صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأما بحيراتها فكثيرة أيضا وهي في اسكوتسيا أبهج لما يحيط بها من المرج والجبال ولذلك كانت منتدى الأغنياء في الصيف ، وأشهرها بحيرة نس وبحيرة لومند طولها نحو ٣٠ ميلا وكذلك بحيرة نياغ في شمال أرلانده وبحيرة أرن فيها أيضا.

وأما هواؤها فهو على العموم بارد وفي الشمال أشد وسليم موافق للصحة ، لكن يكثر فيها الضباب صيفا وشتاء وكذلك المطر الذي يسقي مزروعاتهم صيفا وشتاء ، ويوم الصحو الذي ينظرون فيه زرقة السماء يعد من حسنات الأيام لأن الضباب يتكاثف أحيانا إلى أن يحوج إلى إبقاء النور نهارا وربما كان غير مجد إلا في البيوت والمسقفات ، أما في الطرق فالنور إنما يقوم بنفسه ولا تخرق أشعته تكاثف الضباب وكاد المطر أن لا يفارقهم ثلاثة أيام متواليات ، وقد يشتد الحر في الصيف إلى أشد من أقاليم خط الإستواء سيما في دواخل القارة حتى يموت الناس في الطرق وذلك لانعدام النسيم وسكون الهواء سكونا زائدا فيشتد الحر إلى درجة عالية للغاية لكنه لا يدوم فما هو إلا يوم أو بعض يوم وتعقبه السحب والأمطار والبرد.

وأما نباتاتها فهي نباتات الأراضي الباردة والجهات الوسطى والجنوبية يخصب فيها سائر الحبوب وإن كانت لا تكفي السكان ، وأما العنب وما شاكله من نبات الإعتدال والحر فلا يوجد منه إلا ما يجعل له بيوت خاصة معالجة بالتسخين الناري ، ومع ذلك فتجد الأرض بهجة مخضرة بالنباتات لكثرة العلاج وإتقان الفلاحة وتجرية المياه ، وغاباتها كثيرة بها الأشجار الضخمة الصالح خشبها لإنشاء السفن العظيمة فيراها الناظر معمرة لأغلب البقاع ، ونباتات المراعي خصبة جدا تسمن عليها الحيوانات.

وأما معادنها فالغني منها الحديد والفحم الحجري بكثرة في أغلب الجهات ، وفيها الرصاص وغيره وهي أغنى ممالك أوربا في المعادن.

وأما حيواناتها ففيها كل أنواع الحيوانات الموجودة في فرنسا وإيطاليا كما سبق ذكره ، والسباع منها منقطعة للإجتهاد في إزالتها من قديم فإن وجد شيء من صغار السباع فإنما هو في الجبال الشمالية وذلك كالدب والثعلب وما شاكلها ، وأوّل من اعتنى بإفناء السباع من المملكة الملك أدغر المتولي سنة ٩٥٩ فقد ألزم رعيته في كل سنة بأن تأتيه بثلاثمائة ذئب واستمر ذلك إلى أن فني ذلك النوع ، وقد كان مالكا أرضها مع خبثه الشديد لأن الذئاب الشمالية كالسباع الكبيرة في الجرأة والأذاية كالمشاهد الآن في الروسية ، وخيلها جيدة للغاية وفيها من أجود الخيل العرابية لشدّة العناية بجلبها وتوليدها وتربيتها حتى فاقت سائر أوروبا في الخيل ، وكذلك غنمها أحسن أنواع الأغنام وصوفها مرغوبة للصناعات النفيسة لأنها كادت أن تكون مثل الحرير.

وأما مدنها فقاعدتها لندره وقد مر ذكرها وبقية المدن كثيرة ومن أشهرها : «ليفربول» وهي ثانية لندره في التجارة واقعة على مصب نهر مرسى في بحر أرلانده ، وفي مرساها من

١٨١

السفن ما يستغرب من كثرته. ثم مدينة «مانشيستر» لها من الشهرة ما يناكب السابقة وهي شرقيها على نحو ٣٢ ميلا. ثم مدينة «بيرمنهام» ثم مدينة «رشفليد» ومدينة «كدرمنستر» وفي أسكوتسيا مدينة «أيدنير» ومدينة «أبردين» ومدينة «دندي» ومدينة «كلاسكو» وهاته أعظم أخواتها تجارة ومركزا ومعارفا ، وفي أرلانده أربع عظيمة : إحداها : جهة الشمال. وهي «بلغاست» الثانية : جهة الشرق. وهي «دوبلين» الثالثة جهة الجنوب : وهي «كورك» الرابعة جهة الغرب وهي «غلوه» وكل من هاته الأربع قاعدة للقسم الذي هي فيه ، وهناك مدن أخرى عديدة غير هاته.

وأما مراسي هاته المملكة فحيث كانت هي جزائر بحرية فكادت مراسيها أن لا تعد وأكثرها محصن تحصينا جسيما حتى أن كثيرا من الحصون في المراسي الحربية صارت الآن مدرعة بصفائح الحديد الثخين الذي لا يعمل فيه الكور من المدافع الجديدة ، وفي بعضها معامل للسفن المدرعة والخشبية ، ومن هاته المراسي ما هو مأمن للسفن بأصل الخلقة كأكثر مراسي أرلانده ، لأن في شطوطها تعاريج كثيرة حسنة المنظر ، ومنها ما هو مأمن بالصناعة وتجيء إلى هاته المراسي التجارة في السفن والبواخر من سائر الأقطار وأكثر سفن العالم إنما هو للإنكليز كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ، وقد تحرر أن لها على شطوطها لهداية السفن ليلا أزيد من مائتي منارة.

وأما تقاسيم المملكة بالنظر للإدارة فهي في انكلاتيره الأصلية إثنان وخمسون مقاطعة ، وفي أسكوتسيا ثلاثة وثلاثون مقاطعة ، وفي إرلانده أربع مقاطعات ، فالجميع تسعة وثمانون مقاطعة لكل منها إدارة على نحو ما يأتي بيانه إن شاء الله.

واعلم أن هاته المملكة تتبعها جزر أخرى صغيرة حواليها كثيرة أشهرها جزيرة «مان» وجزائر «نورمونديا» وذلك عدا المستعمرات الخارجية ، لأن ما ذكر هو قطعة من ذات المملكة.

وأما أهل المملكة فهم إثنان وثلاثون مليونا كلهم إنكليزيون وديانتهم نصرانية على مذهب البرتيستانت إلا البعض ، وهم أكثر أهل إرلانده فهؤلاء على مذهب الكاتوليك ، ويوجد فيهم قليل من اليهود والدهريين وأفراد من المسلمين منهم من أهل المناصب العالية والبيتوتات الكبيرة الملقبين باللورد ، كاللورد استارنلي وهو من الصادقين في الإعتقاد الإسلامي ولله الحمد ، دخل إليه عن رؤية وبرهان نسأل الله له مزيد التوفيق والحماية وعلو الكعب والهداية ، ثم أن هاته المملكة لها مستعمرات واسعة في جميع أقطار الأرض حتى كانت أول دولة في العالم في اتساع الممالك وثاني دولة في كثرة الرعية ، إذ هي تالية لدولة الصين في كثرة الرعية لكنها الأولى في اتساع المملكة وعلو الشأن في أقطار الأرض جميعها ، فأعظم مستعمراتها هو الهند وما معه وقد مر في المقدمة تفصيل ما وصلنا إليه من أحواله ، ولها في آسيا أيضا جزيرة «هنكونغ» في الصين ومدينة عدن وباب المندب وجزيرة يريم في جزيرة العرب وجزيرة قبرس في البحر الأبيض دخلتها بمعاهدة مع الدولة العثمانية

١٨٢

سنة ١٢٩٥ ه‍ وحماية على مسقط وبعض قبائل شطوط جزيرة العرب الشرقية ، ولها في أوروبا جزيرة الياغولاند في بحر الشمال وجزر جرسي وغرنسي في بحر المنش وجزائر صغيرة حول المتجمد الشمالي وجبل طارق الهائل التحصين في أرض إسبانيا على الخليج الموصل بين المحيط والبحر الأبيض المسمى ببوغاز طارق ، لأن طارق (١) هذا هو الذي عبر البحر من أفريقية ، واستملك الجبل المذكور للمسلمين فسمي به ثم افتتح بقية الأندلس ، وكذلك لها في أوروبا جزيرة مالطة في البحر الأبيض وسيأتي تفصيل حالها إن شاء الله ، ولها في أفريقية شطوط من سانيغال وجبال الأسد في كينيا العليا وأرض شط الذهب فيها ورأس الرجاء الصالح وجزائر سنتلين وموريس ولاسانيول وشطوط في جزيرة مد عسكار ، ولها نوع حماية أو سلطة على ممالك مستقلة في أفريقيا أيضا مثل الزلوس وغيرها في أرض الكفر ونفوذ في الزنجبار ، ولها في أماريكا البرنيتانيا الجديدة في شمال أماريكا وكاندا وبرنزويك وسكوسيا ولا برادور ، وكلها توصف بالجديدة ، وجزيرة الأرض الجديدة وأراضي أخرى غربي شمالي أماريكا ، وجزائر المتجمد الشمالي وجزائر الأنتيل الصغار وجزائر جامايك ويمنان الأنقليزية وماجلان ، ولها في أستراليا الشط الشرقي ومعظمها من بقية الشطوط وجزائر تزماينا وزيلاندة الجديدة ونورفولك ، فإذا نظر المتأمل لاتساع هاته المستعمرات وافتراقها على جميع أقسام المسكونة علم مقدار اقتدار هاته الدولة وسيأتي في فصل التاريخ أن من حسن إدارتها كانت هاتيك الممالك قوة لدولتها لا جالبة لضعفها وهذا جدول لعدد السكان :

٢٢٧٠٤١٠٨

سكان انكلاتيره

٠٠٣٣٥٨٦١٣

 سكان إسكوتسيا

٠٠٥٤٠٢٧٥٩

 سكان إيرلانده

٠٠٠١٤٤٤٣٠

 سكان الجزر التابعة لها

٠٠٠٢٠٧١٩٨

عساكر وبحرية خارجها

١٦٢٠٧٢٧١٥

سكان ممالكها بالهند

٠٠٠١٦٠٣٦٩

 سكان بقية أماكن بأوروبا

٠٠٥١٣٣٧٢٢

 سكان ممالكها بأمريكا

٠٠٠ ، ٠٠١٨٦٠

سكان مستعمرات أفريقيا

٠٠١٩٥٨٦٥٠

 في استراليا

٠٠٠٤٢٦٠٤٧

في بقية الجهات

٢٠٣٤٣٠٦١١

__________________

(١) هو طارق بن زياد الليثي بالولاء (نحو ٥٠ ـ ١٠٢ ه‍) فاتح الأندلس ، أصله من البربر ، أسلم على يد موسى بن نصير فكان من أشد رجاله. الأعلام ٣ / ٢١٧ ، نفح الطيب ١ / ١٠٨ ، بغية الملتمس (١١ و ٣١٥) الكامل في التاريخ ٤ / ٢١٢.

١٨٣

الفصل الرابع : في إجمال تاريخ إنكلاتير

مطلب في تاريخها القديم

لا يخفى أن سائر أوروبا كانت في الأعصر السالفة على جانب عظيم من التوحش فلذلك كانت تواريخها القديمة عقيمة مجهولة ومن ذلك تاريخ انكلاتيره أيضا ، وغاية ما يعلم من أحوالها أن قوما من الكنيين أي قدماء الفرنسيس الذين مقرهم في فرنسا بين نهر السين ونهر غارون عبروا إلى أراضي انكلاتيره بقصد توسيع التجارة فلم يجدوا لهم ممانعا واستوطنوا هناك ، ثم لحق بهم فرقة من أهل البلجيك وبقوا جميعا على التوحش التام وحكمهم بأيدي رؤساء القبائل بل العائلات حتى أن غير هؤلاء هم كالعبيد بأيديهم ، وبينهم كهان لهم سلطة على الجميع بما يتعلمونه خفية من علم السيمياء والطبيعيات ليوهموا العامة بخرق العادة لهم حتى اعتبروهم كالآلهة ، وكانوا جميعا يعبدون الأصنام حتى أنهم يقربون إليها دماء الإنسان بالتضحية لها ، وفي سنة ٥٥ قبل التاريخ المسيحي عبر إلى إنكلاتيره يوليوس قيصر بجيوش الرومان فلم يتمكن منها لمعارضة الأهالي مع هيجان عظيم في البحر ثم عاد إليها ثانيا واستملك منها بعض الجهات لكنها لم يستقر حالها أيضا ، وفي سنة ٤٣ بعد التاريخ المسيحي أعاد الرومان الكرة وافتتحوا الجزيرة وأرسلوا رئيس عصبتها إلى رومة أسيرا ، ثم ازداد الرومان تمكنا منها بما وقع من التخاذل بين أولئك الكهان إلى أن أبادوهم ، غير أنه كانت إحدى القبائل مترئسة عليهم امرأة يقال لها «بوديكيا» فاستنهضت جميع الأهالي وقهرت الرومان وقتلت منهم سبعين ألفا ، ثم أعادوا الكرة وانتقموا من الأهالي حتى قتلوا منهم ثمانين ألفا وزادوا عليهم العذاب المعروف من الرومان ثم عدلوا فيهم وكمل إخضاعهم بالعدل أحسن من السيف لكنهم شغبهم أهالي إسكوتسيا الساكنون في الجبال بغاراتهم المتتابعة فبنوا بينهم سورا ثم آخر أعظم منه طوله ثمانون ميلا وذلك في حدود سنة ١٢١ مسيحية.

وفي سنة ١٨٧ استبد على الرومان أحد قوادهم بميل الأهالي إليه وصار ملكا على إنكلاتيره ، ثم عادت إلى الرومان بلا حرب لتكاثر الإنقسامات الداخلية ودامت ولاية رومانية إلى القرن الخامس ، وفي مدة استيلاء الرومان التي هي أربعة قرون حصلت الأهالي على معارف جمة مما كان عند الرومان حتى كانت ذات مدن وحضارة وصنائع وتجارة لما في الأهالي من النشاط إلى الكد ، ثم في سنة ٤٢٠ اضطر الرومانيون إلى تسليم إنكلاتيره لأهلها ورفع جيوشهم منها لما وقع في إيطاليا من الحروب الأهلية والخارجية فكان حفظ قاعدتهم أولى لهم من حفظ المستعمر ، غير أن أهالي أنكلاتيره وإن حصلوا على حظ من التمدن بسبب المتسلط عليهم فقد فقدوا ما يوازي ذلك من الحرية والشجاعة للهوان الذي حملوهم إياه ، فلم يستطيعوا الإستقلال بأنفسهم لمهاجمة أهل الشمال من جبال أسكوتسيا فلذلك استنجدوا قبيلة من الألمان مقرها على مصب نهر الألب من أوروبا الشمالية تسمى

١٨٤

السكسونية ، لما كان بينهم من المودة والمخالطة وطلبوا منهم الإعانة على دفاع الأعداء فأنجدوهم ، لكنهم استأثروا عنهم بفائدة النصر فجعلوا الأهالي كالعبيد لهم وتملكوا عليهم ، وعندما أرادوا دفاعهم شتتوهم واستقلوا هم بالبلاد. ورحلت فرقة من أهالي انكلاتيره فارة بحياتها إلى أراضي فرنسا وسمي المكان الذي استعمروه منها بإسم برنيطانيا نسبة إليهم حيث كانوا من أهالي برنيطانيا ، وكان مبدأ استملاك السكسونية من سنة ٤٤٢ ميلادية ، ثم قسموا انكلاتيره إلى سبع ولايات تسمى بأسماء أعيانهم ولكل منها أمير ويرجع الجميع إلى ملك وهو أحدهم ، ونشأ عن ذلك منازعات في هاتيك السيادة دامت بسببها الحروب الداخلية وعندما فاز بها ملك ولاية كنت أحد السبع المذكورة ، دخلت في الأهالي الديانة النصرانية وذلك سنة ٥٩٦ وامتدت الهوينا فيهم إلى أن عمتهم.

وفي سنة ٨٢٧ زال استقلال سائر الولايات بدخولها جميعا تحت تملك ملك واسيكس وهو أغبرت وهو أول مستقل حقيقة بالجميع وأوّل ملك لإنكلاتيره جميعا من العائلة السكسونية وتوارثت الولاية أولاده ، وفي مدتهم هجم عليهم أهالي الدانيمرك وتملكوا أوّلا عدة جهات ثم عمت ولايتهم لكنها لم تطل ، واسترجع منهم ألفرد (١) الملك الأصلي من العائلة السكسونية بعض الجهات ، ثم عقد معهم صلحا ومعاهدة على الذب والإقدام واشترط عليهم الدخول في النصرانية ، ثم التفت إلى إصلاح البلاد من جهة التمدن ومن جهة القوات الحربية وأدمل جراحاتها ورقاها إلى أوج حسن ، ومع ذلك كان منكبا على التأليف والترجمة فأفاد أمته فوائد جسيمة وفتح لهم بابا من الحرية حتى كان من جملة حكمه التي جرت عندهم مثلا إلى الآن قوله يجب أن يكون الإنكليز أحرارا مثل أفكارهم ولمثل ذلك لقب هذا الملك بالفريد الكبير وكانت وفاته سنة ٩٠٠.

ومن مشاهير ملوك هاته العائلة حفيد المذكور اشليستان الذي أتم استخلاص المملكة من بقية الدنمرك ورقي قواته الحربية إلى أن رغب في موالاته غالب الملوك من أوروبا ، فعقد الصلح مع فرنسا وصاهر بأخته ملكها وبأخته الأخرى ملك ألمانيا ، ومن مشاهيرهم أيضا أرغرتوا المستولي سنة ٩٥٩ فإنه أبلغ القوات البحرية إلى درجة لم تعهد لهم في ذلك التاريخ حتى صارت سفنه أربعمائة سفينة ، وكان يتفقد بنفسه المملكة مرة في السنة وهو الذي قطع الذئاب منها كما مر آنفا ، ومنهم أيضاالملك أثريلد الذي كان سبب استيلاء الدنمرك على المملكة بقتله جميع من كان فيها منهم فافتتحوها بحروب ذريعة ، وتملك منهم على إنكلاتيره ثلاثة ملوك أشهرهم : الملك كانوت الذي عمم العدل والراحة حتى استطاع السفر عنها لزيارة البابا في رومية وكتب إلى عماله بما تعريبه : «إعلموا جميعا إني نذرت حياتي لله وأن لا أحكم في ممالكي إلا بالعدل وأن لا أفعل في كل أمر إلا المستقيم

__________________

(١) هو ألفرد الكبير (٨٤٩ ـ ٨٩٩) أشهر الملوك الأنكلوسكسون. سنّ الشرائع وشجع العلوم ومهّد للوحدة الإنكليزية. المنجد ص (٦٠).

١٨٥

فإن كان صدر مني وأنا في عنفوان شبيبتي وعدم مبالاتي ما يناقض ذلك فها أنا ذا قد عزمت بحول الله على تعويض ما فرط مني ، ولذلك أرجو وآمر كل من قلدته شيئا من الأمر ويريد خلاص نفسه وبقاء طاعته لي أن لا يظلم أحدا سواء كان فقيرا أو غنيا ، ولتسووا بين الأشراف وغيرهم في إنالة حقوقهم على مقتضى الشرائع التي يجب حفظها ، ولا يحولكم عن ذلك الخوف مني ولا تطلبوا رضاء الأشراف ولا الميل إلى ملء خزائني المالية فإني لا أحب مالا جمع بظلم» اه.

وبعد وفاة هذا الملك ثارت الفتن بين أعقابه وأعقاب العائلة السكسونية إلى أن استولى منها إثنان في ارتباكات متوالية حتى انقرض الجميع سنة ١٠٦٦ ، وبينما كانت الأهالي في نزاع فيمن يملكوه عليهم وإذا بأحد أمراء ولاية نورمندية التابعة لفرنسا قد هجم عليهم وقهرهم جميعا واستقر ملكا عاما على إنكلاتيره وعلى نورمندية معا ، ثم حصلت له حروب في انكلاتيره حملته على الإنتقام بالقتل لأهلها وإفساد الزرع حتى نشأت عنه مجاعة مات فيها نحو مائة ألف نفس ، ثم ثار عليه إبنه الذي خلفه في نورمندية وحاربه وانتصر عليه ، وبعد موته خلفه ذلك الإبن في كل من المملكتين مع حروب دائمة فيه وفي خلفه ، حتى استولى هنري الأول (١) من أحفاده وحاربته فرنسا في مدة لويس السادس عشر لاستخلاص ولاية النورمندية وغلبها ونازع البابا في حق إعطائه وظائف الديانة واستقل هو بها مثل سائر الوظائف ، ثم تعاقبت الثورات والحروب تارة داخلية وتارة مع الولاية النورماندية في استخلاص نفسها ونزاع في التملك إلى أن ولي هنري الثاني (٢) أول العائلة البلانتاجينية وهو إسم حشيشة كانوا يصنعونها في قلانيسهم فنسبت العائلة إليها وذلك سنة ١١٥٤ ، فأعمل هذا الملك حزمه في إزالة تعصبات الجهات وأزال ما فيها من الحصون وخضد شيئا من شوكة الأعيان وأجرى نوعا من التسوية في الحقوق فهدأت الحروب في مدته ، ومن مشاهير فروعه في الملك ريكاردوس الملقب بقلب الأسد المتولي سنة ١١٨٩ وهو الذي اشترك في حرب الصليب ثم أسر عند النمسا وفداه أهله وقتل وهو محاصر لإحدى القلاع في فرنسا ، فولى أخوه يوحنا الموسوم باختلال العقل حتى خسره مستملكات الإنكليز في فرنسا وقتل ابن أخيه فثارت عليه الأعيان وألزموه بما يأتي خبره وانتقلت حالة المملكة إلى طور آخر.

مطلب في تاريخ إنكلاتيره الجديد

اعلم أن مبدأ ظهور الحرية في جميع أوروبا على الأصول المعروفة هي انكلاتيره ولذلك كانت هي أسبق ممالك أوروبا إلى ذلك ، وحصل فيها هذا الأمر على

__________________

(١) هو هنري الأول (١٠٦٨ ـ ١١٣٥) ملك إنكلترا ابن وليم الفاتح. المنجد ص (٧٣٢).

(٢) هو هنري الثاني (١١٣٣ ـ ١١٨٩ م) ملك أوقعته سياسته الطائشة في خلاف مع وزيره بيكيت. المصدر السابق (٧٣٢).

١٨٦

نحو ما سيأتي ولهذا اعتبرنا ذلك فهو تاريخ جديد إلى انكلاتيره لأنها استمرت على أصوله وزادتها ارتقاء إلى الآن ، وإن اعترت في الأثناء توقفات ومعارضات تارة تخضد شوكة القانون وتارة تزيلها لكن على كل حال قد نشبت أصوله وأدركتها العقلاء وسرت منهم إلى غيرهم الهوينا شأن الإصلاح في كل شيء وحاصل هذا البناء أن الملك يوحنا وبلغتهم جان سانتير لما تصرف تصرفات أضرت بالمملكة والدولة تعصب أعيان المملكة وفرضوا قانونا سموه بالشرط الكبير وألزموا الملك بقبوله وإمضائه والعمل به وذلك في سنة ١٢١٥ فلم يسعه إلا العمل بذلك ، وملخص هذا الشرط الكبير : هو أن الملك التزم في حق نفسه وحق من يأتي بعده بمنح الحرية إلى جميع الإنكليز ، وأن فرض الضرائب على الأمة لا يكون إلا برضاء مجلس مركب من الأساقفة ورؤسائهم وأهل الخطط الدينية والأعيان من الأمة أصحاب ألقاب البارون والكنت والمتوظفين في الدولة ، وأن ذلك يجري أيضا فيما إذا اقتضى الحال جعل إعانة مالية على مدينة لندره مع بقاء حريتها القديمة ، وأن مجلس الحكم العام لا يلزم انتقاله إلى حيث ينتقل الملك وأن المكترين للأراضي لا يلزمهم العقاب المالي لأجل هفواتهم وإنما يكون العقاب على الجناية ولا يؤخذ لأجلها إلا مما يزيد على القدر الضروري للجاني ، وهكذا الباعة والسوقة لا تمس رؤوس أموالهم ولا تعطل حركاتهم التجارية ولو لجناية ، وكذلك الفلاحون الذين تحت تسلط الملك أو أصحاب الأملاك لا توضع عليهم ضرائب العقاب عند الذنب إلا بقدر الطاقة بحيث لا تتعطل أشغالهم ، وأن جنايتهم الملزمة لذلك لا تثبت إلا بشهادة إثني عشر نفسا ممن يرضون للشهادة مع اليمين ، وأن يبطل عمل التسخير بأخذ حيوانات الأهالي وعجلاتهم لحمل أثقال الملك وأن يتحد عيار الكيل والوزن والقيس في سائر المملكة على عيار لندره ، وأن لا يمس حق لإنسان مطلقا في كل ما يرجع لذاته وماله وعرضه ولو من الملك إلا بمقتضى القانون وحكم المجالس به ، وأن لا يمنع أحد من السفر إلى أي مكان أراده برا وبحرا ولا يمنع من الرجوع متى أراد مع التزام الطاعة على مقتضى القانون الخ.

فمن تأمل ما لخصناه من ذلك الشرط يعلم ما كانت عليه الحالة سابقا مما يناقض الشروط المشار إليها ، ثم خلف ذلك الملك إبنه هنري الثالث (١) ودام في الملك خمسا وخمسين سنة مع كونه غير جدير بالتصرفات ، وإنما عضد إبقاءه العمل بذلك الشرط وزاد تأكيدا بالقانون المسمى بتقرير أكسفورد نسبة إلى البلد المنعقد بها ، وملخصه : أن مجلس البارلمان أي مجتمع البارونات هو الذي يعين أعيان المتوظفين والحكام الذين يتبدلون في

__________________

(١) هو هنري الثالث (١٥٥١ ـ ١٥٨٩) ملك من سنة (١٥٧٤ ـ ١٥٨٩) عقد صلحا مع البروتستانت سنة (١٥٧٦) قاومه الكاثوليك فانهزم إلى شارتر وأمر باغتيال كاردينال اللورين قتله جاك كليمان. المصدر السابق (٧٣٢).

١٨٧

كل سنة ويحرس قصور الملك ويجتمع ثلاث مرار في السنة ويبقى في بقية السنة لجنة منه مركبة من إثني عشر عضوا يتفاوضون دائما مع مجلس الملك ويوظفون في كل مقاطعة أربعة أعضاء لقبول الشكاية من الأعيان والمتوظفين ويعرضونها على البارلمان عند أوّل اجتماع الخ.

ثم ولي إدوارد الأول الملقب بذي الساقين سنة ١٢٧٢ ه‍ ودخلت في مدته إيالة والس تحت إنكلاتيره وولد إبنه بها ، ولهذا صار لقب ولي العهد برنس والس وبرنس دي غال نسبة إلى المكان المولود به من الإسمين المذكورين ، ثم ولي إبنه إدوارد الثاني سنة ١٣٠٧ ه‍ بعد حروب طويلة في مدة الملكين أفضت بالثاني إلى الموت في السجن واستولى بعده إبنه إدوارد الثالث (١) سنة ١٣٢٧ ه‍ وهو ابن إثنتي عشرة سنة ، وهو المبتدى لحروب المائة سنة مع فرنسا بدعوى استحقاقه تاجها لأنه من ذرية البنات الأقرب من فليب غالوا ملكها ، واستولى على كالي وبردو وبايون مع مستتبعاتها من فرنسا بعد حروب هائلة ، وفي مدته ظهر مذهب البرتيستانت الذي انتشأ في إنكلاتيره من رجل فلسفي متدين بالنصرانية ولا زال يتقوى فيهم ذلك المذهب والحروب مستعرة تارة للديانة وتارة لجور الملوك إلى أن استولى الملك هنري الرابع سنة ١٤٠٠ ، وهو أول العائلة المسماة لانكستر نسبة إلى دوك ولاية تسمى بذلك الإسم ، ودامت الحرب في أيامه إلى أن خلفه إبنه هنري الخامس (٢) سنة ١٤١٣ ، الذي جمع تاج إنكلاتيره وفرنسا بافتتاحه للثانية ، وعند موته تتوج إبنه في حضن مرضعته بمدينة باريس بالتاجين معا لأنه ابن تسعة أشهر ولقب بهنري السادس (٣) ، غير أنه ضعف أمره بانقياده لأمر زوجته عند شيوبيته فانقسمت انكلاتيره إلى قسمين أحدهما تابع لهذا الملك والآخر لثائر من العائلة السابقة ، واتخذ الأهالي شعارا دالا على التبعية فأتباع الملك شعارهم وردة حمراء والآخرون شعارهم وردة بيضاء ولهذا تسمى حروبهم تلك التي دامت ثلاثين سنة بحروب الورد ، وخرجت في مدتها فرنسا واستقلت وكشفت الحرب عن رجوع الملك إلى العائلة السابقة بمكائد وفظائع من الملك إدورد الرابع الذي تسبب في ذلك ولم يطل الملك في عقبه عند وفاته سنة ١٤٨٣ ، وغايته انتزاعه من إبنه الصغير الذي تحت وصاية عمه فاغتنم العم الأمر إلى نفسه بقتل الموصى عليه وأخيه معا واستبد هو سنة ١٤٨٥ متلقبا بهنري السابع ، وأشهر مآثره تأسيس إدخال أواسط القوم في إدارة المملكة بأن ينتخب الأهالي منهم نوابا في مجلس للمفاوضة في مصالحهم وأن لا تشهر حرب إلا بعد تعذر إطفائها ولو بتوسط أجنبي ، وسلم لفرنسا فيما بقي لانكلاتيره بها

__________________

(١) هو إدوارد الثالث (١٣١٢ ـ ١٣٧٧) ملك إنكلترا ، أعلن «حرب المائة سنة» على فرنسا. المصدر السابق (٣٠).

(٢) هو هنري الخامس (١٣٨٧ ـ ١٤٢٢ ه‍) ملك أصبح وصيا على العرش الفرنسي (١٤٢٠ ه‍). المصدر السابق (٧٣٢).

(٣) هو هنري السادس (١٤٢١ ـ ١٤٧١) ملك في عهده اشتعلت «حرب الوردتين». المصدر السابق (٧٣٢).

١٨٨

من إيالة برنيطانيا بعوض قدره أربعمائة ألف ليرة ، واغتنم من الأموال خزائن عظيمة حتى قيل إنه خلف في خزائنه الخاصة عشرة ملايين ليرة ، وارتقى إلى ملكه بعده إبنه هنري الثامن (١) سنة ١٥٠٩ وكان شديد البطش لكنه نفع المملكة بالإصلاحات التي أجراها ، وهو أوّل متمذهب بالمذهب البرتيستانت وتعصب له حتى أمر بقتل كل من لا يقبله ، وفي مدته دخلت إرلانده تحت إنكلاتيره وصارت مملكة واحدة وعلى عكسه إبنته المتولية بعد أخيها وهي مريم حتى لقبت بالدموية لقتلها أهل ذلك المذهب بل حرقتهم أيضا وخضدت شوكة القوانين ومجلس البارلمان بعزلها من عارضها وتولية من يوافقها ، وخسرت مدينة كالى من فرنسا لمحاربتها إياها انتصارا لزوجها ملك إسبانيا ثم لما خلفتها أختها سنة ١٥٥٨ رفعت الإضطهاد الديني وزاد مذهب البرتيستانت انتشارا لما نال الأهالي من الحرية في سائر أطوارهم ، وحصلوا على درجات من التقدم بالصنائع والمعارف ممن هاجر إليهم من ألمانيا وفرنسا وغيرهما من أهالي المذهب البرتيستانت لما وجدوا هناك حريتهم من القتل لهم في أوطانهم ، وفي مدتها عرف الشاي عندهم وعرفت الساعات ، وفي سنة ١٦٠٠ تشكلت لجنة الهند التي تقدم بيان أعمالها في المقدمة وحيث لم يكن لها وارث عهدت إلى أحد قرابتها وهو ملك اسكوتسيا الملقب جمس استوارد وبه اتحدت المملكتان ، وهو أول عائلة استوارد استولى سنة ١٦٠٣ وكانت أيامه على نوع من التقدم لانفته من الحروب وكاد في مدته أن يحرق مجلس البارلمان بمن فيه بدسائس البابا فوضع تحته لغم لكنهم تفطنوا له.

وولي بعده سنة ١٦٢٥ ابنه كارلوس الأول وتفاقم الخلاف بينه وبين الأمة في حدود سلطته إذ أراد أن يبقى مجلس الندوة المسمى بالبارلمان صوريا وهو يتصرف كيف يشاء ويحمل المسؤلية على المجلس لإخضاع الأمة وتبرئة نفسه ، فلما عارضه المجلس عزل أعضاءه وانتخب آخرين لكنه كان كلما انتخب أناسا كانوا على نمط سلفهم في معارضته ، حتى تفاقم الخلاف واشتهرت الحرب بين الأمة والملك وكان من حزبه أغلب الأعيان وكبراء البيتوتات لما ينالهم من الحظ من إطلاق الملك ، لأنه كلما أطلقت يده انطلقت أيديهم أيضا فالحظ يقتسمونه بل يكون لهم منه القسط الأوفر ، حيث أن كلا منهم يجتهد في خصوص مرضاة الملك وحواشيه بشيء من التملق والتعظيم الباطل الذي يسخر منه العاقل ، ويضيف إلى ذلك جزء من الأموال التي ينتهبها رشاء لأولئك الأفراد ثم يطلق عنان شهواته في ملايين من الناس على حسب إرادته يستعوض منهم كل ما دفعه من المال والأعمال ، بل وربما أنفذ أغراضه في أقرانه لما وقع بينهم من التحاسد والتشاحن فما هو إلا أن يرضي تلك الشرذمة وينتقم من ضده بالقتل على أوجه لا تحصى ، منها : الجهري ، بدعاوى من الزور وحكم مجالس صورية تلقن ما تقول من الليل ، ومنها : السري ، بالتسميم

__________________

(١) هو هنري الثامن (١٤٩١ ـ ١٥٤٧) ملك سنة (١٥٠٩) انتصر على الفرنسيين. تزوج ست نساء من بينهن كاترينا الأرغونية وآن بولين. المصدر السابق (٧٣٢).

١٨٩

وغيره من أنواع الغدر أو يحصل التنكيل بدون القتل كالتغريب والسجن مع أخذ المال كل ذلك باحتيالات صورية على ظاهر الأعين ليقال إنهم لم ينقضوا القوانين حتى لا تثور العامة ، وأما متولي أكبر حزب الأمة فهو البعض من الأعيان والكبراء وجمهور الأوساط والرعاع ، فأما الباعث لهذا الجمهور على ذلك فهو واضح لأنهم هم موضوع الإغتيال الواقع فيه المنافسة وقد كانوا علموا من السابق ما كانت عليه حالتهم ، ثم ما آلت إليه بعد تأسيس القوانين والإحتساب عليها.

وأما الباعث لبعض الأعيان والكبراء فربما أشكل مع ما قررناه في حق أغلبهم ، لكنه في الواقع بين وهو أن هذا القسم عاقل ينظر في العواقب ولا يستغني بالعاجل عن الأجل ، فعلم أن الزخرفات التي تحصل بالتسلط لا تدوم لأنها مآلها إلى انقراض الأمة وضعفها فتهجم عليها أمة أخرى قوية وتصير أولئك الأعيان كالسوقة كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل : ٣٤] وربما عاضد السوقة وهم الجمهور ذلك الهاجم للإستراحة مما هم فيه ، وأيضا فإن تلك الزخرفة التي يحصلونها أي الأعيان بتسلطهم مع قلة مدتها هي في نفس الأمر غير هنية لعدم الأمن معها وعدم الإطمئنان عليها لما أشرنا إليه من كونها موقوفة على رضاء شخص تتلاعب به أهواء حاشيته والمقربين إليه لمجرد أغراض شهوانية ، ويضحوا معها عرضة للأضحية متى ما أراد الملك فلا يأمن المقرب من طبيعة الملك المفسدة للأخلاق فربما غضب عنه مقربه اليوم لشيء كان يرضى به عنه بالأمس ، وأيضا لا يأمن دبيب سعايات أقرانه وحساده الغافلين عن كونها تجري عليهم مثلما جرت على صاحبهم ، كما قيل : «من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته» ولهذا انضم القسم حتى عقلاء حاشية الملك والبعض من رجال الدولة إذ تيقنوا أنه لا خير لهم في نعيم لا أمن معه لا على الدم ولا العرض ولا المال ولا الحريم ولا الذرية فأي نعيم يحصل لهم وهم على شفا جرف هار ، وكان مقدام هذا الحزب رجلا من أعيان البيتوتات إسمه أوليفر كرومويل (١) ، ذا بسطة في المال والعقل والشجاعة وجرت حروب هائلة كشفت عن خلع الملك وحبسه ثم قتله بحكم مجلس على أنه خائن للأمة ، واستولى أوليفر رياسة الدولة بعد أن تلقب بجنرال ، وكان يوم دخوله بالعسكر منتصرا إلى لندره تلقاء الجم الغفير بالهناء والترحيب ، فقيل له : ألم تر هذا الاحتفال من العامة بك أيها المحامي من انكلاتيره؟ وجعل ذلك لقبه فقال : إن هؤلاء الرعاع لا يلتفت لا إلى تعظيمهم ولا إلى تحقيرهم فهم تبع للغالب إذ لو كان هذا اليوم أخرجت فيه إلى القتل لكانوا خرجوا إلى التفرج على مثلما

__________________

(١) هو أوليفر كرومويل (١٥٩٩ ـ ١٦٥٨) سياسي إنكليزي عضو في البرلمان. تزعم حركة المعارضة لسلطة الملك وبث روح الثورة وقاد رجالها فانتصر على جيش الملك شارلس الأول وحكم عليه بالإعدام سنة (١٦٤٩). أخضع إيرلندا وحلّ البرلمان وتولى الحكم بصورة ديكتاتورية (١٦٥٣). المصدر السابق (٥٨٨).

١٩٠

خرجوا إلى لقائي الآن ، وبه يعلم أن تلك الخلة جارية في سائر الأمم على السواء إذ هاته أمة الإنقليز التي قيل في المثل فيها يجب أن تكون حرة مثل أفكارها قد قال فيها زعيمها المذكور ما سمعت ، وبقيت الدولة الأنقليزية جمهورية بضع سنين إلى وفاة الجنرال المذكور واستيلاء إبنه من بعده واستعفائه في مدة قليلة ، فأرجعوا ابن الملك السابق سنة ١٦٦٠ ولقبوه بكارلوس الثاني وسار على نحو ما كان يريد أبوه وخرق سياج القانون باستبداده على البارلمان متسترا بإقامة خمسة من أكابر الأعيان لتدبير الأمور وإنفاذها بدون مراجعة الندوه ، وحارب هلانده وأخذ منها مدينة نيويورك من أمريكا ثم عقد معها ومع السويد محالفة على فرنسا ثم اتحد مع فرنسا على هلاندا ثم خضع للندوة وبقي مضطربا إلى أن مات.

وأخوه أخوه جمس (١) سنة ١٦٨٥ فزاد الأمر ارتباركا من إيثاره للمذهب الكاتوليكي إلى أن خلع ونودي بأحد أمراء هولانده لتزوجه بابنه مليك انكلاتيره الأسبق ولقب بويلم الثالث (٢) سنة ١٦٨٩ ، فأحيا إجراء القوانين واتبع إشارة الندوة وارتاح في نفسه حتى لقب بالصياد لاشتغاله براحته وحبه الإنفراد بما هنئت به السياسة وذاته والمملكة ، وزادت الندوة أحكاما في شروط القوانين منها أن لا يتولى الملك إلا من كان على مذهب البرتيستانت واحتاجت الدولة إلى أموال لإصلاح داخليتها في أيامه فاستقرضت من الأهالي وهو أول دين على الدولة ، وتشكل لأجله بنك انكلاتيره أي محل اجتماع الأموال من أناس كثيرين لأجل الشركة في التجارة بذلك المال أو لأجل أن يقرض المال على شروط ، وذلك البنك هو المعروف إلى الآن وذلك سنة ١٦٩٤ وهو دليل على إجراء القوانين بعدم غصب الأموال من الرعية ، وترقت المملكة في أيامه بالصنائع والمعارف بزيادة من هاجر إليها من فرنسا لمثل ما وقع سابقا من الإضطهاد المذهبي.

ثم خلفه الملكة يوحنا سنة ١٧٠٢ وفي مدتها استولت انكلاتيره على جبل طارق من إسبانيا واشتدت الحرب مع فرنسا وكان معاضدا لفرنسا بافيرة وإسبانيا ولانكلاتيره النمسا وهولانده ، ثم انقرضت العائلة بموت تلك الملكة إذ لم يكن فيها من تتوفر فيه الشروط ، فنادى الأهالي بأحد قرابة العائلة وهو أمير من الهانوفر من ألمانيا ولقبوه جورج الأول (٣)

__________________

(١) هو جيمس السابع (١٦٨٥ ـ ١٦٨٨) ارتد إلى الكثلكة وتحالف مع لويس الرابع عشر ملك فرنسا خلعه غليوم دي ناسو. المصدر السابق (٢٢٤).

(٢) هو وليم أو غليوم الثالث (١٦٥٠ ـ ١٧٠٢) حاكم هولندا. قاوم لويس الرابع عشر في حربه مع بلاده.

ساهم في خلع جيمس الثاني ملك إنكلترا وحل محله سنة (١٦٨٩) ملكا على إنكلترا واسكوتلندا وإيرلندا. المصدر السابق (٧٤٤).

(٣) هو جورج الأول (١٦٦٠ ـ ١٧٢٧) أول ملك على إنكلترا من سلالة هانوفر الألمانية. المصدر السابق (٢٢١).

١٩١

سنة ١٧١٤ وهو أصل العائلة الموجودة الآن واستقر أمره بعد حروب مع فرنسا لإرادتها تمليك ابن من العائلة السابقة كاتوليكيا ، وبعد استقرار جورج المذكور لم يسكن في انكلاتيره وإنما لازم بلاده والتصرف بيد الوزراء والندوة ، ثم خلفه إبنه جورج الثاني (١) سنة ١٧٢٧ ونشأت في مدته عدة حروب ، منها : الداخلية ، لأجل الملك من بقايا العائلة السابقة ولم ينجحوا ومنها : الخارجية ، وأعظمها مع فرنسا حيث كانت الحرب قائمة بين أبروسيا والروسيا والنمسا لأجل الإسيتلاء على بولونيا وكانت فرنسا ضد البروسيا معاضدة لخصمها فحالفت إنكلاتيره بروسيا لأجل زيادة إشغال فرنسا ، فاحتاجت فرنسا لجلب قوتها من مستعمراتها بأماريكا لتقوية نفسها في أوروبا وعند ذلك هجمت انكلاتيره على ما لفرنسا من أمريكا وضمته إلى تملكاتها حتى صار لها إذ ذاك جميع ما لها الآن في اماريكا مع جميع الممالك المتحدة الآن ، وذلك بعد حروب هائلة ، ثم خلفه إبنه جورج الثالث (٢) سنة ١٧٦٠ واستقلت في مدته أمريكا أعني الدول المتحدة ، وذلك لأن دولة الإنكليز لما امتدت أملاكهم هناك وتكاثرت فيها الخلق المهاجرون إليها رغبة في الغنى لما فيها من الخصب واتساع الأراضي الجديدة قسمت الدولة تلك المملكة إلى ولايات وجعلت عليهم ولاة إنكليزيين هم أحق بإسم مستبدين في التصرف ، ففحش ظلمهم للأهالي فاشتكوا منهم إلى الدولة وبينوا لها أعمالهم فعزلتهم وأولت ولاة من الأهالي بانتخابهم غير أن الإنتخاب لم يكن حقيقيا بالرضى ، ولذلك اقتفى هؤلاء الولاة أثر أسلافهم فتمكن الحقد على الدولة ثم أنها زادت عليهم الضرائب لما رأت من غناهم فنفروا منها حتى منعوا بالجبر مع إظهار الإسترحام أن تجري فيهم ضريبة الورق المختوم في صكوك الحجج ، فساعدتهم الدولة لكنها حملتهم غيرها فعقدوا جمعية سرية وأعلنوا الحرب بالإستقلال تحت راية الجمهورية سنة ١٧٧٦ وأعانتهم فرنسا وإسبانيا وهولانده لما لهم على انكلاتيره من الضغائن الحربية.

ودامت الحرب إلى سنة ١٧٨٣ التي عقد فيها الصلح بباريس على أن ترجع انكلاتيره إلى فرنسا أراضي سانيفال بأفريقيا وترجع إلى إسبانيا إقليم فلوريدا في أمريكا وعلى أن تستقل الممالك المتحدة بأمريكا الشمالية ، وتكاثرت الحروب في مدة جورج الثالث المذكور مع فرنسا وغيرها سيما مع نابليون الأول واشتهرت إذ ذاك انكلاتيره بالقوة البحرية والمهارة في حروبها البحرية لما أظهره الأميرال نيلسون (٣) من البراعة والشجاعة في مواقعه المتجاوزة على المائة ونيف واقعة ، وأشهرها هجومه على حصون كونبهاك قاعدة الدانيمرك

__________________

(١) هو جورج الثاني (١٦٨٣ ـ ١٧٦٠) في عهده وضع ولبول أساس الأمبراطورية الإستعمارية الإنكليزية.

المصدر السابق (٢٢١).

(٢) هو جورج الثالث (١٧٣٨ ـ ١٨٢٠). على أيامه استقلت الولايات المتحدة الأميركية. المصدر السابق (٢٢١).

(٣) هو نلسون (١٧٥٨ ـ ١٨٠٥) أميرال إنكليزي. انتصر على الأسطول الفرنسي في معركتي أبي قير والطرف الأغر وفيها قتل. المصدر السابق (٧١٣).

١٩٢

مع أن القسم الكبير من الأسطول لم يدخل معه إلى المضائق وانفرد هو بمن تحت إمرته من الأسطول ، وعند ما رآه الأميرال الكبير قد فقد الربع من سفنه أشار إليه بالرجوع وكان هو أعور فلما أخبر بالإشارة جعل النظارة على عينه العوراء ، وقال : إني لم أر شيئا مما تقولون ، وزاد في الهجوم إلى أن غلب عدوه وأجرى شروطا مثلما أراد ، ومع هذا الإنتصار حكم عليه المجلس الحربي بالعقاب لمخالفته الأمر ، وقد مات ذلك الأميرال في حرب سنة ١٨٠٥ ضد فرنسا وإسبانيا وكانت سفنهما أربعين وسفنه سبعا وعشرين ، فاقتربت من سفينته سفينة فرنساوية وراقبوا شخصه إلى أن أصابوه برصاصة خر منها للنزع ، وكان ينتظر البشارة بالإنتصار ويدعو نائبه قبل الموت فما دخل عليه إلا بعد قريب من ساعة مبشرا بالنصر فقال : كم غنمنا من السفن؟ قال : أظن أربع عشرة أو خمس عشرة لأني لم أتمالك عن القدوم إليك عند ثبوت النصر قبل عدها ، فقال : لكني كنت أشترط على نفسي أن تكون عشرين ثم قضى نحبه ، وقد دام الملك جورج الثالث في الملك ستين سنة لكن كان في أغلبها لا يتصرف في شيء بل لا يدرك شيئا من مصالح الملك لإختلال في عقله ، ولذلك جعل له إبنه ولي عهده نائبا عنه في حدود سنة ١٨٠٤ ثم توفي ذلك الملك سنة ١٨٢٠ ، ومع ما حصل في مدته من خروج الممالك والحروب فإن إنكلاتيره تقدمت فيها خطوة وسيعة في التمدن والإعتبار والقوة حتى وصلت إلى الذروة القصوى ، فإنها أحدثت في ظرف أربعين سنة مائة وخمسا وستين ترعة وتكاثرت فيها معامل القطن والصوف الفائقة حتى راجت سلعتها على سائر ما في غيرها لرخصها وإتقانها ، واكتشفت واستملكت أوستراليا وغيرها. وتقدمت فيها المعارف والتآليف إلى نحو ما هي عليه الآن ، واستفادت حكما سياسية علمتها كيف تدير مستعمراتها الواسعة في سائر أقطار العالم ، وحصلت على فخر النصر على نابليون وغيره واستتبت الإدارة القانونية بغير نزاع ولا دسائس ولذلك صار يضرب المثل عندهم بأن حرية الإنكليز إنما هنئوا بها في مدة ملكهم المجنون. وخلفه إبنه جورج الرابع (١) وفي أيامه وقع الغدر في أسطول الدولة العثمانية من أسطول إنكلاتيره المترئس على أساطيل الدول في تظاهرهم على طلب تسليم الدولة العثمانية لليونان بالإستقلال ، فمن غير إعلان بالحرب لها تخللت الأساطيل ما بين أسطولها المركب من سفنها وسفن مصر وطرابلس وتونس والجزائر وهم على اطمئنان السلم والأمن ، وأطلقت عليهم النيران دفعة واحدة بحيث لم يبق منهم باقية غدر أو شناعة لا تنمحي ومعرة لا تزال على خصوص الإنكليز لأنهم هم الذين بيدهم أمرة جميع الأساطيل الدولية ، وعند ما سمعت الندوة الإنكليزية بفظاعة الواقعة هاجوا وماجوا وطلبوا محاكمة رئيس الأساطيل وحكم عليه مجلس حربي بالقتل مع دفاع وزير البحر عنه بكل ما أمكن من الإعتذار وتلفيق دعوى بأن إحدى السفن العثمانية أطلقت النار عليهم ولم يجد كل ذلك شيئا ، وعند ما تحقق

__________________

(١) هو جورج الرابع (١٧٦٢ ـ ١٨٣٠). المصدر السابق (٢٢١).

١٩٣

الرئيس الحكم عليه بالقتل أسر إلى وزير البحر بأن التذكرة التي بخطه في الأمر بإحراق الاسطول العثماني قد نسي أن يحرقها معه مثل ما أمر ، وحينئذ تحول المجلس إلى جلسة سرية ثم أطلق الرئيس وسيأتي في الكلام على الدولة العثمانية الباعث على ذلك التحامل على المسلمين ومآله الديانة وأن سياسة الدول الكبيرة في الخارج ليست كسياستهم الداخلية.

ثم وردث الملك ويليم الرابع سنة ١٨٣٠ وزاد القانون في أيامه تحسينا ونفوذا وأول سكة حديدية أنشئت في أول سنة من ولايته وألزمت الدولة عتق العبيد في الهند وعوضت أصحابهم بأثمانهم وكانت نحو عشرين مليونا ليرة ، واحتسبت إنكلاتيره على عتق العبيد في سائر الأقطار ترغيبا وترهيبا لأهلها ولا زالت على ذلك إلى الآن ، ثم ورثته الملكة فيكتوريا (١) سنة ١٨٣٧ ه‍ وهي الملكة الحالية وأعانت الدولة العثمانية على إخضاع مصر واسترجاع الشام منها وعلى حرب القريم ، فحاربت الروسيا وآلت الحرب إلى معاهدة باريس وحاربت الصين بالاتحاد مع فرنسا وأخضعت الهند من الثورة الهائلة بمعاضدة أفغانستان وخرج الهند من وقتئذ من تحت الشركة التجارية إلى الحكومة السياسية كما مر في المقدمة ، وتلقبت بإمبراطورة الهند ثم استولت على الأفغانستان ثم جعلتها مستقلة تحت نظارتها بعد أخذ أجزاء منها وحاربت الزلوس من بلاد الكفر بأفريقيا ، ثم صارت تلك المملكة تحت نظارتها وتداخلت في حرب الروسيا مع الدولة العثمانية عند عقد الصلح إلى أن أفضى إلى معاهدة برلين مع زيادة التقدم والغنى في داخلية المملكة الإنكليزية.

مطلب في السياسة الداخلية بإنكلاتيره

إعلم أن السياسة المستقرة الآن كان استتبابها سنة ١٨٣٢ وأما أصولها فقديمة حسبما أشرنا إليه في التاريخ ، وهاته السياسة مبنية على اعتبار تسلط الملك ونفوذ الأعيان واحتساب الأواسط من الناس ، فكل من السلطات الثلاثة مرتبطة ببعضها وينتج منها إدارة المملكة مما يرضي الجميع ولا يتجاوز كل منهم حدوده مما يضر بغيره ، ولهذا كانت قوانين الإنكليز على نوع مغاير لبقية إدارات الأوروباويين من حيث الإشتراك في السلطة وعدم التساوي بين طبقات الرعية في الإعتبار ونيل الرتب مع إنالة الرعية غاية الحرية والأمن ، وتفصيل هاته الإدارة ومحل ارتباطها وانفرادها قد تكفل به كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين باشا التونسي بما يفيد عجائب أطوارهم واصطلاحهم فليرجع إليه من أراد البيان وإنما نقتصر هنا على الإلمام بكليات الإدارة فنقول:

أما القسم الأول من ذوي السلطة : فهو الملك ، وله حدود مضبوطة بقوانين ، من أهمها : أن الملك وراثي في ذرية الملك الذي هو من عائلة الهانوفر من البكر إلى بكره والأنثى تستحق ذلك على شرط أن لا يوجد لها أخ ذكر وإلا فهو أحق بالتقديم وإن كان

__________________

(١) هي فكتوريا (١٨١٩ ـ ١٩٠١) ملكة إنكلترا سنة (١٨٣٨) عملت على تقارب إنكلترا وفرنسا. نودي بها إمبراطورة الهند (١٨٧٦) خلفها على العرش إبنها إدوارد السابع. المصدر السابق (٥٢٩).

١٩٤

أصغر منها ، ومنها : التزام مذهب البرتيستانت ومنها : إذا اقتضى هذا التوارث أن حاز التاج الإنكليزي من له ملك أو أرض بمملكة أخرى فإن الأمة لا يلزمها الدفاع عن ذلك مثل ما يلزمها عما يرجع إلى انكلاتيره ما لم ترض بذلك الندوة ، ومنها : أن رياسة الديانة للملك بحيث يوظف مناصبها مثل ما يوظف المناصب السياسية ، ومنها : رياسة سائر القوات والصلح والحرب إلى غير ذلك مما مر في ملك إيطاليا ، ومنها : تلقبه بملك برنيطانيا العظمى وإمبراطور الهند ، حتى يقول في طالعة مكاتيبه الرسمية ما صورته : «فلان بنعمة الله ملك المملكة المتحدة من برنيطانيا العظمى وإرلانده وإمبراطور الهند محاميا عن العقيدة» الخ. والتلقيب بإمبراطور الهند حدث سنة ١٢٩٢ بإتفاق المجالس ، وقوله : محاميا عن العقيدة ، إشارة إلى رياسته الدينية ومنها : أن إجراء كل حق للملك في التصرف إنما يكون بواسطة رؤساء متوظفيه وهم رؤساء الأساقفة والوزراء.

وأما القسم الثاني وهو سلطة الأعيان : فهؤلاء الأعيان هم الملقبون باللوردات وبالقرناء وسيأتي في مبحث العوائد خصوصياتهم وامتيازاتهم ، والذي يتعلق بهم هنا أنه يتركب منهم مجلس اللوردات المشتمل على رؤساء الديانة ، وعلى عائلة الملك ، وعلى سائر لوردات إنكلاتيره وعلى سبعة عشر لوردا من لوردات إسكوتسيا ، وعلى أربعة لوردات من لوردات إرلانده ولوردات المملكتين الأخيرتين ينتخبان من أمثالهم في أقاليمهم لذلك المجلس لمدة حياتهم ، ويناط بهذا المجلس سائر الإحتساب على التصرفات وإنشاء القوانين وتغيير العادات والحكم في المتوظفين بحيث لا يصدر عن الدولة شيء إلا برضائه ، وليس لأعضاء هذا المجلس مرتب وعددهم غير محصور لما مر ، قد يبلغون زهاء خمسمائة ، ولأعضائه إعطاء الرأي فيه بالمباشرة أو بإرساله مع أحد أمثالهم كتابة ، والوزراء ينتخبون من هذا المجلس ومن مجلس النوّاب والملك إنما ينتخب رئيسهم فقط وهو ينتخب بقية الوزراء كما في بقية أوروبا ، وعدد الوزراء تسعة الرئيس وهو وزير المال في الأغلب ، ووزير الخارجية ، ووزير الداخلية ، ووزير الهند ، ووزير المستعمرات ، ووزير رياسة المجلس الخاص ، ووزير الحرب ولورد قاضي القضاة وهو رئيس مجلس اللوردات وموظف الحكام القانونية ، ولورد المحاسبات.

وهؤلاء الوزراء هم المباشرون لسائر أعمال الدولة بعد إذن الملك وليس له مخالفتهم إلا إذا وافقته أغلبية الندوة فحينئذ يستبدلهم بغيرهم ، وهؤلاء الوزراء يضم إليهم الملك أعضاء من بقية اللوردات فيتشكل منهم مجلس الملك الخاص ورؤساء إدارات الوزارات ولا يزيد مرتب الوزير عن مائتين وخمسين ألفا فرنكا في السنة ومنهم من له خمس ذلك فقط. ووظيفة هذا المجلس الخاص التدبير في إجراآت الأعمال كما أن من حقوق الأعيان أن يكونوا هم حكام الولايات ، كل ولاية حاكمها من لورداتها وليس للملك عزل أحد منهم من مرتبته اللوردية ، ومنهم أيضا أعضاء المجالس العليا في الولايات التي لها التصرف الكلي.

١٩٥

وأما القسم الثالث وهو سلطة الأواسط : فهي بانتخاب الأهالي منهم نوابا عنهم لمجلس النواب للإحتساب على تصرفات الدولة وحماية حقوق السكان ، وما يستقر عليه رأيهم يجري إذا وافقهم مجلس اللوردات ، كما أنه يسوغ للملك أن ينتخب من هذا المجلس رئيس الوزراء ولهذا انتخاب بعض الوزراء من بقية أعضاء هذا المجلس ومدة انتخابهم لأعضاء المجلس سبع سنين ، وشرط العضو أن يكون وجيها غير محكوم عليه بما يشين العرض ذا دخل من أملاك في المملكة غير منقولة يبلغ مائتين وخمسين فرنكا ، أو صاحب معارف له إجازة فيها من المدارس العلمية ولهذا اختص هذا الإحتساب بأواسط الناس ولم يكن للأسافل فيه حظ ، وعدد أعضاء هذا المجلس بحساب واحد على العشرين ألف نسمة من السكان فكان عددهم يتردّد في زهاء سبعمائة ، ومجموع هذا المجلس مع مجلس الأعيان هو المسمى بالقمرة أي الندوة وعليها مدار سائر الأعمال في الداخلية والخارجية ، ومن أصولها أن ميزان المال ليس بمحدود على حالة واحدة دائما بمعنى أنه إذا كان الدخل الموضوع يوفي بمصاريفها للسنة ويفضل منه يبقى الفاضل في الخزنة أو يشتري به من ديون الدولة ، وإذا كان لا يوفي يزاد في الضرائب إلى أن يقع التسديد كما هو جار في الدول الأخرى ، بل إن قاعدة الإنكليز هي جعل الميزان في كل عام بحسبه فينظر إلى مقدار اللازم من المصاريف وعلى مقتضاه يجعل الدخل بحيث لا يكون للدولة فاضلا ، ومن الأصول أيضا إعطاء الحرية لكل فرد وجماعة في مملكتهم بأن يتكلموا في السياسة العامة والخاصة وتصرفات المتوظفين مطلقا وإعلان آرائهم بالقدح أو بالمدح في الصحف وفي مجامع الناس ، ولهم الإستدعاء إلى الاجتماع ولو اجتمع ملايين من الخلق من غير أن يتعرض لهم أحد بشيء ، ومن الأصول أيضا التي استقرت الآن أنه انتشأ في الأمة حزبان.

أحدهما : يسمى حزب المحافظين يعني أنه يريد التحفظ على القوانين الموجودة والجري عليها في الداخلية والمساعدة على كل ما يساعدها في الخارجية وأن لا يتغير شيء إلا ما تدعو إليه الضرورة.

والحزب الثاني : يسمى بحزب الحرية يعني أنه يريد زيادة إطلاق الحرية في الداخلية وفي كل الممالك ويساعد على قطع عوائق الحرية في أي جهة كانت بما يقتضيه حال الإنكليز.

ولكل من الحزبين زعماء مشهورون بما يقولون ويكتبون للإشتهار وتشتمل عليهم الندوة ، ومهما مالت أكثريتها لأفكار أحد الحزبين وجب أن تكون الوزارة مركبة من أعضاء ذلك الحزب فلا تزال تتداول الدولة بينهم ، ومن لازمها أنه كلما تغيرت الوزارة يتغير معها سائر المأمورين الذين عليهم مدار الأعمال ولو من علائق ذات الملك ، فإن كاتب سره وحواشيه الذين يخدمونه فيما يتعلق بتصرفات الدولة يلزم تبدلهم أيضا مع الوزارة خشية من إفشاء أسرارها لضدها ومن الوشاية أو التراخي من جهة ما يتعلق بالملك مما يضر بالإجراء ،

١٩٦

ونشأ عن هذا عدم ثبات السياسة الخارجية على طريق واحد أعني في الإجراء لتبدل المنهج بتبدل الوزارة وإن كانت كل وزارة تولت تراعي أصل ما أسسته سابقتها لكنها تنحو به منحى لا يلائمها فلا يحسن الاعتماد عليه من الخارج ، ومن الأصول أيضا أن الخدمة العسكرية لا يدخل إليها بالغصب أو بالقرعة وإنما هي بالإختيار لمن رغب فيها ولهذا تجد في عساكر الإنكليز في الحرب كثيرا من الأجانب الراغبين في المال الذي يبذل إليهم هذا إذا كانت الحرب خارج المملكة ، أما إذا هاجم العدو المملكة فيجب على كل الأهالي الدخول في سلك العسكرية على قانون لهم في ذلك حتى أن النساء أراد بعضهن الدخول في ذلك وألفن فرقا للتعلم ، وكذلك العساكر اللازمة لحراسة المملكة يدخل إليها بالإختيار وهي عدا الضابطية التي تلزم أهالي كل جهة ، ومن أهم أصولها أن لا ينتخب إليها إلا العفيف المرضي للشهادة حتى يكون كلامه حجة على الجاني وذلك من الأصول العامة في أوروبا وبها تيسر استقرار الراحة لأن حراسة الضابطية ونفوذهم من أهم الوسائط الفعالة فهي أهم ما يعتني بها ، ومن أصول الإنكليز أن لا يتولى المراتب السامية في الدولة إلا من كان على مذهب الكنيسة البرتيستانت فتأمل في هذا مع ما يأتي إن شاء الله في أحوال تداخلهم في بلاد الإسلام بدعوى الحرية.

ومن عاداتهم قبول جاه العلية منهم والأعيان في توظيف معارفهم وأقربائهم إذا كان فيه شيء من الأهلية مع إهمال غيره وأن كان أحق من المقدم ، ومثل ذلك الرتب العسكرية لا تنال إلا للأعيان والعلية والأفراد العسكرية لا يستحقون ذلك مهما فعلوا ، غير أنه قد حل منذ سنة ١٢٨٩ ه‍ ١٧٧١ م إبطال اشتراء الرتب العسكرية من ملازم إلى أميرالاي بأمر من الملكة حيث أن أصل إنشاء ذلك كان بأمر من الملك لا بقانون ، واغتاظ لذلك كثير من ندوتهم لكن المصلحة غلبت فصارت الرتب العسكرية مطلقا لا تنال إلا بالإستحقاق في المعرفة وبهذا التغيير العسكري يعلم ما للملك من السلطة وإن خالفته الندوة بناء على حق قديم له مع موافقة الوزارة إليه.

مبحث إدارة الولايات

قد تقدّم في صفة برنيطانيا أنها تنقسم إلى تسعة وثمانين ولاية فهاته الولايات فيها مدن ذات خصوصية بالإمتياز بالشرف حسب عوائد قديمة ، ومدن كبيرة استحقت بكثرة سكانها أن تسمي عضوا أو أكثر في الندوة ، ومدن يسكنها مطران من كبراء ديانتهم ، ومدن وقرى خالية عن الإمتيازات المذكورة. فأما الأنواع الثلاثة الأول : فإن لها إدارة خاصة لا تدخل في عموم الولايات التي هي بها. وأما النوع الرابع : فهو مشمول بإدارة عموم الولاية : والحاصل : في إدارة عموم الولاية هو أنها راجعة إلى الوالي العام على الولاية ، وهو أحد لورداتها المحصل على عضوية الندوة ينتخبه الملك لذلك وليس له مرتب على هاته الوظيفة ، وهو ينتخب إثنين من أهل ولايته الأعيان أيضا لإعانته ويوظفهم له الوزير الملقب

١٩٧

بقاضي القضاة وليس لهما مرتب أيضا ، ومدار أعمالهم حفظ الراحة ورياسة العساكر المحافظة والنظر في الأعمال العسكرية ، ولهم أيضا مرجع الأحكام الشخصية والنظر في مصالح الولاية الإدارية وحفظ الطرق وإنشائها إلى غير ذلك من المصالح ، كما تنفرد البلاد الممتازة من الأصناف الثلاثة المشار إليها سابقا.

ومنها : مدينة لندرة بأن يكون لها شيخ وهو رئيس المجلس البلدي الذي أعضاؤه من الأهالي المنتخبين منهم والمجلس ينتخب رئيسه من أحد أعضائه كل سنة ولا مرتب له ، ولهاته المجالس البلدية مرجع جميع المصالح المتعلقة بالبلد ومنها إدارة الضابطية ولا دخل للدولة فيها بشيء ، وعلى رؤساء هاته المجالس أيضا الإحتساب على كيفية انتخاب أعضاء مجلس النواب فيما تحت نظرهم لكي يكون الإنتخاب موافقا للأصول وهو الذي يرأس جمعية الإنتخاب ويتصرف في الأحكام الشخصية كتصرف قضاة الصلح الآتي بيانهم ، ويوم تولية رئيس هذا المجلس المسمى بشيخ البلد يكون في لندره موكب حافل من أعظم المواكب وله من الإحترام والتوقير كما لأحد الملوك ، ثم أن متوظفي الديانة في كل الجهات هم مرجع عدد من يزداد أو يموت وهم المكلفون بحفظ الكنائس والمقابر والفقراء والطرقات أيضا وإعانة الضابطية عند الحاجة هذا.

وأما الأحكام الشخصية : فإن لها إدارة مخصوصة رئيسها اللورد قاضي القضاة الذي هو رئيس ندوة اللوردات ثم نائبه ثم اللوردات قضاة المجالس العليا في الجهات الكبرى ثم حكام مجالس الولايات ومجالس الضابطية ، وكل هؤلاء لهم مرتب وهناك حكام الصلح لكنهم لا مرتب لهم ، وكذلك حكام الجوري على نحو الممالك التي تقدم ذكرها ، غير أن الأمر الذي انفردت به انكلاتيره هو أن أحكامها لا تستند إلى قانون خاص ، فشريعتها أصعب الشرائع لأنها تستند إلى مجموع أشياء وهي : ما يوجد من القوانين في بعض أمور وما يوجد في أحكام سابقة صدرت من مجالس الأحكام القديمة ، وما في أحكام الرومان ، وما يقع عليه اجتهاد أصحاب الاجتهاد وهم اللوردات أهل المجالس العليا ، وقاضي القضاة وقرناؤه ، وعلماء الأحكام وهم المسمون بالأبوكاتية ، فلذلك كان علماء الأحكام من أشهر الناس وأوجههم ، ومن غريب عادات المملكة أنه إذا وجدت نازلة ووجد حكمها في إحدى تلك الأصول لكن أصحاب اجتهادهم ظهر لهم أن المصلحة الوقتية قضت بخلاف تلك الأحكام لاختلاف الزمان فإنهم يجرون اجتهادهم ، لكنهم لا يجعلون ناسخا للسابق بل يبقى السابق ويبقى المحدث حتى تكون الأصول متناقضة ويبقى لأهل الإختيار عندهم الخيار ، وبذلك يعلم مقدار النفوذ والسلطة للطبقة العليا من الناس عندهم لأنهم هم الذين يكوّن منهم أهل الإختيار كما يعلم به فساد اعتراض بعضهم على أحكام المسلمين بأنها مشتة باختلاف الأقوال في كتب الفقه مع خيار القاضي في القضاء بها فيوجب لهم التحرز من الدخول تحتها لأنها غير معلومة للمحكوم عليه لأن ذلك الإعتراض على فرض تسليمه كما هو فهو عندهم أعظم مما يعترضون به علينا ، ثم أن الأحكام المذكورة لها رتب في تحقيقها

١٩٨

من مجالس وراء مجالس الحكم باعتبار الخفيف منها والثقيل وما يرجع إلى المعاملات وما يرجع إلى الجنايات ، فالخفيف لا يستحق التحقيق إلا إذا حصل ظلم فيقع فيه الإحتساب العام ، وأما الثقيل فينتقل إلى مجالس تحققه إلى أن ينتهي إلى المجلس الأعلى بالتخت ، وحيث كانت الحرية مطلقة والإحتساب في رفع الظلم سائغ إلى كل أحد برفعه إلى مجالس الإحتساب ولو كان في حق غيره مع إباحة نشر النوازل والأفكار في الصحف الخبرية وفي إعلانات ومطبوعات تنشر متى ما أراد الناشر وفي مجامع عمومية علنية ، كان التعدي على الحقوق من أصعب الأمور عندهم.

مبحث إدارة مستعمرات الإنكليز

اعلم أن الإنكليز إنما تيسر لهم اتساع مستعمراتهم في مشارق الأرض ومغاربها بشيئين :

أحدهما : نفس انتظامهم في داخليتهم المثمر للغنى المثير للقوة الحربية.

وثانيهما : حسن الإدارة لما يستملكون عليه بالنسبة لغيرهم من الدول سيما بعد خروج أمريكا عنهم واستفادتهم من ذلك للأسباب والبواعث الموجبة للنفرة منهم ، فاستقر أمرهم أنهم في كل جهة من المستعمرات يجعلون مركز الوجود قوة مركزية لهم ويجعلون فيها نائبا من ثقات أعيانهم مقيد التصرف بالشورى مع أعضاء منهم ومن أهالي المستعمر ، ويرجع إلى هذا النائب الذي هو الحاكم في تلك الجهة الأمور الكلية من الإدارة السياسية ، وأما بقية الجزئيات والأحكام والسيرة فإنها تفوض للأهالي يجرون على حسب عقائدهم وعاداتهم وأحكامهم وكذلك الأداء المرتب للحكومة وكيفية استخلاصه وتوزيعه إلى غير ذلك من غير تداخل الإنكليز معهم في شيء سوى أنهم يشترطون عليهم إبطال المظالم والتعدي على بعضهم وإبطال بعض العوائد القبيحة بالعقل الراجعة إلى ظلم الغير كإحراق الأحياء تبعا لمن يموت من قرابتهم أو رؤسائهم وكتغريق الناس لمثل ذلك أو ذبحهم مما يحمد الخلاص منه جمهور الأهالي ، ويبقى الحاكم الإنكليزي بمجلسه مراقبا لتلك الكليات ولمنافع الإنكليز والأهالي حتى أن أعظم مستعمر لهم الآن وهو الهند له حكومة مخصوصة كما تقدم في المقدمة ، وأعظم الوظائف فيه هو الحاكم العام وهو إنكليزي لكن ثاني رتبة منه وهو قاضي القضاة هو مسلم من العلماء الأعيان وجميع أحكام الهند راجعة إليه ومرتبه سنويا أربعة وعشرون ألف ليرة إنكليزية وعلى ذلك المنوال بقية الأمور ، ودخل تلك الحكومة خاص بها لا تأخذ منه الدولة الإنكليزية شيئا ومصاريفها كلها راجعة إلى حكومة الهند وربما إذا حدث حرب جوار الهند مع حكومته أعانتها الدولة الإنكليزية على مصروف الحرب لعود النفع إليها بواسطة ، بل ربما حمل أكثر المصروف عليها كما وقع منذ قريب في حرب الأفغانستان. كما أن إنكلاتيره تستفيد من عساكر الهند بدخولهم في أمرها عند الحاجة إذا عقدت حربا مع دولة أخرى وكثيرا ما تبقى الممالك على حالتها بملوكها وأمرائها

١٩٩

وإنما لها عليهم مجرد المراقبة والحماية ، وتلزم الملوك بإجراء العدل في ممالكهم وإجراء الشورى وبذلك يحصل ميل العموم إليها ، فإن قيل : إذا كان الأمر كما ذكر فأي فائدة للإنكليز في هاته المستعمرات سوى تشويش البال وخسائر الأموال في الحماية أو الثورات؟ فالجواب : أن فائدتهم عظيمة من وجوه :

أولها : وهو الأهم رواج التجارة الإنكليزية فإن مائتي مليون من الخلق لا يجولون إلا في السلع والبضائع الإنكليزية له من الأهمية ما لا يخفى ، وبضائع بقية الممالك إما أن تمنع بما يوظف عليها من عظيم القمرق في تلك المستعمرات أو يدخل منها ما لا وجود له عند الإنكليز مما هو حاجي ، فأما البضائع الإنكليزية فتدخل معفاة من الأداء فلن تبور لهم بضاعة ولا تقفل لهم معامل فما ينتجه ثلاثون مليونا من الإنكليز من الصنائع يكونون مطمئنين على رواجه في مستعمراتهم كل على قدر احتياجها زيادة عن الممالك الأجنبية وكفى بذلك غنى للأمة الإنكليزية ، وأي فائد أعظم لها من ذلك ودونك مثالا لهذا فإن مستعمر الهند وحده كانت قيمة التجارة الصادرة والواردة إليه في سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨١ م ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون فرنكا يخص الإنكليز وحدهم ، منها ألفان إثنان مليونا والباقي مع سائر الممالك وأغلبها الصين ، فهذا مستعمر الهند وحده راجت تجارتهم فيه بذلك المقدار وليقس عليه غيره.

وثاني الفوائد : أشغال معلميهم في الفنون والصنائع في تلك المستعمرات الواسعة الكثيرة السكان بما يحدثونه للأهالي على وجه الإرشاد والتعليم والتمدين عن طيب نفس منهم من المكاتب والمعامل وطرق الحديد وغير ذلك.

وثالث الفوائد : حوز الأراضي الخالية عن المالك والتعمير لها بأهالي إنكلاتيره الذين ضاقت بهم جزائرهم ، فصاروا يهاجرون منها إلى كل الآفاق التي تتيسر لهم بها المعيشة والعمل فيهاجرون إلى مستعمراتهم أولى لهم ، حتى تنتشىء منهم دولة جديدة كما وقع بالفعل في دول أمريكا المتحدة إذ غالب أهلها أصلهم إنكليز وكذلك ما هو حاصل الآن في أستراليا.

ومن أعظم فوائدهم : القوة الحربية التي تتصرف فيها انكلاتيره من عساكر ذلك المستعمر مع أن المصاريف على العساكر من دخل المستعمر فأعظم بذلك من قوة للإنكليز حتى أن عساكر الهند الذين تحت أمرها أضعاف عساكرها المستديمة فهاته الفوائد أعظم وأنجح لأمة الإنكليز من أخذهم ضريبة على سكان المستعمرات تحوجهم إلى الحقد والثورة عليهم كما وقع في أمريكا ، وأفيد لهم أيضا من جهة السياسة فإن النفوذ والرهبة والوقار الحاصل للإنكليز في جميع جهات المسكونة ليس بحاصل لأي دولة كانت أوروباوية ، وذلك أفيد للإنكليز من أن يفيدوا ألفا أو عشرة آلاف منهم بإطلاق التصرف في أحد المستعمرات ، فيكون أهلها تحت قبضتهم ويديرون فيهم قانون الإنكليز بلندره

٢٠٠