صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

حوالي شاطىء البحر الأحمر مع بيان حجمها ومركزها ، وهي من صنع الإنقليزيين فسألتهم هل لهم خريطة مصرية أو عثمانية فأجابوا بأن تلك الخريطة هي المعول عليها عند جميع الأمم ولو العثمانيين ، الذين يعد البحر الأحمر بحيرة في مملكتهم من جميع جهاته فعجبت وانذهلت من حزم قوم وإهمال آخرين ، وهي إحدى علامات تأخرنا إذ صرنا لا نعلم بلادنا وشواطئها إلا بتعريف الأجانب لنا بها وسبحان الفعال لما يريد.

وأما سكان الحجاز فهم كلهم عرب من نسل العرب الأقدمين إلا سكان البلدين المكرمين فأغلبهم من الوافدين من جميع الأقطار وأكثرهم بمكة من الهنود ، وأما في المدينة فأكثرهم من المغاربة وعدد جميع السكان في الحجاز يقرب من نحو مليونين ، فالذين يعمرون الأرض ما بين مكة والمدينة هم قبيلة مزينة وتعرف بالأحامدة ومنها فخذ يعرف بقبيلة حرب ، وهم التجار ومنهم البغاة الذين يكثرون قطع الطرق بين البلدين المكرمين ، وهاته القبيلة وهي مزينة المعروفة بالأحامدة ، تنقسم إلى قسمين كبيرين أولهما : يسمى المسروح ، وهم سكان البراري من مكة إلى الصفراء ، وثانيهما : يعرف ببني سالم ومنهم فخذ حرب ، وهم سكان بقية الجهات ، وديانة الجميع هي الإسلام على مذاهب شتى أغلبهم أهل سنة على المذهب الحنفي والشافعي ، وانتشر فيهم التعاليم الدينية بكثرة زوايا الشيخ السنوسي المنتشرة في جميع جهاتهم وقد مر الكلام على مذهبهم عند الكلام على جزيرة العرب في المقدمة وعلى حوادث تونس في فصل سفري إلى فرنسا ، كما يوجد المذهب الوهابي بقلة وإن كثر في جهات نجد الخارجة عن حكم الحجاز ، وأما تقاسيم الأهالي بالنظر للحكم فإن كل قبيلة لها مشايخ منها ويرجع الجميع إلى أمير مكة السيد الشريف.

٣٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله اللهمّ صلّ على سيّدنا ومولانا محمّد وآله وسلّم تسليما

فصل في تاريخ الحجاز

مطلب في تاريخه القديم

اعلم أن سكان الحجاز هم العرب فتاريخه هو تاريخهم نعم قد كان الحجاز معمورا قبلهم لكن ذلك العمران قد جهل تاريخه بالمرة لتقادم العهد تقادما كثيرا ، وغاية ما يعلم من حوادث ذلك التاريخ هو بعض جزئيّات لها تعلق ببعض الأماكن المشرفة هناك ، مثل بيت الله الحرام ، فإنها بنيت منذ عهد سيدنا آدم أبي البشر عليه الصلاة والسلام وجدّدت أيضا قبل سيدنا إبراهيم ، ولكن الأخبار عن ذلك كادت أن تكون خليّة عن التحقيق ، ثم أنّه لما تكوّنت أمة العرب واستقرت في جزيرتها حدثت فيها حوادث تاريخيّة مهمة جدّا غير أنها في ذاتها أيضا منقسمة إلى أربعة أقسام باعتبار إنقسام العرب في أنفسهم ، لأن العرب منذ نشأتهم إلى الآن منقسمون إلى أربع طبقات ، فالطبقة الأولى : هي العرب البائدة ، والثانية : العرب العاربة ، والثالثة : العرب المستعربة ، والرابعة : العرب المولدين أو المخضرمين.

فأما الطبقة الأولى (١) : فهي التي كانت قبل سيدنا إبراهيم وإنما سميت بائدة لإبادتها أي انقطاعها وانقطاع أخبارها وإن كانت ذريتها لم تزل وهم بقيّة الطبقات وانقطاع أخبارها إنما جاء من شدة طول العهد والأمد فلم يعلم من أحوالهم إلا بعض حوادث قصها الله تعالى في القرآن المجيد مثل ما ذكر من أحوال رسول الله سيدنا صالح إلى قومه ثمود ، وكذلك قصة عاد مع رسولهم سيدنا هود ، والإشارة إلى ما كان لهاته الأمة من القوة والعمران والثروة وشدة البأس إلى غير ذلك من أحوال انقراضهم والإعتبار بما كان لهم وبقيت بعض آثاره في ديارهم ، وأما غير ذلك من تفاصيل تاريخهم فلا يوجد منه إلّا قصص يذكرها بعض المفسرين أو المؤرخين لا سند لهم فيها إلّا الإعجاب بقصص القصاص ممّا لا ينبغي الاعتماد عليه اللهمّ إلّا ما إذا ورد شيء من ذلك عن الصادق الأمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه ينبغي أن يتلقى بالقبول.

__________________

(١) انظر صبح الأعشى ١ / ٣٦٤.

٣٠٢

ولعله لا يوجد من ذلك عدا ما في القرآن المجيد إلّا ما ندر مما روي بصحيح السند ، وهكذا ما يروى عن الصحابة رضي‌الله‌عنهم في ذلك الصدد لأنهم إذا صحت الرواية عنهم لا يقولون إلّا ما له ثبوت بإحدى الوجوه الموصلة وحاشاهم أن يذكروا خرافات القصاص ، ولذلك كانت الأخبار عن تلك الطبقة من العرب في غاية الإبهام.

وإنما المحقق منها هو أنهم كانوا أمة عظيمة ذات نخوة وشهرة وعمّروا الأرض عمرانا عظيما وحادوا عن جادة الصواب في عبادة الخالق ، فأرسل إليهم الرسل في أزمان مختلفة يدعونهم إلى الرشاد فعاندوا إلى أن أحاط بهم العقاب ، وطول الزمن الواقع ما بين أولئك الرسل الدال عليه سياق القرآن المجيد والدال عليه أيضا نسيان القوم لما كان أصاب سابقيهم يدل على طول الزمن بين سيدنا نوح وبين سيدنا إبراهيم عليهم جميعا الصلاة والسلام زيادة على ما يزعم أنه مذكور في التوراة بأضعاف مضاعفة ، فإن تكوّن الأمة وكثرتها بعد الطوفان إلى أن تبلغ إلى ذلك المقدار من الكثرة والشدة وغير ذلك من الصفات لا بدّ له من زمن طويل كاف لتكوّن ذلك العدد الوافر من رجل واحد ، ثم أن نسيانهم لمعجزة الطوفان وسبب نجاة جدهم يستدعي أيضا ذلك الطول ، ثم أن تعدّد الرسل مع التعاقب أي أن كل واحد منهم في زمن بعد الآخر وكل واحد منهم يحل العقاب بمن خالفوه فبعضهم أهلك بالريح وبعضهم أهلك بالصيحة إلى غير ذلك يدل أيضا على شدة طول الزمن فيما بينهم حتى تنوسي خبر السابق وكل ذلك قبل سيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، فلا بدّ أن تكون المدة بينه وبين سيدنا نوح طويلة جدّا لا يعلم مقدارها إلّا الله تعالى ، ومجموع ذلك يدل على طول عمر الدنيا وإنما غايتها إنها حادثة وأنها مآلها إلى الفناء وهذا كله يبين لنا معنى قوله عليه الصلاة والسلام. «بعثت أنا والساعة كهاتين» (١) وقرن بين إصبعيه الكريمتين الوسطى والسبابة ، وكذلك ما دلّ من الآيات والأحاديث على قرب الساعة ، فربّ قائل يقول أين هذا القرب وهذا الإقتراب وقد مضى من زمن البعثة إلى الآن أزيد من ألف وثلاثمائة سنة ومع ذلك لم تظهر العلامات الكبرى كنزول سيدنا عيسى عليه‌السلام وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك؟ فنقول له : إن الأمور نسبيّة فمن علم المقدار الكثير من مدة الدنيا التي مضت وعلم ما بقي منها رأى أن الساعة قربت وأنها مقترنة بالبعثة ، ولا يتأتى ذلك إلّا إذا كانت المدة الماضية طويلة طولا كثيرا كما هو الواقع والمشاهد من حالة الآثار الدالة على أن ما مضى يزيد على العشرات من آلاف السنين فنسبة

__________________

(١) أخرجه البخاري برقم (٦٥٠٣ ـ ٦٥٠٤ ـ ٦٥٠٥) ومسلم في الفتن برقم (١٣٥) والنسائي ٣ / ١٨٩ والترمذي برقم (٢٢١٤) وابن ماجه برقم (٤٥ و ٤٠٤٠) والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ٣ / ١٢٤ و ٥ / ١٠٣ والبيهقي في السنن ٣ / ٢٠٦ والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ١٤٧ والمنذري في الترغيب والترهيب ١ / ٨٣ والقرطبي في تفسيره ١٠ / ٦٦ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٢٥٤ والتبريزي في مشكاة المصابيح (١٠٤٧ ـ ٥٥٠٥) والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٨٣٤٨ ـ ٣٨٣٤٩ ـ ٣٩٥٧١).

٣٠٣

ألفين سنة أو ثلاثة آلاف من تلك العشرات من الألف ما هي إلّا كنسبة المتلاصقين والمقترب ، وأما إذا اعتبر ما يزعمه أهل الكتاب من المدة وأنها ستة آلاف مثلا فلا يمكن الفهم إلّا على ضرب من التأويل الذي لا حاجة إليه لمخالفته للواقع ولتبين التحريف الثابت فيما يستند إليه أهل الكتاب الذي غرّهم فيما ذكر فلله الحمد على تنزّه شريعتنا المطهرة عن مثل الخرافات المخالفة للواقع.

وأما الطبقة الثانية من العرب : وهي العرب العاربة فهي التي من زمن سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل إبنه أبي العرب المعروفين إلى عصر البعثة ، وهاته الطبقة أخبارها معروفة إجمالا لا سيما قرونها المتأخرة بما يستنتج من أشعارها وقصائدها وأخلاقها وإن كانت تفاصيل الحوادث التاريخيّة غير محققة لا سيما القرون الأولى لها والمتوسطة لعدم وجود تواريخ محررة في أخبار هاته الأمم من العرب دوّنت قبل الإسلام ، وإنما الذي يوجد في ذلك من التآليف إنما هو بعد الإسلام عندما حدث تدوين الكتب في الأمة الإسلاميّة وذلك من القرن الثالث من الهجرة ، فيوجد في التواريخ الإسلاميّة أخبار كثيرة عن هاته الطبقة وكثير منها تلوح عليه سمات الصحة لما يؤيده من الأشعار في الوقائع وحوادثها وإتياننا على جميع ذلك في هذه الخلاصة مغاير لمقصدنا لأنه لا يكون إلّا زيادة نسخة من إحدى التواريخ المشتهرة في ذلك ، مثل تاريخ المسعودي (١) أو تاريخ ابن خلدون أو غيرهما من التواريخ الكثيرة ، وإنما الذي يليق بنا ذكره هو أن نقول : إن هاته الأمة قد انتشأت فيها دول عظيمة وممالك واسعة وكانت في أغلب الأوقات منقسمة إلى ثلاثة أقسام جنوبي وشمالي ووسط :

فأما القسم الجنوبي : فهو اليمن وحدثت فيه دول عظيمة مستقلة بنفسها في أغلب الأوقات ولكنها لم تتسلط على غيرها من الأمم إلّا نادرا ، نعم قد يتسلط عليها غيرها أحيانا فتارة تكون تابعة لملوك فارس وهو الأكثر وتارة تتبع دولة الحبش أو دولة اليونان أو الرومان أو المصريين ، وفي كل الأحوال الأغلب أن يكون حكامها منها وإن كانوا تابعين لغيرهم ممن ذكرناه ، ونشأ فيهم تمدنا جميلا كما تدل عليه الآثار التي حول المدن القديمة مثل صنعاء وغيرها ، وصار في اليمن رجال ذوي فطنة وفكر وقاد وتأهل للكمال كما يرشد إليه الحديث الشريف القائل : «الإيمان يمان والحكمة يمانية» (٢) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

__________________

(١) هو علي بن الحسين بن علي ، أبو الحسن المسعودي ، من ذرية عبد الله بن مسعود. مؤرخ بحاثة من أهل بغداد ، أقام بمصر وتوفي فيها سنة (٣٤٦ ه‍). الأعلام ٤ / ٢٧٧ فوات الوفيات ٢ / ٤٥ لسان الميزان ٤ / ٢٢٤ طبقات الشافعية ٢ / ٣٠٧ النجوم الزاهرة ٣ / ٣١٥ وتذكرة الحفاظ ٣ / ٧٠.

(٢) أخرجه البخاري برقم (٤٣٨٩) ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان برقم (٨٩ و ٩٠) والترمذي برقم (٣٩٣٥) والإمام أحمد بن حنبل في المسند ٢ / ٢٣٥ والطبراني في المعجم الصغير ١١ / ٣٢٩ والدارمي في مسنده ١ / ٣٧ والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٣٤٧ والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٣٩٥٧ ـ ٣٣٩٦٥).

٣٠٤

وأما القسم الشمالي : فهو مملكة غسان أي الجهة الموالية للشام والعراق ، فهاته كثيرا ما حدثت بها دول مستقلة ذات شأن لكنها لم تبلغ مقام دول اليمن ، وفي أكثر الأحوال تكون هاته المملكة تابعة لصاحب ملك الشام كالرومان وغيرهم ، وفي أكثر الأحوال أيضا تكون رؤساؤهم منهم وإن كانوا تابعين لغيرهم.

وأما القسم الثالث : وهو الوسط الشامل للحجاز ونجد وتهامه ، فالحجاز منه في أغلب الأوقات إن لم نقل في كلها كان منفردا. وأما غيره فيكون تارة تابعا للجنوب وتارة للشمال وتارة ينفرد بنفسه مثل الحجاز ، والحجاز الذي هو بيت القصيد مع كونه كان منفردا عن الخضوع لغيره ، إلّا أن يكون خضوعا إسميّا بمعنى الادلاء بالبيعة لبعض ملوك اليمن العظيمي الملك فإنه في نفسه لم تكن به دولة ملكيّة قط وإنما جميع السكان منقسمون إلى قبائل كل قبيلة خاضعة إلى رؤسائها فقط ، ولا سلطة لواحدة على أخرى إلّا ما يكون على طريق الظلم والعدوان ، وقد انفردت قبيلة قريش من بين سائر قبائل العرب بالمجد والفضل لما لها من المزيّة باختصاصها بالسكنى حول بيت الله الحرام الذي لم يزل معظما عند الجميع منذ بناه سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل أبو العرب ، وكانت سائر القبائل العربيّة تحجه من جميع الآفاق اليمن والشام وغيرهما وتعظم أهله وتكرمهم ، واختص بمزيد الشفوف على قريش بنو هاشم منهم فكانوا هم سدنة البيت وهم حماته.

وقد تقررت في قبائل العرب أكثر شيم المكارم لا سيما قريش فكانوا أبعد الخلق عن تحمل الضيم وكانوا أحرص الناس على حفظ المجد وحماية النسب ، فيحفظون أنسابهم ويتفاخرون بها ويكرمون الضيف ويتنافسون في البذل والكرم ويحمون الجوار ويوفون بالعهد ولهم اليد البيضاء في الشجاعة والرماية والفروسيّة ، والإعتناء بتربية الخيل الجياد والإبل ، ويتفاخرون بالعدل ويستقبحون الظلم وإن افتخروا به في قهرهم به لأعدائهم ، والحاصل أنهم اقتنوا أكثر سمات الفضائل ومكارم الأخلاق حسب ما يرشد إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١) ويؤكد ذلك حلف الفضول ، الذي قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت» (٢) الخ ، وذلك أن قريشا تحالفوا على أن لا يجدوا مظلوما إلّا انتصروا إليه حتى يردوا ظلامته ويأخذون حق الضعيف من القوي ، ولتنافسهم في سمات الكمال حدثت بين القبائل المشاحنات على استحصالها وتمكنت العداوة بينهم وصاروا على قلوب شتى.

__________________

(١) أخرجه الإمام مالك في موطأه برقم (٩٠٤) والقاضي عياض في الشفا ١ / ٢٠٧ والسيوطي في الدرر المنتثرة (٥٨).

(٢) ذكره البيهقي في السنن الكبرى (٦ / ١٦٧ والقرطبي في تفسيره ٦ / ٣٣ و ١٠ / ١٦٩ وابن كثير في البداية والنهاية ٢ / ٢٩١.

٣٠٥

وكان أعظم همهم وغاية تفاخرهم هو البلاغة في لغتهم التي بها يعبرون عن خصال فضائلهم ومناط تنافسهم ، حتى صاروا يعقدون لذلك أسواقا كسوق عكاظ فيفيضون إليه من كل فج عميق ، وتأتي القبائل بما لديها من البضائع والتجارة ويقع بينهم تعارف ورواج في المتجر ، ولكن موضوع أصل الاجتماع هو عرض كل قبيلة كلام فحول فصحائها من نثر ونظم فتنصب لأصحاب البلاغة واللسان الطلق المنابر وينشد كلّ منهم ما لديه من القصائد التي كان تأنق في إحضارها ، حتى ربما بلغ الحال بأحدهم أن لا يظهر قصيدته إلّا بعد التروّي والتدبر فيها وإصلاحها مدة العام والعامين ، حتى كانت لهم قصائد تسمى بالحوليّة وقد يكون الإنشاد ارتجالا مع الإبداع والاغراب من مصاقعهم في أغراض شتى من نصائح وحكم وصفة مكارم الأخلاق ، أو في الشجاعة والبطش والحروب ، أو في الغزل والنسيب أو المفاخرة والمدح والذم إلى غير ذلك مما اشتهر أمره في الآفاق بين سائر الأمم إلى الآن ولا زال يضرب به المثل فيما كان للعرب من سعة اللغة وكمال الإدراك فيما خاضوا فيه ، من مناهج الكلام ، وكانت لهم حكام مسلم إليهم الإنصاف ومعترف لهم بكمال الخبرة والإحاطة بأساليب البلاغة وجزالة المعنى ودقة المدرك فيحكمون بتفضيل بعض الكلام على بعض ، وربما بلغ الحال من العناية بالكلام البليغ أن يكتب في صحائف مونقة ويعلق في داخل الكعبة التي هي مناط تعظيمهم قديما وحديثا ولو في الجاهليّة ، دلالة على أن ذلك الكلام قد بلغ الغاية القصوى في المهيع الذي هو بصدده لما احتوى عليه من الفصاحة ، ومن ذلك المعلقات السبع الشهيرة ، غير أنهم مع هاتيك الكمالات قد تناسوا دين آبائهم إبراهيم وإسماعيل عليهم‌السلام ولم يبق فيهم من آثاره إلّا اعتقاد الخالق والإعتراف له بالوجود كما يرشد إليه قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزمر : ٣٨] و [لقمان : ٢٥]. وكذلك تعظيمهم للبيت الحرام ، ثم تفرقوا في بقيّة العقائد على أنحاء شتى باطلة من وثنيّة ومجوسيّة ودهريّة وكتابيّة أي متنصرين أو متهودين مستغرقين في الضلال الذي عم جميع أطراف الأرض في ذلك العصر ، بحيث لم يكن بها من يعبد الله على حق إلّا عدد من أفراد مخصوصين.

وبينما كان أهل الأرض في ذلك الظلام الحالك وإذا بنور الله قد سطع وكشف عن البصائر الحجب ببعثه رسول الله سيدنا ومولانا محمّد صفوة بني هاشم سادة العرب ، فانقلب الكون حينئذ إلى طور آخر في سائر الأحوال المتعلقة بالدين والدنيا وظهر في العالم عصر جديد عمّ اعتداله واستقامته أغلب المعمور من الأرض في سنين قليلة ، والكلام على تفاصيل زمن البعثة وما سبقه وما لحقه من مكملات دعائم الدين الإسلامي قد بسط ووقر في مجلدات عظيمة من كتب السير والتاريخ لا تمكن الإحاطة بها هنا ، وشهرتها غنيّة عن البيان. وإنما الذي ينبغي التنبيه عليه هنا لمن لم يكن خبيرا هو أن تاريخ ذلك العصر أعني عصر البعثة وعصر الخلفاء الراشدين يلزم فيه من القيود ما لا يلزم في غيره من التواريخ وهو صحة السند واتصاله ، بحيث يصح أن يكون معتمدا لانبناء الأحكام الشرعيّة عليه. لأن

٣٠٦

جميع حركات وسكنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريعيّة للأمة إلّا ما قام الدليل على اختصاصه به عليه الصلاة والسلام ، وهكذا أعمال خلفائه الراشدين من بعده ، ومن المقرر في كتب الأصول أن الأدلة الشرعيّة لا تثبت بمجرد النقل بل لا بد أن يكون النقل على الوجه المعتبر وهو روايته أي الدليل بالتواتر أو الشهرة أو الأفراد على ما هو مبسوط في كل منها ، وبهذا يتبين غلط من يزعم أن الإمام أبا حنيفة رضي‌الله‌عنه كان غير عالم بالسير الذي هو تاريخ سيرة رسول الله سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وكذلك سيرة خلفائه الراشدين من بعده وهم سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي وسيدنا الحسن وسيدنا الحسين رضي‌الله‌عنهم ، لأن كل ذلك يتوقف عليه كثير من مسائل الاجتهاد كمعرفة الناسخ والمنسوخ من الأقوال والأفعال وكذلك نفس الأدلة التي يستند إليها المجتهد ، فمن تمشدق بحكايات عن أبي يوسف (١) أو محمّد فيما سلمه أمامهم أبو حنيفة رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، ليس هو إلّا جهول بمقام الاجتهاد وبمعاني الكلام وارتباط العلوم ببعضها ولا غرابة حينئذ في فحش غلط وكذب مؤرخي غير المسلمين فيما ينسبونه بهتانا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض سيره وصفاته ، لأنهم يظنون أن تاريخ ذلك العصر خصوصا ما يتعلق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مثل سائر التواريخ التي تتوقف على مجرد الرواية مع عدم المانع العقلي ، وقد عرفت أن الأمر عندنا ليس كذلك بل هو مشروط بما ذكرناه فلا يغتر مسلم بما يذكره الإفرنج الآن في تواريخهم في هذا الموضوع. وننبه على الخصوص أبناء أوطاننا المعجبين بأحوال الإفرنج على الإطلاق لإنكبابهم على تعاليمهم وعدم فتح بصائرهم في حقائق معارف المسلمين حتى جرهم ذلك إلى استحسان طريقة التاريخ عند الإفرنج مطلقا مع أنها في نفس الأمر ليست مطابقة للواقع في الموضوع الذي ذكرناه ، ثم أن هاته الطبقة من العرب لما كتب الله لها أن تسود على الأرض ويعم حكمها فيها في الطول والعرض ، وأنجز لها وعده في أقرب مدة بحيث أنها في خلافة سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه المتوفي سنة ٢٧ هجرية ، امتدّ حكمها من جبال القوقاز إلى المحيط الغربي جهة إسبانيا ومراكش ، وكان ذلك إحدى معجزاته عليه الصلاة والسلام حيث قال : «وزويت لي الأرض فأوريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي مقدار ما زوي لي منها» (٢) فكان الأمر كذلك ولم يتوغل ملك الأمة في الجنوب وفي الشمال مثل ما توغل في المشرق والمغرب كما قاله حجة الإسلام الغزالي في

__________________

(١) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي ، أبو يوسف (١١٣ ـ ١٨٢ ه‍) فقيها حافظا للحديث. صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه. ولد بالكوفة. مات في خلافته ببغداد وهو أول من دعي «قاضي القضاة». الأعلام ٨ / ١٩٣ مفتاح السعادة ٢ / ١٠٠ البداية والنهاية ١٠ / ١٨٠ الجواهر المضيئة ٢ / ٢٢٠ تاريخ بغداد ١٤ / ٢٤٢ الفهرست لابن النديم (٢٠٣) وفيات الأعيان ٢ / ٣٠٣ الإنتقاء (١٧٢) مرآة الجنان ١ / ٣٨٢ وشذرات الذهب ١ / ٢٩٨.

(٢) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٣٩٥٢) والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢ / ٢١٠ وابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٢٩٩ والقاضي عياض في الشفا ١ / ٥١٩.

٣٠٧

الأحياء ، وسبب ذلك والله أعلم أن العمران في الأرض كان في ذلك التاريخ غير معتبر في جهتي الجنوب والشمال وإنما مناخ الأمم ومقام أغلب الخلق في جهتي الشرق والغرب ، وكان الوجه في الإتيان بلفظ المشارق والمغارب بصيغة الجمع هو الإشارة أما إلى المشارق بالنسبة للعرض أي تعددها نظرا لاختلاف الفصول ، أو بالنظر إلى الطول أي مشارق أهل الأرض فإن كل جهة من الأرض شرقيها مسكون إلى نهاية المحيط الشرقي بالنسبة لنصف الكرة الذي هو القسم المعمور والمعروف إذ ذاك ، وهكذا الغرب فيكون في الحديث على الوجه الثاني إشارة إلى عدم تملك المسلمين في أمريكا كما هو واقع بالفعل لأنها ليست بمشرق ولا بمغرب لأحد سكان هذا القسم ، أعني القسم المشتمل على آسيا وأفريقيا وأروبا لأن بعد قارة أمريكا من هاته القارة جعل مشرق شطوط قارّاتنا ومغربها هو البحر ، فبسبب امتداد ملك هاته الطبقة إلى ذلك الحد وانتقال القبائل إلى تلك الأصقاع المفتوحة واختلاطهم بأممها ورجوع تلك الأمم أيضا إلى مركز الحكم وتخته وتخت الديانة أيضا لأنهم دخلوا فيها أفواجا.

فبسبب ذلك كله حدثت الطبقة الثالثة : من العرب وهي العرب المستعربة ، أي الذين تعربوا وإن لم يكونوا في الأصل عربا ، وامتدّت هاته الطبقة إلى نهاية دولة العرب في الصورة والمعنى ، أعني إلى حدود المائة الثالثة التي تقلص فيها ظل دولة جنسيّة العرب وإن بقي فيهم الملك ، لكن عصبته وأنصاره والقائمون به والذين أمر الدولة في أيديهم حقيقة هم الأعاجم من الترك والموالي ، الذين اتخذهم بنو العباس بطانة لهم فتغلبوا على الأطراف وعلى نفس الخليفة تارة مع شدة في الإستيلاء وتارة مع ضعف ، إلى أن اندثر ملك الخلفاء بالمرة بواقعة هلاكو خان على بغداد التي بها انقرضت دولة بني العباس ، وإن عادت إسما بلا مسمّى بعد مدة قليلة من السنين بظهور أحد ذريّة بني العباس في مصر وإكرامهم له بالبيعة الصوريّة وتسميته بالخليفة ثم يحجرون عليه في قصره الرحيب بحيث لا يكون له من الأمر شيء ويكتب كتابا يشهد فيه على نفسه أنه فوّض الأمر إلى ذلك السلطان الذي ولاه ويبقى ممتعا في لذاته التي يتفضل بها عليه حسن ظن من سلاطين ذلك الزمان بمصر ، حتى اعتقدت العامة أن وجود الخليفة موقوف على شرط النسب العباسي وحده فأزاحت هاته البدعة الدولة العثمانيّة عند استيلائها على مصر سنة ٩٢٢ هجريّة بفتوى العلماء. ومن تاريخ إنحصار دولة العرب أي بني العباس في مملكة العراق وخروج الحجاز عنها غالبا إلى بيعة من هو بمصر. حدثت الطبقة الرابعة : وهي العرب المخضرمون الذين هم سكان جزيرة العرب إلى الآن ، فإنهم وإن كان أكثرهم قبائل عربيّة النسب أصالة لكن لغتهم قد خرجت عن أصلها ، وكذلك طبائعها وعاداتهم لتقليدهم الأمم المتغلبين على الدولة التي هي أكثر نفوذا في ممالك الإسلام ، فهم وإن كانوا عربا من جهة الأنساب لكنهم غير عرب من جهة اللغة والطبائع وبعض الإختلاط في الأنساب ، ولذلك أطلق عليهم إسم المخضرمين ، وقد أدانا الكلام على إجمال أوصاف الطبقات الأربعة من العرب إلى التكلم عن شيء من حالة

٣٠٨

التاريخ الجديد للحجاز لكي ينسجم تعريف تلك الطبقات على وتيرة واحدة ، ثم نعود الآن إلى ديدننا في التكلم على التاريخ فنقول إن انتهاء التاريخ القديم للعرب كان بظهور الإسلام.

فصل في التاريخ الجديد للحجاز

اعلم أنه ببعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلاصة العرب وسيد الأمم قد حدث تاريخ جديد في سائر العالم لا في الحجاز فقط الذي هو مطلع نوره عليه الصلاة والسلام وذلك لعموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه ولد عام الفيل الذي كانت تؤرخ به العرب وهو العام الذي قدم فيه ملك الحبشة للإستيلاء على مكة ومعه فيلة للحرب ، فولي كبيرها على عساكرهم وانهزمت الحبشة بدون حرب ، وكان ذلك من الإرهاصات الدالة على البعثة ، وذلك العام قبل الهجرة بسنة ٥٣ ويوافق ذلك سنة ٥٦٩ ميلاديّة ، وقد كان والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توفي قبيل ولادته فكلفه جده عبد المطلب وأرضعته أخواله بنو النجار في المدينة ، ثم نشأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كمال الأخلاق وأشرفها سجيّة فطر عليها من غير تعلم ولا تأديب ، حتى أنه كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب على ما هو الغالب في الأمة إذ ذاك ، وكفله عمه أبو طالب بعد وفاة جده ، فلما استكملت شبوبيته تعاطى التجارة على وجه المضاربة وهي أن يكون المال لإنسان والعمل على الآخر ، والمال الذي أتجر به كان لخديجة بنت خويلد أحد أعاظم قريش وأغنيائها فسافر إلى الشام ورجع بربح فاق على أنظاره ، ثم تزوج السيدة خديجة وقد رغبت فيه ، لعلو نسبه حيث كان صفوة بني المطلب وبني هاشم سادات العرب كما تقدّم ولكمال حسبه لما رأت من جزيل الأرباح في تجارته مع ما هو عليه من استجماع كافة مكارم الأخلاق ووفرة العقل والجلالة والمهابة ، حتى كانت قريش يدعونه الأمين وينقادون لإشارته وأمره حتى أنهم لما اختلفوا عند تجديدهم بناء الكعبة فيمن يبني الحجر الأسود وهم بالمسجد الحرام وتراضوا على تحكيم أول داخل فكان هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا جميعا رضينا هو الأمين.

ومن كمال تدبيره أرضى جميعهم في ذلك حيث أخذ ثوبا ووضع فيه الحجر الأسود ثم قال لهم لترفع كل طائفة من إحدى جهاته فرفعوه جميعا حتى إذا بلغوا به محله وضعه فيه هو عليه الصلاة والسلام ، وهكذا عرف بين الجميع بالصدق والوفاء والنزاهة عن كل نقيصة ، فلما بلغ الأربعين من عمره بعثه الله رسولا بنزول الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الملك وأقام بعد ذلك بمكة ثلاثة عشر سنة يدعو فيها الناس للإيمان بما أنزل عليه من القرآن وإقامة الدليل والبرهان وإظهار المعجزات الخارقات للعادات من الأخبار بالمغيبات الماضية كحوادث الأمم الماضية ممّا اختلفت فيه أخبار أهل الكتاب فجاءهم فيه بما يوافق الحق والعقل وإن خالف أقوالهم جميعا ، وكذلك المغيبات الحاليّة كالأخبار عن بيت المقدس وتوصيفها توصيف معاين لها مع أنه لم يرها قط إلّا في الإسراء الذي هو معجزة له عليه

٣٠٩

وآله الصلاة والسلام ، وكذلك المغيبات المستقبلة كغلب الروم من الفرس وعود الكرة لهم وانتصار المؤمنين وعزتهم وامتلاكهم مشارق الأرض ومغاربها ممّا جاء كله على نحو ما قال ، وهكذا إجابة دعواته وغير ذلك من المعجزات وأعظم بمعجزة انشقاق القمر التي بينّا ثبوتها القطعي في الكلام على مصر ، وفوق ذلك كله معجزة القرآن الذي هو من جنس كلامهم ومن النوع الذي فيه مجال تفاخرهم واعتنائهم ، فإذا هو يوميّا يقصص عليهم القصص ويقيم البراهين على الإيمان ويوعظ ويرغب ويرهب بأساليب شتى ويدعوهم إلى المعارضة بإتيانهم بمثله وينادي عليهم بالتعجيز مما يزيد في حماستهم في المعارضة ، ولم يتفوه واحد منهم بشيء حتى لجأوا إلى أنه سحر وغير ذلك من أعذار المعاندين العاجزين ، كقولهم : إنه تعاليم نسطور الرومي ، ممّا رده عليهم القرآن الكريم حيث قال : ([وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] الآية فقد أخطأوا وافتروا ولم يفقهوا أن مناط المعجزة هو اللسان العربي وهو محل مناداتهم إلى المعارضة وذلك لا يتأتى فيه قولهم ، لأن لسان من زعموه عجمي وليس هو موضوع التعجيز وهذا كاف في دحض أصل الدعوى من كون نسطور لم تكن بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علقة ولا مواصلة ، وغاية الأمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رآه إثنان من الرهبان قبل النبوّة وآمنا به حتى عدهم البعض من الصحابة على قول من يرى الصحبة تثبت بالرؤية مع الإيمان ولو قبل البعثة.

وهذان الراهبان : أولهما : يسمى بحيرا أو جرجيس رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أول سفرة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عمه أبو طالب إلى الشام وهو ابن إثنتي عشر سنة وكان الراهب في صومعة له ينزل حولها الركبان ، فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأى بعض العلامات التي استدل عليه بها قرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفحص جسمه فرأى الخاتم وتعرف أخباره من رفقائه ، ثم تلطف إلى عمه حتى رجعه إلى بلده خوفا عليه من اليهود وأخبر عمه ورفقاءه بما يكون له من الشأن والأمر.

وثاني الراهبين : هو نسطور الراهب رآه أيضا قبل البعثة وعند سفره للتجارة إلى الشام ومعه ميسرة غلام خديجة زوجته ، فلما رآه من الصومعة أيضا تعرّف خبره من الرفقاء وأخبرهم بما يكون له من الشأن أيضا ولا يعلم ولا ينقل عن أحد لا في الثقات ولا في الموضوعات أنه اجتمع بغيرهما في غير ذلك الموطنين ، إلّا ما روي بضعف من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سافر وهو ابن عشرين سنة إلى تجارة أيضا بالشام في صحبته أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه وإن نسطور اجتمع به إذ ذاك أيضا وحذره ورغبه في الرجوع عن الشام خوفا عليه من الروم فأرسل معه أبو بكر رضي‌الله‌عنه غلامه مصاحبا في الرجوع ، وهاته الرواية على ما فيها من الضعف ليس فيها شيء زائد عما في الروايتين السابقتين بالنسبة لأمر الراهبين ، فيا ليت شعري من أين افترى بعض المتمشدقين من الإفرنج المدعين معرفة التواريخ بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت له مودة مع ذلك الراهب وهو بحيرا وينصحه بالنصائح ، وقد علمت ممّا مرّ سابقا ما يشترط في حالة تواريخ ذلك العصر.

٣١٠

ثم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمره الله بالهجرة إلى المدينة التي قدر أن تكون هي مظهر إصلاح هذا العالم الأرضي ونجاة أهله في الآخرة ، وكان إذ ذاك قد فشا خبر الإسلام والبعثة فتلقّاه الأنصار أهل المدينة بالبيعة والطاعة وانثالت عليه القبائل بالإيمان ، واستعد إذ ذاك لإجراء أمر الله وأحكامه على من عاندوا بعد إقامة البرهان والحجة ، وتمم أبعد وعده لرسوله وللمؤمنين ففتحت مكة وآمنت في أثرها جميع قبائل جزيرة العرب ، ولم يزل الدين ينتشر إلى أن عمّ البسيطة في نحو نصف قرن ، ثم أن تاريخ الحجاز لما كان من ذلك الوقت هو تاريخ الأمة الإسلاميّة إلى انتقال الخلافة منه في خلافة سيدنا علي ، ثم عودها إليه في خلافة سيدنا الحسن رضي‌الله‌عنهم جميعا ثم خروجها منه من ابتداء خلافة سيدنا معاوية ، والكلام على ذلك كله مبسوط في جميع التواريخ الإسلاميّة فلا ثمرة في ذكرنا لأزيد ممّا ذكرناه هنا طبقا لقاعدتنا.

وإنما نقول إن الخلافة لما انتقلت عن الحجاز صار على كلّ من مكة والمدينة وال مخصوص غير أن والي مكة قد تعين من وقت الفتح ، وأول وال بها هو عتاب بن أسيد (١) ولي سنة ثمان عند الفتح وولي أيضا على إقامة الموسم والحج ، ثم أن بني أميّة كانوا لا يولون على المدينة إلّا أقرب الناس وآمنهم لديهم ، واستمرّ الأمر على ذلك إلى حدود سنة ٢٥١ التي استقلت فيها عائلة ساداتنا الأشراف بني الأخيضر وبقيت بأيديهم إلى أن غلب عليهم القرامطة سنة ثلاثماية وسبعة عشر ، وهولاء القرامطة قوم ظهروا باليمن مظهرين الإسلام والتمسك بالسنة وهم أشد كفرا ونفاقا من المنافقين ، فأدخلوا في الدين الدسائس ووضعوا الأحاديث وفعلوا من المناكر ما له خبر مأثور ، حتى استولوا على مكة والمدينة وخربوا الكعبة وقلعوا الحجر الأسود من موضعه إلى أن رجعه بعد ذلك عمال بني العباس الذين طهر الله بأيديهم الحرمين من أولئك القرامطة ، ثم استقلّ بالحرمين أيضا السادة الأشراف بنو سلمان بن داود بن الحسن المثنى وبقي الملك بأيديهم إلى سنة أربعمائة وإثنين وخمسين ، فاستقلّ بملك الحجاز الهواشم الذين هم العائلة المستولية إلى الآن من ساداتنا الأشراف وأولهم سيدنا المولى الشريف أبو هاشم محمّد العلوي المستولي في السنة المذكورة والمتوفي سنة ٤٨٧ ، وبقيت في بنيه إلى الآن ، فإنهم كانوا من ذلك التاريخ مستقلين بالأمر والنهي والنصب والعزل وسائر الإدارة الداخليّة ، إلّا أنهم يدلون بالبيعة ظاهرا إلى الخلفاء العباسيين والسلاطين الذين تغلبوا عليهم ببغداد إلى انقراض دولتهم ، فأدلوا بالبيعة إلى سلاطين مصر وإنما كان الحال يختلف عندهم فتارة تنفرد مكة والمدينة بأمير واحد منهم وتارة تستقل كلّ منهما بأمير إلى أن فتح السلطان سليم الأول مصر وأقام

__________________

(١) هو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ، أبو عبد الرحمن (١٣ ق ه ـ ١٣ ه‍). والي أموي قرشي من الصحابة. أسلم يوم فتح مكة. وبقي فيها إلى أن مات. الأعلام ٤ / ١٩٩ شذرات الذهب ١ / ٢٦ اللباب ٢ / ١١٨ والإصابة ٤ / ٢١١ رقم الترجمة (٥٣٨٣).

٣١١

بها مدة ، فاستقبله في الطريق وهو راجع إلى الأستانة الشريف المقدس أبو نمي ابن الشريف بركات (١) فبايعه نيابة عن أبيه وقلده السلطان حالا إمارة الحجاز كله بمشاركة لأبيه في حياته واستقلاله بعد مماته ، ولم تزل ولله الحمد هاته العائلة الكريمة الشريفة هي الحاكمة على الحجاز إلى الآن وذاك أعظم دليل على ثبوت نسبها لأنها من عهد استقلالها الذي هو كبد القرن الخامس وتوفر حالة معرفة الأنساب من الدولة العباسيّة التي لم تزل إلى ذلك التاريخ لها صولة وشوكة خصوصا فيما يعود لأمر النسب الذي يخشى منه حتى السلاطين المتغلبين عليهم ، لأنهم يخشون من خروج الخلافة إلى غير العباسيين الذين هم من شيعتهم ، وأخضعوا الناس بإسمهم أن يتلاشي أمرهم بتلاشي متبوعهم فلم يقروا لهم بالنسب ويرضوهم بالسكوت عن الحجاز إلّا لما يعلمون من حقيقة نسبهم وثبوته عند الخاص والعام ، وهكذا بقيت هاته العائلة بارك الله لنا وللمسلمين فيها حاكمة على منبع البعثة ، أقرّ الله أعيننا والمسلمين بوجودهم والقيام بسنة الحق لآبائهم وجدودهم ، والأمير الحالي هو مولانا الهمام الشهم عون الرفيق ابن مولانا المقدس المبرور سيدنا محمّد بن عون صلوات الله وسلامه على جدهم رسوله وعليهم وعلى جميع آلهم.

مطلب في السياسة الداخليّة للحجاز

اعلم أن مدار الإدارة كلها جليلها وحقيرها كلياتها وجزئياتها قد كان سابقا مناطه هو الأمير السيد الشريف ، وكانت على حسب أصول المراسم الشرعيّة المتعارفة من قديم مثل تفويض الأحكام الشخصيّة إلى القاضي والمفتي وانفراد الأمير بالجلوس إلى رفع المظالم وإجراء بقيّة الإدارة ، واستمر على ذلك بعد الخضوع للدولة العليّة أيضا قسما مديدا من الزمن حتى في أمر القوة الحربيّة ، فقد كان للأمير عساكر خاصون بإمارته ليقيم بهم ما تستدعيه القوة وقد بقي إلى الآن شيء من ذلك حيث أن للأمير نحو الحراس أو العساكر الخاصة لا يبلغ عددهم المائتين ، وعندما بدى للدولة العليّة الإحتراس من أمر الولاة مدة السلطان محمود الثاني (٢) في أواسط القرن الثالث عشر لكثرة مخالفة ولاة الأطراف على ما سيأتي بيانه في محله ، حصل ذلك التغيير أيضا في الحجاز لكنه بأمر هين وهو جعل القوة العسكريّة الكبرى خاصة بالدولة العليّة بأن ترسل هي من تختها عساكر يقيمون هناك وتزيد قوتهم وتقللها على قدر الحاجة ، ورئيسهم من طرف الدولة أيضا ليس بملزوم لامتثال أمر

__________________

(١) هو محمد بن بركات بن محمد بن بركات بن الحسن بن عجلان أبو نمي (٩١١ ـ ٩٩٢ ه‍) شريف من أمراء مكة. ولد وتوفي فيها. الأعلام ٦ / ٥٢ وخلاصة الكلام (٥٢ ـ ٥٥).

(٢) هو السلطان الغازي عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان الثاني (١٢٣٧ ـ ١٢٧٧ ه‍) جلس على كرسي السلطنة العثمانية سنة (١٢٥٥ ه‍) وسنه نحو سبعة عشر عاما وفي عنهده حدثت الفتنة بين الدروز والمارونية في جبل لبنان. وكانت مدة خلافته اثنان وعشرون سنة. انظر تحفة الإمام مختصر تاريخ الإسلام لمفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري صفحة (٢٠٣) رقم الترجمة (٣١).

٣١٢

الأمير فيما يراه من معاقبة بعض القبائل بل هو على حسب ما يظهر له في الواقعة وعند مخالفته في الرأي للأمير يخبر أن الدولة معا لتأمر بما تراه ، وكذلك أمر العاشر أي الكمرك في المراسي البحريّة استبدّت به الدولة وحدها بمأمورين ترسلهم من طرفها ، ونشأ عن ذلك في أول الأمر قلاقل ومحاربات أفضت إلى إبدال الأمير بغيره من فروع عائلته الكريمة ، ولم يزل يزداد تداخل الدولة في التصرفات الداخليّة إلى أن جعلت واليا على الحجاز من أحد كبار رجال دولتها مثل بقيّة ولاياتها ، مع بقاء سيادة الأمير على منصبه واعتبار نفوذ أوامره على الإطلاق ، ولا يخفى ما في وجود آمرين على مأمور واحد في زمن واحد من الإضطراب ، ونشأ أيضا عن ذلك الإحتراس أن الدولة صارت تستدعي من يلي سيادة الأمير في السن من عائلته ليبقى بتخت السلطنة ويتخلق بأخلاق الدولة ويتعرف سياستها الداخليّة والخارجيّة ، لأنه هو وليّ عهد الأمير فإذا آلت له الولاية كان عالما بأحوال الدولة التي هو خاضع لها ، وتقلده الدولة مدة إقامته بتخت السلطنة رتبة الوزارة والمشيريّة وتجعله عضوا بمجلس شورى الدولة الذي يرجع إليه غالب التدبير في أغلب مصالح الدولة الداخليّة هكذا ظاهر الحال ، ونعم المسلك لو يكون هو الأمير والوالي بحيث تحدد له الدولة تصرفاته على نحو بقيّة ولاتها غير أنه ينفرد بكونه ممتازا بعدم خروج الإمارة عنه وعن عائلته ، وبكون الإدارة في إمارته تجري على طبق الشريعة المطهرة مع غاية الإحتراس عن البدع التي لا داعي لشيء منها هناك ، لكنهم اقتصروا على خصوص الفائدة في إبقاء ولي العهد بالتخت لمآرب للدولة ربما احتاجت إليها معه سيادة الأمير نسأل الله التوفيق.

والجاري الآن هو أن يختص سيادة الأمير بالأمر والنهي والولاية والعزل في جميع قبائل الأعراب ، وكذلك الوظائف المتعلقة بالبيت الحرام من إمامة وخطابة وغيرها ، إلّا أنه ينهي إلى الدولة ما يراه في كبارها لتصدر الأوامر السلطانيّة على حسب ما ينهيه ، وعلى نحو من ذلك الوظائف الدينيّة بخصوص مكة كالفتوى في المذاهب ونقابة الأشراف وما شاكلها ، وأما القاضي فإنه يرسل إلى مكة قاض وإلى المدينة المنوّرة قاض من تخت السلطنة على نحو بقيّة ولاياتها ، وكذلك بقيّة الولايات العرفيّة كلها تتصرف فيها الدولة.

والحاصل أن الذي استقرّ عليه الحال الآن هو اختصاص الأمير بأمر قبائل الاعراب ما لم يستدع الحال محاربتهم ، وبعض الوظائف في خصوص مكة ممّا مرجعه الديانة كأئمة الصلاة في البيت الحرام من المذاهب الأربعة ، وهم وإن كانوا أربعة الآن لكنهم لم يقع استقرارهم هكذا في زمن واحد ، بل كان الأمر أولا إمام واحد شافعي ثم زيد ثان من المذهب الحنفي ثم آخر من الحنبلي ثم آخر من المالكي في أزمان متباعدة بحسب المناسبات في اتباع ذلك المذهب ونفوذهم لدى الدولة الحاكمة ، وهكذا الأمر في أئمة المسجد النبوي على صاحبه أكمل الصلاة والسلام وعلى آله فإن الإمام المالكي لم ينصب إلّا في عشرة التسعين من القرن الثالث عشر.

وأما بقيّة مدن الحجاز التي هي المدينة المنوّرة وجدّة ، فأما المدينة المنورة ففيها

٣١٣

محافظ وهو كبير العساكر وشيخ الحرم النبوي على صاحبه أكمل الصلاة والسلام وقاض ، وكلهم يأتون من تخت السلطنة ، وفيها مفت وأئماء وخطباء وأمين الخزنة مع وظائف أخر صغيرة ، وهؤلاء المتوظفون سيما أصحاب الإدارة والحكم تابعون لوالي الحجاز مع بعض امتياز لهم في مخاطبتهم للدولة رأسا.

وأما جدّة فمتوظفوها مثل متوظفي بقيّة مدن المملكة العثمانيّة ما عدا المجالس الحكميّة القانونيّة ، لأن الأحكام سيأتي بيانها وأنها على خلاف بقيّة الممالك العثمانيّة إذ لا مجالس عرفيّة بها ، فإجمال الحال أن الإدارة السياسيّة مرجعها هو سيادة الإمير مع الوالي اللذان يرجعان جميعا إلى ما تراه الدولة العثمانيّة.

وكليات الإدارة الآن هناك ليس فيها مكوس ولا ضرائب ما عدا الكمرك على الواردات البحريّة وبعض أعشار على النخيل في القبائل الخاضعة حقيقة وكل هؤلاء القبائل لا يدفعون شيئا إلى الحكومة ولا إلى الأمير ، بل أن خضوعهم الذي ذكرناه إلى سيادة الأمير في الحقيقة هو ظاهري فقط ، وإنما يختلف الحال فيها بحسب الزمان وشدة الطغيان في الإنقياد وعدمه ، وبعض الجهلة ينسبون ذلك إلى إرادة بعض الأمراء من العائلة الشريفة معللين ذلك لأن بقاءهم في الإمارة إنما هو لإخضاعهم تلك القبائل فهم لا يريدون أن يكسروا شوكة القبائل بالمرة حتى تجري فيهم الأحكام مثل غيرهم ، ويدخلون تحت قياد المذلة إذ ربما استغنت إذ ذاك الدولة عن الأمراء الأشراف ، والحق ليس كذلك فإن بعض هؤلاء الأمراء قد أخضعوا جميع القبائل إلى الأحكام حقيقة منذ عهد ليس ببعيد زمن السلطان عبد المجيد وولاية المولى المقدس الأمير الشريف عبد الله بن عون عند ما ساعدته الدولة وعملت برأيه وأمدته بالعساكر مثل ما أراد ، والباعث الحقيقي على إهمالهم هو عدم مساعدة الدولة للأمراء على إخضاعهم متعللا رجالها في الظاهر باحترام هاتيك البقاع الكريمة ومراعاة مجاوريها وسلاطين آل عثمان احترامهم وتعظيمهم لشعائر الدين وتوقيره شنشنة معروفة قديما وحديثا ولذلك يوافقون على مثل تلك النصيحة على أنها ربما كان باطنها غير ذلك وهو عدم استفادة أولئك الرجال من إنقياد تلك القبائل ، لأنهم وإن خضعوا حق الخضوع فلا مساغ لضرب شيء من الضرائب عليهم لا سرّا ولا جهرا ، فتكون فائدة خضوعهم راجعة لسيادة الأمير وحده من نفاذ أحكامه وأوامره فيها فيظهر أولئك الرجال النصيحة إلى السلاطين على نحو ما قدمناه ، مع أن إخضاعهم واجب شرعا لأمن السبل وحفظ الحجاج من التعدي وإقبال تلك القبائل على عمران أراضيهم ، لأنهم الآن زيادة عن عدم دفعهم للدولة ولا للأمير حتى أعشار إبلهم فهم يأخذون من الدولة أموالا في كل سنة بمجرد محافظتهم على أمن السبل ولا يؤخذ منهم شيء من المال قل أو جل ، غير أنه قد كان في أواسط القرن الثالث عشر رجل من قبيلة حرب يسمى الشيخ سعد قد تقوى بدهائه على اتحاد جميع قبيلته وعظمت شوكته بانقياد غيرهم من القبائل أيضا ولم يخضع إلى الحكومة قط ، إلّا أنه إذا أخذ المرتبات التي أشرنا إليها أمن طريق الحاج إلى المدينة

٣١٤

وعندما تسافر القوافل إليها يعد جمال كل قافلة ويأخذ على كل جمل نصف ريال أي إثنين فرنك ونصف ضريبة منه على أصحاب الإبل وبعد موته وخضوع إبنه وانقياد القبائل نوعا ما أبقت تلك الضريبة على أصحاب الإبل عندما يكترونها إلى الحجاج وليس للدولة غير ما مر ذكره من أنواع المداخيل إلّا أنواع من الضرائب الخفيّة أكثرها يستفيده أفراد من المتوظفين لأنفسهم ممّا يؤخذ على الحجّاج بأسماء سموها كضريبة على تنظيف منى في العيد من الضحايا وغيرها مما لا يصرخ منه في الحقيقة إلّا نزر يسير في الجهات التي يذكرون الصرف لأجلها ، وكل المصاريف اللازمة لكلّ من الحرمين سواء كانت الوظائف الدينيّة أو السياسيّة أو شعائر المسجدين أو إقامة المواسم كله تصرفه الدولة من خزانتها وهو مقدار يبلغ نحو مليونين ونصف فرنك ، لأن الإقامة بخصوص شعائر المسجدين الشريفين مبالغ في إقامتها ولا أقول على حسب الإستحقاق لأن حقهما لا يبلغ إليه ولو ببذل النفس والنفيس.

ومن المعلوم أن الشريعة المطهرة كان منبعها تلك الأماكن المكرمة وقد أجريت فيها الشريعة حق الإجراء واستقر الأمن في سائر جزيرة العرب ، وكانت القبائل تؤدي إلى بيت المال الإسلامي ما أوجبه الشرع على كل مسلم فكيف يغير ذلك الآن حتى يتجروا على إبدال حرم الله بعد الأمن بالخيفة والإتيان بما يسود منه الوجه يوم القيامة وتثقل به في الذنوب الصحيفة ، مع أن حملهما على الإستقامة أمر سهل يسير ، وما أجدر هاتيك الأماكن الشريفة بالمحافظة فيها على إدارة تحافظ على السنة وأعمال الخلفاء الراشدين ، الذي هو الأمر الوحيد في جلب قلوب سائر المؤمنين إلى الدولة التي تجري ذلك فضلا عن خصوص أهالي الحجاز ، ولا ريب أن ذلك يرسخ قدم الدولة وتستغني عن الإحتراسات الناشئة عن الدسائس في رمي بعض ذوي الأمر بمعاضدة بعض الدول الأجنبيّة لتطلب الخلافة أو الإستقلال ، نسأل الله إصلاح الحال.

مطلب في السياسة الخارجيّة

اعلم أن الحجاز مرتاح ولله الحمد من أمر السياسات الخارجيّة إذ ليس في دواخله ومدنه ما عدى جده وينبع أجانب ولا يدخله إلّا المسلمون وليس لواحد إلا دعا بحماية إحدى الدول الأجنبيّة وكل من دخل فهو خاضع لأحكام البلاد ، ولا ريب أن المسلمين يحجون في كل عام من جميع آفاق الأرض وعلى الكثير منهم استيلاء الدول الأجنبيّة التي يبلغ عددها في هذا الوقت إلى ثلاثة عشرة دولة منها القوي ومنها الضعيف ومنها المنصف ومنها المعتسف ، ومع ذلك كله ليس لهم أدنى تداخل أو تكلم فيما يتعلق برعاياهم المسلمين هناك والله يديم ستره الجميل ، نعم أن جده يوجد بها قناصل كثيرون للدول الأجنبيّة الذين لهم عناية أو علقة بالمشرق ولهم تجار إفرنج في تلك المرسى ، وكذلك بعض الدول الأجنبيّة الذين ليس لهم هناك شيء يذكر تجد لكثير منهم قناصل يستولون تلك

٣١٥

الوظيفة برغبة منهم للدولة الموظفة لمجرد الفخر لهم من غير داع ولا مرتب ، وعلى كل حال فسياسة أولئك القناصل متعلقة بالدولة العثمانيّة إما بواسطة واليها هناك أو بواسطة سفرائهم في تخت السلطنة ، فالسياسة الخارجيّة حينئذ في خصوص جده تابعة لسياسة الدولة العثمانيّة التي سيأتي الكلام عليها في محله إن شاء الله تعالى.

مطلب في عوائد وصفات الأهالي :

اعلم أن البلدين الأكرمين سكانهما الآن أغلبهم من غير العرب الأصليين فإن المدينة لا يوجد بها إلّا العائلة الشريفة حقيقة من العرب ، وقد كنت رأيت رجلا واحدا من ذريّة العباسيين قيما في ضريح عمهم سيدنا حمزة ، ولم يبق من الأنصار هناك إلّا بقيّة عائلة واحدة وبقيّة سكانها كلهم من الآفاق وأكثرهم مغاربة ، وأما مكة فلا يوجد بها من العرب المحققين إلّا عائلة السادة الأشراف وعائلة الشيبي والبقيّة كلهم من الآفاق وأكثرهم هنود ، ولا يخفى أن العوائد والصفات تغلب على السكان باعتبار أصلهم غير أنه لا بدّ أن تحدث فيهم تغيرات تناسب حالة السكان الأصليين ، فأخلاق هذين البلدين على الإجمال مناسبة لأخلاق العرب غير أن أهالي مكة تعتري أخلاقهم الحدة بخلاف أهالي المدينة فإنهم ليني الأخلاق كرام الطباع ، ويغلب على الجميع الحشمة والحياء وسلامهم بالمصافحة أو الإشارة باليد ، ويقفون لكل داخل ولو تكرر دخوله ، وأهالي المدينة أشد حريّة في الطباع وعدم المذلة والتمكن في أخلاق الرجوليّة والجلد ، فيركبون الخيل ويسافرون إلى الحج ركوبا على الهجين من غير تخوت مع السير الحثيث مع التمكن في معرفة الرماية والفروسيّة ولكل منهم سلاح مستوفر.

وأما الملاهي فلا يلتفتون إليها ولا وجود لها كما هو الواجب سيما في تلك الأماكن نعم قد وجد من بعض الوافدين تساهل وتجري على استعمال الخمر وآلات السماع سرّا وكاد أن يكون من بعضهم جهريّا سيما من بعض أجلاف العساكر أو المتوظفين الذين لا يخافون الله ، ومن المعلوم أن الفساد ملائم لطباع البشر فيسرع فيه التقليد لكنهم مع ذلك لا يزال الأمر بحمد الله مستورا فلا تجد المحارم متجاهرا بها ولا ترى حانة لخمار أو دارا معينة للفسوق وإن وجد شيء فإنما يكون في بيت صاحبه في الستر. وعلى قريب من هذا المنحى أهالي جدة.

وأما بقيّة البلدان فهم على أخلاق بقيّة السكان من قبائل العرب الذين لم تبق فيهم من الأخلاق العربيّة التي قال فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (١) إلّا القليل وعاد إليهم التفاخر بالتظالم وهجوم القوي على الضعيف ، فلا تجد الأمن مستقرا إلّا قليلا إلّا أنهم بقي فيهم حفظ الذمار وتوقير الصغير إلى الكبير ، فإذا جعل الرجل من بيوتاتهم يده على ذقنه كناية

__________________

(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ برقم (٩٠٤) والسيوطي في الدرر المنتثرة (٥٨) والقاضي عياض في الشفا ١ / ٢٠٧.

٣١٦

عن حفظ ذمة المستجير به فإنه يوفي بعهده ولو حمله ذلك على الحرب وهلك فيها هو وقبيلته هذا غاية ما يمكن أن يذكر لهم من الصفات الحميدة مع إكرام الضيف وإطعام الطعام.

وأما بقيّة الأخلاق السابقة العربيّة فكادت أن لا يوجد منها شيء كجودة القريحة والدهاء في الأمور ومعرفة أحوال العالم ، فمن عجيب ما شاهدته من السذاجة في بعضهم وبلهه إن كان أحد الجمّالين ماشيا بقرب مني في طريق المدينة المنوّرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله وهو كهل يخاطب شابّا في حساب بينهما ، فقال له الشاب : سبعة وعشرون مع سبع كم هو؟ فقال له الكهل : هيه ، فأعاد عليه السؤال فأجابه بالجواب الأول ثم أعادا ذلك ثالثا أيضا ، فقال حينئذ الشاب : هي سبعة وعشرون فقال له صاحبه هيه أيضا ، وانفصلوا على أن ذلك هو الحساب ، وعلى ذلك فقس فلا تكاد تجد من عامتهم من يصلح للخطاب في البديهيّات وإنما لخواصهم بعض من الآداب التي يفقه بها الضروريّات ، غير أن حفظ الحريم والبنات من صغرهنّ فلهم فيه مبالغة كليّة بحيث لا يمكن أن ير الرائي امرأة ولو معتجرة ، وما أصبر نسائهم على الجلد في التخدر ، فقد كان رئيس الجمّالين في قافلتنا استصحب معه عياله من مكة إلى بلد الجديدة وكان مردفا لها على جمل له فكانت من ساعة ظهورها إلى ساعة دخولها لبيتها التي هي مدة تنيف عن ستة أيام وهي ملتحفة بعباءة ثخينة من الصوف سوداء لا يظهر منها مقدار ظفر ولو من أصابع رجليها فضلا عن يديها أو وجهها ليلا ونهارا لا تفارق حويّة البعير وعلى هذا النمط النسوة في المدن فلم أر بالمدينة امرأة قط ، وأما مكة فكان بعض نسائها يخرجن لاداء مناسك الحج لكنهنّ في غاية التستر بحيث لا يظهر منهنّ شيء ، وعادتهنّ في الجميع أن لا يخرجن إلّا ليلا مع شدّة التستر بالخمار واللحاف ، وإن اضطررن للخروج نهارا فلا يمرون بالأسواق ولا بالطرقات الكثيرة المرور ، وتوجد قبيلة تسكن في عوالي المدينة أي خارجها بقرب من فنائها يسمون المخاولة وهاته القبيلة أصلها من قوم قد تفرقوا في آفاق الأرض وهم في كل قطر مستقلون بأنفسهم لا يداخلون أحدا ولا يخالطون الناس إلّا في ضرورة البيع والشراء ، ولهم في كل قطر لقب بحسب عرف أهله ، فيقال لهم في بلاد الترك : شنكانة وفي تونس : جمازيّة ، ويتبعون في كل جهة الصنائع الخسيسة مثل إصلاح أواني النحاس وصفائح الخيل ، وقد اتخذوا في جهة المدينة صناعة خسيسة أيضا ويتمذهبون بمذهب الشيعة على دعواهم ويستحلون نكاح المتعة ، فإذا قدم بعض حجّاج الفرس ممن يرى مذهبهم يأوي إلى بيوتهم لقضاء الوطر بنكاح المتعة ، وأمرهم في ذلك شهير وليس عليه نكير والأمر لله الذي إليه المصير.

مطلب في التجارة بالحجاز

اعلم أن بلد جدة هي مرسي تجاريّة عظيمة لأنها مركز للبضائع الهنديّة وغيرها ممن البضائع في الأقطار الشرقيّة ومنها يرسل لبقيّة الممالك الإسلاميّة التي تجارها مسلمون وكذلك لكثير من البلاد الاورباويّة ، كما أن البضائع الاورباويّة والبضائع الغربيّة من بلاد

٣١٧

المسلمين وكذلك بلاد الترك ومصر والشام يؤتى بها إلى هناك وترسل إلى الهند وغيره من الأقطار الشرقيّة ، فبذلك كانت جدّة مرسي تجارية كبرى فضلا عما يدخل منها إلى جزيرة العرب على طريق البر سواء كان للحجاز أو لغيره من بقيّة الأقطار ، ومركز تجارة جزيرة العرب هي مكة المشرفة ، فتأتيها البضائع من جدة وتوزع منها على القوافل إلى سائر جهات جزيرة العرب إلّا ما قرب من الجزيرة إلى جهات اليمن التي بها مراسي تجاريّة مثل الجديدة وقليل ما هي فكانت مكة حينئذ هي المعتبر لتجارة العرب ، والتجار المعتبرون فيها أغلبهم هنود ، وأما جدّة فتجارها من أجناس مختلفة وفي أسواق كل من هذين البلدين تقاسيم حسنة تجعل لكل صنف من التجار جهة مخصوصة وتجارتهم غنيّة جدّا ، وأما المدينة المنورة فالتجارة فيها مقصورة على أهلها غالبا فيؤتى إليها بالبضائع المحتاج إليها فيها وتباع لأهلها والقبائل تحمل البضائع على قوافلهم إلى مراكز القبائل وإلى جهات جزيرة العرب مع الأمان على البضائع التي يحملونها ، فالقافلة لها رئيس يكون ذا ثروة وله كفال أغنياء في الجهات التي يذهب إليها ويحمل منها ، فتسلم إليه البضائع والمكاتيب البريديّة ويبلغها بأمان إلى أصحابها وإن حصل ضياع لشيء منها ولو بتعدي بعض القبائل بالإغارة فكفلاؤه يؤدون لأصحاب البضائع جميع ما يضيع لهم ، ومن أهم أنواع التجارة التجارة في المأكولات من الحبوب كالقمح والشعير ، وقد علمت أن البريد موكول إلى هؤلاء القوافل التجارية فأمره غير منتظم كما أنه غير محتاج إليه في أغلب تلك الجهات ، غير أنه يوجد بين مكة وجدة بريدا منتظما يوميّا صباحا ومساء يحمل على الحمير السيارة فيصل في نحو تسع ساعات ، كما أنه يوجد في مكة مركز للتلغراف أي السلك الكهربائي ويصل إلى جدة ومنها يتصل بجميع العالم ، كما أنه يوجد بريد منتظم في كل شهر مرة بين مكة والمدينة إلّا أن يكون أمرا مستعجلا فيرسل مع سيّار مخصوص ، وهذا البريد كله ما عدا أصحاب القوافل مرتب من الحكومة والمباشرون له من قبائل الإعراب الساكنون في أماكن مروره ، وفي كل سنة في موسم الحج تروج التجارة في مكة لأن أغلب الحجاج يشترون منها البضائع التي لا تعلم في بلادهم ممّا على وجه التجارة فيها وهو القليل أو على وجه الإهداء إلى أقاربهم وأحبائهم ، وكذلك تروج التجارة بالمدينة المنورة لأن سكانها يأتيهم في ذلك الوقت واردهم المالي إما من أموالهم في بلدانهم أو من الهدايا التي ترسل من الآفاق أو من الأوقاف والإرصادات المعينة لذلك في بعض الجهات وهاته الجهات هي الدولة العثمانيّة وهي الركن في ذلك ، لأنها ترسل في كل عام للقيام بشعائر الحرمين الشريفين ولمرتبات المجاورين وأهل الوظائف ما يبلغ مقداره سنويّا نحو الماية ألف ليرة أي مليونين ونصف فرنك ، وكذلك الحكومة المصرية ترسل كل عام إحدى وعشرين ألف إردب من القمح مع أموال عينا يبلغ مقدار جميعها إلى نحو العشرين ألف ليرة أي نحو خمسمائة ألف فرنك فضلا عن قيامها بمدرستين كل منهما في إحدى الحرمين لها أوقاف مخصوصة بمصر يرسل منها قدر كفاية القائمين هناك في كل عام ، وكذلك القطر التونسي يرسل من أوقافه المعينة على

٣١٨

الحرمين ألفين ليرة في كل سنة لكل حرم ألف أي خمسة وعشرين ألف فرنك ، فأهالي المدينة إذا فرقت عليهم تلك الأموال يدفعون منها ما كان عليهم من ديون ترتبت عليهم في ضروريّات اشتروها نسيئة ثم يشترون كفايتهم للسنة القابلة آكلا ولبسا وإن فضل شيء بعد ذلك إدخروه لبقيّة السنة ، فلذلك يحصل في ذلك الوقت رواج للتجارة وهذا بالنسبة لغير ذوي الثروة منهم أما هؤلاء فهم على نسق غيرهم من ذوي الثروة وكذلك بعض قبائل الأعراب المقيمين بين الحرمين لهم نصيب ممّا ترسله الدولة والحكومة المصريّة فيحصل منهم أيضا رواج في التجارة بما يشترونه من ضرورياتهم ، والحاصل أن التجارة المعتبرة مركزها هو جدة أدامها الله بلد إسلام.

مطلب في الصنائع

لا يخفى أن الصنائع شعبة من شعب التمدن فتتكاثر وتقل على حسب ما في المكان التي هي به من التمدن ، وحيث تطاول زمن بعد الخلافة عن الحجاز وتكاثر بعد عهدها فيه الهرج وقل العمران وتغيرت طباع العرب السكان على حسب ما أشرنا إليه فلم يكن الآن بالحجاز إلّا الصنائع الضروريّة وبعض الحاجيّة ، فأما الفلاحة فكادت أن تنعدم إلى أن صار أهل الحجاز عيال في قوتهم جميعه على ما يرد إليهم من خارج بلادهم إلّا ما ندر ، والمسافر في تلك الأقطار لا يرى من الزراعة إلّا نزر يسير حول بعض البلدان لا يسد من عوز ، مع أن عشر ما حول المدينة وحدها قد كان في خلافة سيدنا عمر يبلغ إلى أربعمائة ألف أردب من الشعير وحده فضلا عن بقيّة الجهات ، ولو جمع الآن حاصل جميع ما بالحجاز لما بلغ إلى عشر المعشار من ذلك المقدار وعلى نسبة من ذلك أمر زراعة الأشجار فإنه يوجد بالطائف بساتين بها كثير من أنواع الشجر الليمون والرمان والعنب وغيرها من الفواكه المتعارفة كثيرا ، وغير هاته البلد لا يوجد بها إلا بعض شجيرات من تلك الأنواع لا تستحق الذكر ، وإن كان حول المدينة بعض من البساتين لكنها ليست على ما ينبغي إلّا النخيل فيوجد بها كثيرا كما يوجد بجهات أخرى حول المدن والقرى ، وفيه أنواع كثيرة جدّا من أنواع التمر منها الحسن للغاية ومنها دون ذلك وفيه بعض تجارة سيما في موسم الحج لشراء الزائرين للتمر وحمله إلى آفاقهم كل على قدر سعة حاله تبركا بذلك ، وأما البقول فكادت أن لا يوجد منها إلّا النادر كالبصل وما شاكله من البقول المتعارفة الشهيرة وكذلك الأزهار.

وأما بقيّة الصنائع فيوجد منها البناية والخياطة والتجارة وبعض صنائع أخرى من الحاجيات كالسروج وحوايا الإبل وغيرها ممّا يحتاج إليه أكيدا من غير تحسين ، والسبب في هذا الإنحطاط في كل من الفلاحة وبقيّة الصنائع هو اعتماد السكان أعني أغلبهم على المرتبات والجرايات من الدولة والأوقاف وتعويل الأعراب على مثل ذلك أيضا ، لأن الدولة جاعلة للقبائل جرايات سنوية من مال وحبوب للقوت ليقوموا بحفظ أمن الطرق ومن الطبيعي ميل الأنفس إلى ما يرد بلا تعب ، فصاروا حينئذ عيالا على تلك الواردات ونشأ عن

٣١٩

ذلك اعتساف الأعراب بقطعهم للطرق وتعديهم على قوافل الحجاج إذا تأخر عنهم ذلك المرتب أو شيء منه. حتى أن بعض المتوظفين الذين لهم يد في توزيع ذلك المال ربما تساهل في تنقيص شيء بأولئك الأعراب من مرتباتهم فيثورون ويعثون في الأرض بالفساد ، ونشأ عن ذلك قلة الأمن في جميع الجهات حتى أن المدينة المنورة على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام كثيرا ما تبقى محصورة ويدافع عن أسوارها وأبوابها من حصونها بالمدافع والطرق منقطعة عنها وتتضايق أهلها لقلة القوت والحبوب ، ويتطاول الأعراب على ما حولها من البساتين بالتخريب والفساد فإذا كان هذا حال المدينة فما بالك بغيرها؟ إلّا القرى التي هي لنفس القبائل ممّا لا يزرع حوله إلّا النخيل ، فلذلك ضعف الأمن وقل العمران وجدبت الأرض مع أنها صالحة للزراعة وفيها عيون كثيرة أحدثها المتقدمون في عصر الخلافة وما قرب منه ، وقد شاهدت في كل من بلدي الصفرا والجديدة عينا غزيرة الماء عرضها أزيد من ذراع ونصف وعمقها أزيد من ثلاثة أذرع جارية في غاية العذوبة ، غير أن ماءها حارّ فإذا رفع في الأواني برد وصلح للشرب وهو صالح جدّا للزراعة ، لكنه الآن ليس عليه إلّا بعض نخيلات وباقيه يسيح على الأرض إلى أن يغور فيها ، وقد ذكر في خلاصة الوفاء في أخبار دار المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيونا وآبارا كثيرة على ذلك النحو لم يبق الآن منها منتفعا به سوى ما ذكرناه ، وكذلك الغابات والآجام التي بقرب المدينة وغيرها كلها ذات أشجار مثمرة وغير مثمرة صالحة لأخذ الأخشاب للبناء وهي الآن مهملة ولا ينتفع أهالي البلدان إلّا برقاب شجر النخل ممّا حولهم وبقية الخشب يؤتى به إليهم من الهند وغيره مع أنه حولهم مبذول ، والمانع من الوصول إليه عدم الأمن والجهل بكيفية القطع هذا فضلا عن الأراضي الخصبة الوسيعة الصالحة للزراعة ، وأما بقية النباتات فقد كان سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه حمى في وادي القرى جهة تكفي أربعين ألفا من الخيل المسبلة للرعي فيها ، ثم زاد بعده سيدنا عثمان ومن بعده إلى إضعاف ذلك المقدار فيا أسفا على الخوف في بلاد الأمن ، وتلك العوائد وإن كان القصد منها حسنه فقد آلت إلى سيئه إذ لو انقطع عنهم ذلك المدد ومن تجرأ على السبل عوقب ، وأقيمت الشريعة حق القيام لأقبل السكان على العمران وكفى الله المؤمنين غوائل الطغيان ، وما الله بغافل عما يعملون.

مطلب في المعارف

من البديهي أن الذي ذكرناه في الصنائع من جهة الرواج والكساد هو أساس أيضا في المعارف ، فالمعارف الآن بالحجاز على غاية من الخمول وما يوجد منها إنما هو محصور ومقصور على خصوص البلدين المكرمين ، فيوجد في كل منهما بعض دروس في المسجدين المحترمين في بعض العلوم الدينية وبعض وسائلها ، فيوجد من الوسائل قليل من دروس النحو والمعاني ، ومن المقاصد بعض دروس في التفسير والحديث والفقه على اختلاف مذاهبه ، وإن يكن يوجد بكل من البلدين الأكرمين علماء أجلة لكنهم نبغوا في أقطار اخرى ثم جاوروا الآن هناك إلّا ما ندر من بعض الأهالي الذين تلقوا العلم هناك من

٣٢٠