صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

به الإنسان يومين يزول عنه ذلك ويصير مرتاحا سوى الفرق بين قوّة الجمل وسيره ، فإن الضعيف والغير المؤنس يتعب مشيه التعب الزائد ، وكان عديلي أحد أتباعي وبقيتهم ركبوا على جمال الرحال ، وبعد أن سرنا عشيتنا وليلتنا وصباحنا ولم ننزل لسوى الصلاة في أوقاتها وصلنا عند الضحاء قرية تسمى «حدة» في صحراء مقفرة بها بعض عيون عذبة عليها شيء من النخل وعلى الطريق قهاوي من أعواد الحطب والحصير كثيرة العدد أكثرها فارغ لمن يريد النزول ، فنزلنا بها واكتريت اثنين منها ففرش لنا بها حصر وأتى لنا بماء فأكلنا من زادنا وأطعمنا الجمالين والقهوجي واسترحنا إلى بعد الظهر ، فركبنا ووصلنا مكة المشرفة بعد نصف الليل ولم نر في الطريق إلا أفرادا ، ويكثر المشي ليلا سيما على الحمير لأن كثيرا منهم من يركب من جدة إلى مكة على الحمير ، وهي سيارة فيصلونها في نحو تسع ساعات إلى إحدى عشرة ساعة ، لكن ذلك وإن كان فيه قلة الحصنة لكنه متعب فلذلك آثرت الجمل ، وعند الوصول إلى خارج مكة المشرفة سألت : هل يوجد حمام هناك:فأجاب : بأنه لا يوجد إلا الماء البارد ولم نستطع الإغتسال به ، فلذلك اكتفيت بالوضوء ، ثم تلقانا المطوّف وطلبت منه أن يكتفي بإعلامي بالأماكن والإعلام بالمشاعر ، كأن يقول لي : هذا باب السلام والكعبة مقابلة إليك أو عن يمينك إلى غير ذلك ، حيث كنت علمت أنهم يزيدون وينقصون ويدعون ويأتون بما لم يرد به الشرع ، وكنت استصحبت عدة كتب في الفقه وفي خصوص المناسك وأخذت منها ما يسره الله لفهمي ، غير أني وجدت في بعضها رسالة في المناسك لملا علي قاري فلم أنظر إليها ، لأن صاحبها له عجرفة في حق أبوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يكون له عليّ أدنى منة وأغنانا الله عنه بتأليف علماء أمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحبين في آله الكرام والمعظمين لجنابه العظيم عليه وعلى آله أكمل الصلاة والتسليم ، فأقبلت إلى باب السلام وأديت هناك ما ينبغي ونظرت إلى الكعبة المشرفة ولله الحمد ، ثم دخلت المسجد الحرام وطفت بالبيت الكريم وقبلت الحجر الأسعد وسعيت بين الصفا والمروة وأديت ما استطعت مما ينبغي في ذلك القدوم المبارك ، ثم توجه بي المطوف إلى دار وكيل تونس حيث كان ساكنا فيه كل من الأخيار الثقات السيد أحمد والسيد إسماعيل والسيد محمد أبناء زروق القادمون من تونس قبلي حجاجا ، وأقمت بقية تلك الليلة عندهم وصلينا الصبح في المسجد الحرام ، ثم أخذت منزلا أقمت فيه ولم يرد صاحبه أخذ كراء عليه وابتدأت رؤيتي لسوء أخلاق بعض الأهالي مما كان ينبغي لهم التحاشي عنه عفا الله عنا وعنهم ، وبعد أن أقمنا بضعة أيام تشرفت فيها بالدخول إلى داخل البيت المعظم بمحاسن أخلاق الفاضل الشيبي وذلك ليلا ، ولم يكن معنا إلا أفراد قليلون بحيث تيسر لنا التنعم بتلك البقعة العظيمة والتبرك بما احتوت عليه من المشاعر ، وكذلك تشرفت بالمثول بين يدي المولى الشريف المعظم صاحب الأخلاق الحسان والتواضع مع ما هو عليه من رفعة الشأن المقدس الشهيد سيدنا

٢٨١

حسين أمير مكة قدس ثراه وهو رحمه‌الله حسن الأخلاق متواضع عفيف جدير بمنصبه السامي ، ولاقينا بعضا من أعيان البلاد كالنحرير البارع أحمد المشاط وغيره.

ولما آن وقت التوجه إلى منى ابتدأ المطوف ووكيل تونس في تهويل أمر الذهاب إليها وإلى عرفات وأكبرا في ذلك ما شاءا حتى ظننت أنها مسافة سفر وأن الحرب ثائرة في الطريق ، فوجهت رحلي على الجمال واكتريت أحمرة لركوبي وركوب من معي مدة أيام الحج ، وبينما نحن سائرون والطريق في غاية الراحة والأمن والعمران وإذا نحن بقرية سألت عنها فقيل لي هي منى! فبقيت متعجبا من قول أولئك المرشدين إذ لم تكن تبعد عن مكة إلا أربعة أميال ، ولكني عرفت السبب في عملهم تجاوز الله عن الجميع ، وأقمت ليلة بمنى ثم توجهنا صبحية اليوم الثامن إلى عرفات لوقوع الشك في ثبوت الشهر وأقمنا فيه إلى ليلة العاشر من الشهر وبعد الوقوف وأخذ حصة من الليل أفضنا من عرفات بعد أن أدينا ما نسأل الله قبوله وكان موقفا تقشعر منه الجلود من خشية الله لالتجاء عباده إليه حسبما أمرهم ، وكانت الأرض تموج بالخلائق ضارعين لباريهم جل وعلا تقبل الله من الجميع ، وعند الإفاضة اتفقت مع الحمّار ومع الرفقاء على التأخر عن الإزدحام وأخذ الطريق الأقل ازدحاما وكان دليلنا مضمرا خلاف ذلك ، لأنهم إنما يرون من شعائر الحج الظواهر وهم عن حقائق المشروعات غافلون فيرغبون في اللكام والزحام والخصام لتبقى لهم وقائع يتحدثون بها سنتهم ، فلما أفضنا كانوا يسرعون السير ومن عادة حميرهم أن لا ينقاد إلى راكبه بل إلى سائقه فقط ولو انقطع اللجام من فيه ، فأدخلونا كرها في وسط الزحام ولم يبق منا واحد يسمع صوت صاحبه لثوران عجيج الصياح والرغاء والنهيق ، فمن حاد يحدو ومن داع يدعو ومن مصرخ ينادي رفيقه ومن صايحة مستجيرة بالمارة من سقوطها ، ومن آن يئن من كسره بسقوطه ومن باك متذكر هول المطلع ومن بعير يرغو لسقوط حمله وحمار ينهق لرؤية أتان ، وأناس ملقاة وآخرون يجرون وآخرون يزدحمون وآخرون واقفون والظلام مرخ سدوله ، والناس لا يذكر بعضهم بعضا كل طالب النجاة لنفسه ، فرأيت أنموذجا لهول يوم الفزع الأكبر وما أيقنت بالنجاة لنفسي حتى دهمني بعض شقادف الجمال فأسقطني عن حماري وخرجت من بين أرجل الحيوانات متطلبا النجاة ذات اليمين حتى يسر الله لي الخروج عن الطريق بالصعود إلى محجر مرتفع فجلست هناك حامدا لله على النجاة ، وبعد هنيهة لحق بي بعض أصحابي وجاءني الدليل حاثا على الذهاب وإلا تكن في خطر من البدو ، فقلت له : يا أيها الرجل إن الله حرم في هذا الموطن الجدال ، ولكن ما عليك من الإنذار فقد أديته وأنا في نفسي أفعل أخف الضررين ، لأن البدو لا يفعلون أكثر من القتل وهو الذي تدعوني إليه لأن أفعله بنفسي ، على أنهم يقتنعون بأخذ السلب ودونه الدفاع ما استطعت ، ووراء هذا كله أنه لا وجود لشيء مما تهول به ، وهؤلاء الخلائق في الطريق وعند آخرهم أتوجه فدعني

٢٨٢

ونفسي ، فذهب مغاضبا وبقيت أنظر في عجائب الخلق من الحالة التي بينا بعضها إلى أن خف الماشي فرافقت آخرهم حتى وصلنا إلى المزدلفة ، ولم أجد رحلي فجلست في قوة حتى مر بي أحد أصحاب رحلي فانتقلت إليه وجمعنا بين المغرب والعشاء.

ثم بعد أداء مناسك المزدلفة توجهنا إلى منى وخيمت في مرتفع من الأرض في أطراف نزل الحاج مع أهالي جاوة ، ورجعت إلى مكة وأديت بقية المناسك وفككت الإحرام ، ثم رجعت إلى منى إلى تمام أيامها ، وكان في اليوم الأول عند رمي الجمار من الزحام ما وصفنا بعضه حتى مات عدة أناس وانكسر عدة ، وإنما ذكرت هذا تنبيها لإخواني حتى يحترزوا من ذلك ولا يغتروا بأقوال الإدلاء لأن لهم مقاصد وأطوار غير محمودة ، ثم أتممنا مناسك منى ورجعنا إلى مكة واكتريت بيتا في المحصب خارج مكة تطلبا لصحة الهواء وبرودته لأن المرض اشتد عليّ ، ثم أحرمت بعمرة وأديت مناسكها ، ثم خيمت قرب الركب الشامي إلى أن تهيأت القافلة التي اكتريت بها الجمال للتوجه للمدينة المنورة فسافرنا اليوم التاسع عشر من الشهر ، واشتريت حمارا للإرتياح عليه فأفادني جدا لأني كنت أركبه بعد الظهر فنسير ومعي أحد رفقائي الذين صار منهم بعض التونسيين إلى أن نصل إلى أول القافلة الحاوية عدة مئات من الإبل والمسافرين فنأتي إلى جهة مستظلة قرب الطريق ونجلس على زربيتين ونستريح ونتوضأ ونصلي في نحو ساعة أو ساعة إلا ربعا فيأتي آخر القافلة فنركب الحمار ونفعل كذلك مرتين أو ثلاثا إلى أن نصلي المغرب ويشتد الظلام فنركب الجمل.

وكان سفرنا على الطريق الفرعي بعد ضمانة مشايخ أصحاب الإبل لأمير مكة في أمن من معهم وكان كراء الجمل الذي عليه الهودج ثلاثة وعشرين ريالا دورو أي مائة وخمسة عشر فرنكا من مكة إلى المدينة ومنها إلى ينبع وبقية جمال الرحل والأتباع لكل جمل خمسة وسبعون فرنكا ، واكتريت رجلا بدويا من موالي الجمالة شجاعا قويا لقود الجمل الذي نركبه والإعانة على بقية اللوازم فرأيت منه خيرا لكنه لم يوف بوعده فإنه تخلف عني في المدينة المنورة ولم يصل إلى ينبع ، فرحلنا من مكة اليوم الأول بعد الظهر وسرنا يومنا في طريق طيب ونزلنا بعد العشاء ثم رحلنا قبل الشروق وصعدنا في جبل وعر جدا وبعد أن سرنا فيه نحو خمس ساعات ، سرنا في طريق بسيط إلى المدينة المنورة ولولا ذلك الجبل لكانت العجلات تستطيع السير بسهولة في الطريق ، وكان سير الجمال لا يزيد عن ثلاثة أميال في الساعة حسبما حررته إذ ذاك وهو سير مهين متعب ، وتدوم المرحلة من إثنتي عشرة ساعة إلى ستة عشرة ساعة وواحدة منها دامت إثنتين وعشرين ساعة بحيث جعلوا مرحلتين في واحدة لكي يستريحوا يوما بدون رحيل في بلادهم وهي الجديدة ولا ينزلون إلا قرب ماء.

وفي الليلة الثانية عشر وصلنا المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام

٢٨٣

فدخلناها عند الفجر وتلقانا المعرف التونسي الخير حلابة والمعرف هناك يسمى مزورا ، ونزلت عند الفاضل النحرير صاحب الأخلاق الحميدة والصفات السديدة البليغ الكامل عبد الجليل برادة جازاه الله خيرا وكثر من أمثاله في الأمة ، وبعد أداء الآداب والسنن أسعدني الله بالوقوف بين يدي نور العالم وسيد الخلائق وملجأ الأمم وفضل الله على خلقه ورحمته للعالمين سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيا له من حظ نفديه بالمهج ويا له من فضل تبدى من كرم الله وبلج ، وحظيت بالسلام عليه وعلى صاحبيه عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام وأصحابه الأعلام ، وفي اليوم الثالث أنشدت بين يديه عليه الصلاة والسلام قصيدتي التي مطلعها :

إلى السدة العظمى شددت عزائمي

إلى سدة الإجلال شمس المكارم

وبثثت إليه عليه الصلاة والسلام شكواي في دنياي وأخراي ونلت قضاء أغلب مطالبي ولله المنة والحمد ، منها ما قضى في حينه ومنها ما تم قضاؤه بعد مدة قليلة وأنا أرجو كرم الله في قضاء باقيها بوسيلة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وزرت آل البيت عليهم‌السلام وكثيرا من الأصحاب والأئمة الأعلام والمشاهد المباركة ، ثم قفلت مع القافلة وتوجهنا إلى ينبع ورفعنا ما أبقيناه من رحالنا في بلد الجديدة ووصلنا ينبع في الليلة الرابعة قرب الفجر ، فأردت النزول في خيامي فمنعت لأجل أن اكتري دار الأخ حاكم البلدة واكتراها لي بخمسة وثلاثين فرنكا في الليلة ، وهي أربع بيوت خربة إثنان فوق إثنين والدرج خربة وليس بها ولا حصير ، فأقمت بها ثلاثة أيام وكان في المرسى ثلاث أو أربع بواخر تنتظر إزدحام الحاج ، فجاءت باخرة نمساوية قافلة من الهند ومرت على جدة ثم ينبع ، فاكتريت بها قاصدا الآستانة.

الفصل الثاني : في صفة البلدين المكرمين وموكب الحج

مطلب صفة مكة المكرمة

أما مكة المشرفة فهي واقعة في عرض ٢١ درجة و ٣٠ دقيقة شمالي وطول ٣٧ درجة و ٣٦ دقيقة شرقي ، وإسمها مكة وبكة وأم القرى ، وأول من سكنها سيدنا إبراهيم عليه‌السلام بوالدة ولده سيدنا إسماعيل عليه‌السلام ، فكان سيدنا إسماعيل أبا العرب ورفع هو وأبوه قواعد البيت العتيق فكان مقصد الأمم الحنيفية ، وهذا البيت الكريم هو في وسط المسجد الحرام وزواياه الأربع مقابلة للجهات الأربع أعني الجنوب والشمال والغرب والشرق ، وآخر بناء له إلى الآن هو بناء السلطان سليم الثاني (١) على نحو الأصل الذي كان عليه زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن سيدنا عبد الله بن

__________________

(١) هو سليم الثاني السلطان العثماني الحادي عشر (١٥٦٦ ـ ١٥٧٤) على أيامه جرت معركة ليبانت البحرية (١٥٧١) بعد احتلاله لقبرس المنجد صفحة (٣٦٤).

٢٨٤

الزبير (١) بناه على قواعد إبراهيم عليه‌السلام وأدخل فيه الحجر ثم هدمه عبد الملك (٢) وأعاده على هيئته زمن الرسالة ، فلما استخلف أبو جعفر المنصور (٣) أراد أن يعيده على ما بناه ابن الزبير ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة رضي‌الله‌عنها : «لولا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم» (٤) فلما زال المانع وحدوثية الإيمان ترجح عوده إلى الأصل ، واستشار الخليفة الإمام مالك بن أنس رضي‌الله‌عنه فقال له ما معناه : «يا أمير المؤمنين لا تجعل بيت الله ملعبة بأدي الملوك فإن الذي رأيته وإن كان صوابا لكن إبقاؤه على حالته احتراما لشأنه أولى» ، فبقي على ما هو عليه الآن ، وأساس جدران الكعبة مرتفع عن الأرض ما بين عشرين صانتي إلى ثلاثين وزائد العرض عن الحيطان ما بين عشرين إلى أربعين فهو كالدرجة محيط بالجدران وهو المسمى بالشاذروان ، والحجر الذي هو من قواعد إبراهيم عليه‌السلام في جهة البيت الواقعة بين المغرب والشمال ومحيط به الحطيم الذي هو بناء مستدير نحو نصف دائرة ارتفاعه ميترو وسمكه ميترو ونصف مغلف بالرخام ، وينتهي قوس النصف دائرة قبل أن يصل إلى جدران الكعبة بنحو ميتروين وخمسة وثلاثين صانتي ، والبيت مبني بصخر كبير وأرضه مرتفعة عن مساواة المسجد نحو ميتروين وبابه قرب الركن الشرقي مستقبلا ما بين المشرق والشمال ، ويصعد إليه بمدرج مثل المنبر في المواكب العامة وعند فتحه الخصوصي يؤتى له بسلم صغير ، وعتبة الباب من فضة وعواضده من مرمر والباب بدفة واحدة قفله من ذهب وهو من خشب الساج ، وداخل البيت ثلاث أسطوانات من القماري قطر الواحدة أزيد من شبرين وارتفاعها أزيد من ستة

__________________

(١) هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي ، أبو بكر. (٧٣١ ه‍) فارس قريش في زمنه وأول مولود في المدينة بعد الهجرة. حكم مصر والحجاز واليمن وأكثر الشام وجعل قاعدة ملكه المدينة.

نشبت بينه وبين الحجاج حروب في الطائف انتهت بمقتل ابن الزبير في مكة. الأعلام ٤ / ٨٧ الكامل في التاريخ ٤ / ١٣٥ ، فوات الوفيات ١ / ٢١٠ حلية الأولياء ١ / ٣٢٩ صفة الصفوة ١ / ٣٢٢.

(٢) هو عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي ، أبو الوليد (٢٦ ـ ٨٦ ه‍). من الخلفاء. نشأ في المدينة. شهد يوم الدار مع أبيه. اجتمعت عليه كلمة المسلمين بعد مقتل ابن الزبير. توفي في دمشق.

الأعلام ٤ / ١٦٥. الكامل في التاريخ ٤ / ١٩٨ تاريخ الطبري ٨ / ٥٦ ميزان الإعتدال ٢ / ١٥٣ تاريخ بغداد ١٠ / ٣٨٨.

(٣) هو عبد الله بن محمد بن علي بن العباس ، أبو جعفر المنصور (٩٥ ـ ١٥٨ ه‍) ثاني خلفاء بني العباس. كان عارفا بالفقه والأدب ، ولد في الحميمة من أرض الشراة وهو باني مدينة بغداد. قتل في المدائن الأعلام ٤ / ١١٧ تاريخ بغداد ١٠ / ٥٣ ، فوات الوفيات ١ / ٢٣٢ الكامل في التاريخ ٥ / ١٧٢ وتاريخ الطبري ٩ / ٢٩٢ ـ ٣٢٢.

(٤) وأخرجه البخاري برقم (٤٤٨٤) والإمام مالك في الموطأ برقم (٣٦٣) ومسلم في صحيحه كتاب الحج باب (٦٩) رقم (٣٩٩) والإمام أحمد في مسنده ٦ / ٥٧ و ٢٥٣ والسيوطي في الدر المنثور ١ / ١٣٧ والقرطبي في تفسيره ٢ / ١٢٤ والعجلوني في كشف الخفا ٢ / ٢٣٣.

٢٨٥

أذرع وعليها مكابس من ذهب ، والبيت مبلط بقطع كبيرة من المرمر وكذلك حيطانه وسقفه من الساج ، وفي ركنه الشرقي من خارج ما بين المشرق والجنوب في ارتفاع قامة الحجر الأسود ، وهو حجر محفوف الجوانب بصفايح من فضة أسود لامع أثرت فيه أيدي اللامسين حتى صار في بعض جهاته انخفاض وصار ذا شكل مقعر مثل إناء الشرب ، وأصله قطعة واحدة ثم تشقق من ضرب المنجنيق عندما حوصر ابن الزبير رضي‌الله‌عنه فجعل له صندوق من الفضة ، وبه فوهة يظهر منها الحجر قطرها سبعة وعشرون صانتي ميترو أي نحو شبر وثلث ، وفي سطح البيت ما بين الشمال والغرب ميزاب الرحمة من ذهب يصب في الحجر ، والبيت طوله مما بين المشرق والشمال أزيد مما بين المغرب والجنوب ، فطوله إثنا عشر ميترو وعرضه عشرة أمتار وعشرة صانتي عدا الشاذروان وارتفاعه خمسة عشر ميترو ، ويكسى كل عام بكسوة من الديباج الأسود يؤتى بها من مصر وعليها حزام مزركش بالفضة مكتوب به آيات كريمة ، وكذلك نفس الكسوة فيها كتابات جيدة بالقلم الثلثي من نفس النسج.

وقبالة باب الكعبة على نحو إثني عشر ميتر ومقام إبراهيم عليه‌السلام وفيه بيت مربع داخله آيات بينات من تأثير القدمين في الصخرة ، ووراءه بانحراف إلى الجنوب الشرقي بير زمزم وعليه قبة وحوله أحواض وعليه بكرات من النحاس ثم صحن المسجد متسع جدا طوله مشرقا ومغربا مائة وإثنان وتسعون ميترو وعرضه مائة وإثنان وثلاثون ميترو ، والرواقات مرفوعة أقواسها على إسطوانات من حجر وسقوفها قباب من بناء وفي وسط الصحن على بعد نحو إثني عشر ميترو من الحطيم إسطوانات من حديد أو نحاس ذاهبة في الهواء موصولة ببعضها بسلاسل من نحاس يعلق بها منائر ومصابيح وهي دائرة بالبيت علامة على حدود المطاف ، وعلى سمت الركن الشمالي على بعد كلة لجلوس المؤذنين والمسمعين ، وخلف المطاف وقبالة جهة البيت التي بها الميزاب يقيم إمام الصلاة من مذهب الحنفي وله محراب وهو أول مصل في الأوقات كلها ما عدا الفجر ، فإذا أقيمت الصلاة وتقدم الإمام الحنفي رأيت المسجد الحرام كله على غاية من الهدو ، ولم أر شيئا لم تدخله البدعة أبدا إلا الصلاة في ذلك الوقت ما عدا تسميع المسمع ، فهو زيادة على بدعة تغنيه يزيد أن يضع المؤذن إصبعيه في أذنيه وهو في الصلاة ، وما عدا هذا فإنك ترى آداب الإسلام حقيقة وامتثال الخلق أمر خالقهم فيقع من الخشوع ما لا يعلمه إلا الله سيما في صلاة الجمعة ، ولله الحكمة البالغة في وسع المسجد كل من يدخله وترى الخلق مع ذلك الإزدحام على غاية من التؤدة وامتثال أمر الشرع بحيث لا تسمع إلا همسا من تسبيحهم وتكبيرهم في الركوع والسجود فإذا سلم الإمام الحنفي عادت الحركة لما كانت عليه ولو عند صلاة كل من أئمة المالكي والشافعي والحنبلي حتى لا يكاد المؤتم يعلم بحركات الإمام.

أما صلاة الفجر فيتقدم فيها الشافعي على غيره لأن مذهبه يرى استحباب التبكير بها وكل أحد من الأئمة له جهة من جهات الكعبة يصلي إليها ، وقد علمت محل الإمام

٢٨٦

الحنفي ، وأما الشافعي فمحرابه خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام ، وأما المالكي فمحرابه تجاه الضلع الغربي الجنوبي من الكعبة خلف المطاف بميتروين ، وأما الحنبلي فمحرابه مواجه للضلع الجنوبي الشرقي على نحو ذلك البعد أيضا.

وباب السلام من المسجد الحرام تجاه باب الكعبة ، وباب الوداع في الجهة المقابلة له ووراء الرواقات عدة مدارس لسكنى المجاورين ويسكن بيوتها الحجاج أيضا ، وحول المسجد من أغلب الجهات طرق وباب السلام يفتح في الطريق الواقع بين الصفا والمروة وهو طريق متسع حوله ديار ذات عدة طبقات ، ومنها دار الشيبي ، وأسفل الديار حوانيت عليها مظلات يباع بها المأكولات وغيرها ، وكل من الصفا والمروة محل في نهاية زاوية من الطريق متسع ذو درج عريضة تنتهي إلى حائط ، وبينهما طريق متسع عرضه ما بين عشرة وإثنى عشر ميترو وطوله نحو أربعمائة وخمسة أمتار وفي وسطه محل الهرولة في السعي تبتدىء من الميلين أي العلمين الأخضرين على بعد خمسة وسبعين ميترو ومن الصفا عند باب البغلة من الحرم ، وتنتهي إلى العلمين الآخرين بعد مسافة نحو سبعين ميترو عند باب علي وكل من العلمين يقابله مثله في الحائط المقابل.

وفي مكة المشرفة أسواق كثيرة يباع بها سلع سائر الأقطار وأكثرها سلع الهند ، كما أن التجار أكثرهم من أهالي الهند ، والأسواق مسقوفة بألواح وفيها قهاوي كما أن أطراف البلاد عند مداخلها فيها قهاوي على نحو الخصوص ويجلس فيها على كراسي كبيرة وصغيرة من أخشاب الحطب وعزف النخل ، وخارج البلد على طريق عرفات مقبرة المعلى ، ثم بعض بساتين لأفراد من الأشراف رضي‌الله‌عنهم وبيوت لبعض من الأعراب وغيرهم ، وفي جبل أبي قبيس المطل على المسجد الحرام مسجد صغير وبعض ديار وزاوية للشيخ السنوسي ، وشرب جميع الأهالي من عين زبيدة التي أوصلتها إمرأة الخليفة هارون الرشيدي من قرب عرفات إلى مكة فسميت بها وعلى مجراها في الطريق والبلاد عدة منافذ يملأ منها السقاؤن وغيرهم ويحصل من كثير من الناس تقذيرها بما يلقون فيها من الأوساخ ، كما توجد آبار أخرى عميقة جهة الزاهر وغيرها يؤتى بالماء منها ويفرقه السقاؤن على الديار فيوضع في جرار ثم تملأ منه دوارق وتوضع في طواقي أو غيرها مما يمر عليه الهواء البارد فيبرد الماء ، لكن من عادتهم فيه أنهم يبخرون الدوارق بعود يسمى عود القفل وهو الكثير ، وتارة بالمصطكى فيحصل طعم في الماء غير شهي والقفل أسوأ وهم يرونه حسنا ، وتنقسم مكة إلى سبعة عشرة حارة وقيل إن عدد سكانها مائة وسبعون ألفا.

مطلب في صفة المدينة المنورة

واسمها المدينة وطيبة وطابة ويثرب واقعة في فسيح من الأرض المرتفعة في عرض ٢٥ درجة و ٢٠ دقيقة شمالي وطول ٣٧ شرقي وغربيها على نحو أربعة أميال جبل أحد وعليها سور حصين وحصون ذات مدافع وخزائن للذخائر الحربية ، والحرم الشريف النبوي

٢٨٧

على صاحبه أفضل الصلاة والسلام في جهتها الشمالية الغربية وقد جدد الحرم الشريف والمسجد السلطان عبد المجيد (١) فكان المسجد وحده مائة وخمسة وخمسين ذراعا طولا أي من الجنوب إلى الشمال ، وعرضه مشرقا مغربا من جهة الجنوب مائة وخمسة عشر ذراعا ومن جهة الشمال ثمانية وثمانون ذراعا ونحو تلك المسافة أيضا صحن المسجد الذي هو جهة الشمال ، ومحيط به رواقات وكله من بناء ضخم مرفوعة قبابه على أقواس قائمة على إسطوانات من المرمر الأحمر المأخوذ من مقاطع حجازية قرب المدينة ، وكذلك عواضد الأبواب وصحن المسجد تحيط به رواقات وما عداها مكشوف وليس بين المسجد والصحن أبواب ، وباب السلام من غربي المسجد قرب حائط القبلة والمحراب في نحو ثلثي عرض المسجد أعني أنه أقرب إلى الشرق حتى يكون قبالة المحراب النبوي الأصلي ، لأن المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام قد زيد فيه مرارا أولها : في خلافة سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه حين ازدادت كثرة المسلمين ، وآخرها إلى الآن ما زاده السلطان عبد المجيد رحمه‌الله ، وكل من زاد فيه تحرى مواقف النبي عليه الصلاة والسلام لتبقى محفوظة ، فلذلك وإن زيد في جهة القبلة حتى صار حائطها يبعد عن حرم الحجرة الشريفة نحو الثمانية أذرع مع أن حائط القبلة كان مساويا لحائط الحجرة ، لكن بقيت بقعة المحراب الأصلي معلما عليها والمحراب الجديد قبالته ، أما المنبر فهو وإن تغيرت ذاته لكن محله لم يتغير وهو الآن من المرمر المتقن والأصلي من خشب ، وأما الحجرة الشريفة فالأصلية عليها بناء ضخم مستطيل من الغرب إلى الشرق وعليه قبة عالية أرفع من سائر قباب المسجد وداخلها القبر الشريف المكرم لصق الحائط القبلى من جهة الغرب ، ويليه قبر الصديق رضي‌الله‌عنه لجهة الشمال متأخرا إلى المشرق بحيث أن رأس الصديق رضي‌الله‌عنه مسامتة لأسفل من رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو ذراع وذلك تأدبا من الصحابة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يليه شمالا أيضا بانحراف للغرب قبر الفاروق رضي الله تعالى عنه وهاته الحجرة لا يدخلها أحد ، ووراء حيطانها من خارج شباك من حديد متين متصلة قواعده برصاص مذاب غليظ الحجم مالىء للأساس إلى عمق عميق حتى اتصل بطبقة الماء في الأرض ، والسبب في وضعه هو أنه كان في مدة السلطان نور الدين الشهيد (٢) بمصر حدث حادث عظيم بالمدينة

__________________

(١) هو عبد المجيد الأول (١٨٢٣ ـ ١٨٦١ م) سلطان عثماني. خلف أباه محمود الثاني (١٨٣٩) من أعم أحداث عهده حرب القوم (١٨٥٣). أجرى إصلاحات إدارية وفكرية واجتماعية عرفت بالتنظيمات.

(٢) هو محمود بن زنكي (عماد الدين) ابن أقسنقر ، أبو القاسم ، نور الدين الملقب بالملك العادل ، (٥١١ ـ ٥٦٩ ه‍). ملك الشام وديار الجزيرة ومصر. وهو أعدل ملوك زمانه. ولد في حلب. ضم دمشق إلى ملكة مدة عشرين سنة. عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة. سمع الحديث من جماعة وسمع منه جماعة كان يتمنى أن يموت شهيدا. فمات بعلة «الخوانيق» في قلعة دمشق ، فقيل له «الشهيد» وقبره في المدرسة النورية. الأعلام ٧ / ١٧٠ ، الكامل في التاريخ ١١ / ١٥١ تاريخ ابن الوردي ٢ / ٨٣ وفيات الأعيان ٢ / ٨٧ مرآة الزمان ٨ / ٣٠٥ الدارس ١ / ٩٩ و ٣٣١ والنجوم الزاهرة ٦ / ٧١. شذرات الذهب ٤ / ٢٢٩.

٢٨٨

وكان أمر الحجاز إذ ذاك تابعا لسلاطين مصر ، فرأى السلطان نور الدين رؤيا هالته ، وهي أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات في ليلة واحدة وهو يقول له أنجدني أنقذني من هذين الرجلين وأشار إليهما فرآهما رجلين أشقرين وتحقق وصفهما وعلم التأكيد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمرهما والإسراع به ، فاستيقظ السلطان رحمه‌الله مهتما جدا فما صلى الفجر إلا وقد أحضر وزيره وعشرين نفرا من صناديد فرسانه وأحضر أموالا جسيمة وركب جواده في خاصته وفرسانه وما خف من الزاد وقفل إلى المدينة المنورة مجد السير ، ولم يعلم بما رآه أحدا فوصلها في ستة عشر يوما ، فزار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم وصار يتصدق عليهم ويتأمل تلك الصفة التي رآها في النوم إلى أن انفضت الناس ، فقال : هل بقي أحد؟ قالوا : لم يبق سوى رجلين صالحين عفيفين مغربيين يكثران الصدقة ، فلما رآهما إذا هما الرجلان اللذان رآهما مناما ، فسأل عن منزلهما فأخبرا أنهما في رباط خارج المسجد بقربه جهة الحجرة الشريفة ، فأمسكهما ومضى إلى المنزل فلم يجد به سوى خيمتين وكتبا في التصوف ومالا كثيرا وأثنى عليهما الأهالي ثناء كثيرا ، فرفع السلطان حصيرا في البيت فوجد تحته سردابا ذاهبا صوب الحجرة الشريفة فارتاعت الناس لذلك ، وقال السلطان أصدقاني وضربهما حتى أقرا بأنهما نصرانيان بعثهما ملك من النصارى في زي الحجاج وأعانهما بأموال كثيرة للتوصل للذات الشريفة ونقلها ، فنزلا بأقرب رباط وصارا يحفران ليلا ولكل منهما محفظة جلدا يملآنهما ترابا صباحا ويذهبان إلى المقبرة فيفرغانهما هناك على عدة كرات وهكذا دأبهما منذ مدّة فقتلهما علنا وعمل ذلك الحاجز الرصاص رحمه‌الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وصحبه ومن والاه (١).

ولا يخفى أن الواقعة كانت مدة حرب الصليب فرأى أحد ملوك النصارى المحاربين للمسلمين ولم يعينه أصحاب التاريخ لعدم اعتنائهم إذ ذاك بمثل ذلك ، حتى أنك تراهم يذكرون الوقائع الحربية في الشام مع النصارى ولا يذكرون من هم حيث تعصبت إذ ذاك ملوكهم مع البابا وصاروا يدا واحدة على المسلمين ، ولذلك لم يعين الملك المرسل لذينك الرجلين لأجل مكيدة المسلمين بنقل نبيهم إليهم والتشفي منهم ولأجل إبطال معجزة تعيين محله عليه الصلاة والسلام دون غيره من الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام.

وفي المدينة المنورة أسواق وصناع لكل ضروري ومدارس لسكنى المهاجرين وكتب موقوفة في عدة خزائن بمكتبات أهمها : مكتبة عارف باي ورأيت بها كتابا لم أكن أعرفه ، وهو الجامع الصغير في النحو لابن هشام (٢) مع اشتهار كتبه ، وطرق المدينة غالبها ضيق لا

__________________

(١) انظر شذرات الذهب ٤ / ٢٣٠.

(٢) هو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف ، أبو محمد ، جمال الدين ، ابن هشام. (٧٠٨ ـ ٧٦١ ه‍). من أئمة العربية. مولده ووفاته بمصر. الأعلام ٤ / ١٤٧ الدرر الكامنة ٢ / ٣٠٨ ، مفتاح السعادة ١ / ١٥٩ النجوم الزاهرة ١٠ / ٣٣٦ ، دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٢٩٥ ومعجم المطبوعات (٢٧٣).

٢٨٩

يمر به إلا رجل واحد إلا طريق الباب المصري الموصل لباب السلام ، وقرب الباب المصري المناخة وهاته المناخة بطحاء وسيعة وحولها مخازن للذخائر ، ومن عادات أهل المدينة أنهم لا يركبون داخلها تأدبا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا المعذور ، وإذا لاقى أحدهم غيره خارجها وهو راكب ترجل له عملا بالأثر المروي ، وبقية عوائدهم على ما سيأتي في العادات العامة ، غير أن أخلاقهم رضي‌الله‌عنهم أحسن أخلاق أهل الأرض فيما علمت من لين الجانب وصفاء القلب ومواساة القريب والبعيد والكرم ولو كان بهم خصاصة ، وحرية النفس والشهامة والشجاعة فهم أهل لذلك الجوار كما ورد وصف مدحهم في القرآن العظيم (١) ، ومن وفد عليهم تخلق بخلقهم لأن أصل الأنصار لم يبق منهم هناك إلا عائلة واحدة وبقية السكان كلهم من الوافدين فيما بعد إلا السادة الأشراف حقا ، فهم من أبناء سيد الوجود وابن عمه سيدنا علي رضي‌الله‌عنه ، وأما بقية المهاجرين فلم يبق من نسلهم هناك أحد معروف سوى واحد نقيب في ضريح سيدنا حمزة هو من بني العباس رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

مطلب في صفة موكب الحج

لما كان الحج فرضا على كل مستطيع له من المسلمين فهم يهرعون إليه من كل فج عميق فيجتمع المسلمون من جميع قبائل الأرض من مشارقها ومغاربها ، وقد كان في الزمن السابق يأتي أكثرهم برا أما بعد حدوث البواخر فصار الأكثر يأتي بحرا بالركوب في البواخر إلا من كان من أهالي جزيرة العرب فإنهم يأتون برا ، وكذلك الركب المصري وإن بطل سفره برا عند طبع هذا المحل وأما عند حجي فإنه كان يأتي برا ومثله في الإتيان برا الركب الشامي الذي كان يخرج من القسطنطينية ويأتي إلى دمشق الشام ويجتمع هناك بركب العراق مع حجاج الشام ويسافر الجميع إلى مكة.

وصورة هاته الأركاب هو أن يعين السلطان حاكما من رجال دولته على الركب ويصحبه أمين الصرة أي الحامل للأموال المعينة لمصاريف الحرمين ولسائر المتوظفين وللأعراب الذين لهم عوائد من الدولة ، وتلك الأموال مأخوذة من دخل أوقاف الحرمين ومن خزنة الدولة كل لما يخصه ، وكذلك يحمل الهدايا والصدقات الخاصة التي يرسلها السلطان وأهالي دولته وسكان قصره بحيث يجتمع عنده أموال جسيمة ، وقد سمعت أن الذي ترسله الدولة للقيام بما يعود إليها من جميع ما يلزم الحرمين سواء كان من الخزنة أو من الأوقاف هو الآن نحو مليونين ونصف فرنكا عدا الهدايا الخاصة ، ثم يعين مع هؤلاء قسم من أنواع الجيوش فرسان ومدافعية ورجالة وتنصب لهم خيام للرحلة بها ، ثم ينضم

__________________

(١) وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: ٩].

٢٩٠

إليهم كل من أراد الحج بخيامه وسائر لوازمه كل حسب مستطاعه ، ويحصل يوم خروج المحمل من دار الخلافة موكب مشهود ثم يسافر الركب نهارا ويقيم ليلا على مراحل معلومة إلى أن يصل إلى مكة ، وكلما مر على بلد انضم إليه حجاجها وقد بقي الحال الآن على ذلك سوى كون السفر من الآستانة إلى مرسى بيروت صار بحرا ، ثم من بيروت إلى دمشق الشام يسافر من غير أبهة ولا انتظام ، ومن دمشق ترتب له العساكر وغير ذلك ويسافر على نحو ما ذكر ، وعلى نحو منه الركب المصري ، وأما القوافل من الجهات البرية فإنها تأتي كل قافلة عليها نحو شيخ للرفقاء ويسافرون حسب مستطاعهم ، فإذا اجتمع الجميع في مكة ولكل منهم مكان يخصه للإقامة فيه ، خرجوا اليوم الثامن من ذي الحجة إلى منى ومنها إلى عرفات وهم محرمون ، فيقفون يوم عرفة وبعيد الغروب يفيضون إلى المزدلفة ثم قبل الشروق يأتون إلى منى وذلك يوم العيد ، ويقيمون ثلاثة أيام لأداء المناسك ، ويحصل ليلة ثاني العيد أفراح عظيمة من معسكري الأركاب بالألعاب النارية وأعمال صور حربية بالمشاهدة لكي يحصل إرهاب الأعراب من الحركات العسكرية وسرعة سلاحهم وعظم مدافعهم ، ثم في صبيحة يوم ثاني العيد يحصل موكب عظيم في منى لدى فسطاط الشريف أمير مكة ، فيحضره الوالي وأمراء الأركاب ورئيس العساكر بالحجاز وسائر الأعيان من أهل مكة والحجاج كلهم بالملابس الرسمية.

ولما يحتبك الموكب يخرج السيد الأمير الشريف ويقف في الصدر وتقف الناس حوله على حسب مراتبهم ، ثم يتلى المنشور السلطاني المؤذن بالثناء على الأمير وتقليده الأمارة أو إبقائه فيها وتحريضه على إدامة الأمن والقيام الواجب بحقوق الحرمين والأهالي وهو باللغة التركية ، ثم يتلى تعريبه. ثم يخلع عليه أمير الركب الشامي الخلعة التي يرسلها أمير المؤمنين إلى أمير مكة السيد الشريف وهي جبة من الجوخ واسعة سوداء مطرزة بالذهب ، ثم يقبل الجميع بالتهنئة للسيد الأمير ثم يتفرق الناس لتهنئة بعضهم بعضا ، ثم يسافر كل ركب بعد عوده إلى مكة في يوم معين بعد أداء جميع المناسك وتسليم الأموال لأصحابها والمقيضين بها من الأمراء والرؤساء ، وكل منهم أي الأركاب يعود إلى بلده على الطريق الذي قدم منه ويكون كل ركب كأنه بلد راحل يحصل فيه من النزهة والإنشراح لذوي اليسار ما ترغب فيه النفوس ، هذا ولا يخفى أن مناسك الحج مقررة في كتب الفقه بل وقد خصت بتآليف منفردة لعلماء كثيرين فلا يمكن لنا الإتيان بذكرها لأنها خارجة عن الموضوع وإنما الذي يناسب ذكره هنا هو :

إن الحج من أحد أركان الإسلام الخمس وهي : كلمة الشهادة أي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وحج البيت على من استطاع إليه سبيلا ، وهو فرض مرة في العمر ويندب تكراره كلما استطاع الإنسان ، وقد ذكر العلماء حكمة مشروعيته كما ذكروا الحكمة في مشروعية جميع الأركان ، وحاصل ما أشاروا إليه هو كونه شكرا لله على ما منحنا به من نعمة السلطة على الأنعام أي الحيوانات

٢٩١

وهو عبادة مركبة من أعمال بدنية وأعمال مالية ، ويمكن أن يكون مشتملا أيضا على حكمة أخرى مرعية في نظر الشارع وهي أحكام الوصلة بين قبائل المسلمين وتعرفهم ببعضهم واطلاع كل منهم على حاجات أخيه وعوائده ليعين كل منهم أخاه في الحضرة والغيبة بما يستطيع حسبما أمره الشارع بذلك ، وينتج منه مزيد المواصلات بين الأمم والشعوب والقبائل من مشارق الأرض ومغاربها كما هو الأمر الواجب شرعا في جعل المؤمنين عصابة واحدة ، وقد مثلهم الشارع بالبنيان يشد بعضهم بعضا ، ومثلهم بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد ، وجعلهم إخوة لرحم الدين الواحد إلى غير ذلك من النصوص الدالة على التحامهم ووحدتهم مما لا يمكن إيجاده بدون تعرف ، فجعل لهم في كل سنة موعدا يجتمعون فيه ليحصل ذلك القصد.

وفيما تضمنته مناسك الحج إيماء إلى ذلك حتى يحصل على أكمل وجه فإنه عين لهم المحل الذي يجتمعون فيه بصورة لا يحصل معها نكد من بعضهم على بعض في التفضيل كما لو كان الاجتماع في بلد قبيلة أو جهة دنيوية ، بل جعل ذلك المحل هو خاص وخالص النسبة للخالق جل وعلا وحده ، ثم عند زيارة نبيه الذي هو واسطتهم إلى خالقهم فلا يحصل من قصد ذلك المحل أدنى امتياز يغير القلوب ، ثم أنه أوجب عند أول القدوم إلى ذلك المحل الإحرام الذي هو من جملة ما تضمنه ترك لبس المخيط وغيره من سمات الرفاهية التي يحصل فيها التحاسد بحيث يكون الناس كلهم سواء لا فضل لملك على راع ولا لعالم على جاهل ، وأوجب على من اضطر إلى ترك ذلك أن يزيد في الإحسان والصدقة الجالبة لقلوب الفقراء الذين هم مظنة إنكسار القلوب مما يرونه من الرفاهية فيعوض ذلك بزيادة صلتهم والإحسان إليهم والإحسان يجلب القلوب فتنعدل الحال ، وكذلك شرع مزيد النفقات والإحسان على حسب رتبها واستطاعة المنفق لكي يزيد التوادد ثم قصر ذلك الإحرام على مدة مخصوصة هي مظنة حصول التعرف واستقرار التوادد بين الأفراد ، فإذا حصل التوادد وتأكد بالصلات يبعد زواله لمجرد رؤية أثر النعمة على المنعم عليه ولذلك أباح اللبس حينئذ ، وكذلك شدد النهي والنكير على الجدال في الحج الموجب للتباعد الذي هو نقيض المقصود ، كما شدد مثل ذلك في الفسوق الذي هو موجب لاستنقاص العبد بمعصية خالقه فيقول أخوه إذا كان هذا لم يراع حق الخالق في بلده الأمين فكيف يراعي حق أخوتي بالغيب ، وكذلك منع التمتع بالنساء لكي لا ينصرف الفكر هناك إلا لطاعة الخالق وحده.

ومن طاعته ما أشرنا إليه من إحكام الوصلة مع إخوانه المؤمنين ، وهذا الأمر وهو كون الحج مشتملا على حكمة الوصلة بين الأمم قد أشار إليه بعض المتأخرين تبعا لبعض المتقدمين في التحريض على مزيد المواصلة بين الأمة ، وقالوا : إن أهل المحلة الواحدة أكد عليهم الشارع زيادة عما يلزم في حق الجوار أمرا تضمنته عبادة الخالق وهو اجتماعهم خمس مرات في اليوم بمسجد محلتهم للصلوات الخمس ، فيجتمع الأعلى والأدنى في

٢٩٢

صعيد واحد ببيت الله على سواء فيروا أحوال بعضهم ويتأنس البعض بالبعض لكي تتأكد الوصلة الروحية بالوصلة البدنية ويعمل كل بما يجب عليه في حق أخيه ، ثم أوجب على أهل المصر الواحد الاجتماع العام في يوم من الإسبوع وهو يوم الجمعة ليحصل ما أشير إليه مع جميع أهل المصر ، ثم زاد لهؤلاء يومين آخرين في كل سنة على حالة مخصوصة من إظهار الترفه لكل واحد بحسب حاله حتى يستدل غيره بهيئته على حالته ليعلم مقتضى الحال في الوصلة وذلك يومي العيد ، وكان وجه تكرير ذلك مرتين إحداهما بعد الصيام شهرا المؤثر في الخلق وفي الخلق والثانية في وسط العام على معتاد الناس لمزيد التبين فيما يقتضيه الحال للتعرف بالفراسة ، وأكد الشارع في جميع هاته الاجتماعات باجتناب المنفرات وباجتلاب المقربات كالتباعد من أكل الثوم وكالتطيب والنظافة ، ثم أوجب على كل فرد الحج مرة في العمر ورغبه فيما زاد على ذلك ليحصل ما أشرنا إليه في الحج ولا شك أن التيسير للحج لا يحصل لجميع أهل القطر كلهم في عام واحد فيحصل على الإستمرار اجتماع الأمم من كل قطر في عام فإذا حصل منهم ما أشرنا إليه دامت المواصلة بينهم ولا أقل أنها تحصل في ذلك الوقت وحده ، أما إذا عمل بمقتضى التعرف فإنها تشتد الوصلة بالمراسلات والأسفار والتجارة فضلا عما يجب أحيانا من الفزع من أمة إلى إعانة أمة أخرى وإنقاذها إذا هجم عليها العدو كما هو معلوم في وجوب القتال وجوبا عينيا على كل فرد فيما إذا هجم العدو على قسم من الأمة وعجز أو تقاعس عن دفاعه ، فإنه يجب على من جاوره أو بلغ إليه الخبر إنقاذه ، ومنه يسري إلى من وراءه وهكذا حتى يعم الوجوب المشرق والمغرب ولو على النساء والأطفال ممن يقدر على الدفاع ، وما ذاك كله إلا لتوحد المؤمنين وحفظ بيضتهم الإسلامية ، لكنا الآن نرى أن الناس غافلون عن جميع ما ذكرناه ولا يعتبرون تلك الحكمة ولا يلتفتون إليها ، ولا نرى إلا أهل كل إقليم مقتصرين على مجرد الخلطة مع بعضهم فقط بل ربما لا يخالطون ولا يتعرفون إلا بمن عرفوه في بلدهم سابقا فضلا عن التخالط مع أهالي الأقاليم الآخر كأنهم ليسوا منهم ولا هم مكلفون بالوفاء لهم بحاجاتهم ، حتى أنه ترجع الناس إلى أقطارهم من غير شعور لهم بشيء من حالة إخوانهم في الأقطار الآخر كأنهم لا مطالب لهم بشيء ، وقد كانت رجال الأمة على غير هذا وكانوا ملاحظين لما ذكرناه ، فترى من حج منهم يتعرف بأهالي الأرض وحصل بذلك اشتهار رجال الأمة في الأقطار لا سيما العلماء والصالحين ، فإنهم ينتشر ذكرهم ويطير سيطهم بما يسمع عنهم من الحجاج وإن لم يروه في حجهم ، ومن طالع التواريخ والسير والرحلات علم من ذلك كثيرا فسبحان محول الأحوال وهو الباقي لا رب سواه.

الفصل الثالث : في التعريف بالحجاز

إعلم أن الحجاز قسم من جزيرة العرب ممتد على شاطىء البحر الأحمر وحدوده الآن التي تحت تصرف الدولة العثمانية هي أنه يحده شمالا الغمير ، وغربا البحر الأحمر ، وجنوبا اليمن من قرب صنعاء ، وشرقا الحناكية وهي تبعد شرقا عن المدينة بمرحلتين في

٢٩٣

حدود نجد ، وهذا الحجاز أحد أقسام جزيرة العرب الخمس وهي :

اليمن وهو القسم الجنوبي منها الممتد على شاطئها على المحيط الهندي إلى أن يصل إلى خليج فارس.

والحجاز هو القسم الثاني وهو القسم الغربي منها الممتد على شاطىء البحر الأحمر.

ويليه شرقا القسم الثالث وهو نجد يتصل شمالا بالشام ويحده غربا الحجاز وشرقا العراق وجنوبا اليمامة.

والقسم الرابع تهامة وكان مقره بين الحجاز واليمن ويمتد من البحر الأحمر إلى أن يتصل باليمامة على خليج فارس فيحده جنوبا اليمن ، وشمالا الحجاز ، ثم نجد ، وشرقا اليمامة ، وغربا البحر الأحمر. وقد اضمحل هذا القسم في اعتباره السياسي ، وصار مقسما بين جيرانه.

والقسم الخامس هو اليمامة وهي يحدها جنوبا اليمن ، وشمالا العراق ، وشرقا خليج فارس ، وغربا نجد ، وكذلك هذا القسم صار في السياسة تابعا أغلبه لنجد ، فتلك الأقسام هي الأقسام الأصلية ببلاد العرب التي كانت معتبرة أقساما أصلية للقارة وإن كانت لا فرق بينها من جهة طبيعة الأرض ، غير أن القسم المشهور بحسن الهواء وخصوبة الأرض وجودة الحيوانات فهو قسم نجد ، وطال ذكره في أشعار العرب وامتداحه بينهم ، وأما بقية الأقسام كلها فما كان منها مرتفعا فهو جيد الهواء وخصب النبات وما كان منخفضا فهو حار أجدب وعلى ذلك النحو ما نحن بصدده وهو الحجاز وقد علمت حدوده الآن.

وأما جباله فهي كثيرة وإن شئت قلت إنه كله جبال قحلة صخرية متشققة سوداء من شدة الحر وليس بها جبل بلكاني ، غير أنه في مستهل جمادى الثانية سنة ٦٥٤ ه‍ حصل في المدينة المنورة وما حولها زلزال شديد دام أزيد من ثلاثة أيام بلياليها ، ثم أعقبه خروج نار هائلة من جهة جنوب المدينة على مرحلة منها من جهة الموضع المعروف (حبس وسيل) ،

وسالت النار في وادي أحيلين كالنهر العظيم تحطم جميع ما مرت به وتجعل الصخور ذائبة مائعة تجري كالنهر العريض العظيم ، وامتد سائلا إلى قرب المدينة أي إلى أن بلغ حرمها فصرف عنها ذات الشمال ووقف وانطفأت النار بعد أن كانت ظهرت أول يوم نهار الجمعة كالقتام الأسود الذي عم الأفق حتى أظلم الجو وظنوا أن الشمس والقمر قد كسفا ، ثم لما أظلم الليل ظهر ضوؤها وعلا في الجو إلى أن رئيت من حول بصري ومن مكة والطائف ، وكان لها دوي كالرعد ونهرها يغلي بأمواج كالبحر من النار المتلاطمة وتقذف في الهواء الصخور كالجبال والمدن ، ونهرها ذو ألوان زرق وحمر ورعبت منها قلوب الناس والتجأوا إلى ملاذ الخلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بلغ سيلها إلى حرم المدينة صرفت وانطفأت ومع عظيم لهيبها وسطوع ضوئها على الأماكن البعيدة لم يصل من حرها إلى المدينة المنورة شيء ، وكان النسيم يأتيها باردا وكان خروج تلك النار إحدى معجزاته

٢٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي لا تحصى فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وهما في أول القرن الثالث حديث «لا تقوم الساعة حتى تظهر نار الحجاز» (١) وللبخاري «تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» ورواياتها كثيرة حتى كان في إحداها تعيين محل خروجها وإنذار الساكنين به منها فكان الأمر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبقية جبال الحجاز كثيرة منها المشهور كأحد ، وأبي قبيس ، وعرفات ، وهو ليس بمرتفع ، ومن أحسن جبالها هواء الطائف فإنه في شدة الصيف يكون معتدل الهواء وهو مصيف أعيان مكة وجدة ، وأما أنهر الحجاز فليس به نهر مستديم وإنما تسيل الأنهر به عند نزول المطر حتى أن أحدها يأتي من جبال الطائف ويمر على المدينة المنورة على صاحبها أكمل الصلاة والسلام ثم يذهب مغربا إلى البحر ، وأما البحيرات فليس بالحجاز بحيرة ، وأما العيون فبها عيون عظيمة عذبة ، إحداها : العين الزرقاء التي تسقي المدينة وهي نابعة من قباء تحت الأرض في عمق عدة أذرع وتذهب إلى المدينة تحت الأرض وعليها عدة منافذ لملىء الماء وفيها الكفاية لجميع البلد وما حولها ، وإنما سميت الزرقاء نسبة لجاذبها مروان بن الحكم (٢) أزرق العينين أجراها بأمر معاوية رضي‌الله‌عنه ، ومنها عين زبيدة التي تسقى بها مكة وهي آتية من قرب عرفات تحت الأرض مثل السابقة وقد أجرتها زبيدة زوج الرشيد العباسي ، وقد عمرت الآن عمارة حسنة صارت بها في غاية الإنتظام ، ومنها عين بلد الصفراء وهي أيضا تحت الأرض لكنها ليست بمنخفضة بل أنها تبعد عن سطح الأرض نحو ذراعين وبها ماء غزير صاف عذب حار يشرب ، فإذا حمل في الأواني برد وهي تغور بعد البلد في الأرض ولا ينتفع منها إلا بشيء يسير للشرب وسقي بعض بساتين ، ومثلها عين بلد الجديدة مع أن كلا منهما يصلح لسقي غابة عظيمة مع حسن الماء وجودته ، فقد شاهدت عين الصفراء وقد أناخت حولها قافلتنا المحتوية على أزيد من ستمائة نسمة وهرع إلى العين جميعهم لغسل أبدانهم وثيابهم بل ولغسل أكراش الغنم التي ذبحت يومها في القافلة ، ومع تراكم تلك الأوساخ كنت أرى الحصباء كالفضة في مجرى العين والماء يزيد عمقه عن ذراعين.

__________________

(١) أخرجه البخاري برقم (٧١١٨) : ومسلم في الفتن باب (١٤) رقم (٤٢) والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٤٤٦) والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٨٨٨٣) والحاكم في المستدرك ٤ / ٤٤٣ والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٥٥.

(٢) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، أبو عبد الملك (٢ ـ ٦٥ ه‍). خليفة أموي ، وأول من ملك من بني الحكم بن أبي العاص. وإليه ينسب «بنو مروان». ولد بمكة. قاتل في معركة الجمل قتالا شديدا. وشهد صفين. توفي في دمشق بالطاعون. وقيل : غطته زوجته «أم خالد» بوسادة وهو نائم فقتلته. الأعلام ٧ / ٢٠٧ ، أسد الغابة ٤ / ٣٤٨ ، تهذيب التهذيب ١٠ / ٩١ تاريخ الطبري ٧ / ٣٤ الكامل في التاريخ ٤ / ٧٤.

٢٩٥

وأما هواء الحجاز فهو على الجملة حار لمكان عرضه من خط الإستواء ولا شك أن الأودية بين الجبال تزيد حرا بخلاف المرتفع ، ولذلك يختلف الحال فمع كون مكة المشرفة شديدة الحر حتى إني كنت بها في دجنبر ولما أردت صلاة العشاء في الحرم لم أستطع الجلوس على الأرض بدون بساط في وقت العشاء لما أثرت الشمس في الأرض ، فإن الطائف لا يمكن فيه في الصيف لا التدثر في الليل بالغطاء الثخين ، وقد شاهدت من أمر السراب شيئا عجيبا فإني لما كنت مسافرا من مكة إلى المدينة سمعت من أصحاب القافلة أنهم يقولون إن الماء هنا ليس بموجود ولا بد من المبيت على الماء ، وكان الوقت بعد العصر فرأيت على قرب من الطريق غدرانا كثيرة فسألت الجمال : هل هنا سبخة أم أن المطر صبت قبل مرورنا؟ فقال : كل ذلك لم يقع ، فقلت : من أين هذه الغدران حينئذ؟ فقال : ليس هنا غدران وإنما ذاك سراب فلم نطمئن لقوله وأرسلت أحد أتباعي بإناء ليملأه من ذلك الماء الذي أريته له فشاهده وذهب إليه ، فلما بلغه صاح لي قائلا ليس هنا شيء ، فضحك مني الجمال وما ذاك إلا للتعود فإني لم أعهد السراب على ذلك النحو ، وذلك لحر القطر وتأثر الهواء بذلك.

وأما نباتاته فينبت بالحجاز جميع النبات الذي يكون بالأقاليم الحارة ووراء جبل أحد من الشق المقابل للمدينة غابة كبرى بها عيون ضعيفة وأشجار كثيرة صالحة للبناء بأخشابها ، وأكثر الشجر المستنبت النخيل على أنواع شتى وبقية الشجر ذو الغلال يغرس منه الليمون بكثرة والبردقان والعنب والرمان وهو جيد للغاية لا سيما رمان الطائف والتين ، كما يستنبت بعض البقول مثل الباميا والطماطم وقليل من بقية المستنبتات ، ومن تأمل الحكمة في حماية أشجار الحرم المكي والمدني من القطع ، علم قصد الشارع إلى استكثار الشجر هناك ، لما يعود من مصلحته على الأمة ، فإنه يجلب السحب ويكثر المطر ويحسن الهواء ويشرح النفوس ويقي الناس من الشمس ويلطف الحر ويوقد بفواضل ما يقطع منه للتحسين ، ومن شاهد تلك البقاع علم شدة الإحتياج إلى الإستظلال من الشمس ، وعلم حكمة تحريم [قطع] ، الشجر حول البلدين المكرمين اللذين تلزم عمارتهما وتهرع الناس إليهما من كل فج عميق ، وقد أشار إلى حكمة تحسين الحرم بالشجر وحرمة قطعه بعض العلماء ومنهم : السمهودي (١) في خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قال الطحاوي (٢) : يحتمل

__________________

(١) هو علي بن عبد الله بن أحمد الحسن الشافعي ، نور الدين أبو الحسن (٨٤٤ ـ ٩١١ ه‍). مؤرخ المدينة المنورة ومفتيها. ولد في سمهود (بصعيد مصر). استوطن المدينة وتوفي بها. الأعلام ٤ / ٣٠٧ النور السافر (٥٨). الضوء اللامع ٥ / ٢٤٥ ومعجم المطبوعات (١٠٥٢).

(٢) هو أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي ، أبو جعفر (٢٣٩ ـ ٣٢١ ه‍) فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر. ولد في «طحا» في صعيد مصر. توفي بالقاهرة. الأعلام ١ / ٢٠٦ وفيات الأعيان ١ / ١٩ الجواهر المضيئة ١ / ١٠٢ لسان الميزان ١ / ٢٧٤ ، هدية العارفين ١ / ٥٨ ، اللباب ٢ / ٨٢ ومعجم المطبوعات (١٢٣٢).

٢٩٦

أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها وكان بقاء ذلك مما يزيد في رؤيتها ويدعو إليها ، كما روي عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينتها» (١) فلما انقطعت الهجرة زال ذلك الخ ، وقوله : انقطعت الهجرة أي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا هجرة بعد الفتح» (٢) وكلامه تعليل لمذهب الحنفية في عدم تحريم المدينة وأما الأئمة الثلاثة فهم على تحريمها مثل مكة وأدلتهم قوية ، والحاصل أن مرادنا هو أن تكثير الشجر في البلاد لا سيما البلاد الحارة مما يرغب فيه ، وقد صرح الفقهاء في كتاب السير بالنهي عن قطع شجر دار الحرب بلا حاجة إليه فكيف بغيرها فضلا عن دار خير الخلق عليه الصلاة والسلام ، القائل بتحريمها وتحريم ما حولها أكثر الأئمة رضي‌الله‌عنهم مع الفائدة الظاهرة من ذلك.

وأما حيوانات الحجاز فيوجد به الحيوانات الأنيسة المعلومة كلها لا سيما الخيل العرابية التي يضرب بها المثل في الدنيا وترغب فيها جميع الأمم ، وأعلاها الخيل النجدية ، وكذلك الإبل الجيدة لا سيما النجيبات السريعة مثل ما ذكرنا بمصر ، وأحسن منها ، كما توجد البغال بقلة والحمير بكثرة والحيوانات البرية كلها موجودة إلا القليل كالدب والفيل ، وأما الأسد والنمر فموجود بكثرة وكفى بما ذكره بشر في قصيدته ، التي شطرها الشيخ قابادو التونسي ، بعد أن زاد عليها مطلعا بيانا لحالة أسود أرض العرب ، وتلك القصيدة لما كانت بديعة أثبتها هنا مع تشطيرها لتنظر براعة المشطر الذي صار كأنه بدوي قح مع كونه حضريا بحت وهي :

أفاطم لو شهدت ببطن خبت

لهانت عندك الأخبار خبرا

ولو أشرفت في جنح عليه

وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

إذا لرأيت ليثا أم ليثا

وكل منهما بأخيه مغرى

يرى كل على ثقة أخاه

هزيرا أغلبا لاقى هزبرا

تبهنس إذ تقاعس عنه مهرى

وأقبل نحوه أذنيه ذعرا

فكاد يريبه فيخال مني

محاذرة فقلت عقرت مهرا

أنل قدمي ظهر الأرض إني

أرى قدمي للأقدام أحرى

ولست مزحزحي شيئا ولكن

رأيت الأرض أثبت منك ظهرا

وقلت له وقد أبدى نصالا

باهرة فأغر يصررن صرا

وسوسا ذات ألحاظ تلظى

محددة ووجها مكفهرا

يكفكف غيلة إحدى يديه

كبالي القوس ينزع مسبطرا

__________________

(١) ذكره ابن عبد البر في التمهيد : ٦ / ٣١٠.

(٢) أخرجه البخاري برقم (١٨٣٤ ـ ٢٧٨٣ ـ ٢٨٢٥) والإمام أحمد في المسند ٥ / ٧١ والنسائي ٧ / ١٤٦. والمتقي الهندي في كنز العمال (٤٦٢٥١).

٢٩٧

ولا يثني براثن منه إلا

ويبسط للوثوب على أخرى

نصحتك فالتمس يا ليث غيري

فلي بقيا عليك وأنت أدرى

ومهري قائل لك لا تخلني

طعاما إن لحمي كان مرا

ألم يبلغك ما فعلته كفى

ألست ترى بها الأظفار حمرا

ألم تك طاعما أشلاء فتكي

بكاظمة غداة قتلت عمرا

فلما خال أن النصح غش

وغرّته الجراءة فاستغرا

ولج على التهور في نزال

وخالفني كأني قلت هجرا

مشى ومشيت من أسدين راما

مساورة فلاقى البحر بحرا

ورجا الأرض إذا بغيا عليها

مراما كان إذا طلباه وعرا

سللت له الحسام فخلت أني

أسلت من المجرة فيه نهرا

ولم أمش الضراء له لأني

شققت به لدى الظلماء فجرا

وأطلقت المهند من يميني

فأوثقه لغير المن أسرا

بأبريق هفا هفو إن برق

فقد له من الأضلاع عشرا

فخر مضرجا بدم كأني

بمهجته أفضت عليه سترا

وكدت لهول وجبته أراني

هدمت به بناء مشمخرا

بضربة فيصل تركته شفعا

وشقاه لقي بطنا وظهرا

وشيكاما انثنى منها مثنى

لدي وقبلها قد كان وترا

وقلت له يعز عليّ أني

أراك معفرا شطرا فشطرا

واستحى المروءة أن تراني

قتلت مناسبي جلدا وقهرا

ولكن رمت أمرا لم يرمه

أبي لا يبيع النفس خسرا

ولم يك سامني بالنصح خسفا

سواك فلم أطق يا ليث صبرا

تحاول أن تعلمني فرارا

فهل علمت نفسك أن تفرا

وتنفض مذرويك لفعل عزمي

لعمر أبيك قد حاولت نكرا

أتيت تروم للأشبال قوتا

طللت به الدماء ورعت سفرا

ولكني أقيد بها وأحمي

وأطلب لابنة البكري مهرا

فلا تبعد فقد لاقيت حرا

يرى ويقرّان أبلغت عذرا

وعن كرم برزت إلى كريم

يحاذر أن يعاب فمت حرا

ولا أسف على عمر تقضى

أفادك منه حسن الذكر عمرا

وأما معادن الحجاز فإنه يوجد به المرمر الرفيع ، ويوجد قريبا من المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام حجر البلور المشابه للإلماس ، ويوجد أيضا الذهب وكان مستخرجا ثم دثر ، ولا يبعد وجود الفحم الحجري وكذلك غيره من المعادن المحتاجة للبحث عنها.

٢٩٨

وأما مدن الحجاز فأصل قاعدته وقاعدة عموم الإسلام هي المدينة المنورة وكانت مدة إقامة الخلافة بها اتسعت وكبرت وكذلك بعد ذلك في العصور الأولى من الإسلام وإن حدث فيها الخراب الكلي والجلاء العام مدة يزيد ، ثم دون ذلك مدة القرامطة (١) ، ثم تراجع عمرانها إلى النمو ثم عادت إلى ما هي عليه الآن مما ذكرناه في صفتها ، وقاعدة الحكومة الحجازية الآن هي مكة المشرفة وقد مر ذكر صفتها ومن اعتبر ما جرى عليه الحال في ظهور الإسلام يرى أن عناية الله بالمدينة عظيمة وقد جعلها مظهرا للدين القويم وانتصارا لرسوله الأمين عليه الصلاة والسلام ، وكانت مكة تابعة في الحكم للمدينة حتى بعد فتح مكة ، وقد خالج الأنصار عند الفتح انتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بلده الأصلي «فأعلمهم بأنه لا يفارقهم واستقر هو ومن بعده من الخلفاء الراشدين بالمدينة إلى خلافة سيدنا علي فكان صدرها بالمدينة وآخرها بالكوفة ، ومع ذلك فقاعدة حكم الحجاز هي المدينة وذلك هو الموافق لحالة السياسة لتوغل المدينة من القارة ، وإذا كان الحاكم في مكان تمهدت سائر السبل إليه ، وعلى تقدير حدوث بعض العوائق في الطرق يزال عن عجل وتنفذ الأحكام في الأطراف لاستقرار القوة في الوسط ، وليست مكة المشرفة على ذلك النمط وقد تغير الحال مرارا مدة الإسلام في قاعدة الحكم بالحجاز فكان الأمر على ما ذكرناه من كون المدينة هي القاعدة ، ثم انفردت مكة بحكمها وبقيت المدينة مستقلة ثم صارت الأحوال تتقلب فتارة تكون مكة تابعة وتارة متبوعة وتارة يستقل كل منهما بحكم ولو بعد استقرار الدولة العثمانية ، والذي عليه العمل الآن هو أن مكة هي القاعدة وللمدينة حاكم يرجع في أمره إلى حكومة مكة ، وأما بقية المدن بالحجاز فليست بموجودة وإنما الموجود عبارة عن قرى مثل الطائف وهي أكبرها ، والصفرا والجديدة وحده ورابغ وخيبر ، وقد غلط كثير من الجغرافيين حتى من المسلمين في ذكرهم لسكان هاته البلدة وكونهم يهود اغترارا بما كان في أصلهم وغفلة عما وقع في خلافة سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه من جلاء جميع الأديان إلا الإسلام عن جزيرة العرب مستندا للنص من الشارع في كونه لا يجتمع بها دينان ، ومنذ ذلك التاريخ لم يبق بها إلا المسلمون ، وسكانها الآن من ضعفاء القبائل مسلمون وهم تبع لحكم المدينة صورة وفي الحقيقة تحت حكم محمد بن رشيد النجدي ، أكبر حكام قبائل نجد بل هو الحاكم على جميع أواسط قارة

__________________

(١) القرامطة : هي حركة سياسية اجتماعية دينية لا تزال حقيقتها على كثير من الغموض لانقراض اتباعها تنسب إلى داعيها الأول حمدان قرمط في الطرق أظهرها قوية في البحرين أبو سعيد الجنابي (٢٨٥ ه‍) ثم سيطرت على كثير من البلاد واستولوا على مكة سنة (٩٣٠ م) ونقلوا منها الحجر الأسود ثم ردوه بعد اثنتين وعشرين سنة. انتزعوا دمشق من أيدي الفاطميين (٩٧٠ م) وزحفوا إليهم في مصر فهزمهم المعز الفاطمي (٩٧٢ م) انتهى أمر القرامطة على أيدي الأمراء العيونيين في البحرين (١٠٢٧ م) انظر المنتظم ١٢ / ٢٨٧ وما بعدها.

٢٩٩

جزيرة العرب وهو على مذهب الوهابي وله نفوذ تام وحكم عادل ذو هيبة وسطوة بحيث أن رقعة منه بيد حاملها تؤمنه في جميع الأنحاء من أواسط القارة ، ويجلس في مجلس حكمه ويحضر القاضي ومعه أحد العلماء بصفة المفتي ويقف حوله أصحاب الخيل من أعوانه ليرسلهم في الخصومات ، فإذا دخل المشتكي ألقى دعواه على القاضي ويجيب خصمه بما يظهر له ويحكم القاضي بما يراه فيستشير الأمير ذلك العالم الحاضر ، هل أن حكم القاضي موافق للشرع أم لا؟ فإن وافقه فيها وإلا تباحثا وما يرسي عليه ينفذه الأمير حالا ، وأما النوازل المتعلقة بالإدارة وحفظ الأمن فيحكم فيها باجتهاده مراعيا فيها الإنصاف والعدل بما لا يخرجها عن السياسة الشرعية مع الصرامة التامة في التنفيذ ، حتى أنه قيل : إنه أتاه يوما رجل وهو في مجلسه الحكمي وأخبره بأنه وجد عدلا لبعير ملقى في الطريق وهو مملوء بالرمل ولا يعلم صاحبه فأخبره به لكي يبلغه محله فسأله الأمير من أين علمت أنه رمل فقال له إني مسسته فقال له كيف مسسته وبأي يد فقال له مسسته بيدي هاته وأشار بإحدى يديه فما كان من الأمير إلا أن جرد سيفه وقطعها وقال له ما كان ينبغي لك أن تمسه حتى تعلم ما فيه ، وأي فائدة لك في ذلك لو لا نيتك الخيانة إذ لو وجدته شيئا مثمنا لما كنت أخبرت عنه ، ومن علم حالات القوم وطباعهم في هاته الأزمان يرى أن ذلك الحكم الصارم مطابق لما يقتضيه الحال إذ لم تأمن من ولايته ولم تستقر بها الراحة والهناء إلا بمثل ذلك الحكم ، وإذا أمر أحدا بأمر ولم ينفذه ولم تحمله قبيلته على تنفيذه ، فإنه يصدر في الحال أوامره إلى القبائل التي يمر عليها إلى جهة المأمور بحضور فرسانهم في وقت معين ، ثم يركب هو وفرسان جيشه وما مر بقبيلة من المأمورين المشار إليهم إلا انضموا إليه إلى أن يعظم جيشه فيصل إلى المأمور وقبيلته ويأخذهم أخذة رابية ويملك أرزاقهم لمن كان معه من المعسكر ، وبمثل ذلك نفذ أمره وعلا صيته وخضعت القبائل إليه مع كونه جوادا وفيا بالعهد عالي الهمة على شيمة كرام العرب.

وهاته البلدان المار ذكرها أغلبها به حصن أو بقربه حصن لإقامة العساكر للمحافظة على الأمن ، غير أن أغلب الحصون صار خرابا للإهمال ، وليس به حامية.

وأما مراسي الحجاز فأعظمها مرسى جدة ثم ينبع البحر وهاته هي أقرب المراسي إلى المدينة المنورة بحيث يصلها البريد في يوم وتبلغها القوافل في ثلاثة ، ثم بقية المراسي على قلتها ليس لها أهمية غير أن الموجود منها كلها ، هي مراسي أمينة للسفن لما خلقها الله عليه من إحاطة الصخور العظيمة حول الحوض الذي ترسي به السفن ، بحيث يصح أن يقال إن الذين انتخبوا تلك البقاع تجعلها بلدانا للمراسي هم من حذاق أهل التدبير واتساع المعارف بالصناعة البحرية ، فقد شاهدت كلا من مرستي جدة وينبع وحوض كلتيهما يسع مئين من السفن الضخام في أمن تام ولو عند تلاطم الأمواج التي كالجبال ، وأغلب الخريتين لا يدخلونها إلا بدليل من بحرية أهالي تلك المراسي ، وقد شاهدت الخريطة البحرية التي في الباخرة المصرية التي سافرت فيها إلى جدة معلما بها على جميع الحجارة المستورة بالبحر

٣٠٠