صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأما نباتاتها : فينبت بها سائر البقول وهي جيدة والقمح والشعير وغيرهما من الحبوب ، ويحصل فيها خصب متوسط كما ينبت بها القطن والعنب والرمان والليمون وغير ذلك من الأشجار التي تتحمل الحر ولا تحتاج إلى كثرة الماء ، ولذلك لم يكن بها غابات وما ينبت فيها من الشجر لا يرتفع على وجه الأرض إلا يسيرا فترى الخرنوب الذي يكون في تونس الواحدة منه مثل غيضة شاهقة هو في مالطة لاصق بالأرض لا يكاد يبين ، وهكذا سائر الأشجار ويعظم بها الصبار جدا.

وأما حيواناتها : ففيها المعز الحسن كثر الحلب وبقية النعم يجلب لها من خارج ويعلف علفا إلا قليلا من الرعي لعدم المرعى ، وبها الحمير بكثرة والبغال والخيل بقلة.

أما الحيوانات الوحشية : فليس بها إلا الأرانب ومنها نوع أنسي يعظم ويربى ، والسباع منقطعة والطيور الأنسية كلها مرباة عندهم ، ويوجد بكثرة العصفور الأصفر الحسن الصوت المسمى بالكانالو والبرية قليلة إلا بعض الرحالة كالسمان.

وأما المعادن فليس بها إلا الحجر ويصنعون الملح عند شاطىء البحر بمملحة صناعية.

وأما مدنها : فهي قاعدتها المسماة بفاليتا والبقية قرى مجموعها إحدى وثلاثون قرية أهم ما فيها الكنائس.

وأما مراسيها : فقد تقدم أن بها مرستين عظيمتين جدا وما عداها فإنما هو مراسي طبيعية حول القرى للقوارب وما شاكلها.

وأما أهلها : فعددهم مائة وخمسون ألفا كلهم مالطيون وبينهم قليل من الطليان تجارا ومن الإنكليز عسكر أو بعض متوظفين ومن العرب أفرادا تجارا أو مجتازين ، وأصل الأهالي على غالب الظن من بربر تونس وديانتهم نصرانية على مذهب الكاتوليك ، ولهم غلو شديد وإنهماك في اعتقاد خرافات.

الفصل الثالث : في تاريخ مالطه

مطلب في التاريخ القديم

أول من سكن هاته الجزيرة الفنيقيون وسموها إجاجية ثم عمرها الينافيون وسموها ماليتة واشتهرت بذلك من قبل التاريخ المسيحي سنة ٨٢٢ ، ولم تزل ولايات المستولين على إيطاليا تتوالى عليها ثم سلموها للقرطاجنيين ثم رجعت للرومان ثم ألحقت بالدولة الشرقية ، ولما ظلموا الأهالي واشتدت وطأتهم استغاثوا بالمسلمين فافتتحها المسلمون بعبورهم البحر من تونس إليها وإلى صقلية في المائة الثالثة هجرية ، ولاقوا من أهلها أحيانا ثورات شديدة إلى أن تم الإستيلاء عليها ونقلوا إسمها إلى مالطة المعروف الآن وكأنه مصحف من الإسم اليوناني السابق ، وبقيت بأيدي المسلمين نيفا ومائتي سنة ، ثم لحقت بصقلية تحت تملك عائلة النورمان ، ثم التحقت بمملكة النمسا الملقبة إذ ذاك إمبراطورية

٢٢١

جرمانيا ، ثم ألحقت بفرنسا ثم بنابلي ثم استولى عليها نابليون الأول وألحقها بفرنسا ، ثم عند حرب الدولة العثمانية لفرنسا في مصر وتحزب إنكلاتيره للدولة العثمانية استولت إنكلاتيره على مالطة.

مطلب في تاريخ مالطة الجديد

لما أساء الفرنساويون إلى أهل الجزيرة بانتهاك عوائدهم وكنائسهم ثاروا عليهم ثورة شديدة ، واستنجدوا الإنكليز فأعانوهم وسلموا الحكم إليهم وكان ذلك في سنة ١٨٠٠ ، ولم تزل حكومة الإنكليز مستقرة هناك وأغلب الأهالي مائلون إليهم عن طيب نفس.

مطلب في سياسة مالطة الداخلية :

الحكومة إنكليزية بمعنى أن الحصون والقشل بيد عساكر إنكليزية والحاكم العام إنكليزي مراع للأهالي وعوائدهم حتى أنه يتحرى لهم أحيانا ويرسل لهم حاكما على مذهب الكاتوليك من أهالي إرلانده ، وقد وقع ذلك مرة عندما تعرض أحد الحكام البرتيستانت لعادة لهم في أحد أعيادهم فاشتكوا منه وعزلته دولة انكلاتيره حالا وعوضته بكاتوليكي ، ولا تزال تراعي لهم ذلك وهو عندها إحدى الكبر لما مر بك من قانونهم وعوائدهم حتى في التعصب لمذهب البرتيستانت ، وذلك الحاكم يبقى في وظيفته خمس سنين ثم يبدل بغيره إلا أن تطلب الأهالي إبقاءه ، ثم أن تصرفه مقيد بمشورة عشرة من أعيان المالطيين في كل ما يعود على مصالحهم وحالة بلادهم وكل المتوظفين في السياسة والأحكام هم من أهل مالطة إلا الكاتب الأوّل للحاكم العام ، وجميع دخل الحكومة لا تأخذ منه دولة الإنكليز ولا دانقا واحدا بل كله يصرف في مصالح الأهالي وعساكر الدولة تصرف عليهم من خزينتها لا من دخل مالطة ، والأحكام الجارية هي أصول القانون الإنكليزي ممتزجا بما يصلح بالأهالي ومطابقا لعاداتهم حتى أن احترام يوم الأحد الذي يلزم في إنكلاتيره غلق جميع الدكاكين فيه لا ترى منه في مالطة شيئا ، فتلخص أن الحكومة شورية قانونية والأحكام الشخصية منفردة عن الإدارة العرفية وإسم الحكومة الإنكليزية وحقيقتها أهلية ، غير أن أكثر الواردين من الإنكليز سواء كانوا متوظفين أو غيرهم يتكبرون كبرا عظيما على الأهالي لاستحقار عاداتهم وبلدهم فأورث ذلك كره رعاع الأهالي لهم ، وإن لم يقدر واحد من الإنكليز على ظلم أحقر الأهالي.

مطلب في السياسة الخارجية بمالطة

ليس في مالطة من سياسة خارجية تعتبر إذ هي لاحقة بإنكلاتيره ، وإنما في قاعدتها قناسل لكل الدول الكبيرة مراعاة لكونها مأوى متوسط بين المشرق والمغرب فتأوي إليها

٢٢٢

السفن المارة لكلا الطرفين ، وليس لأولئك القناسل من شيء سوى قضاء ما يحتاج إليه اتباع دولهم إذ الحكم في البلاد جار على الجميع سواء من دون دخل لقنسل ، فالقناسل أشبه بوكلاء تجارية نعم لهم فائدة في الإعلام بالحوادث السياسية إن حصلت هناك ولذلك كانت أغلب القناسل هناك أصحاب وظائف شرف لا وظائف عمل فكثيرهم لا مرتب له ، وإنما يكون من ذوي الثروة يقنع برسم إشارة الحكومة المنسوب إليها على باب داره لمجرد الفخر إذ الإفرنج مطلقا سواء كانوا من أهل مالطة أم من غيرهم لهم ولوع زائد بحب الفخر ، فتراهم يتهافتون على نياشين الإفتخار وعلامات الامتياز ولو من دولة صان مارنيو التي هي عبارة عن أربعة آلاف نسمة ليزينوا بها صدورهم في المواكب أو يثبتوا في ستراتهم غرات على شكل الوردة ذات ألوان مشيرة إلى ما عندهم من علامات الامتياز فإذا دخل الزائر مقلدا بتلك الوردة نال من المزور زيادة المراعاة ولو من جبابرة لندره وطغاة باريس ، ومن سخافة عقول بعضهم أن يتخذ تلك الإشارات وسيلة للتدجيل على النساء حتى تعشقه للزواج أو غيره بناء على أنه من علية الناس ، وقد نشأ عن هاته الرغبة في النياشين أن بعض الدول صار لا يعطيها إلا بثمن لذات النيشان الذي هو أزيد من قيمته ، وزيادة على ذلك صار بعض الدول يعين لسفرائه في الخارج عددا مخصوصا من كل طبقة من النيشان ليبيعه ويستعوض بثمنه عن أخذ مرتب له من دولته ، وكذلك مرتب أتباع السفارة مع ما يحصل له من رعيته إذا كان مقيما في مملكة يسوغ فيها تداخل السفراء والقناسل في الأحكام.

مطلب في بقية عادات المالطيين وأحوالهم

لما تقدّم لنا الكلام في الممالك السابقة على بيان أطوار الأوروباويين وعاداتهم فلا داعي إلى الإطالة بالإعادة على غير فائدة لأن مالطة قطعة من ملحقات أوروبا ، وإجمال أطوار أهلها على العموم مثل أطوار سفلة الطليان والأعيان منهم مثل أعيان أوروبا سوى أنهم يزيدون عليها بكثرة لبس الخواتيم في الأصابع ، ونساؤهم جميعا إذا أخرجن في الطرق يجعلن على رؤسهن رداء أسود مدلى جهة اليسار ويمسكن طرفه الأيمن بأيديهن ، وكذلك لغتهم مخالفة لغيرها لأنها عربية محرفة جدّا مدخول فيها كثير من الألفاظ والإصطلاحات الطليانية.

٢٢٣

الباب الثامن

في الأقطار المصرية

الفصل الأوّل : في سفري إليها

بعد أن أقمت بمالطة ثلاثة أيام ننتظر سفر باخرة توا إلى الإسكندرية حيث لم يكن بينهما بواخر بريدية توا وإنما البريد يسافر إلى إيطاليا أو غيرها من جهات المشرق ثم يذهب إلى الإسكندرية ويلزم طول مدة السفر ، فلذلك أتيت باخرة تجارية من بواخر الإنكليز التي تتوجه إلى هناك بكثرة فوجدنا واحدة مشحونة بالفحم الحجري أنزلت منه ما أنزلت في مالطة وحملت الباقي إلى الإسكندرية ، والكراء فيها وفي أمثالها أرخص من بواخر البريد لأنه راجع إلى السفن حيث أن أصحابها ليس لهم إلا محمولات التجارة التي هي موضوع تشغيل السفينة فلم يكن بها إلا الطبقة العليا والأخيرة للركاب وليس بها المتوسطة وهما مثل طبقات البريد ، فركبنا ليلا لأن الباخرة عند تمام إفراغ شحنها تسافر من غير تأخير ولكنها لم تسافر إلا صباحا بعد الشروق وأسفت من ركوبها لما رأيت بها من الوسخ سوى داخل البيت الكبير فإنه نظيف ومثله حجرات النوم ، ومن المعلوم أن الجلوس به دائما مقلق لكنه ما مضى من وقت السفر أربع ساعات إلا وقد غسل ظاهر الباخرة غسلا محكما ونشف فصارت من أنظف البواخر ، والحق أن يقال أن بواخر الإنكليز مطلقا أشد نظافة مما يماثلها من غيرها أعني كل نوع بالنسبة إلى نوعه ، وذلك إني كنت رأيت بواخرهم الحربية مجتمعة مع غيرها من البواخر الحربية للدول الكبيرة عند قدومها إلى تونس سنة ١٢٨٠ ه‍ في الثورة العامة ، فإذا بواخر الإنكليز أتقنها نظافة وكذلك البريدية والتجارية ، ويليهم في ذلك الفرنساويون.

ثم استمر السير والبحر في غاية السكون وكان معنا من الركاب في الطبقة الأولى إثنان إنكليزيان لهما معرفة بالتصوير فكدنا أن لا نمر بشيء إلا وصوراه من طير أو سحاب أو سفينة بل وكل من في الباخرة حتى كان فيها في الطبقة الأخيرة على ظهر السفينة أناس من المغرب وآخرون من صفاقس كلهم متوجهون إلى الحج وفي كل يوم عند إرادة غسل ظاهر الباخرة يؤمرون بالانتقال من مكان إلى آخر مع حمل رحالهم فيكونون في أشد التعب مع الدوار الحاصل لبعضهم بمرض البحر فصوروهم على تلك المشقة والجهد والجهيد ، ولما نظرت إلى حالة هؤلاء الحجاج شاهدت مصداق قول الفقهاء بعدم وجوب الحج على تلك

٢٢٤

الصورة لأنهم لا يصلون وصلاة واحدة مثل فريضة الحج ، وتركهم للصلاة يأتي من نجاسة أبدانهم من تغوطهم بلا استنجاء ومن المياه الملقاة عليهم بغسل السفينة ، ومن عدم وجود مكان للصلاة لأنهم يمنعون من تجاوز مكان جلوسهم ومع ذلك يعاملون معاملة الحيوانات العجم من الخريتين بالإهانة والسب إلى غير ذلك ، وأيضا يعتري بعضهم الدوار البحري فيتقايا في مكانه بل منهم من يتغوّط ويبول فيه وتصل نجاسته لمن بجنبه ، فلما رأيتهم في سوء تلك الحالة ذهبت إليهم وأعلمتهم بالحكم الشرعي في وجوب الحج وشروط الإستطاعة فيه وسألتهم لماذا يعدلون عن ركوب الطبقة الوسطى في بواخر البريد أو في العليا هناك مع أنها ليست بغالية وبعضهم تظهر عليه آثار الثروة فأجابوا بأن ذلك العذاب لا ضير فيه لأنه مدخول عليه في السفر إلى بيت الله بل مهما إزداد كان ثوابه أكثر وأصروا على ذلك منكرين عليّ قولي فعدلت عن ذلك ولاطفتهم في المحافظة على الصلاة ، فقالوا : كيف نصلي ونحن على هاته الحالة وأين نصلي؟ فقلت لهم : إنكم مالكية ومذهبكم يرى صحة الصلاة ولو على ما أنتم عليه لأن إزالة النجاسة تجب وقيل : تستحب فقط مع القدرة والتذكر ، فقال لي واحد منهم : إني أصلي كما رأيتني ، قلت : نعم رأيتك تصلي ، والآخرون قالوا : لو نجد مكانا ويتركوننا نتطهر فإننا نصلي فتلطفت لرئيس الباخرة إلى أن أذن لهم في التفسح واستعمال الماء في المرحاض فقط لكن أغلبهم مع ذلك لم يصل ، وقد سألتهم أيضا عن موجب كثرة رحالهم حتى أن بعضهم رافع جرة كبرى ملفوفة بشرطان الحلفاء للماء وقريبة منها للأدام والقديد إلى غير ذلك ، فقالوا : ذلك لقوتنا ، فقلت : إنكم متوجهون إلى مدن إن لم تكن أكبر من مدنكم فهي نحوها ولا بد أن يكون لأهلها ما يكفيهم فهلا وسعكم ما وسعهم وزاد الطريق في البراري يؤخذ من أقرب مدينة إليه فقالوا يلزم لذلك الثمن وهذا الذي عندنا إنما هو من بيوتنا فقلت لو بعتم هذا وأضفتم عليه كراء حمله بحرا وبرا لكان أرخص عليكم من شراء الزاد من الأماكن اللازمة فقالوا تلك بلاد لا نعرف أحوالها والأولى التزود من أماكننا وهكذا جرت العادة ، فعلمت أن تأثير العوائد أمر صعب جدا.

وفي غروب اليوم الرابع وصلنا إلى الإسكندرية ولم يظهر لنا منها شيء لأن أرضها منخفضة ولا جبال بها حتى يمكن رؤيتها من بعد وحيث كان وصولنا بعد الغروب ، ومن الرسوم أن لا تدخل السفن إليها إلا بهاد يهديها الطريق حيث كان قرب مرساها صخرات لا تبين من البحر وتضر بالسفن إذا صادمتها لزم حضور أولئك الهداة ليدلوا السفن على الطريق ، ولهم على ذلك أداء معين فلزم الباخرة أن تكون طول الليل غادية رائحة في نحو ميلين ولم يظهر لنا من البلد سوى منارة هداية السفن ، وقرب الشروق ظهر الهادي في قارب قادما للباخرة فأعرض عنه السفن محتقرا له ، وابتدأت مشاهدتي لتعاظم الإفرنج على المصريين وتبين أن السفن كان عالما بالطريق لكنه إنما توقف عن الدخول لمجرد الرسم ، فدخلنا المرسى فإذا هي ذات مأمن وذات مرسى صناعية فيها من بواخر الحكومة المنحازة

٢٢٥

إلى جهة خاصة ثمانية بواخر كبار كلها خشب ، وفيها من البواخر التجارية الأجنبية أزيد من عشرين ، وفيها باخرة حربية أجنبية. وبعد تمام الإرساء وأخذ الإجازة للباخرة من مأموري الصحة في إنزال سلعها وركابها أذن للركاب بالنزول ، وذلك لأن من القوانين العامة أن كل سفينة تسافر من مكان يلزمها أن تأخذ من مأموري الصحة به الذين لهم ديوان خاص صكا منصوصا به حالة البلاد التي سافرت منها من جهة الأمراض العامة ومقدار ما في السفينة من الركاب وأنواع البضاعة التي بها ، فإذا وصلت إلى مرسى مقصودة لها أول ما يتلاقاها مأمور والصحة فيطالعون ذلك الصك ويبحثون عن صحة الركاب وعددهم فإن لم يوجد بها شيء مضر أذنت بإفراغ ما تريد في تلك المرسى ، فأحاطت بالباخرة القوارب الغفيرة وثار عجاج الصياح من أصحابها المختلطين من أهالي وإفرنج في النزاع على حمل الأثقال والركاب ، ولما رأيت الأمر متفاقما ضم لي خريتوا الباخرة صنيدقات رحلي وجلست حارسا لها في زاوية لأن أصحاب القوارب كادوا يختطفون الرحال شاء صاحبها أم أبى من غير مساومة للأجر وتلك خلة فيهم في أي بلد كانوا ثم بعد الوصول يطلبون الأجر أضعافا مضاعفة ، ولما نزل جميع الركاب مع رحالهم ولم يبق حول الباخرة إلا قوارب السلع التي عهدتها على القمرق دعوت قاربيا واتفقت معه على أجر معين ، وأعانني على ذلك ابن وكيل حكومة تونس الحاج علي الفيزاني رحمه‌الله حيث تلقاني في الباخرة بعد أن ورد تابعه سائلا عني وظننته أحد أولئك القاربيين تلقط خبري لأن حركاته لا تتميز عنهم ، ثم لما وصلنا إلى القمرق طلبوا ورقة الجواز وكادت أن تحصل لنا أتعاب بمنع الدخول إلى الإسكندرية حيث كانوا يمنعون دخول من يريد الحج وإنما جعلوا لهم خارج البلاد مكانا محاطا بالعساكر بحيث لا يسوغ للوارد إلا الركوب في البحر أو طريق الحديد توّا إلى السويس ، وكان سبب ذلك كثرة من كان يرد من الأقطار الغربية للحج بلا مال ولا زاد فيتكاثرون بمصر ويحملون حكومتها وأهاليها أعباء ثقيلة مما لا داعي إليه لا شرعا ولا عقلا ، لأن أصل فرض الحج معلق على الإستطاعة بنص القرآن الكريم (١) ، فلا يسوغ الإقدام على السفر بدون شروطه ، نعم إذا وقع لعارض فقد المسافر لمال يقوم به في الرجوع لوطنه أو لمحل ماله أو إقامته ، ففي بيت مال المسلمين قسم معين بنص الكتاب لأبناء السبيل (٢) فيعطون حاجتهم إلى بلوغ مكانهم ولو كان ابن السبيل غنيا لكنه في ذلك الطريق لأمال له فتداركنا الله بلطفه.

وأذننا المكلف بالدخول للبلد فنظروا إلى رحالنا وأرادوا التشديد في تفتيشها وقلب عاليها على سافلها متطلبين الإحسان إليهم فلم يسعني إلا التخلص من الظلم بدفع شيء من المال ارتكابا لأخف الضررين من الخوف من تشتيت رحلي والسرقة منه مع التعب ، ثم

__________________

(١) وهو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧].

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٦٠].

٢٢٦

قصدت منزل المسافرين الإفرنجي المسمى أوتيل دي روب في أكبر بطحاء البلاد بعد مشقة في التخلص من النزول عند وكيل تونس الذي لا داعي إليه سوى تحميله الكلفة بالضيف والمصروف عليه مع تكليفي بلزوم مراعاة أحواله وعاداته مما عساه لا يوافق حالتي وعاداتي إذ لم تكن لي معرفة به قط مع ما أنا عليه من المرض الملازم الذي اشتد منذ رجوعي إلى تونس بسبب الإنفعالات النفسانية فيلزمني المساعدة لمزاجي في الأكل والنوم وغير ذلك مما يحمل مضيفي مشقات أو يضر بي تركه ، فاكتريت في ذلك المنزل بيتا واسترحت به على ما ساعدني واغتسلت في حمامه وأكلت ونمت ، ثم اكتريت عجلة وقصدت أخي في الله الصفوة الخيرية عالي الأخلاق والأعراق سيدي إبراهيم السنوسي الحسيني (١) وهو المحدث البليغ المتفنن في علوم المنقول والمعقول والسياسة صاحب الأخلاق المطابقة لانتسابه العالي ، نشأ من بيته الأصيل بمدينة فاس البيضاء قاعدة مملكة المغرب ، وحصل من العلوم ما استكمل به فخره ، ثم رحل إلى تونس وأقام بها بضع سنين وامتزجت به أفاضلها أو أعيانها متأنسين بعلمه وأدبه ، وكاد أن يتخذها قرارا لولا المحنة التي وقعت بها من سنة ١٢٨٠ ه‍ إلى سنة ١٢٨٦ ه‍ فارتحل عنها على ما دعت إليه مقتضيات الأحوال من فساد الحكومة واستقر بالإسكندرية مشتملا على كماله وفضله وعفافه واتسعت نعم الله عليه لا زال أهلا لكل فضيلة ، فلاقيته في الطريق وألزمني بالإستقرار في مقره وحيث كانت الأسباب المشار إليها آنفا في التخلص من الضيافة مفقودة مع أخي الفاضل المومى إليه لا من جهتي ولا جهته ساعفت مراده وأقمت عنده سبعة أيام ، ولاقيت أيضا أخي في الله التقي النقي الكامل رستم باشا التونسي وهو الفاضل العفيف النصوح المؤتمن ، نشأ في بلاد الجراكسة من جبال القوقاس ووفد على تونس دون سن العشر فأدخل إلى مكتب الحرب وحصل على القرآن العظيم ونصيب كاف من العقائد والعبادات والتجويد والنحو والحساب والهندسة وغيرها من الفنون الرياضية والحربية ، مع تحصيل اللغة الفرنساوية ومعرفة اللغة التركية وثافن علم التصوف ، ثم تقلد الوظائف السامية في حكومة تونس فولي أميرلوا حراسة الأمير ، ثم مستشار الداخلية ثم وزيرا فيها وعضوا في المجلس الخاص والمجلس الأكبر ، وكان من أشد المحامين عن العدل والشورى ، ولما وقعت النكبة العامة لتونس سنة ١٢٨٠ ه‍ وما نشأ عليها من المظالم سافر المشار إليه إلى أوروبا ثم رجع إلى تونس سنة ١٢٨٦ ه‍ باستدعاء الحكومة وقلد وزارة الحرب مع توظفه في كل من المدتين بولايته عاملا على أعمال نبيهة كجربة والأعراض وغيرها ، وسافر مرارا أميرا على المعسكرات لإقرار الراحة والأمن في الولاية وفي كل ما تقلد به كان مستقيم السيرة والسريرة مثنى عليه بالسن الخاص والعام ، ولما ابتدأت النكبة الكبرى الأخيرة لتونس ورأى مباديها ترخص من الوالي السفر للتداوي فأقام في أوروبا مدّة ثم أقام بالإسكندرية فلاقيته بها في إحدى المنازه

__________________

(١) هو إبراهيم بن إدريس السنوسي ، الفاسي الحسني المالكي. ولد بفاس وتوفي بالقاهرة سنة (١٣٠٤ ه‍). هدية العارفين ١ / ٤٤ ومعجم المؤلفين ١ / ١١.

٢٢٧

الكائنة بالرملة ، وانهملت من الكل الدموع لما توقعناه للوطن العزيز ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهاته البلاد أعني إسكندرية هي ثاني مدينة في القطر المصري وهي مناخ تجارته مع سائر الممالك التي على البحر الأبيض والميحط الغربي ، وبها حصون حصينة وقشلات للعساكر ومكاتب عديدة لسائر الفنون ، وقصر للخديوي بقرب المرسى أنيق فاخر ومنزه عام خارجها بالمكان المسمى بالمحمودية ، وهو منزه نزيه جدا تنتابه الموسيقى الرسمية في العشية ولكن أكثر من يرد إليه إنما هم الأجانب ، وفي المحمودية طريق وسيع صناعي حوله الأشجار العظيمة يتماشى فيه المترفون بعجلاتهم وبقربه فرع من النيل وعليه آلات بخارية لرفع الماء وتصفيته وتقسيمه صافيا على البلاد في قنوات ، وأغلب طرق البلاد مبلطة بالحجارة حسنة المنظر سيما حارات الإفرنج التي بوسطها البطحاء الكبرى ذات الجنينة والفوّارات وحولها القصور الشاهقة ومن تحتها الحوانيت المزخرفة وبوسطها صورة محمد علي باشا (١) مجسمة ضخمة كأنه راكب جواده ، وأغلب طرق البلاد في حارات المسلمين ضيق وما عداها فهو متسع وبها من الجوامع الشهيرة جامع الإمام البصيري رحمه‌الله ، وهاته المدينة بناها إسكندر المقدوني (٢) وهو الرومي اليوناني الذي نشأ في مقدونية المعروفة الآن بالروميلي في بلد قيلبه وهو تلميذ أرسطو (٣) الذي أشار عليه بتفريق ممالك الفرس عند تغلبه عليها سنة ٩٣٥ قبل الهجرة ، وقال له الحكمة المأثورة إلى الآن وهي : اقسم تحكم ، قال في الأقيانوس : وليس إسكندر هذا باني سد يأجوج ، فإن ذلك من الملوك المعروفين بالأذوا من قبائل حمير ببلاد اليمن ، وإسمه الصعب ولقبه ذو القرنين ولقي إبراهيم الخليل وعانقه كما في الصحيحين ، وأطال في ذلك فليرجع إليه من أراده. وهذا مما يؤيد ما قلناه في الكلام على سور الصين في المقدمة ولله الحمد.

وقد سما الإسكندر هاته البلدة بالإسكندرية باسمه وكانت هي قاعدة الأقطار المصرية إلى الفتح الإسلامي ، وكان تجاهها جزيرة يقال لها جزيرة فارس فاتصلت بالبر برصيف بناء

__________________

(١) هو محمد علي «باشا» ابن إبراهيم آغا بن علي المعروف بمحمد علي الكبير. (١١٨٤ ـ ١٢٦٥ ه‍).

مؤسس ، آخر دولة ملكية بمصر. ألباني الأصل مستعرب. توفي في قصر رأس التين بالإسكندرية ودفن بالقاهرة. الأعلام ٦ / ٢٩٩ ، النخبة الدرية (١٠ ـ ١٦).

(٢) هو الإسكندر الكبير الملقب بذي القرنين (٣٥٦ ـ ٣٢٣ ق. م) ولد في مقدونية ، تعلم على أرسطو.

وهو من أعظم الغزاة وأشجعهم خلف أباه فيليبس وعزم على فتح امبراطورية الفرس فانتصر عليهم في إيسوس (٣٣٣ ق. م) ثم في سواحل فينيقيا ثم في مصر حيث أسس الإسكندرية وتابع زحفه إلى أطراف فارس. توفي في بابل. المنجد ص (٤٣).

(٣) هو أرسطو أو أرسطاطاليس (٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م) مربي الإسكندر. فيلسوف يوناني تأثرت بوادر التفكير العربي بتآليفه التي نقلها إلى العربية النقلة السريان وأهمهم إسحاق بن حنين. مؤلفاته في المنطق والطبيعيات والأخلاق. المصدر السابق (٣٤).

٢٢٨

بطليموس (١) وهي الآن جهة رأس التين ، وفي الشمال الشرقي منها بنى المذكور منارة الإسكندرية الشهيرة وكان ارتفاعها أكثر من ١٥٠ قامة وأحد جوانبها يزيد عن ٥٠ ذراعا ، وكان أنشأ عليها أحمد ابن طولون (٢) قبة من خشب فأخذتها الرياح ثم أصلح المنارة لتداع بها الملك الظاهر بيبرس (٣) وبنى عليها مسجدا انهدم بزلزلة ثم جدد ثم انهدم الجميع وبنى بمحلها الفناير الموجودة الآن من آثار محمد علي باشا ، وقد كان أسس بها بطليموس الأول خزانة كتب تعد إذ ذاك من عجائب الزمان تحتوي على ٠٠٠ ، ٧٠٠ مجلدا ، وزعم بعض المفترين من المؤرخين أن أمير المؤمنين سيدنا عمر أمر بحرقها مع أنها احترقت قبل الإسلام بمدّة مديدة ، لأن الذي أحرقها هو بولس (٤) قيصر الرومان عندما كان محاصرا بالإسكندرية ورامت أعداؤه الإستيلاء على سفنه فأضرم فيها النار وكانت بقرب من القصر الملكي المحتوي على الخزانة المذكورة فاحترق الجميع ، كذا في جغرافية مصر لفكري (٥)

__________________

(١) بطليمس : إسم أطلق على ملوك مصر الهلنستيين خلفاء بطليمس المعروفين بالبطالسة أو اللاجيين.

وعددهم ١٦. أشهرهم :

بطليمس الأول : سوتير (٣٦٠ ـ ٢٨٣ ق. م) ابن لاغوس ومؤسس السلالة من قواد الإسكندر الكبير وحاكم مصر بعد موته.

بطليمس الثاني : فيلادلفس. ملك مصر (٢٨٢ ـ ٢٤٦ ق. م) إمتاز بدهائه وعمل على توطيد النفوذ اللاجي.

بطليمس الثالث : أفرجاتس أي المحسن ملك مصر (٢٤٦ ـ ٢٢١ ق. م) استرد من الفرس الأشياء التي سلبوها من مصر. المصدر السابق (١٣٥).

(٢) هو أحمد بن طولون ، أبو العباس (٢٢٠ ـ ٢٧٠ ه‍) أمير صاحب الديار المصرية والشامية والثغور.

تركي مستعرب. بنى الجامع المنسوب إليه بالقاهرة. من آثاره قلعة يافا (بفلسطين). توفي في مصر الأعلام ١ / ١٤٠. الولاة والقضاة (٢١٢ ـ ٢٣٢) النجوم الزاهرة ٣ / ١ وفيات الأعيان ١ / ٥٥.

(٣) هو بيبرس العلائي البندقداري الصالحي ، ركن الدين الملك الظاهر. (٦٢٥ ـ ٦٧٦ ه‍). صاحب الفتوحات والأخبار والآثار. مولده بأرض القبجاق. قاتل معه التتار في فلسطين. وتولى سلطنة مصر والشام وتلقب بالملك القاهر أبي الفتوحات ثم ترك هذا اللقب وتلقب بالملك (الظاهر). وفي أيامه انتقلت الخلافة إلى الديار المصرية سنة (٦٥٩ ه‍). أخباره كثيرة. توفي في دمشق ومرقده فيها معروف. الأعلام ٢ / ٧٩ ، فوات الوفيات ١ / ٨٥ النجوم الزاهرة ٧ / ٩٤ ودائرة المعارف الإسلامية ٤ / ٣٦٣.

(٤) هو يوليوس قيصر (١٠١ ـ ٤٤ ق. م) من كبار رجال الدولة والقواد في روما والعالم. ألف المثلث الأول مع بومبيوس وكراسوس. انتخب قنصلا. فتح غاليا وعاد إلى روما ففرض حكمه الفرد عليها رغم الحرب الأهلية. تخلص من بومبيوس بعد معركة فرسال سنة (٤٨) عشق كليوباترة ملكة مصر ورزق منها ولدا. تآمرت عليه الطبقة الإرستقراطية في مجلس الشيوخ فاغتيل. له تاريخ حرب الغول والحرب الأهلية المنجد ص (٥٦٠).

(٥) هو محمد أمين «باشا» بن عبد الله فكري بن محمد بليغ (١٢٧٣ ـ ١٣١٦ ه‍) من فضلاء مصر وأعيانها. مولده ووفاته بالقاهرة. الأعلام ٦ / ٤٣ مرآة العصر ١ / ٥٠٥ ، ومعجم المطبوعات (١٤٥٥).

٢٢٩

قال : ومن المحقق أنه بعد مدّة من الزمن كان انطوان الروماني أهدى إلى الملكة كيلوبطرة (١) من كتب خانة برجام ٣٠٠ ألف أو ٤٠٠ ألف كتاب فتجدّد بذلك خزنة كتب عظيمة وإن كانت دون الأولى فأصابها الحريق مرتين ثم دمرت بالتمام بواسطة المتعصبين للديانة النصرانية لإزالة أفكار عبدة الأوثان في مدة حكم تيودوس قبل الإسلام اه باختصار.

وسكان هاته المدينة الآن نحو من ٣٠٠ ألف نسمة وبها أزيد من ٣٠ ألف محل ما بين كبير وصغير ، وتشتمل على معمل فاخر للسفن وإصلاحها ، ومن غرائب البلدة المسلة الواقعة قرب محطة سكة الحديد الموصلة للرملة ، وهاته المسلة على نحو المسلة التي ذكرناها في باريس ولندره إذ الجميع نقل من مملكة مصر ولم يبق بها إلا هاته فقط ، وطولها ٦٤ قدما في قطعة واحدة من حجر عليها كتابة قديمة عملت مدّة الملك موريس المتملك سنة ١٧٣٦ قبل الميلاد ومثلها غرابة عمود السواري الشهير الواقع جهة مينة البصل وهو عمود على قاعدة عظيمة فوق تل عال ارتفاعه مع تاجه أكثر من ٣٠ ميترو ومحيطه نحو ٢٨ قدما يقال أنه عمل مدّة قياصرة الروم ، وبعد إقامتي بهاته البلدة سبعة أيام وتزودي منها ما يلزم لطريق الحجاز غير الخيام والقرب فإني أخذتها من مصر لأنها هناك أرخص ثمنا وإرسالي جميع ذلك إلى السويس توّا مع الطباخ والخادم اللذين استأجرتهما من الإسكندرية ، توجهت حينئذ إلى مصر القاهرة راكبا حافلة طريق الحديد ولم نجد بها مخدعا خاصا ذا فرش ومرافق مثل ما يوجد في أوروبا ، وكان ركوبي بعد العصر فسار الرتل سيرا وسطا ولم يقف إلا ببعض بلدان كبيرة وكان منظر الأرض قرب إسكندرية ليس بهيجا وإنما توجد براحات وسيعة بها الماء راكدا ومزروع بها الأرز ، لكن تغير المنظر بحسن النبات والزراعة بعد حصة ولم يطل بنا ذلك المنظر الجميل لإرخاء الظلام سدوله فوصلنا إلى القاهرة بعد سير أربع ساعات ونصف ، فتلقاني في الموقف النجيب الوجيه الحاج علي الشماخي وكيل تونس واعتذرت إليه عن الإقامة بمنزله بما مر ونزلت في منزل المسافرين المسمى الخمارة الكبيرة مواجها لروضة الأزبكية ، وأسعار هاته المنازل نحو من أسعار أوروبا.

الفصل الثاني : في صفة مدينة مصر القاهرة

هاته المدينة هي قاعدة الأقاليم المصرية منذ الفتح الإسلامي غير أنها اختلفت أسماؤها وبقاعها على حسب اختلاف الدول والأعصار وإن كان مركز جميعها واحدا فبعضها محاذ لبعض ، فأول ما اختطه الصحابة رضوان الله عليهم مدينة الفسطاط ،

__________________

(١) كليوباترة : إسم سبع ملكات لاجيات (البطالسة) في مصر. أشهرهن : الخامسة ولدت في الإسكندرية (٦٩ ق. م) ملكة مصر (٥١ ـ ٣٠ ق. م). فتنت قيصر بعد معركة فرسال وولدت له «القيصرون» ثم مرقس أنطونيوس ضمت إلى ممتلكاتها أجزاء من فينيقيا وقبرص اليهودية انتحرت بعد معركة أكسيوم المنجد ص (٥٩٣).

٢٣٠

حيث ضرب سيدنا عمرو بن العاص (١) فسطاطه في الفتح ، وعند إرادته للتقدم جهة الإسكندرية التي هي القاعدة إذ ذاك وجد يماما قد فرخ على عمود فسطاطه فأجاره وأبقى الفسطاط إلى أن رجع الجيش بعض الفتح واختط المدينة حول الفسطاط فسميت به ، ثم لما تغلب المعز الفاطمي (٢) على مصر على يد قاده جوهر (٣) اختط القاهرة وصارت هي دار الإمارة.

وهي مدينة رحيبة يمر النيل بمحاذاتها وعليه آلات بخارية لرفع الماء وتصفيته وإرساله في قنوات تفرق على جميع المدينة ، وعليه جسر حديد طوله ٥٠٠ ميترو وعرضه يمر عليه ستة عجلات ، وعلى حافتيه طريقان للمشاة وقد صنع سنة ١٢٧١ ه‍ وعلى حدودها جبل شاهق عليه قلعة حصنها وكانت مستقر الأمراء ، وهي ذات حصون متينة صناعية مشحونة بالمدافع من الطرز الجديد الضخم زيادة على تحصينها الطبيعي ، وتنظر منها سائر المدينة وأريافها ، فترى عظم اتساعها. وبهاته القلعة جامع ضخم ذو قبة شاهقة جدا ومنائر جميلة مرتفعة وبه إسطوانات من المرمر الملون ذات بهجة وارتفاع عظيم وبصحنه الرحيب متوضأ أنيق جيمل ، وبنى هذا الجامع محمد علي باشا كما أنه أتقن قصر الحكم بها وهو ذو بيوت وسيعة وأواوين رحيبة مشتمل على جميع الفرش ، ولا زال هو القصر الرسمي للمواكب المهمة وإن لم يكن فاخرا مثل القصور المحدثة التي يقيم بها الخديوي ، وبالقعلة أيضا معسكر وديوان نظارة الحرب وبها بئر عميق جدا يدعي الجهال أنه جب يوسف عليه‌السلام ، وكان الحامل لهم على ذلك غرابة وجود بئر في ذلك الإرتفاع فعدوه معجزة ، وبالقاهرة أسواق كثيرة جدا بل إني لم أر بلدا أكثر منها حوانيتا في سائر الجهات ، وأهم طرقها القديمة هو الطريق الموصل من الأزبكية إلى جامع سيدنا الحسين ويسمى بالموسكى ، فهو متسع في بعض جهاته نحو ثمانية أو عشرة أمتار وفي بعضها نحو الخمسة أمتار ، وأما بقية الطرق القديمة فأكثرها لا تمر به العجلات وبعضها تمر به عجلة واحدة ، نعم إن الطرق الجديدة التي افتتحها إسماعيل باشا (٤) في عشرة الثمانين والمائتين وألف في

__________________

(١) هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي ، أبو عبد الله (٥٠ ق. ه ـ ٤٣ ه‍) فاتح مصر ، وأحد عظماء العرب. أسلم في هدنة الحديبية. أخباره كثيرة. توفي بالقاهرة. الأعلام ٥ / ٧٩ الإصابة ٥ / ٢ رقم الترجمة (٥٨٧٧) وجمهرة الأنساب (١٥٤).

(٢) هو معد (المعز لدين الله) بن إسماعيل (المنصور) ابن القائم بن المهدي عبيد الله الفاطمي العبيدي ، أبو تميم (٣١٩ ـ ٣٦٥ ه‍) صاحب مصر وإفريقية ، وأحد الخلفاء في هذه الدولة. ولد بالمهدية (في المغرب). وتوفي بالقاهرة. الأعلام ٧ / ٢٦٥ ، المنتظم ٧ / ٨٢ وفيات الأعيان ٢ / ١٠١ ، الكامل في التاريخ ٨ / ١٦٥ ـ ٢٢٠ وهدية العارفين ٢ / ٤٦٥.

(٣) هو جوهر بن عبد الله الرومي ، أبو الحسن. قائد باني مدينة القاهرة ، والجامع الأزهر. كان من موالي المعز العبيدي ومن عظماء القواد في دولته ، توفي سنة (٣٨١ ه‍). الأعلام ٢ / ١٤٨ وفيات الأعيان ١ / ١١٨ ، النجوم الزاهرة ٤ / ٢٨ ومعجم البلدان ٧ / ١٩.

(٤) هو إسماعيل (باشا) بن إبراهيم بن محمد علي الكبير خديوي مصر (١٢٤٥ ـ ١٣١٢ ه‍). ولد في ـ

٢٣١

الحارة المنسوبة إليه المسماة بالإسماعيلية هي على نحو الطرق الأوروباوية اتساعا واستقامة وهاته الحارة كلها محدثة ملحقة بمصر ، ومن محاسن القاهرة حديقة الأزبكية الجميلة الأنيقة المحاطة بسياج من قضبان الحديد الجميلة وبها أبواب من كل الجهات على الطرقات الرسمية كل يوم عشية لكنها لا يحضرها غالبا إلا الإفرنج ، وقصور الخديوي وأقاربه وحواشيه مالئة الحارات الجديدة مبهجة لها برونقها وأهمها قصر عابدين ، أما القصور التي له حول القاهرة فهي كثيرة مضاهية أو فائقة على قصور ملوك أوروبا وجمعت بين ما للأوروباويين من التحسين وما للمشرقيين من التزويق والإسراف لكل منها حدائق وعيون وحيوانات غريبة ، ومن هاته بستان شوبرة وقصره ذو البركة الرحيبة الذي أنشأه محمد علي بعيدا عن القاهرة نحو ثلاثة أميال ، وله طريق جميل هو منتدى أهل التمشي والتنزه بعجلاتهم وخيلهم لما له من البهجة بالأشجار العظيمة ومن ورائها البساتين والقصور المؤنقة لأهل الترف والبذخة من الأوروباويين والأمراء والوزراء وعلى جانبه ترعة من النيل ، وهكذا حارات الإفرنج والحارات الجديدة في تأنيق البناء والقصور وبهرجتها من الظاهر فضلا عن الداخل ، لكن ديار الأهالي ليس منظرها من الخارج مما يسر النظر.

أما ما اشتملت عليه القاهرة من المقامات والأماكن المعظمة فأولها مقام سيدنا الحسين رضي‌الله‌عنه وأرضاه ، وذلك أنه بعد الشنيعة الشنعاء بكر بلاء أيام يزيد (١) سنة ٦١ ه‍ حمل الرأس الشريف المكرم ويقال أنه دفن بعسقلان (٢) إلى أن نقله الملك الصالح طلائع بن رزيك (٣) وزير الفاطمية سنة ٥٤٨ ه‍ إلى القاهرة في موكب عظيم ودفن بالمقام المشار إليه ، ثم عملت عليه المقصورة من النحاس الموجودة الآن سنة ١١٧٥ ه‍ وبني حوله المسجد الرحيب ، وقد تشرفت بزيارة هذا المقام الشريف وصليت الجمعة وغيرها في

__________________

ـ القاهرة. وهو أول من أطلق عليه لقب «الخديوية» من رجال أسرته. عزل سنة (١٢٩٦ ه‍). توفي في الاستانة. ونقلت جثته إلى القاهرة. الأعلام ١ / ٣٠٨. النخبة الدرية (٣٠).

(١) هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي (٢٥ ـ ٦٤ ه‍). ثاني ملوك الدولة الأموية في الشام. ولد بالماطرون. وفي أيامه كانت فاجعة المسلمين بالسبط الشهيد «الحسين بن علي» سنة (٦١ ه‍). توفي بحوارين (من أرض مصر). الأعلام ٨ / ١٨٩ تاريخ الطبري حوادث سنة (٦٤ ه‍). رغبة الآمل ٤ / ٨٣ ٨٤ وجمهرة الأنساب (١٠٣).

(٢) عسقلان : بفتح أوله ، وسكون ثانيه ثم قاف وآخره نون. وهي مدينة بالشام من أعمال فلسطين ، ويقال لها عروس الشام. أنظر معجم البلدان ٤ / ١٢٢ مادة (عسقلان).

(٣) هو طلائع بن رزّيك ، (٤٩٥ ـ ٥٥٦ ه‍) الملقب بالملك الصالح ، أبي الغارات. وزير عصامي يعد من الملوك. دخل القاهرة بالقوة واستمر في الوزارة فكرهت عمة العاضد استيلاءه على أمور الدولة وأموالها ، فأكمنت له جماعة من السودان في دهليز القصر فقتلوه وهو خارج من مجلس العاضد. الأعلام ٣ / ٢٢٨ وفيات الأعيان ١ / ٢٣٨ مرآة الزمان ٨ / ٢٣٧.

٢٣٢

مسجده ولله الحمد ، وقد صلى الخديوي محمد توفيق (١) تلك الجمعة هناك فلم يكن له من الأبهة والضخامة الكبريائية ما ينكر وإنما معه بعض خدم وأعوان ، ومن المشاهد أيضا مشهد سيدتنا زينب شقيقة السبطين رضي الله تعالى عنهم ، ومشهد سيدتنا رقية إبنة سيدنا علي بن أبي طالب ، ومشهد سيدتنا سكينة بنت الحسين السبط ، ومشهد سيدتنا نفيسة (٢) الطاهرة من ذرية سيدنا الحسن الشهيرة بالزهد والصلاح والمناقب المأثورة ، ومشهد الإمام الشافعي خارج القاهرة في القرافة وغير ذلك من المشاهد والمقامات التي لا تكاد تحصى رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وذلك لأن مصر محط رحال الصحابة والتابعين والعلماء والمصنفين رحمهم‌الله أجمعين.

وكذلك الجوامع التي بها تكاد تفوق العدّ وأول مسجد بنى بها هو الجامع العتيق ويسمى الآن جامع عمرو أسس سنة ٢١ ه‍ عند الفتح الإسلامي ، ثم زاد فيه مسلمة بن مخلد الأنصاري (٣) سنة ٥٣ ه‍ وزوقه ، وقيل إنه بنى به أربع منائر بأركانه الأربع بأمر سيدنا معاوية وهو أول اختراع في ذلك ، وفيها يقول عامر بن هشام الأزدي (٤).

وكم لك من مناقب صالحات

وأجدر بالصوامع للأذان

كان تجاوب الأصوات فيها

إذا ما الليل ألقى بالجران

كصوت الرعد خالطه دوي

وأرعب كل مختطف الجنان

ثم الجامع الأزهر وهو أول جامع أسس بالقاهرة بعد الفسطاط أسسه جوهر القائد سنة ٣٦١ ه‍ وجدد اتساعه مرارا ، وهو ينقسم إلى بيت وسيع ذي تقاسيم مرفوع سقفه على أعمدة ، وإلى صحن وسيع محاط به أروقة يقيم بها جماعات من الطلبة المجاورين لأخذ

__________________

(١) هو محمد توفيق «باشا» بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي (١٢٦٩ ـ ١٣٠٩ ه‍). أحد الخديويين بمصر. ولد وتعلم بالقاهرة. في أيامه أنشىء نظام الشورى والمحاكم الأهلية. في زمنه نشبت ثورة عرابي باشا. وتوفي في القاهرة. الأعلام ٦ / ٦٥ والنخبة الدرية (٣٩).

(٢) هي نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (١٤٥ ـ ٢٠٨ ه‍) صاحبة المشهد المعروف بمصر. تقية صالحة عالمة بالتفسير والحديث. ولدت بمكة. سمع عليها الإمام الشافعي.

ولما مات أدخلت جنازته إلى دارها وصلت عليه. انتقلت إلى القاهرة وتوفيت فيها. الأعلام ٨ / ٤٤ ، وفيات الأعيان ٢ / ١٦٩ الدر المنثور (٥٢١) العبر ١ / ٣٥٥ وفوات الوفيات ٢ / ٣١٠.

(٣) هو مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري الخزرجي (١ ـ ٦٢ ه‍). من كبار الأمراء في صدر الإسلام. شهد مع معاوية معارك صفين. وهو أول من جعل بنيان المنائر التي هي محل التأذين في المساجد. توفي في الإسكندرية وقيل بالمدينة. الأعلام ٧ / ٢٢٤ الكامل في التاريخ ٤ / ٤٤ الولاة والقضاة (٣٨ ـ ٤٠). والإصابة ٦ / ٩٧ رقم الترجمة (٧٩٨٣).

(٤) هو عامر بن هشام بن عبد الله الأزدي البياني الأصل القرطبي أبو القاسم (٥٥٣ ـ ٦٢٣ ه‍) شاعر أندلسي من الكتاب وفاته في قرطبة الأعلام ٣ / ٢٥٥ المغرب في حلى المغرب (٧٥).

٢٣٣

العلم ، وهذا الجامع هو مدرسة العلم الجامعة في الأقطار المشرقية ، وفي القاهرة جوامع أخر عديدة ذات بناآت ضخمة ، أشهرها بمتانة البناء وضخامته وارتفاعه وإتقانه جامع السلطان حسن بن قلاون (١) ابتدأ في عمارته سنة ٧٥٧ ه‍ وأتمه في ثلاث سنين ، ومقدار ما صرف عليه بسكة الوقت نحو ثلاثة عشر مليونا فرنكا ، فهذه هي أشهر الأماكن بقاهرة مصر ، ومثلها مدارس العلوم الرياضية وقد جمع بها خزائن الكتب التي كانت متفرقة وتشتمل على نحو مائة ألف مجلد منها ثلاثون ألف مجلد بخط اليد ، وفيها من نفائس الكتب تأليفا وخطا ما لا يوجد بغيرها ، ومنها مصحف كريم يقال أنه بخط سيدنا عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، ومصاحف أخر عديدة عظيمة الحجم مزوقة بالذهب إلى غير ذلك من الكتب العتيقة والنفيسة ، وذلك بقية ما فات الفرنسيس من الكتب التي نقلها إلى باريس عند استيلائه على مصر مدة نابليون بونابارتي ، وكذلك المارستانات أي المستشفيات الجامعة للتداوي وتعليم فنون الطب ، وقد شاهدت أحدها فإذا هو جامع لسائر أدوات الكيميا والطبيعيات والأجسام المصبرة والمشرحة من بني آدم وغيره ، غير أني كانت مشاهدتي لهاته الآثار وهي على شفا جرف من الإضمحلال لما سيأتي خبره مما اعترى مصر أواخر مدة خديويها إسماعيل باشا.

ومن مهمات ما يذكر في القاهرة الأهرام التي بقربها في المكان المسمى بالجيزة ، وقد ذهبت إليها راكبا حمارا لأن العجلات لا تصل إليها إلا بكلفة حيث أن الأرض حولها مرملة ولم تتصل الطرق الصناعية بها ، والأهرام بأرض مصر كثيرة جدا منها ما هو باق إلى الآن وعدها بعضهم فقال إنها ٢٧ هرما ومنها ما اندثر بالهدم وصروف الأيام ، وأكبر الموجود منها أهرام الجيزة المذكورة وهي ثلاثة أهرام أكبرها أوسطها ويعرف بأبي هرميس ، وأشهر الأقوال في بانيه هو فرعون كيبوس أحد فراعنة العائلة الرابعة من فراعنة مصر ، وعلى ما حرره المؤرخون أن تلك العائلة لها الآن نحو ستة آلاف سنة وكانت مدة ذلك الملك في الملك ٥٠ سنة وتمم بناء هرمه في ٢٠ سنة وكان المشتغلون في بنائه ٣٦٦ ألف نفس كل تلك المدة كأنه جعل بحساب كل يوم من السنة ألف نسمة للشغل وسلك في بنائه طريقا عجيبا حتى صبر على تقلبات الزمن ، فقد وضع على شكل مخروط قاعدته مربعة وينتهي بنقطة ، ومن خواصه أنه يتساند على نفسه إذ مركز ثقلة في وسطه ويتحامل على نفسه وليس له ما يتساقط عليه وقوبلت زواياه بمهاب الرياح كي لا تؤثر فيه لأنها تنكسر سورتها بمصادمة الزاوية بخلاف ما لو لاقت السطح ، وفي داخل هذا الهرم عدة محلات يدخل إليها

__________________

(١) هو حسن (الناصر) بن محمد (الناصر) بن قلاوون أبو المحاسن (٧٣٦ ـ ٧٦٢ ه‍) من ملوك الدولة القلاوونية بمصر والشام. ولي السلطنة ، ثم ثار عليه بعض أمراء الجند فخلعوه وسجنوه وولوا أخاه صالحا ثم خلعوه وأعادوا الناصر. نجا من كمين نصب له وتنكر بزي أعرابي وأراد السفر إلى الشام فقبض عليه في المطرية فكان آخر العهد به. وقيل خنق ورمي في النيل. الأعلام ٢ / ٢١٦ والبداية والنهاية ١٤ / ٢٢٤ ـ ٢٧٨.

٢٣٤

المتفرجون وإن كنت في نفسي لم أستطع الدخول إليه لأن المدخل ضيق مظلم يدخله الإنسان حبوا ويدخل أمامه أحد السكان هناك بنور شمعة ، وأنا قائم بي ذلك المرض الذي يصحبه ضيق الصدر فلم أدخله ، ونقلت الكلام فيه من جغرافية مصر للفاضل محمد أمين فكري ، وكذلك نقلت منها جملة مهمات تتعلق بالأقطار المصرية فلعمري أنه كتاب جامع لفوائد قلما توجد بغيره مجموعة مع حسن السبك والإفادة والاختصار ، ومما قال في هذا الهرم : «أن بوسطه حجرة تسمى حجرة الملك فيها حوض بديع الصنعة من قطعة واحدة ، وأخرى تعرف بحجرة الملكة ويرى الناظر في داخله ما يبهر العقل من كمال إحكام تركيب تلك الأحجار الهائلة ، حتى قيل إن مقدار الواحدة منها مائتا قدم مكعب وجميعها يرى كأنه قطعة واحدة ، وينتهي أعلاه من داخل بسطح نحو عشرة أمتار ، يقال إنه سقطت منه حجرة وارتفاع أعلى الهرم على سطح أرضه ١٤٦ أما طول سطح أحد جهاته فهو ١٨٤ وطول كل ضلع من قاعدته ٢٣٠ ميترو ، والأهرام الآخر أصغر من هذا ، وقد اختلفت الأقوال في الغرض من بناء الأهرام حتى قال عمارة اليمني (١) :

تنزه طرفي في بديع بنائها

ولم يتنزه في المراد بها فكري

اه باقتصار وأظهر الأقوال إنها قبور لأصحابها.

وبقرب هاته الأهرام صورة أسد جاثم نحتا في الحجارة رأسه رأس آدمي مسدول الشعر وهي أضخم ما يكون من الصور ، وأصله من أعمال الفراعنة الأقدمين يسمى أبا الهول ، وبقربها أطلال بناءات هائلة سطا عليها الرمل ثم كشفت منها بيوت حائط كل بيت منها في قطعة واحدة من الحجر وسقفها كذلك حجرة واحدة ينذهل الرائي منها وكيف أمكن نقلها ووضعها بمحلها؟ وحول هاته الجهات أناس سكان كأنهم لا صناعة لهم سوى التفتيش على الأشياء العتيقة من تحت الأرض وبيعها للسواح والتطوف معهم لإراءتهم غرائب تلك الآثار القديمة ، مع أن الحكومة المصرية اعتنت كثيرا بجمع الآثار العتيقة التي يمكن نقلها وحفظتها في محل خاص بها هو من أهم أمثاله في الدنيا مباح لكل قاصد سيما أنتيك خانه. وفي سائر الجهات المصرية عجائب من صنائع الأقدمين مما يدل على تقدمهم التام في المعارف والصنائع ، ومنها ما اندثر علمه الآن مثل الإقتدار على جر الأثقال وحفظ أجسام الأموات على حالها المسماة بالمومية المصرية التي نقل منها لسائر أقطار التمدن ونسج المنسوجات من مواد حجرية لمسماة.

وغير ذلك ، وأغلب ما يوجد من أمثال هاته الأشياء في أقاليم الصعيد حيث كانت مقر

__________________

(١) هو عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني أبو محمد ، نجم الدين. مؤرخ وشاعر فقيه أديب من أهل اليمن ، ولد في تهامة. اتفق مع سبعة من أعيان المصريين على الفتك بصلاح الدين ، فعلم بهم فقبض عليهم وصلبهم بالقاهرة سنة (٥٦٩ ه‍). الأعلام ٥ / ٣٧ صبح الأعشى ٣ / ٥٣٢ وفيات الأعيان ١ / ٣٧٦ وآداب اللغة ٣ / ٧٤.

٢٣٥

تخوت ممالك الفراعنة وبعض اليونان ، والحاصل أنه يوجد بمصر من غرائب الآثار القديمة ما لا يوجد بغيرها ، وكل ما يمكن أن ينقل ولم تعتد عليه أيدي الدول الأجنبية فقد جمع في القاهرة في ديوان الآثار والغرائب ، حتى ذكر أن بعض دول أوروبا رضيت بشراء جميع ما في ذلك الديوان بما على الحكومة المصرية من الديون ، وعلى تقدير عدم صحة ذلك القول فإنه ينبىء عما لتلك الآثار من الغرابة والعناية حتى صح أن يقال فيها مثل ما ذكر.

وقد اجتمعت في القاهرة بأجلاء من فضلائها وأعيانها فقد زرت العلامة النحرير شيخ المشايخ الشيخ إبراهيم السقا (١) وهو طريح الفراش بمرض الفالج الذي لم يبق له من حراك سوى الكلام والنظر وثبات العقل ، وهو على جلالة علمه وفضله والتكدر من ألمه على جانب عظيم من التواضع ولين الجانب وحسن الأخلاق ، فأخبرني أنه من تلامذة الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي التونسي ، وأنه أخذ عليه وأجازه عند اجتيازه بمصر للحج وسألني عن ذريته ودعا لهم بخير ، وأعجبه النشوق من التبغ التونسي ودعا لي وللمسلمين بما نرجو من الله قبوله وأظن أن سنه نحو الثمانين سنة ، وكذلك حضرت تبركا بدرس العلامة النحرير الشيخ محمد عليش (٢) صاحب التآليف الشهيرة ، ووجدته يقرأ في شرحه على مختصر خليل في الفقه المالكي أثناء كتاب العتاق بمسجد قرب جامع سيدنا الحسين رضي‌الله‌عنه ، لأنه لم يستطع الإقراء بالجامع مع حيث تكثر فيه الأصوات من المدرسين وهو لكبر سنه البالغ نحو الثمانين وضعف بدنه كان منخفض الصوت حتى أني لم أتمكن من سماع تقريره كما ينبغي لانخفاض صوته مع مزيد السكون في المسجد ، ومع ذلك قد أطال الدرس حسب معتاد المصريين فمكثت فيه ساعة ونصف وانصرفت وهو لا زال بصدد الإقراء ، وعليه من مهابة العلم والصلاح ما يؤيد صيته الشهير.

وكذلك اجتمعت بالفاضل الصفوة الخيرة سيدي عمر السنوسي أخي صديقي سيدي إبراهيم السنوسي المتقدم ذكره في الإسكندرية ، وهو ذو أخلاق مطابقة لما له من مجد الأعراق ، وغير هؤلاء من بعض الأعيان من الأهالي والمستوطنين من أهالي الأقاليم الإسلامية كالفاضل الحسيب محمد الأحبابي من أعيان تجار أهل المغرب ذوي الثروة ، وكالشهم الهمام الزبير باشا الذي كان ملكا على قسم من مملكة دارفور من السودان ودخل طوعا تحت الخديوية المصرية رغبة في اتحاد كلمة الإسلام ، ثم عزله إسماعيل باشا وبقي

__________________

(١) هو إبراهيم بن علي بن حسن السقا (١٢١٢ ـ ١٢٩٨ ه‍) خطيب من فقهاء مصر. تولى الخطابة في الأزهر نيفا وعشرين عاما. مولده ووفاته بالقاهرة. الأعلام ١ / ٥٤ ، إيضاح المكنون ١ / ٢٥١.

(٢) هو محمد بن أحمد بن محمد عليش ، أبو عبد الله (١٢١٧ ـ ١٢٩٩ ه‍). فقيه من المالكية. مغربي الأصل. ولد بالقاهرة وتعلم بالأزهر. ولما كانت ثورة عرابي باشا إتهم بموالاتها ، فحمل وهو مريض لا حراك به وألقي في سجن المستشفى فتوفي فيه بالقاهرة. الأعلام ٦ / ١٩ ، إيضاح المكنون ١ / ٢٧١ شجرة النور الزكية (٣٨٥) معجم المطبوعات (١٣٧٢).

٢٣٦

مقيما بالقاهرة ، وهو رجل ذو فضائل جمة يتعجب مجالسه من كمالاته مع أنه من أهالي السودان وإن كان أصله من نسل العرب الكرام فهو مهذب الأخلاق عارف بالسياسة والحروب وبجغرافية دواخل أفريقية وشطوطها الشمالية غيور على الملة كثر الله من أمثاله ، وقد دعت المقتضيات إلى الإجتماع بحضرة الخديوي محمد توفيق باشا توجهت إليه وأحضرت أبياتا تضمنت تاريخي ولايته إذ كان إذ ذاك قد ولي منذ بضعة أشهر ، وتلقاها مني بسرور فبيت التاريخ الهجري هو قولي :

في سماء الملك أرخ

فلاح توفيق الخديوي

وبيت التاريخ الميلادي هو قولي : ١٢٩٦

فأنشد التاريخ صاح

قر تتويج الخديوي

١٨٧٩

والصاد بعدد تسعين ، لأن ذاك هو حساب المشارقة فيها ، وأما المغاربة فهي عندهم بستين وذلك لأن حروف أبجد بحساب الجمل وقع في أعداد بعضها خلاف بين المشارقة والمغاربة ، وهاته الحروف نذكرها هنا تتميما للفائدة حيث رأيت كثيرا من أهالي القطرين يجهلون ما عند إخوانهم حتى أنهم ربما حملوهم على الخطأ في العدد ، مع أن ذلك مبني على الإصطلاح الذي لا مشاحة فيه ودونك حساب الأحرف والذي فيه الخلاف نضع حساب الشرق عن يمينه والغرب عن شماله وباقيها نضع له عددا واحدا : أ ١ ب ٢ ج ٣ د ٤ ه‍ ٥ و ٦ ز ٧ ح ٨ ط ٩ ي ١٠ ك ٢٠ ل ٣٠ م ٤٠ ن ٥٠ ٩٠ ص ٦٠ ع ٧٠ ف ٨٠٠٨٠ ض ٩٠ ق ١٠٠ ر ٦٠٣٠٠ س ٣٠٠ ت ٤٠٠ ث ٥٠٠ خ ٦٠٠ ذ ٩٠٠٧٠٠ ظ ١٠٠٠٨٠٠ غ ٣٠٠٩٠٠ ش ١٠٠٠ وحيث كنت قائلا للأبيات في المشرق راعيت قاعدتهم.

فاجتمعت بالخديوي في قصر عابدين ولم يكن معنا أحد وهو متواضع دين متفنن متبصر ، وبعد إقامتي بالقاهرة بضع أيام واشترائي منها القرب لحمل الماء في الطريق واشتراء الخيام اللازمة لذلك ، سافرت إلى بلدة السويس في طريق الحديد وكان العمران قرب القاهرة جميلا لكنا ما تنحينا عن خط النيل إلا وكانت الأرض صحراء خاوية لا نبات بها ولا أنيس سوى بعض شجر القصب على حافتي الترعة الذاهبة إلى السويس وبها أفراد من القوارب الصغيرة الحاملة كل منها لإنسان أو إثنين مع بعض بضائع ، فوصلنا إلى السويس بعد الغروب وكان السير من القاهرة إليها نحو ثمان ساعات فتلقانا الخير العفيف وكيل المغاربة بتلك البلدة ، ونزلنا بأحد منازل المسافرين على نحو ما مر في غيرها ، فإذا هي قرية بها بعض الأجانب وبها حاكم يلقب بالمحافظ وضابطية وعساكر ، وأهم ما فيها مرساها الصناعية وبقربها من الشرق فوهة الخليج الجامع بين البحرين الأبيض والأحمر ، وحول المرسى محل للتحفظ المسمى بالكرنتينة وعليه عساكر محافظون ، وفي البلد شجرات وشبه جنينات حول ديار بعض الإفرنج وما وراء ذلك فهو صحراء خالية وإن كانت الأرض قابلة

٢٣٧

للإصلاح لكن تشديد الحكومة في إعلاء سعرها أبقاها خرابا ، وجميع المنازل التي لخدمة خليج السويس لها بعض تحسين ومياه النيل واصلة إليها.

الفصل الثالث : في التعريف بمصر

هاته المملكة صارت ملتئمة من عدة ممالك عظيمة في أفريقية ، فيحدها شمالا البحر الأبيض ، ويبتدىء الحد الشرقي منه مارا على خط موهوم بين الشام ومصر ، ثم على شاطىء البحر الأحمر الغربي شاملا بلاد النوبة إلى أن يصل لمملكة الحبش التي يفصل بينهما جبال هناك فينعطف الحد معها شرقا محيطا بها مارا للجنوب مارا مع البحر الأحمر ، فيمر أيضا معه إلى أن يجاوز باب المندب ، ومملكة الحبش حينئذ داخلة في الحد لكنها لا تصل للبحر لما ملكته مصر من شطوطه ، ثم يمر الحد مع البحر ويشمل مملكة عادل المسماة بزيلع ، فيمر على شاطىء أفريقية الشرقي على المحيط الشرقي إلى أن يصل إلى حدود مملكة زنجبار ، ثم يبتدىء الحد الجنوبي فيمر من الشاطىء مغربا إلى دواخل أفريقية السودانية وينعطف إلى الجنوب حتى يصل إلى حد الدرجة الثالثة جنوبا وراء خط الإستواء ، ويشمل مملكة دارفور ويصل إلى حدود مملكة وداي ويمتد الحد الغربي مع مملكة وداي إلى أن يصل إلى الصحراء الكبيرة فينعطف معها ذاهبا إلى الشمال من غير تعيين لخط معين حيث أن الأمر مهمل فلا حصر فيه ، وهذا في الجهات السودانية إلى أن يصل إلى طرابلس ويمر معها إلى أن يصل إلى البحر الأبيض حيث ابتداء التحديد ، وحيث كانت على ما علمت من الإتساع والكبر لا جرم إن كانت صفة أرضها مختلفة جدا.

فأما مصر الأصلية : فالمعمور منها هو عبارة عن واد بين سلسلتين من الجبال مارة من الجنوب إلى الشمال يضيق تارة إلى ثلاثة أميال ويتسع أخرى إلى نيف وعشرين ميلا كلها يسقيها نهر النيل ، وذلك كله في غاية الخصب والنضارة تتجّدد أرضه سنويا بفيضان النيل ويخرج الله منها بركاتها مما جعل مصر غنية عامرة ، وما عدا هذا الوادي فهو عبارة عن جبال قحلة لا نبات بها أو أراضي يابسة مرملة لا ترى فيها إلا الحصا.

وأما بلاد النوبة الداخلة في مملكة مصر ، وهي المحادة لها من الجنوب : فهي ذات صحارى وجبال خصبة وأراضي خصبة ، وبقية الممالك وهي وداي ودارفور وزيلع وغيرها ، فكلها ذات جبال وآجام وخصب.

وأما جبال ممالك مصر فهي كثيرة ليس منها جبل بركاني ولا منها الزائد في الإرتفاع ، وأعلاها هو الفاصل بينها وبين الحبشة.

وأما أنهرها فأولها نهر النيل وما أدراك ما النيل وهو نهر يحمل السفن الصغيرة إلى أول شلالة به عند الخرطوم ، وهو عندهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

٢٣٨

أحدها : يسمى نيل السودان وذاك من منبعه إلى الخرطوم.

الثاني : منها إلى فيلة وهي جزيرة في وسطه قرب مدينة أسوان.

الثالث : منها إلى البحر الأبيض.

فالقسم الأول يتكون من نهرين يسمى أحدهما : البحر الأبيض ، والآخر : البحر الأزرق ، عبارة عن عظمهما حتى ألحقا بالبحر ، والبحر الأبيض : كأنه هو الأصل للنيل وهو يجتمع من عدة أنهر في أواسط أفريقية وهو أعظمها وأبعدها منبعا ، لأنه منبعث من بحيرة أو كيريفي المعروفة بفيكتوريا على ظن آخر الجغرافيين الآن وإن كان التحقيق أنه مجهول حيث تبين أن تلك البحيرة تستمد من بحيرة أخرى ، ولكن الوصول إلى اكتشافها صعب ولعله تحدث أسباب لذلك ، وطوله إلى حيث يجتمع بأخيه قرب الخرطوم ٢٣٠٠ كيلوميتر أي نحو ألفي ميل.

وأما الأزرق : فحجمه نحو الثلث من السابق ومنبعه من بحيرة دميعة في بلاد الحبشة ويمر على عدة شلالات ثم يجتمع بأخيه ويصير حينئذ القسم الأوسط ، فتصب فيه عدة أنهار وغير معتبرة وذلك في بلاد النوبة ، فإذا وصل إلى أصوان حدثت منه الشلالة الأخيرة التي تمنع زيادة صعود السفن عنها لأنها متكونة من ارتفاع الأرض في المجرى الأعلى وانخفاضها في المجرى الأسفل مع صخور مرتفعة فيكون له خرير كالرعد القاصف يسمع من بعد بعيد ، فإذا وصل النيل إلى أسفل القاهرة انقسم إلى فرعين : شرقي ، وغربي ، فالشرقي : يصب في البحر الأبيض عند دمياط ، والغربي : يصب في البحر المذكور عند رشيد ، وأحدثت من النيل ترع عديدة حتى صار يصب في البحر الأحمر وخليج السويس والإسكندرية وغير ذلك ، وصنعة الترع في مصر كانت معروفة في مصر بأحسن مما هي عليه الآن حتى كانت تروى سائر رباها بل وجبالها أيضا ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى حكاية عن فرعون. (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] فكانت أرض مصر كلها عامرة بالأنهار ، وهاته الترع تحمل القوارب وتقع بها المواصلات وتبين مما مر أن في مصر أنهارا عديدة عظيمة سيما في السودان ، ويجتمع الجميع في النيل ، ولولا عظمة المياه لتلاشت في الصحاري التي تمر عليها.

ومن غرائب النيل أنه يفيض في وقت معين من كل سنة وهو وقت الإنقلاب الصيفي ويستمر على ذلك إلى الإعتدال الخريفي فيأخذ في النقصان إلى الإنقلاب الشتوي فيتحد في مجراه إلى السنة القابلة ، ويختلف فيضانه بالزيادة والنقصان ، واعتداله المطلوب للسكان هو أن يرتفع على المجرى الإعتيادي سبعة امتاز فإن زاد أهلك بالغرق وإن نقص أجحف الناس بالقحط ، ولهذا الإعتيادي سبعة أمتار فإن زاد أهلك بالغرق وإن نقص أجحف الناس بالقحط ، ولهذا الفيضان كانت مصر الأصلية لها مناظر عجيبة ، ففي الربيع الذي هو شباب الزمان في سائر البقاع تكون مصر عموما أقل بهجة من نفسها في وقت آخر ، وفي الصيف الذي تجف فيه المياه في المعروف تكون مصر بحرا من الماء العذب راسبة فيه قرى ومدن

٢٣٩

وأمصار يسلك من بعضها لبعض في القوارب ، وفي الخريف الذي يتبدىء فيه في غيرها ذبول النبات تكون هي قد شب نباتها وازدخرفت وربت ، وفي الشتاء تنتشر أزهارها وتغرد أطيارها ويحصد زرعها وتدخر أقواتها وتفيض على العالم محصولاتها فانفردت بذلك عن غيرها.

وليس هناك ما يشبهها إلا نهر السند المار على بلوجستان ، فإنه يقرب من ذلك من حيث فيضانه في الصيف ، ولما أحدثت الآلات البخارية لرفع الماء من النيل زمن نزوله قل ضرره من القحط ، إذ لم يعهد أنه جف ماؤه إلا سنة ١٢٧٨ ه‍ وكان كربها شديدا.

أما ضرر تفاقم فيضانه فقد أعان على تخفيفه الأخبار بالأسلاك الكهربائية حيث يأتي الخبر بتفاقمه سريعا من السودان ومصر العليا ، فتفتح له أفواه الخلجان وترتفع الناس عن الأراضي المنخفضة ومع ذلك يحصل منه ضرر عظيم أحيانا ، وقد اختلفت الأقوال في أسباب فيضانه وأظهرها أنه متركب من شيئين.

أحدهما : ذوبان الثلج المتراكم على جبال الحبشة الشاهقة ، وعلى جبال أواسط أفريقية بحرّ أواخر الربيع ، فتسيل مياهها ويطموا بها النهر الأزرق وغيره ، ولطول امتداد الأنهر ما يصل ماؤها إلى مصر إلا في الإنقلاب الصيفي.

وثانيهما : أن جنوب خط الإستواء فصوله على عكس فصول شماله ، فالربيع عندنا هو الخريف عندهم ، والصيف عندنا هو الشتاء عندهم ، وقد علمنا أن النهر الأبيض منبعث من جنوب خط الإستواء بعدة درجات وأن الأمطار في الأقاليم الحارة تتراكم دفعية سيما وقت الخريف ، والخريف في الجنوب هو ربيع في الشمال فما يصل ماؤه إلا في الصيف في الشمال ، فيحدث من ذلك طمو النهر الأبيض أيضا ويلتقي بأخيه وهما طاميان ، فيحدث فيضان النيل زمن الصيف في مصر.

أما بقية الأنهر في ممالك مصر ففي النوبة والسودان كثير من الأنهار والجداول منها ما يصب في النيل ومنها ما يجف في الصحارى وليس منها ما يهم سوى النهر الأبيض والأزرق المتقدمي الذكر ، وفي أرض مصر من صعيدها إلى بحريها لا يوجد نهر أصلي سوى النيل ، لكن أحدثت منه أنهار عديدة عظيمة تسمى بالترع حتى صارت أغلب الأراضي المصرية مخترقة بتلك الأنهر الصناعية ، ومنها الكبير الذي يحمل السفن النهرية ومنها الصغير ومنها الدائم الإمتلاء بالمياه ومنها ما يجف عند انتهاء إنخفاض النيل ، والموجود الآن من هاته الترع يزيد عن الستمائة وأحد عشر نهرا أطولها الإبراهيمية فإنها تقرب من مائتي ميل ، ولا زال الإعتناء بتكثير الترع المستلزم لتكثير أراضي الزراعة حتى بلغت الآن إلى ما يقرب من خمسة ملايين فدانا مسقية مزروعة ، والفدان عبارة عن مساحة ٥٩٢٩ ميترو مربع وهذا المقدار وإن كان كثيرا في ذاته لكنه لم يبلغ إلى ما كانت عليه الترع في مصر قديما ، حيث كانت زمن الفراعنة تصعد مياه النيل إلى أعالي رباها وجبالها وتسقى

٢٤٠