صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

جميع أراضيها حسبما نص عليه في التاريخ ، ويشهد له قوله تعالى حكاية عن فرعون : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] فجمع الأنهار والإفتخار بها بل والتعاظم إلى حد دعوى الألوهية قاض بأنها كثيرة جدا وبالغة إلى حد خارج عن المعتاد في الكيفية كصعودها إلى الأعالي ، والواسطة في ذلك إما أن تكون بواسطة آلات تحمل الماء من أسفل إلى أعلى بكثرة حتى يجري في الأنهار ثم من هاته يحمل كذلك إلى ما فوقها إلى أن تجري ومن هذه أيضا إلى ما فوقها وهكذا إلى نهاية الإرتفاع ، والآلات إما أن يديرها الماء نفسه أو قوّة أخرى جهلت الآن فيما اندثر من علوم الأقدمين ، أو تكون الواسطة هي تفريع الترع من أعالي النيل قبل الوصول إلى الشلالات بأن يؤتى لأول شلالة قبل انحدار الماء منها فتفتح له فروع ذاهبة مع ارتفاع الأراضي بكيفية هندسية وبناء قناطر وحنايا لمرور الماء من الأعالي إلى الأعالي ثم من شلالة أخرى يفعل هكذا وتجري الأنهار في الإرتفاعات ، كما تجري في الإنخفاضات ، ويحصل منها النباتات الجبلية ومناظرها البهيجة.

وأما بحيرات مصر فهي عشرة أربعة كبيرة ، وأكبرها بحيرة المنزلة ومحيطها نحو من مائتين وخمسين ميلا وتسير بها السفن الصغيرة وبها السمك دائما وموقعها شرقي مدينة دمياط ويخترقها خليج السويس ، والبقية أغلبها أيضا مع الخليج وليس لها فائدة معتبرة سوى استخراج الملح من بعضها عند جفاف حافاته صيفا وبعضها يجف تماما ، أما ممالك السودان ففيها بحيرات مهمة مثل بحيرات منبع النيل وغيرها ولكنها قليلة الجدوى بالنسبة للمنافع مثل بقية ذخائر السودان.

وأما هواء مصر وما يتبعها فهو على العموم حار ، وغاية الفرق أن الجهات الشمالية على شاطىء البحر الأبيض يلطف حرها صيفا سيما عند ازدياد النيل ، وأما الجنوب وسائر السودان فهو حار جدا ، حتى إني كنت في مدينة مصر في شهر ننبر بعد فيضان النيل ولم أكن أستطيع النوم بالغطاء باللحاف الكتان ولكني لا أستطيع أيضا فتح الطيقان لكثرة الندى المضر ، ورأيت مثل ذلك في إسكندرية أيضا التي هي مهرب السكان من الحر ، مع أني كنت بها في ذلك الشهر أيضا.

أما السويس والصعيد فلا تسأل عن شدة حرها ، نعم هي بعد الانقلاب الشتوي يحصل بها البرد إلى درجة طلب التدثر والتدفي ، فيكون الهواء عموما معتدلا مع ابتهاج الأرض بالنبات.

وأما نباتاتها مع سودانها وجباله فيصح أن يقال أن فيها كل ما يوجد من نبات الدنيا إلا ما ندر ، حتى الأشجار التي تكون في الأراضي الباردة فإنها توجد في الجبال الشاهقة في دواخل السودان ذات الثلج الدائم ، وفي السودان غابات عظيمة صالحة أخشابها لبناء ، السفن والديار وللأعمال الجيدة أيضا مثل الأبنوس وغيره ، لكن أرض مصر الأصلية ليس

٢٤١

بها من غابات طبيعية وغاية ما له بها منظر الغابات هو النخيل ، فالحاصل أن ممالكها مشتملة على كل ما يحتاج إليه من المزروعات الحبوبية والأشجار ذات الثمار وغيرها.

وأما حيواناتها : ففيها الخيل بقلة بالنسبة لذاتها لكن يوجد في السودان نوع منها جليل يعرف بالكحيل والبغال قليلة والحمير كثيرة ، ويركبها حتى الأعيان ولها اعتبار ويحلقون شعرها وتصير بالتربية تفهم قصد صاحبها ، حتى إذا قال الحمار لحميره صخرة ظلعت وصارت تمشي على ثلاث ما دام الشرطي ينظر إليها خوفا من تخديمها للحكومة بلا أجر ، والإبل كثيرة جدا ومنها نوع الهجين وهو نوعان في السير أحدهما : متعب لراكبه وهو الذي إذا سار رفع رأسه وعنقه ، والثاني : لين لراكبه وهو الذي إذا سار دلى رأسه إلى الأرض ومد عنقه إلى أمام ، وكلاهما من الإبل المعتادة ، غير أن أصحابها يختارون الجيد الأطراف الخفيفي الحركة ثم يمرنونه من الصغر على مداومة سرعة السير فيتربى عليها ويبقى ناحلا ، فيكون عدّة لأصحابه للوصول إلى الأمد البعيد في الزمن القريب ، وكان عند الأقدمين عوضا عن طريق الحديد الآن غير أنه لا يحمل الأثقال الكثيرة.

ولقد رأيت من معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يزيد القلب إيمانا وذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه (١) في الكلام على سيدنا عيسى عليه‌السلام وأنه يترك القلاص أي الإبل ، بمعنى أنه لا يستعملها وخاضت الشراح في تطبيق ذلك ، والحق ما بينته المشاهدة من الإستغناء عنها بالرتل وطريق الحديد والله أعلم أنه سيعم جزيرة العرب ويصل إلى مكة والمدينة حيث أن سيدنا عيسى عليه‌السلام ينزل هناك والله أعلم.

والبقر قليل وهو نوع ضخم ، والجاموس كثير والفلاح من العامة الذي له بقرة منه تغنيه عن كثير من الأشياء فيشرب ويبيع من لبنها ويأتدم ويبيع من سمنها ويحرث عليها ويوقد بخثائها ويستنتج أولادها ، ولذلك صارت البقرة عنده أعز شيء عليه في الدنيا ، وأما الغنم فهي كثيرة في السودان ، والحيوانات الوحشية يوجد منها في السودان كل الأنواع التي تألف البلاد الحارة كالأسد والنمر والفيل والزرافة وغيرها ، وأما الطيور فيوجد سائر الطيور الأليفة ، وأما الوحشية فإنما يوجد منها بعض الرحالة كالسمان والخطاف والحدأة كثيرة وكذلك الغراب ، ولقد شاهدت منه نوعا غريبا لأن لونه أبلق وعليه فتكون الصفة في قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) [فاطر : ٢٧] هي صفة كاشفة لا مؤكدة حيث يوجد في الغراب الأسود والأبلق بعضه أسود وبعضه أبيض ، كما يوجد في السودان أنواع شتى من الطيور الغريبة كالببغا ذات الألوان البهية المذهبة والمفضضة وغير ذلك من أنواع الطيور.

وأما معادن مصر : ففيها أكثر أنواع المعادن المعروفة فالذهب يوجد بكثرة في عدة أماكن من السودان ، فمنه ما هو في معدنه ومنه التبر الذي يوجد في الرمال من سيول المياه

__________________

(١) برقم ٢٤٣ كتاب الإيمان.

٢٤٢

وأشهر معادنه في سنار حتى يعرف بالذهب السناري ، وكذلك يوجد الفحم الحجري الغني في بلاد النوبة ، ويوجد أنواع المرمر والرخام الأبيض والأزرق في جهات من الصعيد ، وكذلك الملح في عدّة سباخ والجص والسيمان والرصاص في موضعين حوالي شط البحر الأحمر ، والنحاس في عدة أماكن ، والحديد بكثرة في عدّة جهات ، والكبريت حتى أنه يوجد جبل يسمى به وأما الفضة فهي قليلة ، وتوجد أحجار ثمينة وأهمها الزمرد لكنه قليل ، ويوجد الفيروزج والعقيق ، والذي يحق به الإعتناء هو حجر البلور إذ هو كثير ونقي يضاهي ما في بوهيمية النمساوية كثرة وصفاء ، وأكثر هاته المعادن متروك إما لعدم العناية به أو لصعوبة نقله حتى رأيتهم يأتون بالحجارة لبلاط الطرق في الإسكندرية من بلد تريست في مملكة النمسا مع ما في البلاد من الحجارة التي صنع منها القدماء تلك الأهرام والهياكل والعواميد التي تنقل ذخائر في قواعد الدنيا ، ولا شك أن العناية لو توجهت إلى استخراج منافع السودان لسهل نقل تلك الحجارة وسائر المعادن بأخذ الفحم الحجري للطرق الحديدية التي تسهل إيصال الأثقال ومواصلة الأقطار ، إذ في السودان كنوز لا يحصيها إلا خالقها وأعظم بكنز غاباتها وأخشابها المرغوبة كالشمشير والإبنوس وغيرها ، حتى لا يحتاجون لجلب أخشاب البناء وغيره من خارج المملكة فإنهم يأتون حتى بحطب الوقد وفحمه من الخارج وذاك ضعف للبلاد.

وأما مدن مصر : ففي مصر من القرى والمدن ما يتجاوز الثلاثة آلاف بلدة وأشهرها قاعدتها وقد تقدّمت صفتها ، ثم الإسكندرية ومر ذكرها ، ثم طنطا ورشيد ودسوق وأشمون والأبيض على وزن محمد قاعدة كردفان وأبو حراز وتندلتي قاعدة دارفور سابقا وتسمى فاشرو غير ذلك ، وقد كانت بها مدن هائلة في الصعيد تحتوي على بناآت عجيبة وصنائع غريبة وقد دثرت تلك المدن ولم يبق لها من اعتبار سوى أن بعضها صار بمحله قريات ليست بذات أهمية ، وتلك الهياكل القديمة قد اكتشف عنها وتسمى بالبرابي وتقصدها السواح للإطلاع على ما احتوت عليه من الأعاجيب والصنائع المندثرة ، ومن هاته البرابي واحدة في بلد أدفو التابعة لمديرية أسنى ، أخبرني الرحالة محمد برادة : «أنه رأى به إيوانا كبيرا منقوشا في الصخر على حيطانه صور جميع المصنوعات المعلومة إذ ذاك ، وأنه رأى فيه بعين رأسه صورة طريق الحديد بقضبان ممتدّة وعليها حوافل ذات عجلات لكنها بدون مزجية أعني الآلة الجارة ، كما رأى فيه صورة السلك الكهربائي يعني صورة أعمدة عليها سلك ممتدّ منتهي إلى آلة ، ورأى صورة سفينة ذات عجلات وصاعد من مدخنتها صورة الدخان». وسمعت من غيره أنه يوجد في جملة البرابي بيتان عظيمان أحدهما يحتوي على صور جميع الحيوانات ، والآخر على صور جميع المصنوعات وأن منها ما تقدم ، وكله نقش في الحجر ورأيت في جغرافية فكري ، ذكر تلك البرابي واحتوائها على النقوش والصور لكنه لم يذكر خصوص ما تقدم ذكره.

وأما مراسي مصر فأولها الإسكندرية ثم برت سعيد ودمياط ورشيد في البحر

٢٤٣

الأبيض ، والإسماعيلة والسويس في الخليج ، ومصوع والقصير وسواكن في البحر الأحمر ، وزيلع وغيرها في المحيط الشرقي ، وأما أهاليها فهم على قسمين :

الأول : أهالي مصر وهم نحو ستة ملايين ، بعضهم من ذرية القبط أبناء المصريين القدماء ، وبعضهم أبناء العرب الفاتحين ، واختلط نسل من أسلم من القدماء بالثاني وصاروا جميعا مصريين ، وتكاثر عددهم في هذا القرن أعني حيث كانوا في أول دولة محمد علي باشا لا يبلغون الأربعة ملايين ، ولما امتدّ فيهم التهذيب والتحفظ على الصحة بتحسين الهواء والعلاج عافاهم الله من مصيبة الوباء والجدري اللذين كانا دائمين فيهم ، فبلغ عددهم الآن إلى ما ذكرنا.

والقسم الثاني منهم : هم السودان وهم أيضا على قسمين الأول : أهالي النوبة وكانت قاعدتهم سنار وهم من الزنج وذرية الكوش من العرب ، ثم تسلطت عليهم قبيلة الفنج ودخلت في الإسلام وبقيت هي الحاكمة إلى أن افتتحها محمد علي سنة ١٢٣٦ ه‍ وثاني أقسامها : هو قسم دارفور وعدد سكانه خمسة ملايين ، وهم من نوع سوداني يسمى فورو وسميت البلاد بهم وديانتهم الإسلام ، ومعهم نوع يسمى المسبعات ، ولكثرة اختلاط الجميع بالعرب ودخول قبائل منهم فيهم حتى كانت عائلة الملك عربية صار الجميع يتكلمون بالعربية ، وتلخص مما مر أن الأهالي على العموم أكثرهم عرب واللغة الغالبة والرسمية عربية ، وتوجد لغات أخرى سودانية وعدد الجميع بالمضافات ستة عشر مليونا والديانة الغالبة هي الإسلام ، وتوجد النصرانية على مذاهب شتى ومنها المختلطة بشيء من شعار اليهود وشيء من شعار الوثنيين ، كما يوجد كل من ذينك الديانتين وأما صفتهم على العموم : فأهالي المدن الكبيرة يكثر فيهم النبهاء والعارفون بالمصالح العامة المشتركة ، والباقي على الإطلاق هم على السذاجة والجهل بالمنافع الخاصة فضلا عن المشتركة ، واللون الغالب أسمر أو أسود وأهل السودان والعرب من أصل المصريين شجعان ، وأما فلاحو مصر فلما طال عليهم الإستيلاء الإستبدادي ضعفت فيهم الشجاعة بالمرة وكادوا أن يفقدوا الغيرة كما حكاه المقريزي (١).

الفصل الرابع : في إجمال تاريخ مصر وملحقاتها

مطلب في تاريخها القديم

اعلم أن مصر أشهر بقاع العالم بمعرفة أصول تاريخها القديم لكنه في الواقع غير

__________________

(١) هو أحمد بن علي بن عبد القادر ، أبو العباس الحسيني العبيدي ، تقي الدين المقريزي (٧٦٦ ـ ٨٤٥ ه‍) مؤرخ الديار المصرية. أصله من بعلبك. ولد ونشأ ومات في القاهرة. الأعلام ١ / ١٧٧ البدر الطالع ١ / ٧٩ معجم المطبوعات (١٧٧٨) وآداب اللغة ٣ / ١٧٥.

٢٤٤

محرر ولا موثوق به ، وقد أطنب العلماء الإسلاميون وغيرهم في تواريخ مصر وعلومها وتمدنها ، فغاية ما نستطيع هنا إنما هو الإلمام بإشارات إلى أنموذج ذلك معرضين عما لبعضهم من المبالغات والخرافات ، ويدّعي بعض المتأخرين أن المحقق عندهم في علم مبدأ التاريخ فيها المحقق هو قبل الميلاد بألفي ومائتي سنة ، والحق أنه غير محرر لأن استنادهم في ذلك إنما هو للتوراة التي بين أيديهم وهي كما علمت سابقا غير صحيحة سيما في محل التاريخ ، وقد أقر بعض متدينيهم بالغلط الفاحش في ذلك المحل سيما فيما يرجع إلى التاريخ العام وأنه مخالف للموجود من الكتابات المنقوشة على الأحجار العتيقة جدا وغيرها من القرائن الواضحة ، وتعلل في تصحيح التوراة بأن موسى عليه‌السلام لم يقصد تاريخا عموميا للخليقة وإنما قصد ذكر عمود نسبه ، ولا يخفى أن هذا غير معقول إذ كيف يذكر عمود نسبه في تواريخ مخالفة لنفس الأمر لأنه يلزم أن يكون قائلا بأن فلانا مثلا بعد الطوفان بكذا ثم فلان بعده بكذا أو في زمن الملك الفلاني المتسلطن في تاريخ كذا مع أن ذلك الوقت ليس مطابقا لذلك التاريخ فما هو إلا عين الكذب أو الغلط المنزه عنه كلام الباري تعالى والمعصوم منه الرسول ، فلا محيص عن القول بالتحريف في التوراة التي بين أيديهم ، وإذا أضفت إلى ذلك الميزان المعقول في حساب العمران وكمية التناسل من البشر بعد الطوفان ولو على القول بعدم عمومه في سائر الكورة ، ونظرت إلى المدة التي ذكر أن إبراهيم عليه‌السلام أرسل فيها وما كان عامرا من الجهات التي لا نزاع أن الطوفان عمها ، وهي محل إقامة إبراهيم عليه‌السلام وقومه ، ومن كان معاصرا له من الأمم الذين طغوا في البلاد وتجبروا بما لهم من القوة والعدد والعدد والعلوم لا شك أنه يستحيل عندك أنهم كلهم نشأوا في مدة مائتي سنة من نسل أربعة من ألاود نوح عليه‌السلام ، وأيضا يستحيل أن تنسى وتندثر معجزة الطوفان الهائلة من عقول أمة في قرنين ، إذ يمكن أن يكون بعض من أدرك من أدركها لم يزل بقيد الحياة فكيف مع ذلك ينسى توحيد الله ويعبد إله غيره ، ولا يتأتى ذلك إلا بطول الزمان ونسيان المعجزات وانقراض العلماء ومن عاصرهم في مدة مديدة ، ولذلك لا نعتمد حينئذ على تعيين أوقات ما نتعرض له من الدول القديمة.

وإنما نقول : أن مصر قبل بعثة موسى عليه‌السلام كانت قامت فيها دول عظيمة ذات شان وقوة وعمران ، وملوكها يسمون بالفراعنة جمع فرعون وهي عبارة مصرية معناها نور الشمس ، وأول من يعرف الآن من فراعنتها هو منتر أو مصرايم ، الذي حول مجرى النيل وبنى مدينة منقيس ، ثم زادها خلفاؤه بهجة وإتقانا حتى كانت أعظم مدن الدنيا ، واتخذتها الفراعنة تختا لهم ولو بعد انقراض عائلة فرعون المذكور ، وفي مدة أحفاد المشار إليه نشأت دول أخرى صغيرة في أراضي مصر وانقسمت على ثلاثة أقسام بقي أحدها تحت العائلة المذكورة ، والأخريان تحت عائلتين أخريين ، إلى أن تغلبت على الجميع العائلة الرابعة من الفراعنة ومنها فرعون الباني للهرم الكبير الذي بالجيزة ومر ذكره ، ثم انقسمت إلى عدة أقسام كان منها العائلة الخامسة ، وتولى منها عدة ملوك أحدهم باني الهرم الثاني بالجيزة

٢٤٥

أيضا ، وكذلك العائلة السادسة وغيرها إلى الثانية عشر كلهم متفرقون على جهات من مصر ، إلى أن قهر الجميع تحت حكم فرعون أوسيرطاسن : أو سيزوستريس ، ثالث ملوك العائلة الثانية عشر ، وضم إلى ممالكه بلاد الحبشة وغيرها من السودان وانقرضت عائلته بعده بقليل ، وغاية ما يعلم أنه تداول مصر بعد ذلك عائلتان وهما الثالثة عشر والرابعة عشر ، وكان حوادثهما ليست مهمة فلم يوجد لهما وقائع شهيرة.

وأما الخامسة عشر والسادسة عشر فلهما أخبار من جهة قوة الملك والترقي في الصنائع والمعارف ، وفي آخر الأخيرة ابتدأ تسلط الملوك الرعاة على مصر وتم استيلاؤهم على قسم عظيم منها أو عليها كلها ، لكن بقي للأهليين جهة من أعالي الصعيد ملكوا عليها العائلة السابعة عشر من الفراعنة ولم يكن لها أهمية في جنب مملكة الرعاة ، وهؤلاء الرعاة يغلب على ظن محققي المؤرخين أنهم من العرب اجتازوا إلى مصر وبقوا فيها مدة طويلة ، ذوي شأن وسلطان مهيب قوي وقال بعض الأخباريين أن دخول يوسف إلى مصر كان في دولة هؤلاء الرعاة ، ولما قضي على تلك الدولة بالإنقراض كان الذي باشر قهرها فرعون «أموسيس» وانتشأت العائلة الثامنة عشر ولها عدة آثار باقية إلى الآن من المباني والصور الدالة على قوة الملك والتمدن كالمسلتين الموجودتين بالإسكندرية والقسطنطينية وكذلك الموجودة برومه ، وقال بعض المؤرخين : أن دخول يوسف عليه‌السلام إنما كان في هاته الدولة ويستدل من الآثار أن عبادة الأصنام تفاحشت في مدة تلك العائلة ، ثم استولت العائلة التاسعة عشر من الفراعنة وكان منها فرعون «سيزوستريس» المشهور عند اليونان بذلك الإسم ، وامتدت مملكته من نهر الطونة في أوروبا إلى نهر الكنك في الهند ، وأنشأ في كل مملكة افتتحها آثارا تدل عليه ، وارتقت مصر في مدته إلى غاية كبرى من المعارف والغنى ، حتى قيل إنه أول من رسم خريطة لصورة ممالكه الواسعة ، وزادت ارتقاء وفخرا وانتهت في معارف الطبيعيات والهندسة والسحر في مدة حفيده فرعون زمن موسى عليه‌السلام حتى ادعى بملكه ومعارفه الألوهية ، وكان من قصته ما هو مذكور في القرآن العظيم (١) ، ومن غريب ما يستحق الذكر أن مؤرخي مصر القدماء لم يذكروا حادثة غرق فرعون ونجاة موسى عليه‌السلام ببني إسرائيل بانفلاق البحر ، مع أنها حادثة كبرى وبناء على إهمالها أنكرها من لا دين له من متمشد في هذا العصر ، وأضافوا إلى ذلك في الإستدلال أن قبر فرعون المذكور وإسمه منفطا الثاني موجود بين قبور الفراعنة في الصعيد بالمكار المعروف بباب الملوك ، فلو كان غرق لما كان له قبر وأجاب عن هذا بعض النصارى : بأن وجود القبر لا يدل على وجود المقبور ، كما أن وجوده يمكن أن يكون قبل موت فرعون على عادة أسلافه من إحضار قبورهم مضخمة مزخرفة وهو قد هيأ ذلك وإن لم يدفن فيه ، ويحتمل أن يكون إيجاد القبر تعصبا من المصريين ، وعنادا في إخفاء الأمر الذي أحاط بهم دفعا للعار عنهم

__________________

(١) راجع القصة المذكورة في سورة القصص.

٢٤٦

في الأجيال المستقبلة ، واستدل المجيب المذكور على أن فرعون موسى هو منفطا المذكور بأن الذي ولي الملك بعده إبنته وتصرف بالنيابة عنها زوجها لأنه لم يكن له ولد سواها وابن صغير قاصر ، فدل ذلك على حدوث أمر عظيم انقرضت به عائلة الملك حتى سلموه إلى امرأة وزوجها مع أن جدهم القريب «سيزوستريس» المار ذكره ، قد ترك من الأولاد نحو عشرين فهذا الحادث الذي انقرضت به العائلة ليس هو إلا ذلك الغرق لفرعون وملائه اه. ولا يخفى أن كلا من الجواب والإستدلال غير مسلم ، أما الجواب فإن وجود القبر الأصل فيه أن يكون فيه مقبوره سيما إذا كانت عليه كتابة إسمه التي بها عرف أنه قبره وتاريخ موته فإنها لا ترسم إلا بعد وضع صاحبه فيه ، واحتمال أن المصريين أقاموا ذلك القبر على تلك الكيفية قصدا لإخفاء الواقعة في الأجيال القادمة احتمال بعيد كسابقه لا يؤثر مع الباحث ، سيما وواقعة غرق فرعون مع ملائه ونجاة موسى ببني إسرائيل بإنفلاق البحر من المعجزات الباهرة التي لا يبقى معها للمصريين عناد بعد مشاهدتها وهلاك ملكهم الذي كانوا يعبدونه ، فلا تبقى فيهم بقية يفكرون بها عن الأجيال المستقبلة ، وأين هم من هذا مع افتضاحهم لأنفسهم ولجميع معاصريهم ومن هو تحت مملكتهم من الأمم المالئين لما بين الطونة والكنك ، فهم أشغل بأنفسهم والإنقياد إلى الحق أو إلى تدارك أمرهم الدنياوي فقط في الأقل بين أعين الأمم الذين ينظرون إلى هلاك مدعي الألوهية مع أمرائه ووزرائه وجيوشه ، فكيف يخطر لهم في تلك الحالة التعمية على أجيال مستقبلة مع أن سائر معاصريهم ينقلون خلاف ذلك.

وأما الإستدلال فهو غير منتج إذ لا يلزم من تولية البنت انقراض عائلة الملك ، كيف ذلك ونحن نرى في التاريخ بل وفي خصوص تاريخ المصريين عدة نسوة صرن ملكات مع وجود العائلة ، بل ولم يزل ذلك جاريا في جهات من الأرض إلى الآن ، فلم لا تكون ولاية البنت لأن قاعدتهم كانت وراثة الملك لأكبر أولاد الملك الإناث والذكور سواء وتصرف زوجها حينئذ نيابة عنها باختيارها لا لانقراض العائلة ، وكأني أرى هاتيك التمحلات في الجواب مبنية على إهمال علم السند والرواية ، أما لو كانوا يعرفون ذلك وجرت عليه أعمال ديانتهم لما استحقوا لمثل ذلك ولتخلصوا من مهاو مهلكة ، مع أن علم السند والرواية أمر ضروري بل طبيعي لأخذ الأخبار الغائبة عن المشاهدة وإذا بنيت عليه الأحكام استقام الأمر وخلص من الغلط والغش والكذب ، وبناء على اعتبار ذلك فنحن المسلمون نقول : إن الذي نقطع بوجوده هو غرق فرعون مصر مع ملائه ونجاة موسى عليه‌السلام ببني إسرائيل بانفلاق البحر معجزة له ، أما كون فرعون المذكور إسمه منفطا أو غيره وكون مدته إلى الآن كم هي فلا علم لنا بها ولا دليل لنا عليها ، وذلك العلم حصل لنا بالنقل المتواتر (١) في

__________________

(١) الخبر المتواتر هو الخبر الصادق أي المطابق للواقع وهو الثابت على ألسنة قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب أي لا يجوّز العقل توافقهم على الكذب. ومصداقه وقوع العلم من غير شبهة وهو بالضرورة موجب للعلم الضروري ويفيد علما قطعا ويحل محل المشاهدة العينية في بعض الأحيان ، كالعلم ـ

٢٤٧

القرآن من نبينا سيدنا محمد عليه الصلاة الذي ثبتت نبوته وصدقه بالمعجزات المتكاثرة ، فإخباره لا شك في صدقه ويوافقنا على ذلك النقل المتواتر من أمة بني إسرائيل منذ حصول الحادثة ممن شاهدها منهم ، وهم أمة عديدة يستحيل تواطؤهم على الكذب إلى من بعدهم منهم ومن غيرهم نقلا عنهم جيلا بعد جيل على تلك الصفة إلى الآن ، وعدم ذكر الواقعة في تواريخ علماء ذلك العصر لا ينفي وقوعها لأن السكوت عن الشيء ليس بنفي له ، وهناك حامل على عدم الذكر لأن المؤرخ إنما يكون من علمائهم الذين هم أشد مضادة للديانة ، وإذا شاهدوا شيئا مثل ذلك ولم يجدوا وجها للقدح فيه وتخريجه على ما يلائم منهجهم يسكتون عنه على أنه مندمج في زمرة ما نسبوه إلى أعمال القادحين فيه التي ينسبونها إلى نوع من الباطل عنادا أو جهلا والعياذ بالله ، وإني لا أعجب من إنكار ذلك من غير ذوي الديانات من أهل العصر وإنما أعجب من إنكار النصارى واليهود الآن معجزة لنبينا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي انشقاق القمر مستدلين على إنكارهم بمثل ما استدل عليهم في إنكار واقعة الغرق من عدم ذكرها في التواريخ ، مع أنهم يجيبون بمثل ما تقدم ونحن نقول : إن معجزة إنشقاق القمر ثبوتها أبين وأمرها أوضح ، وذلك أنها وقعت ليلا بعد مضي حصة منه لأن القمر كان ليلة البدر أي الرابعة عشر وهو في كبد السما كما تشير إليه روايات البخاري : «من أن نصفه بقي ظاهرا فوق الجبل ونصفه غاب وراءه (١) ، والروايات وإن اختلف لفظها فهذا مدار معناها ، ثم أن الحصة في انشقاقه لم تطل وعاد لما كان عليه ، ولا ريب أن حوادث السماء لا يشتغل بها العموم دائما إلا إذا حدث العلم من قبل بها فتلتفت إليها الأنظار أو تقع بحسب الصدفة سيما الأمر الذي لا يطول زمانه ، مثل بعض الشهب المؤثرة للضوء القوي أو غيرها مما لا يطلع عليه إلا أفراد صدفة ، ولا يعلم بخبره في جميع الجهات والآفاق وإن ذكره بعض الناس ، فلا يثبت عند علمائهم المؤرخين لعدم تيقنه عندهم ، لعدم ثقتهم بأخبار الأفراد القليلين فلا يكون سكوتهم دليلا على عدم الوجود ، على أن وراء ذلك ما هو أوضح ، وهو أن الممالك المتمدنة إذ ذاك الحاوية للعلماء المؤرخين الذين يمكن لهم رؤية القمر عند استقامته في كبد السماء في مكة المكرمة إنما هم سكان ما بين شطوط المغرب إلى مبادىء جبال هملاي ، أما أهالي أوروبا فلم يكونوا إذ ذاك من أهل المعارف والتدوين سوى جهاتها الجنوبية من بقايا الرومان ، وأما الصين وشمال آسيا الشرقية فلا يرون القمر إذ ذاك لغروبه عندهم أو قرب غروبه في ضوء النهار ، فهم وإن كانوا إذ ذاك متمدنين وعلماء لكن ذلك غير مرئي لديهم ، ثم أن الممالك المذكورة التي يمكن لهم رؤية القمر إذ ذاك هم في أنفسهم مختلفون في الوقت ، فيكون الوقت إذ ذاك عند

__________________

ـ بالملوك الخالية في الأزمنة الماضية والبلدان النائية.

والخبر إذا بلغ حد التواتر يعلم مضمونه قطعا من غير ملاحظة لصدق الخبر ولا معرفة ببلوغه حد التواتر بالفعل فضلا عن استحصال ذلك العلم منهما.

(١) الحديث في صحيح البخاري برقم (٣٨٦٩).

٢٤٨

الهنود بعد نصف الليل ، وعند المغربيين عند غروب الشمس أو ما قارب ذلك في كل من المكانين ، وهاتيك الأقطار ما مضى عليها من وقت انشقاق القمر نيف وعشرون سنة إلا وقد أدخل خالد بن سنان قائد جيش المسلمين في المغرب قوائم فرسه في المحيط الغربي ، وقال : «ليس لي وراء هذا ما أفتحه ، وقد بلغت فتوح الجيوش الإسلامية في الشرق إلى بخارى وسمرقند وأفغانستان وسائر تلك الجهات فعلماء هاته الأقطار عند الفتح الذي كان بقرب انشقاق القمر لأن الإنشقاق كان في السنة الخامسة قبل الهجرة والفتح ، ثم في مبدأ خلافة سيدنا عثمان كانوا على قسمين : منهم من آمن وهو الأغلب ، ومنهم من بقي على دينه.

فأما من آمن وألف فقد روى مثل سائر المسلمين الإنشقاق إما لرؤيته أو لرؤية أحد ممن يثق به من أهل وطنه مع التأييد بالرواية المستفيضة والتواتر القطعي من الصحابة الذين شاهدوا ذلك وعلموه ونقلوه بالكلام الذي يتعبدون بتلاوته ولا يرتابون في حرف منه ، وكذلك صار نقل كل من آمن من سائر تلك الأقطار ، ولهذا تواتر النقل بغير ذكر سند واقتصر ذكره على كيفية الوقوع وهو أيضا بالغ مبلغ التواتر مع أن الأصل ثابت بغير احتياج للسند كما في سائر التواترات ، لأنه إذا قال قائل أن الكعبة في مكة المشرفة فلا يقال له عمن تروي هذا لأنه قطعي معلوم بالضرورة ، وكذلك نقل الإنشقاق لأنه متواتر بالقرآن في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١].

وأما القسم الثاني من علماء تلك الأقطار الذين لم يؤمنوا ، فإنهم لما تحقق عندهم ما تقدم عند المسلمين فمن ثبت ذلك عنده منهم من قبل لا شك أنه يضرب عن ذكره في تاريخه لأنه يكون حجة عليه ، وهو يتأول في وقوعه بما تشير له الآية الكريمة فهو حريص على عدم إثباته بالمرة ، لكنه لما عارضه النقل القطعي سكت عنه ولم يتعرض له بنفي ولا إثبات ، وإلا فما بالهم لم يذكر أحد منهم أن ذلك الزمان قد كان فلان وفلان يرصدون القمر أو السماء ولم يروا ذلك الحادث مع أنهم حريصون على ذكر كل قادح في الدين ، فكان سكوتهم في الحقيقة هو نفس الإقرار بالوقوع ولا يتخيل مع ما ذكرناه أن مجرد السكوت عنه حجة في عدم الوقوع والحال ما ذكرناه ، ويتأيد هذا بالممالك التي بقيت لم تفتح وكان فيها بقية من التمدن وهي يمكن منها رؤية الإنشقاق مثل بقية مملكة الرومان الشرقية والغربية ، فإنهم لما تقلص ظلهم في تلك المدة القريبة بدولة ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان من معجزاته انشقاق القمر وهم على دين النصرانية ، وثبت ذلك عندهم قطعيا ممن فتحوا أقطارهم وعلموا أن ذلك الإنشقاق حجة لخصمائهم ، فعلى تقدير أن يكونوا رأوه وأثبتوه في بعض تواريخهم عند وقوعه فلا يبعد أن أضربوا عنه بعد بلوغ قصته إليهم ، لكي لا يكون حجة عليهم ولإبعاد إثباته عند من يأتي من قومهم ، سيما والملوك إذ ذاك تحت الإنقياد للقسوس وكبراء الديانة ، فربما أنهم منعوا من ذكره كما يمنعون سائر ما يضر بدياناتهم ، فها هنا يأتي مثل هذا التعليل الذي مر ذكره عن بعض النصارى في شأن غرق فرعون ، وهو هنا على نحو ما أوضحناه أبين وأمكن ، فلذلك قلنا باشتداد عجبنا من

٢٤٩

إنكارهم له ، ولا يقال : لعلهم أنكروه واستندوا إلى عدم ذكره في التواريخ من حيث وقوع الخلاف في وقوعه ، حتى عند المسلمين ، لأن رواية أحاديثه لا تخرج عن الأفراد والآية المارة ، قد قال بعض المفسرين فيها : «إن الفعل الماضي وضع موضع المستقبل تحقيقا لما سيقع ، فلا يكون هناك النقل بالتواتر للوقوع بالفعل»؟

والوجه في سقوط ذلك بديهي عند من تضلع بالفنون الشرعية وبيانه : أنا قدمنا أن الأحاديث المروية في الصحاح إنما هي في بيان الكيفية والأسباب ، أما أصل ثبوت الواقعة فإنه منقول تواترا محققا لأن مدار جميع الروايات البالغة حد التواتر على إثبات الوقوع فليس هي من الآحاد وكذلك صريح القرآن قطعي فيه ، وما ذكره بعض المفسرين ليس هو من كلام أحد من الأمة إذ لا خلاف عندنا في ذلك ، وإنما هو من كلام بعض الملحدة والمريدين لإدخال الشبهة كيفما كان الحال على المسلمين ، وإن نسب القول بذلك لأحد الأمة فإنما هو من التزوير والبهتان حيث لم يثبت بطريق الرواية الصحيحة عن الثقاة نسبة قول ذلك لأحد علماء الأمة ، ولذلك لا ترى كل من نقل ذلك من المفسرين إلا وقال أثره ويرده قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) [القمر : ٢ و ٣] الآية فإنه إذا كان المعنى سينشق القمر لا يكون لقوله «يعرضوا» الخ من معنى ، لأن ذلك الزمن الآتي ليس فيه من مدع لمعجزة حتى ينسبوها إلى السحر ، وأيضا قوله تعالى : «وكذبوا» نص صريح في تكذيبهم بأن انشقاق القمر معجزة وإنما نسبوه إلى السحر ، وقد جاءت قراءة وقد انشق القمر بزيادة التأكيد للماضي ، ولهذا نقل الإجماع غير واحد على أن الإنشقاق قد وقع وأنه لا خلاف بين المفسرين في ذلك ، وكذلك الروايات في الوقوع قد قال الواقدي (١) إنها متواترة بالقطع ، وبه صرح القاضي عياض وغيره من ممارسي الرواية والحديث ، وقال القاضي عياض أيضا ، ما معناه : أن من يدعي عدم التواتر في ذلك إنما هو الجاهل كمن يغمض بصره ويقول ما لي لا أرى الضوء» (٢) وكذلك هذا فإن المعرضين عن الإطلاع على الحديث والسير هم الذين لا يعرفون تواتر الرواية في ذلك زيادة عما قدمنا من صراحة القرآن فيه وإجماع الأمة على تفسيره بما لا يحتمل تأويلا ولا شبهة ، ولم يقل أحد خلافه سوى دسيسة الملحدة المذكورة مما لا يروج على عالم ، وكان نقل كثير من المفسرين لها للرد عليها هو الذي صير لها ذكرا ، والحق أن كثيرا من المتأخرين الذين فسروا لم يراعوا حق القرآن في تنزيه تفسيره عن سفاسف الأقوال مما هو مردود بالبداهة وأصول العقائد والإجماع كما وقع في هاته الآية ، مما جعل للقول ذكرا وإن لم يكن له من أساس ولا سند ، ولا عجب لإلحاد الملحدين ودسائسهم في المعاني بما استطاعوا ، بل أنهم طمعوا حتى في الألفاظ وأرادوا

__________________

(١) هو محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي المدني ، أبو عبد الله الواقدي (١٣٠ ـ ٢٠٧ ه‍). من أقدم المؤرخين في الإسلام ، حافظ للحديث. ولد بالمدينة وولي القضاء ببغداد واستمر إلى أن توفي فيها. الأعلام ٦ / ٣١١ تذكرة الحفاظ ١ / ٣١٧ ، تاريخ بغداد ٣ / ٣ ـ ٢١ وفيات الأعيان ١ / ٥٠٦ ميزان الإعتدال ٣ / ١١٠ والفهرست لابن النديم ١ / ٩٨.

(٢) انظر الشفا ١ / ٢٨٠ وما بعدها.

٢٥٠

أن يدخلوا عليها الشك والتحريف مع العلم القطعي بتواتر كل حرف من القرآن في محله ومرور ألف وثلاثمائة سنة وعشر سنين عليه ، ولم يقع الشك فيه ولا راج التشكيك على أحد من الأمة من عامتها فضلا عن علمائها ، ومن هذا القبيل ما رأيته عند كتبي لهذا المحل في تأليف جديد للغوي أحمد فارس سماه «بالجاسوس على القاموس» فهو وإن كان في بابه من جهة اللغة حسن الموضوع ، لكن لما كان صاحبه غير متضلع بالعلوم الشرعية اغتر وراج عليه ما يذكر في بعض كتب أدبية لذوي مجون متمخرقين بذكر ما يرونه من الطرف والظرائف لتقضية الوقت والتزلف لدى جهال الأمراء ، حتى قالوا إن بعض كلمات القرآن الكريم وقع فيها التحريف واختلاف الرواية في القراءة بسبب عدم وجود الشكل والنقط في الأحرف العربية في الزمن القديم ، وعدوا من ذلك جملة ألفاظ حتى قال أن منها : أناثا قرىء أوثانا وقضى قرى وصى ويئس قرى يتبين وعباد الرحمن قرىء عند الخ ، ولولا التحامل المقصود لهؤلاء لما صح لهم ذكر ذلك وإلا فأي ذي عقل يقول إن أحرف الكلمات المذكورة يشتبه بعضها ببعض حتى يقرأ على ما ذكر ، فمن أين أتت الواو في أناثا حتى صارت أوثانا وكيف يشتبه القاف بالواو في وضى ، ومن أين أتت الألف في عند حتى صارت عباد ، وهذا كاف في بيان التمشدق. وإلا فالحقيقة أن القراآت السبع كلها متواترة بإجماع أهل الملة والدين كما نص على ذلك علماء أصول الفقه وأصول الدين وسائر القراء ، وإذا قال أحد مدعي العلم في عصرنا أن التواتر يحصل به العلم العام فما لي لم يحصل لي حتى الظن بذلك فضلا عن العلم؟ فنقول : إن ذلك من الجهل المركب وذلك لأن المراد بكون التواتر محصلا للعلم إنما هو عند من علم التواتر وعند أهله أي أهل موضوع التواتر لا عند جميع الخلق ، ومثاله سهل جدا فإنك إذا سألت أحد أهل السياسة وعلماء الجغرافية عن وجود بلد تسمى استكهولم أجابك حالا بأنها موجودة قطعا وأنها تخت مملكة السويد وأنه لا يرتاب في ذلك مثل ما لا يرتاب في وجود نفسه ، فإذا أتيت لجمهور علماء الجامع الأزهر وعلماء جامع الزيتونة وعلماء جامع القرويين وغيرهم من عمد علماء الدين وسألتهم عن تلك البلاد لا تجد عند أحد منهم شعورا بها ولا يجيبك إلا بأني لا أعلم لهذا الإسم من موضوع ، فهل يكون عدم معرفة الجمهور العظيم من علماء الشريعة قادحا في وجود تلك البلاد أو في خروجها عن كونها تختا لتلك المملكة بثبوت التواتر لمن لم يشاهدها من أهل العلم بذلك كلا ، فكذلك لا يكون جهل جميع الجاهلين قادحا في وجود التواتر بالقراآت السبع ، بل قال جمع من الأصوليين : إن القراآت العشرة متواترة فضلا عن السبع ، وإذا كان كذلك فلم يبق محل لدعوى التصحيف أو التحريف في تلك الكلمات وأشباهها مما ثبتت به القراءة ، وإنما جاء ذلك من التشديق الذي لا اعتبار له سوى التسويد في الكتب لينقل عنه من يرى أن العلم كاف فيه وجوده في كتاب مسود وسيأتي لهذا الموضوع مزيد بيان في الخاتمة إن شاء الله تعالى ولنرجع إلى تاريخ مصر فنقول :

إنه من عهد منفطا وإبنته لم يوجد في التاريخ شيء معتبر من أحوال مصر سوى استيلاء عائلات أخرى للملك إلى أن بلغت إلى العائلة الثانية والعشرين ، فكان منها فرعون

٢٥١

«شيشق الأول» الذي حارب ملك الشام وهو ابن سيدنا سليمان عليه‌السلام وفتح مملكته وبقيت تحت حكمه ، وصور فتوحه على هيكل الكرنك وكتب عليه بالنقش بحروفهم مملكة يهوذا في قبضتي ، ثم خرجت عليه الشام وحاربها إبنه وانكسر ثم لم يكن لوقائع مصر من أهمية إلى أن استولت عليها العائلة الخامسة والعشرون ، وهي من ملوك الحبشة وأولها فرعون «سباقون» وصارت من هاته العائلة عدة ملوك وحاربوا ملوك أشور التي كانت مملكتهم بين الفرس والشام وعظمت مملكة مصر في أيام تلك العائلة حتى اتحدت بالحبشة وغالب أفريقية وصار فيها تمدن عظيم حسبما دلت عليه الآثار ، ثم انقرضت الدولة وانقسمت المملكة المصرية إلى إثني عشر قسما ثم اتحدت تحت العائلة السادسة والعشرين وأولها فرعون «أبساميس» وترقت المملكة في أيامه وكان فيها ابتداء استعمال الحروف الأبجدية في الكتابة عوضا عن الكتابة بالصور التي كانت مستعملة سابقا كل صورة علامة على كلمة ، ومن مدته ابتدأ التثبت في التاريخ المصري وانجلى حاله نوعا ما عما كان من قبل في إثبات الزمن ، فكانت ولاية المذكور سنة ٦٦٤ قبل الميلاد ، وكان خلط بمعارفهم معارف اليونان وكثرت بينهم الخلطة ثم استولى إبنه وفتح بعض آسيا ومنها بابل وأراد وصل النيل بالبحر الأحمر ولم يتمه وخرج عنه أيضا بعض ما فتحه في آسيا كملك الشام ، ثم استولى عدة من ذريته إلى أن فتح مصر بخت نصر وقتل فرعونها وأولى عليها أحد أعيانها فخالف عليه فحاربته مملكة فارس وتغلبت على جميع البلاد وصارت مصر ولاية فارسية حدثت فيها عدة ثورات من الأهالي لإنقاذ أنفسهم من الفرس ولم تغن شيئا ، ونهاية خروج مصر من يد أهلها كان في حدود سنة ٣٥٨. قبل الميلاد ولم يتولاها أحد منهم إلى الآن بل كانت سائر دولها من المتسلطين من خارج ، ثم بقي بعد تلك الثورات استقرار ملك فارس إلى أن ظهر اسكندر المقدوني اليوناني وشرع في الفتوح فافتتح مصر وجعل قاعدتها الإسكندرية كما مر ، وكان فتوحه سنة ٣٣٢ قبل الميلاد ، ثم استولى عليها بطليموس الأول من اليونان أحد قواد الإسكندر عند اقتسام ممالكه بعد موته وانتشأت الدولة البطليموسية التي تحفظت على ما أمكن لها معرفته من علوم قدماء المصريين وزادت بمعارف اليونان ، وقد فتح بطليموس المذكور الشام وجعله ولاية مصرية وأهلك من اليهود ما أبقاه بخت نصر حتى لم يبق منهم إلا القليل النادر من الرعاع ، ثم لما تولى إبنه أعتق من وجده منهم وردهم إلى بيت المقدس مكرّمين وهو الذي أمر بترجمة التوراة من سبعين رجلا من الهيود العارفين باللغة اليونانية فترجمها كل منهم بانفراده وقوبلت التراجم مع بعضها واستخرج من الجميع نسخة واحدة وهي المعروفة الآن بالسبعينية ، ومع ذلك فهي مخالفة الآن للعبرانية والسامرية وكأن السبعينية أقل تحريفا للإتفاق عليها إذ ذاك ، وكان تحت مصر إذ ذاك تونس وطرابلس وكثير من جزيرة العرب والشام وكثير من جزائر اليونان ، ثم تولى بطليموس الثالث وزاد في الفتوح إلى أن دخل أواسط آسيا ثم تولى الرابع وقتل اليهود في سائر ممالكه شر قتلة وكان بطشا ، وتولى بعده ذريته ولكنهم لم يكن لهم من تقدم أجدادهم سوى إسم الملك أما الأعمال فهي قهرية استبدادية شهوية سنة الله في انقراض الدول ، حتى استولت منها امرأة ذات جمال فائق وإسمها كليوباتر فعاثت في البلاد والعباد وضعف ملكها فقصدها أمبراطور الرومان بالحرب وأرسل لها جيشا ولكنها لما اجتمعت

٢٥٢

برئيس جيوشه شغفته حبا حتى تزوجها بعد أن كانت تزوجت أخويها واحدا بعد آخر ، ثم أقام معها رئيس الجيوش إلى أن أرسل إليه جيش آخر وقتل في المعركة ولما أيست الملكة من النجاة مكنت حية قتالة من ثديها فنهشتها وماتت وقد رأيت صورتها في عدة أماكن من أوروبا والحية في ثديها ، وكان بذلك انقراض دولة اليونان عن مصر وابتداء استيلاء الرومان عليها ، فلم تزل ولاية رومانية يلقب واليها بالمقوقس (١) له إطلاق التصرف إلى أن جاءت البعثة وخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الملوك بالدعوة إلى الإسلام فكان من الملوك المخاطبين منه عليه الصلاة والسلام المقوقس.

ونص الكتاب الذي بعثه إليه.

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم القبط (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] اه.

فأجابه بالعربية بما نصه : «بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا قد بقي وكنت أظن أن يخرج من الشام وقد أكرمت رسولك وبعثته إليك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام» (٢).

فلم يكن فيه إجابة ولا إنكار وإنما هو يومي إلى قرب الإجابة.

ثم فتحت مصر في خلافة سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه سنة ٢٠ ه‍ على يد عامله سيدنا عمرو بن العاص في جيش عدده ثمانية آلاف ، وأمده الخليفة بأربعة من أسود الصحابة قال إن الواحد منهم في مقام ألف ، فتلك إثنا عشر ألفا ولن يغلب إثنا عشر ألفا من قلة وتمادي الفتح منها لبقية أفريقية ، وحيث كانت أخبارها إلى العائلة المحمدية العلوية مبسوطة في التواريخ لا يمكن استيعابها نقتصر هنا على ذكر الدول وسنينها وملاحظات في صفتها في جدول خاص.

هذا وأما بقية الملحقات السودانية وهي القسم الجنوبي من النوبة وما يليه جنوبا من بقية السودان وقاعدة ملكهم تسمى سنار بإسم المملكة ، فغاية ما يعلم من أحوالها أنها قبل الهجرة بنحو ٣٧٣٥ سنة كان يسكنها قوم من الزنج لا تعرف أحوالهم ، ثم وردت عليهم طائفة الكوش من العرب وحصلت بينهم وبين المصريين وقائع اضطرت المصريين إلى إقامة

__________________

(١) المقوقس : إسم أطلقه العرب على كورش وزير حاكم مصر البيزنطي وبطريرك الإسكندرية لما فتح عمرو بن العاص مصر (٦٣٩ ـ ٦٤٢) المنجد ص (٦٨٠).

(٢) انظر طبقات ابن سعد ١ / ٢٠٠.

٢٥٣

قلاع في الحدود وتقلص ظلهم عما كان لهم في النوبة من النفوذ ، ثم تسلط أهل سنار العرب على مصر وهم الرعاة ثم خرجت عنهم كما سبق ذكره ، ثم دخلت في أهالي سنار وغيرهم الديانة النصرانية في القرن الرابع من الميلاد ، ثم في القرن الأول الهجري افتتح العرب هاتيك الجهات وبقيت على الإستقلال بإدارتها سوى التبعية الدينية للخلافة إلى سنة ٨٨٩ ه‍ ، فأقبلت قبيلة تسمى الفنج أو الفون ولا يعرف من أين أتت فتغلبت على تلك الجهات وتملكتها وكانت على الديانية الوثنية ، ثم أسلمت وصار منها علماء أجلة في عدة مدن وارتحل منها طوائف إلى قواعد الإسلام لأخذ العلوم فبرعت منهم فحول ، وكان ملكهم من أقوم ملوك الإسلام إلى أن حدث فيهم التنافر الداخلي والإنقسام وتماروا فيما بينهم فجعلوا بذلك وسيلة لجارهم في التسلط عليهم ، فاغتنمها محمد على باشا فرصة واستولى على جميع سنار بعد استيلائه على النوبة سنة ١٢٣٦ ه‍ أما شطوط النوبة الشرقية أعني ما كان منها على البحر الأحمر فإنه كان في أغلب الأوقات تابعا لمصر حتى بعد الفتح الإسلامي ، وعندما افتتحت الدولة العثمانية مصر بقيت هاته الجهة تحت إدارة خاصة بها تابعة للدولة إلى سنة ١٢٤٣ ه‍ ففوضت إدارتها إلى محمد علي وجعلت جزأ من الممالك المصرية وألحقت بها أيضا بلدة أنصبا وملحقاتها التي كانت تابعة للحبشة فاستولت عليها مصر شيئا فشيئا ، وأما دارفور فغاية ما علمت من تاريخها أنها كانت من الممالك الإسلامية القديمة وأهلها من أخلاط السودان والعرب ، وآخر عائلة من ملوكها عربية سودانية يسمى أولهم السلطان عبد الرحمن توفي سنة ١٢١٨ ه‍ وانتقل الملك في أبنائه إلى أن تغلب على المملكة إسماعيل باشا سنة ١٢٩١ ه‍.

وأما زيلع وغيرها من بقية جهات السودان على شطوط أفريقية الشرقية ، فحاصل ما بلغت إليه أنهم قوم من العرب اجتازوا إلى هناك من قبل الإسلام ، ثم أسلموا في صدر الإسلام ولما استولت الدولة العثمانية على اليمن وغيره من جزيرة العرب وأفريقية دخلت تلك الممالك أيضا طوعا في طاعة الدولة ، ولم تزل مجرية لهم عوائدهم ولها الحكم السياسي ، إلى أن ألحقت ذلك بمصر بمقتضى فرمان منحه إلى إسماعيل باشا وورثته وذلك نسة ١٢٩٢ ه‍.

وأما بلاد النوبة فكانت قديما مشمولة بما ذكرناه في سنار إلى أن استقر الإسلام بمصر فبقي أهل النوبة على الشرك ، حتى أنه في زمن المأمون (١) لما قدم إلى مصر اشتكى إليه ملك النوبة من عامل أسوان وأهلها بأنهم ملكوا أراضي في بلاده بالشراء من أناس والحال أنهم أي البائعين عبيده ، فأحال فصلهم على قاضي أسوان ولم يقر البائعون بالرق فضغن عليهم ملك النوبة وبطش بهم ، ثم صار التعدي متواليا من النوبيين على أهالي مصر وكلما

__________________

(١) هو عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور ، أبو العباس (١٧٠ ـ ٢١٨ ه‍).

سابع الخلفاء من بني العباس في العراق. أخباره كثيرة. توفي في «بذندون» ودفن في طرسوس. الأعلام ٤ / ١٤٢ تاريخ بغداد ١٠ / ١٨٣ الكامل في التاريخ ٦ / ١٤٤ وفوات الوفيات ١ / ٢٣٩.

٢٥٤

أغاروا وجه لهم حاكم مصر رادعا ليذعنون ثم يعودون إلى زمن صلاح الدين بن أيوب (١) ، فالتجأ إليه ابن أخ ملك النوبة مستنصرا على عمه فأعانه وأولاه ملك النوبة وضرب عليه خراجا وألحق بمصر نحو الربع من النوبة ، ثم لما ملكت الدولة العثمانية استقلت النوبة وكانت حدودها عند مصر مأوى للأمراء أصحاب الفتن ، فيلجؤن إليها إلى أن استولى محمد علي فاستولى على جميع النوبة وغيرها ، وصار أغلب أهلها مسلمين ودونك جدول حكومات مصر منذ الفتح الإسلامي :

جدول حكومات مصر

التاريخ من

أسماء الحكومات

ملاحظات

الهجرة

٢٠

سيدنا عمرو بن العاص وخلفاؤه

عمال للخليفة من الخلفاء الراشدين ثم الأمويين ثم العباسيين

٢٦٤

أحمد بن طولون وذريته

سلطان مستقل بالإدارة خاضع إلى الخليفة العباسي تدينا

٢٩٢

عمال العباسيين

مثل سائر العمال

٢٩٣

الدولة الأخشيدية ومنها كافور الأخشيدي

سلطان مستقل يدين بالتبعية للخلافة العباسية

٣٥٨

الدولة الفاطمية أولها المعز بن المهدي

خلافة مستقلة على مصر وسائر المغرب

٥٦٧

الدولة الأيوبية وأولهم استقلالا صلاح مستقلين وتملكوا الشام وغيره وصلاح الدين وآخرهم شجرة الدر

الدين هو فاتح بيت المقدس من أيدي الإفرنج وصاحب الوقائع الشهيرة في حرب الصليب وفي مدتهم انتقل الخليفة العباسي إلى مصر سنة ٦٥٩ وهو صوري فقط

٧٨٤

دولة الجراكسة أولهم المعز أيبك زوج شجرة الدر المذكورة

مستقلين خاضعين لخليفة عباسي بالإسم شجرة الدر المذكورة

٩٢٢

الدولة العثمانية وعمالها ومنهم المماليك

عمال لآل عثمان لهم إدارة مختارة فوضى ١٢١٣

١٢١٣

الفرنساويون

تغلب نابليون الأول وبقي إلى أن أخرج بسيف الدولة العثمانية وإعانة الإنكليز.

__________________

(١) هو يوسف بن أيوب بن شاذي ، أبو المظفر ، صلاح الدين الأيوبي ، الملقب بالملك الناصر (٥٣٢ ـ ٥٨٩ ه‍) من أشهر ملوك الإسلام. ولد بتكريت. أخباره كثيرة. توفي في دمشق. الأعلام ٨ / ٢٢٠.

وفيات الأعيان ٢ / ٣٧٦ طبقات الشافعية ٤ / ٣٢٥ الدارس في تاريخ المدارس ٢ / ١٧٨ ـ ١٨٨ مرآة الزمان ٨ / ٤٢٥ شذرات الذهب ٤ / ٢٩٨.

٢٥٥

مطلب في تاريخ مصر الجديد

لما استولى الفرنسيس على مصر وكان قاصدا التوصل من هناك إلى إفتكاك الهند من الإنكليز لما كان بينهم من الحروب والعداوة بل وكانت سائر أوربا إذ ذاك ضدا للفرنساويين حسبما تقدم ذلك في محله ، فحينئذ عاضدت إنكلاتيره الدولة العثمانية على حرب فرنسا وأخرجاها من مصر سنة ١٢١٦ ه‍ وبعد استقرار أمرها للدولة استولى إمارتها محمد علي باشا الذي أصله من الأرناؤط وقدم عسكريا مع عساكر الترك لأخذ مصر من الفرنسيس ، وكان كامل الأوصاف للرياسة فتقدم إليها بنفسه على بني جنسه وإنقاد له الجميع وقررت ولايته الدولة على دفع خراج معلوم سنويا وذلك سنة ١٢١٩ ه‍ فوجد مصر في نهاية درجة الفقر والبربرية والجهل بل حتى أن الأمراض الوبائية من الطاعون قد تمكنت فيها وصارت عادية تفني من الناس سنويا خلقا كثيرا حتى قل العمران ولم يبق من مآثر تقدم المصريين سوى الإسم في التواريخ ، نعم وجد للعلوم الشرعية بقية آثار في الجامع الأزهر من العلماء ، وذلك كله لما مر عليها من تقلبات الدهر والظلم والجور والإستبداد والحروب في الأيام الخالية ، فشمر عن ساعد الجد ووافقه البخت وفتح لمصر عصرا جديدا ، فنظم فيها جيشا نظاميا من أهلها ورتب الأداء على الأهالي على قانون غير مجحف ، وألزمهم بتعمير الأرض وفتح الترع وأنشأ المدارس العلمية للعلوم الرياضية والحربية ، وأحضر المعلمين من أوروبا ، وأحيا المارستانات وألزم الأهالي بالنظافة وتوسيع الطرقات والبناآت وأرسل التلامذة إلى أوروبا لتعلم الفنون وأحيا نمو العلوم الشرعية ، وسهل أبواب التجارة وأنشأ معامل السلاح والسفن وترجمت الكتب النافعة في فنون شتى من لغات شتى إلى العربية ، فنشأ في مصر جيل جديد وعصر جديد بسطت فيه طرق العمران والتمدن والقوّة في مدة يسيرة ، فافتتح النوبة وسنار واستولى على الشام والحجاز وافتكه من الوهابي ، بل امتد بالإستيلاء إلى قرب الآستانة في الأناطولي وخشيت شوكته من عصيانه على الدولة العثمانية ، فتعصب الإنكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها وفي الباطن خشية من انتشاء دولة إسلامية شابة ذات قوة مثل تلك ومركزها مصر فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح قوّة الإنكليز سيما إذا عاضدته إحدى الدول الأوروباوية مثل فرنسا ، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على ضعف شديد من حرب الروسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك فقهروا محمد علي ولكن لإتمام مقصد إنكلاتيره لم تسمح للدولة بالإستيلاء التام على مصر ، لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضا ، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه استقلال ليضعف كل من الجهتين ، وبقي محمد علي واليا على مصر على أن تكون الولاية في ذريته من أكبر إلى أكبر ويؤدي خراجا سنويا للدولة ويعينها عند وقوع حرب معها بالعساكر الذين يبلغ عددهم الأربعين ألفا ، وكذلك يعينها بالسفن ، وأن الرتب العالية في مصر يعين هو أصحابها وتوليهم الدولة والسكة والخطبة تكون بإسم السلطان العثماني والعلم عثماني أيضا ، وخرج الحجاز عنه إلى الدولة وكذلك الشام ، وبقي

٢٥٦

على ذلك إلى أن ضعف بالسن فتنازل عن الولاية لابنه الأكبر وهو رئيس جيوشه وحروبه إبراهيم باشا (١) سنة ١٢٦٥ ه‍ وكان على قدم أبيه وتوفي تلك السنة فتولى بعده ابن أخيه عباس باشا بن طوسون بن محمد علي (٢) سنة ١٢٦٥ ه‍ فأخذ عنفوان التمدن في شيء من الإنحطاط لصرف المداخيل في الشهوات ، لكنه أحدث شيئا من المنافع كبعض طرق الحديد والسلك الكهربائي وأحكم الصلة مع الدولة العثمانية ثم توفي سنة ١٢٧١ ه‍ وولي بعده سعيد بن محمد علي فزاد انحطاط التمدن واتسع خرق الإسراف ومنح لجمعية لسبس الفرنساوية فتح خليج السويس وكثر الدين على الحكومة ثم توفي سنة ١٢٨٠ ه‍ وولي إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا فأعاد عصر التمدن والمعارف واتساع القوّات البرية والبحرية ، وشدد الإلتحام بفرنسا وإنكلاتيره بما جعله آخذا طريق الإستقلال بالمرة عن الدولة العثمانية ، وصادف أن كان في أيام ولايته حصلت حرب أمريكا المتحدة في بعضها فانقطع منها جلب القطن إلى إنكلاتيره واشتد طلبه من مصر ، وحصلت فيها ثروة لم تعهد مع امتداد طرق الحديد إلى جهات شتى وإلى السودان ثم تم فتح خليج السويس في مدته ، ودعى له ملوك أوروبا فحضر له كثير منهم كأمبراطور أوستريا ، وأمبراطورة الفرنسيس زوجة الإمبراطور نابليون الثالث من غير توسط الدولة العثمانية مما زاد الشبهة في دعوى الإستقلال ، لكنه كأنه تحقق من زائريه أن المقصد لا يتم له فتغيرت سيرته من وقتئذ وعاد لمصافاة الدولة العثمانية ، وقد قدم إليه السلطان عبد العزيز بنفسه إلى مصر وإلى مقره في الآستانة وحصل منه على فرمان امتياز بانحصار الوراثة في خصوص بنيه من أكبرهم إلى إبنه الأكبر وهكذا ، وزاد في الخراج للدولة وأخذ منها مملكة زيلع وفتح دارفور وكردفان وغيرها من السودان ، وزادت المعارف كلها شعشعة في أيامه ، وأنشأ المحاكم المختلطة بمصر لمنع حكم القناسل ، وأنشأ مجلس النواب عن الأمة لكنه صوري ، وكذلك مجلس الوزراء ، إلا أن الكل تحت أمره وحده ، لكن ازداد الدين على الحكومة بكثرة المصاريف الداخلية في إنشاء القصور وغيرها كالترع والطرق وبكثرة المصاريف للدول لتحصيل مطلوبه منهم مما ذكرناه ، وافتقر الأهالي من الظلم وأخذ أموالهم بالضرب وغيره لحد غير معلوم ، ومع ذلك لم تقدر الحكومة على الوفاء بفائض الديون الأوروباوية وجعلت تزيد في القرض إلى أن توقف المقرضون عنها فتداخلت الدول في حفظ أموال رعاياهم ، وأنشأوا وزارة فيها

__________________

(١) هو إبراهيم «باشا» بن محمد علي «باشا» (١٢٠٤ ـ ١٢٦٤ ه‍) من ولاة مصر. ولد في «نصرتلي».

تعلم في مصر. زار الأستانة. ومرض بعد إيابه فتوفي بمصر. الأعلام ١ / ٧٠ دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٤١ ـ ٤٥.

(٢) هو عباس «باشا» بن طوسون بن محمد علي (١٢٢٨ ـ ١٢٧٠ ه‍). ثالث الولاة من أسرة محمد علي بمصر. ولد بجدة ونشأ بمصر. تولى الحكم بعد وفاة عمه إبراهيم باشا. في أيامه أنشئت المدرسة الحربية بالقاهرة ونفى السحرة والدجالين والمشعوذين إلى السودان. اختلفوا في حقيقة مقتله ، ومنهم من يتهم به السلطان عبد المجيد. الأعلام ٣ / ٢٦١ النخبة الدرية (١٨).

٢٥٧

وزير إنكليزي للمال ووزير فرنساوي للأشغال العامة ، وتحرش الوزراء غير الأجنبيين حينئذ في عدم الإذعان لمجرد إرادة إسماعيل باشا وتقلب مرارا في تغيير الوزراء فلم يفده ، إلى أن ثار الجيش بالإغراء متفقا مع مجلس النواب وأهانوا الوزارة المختلطة كلها بدعوى أنها نقصت من مصاريف الجيش وعدده ، لكن المعاملة مع الوزير الفرنساوي كانت لينة وهو مغض عنهم حتى كان لسان الحال يدل على أن لفرنسا باطنا نوع اتفاق مع الخديوي يوافق قصده في التباعد من إنكلاتيره ، حتى تفطنت لذلك وأرسلت له رسولا خاصا ليبلغه نصيحة شديدة مآلها أن النافع لذاته هو الرفق بالرعية والكف عن الإسراف وأن ركونه إلى غيرها لا يفيده عند تحصحص الحق ، فأجاب بالتخلص مما رمي به واشتدّ حنقه من التداخل الأجنبي إلى أن حصلت تلك الأمور من العساكر ، فعزل الخديوي الوزارة فثار غيظ فرنسا وإنكلاتيره وطلبوا من الخديوي أن ينعزل عن الخديوية فأبى وألحوا إلى أن كادوا أن يباشروه بالحرب ، وكانت الدولة العثمانية إذ ذاك أثر خروجها من حرب الروسيا التي قسمت بها كثيرا من ممالك الدولة فأرادت الدولة أوّلا أن تحمي الخديوي ، لكنها لما علمت أن لا مناص من عزله جعلتها كما قيل : «بيدي لا بيد عمر» وحفظا لناموسها وسلطتها ، فعجلت بإرسال أمر بسلك الكهرباء إلى إسماعيل باشا تعلمه بعزله ، وأمر آخر إلى إبنه الخديوي الحالي محمد توفيق تأمره بالولاية وتسلم زمام الأمر وذلك سنة ١٢٩٦ ه‍ ، ثم سافر إسماعيل إلى إيطاليا بحريمه وأبنائه وبقي ساكنا في نابلي بقصر لحكومة إيطاليا ، وتصرف الخديوي توفيق في مصر بواسطة الوزراء وجعل رئيس الوزارة مصطفى رياض باشا (١) وجعل لكل من إنكلاتيره وفرنسا مراقبا ماليا يحضر مجلس الوزراء وله صوت فيه ، بحيث لا يمضي شيء إلا ما وافق عليه المراقبان ، وقسمت مداخيل الحكومة على قسمين :

أحدهما : لفائض الديون ، وقدر تلك الديون نحو ألفي مليون فرنك ومقدار ما عين لفائضها واستهلاك أصلها نحو مائة وستين مليونا فرنكا سنويا والباقي من مداخيل الحكومة يدفع منه خراج الدولة العثمانية وبقية مصاريف الحكومة ، وجرى التصرف للوزارة بدون مجلس النوّاب مع وعد الخديوي عند ولايته بفتحه وإجراء مقتضاه ، إلى أن ظهر للوزارة أن تحدث قانونا في رتب العسكر ، كان من مقتضاه أن أبناء مصر العارفين بالكتابة والقراءة لا يتجاوزون رتبة رئيس الألف أي بين باشي والذي لا يعرف ذلك لا يستولي إلا رتبة رئيس عشرة ، وبقية الرتب يتولاها الدخيلون في مصر كالترك والإفرنج ، فامتنع من الإمضاء على القانون في وزارة الحرب عدة من أمراء الإيالات معلنين بأن ذلك خلاف الإنصاف فسجنهم وزير الحرب فثارت العساكر وأخرجوهم من السجن وأحاطوا بقصر الخديوي طالبين عزل

__________________

(١) هو مصطفى رياض «باشا» بن إسماعيل بن أحمد بن حسن الوزان (١٢٥٠ ـ ١٣٢٩ ه‍) وزير عصامي مصري. اشتهر. بمناصرته للصحافة. ولد بالقاهرة وتوفي بالإسكندرية. ودفن بالقاهرة. الأعلام ٧ / ٢٣٣ المقتطف ٣٩ / ١٠٥ ، مرآة العصر ١ / ٧٤.

٢٥٨

وزير الحرب فعزل ، وحصلت حينئذ طنطنة لاتحاد العساكر وإنصافهم وحياة المصريين ، ونشأ في الأمة حزب يسمى الحزب الوطني زعيمه في الكلام رجل يسمى عبد الله نديم (١) فصيح اللسان عارف بطرق الكلام ، وكثرت منه الخطب في المجامع والمواكب ومن غيره أيضا في الحث على الإتحاد وأخذ الأشغال لأبناء الوطن ، وكذلك الوظائف والخروج من وطأة الأجانب الذين اشتدّ احتقارهم للأهالي واستبدادهم عليهم بالمرتبات الباهظة ، حتى أني لما مررت بمصر كنت أسمع دوي غليان الأهالي من التشكي من كثرة توظيف الأجانب الذين بلغ عددهم نحو ألف ومائتي متوظف يأخذون سنويا نحو أحد عشر مليونا فرنكا مع اقتدار الأهالي على الوفاء بتلك الوظائف ونقصان مرتبهم عن ذلك بكثير.

ثم بدا للوزارة لزوم التنقيص من عدد العساكر فثار الجند وأحدقوا بقصر الخديوي متسلحين حتى بالمدافع بعد أن أرسلوا إلى نواب الدول بالأمن عليهم وعلى رعاياهم والإعلام بمقاصدهم ، وكان رئيس ذلك الإتحاد رجل من أهل مصر في رتبة أمير ألاي فصيح اللسان ثبت الجنان إسمه أحمد عرابي (٢) ، فطلب هو ورؤساء الجيش الاجتماع بالخديوي فلما تيقن الخديوي جد طلبهم بواسطة خطاب قنسل الإنكليز معهم ، تلقاهم فأعلموه بأن مطلبهم هو عزل الوزارة وولاية رئاستها لشريف باشا وجمع مجلس النوّاب وإجراء قراره حقيقة وأن تكون له الحرية اللازمة لمثله وأنه لا يمس حقوق الأجانب وتعهدات الحكومة معهم ، فلم يسع الحال إلا لقبول جميع المطالب وإجرائها فعلا ، وازداد عرابي نفوذا وانطلقت الألسن بالحرية فلما اجتمع مجلس النوّاب ألف قانونه الذي تبتني عليه أعماله وكان من جملته أنه له الحق في الإطلاع على حساب الحكومة في الحال وله الرأي فيه ، مع أن ذلك من خواص مأمورية المراقبة الفرنساوية الإنكليزية ، فامتنعت وزارة شريف باشا من قبول ذلك لما تعلم من تداخل الدولتين في الامتناع حتى يفضي إلى التداخل في السياسة فأصر المجلس على طلبه وأظهرت العساكر التعصب إلى المجلس فاستعفى شريف ووزارته ومن هنا خرجت الأعمال من القصد الجميل لما يوقعها في الزوال لأن العاقل ينظر لجميع مقتضيات الحال ونسبة قوة الدول فيتباعد عن موجبات الفساد ولا

__________________

(١) هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسني (١٢٦١ ـ ١٣١٤ ه‍) صحافي خطيب ، من أدباء مصر وشعرائها. يتصل نسبه بالحسن السبط ولد في الإسكندرية. كتب مقالات كثيرة. ثم أصدر جريدة «التنكيت والتبكيت» مدة ، نفاه الإنكليز مرتين وفي المرة الثانية خرج إلى يافا ثم إلى الأستانة فاستخدم في ديوان المعارف ثم مفتشا للمطبوعات في «الباب العالي» واستمر إلى أن توفي فيها. الأعلام ٤ / ١٣٧ ونزهة الألبا (١٧٩).

(٢) هو أحمد عرابي بن محمد عرابي بن محمد وافي بن محمد غنيم (١٢٥٧ ـ ١٣٢٩ ه‍). زعيم مصري ممن تركت لهم الحوادث ذكرا في تاريخ مصر الحديث. ولد في قرية من قرى الزقازيق بمصر. تولى مناصب عدة ثم نفاه الإنكليز إلى جزيرة سيلان حيث مكث ١٩ عاما. وأطلق في أيام الخديوي عباس سنة (١٣١٩) فعاد إلى مصر وتوفي بالقاهرة. الأعلام ١ / ١٦٨ والمقتطف ٣٩ / ٤١٧.

٢٥٩

تطلب النهايات في البدايات ، كما هو القاعدة الشهيرة القائلة : «من طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه» وما بالعهد من قدم قد رأوا تداخل الدولتين في عزل الخديوي السابق حتى تم مرادهم فكيف يفتح لهم باب التداخل وهم بالمرصاد منهم ، لكن سبق القدر فلم يتدبروا واستعجلوا فأصروا على طلبهم ففوض الخديوي انتخاب الوزارة إلى المجلس مع أنه من حقوقه تطييبا لخاطر الأهالي ، فاستولى رئاسة الوزارة محمود سامي (١) واستولى وزارة الحرب عرابي وابتدء أيضا من هنا الإعتراض عليه من العقلاء في قبول الوزارة ، لأن مقامه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحجب بتلك الولاية ويصير له غرض خاص به من الإرتقاء إلى المناصب العالية ، سيما بعد أن رقي من كان معه من رؤساء العساكر إلى رتبة اللواء وقبل هو من الخديوي تلك الرتبة بعد الإلحاح عليه ، فوافقت هاته الوزارة رأي المجلس وكانت إذ ذاك ألسن الأهالي وصحفهم بذية مطلقة بالقدح في الأوروباويين والتبجح بما هم عليه مما أسف منه عقلاء المسلمين ، فهاجت ضدهم صحف أوروبا جميعا وأشدهم الفرنساويون والإنكليزيون حتى أبرقت وأرعدت دولتاهم متهددين بالحرب طالبين نفي عرابي وبعضا من رؤساء العسكر الذين رقوا إلى رتبة اللواء وإرجاع وزارة شريف ودحض مطلب مجلس النواب في التداخل في أمر المراقبة ، فوقع اضطراب وهيجان ظهرت فيه دعوى على بعض من العساكر الجراكسة بأنهم قصدوا قتل عرابي بإغراآت سرية منها المنسوب إلى طلعت باشا أحد علائق إسماعيل باشا ، فنفي أولئك الجراكسة إلى الآستانة وبقوا فيها تحت الحفظ مكرمين في أحد البناآت السلطانية إلى أن رجعوا بعد الحرب الآتي ذكرها ، فلما أصرت الدولتان على ذلك أعلن الخديوي بعزل الوزارة فثارت الأهالي والعساكر وألزموا الخديوي بإرجاع عرابي إلى وزارته ، وقدم إذ ذاك مرخص عثماني وهو المشير درويش باشا ومعه عدة رجال لإقرار الراحة في مصر بالوجه السياسي ، لأن الأهالي أيضا أكثروا من التنويه بانتمائهم للدولة العثمانية ووردت منها أفراد على الوجه الخصوصي من قبل لإراحة الأهالي ، وكان الخلاف بين عرابي والخديوي عند قدوم درويش باشا مشتدا حتى ظهر الخبر بأن الأهالي قدموا مضبطة بطلب عزل الخديوي بل جرى الطمع حتى إلى إخراج الخديوية عن عائلة محمد علي بالمرة ، وطلب أن تكون مصر مثل البلغار في امتيازاتها التي منها اختيار الوالي وأن لا تتداخل فيهم الدولة العثمانية بشيء في إدارتهم ، بل ربما تحرشت صحفهم بأنها لو ترسل عساكر ضدهم فإنهم يقاتلونهم كما يقاتلون سائر الدول ، وحينئذ أعلنت كل من فرنسا وإنكلاتيره بلزوم إبقاء الخديوي ونفوذه وقطع مضادته

__________________

(١) هو محمود سامي «باشا» ابن حسن حسني بن عبد الله البارودي المصري (١٢٥٥ ـ ١٣٢٢ ه‍). من الناهضين بالشعر العربي في عصرنا. وأحد القادة. جركسي الأصل. تعلم بالمدرسة الحربية بالقاهرة تقلب في مناصب انتهت به إلى رئاسة النظار. واستقال ولما قامت «الثورة العرابية» كان في صفوف الثائرين. نفاه الإنكليز إلى جزيرة سيلان وعفي عنه سنة (١٣١٧ ه‍) فعاد إلى مصر : وتوفي بالقاهرة. الأعلام ٧ / ١٧١.

٢٦٠