها إبني في مكتب خصوصي ثم رجعت إلى إيطاليا لإتمام ما ذكرناه ثم رجعت إلى القسطنطينيّة بعد أن أعلمتني عائلتي بسفرها إليها ، فمررت على مملكة ألمانيا ثم النمسا ثم الرومانيا ثم الصرب والبلغار وسيأتي ذكر هاته الممالك إن شاء الله كل منها منفردا ببابه ، ثم رجعت إلى القسطنطينيّة مقيما فيها بعائلتي من أول سنة تسعة إلى أول سنة إثنين وثلثمائة التي توجهت فيها إلى مصر حيث لم أجد من الراحة الفكريّة والبدنيّة ما يستقيم به الحال ، وكذلك أمر المال وإن كانت الحضرة السلطانيّة تفضلت عليّ بمرتب وكراء بيت لم يمكن استطرادهما لما في خزنة الدولة من التضايق المجحف حتى بالقيام بالضروريّات الواجبة في أغلب الجهات ، نسأل الله تفريج الكربات.

مطلب في صفة القسطنطينيّة

هاته البلدة قديمة الإنشاء وتأسست تختا لمملكة الرومان المعروفين بالروم سابقا على ما تقدم في تاريخ إيطاليا وسميت البلدة بإسم أحد ملوكهم ذوي الصيت المنتشر وهو قسطنطين المتولي سنة ٢٢٣ ميلاديّة ، واتخذ موقعها في أجمل مواقع الكرة الأرضيّة في نصفها المعروف قديما وموقعها أيضا أحصن هاتيك المواقع لأنها متحكمة بين البحر الأسود والبحر الأبيض ويوصل بينهما الخليج الذي بوسطه بحر مرمرا ، وهذا الخليج بمكان البلدة يكتنفه جبال يمينا وشمالا والجبال مكساة بحلل النبات الباهر في جميع الفصول وقد وضعت البلد على سفح ثلاث جبال يفصل بينها الخليج أما قسم منها فيفصل بينه وبين غيره الخليج الكبير ، وهذا القسم هو المسمى بإسكودار الواقع في قارة آسيا والقسمان الآخران

٣٣٨

يفصل بينهما فرع من هذا الخليج داخل في قارة أوروبا إلى أن يتصل بجدول يعرف بكاغد خانة ، فالقسم الشرقي من القسمين يسمى بغلطه والقسم الغربي يسمى باستانبول ، وقد كان في القديم محل البلدة مفصولا عن بقيّة القارة بخليج واصل إلى بحر مرمرا وهو قرب مقام سيدنا أبي أيوب الأنصاري (١) الآن فكانت جزيرة منفردة.

وهذا القسم هو مقر البلاد الاصليّة الذي يشتمل على مركز الإدارة والأسواق وغير ذلك ، وحيث كانت البلد واقعة في عرض سبعة وأربعين شمالي كان هواؤها يغلب عليه البرد وتنزل عليها الثلوج في كل سنة وربما جمد الخليج في بعض السنين فهي في جميع أوقاتها لها منظر منفرد في الأرض لمن يراها داخلا من الخليج ، حيث كان الخليج في الوسط وتحفه على جميع شطوطه الممتدة نحو ٢٢ ميلا قصور ودساكر جميلة الصنع ذات ألوان لأن البناء بالأخشاب ويدهن ظاهرا وباطنا بألوان جميلة مع كثرة طاقاته ، ويتخلل هذا البناء الصوامع المتناغية في الجوّ مع جودتها وتعدد أدوار مآذنها وبينها القباب الشاهقة ، ثم وراء هاته البناآت على سفح الجبال البساتين والجناين والأشجار الملتفة والعيون المتدفقة فتدهش رؤيتها أبصار الناظرين وتستمر البواخر خارقة لهذا الخليج في ذلك المنظر البديع مدة نحو ساعتين ، فلا ريب إن كانت هي سيدة البلدان السياسيّة خصوصا ووضعها قد جاء على كل من قارتي أوربا وآسيا وعلى كل من البحرين الأبيض والأسود ، ولهذا يسمونها في القديم «بفاروق» لفرقها بين البرين والبحرين ، لكن ذلك المنظر والجمال ينحط درجات عديدة إذا نزل قاصدها إلى البر وتخلل بالمشي في شوارعها لأن طرقاتها أغلبها ضيق ومبلط بحجارات على أصل خلقتها مقلبة مكعبة تتعب الراكب والماشي.

وكثيرا من الديار قد أخذ منه الهرم مأخذه خصوصا في هذا الوقت الذي تفاقم فيه على أهلها الضيق المالي لأن أهلها المسلمون وهم أكثر السكان أغلبهم له جرايات ومرتبات بحيث أن إقامتهم مناطة بالدولة التي ضاقت خزينتها عن القيام بشؤونها وبقيتهم ذوو صنائع خسيسة كسائقي العربات والنوتية وما شاكل ذلك والقليل النادر لهم تجارة على قدر الحاجة ، والتجارة المعتبرة إنما هي بيد الإفرنج أو النصارى من رعيّة الدولة وكذلك أغلب الصنائع الضروريّة والحاجيّة والتحسينيّة على كثرتها كلها بيد النصارى أيضا إلّا ما ندر ، وكأن سبب ذلك هو اختصاص المسلمين قديما بالوظائف والرتب فانحصرت معيشة غيرهم

__________________

(١) هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة ، أبو أيوب الأنصاري ، من بني النجار صحابي ، شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد كان يسكن المدينة ورحل إلى الشام. صحب يزيد في غزوه للقسطنطينية. ولما توفي سنة (٥٢ ه‍). دفن في أصل حصن القسطنطينية. الأعلام ٢ / ٢٩٥ طبقات ابن سعد ٣ / ٤٩ صفة الصفوة ١ / ١٨٦ حلية الأولياء ١ / ٣٦١ والإصابة في تمييز الصحابة ١ / ٨٩ رقم الترجمة (٢١٥٩).

٣٣٩

فيما يجيدونه من صنائعهم وتجارتهم ولما انفتح الباب في الأزمان المتأخرة شاركوا المسلمين في الوظائف وسابقوهم فيما كان خاصا بهم لمد أيدي المساعدة لهم من الإفرنج ودولهم الأجنبيّة ، فاتسعت معارفهم الرياضيّة وأتقنت صنائعهم واتسعت تجارتهم وتقهقر المسلمون لوقوفهم فيما كانوا عليه بل لانحطاط درجة المعارف لديهم وإعراضهم عن الصنائع وغيرها من أوجه التكسب لانحصار الآمال في مجرد التوظف في الدولة ، ولهذا ترى البلاد ممتلأة بالقهاوي وبالقرائتخانات التي هي قهاوي نظيفة ينتابها الوجهاء من الناس ، فلذلك صارت الديار الحسنة قليلة في هاته البلد العظيمة التي يتجاوز سكانها المليون وربع وإذا ضممت القرى التابعة لها في جوارها مثل بيوك آطه أي الجزيرة الكبيرة وغيرها من بقية الخليج يكون مجموع سكانها مليون ونصف على ما يقال ، حتى أنها كانت هي أعظم البلاد المعروفة وسميت بالقسطنطينية العظمى.

والحاصل : أن طرقها الآن التي لها نوع من الحسن هي طريق يبتدىء من بطحاء في وسط استانبول تسمى بميدان السلطان أحمد وفي وسطها مسلة من المسلات المصريّة متناغية في الهواء فيمر الطريق على الباب العالي ثم على القنطرة الموصلة الى غلطه ثم يمر منها الى الطوبخانة على سمت نحو المستقيم ، وهكذا يمتد على ذلك النحو إلى قبطاش وبشكطاش وأورطه كوى ثم قوري شيشيمه ثم أرنؤوط كوى ، ثم إلى ببك ثم إلى روم إيلي حصار ثم إلى يني محله ثم إلى طرابيا ثم إلى بيوك دره ثم إلى نهاية الخليج المسمى بروم أيلي قواغي جهة البحر الأسود ، والأماكن التي تقدمت أسماؤها كلها حارات مثل البلدان متصل بعضها ببعض ممتدة على طول الخليج ، وإنما كان هذا الطريق محسنا لأن أغلب أماكنه بها بناآت للدولة أو للسلاطين أو أبنائهم أو بناتهم أو وزرائهم أو أمرائهم أو لسفراء الدول الأجنبيّة أو للأغنياء من الإفرنج والنصارى أتباع الدولة ، مع كون شركة إفرنجية قد جعلت بذلك الطريق عجلات الترامواي برخصة من الدولة على شرط تحسينها للطريق وتوسعتها له حتى لا يعارض مروره العجلات الأخر ، وهكذا يمتد هذا الطريق أيضا بفرع آخر من البطحاء المذكورة ويمر على بطحاء السلطان بايزيد ثم على آق سراي ، ويمتد هكذا مستطيلا على نحو استقامة إلى أن يصل إلى آخر استانبول في باب أدرنه ويوجد طريق آخر على ذلك النحو يبتدي من غلطه أمام القنطرة ويصعد في جبلها ويمر في بايوغلي التي هي حارة السفراء في الشتاء ، وأما في المصيف فإنهم يسكنون في الخليج ومثلهم بقيّة الأعيان ، وحسن طريق بايوغلي فائق على الكل لمزيد التحسين في الديار الحافة بجانبيه وقد أحدثت طرق أخرى كثيرة على النوع المتعارف في أوروبا في جهات سراية يلدز ونيشان طاش إلى أن تتصل بطريب بايوغلي ، لكن هاته الطرق لم تنتظم الديار التي على حافتيها فأغلبها خال عن البناء بالمرة ، ويمكن أن يقال : إن البناآت الحسنة الموجودة في هاته البلاد تكاد أصحابها أن لا يخرجون عن الأصناف الذين ذكرناهم ، وهذه البناآت قديمها كله من أخشاب ذو طبقتين أو ثلاث نادرا ، وجديدها من بناء أغلبه بالطوب المطبوخ الأحمر أو

٣٤٠