صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

فرنسا الوالي المذكور على إهانة نائبها وألحت عليه بأن يطلب منها الرضى ويعترف بالخطأ فأبى وأصر مع أمر الدولة العثمانية له بذلك ومن النصائح المتتابعة له من الدول الأجانب وخواص الأهالي. وقد كانت فرنسا في شغل من داخليتها في ذلك الوقت حسبما مر بك في تاريخها لأن ذلك كان أثر حروب نابليون الأول وكانت أيضا متوقية المشاحنة مع العرب ومع الدولة العثمانية حتى رضيت فرنسا بأن يكلف الباشا أي إنسان كان في باريس يطلب الترضية لكي تندفع عنها المعرة ولا تلحقه هو مذلة بإرسال أحد من متوظفيه إلى القنسلاتو ولا إلى باريس وكان قصدها بذلك كله اجتناب الحرب ما أمكن لاشتغالها بحروبها وأحزابها الداخلية ، فأصر الوالي على رأيه وأرسلت فرنسا أسطولها وحاربت بلد الجزائر واستولت عليها وحمل ذلك الوالي إلى باريس ثم مات في إسكندرية وقد نسب المؤرخ المذكور منشأ أعمال الباشا المشار إليه إلى كونه لا غيرة له على الوطن من حيث كونه لم يكن من أبناء ترابه ولذلك خاطر به إلى ذلك الحد مع علمه بالضعف وانحلال عرى عصبيته ونفرة الأهالي من جوره الخ ، والحق أن مثل ذلك التعليل تأباه الشريعة على ما سيأتي إيضاحه في الخاتمة إن شاء الله تعالى. فالجنسية الإسلامية واحدة ، ثم المشاهدة تناقض مقاله أيضا فكم شاهدنا وسمعنا من التاريخ ما يثبت غيرة الوافدين على الأقطار ووفاءهم لها بشكر نعمائها وأداء واجبات الديانة فيها من التحسين والتحصين وكم شاهدنا وسمعنا أيضا ضد ذلك من أبناء الإقليم ومن دعيين فيها ، فتحقيق السبب هو أن الله إذا تأذن في أمة بانحلالها فسدت أخلاق أكابرها ففسقوا فيها أو من فسوقهم إسناد الأمر إلى غير أهله فحق عليها القول وسلط عليها ما يدمرها وذلك هو الدال عليه القرآن الكريم (١) والحديث الشريف وهو المشاهد بالعيان والمعلوم من التواريخ في اضمحلال الدول وتقهقرها وحذاق الناظرين في أحوال الدول ينسبون نكباتها لأصول منشأ الفساد وإن طال الزمان ، ويكون الذي انحل بيده الأمر مظهرا لكامن الداء الزمن وهو مع ذلك مسؤول لله ولعباده إذا كان يمكن له توقيف المرض فيعوض ذلك بزيادة مهيجات بحراناته فيكون أشد على الأمة من وقع الصواعق ، إذ الجسم العليل يتأثر بما لا يتأثر منه السليم وكفاه خزيا في الدنيا والآخرة إن كان مظهرا للشر ، ورفداء الجزائر قد ابتدأ منذ انخرم أمر إلينكشارية في القسطنطينية التي هي مقر الدولة العامة ونشأ عنه ما نشأ من فساد الإدارة والولاة إلى أن أصيبت عدة جهات وباء حسين باشا في الجزائر بإثم الظلم والخراب والتهور الذي كان أعظم النكبات وانتقلت حالة الجزائر بل وحالة السياسة في شطوط أفريقية الشمالية إلى طور آخر.

وكان مبدأ استيلاء فرنسا على الجزائر سنة ١٢٤٦ ه‍ في مدة كارلوس العاشر ملك فرنسا ، وتمكن الفرنسيس أولا من القاعدة وما حولها لكن بقية الجهات أصروا على الإمتناع

__________________

(١) وهو قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء : ١٦].

١٦١

من الطاعة لفرنسا لأنها إنما أرادت الإنتقام من الوالي حسين باشا وقد حصل فالجهات الشرقية من القطر انفرد بالحكم فيها الحاج أحمد باي قسنطينة والجهات الجنوبية والغربية تشتتت تحت رؤساء القبائل ، ورام الفرنساويون محاولة تطويعهم بالرفق بأن يتولى الأمر في وهران والي تونس بإرسال أحد عائلته أو أحد متوظفيه فأرسل والي تونس واحدا من جهته ومعه شرذمة من الحرس فلم ينفذ أمره في مدينة وهران فضلا عن خارجها ورجع من حيث أتى ثم أجمعت الجهات الغربية والجنوبية على مبايعة الرجل الوحيد سلالة النسل المطهر الأمير سيدي عبد القادر بن محيي الدين الحسيني (١) وقام لله حق القيام وصحبته النصرة الإلهية في كثير من الوقائع إلى أن كان في بعضها ما هو خارق للعادة من الكرامات (٢) كطفر فرسه الأزرق به ستين ميتر وحيث أحاطت به العساكر الفرنساوية كالحلقة وراموا مسكه باليد

__________________

(١) هو عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني الجزائري. (١٢٢٢ ـ ١٣٠٠ ه‍) أمير ، مجاهد ، وعالم شاعر. ولد في القيطنة (قرية بالجزائر). قاتل الفرنسيين في الجزائر خمسة عشر عاما. ثم نفي إلى طولون ومنها إلى أنبواز. ثم سرحه نابليون الثالث. واستقر في دمشق إلى أن توفي. الأعلام ٤ / ٤٥ ، الإستقصا ٤ / ١٩٣ واليواقيت الثمينة (٢١٦).

(٢) إن الأولياء وكراماتهم مما يجب الإيمان به وتعريف الولي هو المؤمن المستقيم بطاعة الله عزوجل ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [يونس : ٦٢ ٦٣] وقال أيضا : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت : ٣٠] وصف الله في هذه الآية الأولياء بالاستقامة وهي لزوم طاعة الله بأداء الواجبات واجتناب المحرمات والإكثار من نوافل العبادات.

ثم الكرامة هي أمر خارق للعادة تظهر على يد المؤمن المستقيم بطاعة الله وبذلك تفترق الكرامة عن المعجزة بأن المعجزة تكون لإثبات النبوة ، وأما الكرامة فتكون للدلالة على صدق اتباع صاحبها لنبيّه. وهي ترتفع باختيار الولي وطلبه.

قيل : وقد يكون من لا يكشف له أفضل ممن كوشف لأن الذي يكاشف بشيء من الخوارق قد يكون ذلك ليقوّي إيمانه ويثبت جنانه. وفوق هؤلاء أقوام باشر بوطنهم روح اليقين وحسنت سرائرهم بنور التقوى ، فلا حاجة لهم إلى مدد من الحوادث ولهذا لم تكثر في الصحابة الكرامات كثرتها فيمن بعدهم. ومما يفترق به الولي عن النبي أن الولي تجوز عليه المعاصي الكبيرة والصغيرة لكنه معصوم من الكفر. والدليل على ذلك حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري برقم (٦٥٠٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى : «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب. وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» ومعنى الحديث أي بلا كيف لا بالحلول والمجاورة الحسية لتعاليه سبحانه عن الحلول في شيء من خلقه أو مجاورته لشيء من خلقه بالحيّز والمكان كما تعتقد ملاحدة المتصوفة المشبهة.

فينبغي أن يستحضر طالب الحق هذه القاعدة أن الصريح لا يؤول فلا يلقها من يده فإنها تنفعه وتمنعه من التسليم لما يراه في الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي من العبادات التي هي صريحة في الكفر ، ورأينا في ذلك أنها مدسوسة عليه لأمرين.

١٦٢

فطفر به فرسه على رؤوس العساكر وأسلحتهم ذلك المدى ونجا راكضا إلى منعته ودام محاربا لهم نحو سبع عشرة سنة ، واستقامت له حكومة ضرب فيها السكة بإسمه وأنشأ المدافع والبنادق ونفذ أمره وخشيته فرنسا ودعا الحاج أحمد باي ليتحدا ويكونا يدا واحدة فامتنع تجبرا وطغيانا وخذل الأمة إلى أن وهن أمره واستولى الفرنساويون على ما كان تحته ، وبقي الأمير سيدي عبد القادر مدافعا ومهاجما إلى أن سولت الغلطات النفسانية المخالفة للديانة الإسلامية لسلطان المغرب الإتحاد مع الفرنسيس على محاربة الأمير المشار إليه وقطع عنه سلطان المغرب خط إلتجائه جهات الصحراء فاضطر الأمير إلى التسليم للفرنسيس فاقتبلوه بالرحب والإكرام وحملوه إلى باريس تحت المراقبة فيها وكان إذ ذاك نابليون الثالث (١) مقبوضا عليه هناك فحصلت منه مودة للأمير ، ويقال إنه وعده بالمساعدة لو يفضى ملك فرنسا إليه ، وعندما استقر نابليون الثالث في منصب الإمبراطورية لم تساعده رجال دولته على إنجاز قصده من تولية الأمير المشار إليه على الجزائر فأهدى إليه رسالة في محاسن الشام وخيره في انتخاب محل لإقامته فاختار الأمير سيدي عبد القادر أرض الشام وقدم من فرنسا أولا إلى الأستانة وأكرم مقدمه السلطان عبد المجيد وأقام مدة في بلاد الترك ثم استقر في دمشق الشام أدام الله بركته للأنام وحاطه بالأمن والسلامة في نفسه وفي آله الكرام ، وبعد خروج الأمير المشار إليه من الجزائر خف الخطب على فرنسا لكن بقي جبل الزواوة ثائرا عليها تحت أمرة كبرائه فطوعته أخيرا بمثل ما فعلته في أغلب الجهات من انخداع الرؤساء بالمال وتسلط بعضهم على بعض ، كما أنها حاربتها في الجزائر أيضا دولة المغرب بجيوش كثيرة خالية عن التدبير والتدريب الحربي فلم تفد شيئا سوى ضياع ما حملوا معهم ، وكان البوادي المنضمين إلى الفرنسيس أشد على المغاربة من نفس الفرنسيس

__________________

ـ أحدهما : أن الشعراني قال إنه اطلع على النسخة الأصلية فوجدها خالية من هذه الكفريات وأن صاحب كتاب «المعروضات المزبورة» أحد الفقهاء المشهورين في أهل المذهب الحنفي قال : «تيقّنّا أن اليهود دسّوا عليه في نصوص الحكم».

الثاني : أن الحافظ ابن حجر قال في لسان الميزان في ترجمة ابن عربي إعتدّ به حفاظ عصره كابن النجار وابن الدبيثيّ. ويؤيد ذلك أن في الفتوحات المكية عبارات صريحة في إبطال القول بعقيدة الحلول والاتحاد ، والتنزيه الصريح لله تعالى عما ينزهه أهل الحق ففيها الكثير من هذا والكثير من ذاك.

وإني أبرأ إلى الله مما يقول كثير من المولعين بمطالعتها أن كل تلك الكلمات تؤول تصحيحا لها مع صراحتها في الكفر.

منها : أن الله خلق الخلق من أصل هو عينه كالحبة الواحدة تخرج منها الحبوب».

فليت شعري ماذا يصنعون بهذه العبارة وأمثالها ، فإن قبلت هذه التأويل عندهم فأين الكلمة الكفرية التي لا تقبل التأويل حتى يترتب عليها أحكام الردة التي وضعها الأئمة جزاهم الله خيرا ، فإذا علم ذلك فحذار مما يخالف القاعدة المقررة أن التأويل في اللفظ الصريح لا يقبل.

(١) هو نابليون الثالث (١٨٠٨ ـ ١٨٧٣ م) ولد في باريس. إمبراطور فرنسا (١٨٥٢ ـ ١٨٧٠) خلع عن العرش بعد فشله في الحرب ضد ألمانيا (١٨٧٠) واعتزل في إنكلترا حيث توفي المنجد ص (٧٠٣).

١٦٣

وذاك سبب الخذلان ، ولا زالت تتوالى الثورات في الجزائر على الفرنسيس منذ دخلها إلى الآن تارة مشتدة وتارة خفيفة ولله عاقبة الأمور.

مطلب في كيفية إجراء السياسة الداخلية في الجزائر :

اعلم أن إدارة الجزائر في الحقيقة مناطة بأرباب الأمر والنهي في باريس على ما هي قاعدة الفرنسيس من إرجاع كل الأمور في ممالكهم ومستعمراتهم إلى باريس من غير التفات إلى بعد المستعمرات أو قربها ولا إلى الجهل بأحوالها وأخلاق أهلها وعوائدهم ، فيضطر أصحاب الحكومة إلى اعتماد أقوال المباشر في المستعمر المبحوث فيه فيؤل الأمر إلى ما تقتضيه حالة ذلك المباشر من الإنصاف أو ضده ، مع أنه في نفس الأمر غير مسؤل عما يقع إلا في الإجراء فلا يلزمه الإحتراس اللازم للمسؤل ومع ذلك فالأحكام والإدارة كلها في الجزائر كانت استبدادية بحتة تحت الحكم العسكري فما هي إلا اجتهادات من المباشرين بلا تعقب لحكمهم لأن الدولة منعت الأهالي من الحرية السياسية ومنحتهم بعض الحرية الشخصية من التصرف في ديانتهم وأشخاصهم وأموالهم كيفما أرادوا فيما لا يضر بالدولة ولا بأحد في نظر الحكام ، والدولة تنتخب حاكما عاما من أهل المناصب العالية من الفرنسيس ويولي حاكما عاما على الجزائر جميعها ويستقر في مدينة الجزائر ، وهي أيضا تنتخب ثلاثة حكام أخر من كبار الفرنسيس تناط بأحدهم ولاية الجزائر ، وبالآخر ولاية وهران ، وبالآخر ولاية قسنطينة ، ويرجعون في النظر لحاكم الجزائر العام وعلى كل قبيلة قائد والأغلب أن يكون من بني القبائل ويلقب كبراء هؤلاء القياد «بالاغة» ويتصرفون حسب اجتهادهم وحسب ما يلقنون به من الأوامر من الولاة ، وفي كل بلدة قسم من العساكر ولكبرائهم نفوذ كبير في الأهالي وفي كل بلدة أو قرية حاكم فرنساوي والرسوم الظاهرية في الجباية وإن كانت محدودة مقوننة بأخذ الأعشار من المزروعات والزكاة على الحيوانات فكثيرا ما تمتد الأيدي إلى المكاسب من غير الثقات من المتوظفين على أوجه شبيهة بالسرية ، حيث أنه ليس عليها احتساب حقيقي ثم للمتوظف مخلص عندما تقع به الشكاية بأن ينسب المأخوذ منه إلى الثورة أو السعي فيها وبأدنى قول في ذلك تثبت التهمة وإثباتها موقوف على القرائن لدى الحاكم المستبد ، وكل من ثبت عليه شيء من ذلك يؤخذ جميع كسبه للحكومة زيادة عن عقابه البدني الشديد ولا معقب لتلك الأحكام ، وقد ابتدأ ذلك العمل منذ دخلوا الجزائر فإن حمدان بن عثمان خوجه (١) الذي هو من الأعيان العلماء الأغنياء العارف بالألسن الأجنبية اتهم بأنه كانت الحكومة السابقة أمنت عنده أموالا فأخذ

__________________

(١) هو حمدان بن عثمان الخوجة الجزائري الحنفي (١١٨٧ ـ ١٢٦١ ه‍). أديب ولد في الجزائر وتعلم بها ، زعيم أول حزب سياسي عرف بلجنة المغاربة أو حزب المقاومة. نفاه الفرنسيون من الجزائر ، فأقام مدة بفرنسة ، وسافر إلى اسطنبول فعمل مترجما في مطبعة الحكومة إلى أن توفي. الأعلام ٢ / ٢٧٤ ، وهدية العارفين ١ / ٣٣٥.

١٦٤

ماله وسافر هو مشتكيا إلى دولة فرنسا فأحالته على مجلس شوراء الدولة المسمى «كونسيل دي تا» ووكل أشهر العارفين بأحكامهم وعكف منتظرا للحكم ثلاث سنين صارفا أوقاته في مطالعة الكتب وتأليف كتابه باللغة الفرنساوية المسمى «مرآة الجزائر» الذي أودعه أخلاق القبائل وحالة سيرة حكام الترك وما آلت إليه من مظالم الفرنساويين ما لم يكن يظن صدوره عن أمة متمدنة وقد قبل هذا التأليف في فرنسا بالإعتبار لكن حكام الجزائر استاءوا منه وزادوا نكالا بكل من له علقة بالمؤلف المذكور ، وبعد ما مر عليه ما مر صدر الحكم من المجلس المشار إليه ابن حمد أن المدعي محق في دعواه لكنها لما رفعت إلى المجلس بعد صدور أمر الدولة بأن لا تقبل دعاوى تلك السنة التي حصلت عليه فيها المظالم فلا حق له حينئذ فآواه سفير الدولة العثمانية واستقر بعدها في الأستانة وكان إبنه علي باشا من أعيان رجال الدولة ، وعلى نحو ذلك العمل تجري الإدارة السياسية في الجزائر إلى الآن فترى في صحيفتها الرسمية المسماة «بالمبشر» على الإستمرار صدر الأمر بثقاف أملاك فلان وهي كذا وكذا وأملاك فلان الخ.

لكن منذ سنة ١٢٩٥ ه‍ أدخلت المدن وبعض قرى تتبعها تحت الحكم المدني القانوني لكنه خال عن الحرية اللازمة وإنما هو أهون من الحكم العسكري الإستبدادي لبعض أقسام الناس ، وأما كثير من البادية وجهال العامة فإنهم يريدون الحكم السابق العسكري ويرونه خيرا لهم لما يأتي بيانه ، ولمجموع ما تقدم ذكره مع التخالف في الديانات بين الأهالي والدولة المتسلطة دامت الثورات وتعاقبت عند كل فرصة ، وعذرهم على ذلك منصفوا الفرنسيس حتى سمعت من كثير منهم ساكني الجزائر يتشكون من الإدارة وما زالت صحفهم تطلب إنصافهم واستقامة إدارتهم وإعطاءهم الحرية المناسبة بل ويطلبون المساواة مع فرنسا في جميع قوانينها وعلى هذا الرأي قسم وافر من أهالي فرنسا أيضا ، بل أن نابليون الثالث نقر عن أسباب الثورات وذهب بنفسه إلى الجزائر مرتين ثانيتهما لتسكين ثورة وقعت هناك ، وعلم أن أعظم أسباب ذلك من سوء معاملة الأهالي من الحكام فصغى إلى شكايتهم وأزال عنهم كثيرا من المظالم وساعفهم إلى مطالبهم فسكنت الثورة بدون سفك للدماء ولا تشفي في الثائرين كما صرح بذلك الإمبراطور نفسه في خطبته عند رجوعه إلى فرنسا ، وكان توغل في دواخل الجزائر وأواسط القبائل الجسيمة ذات السطوة منفردا عن الحامية الفرنساوية معتمدا على وفاء العرب وصدقهم وقد تعهدوا له بذلك وقاموا له حق القيام من عامتهم وخاصتهم وفرحوا بمقدمه لهم ومالوا إليه وإلى إنصافه وأظهروا له من الطاعة والتعظيم ما عاد به مسرورا منهم موقنا بإنصاف مطلبهم ومحبا خالصا وعاطفا حنوا عليهم ، واختص منهم في باريس قسما من العساكر لحراسة ذاته وأكرم مقامهم ورفع من شأنهم واتخذ قسما من الفرسان في مصاحبته في ركوبه بملابسهم العربية ، وكذلك العساكر يلبسون العمامة ويسمون بالزواف وقد حاربوا في الدفاع عن

١٦٥

الفرنسيس في حرب سنة ١٢٨٧ ه‍ ١٨٧٠ م بحمية أكثر من حمية الفرنسيس أنفسهم وشهد لهم بالشجاعة والصبر والمعرفة والجرأة كل من الفرنسيس والألمان ، ولما وقع انكسار الفرنسيس أثناء تلك الحرب حركت الدسائس أهالي الجزائر إلى الثوران فامتنعوا وفاء بعهدهم مع الإمبراطور نابليون الذي أحكم معهم الصلة ووعدهم بمزيد المساعدة والنجاح قبيل تلك الحرب إلى أن علموا خلع الفرنسيس له فثار بعضهم إذ ذاك لكنه لم يجد نفعا لتفرغ فرنسا من حرب خصمها ولعدم اتفاق الكلمة بين الجزائريين ، ولا زال أهل الجزائر يثنون على نابليون وعائلته لما شاهدوا منه من إنصافهم واعتبار حرمتهم حتى قال في خطابه الرسمي : إني إمبراطور الفرنسيس كما أني إمبراطور العرب ، وكان ذلك هو الذي أوجب للكثير ترجيح الحكومة العسكرية ظنا منهم أنها لا تسير إلا على نحو ما تركها عليه الإمبراطور بخلاف غيرها ممن لا يراعى لهم ذمة ، حتى أن العساكر مع ما مر ذكره لم يمنح لأحد ضباطهم أن ينال رتبة رفيعة في العسكرية فذاك هو سبب الملل الذي لا يبرح من نفوس الأهالي ، وإن جعل منهم بعض أعضاء في المجلس الذي يدعوه الحاكم للتشاور في المصالح ، لكنهم أعضاء صورية لأن أغلب الأعضاء من الفرنساويين مدافعون عن حقوق الفرنساويين المستوطنين هناك وهؤلاء يرون أنفسهم مظلومين بالنسبة لأمثالهم في فرنسا مع عدم الداعي إلى ذلك ، لأنهم قد تحققوا أن الأهالي إذا نالوا إنصافهم وتسويتهم في الحقوق يكونون أهلا لنيل سائر المنح الحائز لها الفرنساويون ، وأهالي الجزائر الآن يعتبرون أنهم في حماية الفرنسيس إلا أن لهم الجنسية الفرنساوية والفرق بين هذين هو أن من له الجنسية ينال سائر المنح الفرنساوية وعليه ما على أفراد الفرنسيس من القوانين من الدخول في العسكر وإجراء أحكام الزواج المدني والتوارث على مقتضى القانون إلى غير ذلك ، وأما صاحب الحماية فيجري أحكام ديانته فيما ذكر ولا يدخل للعسكر إلا برضاه نعم يتخذ منهم نوع من العسكر الخيالة يسمون «بالسباييس» دون رتبة العسكر وللأفراد أن يدخلوا في الجنسية باختيارهم بحيث لا غصب فيها ، وقد دخل فيها كثير بعضهم للشهوات وبعضهم تملقا كاليهود وبعضهم طمعا في الرتبة العالية العسكرية ، وهو وإن نال شيئا منها لكنه مهان في اعتبار النفوس لما يوجب ذلك من امتهانه لديانته في نظر العموم ولو من الفرنسيس ، ولما تقدم لم يكن للأهالي المساواة في الإعتبار بينهم وبين الفرنسيس ويظهر ذلك حتى بنظر العين في المعاملات التكريمية والتوقير وترى اليهود أحرز للحرية في معاملة الفرنسيس وخطابهم من المسلمين.

مطلب في السياسة الخارجية للجزائر :

ليس للجزائر سياسة خارجية إذ السياسة إنما هي لفرنسا ولا ترى في قاعدة الجزائر ولا غيرها من اعتبار أو ذكر لقناسل الدول الأجنبية وما هم فيها إلا كأمثالهم في إحدى مدن فرنسا.

١٦٦

الفصل الرابع : في بعض صفات الأهالي وعوائدهم

أغلب عوائد الأهالي وصفتهم في الجزائر هي مثل ما في أهالي تونس في السلام والحياء غير أن الجيل الجديد في المدن تخلق أغلبه بأخلاق مخضرمة بين العادات الأصلية وبين عوائد الفرنساويين ، ومن المعلوم أن النفوس مائلة إلى التشبه بالغالب غير أنها أول ما تسري إليها الأخلاق الشريرة ، أما المحامد فإنها إنما يحمل عليها العقل بالكلفة ولهذا فشت قلة الحياء في كثير حتى سرى ذلك إلى أبناء الفرنسيس الذين نشأوا هناك وقد صاحبني في الفابور من الجزائر إلى عنابه امرأة حاكم بلاد قالة مصاحبة لأبنائها الصغار وهم ثلاثة دون البلوغ كانوا يتعلمون الفنون في مكتب بلاد الجزائر ، ولما أرست الباخرة على مرسى جيجلي صعد إليها نائب لجنة تلك البواخر متفقدا وكان حضر إذ ذاك وقت الفطور فجلس مع الركاب على المائدة وكان من جملة الحاضرين الأبناء المذكورون وبعد الأكل أتي بالقهوة ومن عادة الإفرنج الإتيان بقنينة فيها نوع من المشروبات الروحية المسمى بالكنياك ومعه كيسان صغار لمن يريد الشرب من ذلك مع القهوة ، فأخذ منه من أخذ وامتنع من امتنع فعمد أولئك الصبية إلى المشروب وأخذ كل منهم كأسا ووضعه أمامه فتبسم كبار الحاضرين متعجبين من ذلك وأمهم فار عليها العرق من الحياء ولم تكلمهم بشيء ، وبعد هنيهة أخذني نائب اللجنة إلى ناحية منفردة وقال لي : أرأيت ما وقع؟ قلت : ما هو؟ فقال : لا تهزأ معي لو كان أولئك أبنائي لألقيتهم في البحر ، فقلت : لماذا وهو عندكم ليس بممنوع؟ قال : كلا فإنه وإن كان الخمر عندنا مباحا لكن إنما هو ما يؤخذ منه مع الأكل من نوع ماء العنب بمقدار لا يفعل نشوة أما هذا فإنه لا يستعمل إلا بعد الأكل لمجرد النشوة والصغار يمنعون من ذلك بمقتضى التربية الحسنة ، ولكن نحن قد خرجنا عن طورنا وفسدت أخلاقنا وأفسدنا أخلاق غيرنا فهؤلاء أبناء أحد حكام البلاد على هذا النحو فما بالك بغيرهم الخ.

وكان منشأ هذا الفساد هو أن الحرية في الفرنسيس قد فطروا عليها بقسميها أعني الحرية الشخصية والحرية السياسية لكنهم تحملهم في بلادهم الحرية السياسية على التخلق بمحامد الأخلاق على قدر مستطاعهم وإدراكهم ، وأما في الجزائر فقد حرموا في أنفسهم من الحرية السياسية وكذلك الأهالي أطلقوا لهم الحرية الشخصية وحرموهم من الأخرى ، فانبعثت القوات كلها إلى الأولى مع ملائمة الطبائع النفسانية فأتوا على كل ما يمكنهم التوصل إليه من الفسوق وقبائح الكلام والتزوج بين كل متراضيين من غير نظر لديانة ولا صحة شرعية ، بل يقع حتى لبنات مسلمات الفرار من آبائهن إلى رجال من الافرنج أو غيرهم ويصاحبنهم بدون زواج أو به ولا مانع عندهم من ذلك ، وأضف إلى ما تقدم من السبب أن الحكام لما كانوا من العساكر مستبدين فتراهم يشتمون بالكلام الفاحش وكأنه هو أوّل ما يتعلمونه بالصدفة من لغة الأهالي ، ثم أن السيرة العسكرية الإستبدادية معلومة في أن

١٦٧

الغالب على الضباط الصغار فمن دونهم هو الميل إلى الشهوات الطبيعية والإنهماك فيها ولا ينفكون عنها إلا بأوازع الحكمى أو العادي كما في بلدانهم في فرنسا بالنظر للعادة ، وهاته العادة منتفية في الجزائر لعدم اعتبار عادات الأهالي حق الإعتبار فنشأ في ذلك القسم زيادة الإطلاق ، وقلدتهم صغار الأهالي على قاعدة الناس على مذهب أمرائهم ، ومع هذا فلا زال في ذوي البيتوتات وأصحاب الأصول مكارم الأخلاق الإسلامية وفضائل الطبائع العربية وإن كانوا بالأصالة قليلين في المدن ، وأما أهالي القبائل من البادية والمتوغلين في الجنوب ودواخل القطر فالأكثر منهم على الطبائع والعادات الأصلية والقليل الذين لهم علقة بالحكام والتداخل معهم تغيرت عاداتهم إلى نحو ما وقع في الكثير من أهل البلدان.

ومن الأخيار الذين اجتمعت بهم ومنحوني فضائل أخلاقهم النحرير العالم الشيخ علي ابن الحفاف المفتي المالكي ، بقاعدة الجزائر وهو من تلامذة علامة القطر الإفريقي الشيخ إبراهيم الرياحي (١) كما أخبرني بذلك عن نفسه ، وله فضائل كاملة وتقوى وسكينة واطلاع والسعة في الفقه والحديث وذاكرني في الهجرة فذكرته بأن مثله قليل الوجود في ذلك القطر وأن بقاءه فيه لتعليم الناس دينهم أنفع للعامة وله عند الله من خروجه برأسه وإبقاء تلك الأمة المسلمة خالية عن مثله بل وربما حمل خروج غيره ممن هو على شاكلته على الخروج فتبقى العامة بلا تعلم لديانتهم وتضمحل منهم الديانة شيئا فشيئا والعياذ بالله ، بخلاف ما إذا بقي هو وأمثاله فإنه تنتشر تعاليم العقائد والفقه وتبقى الديانة إن شاء الله محفوظة في الأهالي وذلك هو المنصوص عليه في كتب فقهنا ، حتى أن الأسارى إذا لم يمكن فداءهم جملة فيؤخر منهم العلماء ، ومن الأخيار أيضا الأصيل الفهامة الشيخ أحمد أبو قندورة المفتي الحنفي بالقاعدة المشار إليها ، وهو ذو تبحر في المعارف السياسية ومتقن للغة الفرنساوية وصاحب حمية في المدافعة عن أهالي وطنه وهو عضو أيضا في مجلس الوالي وله مشاركة في الفقه والحديث ، وكل من الشيخين المومى إليهما إمام وخطيب في جامع بالقاعدة المشار إليها وقد زرت كليهما في مقصورة جامعة ودعاني ثانيهما لوليمة اتخذها إكراما لي جازاه الله أحسن الجزاء ، وتوجهت معه إلى بستانه في الجبل وهو بستان ظريف جامع للشكلين العربي والأوروباوي وبناؤه ظريف نظيف على النحو العربي المتقن ، ومن أكارم من اجتمعت به صفوة الخيرة سيدي قدور الشريف نقيب السادة الأشراف صاحب شمائل تليق بجلالة نسبه ، ومنهم العالم المتفنن الشيخ علي بن موسى نقيب زاوية سيدي عبد الرحمن الثعالبي رضي‌الله‌عنه ، وهو صاحب ورع وديانة كان ولي في إحدى المناصب الحكمية ولما لم يمكنه الإمتناع تصامم واعتذر بالصمم فأعفي ومنح نقابة الزاوية

__________________

(١) هو إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد الرياحي التونسي. أبو إسحاق. (١١٨٠ ـ ١٢٦٦ ه‍). فقيه مالكي ، من أهل المغرب. ولد في تستور ونشأ وتوفي بتونس. الأعلام ١ / ٤٨ ، اليواقيت الثمينة ١ / ٨٩ ومعجم المطبوعات (١٣٨١).

١٦٨

المذكورة فبقي ساكنا هناك معتكفا على العبادة والمطالعة وله أشعار جيدة ، ومنهم الوجيه السيد الشريف الصفصافي وغيرهم من الأعيان.

كما اجتمعت بثقات من كبار متوظفي الفرنسيس كالجنرال شيريز حاكم وهران ونائب الحاكم العام في الجزائر عند مغيبه في وقت قدومي إلى هناك ، وهذا الجنرال زيادة على معارفه العسكرية التي توصل بها إلى رتبة الفريق فإنه منصف عاقل عارف بأحوال سياسة الوطن والسياسة الخارجية ، صدوق في الكلام بدون محاباة ويا ليت سائر كبار متوظفيهم هناك مثله ، والذي أعانه على معرفة مصالح الأهالي هو معرفته لغتهم ، ومنهم أميرال البحر الكماندان دي سان أنددي ، وهو شيخ مسن منصف في السياسة وممن لاقيته في غير القاعدة الفقيه النبيه الشيخ السعيد بن شتاح قاضي بلد قاله وهو مشارك في الفنون الآلية وله إطلاع حسن في الفقه مع عفة واستقامة ، ثم أن الأهالي على العموم في طبعهم نوع من الحدة والنشاط وذرية البربر في لونهم شقرة وصهوبة ولهم ولوع بالفروسية ، والملاهي في المدن على نحو ما في أوروبا وفي بقية القرى والبوادي على نحو ما ذكر في تونس.

مطلب في التجارة بالجزائر

التجارة مع خارج القطر أغلبها بيد الفرنسيس ثم الإسبنيول والطليان ، ثم غير كالبعض من الأهالي والإنكليز والنادر من غيرهم وفي دواخل القطر مقسمة بين الأهالي والفرنساويين وهي على نحو التجارة بتونس إذ لم تحدث بها معامل ولا كبير حركة تجارية سوى بعض معادن كما تقدم في معدن الحديد بعنابه ومعدن فضة في القالمه ، على أن تصفيتها وصناعتها تكون في فرنسا. وأصول التجارة الجارية على نحو الأصول الفرنساوية وعلى ما فيها من المعاهدات مع الدول ، وأما البريد برا وبحرا فهو بيد شركات فرنساوية ، وفي الجزائر دار صرف تسمى بانكة الجزائر لها أوراق مالية مثل البنوك المعتبرة في أوروبا ولتسهيل طرق التجارة وإن شئت قلت لتسهيل الحركة العسكرية قد امتدت طريق الحديد بين الجزائر ووهران وتلمسان ثم أخرى بين عنابه وقالمه وسوق هراس وقسنطينة واسكيكده وهم بصدد وصلها بطريق تونس ووصل البقية ببعضها ، والمذاكرات جارية في مد طريق الحديد إلى دواخل أفريقية والصحراء حتى تجمع بين شطوط أفريقية الشمالية الشرقية من جهة الجزائر وتونس وبين شطوطها الغربية من جهة سانيغال وتمر على ممالك السودان ولا يخفى ما في ذلك الربح الباهظ.

مطلب في الأحكام بالجزائر

الأحكام الشخصية منقسمة إلى قسمين : فما يرجع إلى الوقف والنكاح والطلاق والإرث عند المسلمين له قضاة مسلمون على مذهب مالك وفي بعض المدن مفتون حنفية ،

١٦٩

والقضاة معين لهم الحكم بكتاب مختصر الشيخ خليل (١) ويجلس مع القاضي عدلان للشهادة على الخصوم وينوبه أكبرهما عند مغيبه ، وأما ما يرجع إلى سائر المعاملات والجنايات فله مجلس مركب من ثلاثة أعضاء فرنساويين ويحضر معهم عضو مسلم ، وهذا المجلس على نحو مجالس الأحكام في فرنسا غير أن القانون الذي يحكم به ممتزج بين ما ترجم من مختصر الشيخ خليل وبين القانون الفرنساوي ، فإذا كان الخصمان من المسلمين والدعوى من أنواع المعاملات الإختيارية فلهما الإختيار بين فصلها في هذا المجلس أو لدى القاضي المشار إليه ، وأما إذا كانت الدعوى من قبيل الجنايات أو بين مسلم وغيره فلا تفصل إلا بالمجلس ، كما أن للمجلس حق التحقيق على القاضي فيما يحكم به في نوازل المعاملات وذلك جار في كل بلدة.

وأما القبائل : فحكامهم القواد والأغوات والقضاة ، ثم لما كان أعضاء المجالس في الأغلب غير عارفين بلغة القوم لزم إحضار مترجم مع مراقبة العضو المسلم ، ومع هذا فلا يحصل الإنتصاف المعهود في محاكم فرنسا إلا من حيث الأعضاء الفرنساويين فإنهم يتحرى في انتخابهم استكمال الصفات والإستقامة لكن يحصل أطوارا عدم إحسان الترجمة جهلا أو عمدا مع عدم جدارة العضو المسلم فلا يجري الإنصاف ، وأغلب ما يكون ذلك في الحكم الذي لا يقيم المحكوم عليه وكيلا عارفا باللغة الفرنساوية ومتضلعا بمعرفة الأحكام. وقد حضرت يوما متفرجا في مجلس الحكم بعنابة الذي هو في الهيئة على نحو ما تقدم في باريس فأتي برجل في دعوى جنائية وبينما هو يتمم في كلامه وإذا بالمترجم تكلم للحكام كان الرجل تمم مقاله فصدر الحكم حالا بسجنه وما أخرج من بيت الحكم إلا ولاقى من اللكم واللطم والسب من أعوان المجلس ما تعجبت من صدوره من فروع الأمة التي كنت أشاهد في اعتدالها في فرنسا وأولئك الأعوان هم من الأهالي غير الثقات ، ومنهم أيضا أعوان للضابطية ويتجسسون على من يقدم من خارج ربما يهيج الأعراب إذا توجه إليهم وبمجرد التهمة يسافر من البلد وهم لا يحسنون لا التجسس ولا الخطاب لعدم الأهلية في الإنتخاب وعلى هذا النحو في عدم الجدارة جمع من قضاتهم فلا يتقون الإرتشاء ولا يحسنون حفظ ناموس المنصب ، حتى شاهدت قاضيا في عنابة يتلاطم ويتخانق مع الخصوم ويجلس في حانات الأراذل مما يتنزه عنه أعضاء مجالس الحكم ، وكان ذلك في أصل القصد من عدم التحري في الإنتخاب لتنفر الأهالي من أحكام القضاة ويفضلون أحكام المجالس بل وربما أدى ذلك مع زيادة جهل العامة إلى اعتقادهم الإختلال في الشعائر الدينية لما يرون من سوء حالة القضاة وأحكامهم واعتدال المجالس وإنصافهم.

مطلب في المعارف بالجزائر :

المعارف فيها على قسمين الأول : علوم الديانات والثاني : علوم الرياضيات. فالأول قسمان أيضا :

__________________

(١) انظر كتاب مختصر الشيخ خليل صفحة (٢٥٨) وما بعدها.

١٧٠

الأول : ما هو مختص بالديانة الإسلامية وله مدرسون في الجوامع يقرؤن النحو والفقه وفي خصوص الجزائر من هؤلاء عشر مدرسين ، والفقه هو المالكي وقليل من الدروس في الحديث أو غيره ، وأكثر الاجتهاد في هاته العلوم في بلد قسنطينة ثم تلمسان ، وفي الجهات الجنوبية يقرؤن العلوم في زوايا الطرق ولأهالي هاته الجهات اعتناء بأخذ العلم فيرحلون إليه إلى فاس وتونس وقليل منهم يرحل إلى مصر ، فلذلك لم ينقطع في تلك الجهات من له إطلاع حسن ومشاركة جيدة وقليل من يتضلع حقيقة التضلع لأنه ليس في أوطانهم علماء فحول وإنما يقرؤن صغار الكتب ، وأكثر الإنكباب في الفقه المالكي على حفظ مختصر خليل وتفهمه ، ومن تمهر في العلوم في إحدى البلاد الخارجية قلما يرجع إلى وطنه ، وفي كل تلك العلوم مدرسون في الجوامع لهم مرتبات من قبل الدولة الفرنساوية وهي القائمة بمصاريف إقامة الجوامع وما فيها من قراءة الأحزاب أو كتب الحديث لأنها استولت على جميع الأوقاف والمساجد واقتصرت في كل بلد على عدد مخصوص من المساجد تقوم به وغيره تصرفت فيه بما ناسبها وحرمت المستحقين من مالهم كأوقاف الحرمين.

والقسم الثاني : ما يختص بالديانة النصرانية ولا دخل للدولة فيه وإنما القسيسون لهم مدارس لتعليم ديانتهم وقد كان نوع من القسوس يعرف بالجوزويت أنشأ مدارس للتعليم حتى للعلوم الرياضية مع الديانة ولهم إتقان في كيفية التعليم والتربية وقد كانوا في حدود نيف وثمانين ومائتين وألف احتازوا بكثير من أولاد الأعراب وغيرهم المسلمين بناتا وأطفالا ونصروهم وذلك عند ما وقعت فجاعة شديدة بالقطر ، ولما بلغ مجلس النواب في فرنسا ذلك العمل شدد قسم منه النكير على الدولة في إطلاق القسوس على ذلك العمل لكنها لم تمنعهم وعند ما كبر البعض من أولئك الأولاد وعلموا بأن أهلهم مسلمون فروا إلى أهليهم ثم لما منعت الدولة الجوزويت من التعليم في فرنسا واستولت على مدارسهم ومكاتبهم في سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨١ م عممت ذلك في الجزائر أيضا ونفتهم من كل ممالكها لكنها أوصت بهم نوابها في الممالك الإسلامية بأن يحموهم في جريتهم ، أي إذا أرادوا بناء مدارس والتعليم فيها فليس للدولة الإسلامية منعهم وإن منعوهم تعارضهم نواب فرنسا مع أن الدولة الفرنساوية الآن جمهورية وتطلق الحرية في كل شيء غير أنها سلبت حرية الجزويت في ممالكها ولم يتيسر لها حمايتهم في ممالك أوربا اللاتي أكثرها فعل بهم مثل ما فعلت هي ، فكيف يسوغ مضادة ذلك في الممالك الإسلامية مع اختلاف الديانة فيها؟ وأما في فرنسا فإن ديانتهم متحدة لأن الجوزويت نصارى من أتباع الكنيسة الكاتوليكية الخاضعة للبابا ، غير أنهم لهم مذهب في دقائق الديانة والتأويلات والفلسفة فيها جعل لهم نوع إنفراد عن بقية القسوس ، بيد أن الدولة الفرنساوية تستند في منعهم من التعليم بأنهم يمزجون في تعليمهم الأحوال السياسية على الأصول الإستبدادية بما لا يوافق سياستها وتخشى من فشوه في الناس مع المكاتب التي يتخذونها تصير كالمعسكرات تحدث منها الثورة ويأوي إليها الثائرون.

١٧١

وأما القسم الثاني : من أصل المعارف فهو سائر المعارف الرياضية وهاته لها مكاتب من الدولة في البلدان المتمدّنة ، وهي على نحو المكاتب الفرنساوية غير أنها قاصرة عن العلوم العالية ، فبعد إتمام التلميذ فيها معارفه ينتقل إلى باريس التي هي مركز سائر العلوم العالية ، والمكاتب بالجزائر فيها ما هو للولدان وفيها ما هو للبنات وقد حضرت بالإستدعاء في امتحان البنات بعنابة ووقع الإمتحان في اللغة الفرنساوية وفي الكتابة وعزف البيانو ، وأنشدت المديرية خطبة في تحسين التعليم وأغلب المعلمين نساء في هذا المكتب ، كما حضرت إمتحان مكتب الولدان من مسلمين وغيرهم وحضر كلا من الإمتحانين وجوه البلد وحكامها.

مطلب في الصنائع وغيرها بالجزائر

الصنائع بها أحسنها الفلاحة وقد أتقنت في الجهات الشمالية على نحو ما هي في فرنسا. وأما بقية الصنائع فإنها على نحو ما بتونس مع الإنحطاط في الدرجة لا في الكمية ولا في الكيفية عما في تونس إلا بعض أنواع من البرنس فلهم فيه مزيد إتقان كالمسمى بالعباسي وأما هيئة المساكن والطرقات فإن الجديد على نحو ما في فرنسا والقديم على نحو ما في تونس ، لكن الطرقات معتنى بتنظيفها وتنويرها على كل حال كما في فرنسا. وأما اللبس فالرسمي فرنساوي وقواد الأعراب الكبار يلبسون قفطانا طويلا مطرزا بأسلاك الفضة المذهبة ، وبقية لبس الأهالي على نحو لبس التونسيين سوى عموم لبس الرداء المسمى بالحرام حتى في المدن ويجعلون العمامة فوقه وكلهم يدخلون رؤسهم في فوهة البرنس ، ولباس النسوة أحسن سترة منهن في تونس لأنه متدلي ، وكذلك الأكل والمواكب على أنواعها فإنها نحو ما في تونس إلا الذين لهم مزيد اعتناء بتقليد الأوروباويين فقلدوهم في أشياء كثيرة ، وقد رأيت من العادات القديمة أنهم لا يدخلون ديارهم بنعالهم بل كل من وصل إلى السقيفة نزع نعله ولبس نعلا خاصا بالدار أو دخل حافيا تحفظا على النظافة والطهارة ، ولهم أنواع ظريفة متقنة في الأكل سيما المتخذ من ورق العجين حلوا ومالحا.

وأما اللغة فهي أيضا عربية محرفة على نحو ما في تونس غير أنهم أقل فصاحة في النطق ببعض الأحرف مع وجود كلمات غير معروفة في تونس كقولهم : «أدروك بمعنى أنظر» أو ما قاربها ، وفي جهات ذرية البربر لم تزل لغات أسلافهم مستعملة كما في زواوة وبني مزاب.

١٧٢

الباب السادس في انكلاتيرة

الفصل الأوّل

في سفري إليها

قد تقدم أني أقمت في باريس سنة ١٢٩٦ ه‍ نحو شهر وحيث كنت علمت أغلب ما فيها ولزمني انتظار أشياء يتوقف عليها رجوعي إلى تونس أحببت أن أقضي بعض أيام في رؤية إنكلاتيره لشهرتها مع قربها من باريس ، فركبت الرتل السريع صباحا وذلك في رمضان الموافق لتموز الأعجمي ، واستمر الرتل سابحا بسرعة يقطع بها نحو الخمسة والأربعين أو الخمسين ميلا في الساعة ، فرأيت من منظر شمال فرنسا ما يربو عن الجهات الشرقية والجنوبية انتظاما وعمرانا إلى أن وصلنا إلى بلد كلي التي هي مرسى على أضيق خليج بحر المنش بين فرنسا وإنكلاتيره ولها عدة أسوار وخنادق متينة حصينة للغاية ، ودخل الرتل بين سورين إلى أن وصل إلى محاذاة الباخرة اللاصقة بالرصيف وكنا أخذنا ورقة الكراء إلى ذات لندره فانتقلنا من الرتل إلى الباخرة ، وصادفنا باخرة عجيبة الشكل إذ هي مؤتلفة من باخرتين متلاصقتين عرضا وسطحهما متحد ولكل آلة بخارية وبها بيت جلوس واسع جدا ذو إتقان بليغ وبها أيضا بيوت صغار لمن يريد الإنفراد لكنه يزيد نحو عشرة فرنك في الكراء عن الطبقة الأولى ، وفي الباخرة جميع ما يحتاج إليه المسافر لكنه له ثمن زائد عن الكراء والداعي لجعل الباخرة كذلك هو صعوبة ذلك الخليج وشدّة اضطرابه لأنه مضيق بين بحرين ويمر فيه التيار بسرعة فبادني ريح يشتد اضطرابه مع تطلب الراحة للمسافر فاخترعوا ذلك النوع من البواخر لكي لا يحصل فيه الإضطراب بكثرة عرضه فلم يفد واخترعوا نوعا آخر فيه أيضا ، وهو أن يكون بيت الجلوس منفصلة عن الباخرة من جميع الجهات ومعلقة فيها على نحوا الفوانيس بحيث إذا مالت الباخرة لا يميل البيت حيث كان معلقا فيتبع ثقل المركز فلم يفد أيضا لأنه إذا اشتد الميلان يلاطم بعض أجزاء السفينة حائط البيت ويتبعه في الميلان ، فحاولوا أن يخترقوا طريقا تحت قعر البحر ووضعوا لذلك رأس مال قدره أربعة ملايين فرنك بين الفرنسيس والإنكليز للتجربة أعني تجربة معرفة الطبقة السفلى من أرض البحر هل هي صلبة قابلة للإستمساك أم هي رخوة ، أما أصل إمكان النفاذ فقد جربوه تحت نهر التيمس كما سيأتي ذكره ولا زال العمل جاريا في هاته التجربة وذكروا أنهم وجدوا الأرض صلبة ، بأن حفروا في شاطىء البحر بئرين أعمق من أعمق محل في ذلك البحر فوجدوا طبقة الأرض صلبة فاجتهاد الجهتين متوال في أحداث هذا الطريق ، وهذا ينبيك عن

١٧٣

عزائم الأمتين في العمل والمال ولا يبعد حصول المقصود في وقت قليل ، ثم أقلعت بنا الباخرة ولم تحمل إلا الركاب والبريد وما خف من البضائع ورحل الركاب وأنعم الله علينا بأن كان البحر في نهاية السكون ولله الحمد فكنا في غاية الراحة ، غير أنا لا ننظر إلا ما قرب من البحر للباخرة لكثرة الغيم في الشطين وبعد سير ساعة وأربعين دقيقة وصلنا إلى مرسى دوفر من إنكلاتيره التي هي أقرب مرسى في مقابلة مرسى كالي ، ووصلت الباخرة أيضا للرصيف ونزلنا إلى الرتل الذي هو على أهبة السفر بلصق الباخرة فسألني خدمة الرتل : إلى أين توجهي؟ فقلت : إلى لندره ، فقالوا : أي جهة منها؟ فتعجبت هل هؤلاء لهم عجلات يوصلونني بها إلى محل نزلي مع أني لم أتخذ منزلا وإنما كنت كتبت لأحد معارفي فيها ليتلقاني في المحطة ، فأعدت لهم إني ذاهب إلى لندره إلى محطة سكة الحديد ، فقالوا : أي محطة؟ فتذكرت ما كتب لي المتلقي إليّ في المحطة من أنه ينتظرني في محطة فكتوريا ، وعلمت إذ ذاك فائدة تنصيصه على إسم المحطة ، وحينئذ ذكرت لهم إسم المحطة فعينوا لي الحافلة التي نركبها وكان ذلك بعد تعب في التفاهم من الجهل باللغات حتى كان الذي فرج الحال رجل يعرف الفرنساوي ، ثم قفل الرتل سرعان سابحا بسرعة أزيد مما هي في فرنسا حتى لا يتمكن النظر من رؤية الأشياء القريبة وكان الرتل يطفر طفرا من تقارب مقاطع قضبان الحديد الجاري عليها من سرعة السير إذ هو يسير ستين ميلا أو أزيد إلى الثمانين في الساعة الواحدة ، وكنت أرى على بساط الأرض آجاما عن بعد من شجرة الدينار التي يضم ورقها إلى ماء الشعير المتخذ سكركة المعروفة بالبيرة ، ونرى أكواما كالقرى المنثورة من الآجر المصنوع حتى تعجبت من كثرته وكثرة معامله ولكنني عند ما شاهدت بلدانهم زال التعجب ، لأن الآجر وحده هو مادة البنا ، ثم لما قربنا من لندره وإذا ببساط الأرض على نحو مد البصر كأنه شبكة صياد بقضبان طرق الحديد المتفرعة إلى جميع الجهات والرتل واردة صادرة كالنمل الساحب ، فوصلنا إلى المحطة وتلقاني المنتظر إليّ ونفس عني مللي بكلامه العربي. وهو مستر أميوني أحد أبناء الشام انتقل إلى هناك وسكن بلندره محترفا بصناعة التعليم للسان العربي وكان دخله من التعليم كافيا له بعسر لغو الاسعار ، وكانت مدة السفر من باريس إلى لندره تسع ساعات وثلاث أرباع الساعة بين السير في البر والبحر ، وسكنت في الحارة المعروفة بهيت بادك وأقمت بلندره يومين منفصلين وثلاث ليال ، واليوم الوسط ذهبت فيه إلى بلد أبريتن صباحا ورجعت منها مساء حيث أنها على شاطىء البحر وينتدبها أعيانهم صيفا وهي من أعظم منتزهاتهم ، وأبنيتها مثل أبنية لندره وأحسنها في هاته البلد ثلاثة أماكن.

أولها : قصر الملك وبستانه فالبستان جميل إجمالا وأما القصر فقد بناه ملكهم ويلم الثالث المتولي سنة ١٦٨٩ الذي كان معجبا بالصيد والخلاعة محبا للإنفراد ، فبنى قصر بريتن وكان مغرما بأحوال الصينيين فجعل بها ذلك القصر بعيدا عن القاعدة ليهنى عيشه بالإنفراد ، ثم أنشأ القصر على نحو قصور ملوك الصين وجلب إليه من هناك سائر الأدوات

١٧٤

والمفروشات ، وغاية الفرق بين هذا البناء والبناآت المعهودة أنه لا يشمل إلا طبقتين والقباب كلها على شكل مخروط الوسط والحيوط والأبواب كلها منقوشة مزخرفة بالأشكال الصينية وألوانها وتصاويرها والدرج ذات شكل غريب مرتاح ، وظاهر القصر مزخرف وعلى زواياه وأبوابه شرافات وصوامع جيدة مزركشة وقد باعت الملكة فكتوريا المتولية الآن هذا القصر لجمعية أهلية ليبقى منتدى للعموم في خطبهم واجتماعهم ، وقد انتدبوا إليه عقب شرائه من سائر أقطار إنكلاتيره وما زال هكذا مباحا للمتفرجين وقد شنعت صحف أخبارهم على شح ملكتهم ونهمتها في المال ببيعها ذلك القصر للأهالي وكان ينبغي لها أن تهديهم إياه وأظن أن الثمن لم يبلغ المليونين فرنكا.

والمكان الثاني : في البلد هو محل معرض أنواع السمك في أحواض من الزجاج وراءها الضوء مركوزة في الحيوط ينزل إليه بدرج على الشط وحوله مطاعم أنيقة وحدائق وفوقها قهوة ، وفي بيوت هذا المعرض بيوت عديدة جميع حيوطها أحواض زجاج فيها أنواع الحيوانات البحرية ما الله به عليم ، ويستفيدون من ذلك كيفية حياة الحيوانات وتوالدها.

والمكان الثالث : هو دكة على البحر طولها نحو نصف ميل مصنوعة من خشب متين مرفوعة على أعمدة متينة من الحديد عالية عن سطح البحر وحول الدكة وفوقها مقاعد ومنازه وقهاوي وذلك هو منتدى المنتزهين واللاعبين والمتسابقين في البحر ، وبقية البلد ليس فيها ما يستغرب وإنما هي حسنة قليلة نظافة الطرق ولم تزل الأشغال جارية في إحداث حارات جديدة فيها ، ثم لما رجعت إلى فرنسا بت ليلة في مرسى «دوفر» لأن الباخرة تسافر بالبريد مبكرة فآثرت الذهاب إليها عشية لكيلا نتعب بالركوب في الرتل ليلا للوصول إليها ، وتطوفت فيها فإذا هي مرسى حربية وحشة متينة الحصون كثيرتها ومبانيها ردية وطرقها وسخة ، ومنزل المسافرين الذي بتنا فيه حسن متقن وطعامه رديء وليس في البلد ما يبسط النفس فركبنا منها بكرى الصباح ورجعنا إلى فرنسا في باخرة فرنساوية اعتيادية وكان البحر ساكنا مع الضباب الكثيف ، وحول شاطىء فرنسا كان الجزر حاصلا حتى خشي السفن من مصادمة الأرض وكان قعر البحر يرى في بعض الجهات.

الفصل الثاني

لما كانت هاته المصر المتمصرة هي قاعدة إنكلتره وفيها أنموذج سائر المملكة يلزم أن تفرد بالذكر ، غير أنه لا يخفى ما للمعادات من المعادات ، وقد ذكرنا من أوصاف باريس وتفاصيلها ما يغني كثير منه عن إعادته في صفة لندره فلنقتصر على ما تنفرد به هاته عن تلك وهكذا نسلك في سائر المباحث بحيث نقتصر على ما يفيد وما يشترك فيه الجميع يعلم حاله مما سبق في الأبواب السابقة ، فنقول : إن لندره أكبر مصر في أوروبا وسكانها على ما تحرر سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨١ م ٠٠٠ ، ٤٨٩ ، ٣ نسمة منهم ٠٠٠ ، ٦٣٣ ، ١ ذكورا و ٠٠٠ ، ٨٥٦ ، ١

١٧٥

إناثا ، ويخترقها نهر التيمس الذي يحمل السفن الكبيرة وعليه جسور عديدة ضخمة جدا ، منها البناء ، ومنها الخشب ، ومنها الحديد الذي لا أعمدة له ، يقوم عليها في النهر وإنما طرفاه على العدوتين ووسطه معلق بقضبان وسلاسل ممتدة إلى طرفيه حيث يوجد أبنية ضخمة مرتفعة ، تمر في أعلاها تلك السلاسل والقضبان ثم تنزل إلى الأرض بحيث تكون على شكل مثلث زاويته الوسطى قائم فيها ، ذلك البناء وتلك السلاسل أربع في كل جهتين من طرفيه إثنان ، وبعض هاته الجسور تمر عليها طريق الحديد وبعضها عليه جسر آخر يمر عليه طريق الحديد وقد خرقوا تحت النهر نفقا يمر فيه الرتل أيضا ، وطول النفق ألف ومائتا قدم وكان إنشاؤه سنة ١٨٢٥ ثم طمى عليه الماء ثم جدد سنه ١٨٤٣ وكانت مصاريفه ٠٠٠ ، ٣٥٠ ، ١٥ فرنك ، بحيث ترى الطرق عند نهر التيمس في بعض جهاته على أربع طبقات ، فالرتل تحت الماء والسفن على الماء والعجلات والدواب والناس على الجسر والرتل أيضا على جسر فوقهم والطرق أكثرها في عرض عشرين ذراعا والقليل أزيد من ذلك أو أقل ، حتى أن منها الضيق الذي لا تمر فيه عجلة ، والطرق قليلة النظافة حتى أن منها ما فيه الوحل من الطين بمقدار لا تستطيع معه العجلات على سير الخبب ، وبعض الطرقات مبلط بقطع من الخشب في شكل الحجارة ذات الشبر التي يبلط بها وذلك لقلة الوسخ من الخشب مع قلة الدوي وفقدان قرقعة العجلات ، وذلك إنما هو في الطرق الكثيرة مرور العجلات.

وأما غيرها فعلى النحو المعتاد والبناءات غالبها من الآجر إلا قليلا من أبنية خاصة ضخمة متخذة من الحجارة ، وقليل أيضا من أساسات بعض الأبنية فهاته تنحت لها الحجارة على شكل مستوى جميل المنظر ، وكثير من الديار عند أبوابها أسطوانات من المرمر محمول عليها رواشن أو سرادق ، وعامة البناء ذو ثلاث طبقات والرابعة السفلى وكل دار تسكن عائلة فقط ولذلك كان منظر باريس أبهج إلا بعض حارات بنيت على نحو باريس فلم يستحسنها الأهالي وبقيت منفورا من سكناها ، وكل دار تجد على بابها روشن خارج عن حائط الدار! وفي البلاد عدة حدائق رحيبة جدا أعظم مما في باريس منها حديقة «هيت بارك» ولكل حارة تقريبا حديقة صغيرة خاصة بأهلها ، وأعظم مكان في لندره هو الجهة المعروفة بالسينين وهو طريق عظيم مشتمل على دار صرف الدولة وعلى دار حاكم البلد وهو مركز أشغال التجارة الكبرى ومحط إدارات أعيان التجار ، فترى فيه من الإزدحام ودوي العواجل والحوافل والمحافل والركاب والسلع ما يحير العقل والنظر واللب مع أن أبنيته وتحسيناته ليست مما يذكر ، وعادة أهالي لندره أن حارات الأشغال والحوانيت والمخازن لا يسكنها إلا الصنف السافل من الناس وحارات السكنى تكون خالية عن جميع ذلك حتى يتعب الساكنون في جلب ضرورياتهم لولا التيسير الكثير في أسباب الإنتقال من مكان إلى مكان على نحو ما مر في باريس ، وتزيد لندره بأن خط طريق الحديد يطوقها بدائرتين إحداهما أوسع من الأخرى ، وبالجملة فقد انفردت لندره عما رأيت وسمعت من

١٧٦

مدن العالم بكثرة الحركة وهول الجد في الشغل والأخذ والعطاء والسفر والرجوع ، ويرى أثر ذلك في محطات طرق الحديد كما أشرنا إلى ذلك سابقا من رؤية براح شبكة القضبان مبسوطة عدة أميال ، ويحار العقل كيف لا يغلط مسير المزجيات وحراس مفاتيح الطرق بذهاب الرتل إلى غير قصده؟ ففي لندره ثمان محطات على نحو ما ذكرنا في محطة فكتوريا وقد أحصي في إحداها عدد الداخل والخارج من الرتل في مدة نصف ساعة فكان إثني عشر رتلا وليقس على ذلك ، وقد نظرت يوما من قصر الزجاج دخان المزجيات الصادرة والواردة جارة للرتل فإذا هي مثل الجراد المنتشر في كل الجهات.

وأما بقية الأحوال فهي دون باريس في نظارة الحوانيت وبهجة البناء وعدم وجود محل للبول أو كنف في الطرقات وفي النظافة والتنظيم والتنوير ولنذكر بعض محلات لم نر مثلها في باريس ، فمنها قصر الزجاج وهو قصر عظيم جدا متخذ من قضبان حديد مرصف بينها قطع الزجاج ، وقد انشىء أولا مركز المعرض العام في لندره وهو أول معرض في أوروبا ، وبعد انفضاض المعرض نقل ذلك القصر إلى ربوة حذو لندره واتخذ سوقا لبيع تحف وسلع ظريفة ولوضع عجائب وآثار دهرية وصناعية للفرجة والتنزه ، وحوله حديقة أنيقة ذات فوارات وقهاوي وعلى كل داخل أن يدفع شيئا زهيدا من المال لمجرد الدخول والفرجة وما يشتري فهو بثمنه ، وطريق الحديد يصل إلى هذا القصر من جهتين وهو ذو ثلاث طبقات ومقسم على عدة أقسام وفيه ملهى وفيه محل للرماية وفيه حديقة وفيه عدة فوارات وفيه عدة مطاعم وفيه قسم لمثال حمراء غرناطة بالأندلس ، أعني مثال بعض جهاتها الشهيرة كوسط الحمراء والبيوت الكبيرة متقن التمثيل أعني تمثيلا مجسما بحيث يدخل الإنسان إلى قصر هو على شكل الحمراء فيما تقدم ، وفي كيفية طلي البيوت وتمويهها بالذهب وما فيها من الكتابات الأنيقة بالخط الكوفي ، وذلك القصر هو على نحو الأبنية العربية لكنه فائق الإتقان والصنعة والتأنيق والتزويق ، وفي القصر الزجاجي قسم لأحوال الصينيين وصناعاتهم وأشكال أناسهم مجسمة بتصاوير من الشمع وهيئة المكثرين منهم لاستعمال الأفيون وتأثيره القبيح في عقلهم وذاتهم وقسم منه لتاريخ بلاد بنبي من إيطاليا تاريخا بالمشاهدة لصورة أطوارها ، وقسم منه لحيوانات غريبة منها الغول المسمى بالكور الذي هو نوع من القرد الكبير وقد مر ذكره في باريس وأنواع أخر من القردة صغار شبيهة بالإنسان الزنجي ، وفي القصر الزجاجي أيضا قسم لبيع التحف والبضائع الرقيقة وقد رأيت فيه نحو سبعة رجال من العرب من أهل الشام ومصر والمغرب متخذين محلات لبيع تحف بلدانهم والعطريات والحاصل أن هذا القصر الزجاجي جامع لأشتات الظرف والنزاهة.

ومن الأماكن الشهيرة في لندره أيضا التربيعة المعروفة «ترافلكر» وفيها عمود بلسون المبنى من المرمر ارتفاعه ١٧٦ قدما انقليزي ، وعليه تمثال وحوله شرافات من النحاس اتخذت من مدافع أخذت من الفرنسيس ، وحول العمود فوارتان بالماء أمامهما صورة الملك شارلس الأول وكان نصب العمود سنة ١٨٤٣ ، ومنها أعمدة أخرى.

١٧٧

ومنها : الملاهي المتعددة وقد شرعوا في بناء أكبر ملهى في أوربا وأكثرها تأنيقا مباهاة لملهى «قران لوبرة» في باريس لكنه لم يتم إلى الآن ، وأعجب ما رأيت في ملاهيها في محل التشخيص من اللعب أن بتنا ترتفع في الهواء إلى السقف وتغيب فيه وتارة لما ترتفع إلى نحو نصف الفضاء تنسحب في الهواء طائرة إلى جهة اليمين من المتفرجين من غير أن يرى لها ماسك أو شيء تعلق به ، وقد خاضت صحفهم في ذلك ولم يقفوا على قول حقيقي في صورة ذلك غير أني شعرت بأنهم يقللون الضوء عند إرادة تلك اللعبة.

ومنها : دار الإمتحانات العلمية.

ومنها : قصر الندوى وهو أعظم بناء في هاته البلاد ، ويمكن أن يقال في أوروبا أيضا عدا قصر الفاتكان برومه ، فهذا القصر بلندره يشتمل على ١٢٦ مدرجا أو أزيد للصعود إليه وأكثر من ١١٨٠ حجرة و ١٩ إيوانا.

منها : إيوان الاجتماع الرسمي الرحيب ويشتمل على أسرة ومقاعد ومطاعم وقهاوي بحيث أن أعضاء الندوة إذا يحوجهم الحال إلى إقامة أيام هناك فلا يحتاج أحد منهم لشيء سوى الملبوس يأتي به من محله ، ولما كان ليلهم طويلا ويقضون أشغالهم فيه فكان في القصر من التنوير ما يتعجب منه الناظر وكذلك أمر تدفئته.

ومنها : المتحف البريتاني الشامل للآثار العتيقة والذخائر الغريبة وعلى نحوه ودونه عدة متاحف أخر.

ومنها : دار الصرف أي البنك الدولي وهو أعجب بنوك أوروبا كبرا وغناء ، إذ فيه من الذهب فقط عشرات آلاف الملايين مخزونة قطعا كبيرة وصغيرة للدولة ولمن يؤمن ماله فضلا عن المصوغ والفضة ، وللخزنة محل حصين محاط بالمياه خشية الحريق.

ومنها : البورس أي محل اجتماع التجار.

ومنها : مجامع التجار العديدة.

ومنها : قصر الهند أي محل إدارة الهند المؤنق.

ومنها : دار شيخ البلد.

ومنها : الحصن العظيم المسمى توراف لندره.

ومنها : منزل للمسافرين المسمى «رتيش مانت» وهو خارج البلاد على ربوة مطل على غياض ومرج ونهر ، وينتابه الناس للأكل بكثرة وللسكنى بقلة وأكله أحسن من غيره.

ومنها : بستان الملك وقصره خارج لندره أيضا المسمى «همبتون كورت» وليس به من الغرائب إلا عريشة عنب واحدة مغروسة في بيت من الزجاج لوقايتها من البرد ، حيث أن شدة برد انكلاتيره يمنع من نبات العنب بها فكانت هاته الشجرة معتنى بها منذ أزيد من قرن وقد عظمت جدا حتى ملأت أغصانها جميع البيت التي طولها نحو الأربعين ذراعا ،

١٧٨

وصارت تثمر آلافا من العناقيد ولا يخرج منها عنقود إلا بتذكرة من عند ذات الملكة تهادي بها من تتحفه من الأقارب والأعيان ، وعلى تلك الشجرة قيم خاص وخدمة وتقصد للتفرج بانفرادها.

والحاصل : أن لندره لا تؤنس الوارد بمنظرها الإجماعي ومحاسنها مخبأة يروق بها الأعالي من الناس ومن أكرموه معهم ، حتى أنها ليست بها قهاوي كما في سائر أوروبا وليس فيها إلا حانات لا يدخلها إلا السفهاء ، أو حوانيت تبيع الحلويات لمن يدخلها واقفا.

ومنها : عمود مصر المسمى بالمسلة موضوع على عدوة نهر التيمس الحاوية للقصور الملكية وسائر مهمات لندره ، وقد صرف على جلبه من إسكندرية أموال باهظة تجاوزت عدة ملايين من الفرنك وأنشىء لجلبها سفينة خاصة بخارية وصاحبتها للمراقبة سفينة أخرى ، وتلقيت عند الوصول إلى لندره باحتفال وركزت في موضعها غير أن هذا الموضع وما حوله ليس مما يذكر وبينه وبين مركز المسلة بباريس بون بعيد ، وكان الإنقليز إنما قصدوا إسم وضع مسلة بقاعدتهم لا أنهم أرادوا جمالها وبهاءها.

ومنها : تمثال زوج الملكة الحالية المتوفي سنة ١٨٦١ فأقيم له تمثال في غيضة «هيت بارك» من أعظم الهياكل بناء ورونقا وإتقانا من أنواع المرمر الملون المزخرف بقناطير الذهب ، وصرف عليه عدة ملايين من الفرنك.

ومنها : المكتبات العديدة الحاوية لملايين الكتب وإحداها شاملة للكتب التي غنمت من ممالك الهند التي استولى عليها الإنكليز استيلاء باتا ، وهاته المكتبة ليس بها قاعات وأواوين كبيرة كغيرها وإنما هي عبارة عن قصر ضخم كقصور السكنى الكبيرة في باريس وفيه عدة طبقات وكل يشتمل على بيوت بها نوع من الكتب والفنون وعلى كل نوع مدير تحته عدة قيمين ، والكتب المجلوبة من الهند في أعلى طبقات القصر في عدة بيوت ضيقة غير مرتبة ولا نظيفة والغبار على أكثرها ، ووضعها في الخزائن على ترتيب وضعها في دفتر قيد أسمائها وهذا الدفتر إنما رتب منذ عهد قريب لأن الكتب أتي بها من الهند في أزيد من أربعين صندوقا كبيرا وبقيت متروكة على حالها زمانا طويلا ، ثم لما فتحت الصناديق ووجدت ملآنة بالكتب وضعت هناك زمانا طويلا من غير ترتب ثم كلف بتنضيدها وكتب فهرس لها أحد المستعربين من جهات سورية فرتبها على حسب حروف المعجم في أسمائها من غير نظر لموضوعاتها ومعانيها فتجدها مجموعة ولا جامع إلا حروف أسمائها ولم يتمها كلها بل قيد منها ألفا وخمسين مجلدا وبقي غيرها غير معروف ، ثم أن الكتب المزخرفة والأوراق المذهبة جمعت في صناديق من الزجاج للناظرين فترى ورقة من مصحف كريم وبإزائها ورقة من تصاوير الصينيين إلى غير ذلك ، وتشتمل هذه المكتبة على كتب غريبة قليلة الوجود أو غير معروفة وقد طبع ما تم من فهرسها وأعطيت منه نسخة وليس هو مجرد

١٧٩

إسم الكتاب بل يذكر إسمه وطالعته وخاتمته ومؤلفه وكاتبه وسنته بالعربي مع الترجمة للإنكليزي ، ومما رأيت به نسخة من التلويح بخط جميل صحيح أظنها بخط المؤلف حيث قال في آخرها : «كتبت هذه النسخة للشاب العزيز مني وأنا العبد المذنب الغريب الموسوم بسعد التفتازاني (١) غفر الله ذنوبه وستر عيوبه وهو المحترم المكرم صاحب المروءة والكرم علاء الملة والدين بلغه الله أقصى ما يتمناه» اه. وعلى ظاهر هذه النسخة خاتم مدغم كأنه خاتم تيمورلنك والله أعلم.

الفصل الثالث : في وصف انكلاتيره

مسمى عاته المملكة جزيرتان كبيرتان إحداهما أكبر من الأخرى واقعتان في البحر الشمالي من أوروبا تبتدىء من دقيقة ٥٧ ودرجة ٤٩ شمالا إلى دقيقة ٠٥ ودرجة ٠٦ ، وفي الطول الغربي معتبرا من باريس من دقيقة ٣٤ ودرجة ١ إلى دقيقة ٥٠ ودرجة ١٢ ، ويحدهما من ثلاثة جهات المحيط الشمالي ومن الجهة الرابعة الخليج المسمى بالمنش الفاصل بينهما وبين فرنسا ، ثم يفصل بينهما في ذاتهما خليج مارجرس وبحر ارلانده ، وأكبرهاتين الجزيرتين يسمى إنكلاتيره وجهاتها الشمالية تسمى اسكوتسيا والجزيرة الصغيرة تسمى أرلانده ولهذا كانت هذه المملكة معتبرة ثلاثة أقسام نظرا للتاريخ القديم ويسمى مجموعها الآن برنيطانيا العظمى ، وعلى الإجمال فأرضها خصبة جدا ذات مزارع ومراعي واسعة إلا الجهات الشمالية المسماة اسكوتيا فإنها لشدة بردها كانت غير صالحة للزراعة ، وهاته المملكة أراضيها منبسطة بها ربوات قليلة الإرتفاع وكلها معمورة حسنة المنظر متقنة الصناعة.

وأما الجبال فهي منخفضة بها إلا في اسكوتسيا فإنها مرتفعة شاهقة وليس بها جبل بلكاني وأشهر مكان في الجبال جهة الشمال على البحر في اسكوتسيا المكان المعروف بممشى الجبابرة ، وهو أعمدة صخرية مركبة على بعضها إلى علو ٤٠٠ قدما بغاية الإحكام خلقة فكانت نزهة للناظرين.

وأما أنهرها فكثيرة وأعظمها نهر ساورن الذي يصب في المحيط عند مدينة بريستل ، ونهر مرسى الذي يصب في بحر أرلانده عند مدينة ليفربول ، ونهر التيمس الذي يحمل السفن العظيمة إلى مدينة لندره ، وبين هاته الأنهر ترع عظيمة سهلة المواصلات ، وكذلك نهر شانون في أرلانده والترعة الملكية بها الموصلة بين البحرين.

__________________

(١) هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني ، سعد الدين (٧١٢ ـ ٧٩٣ ه‍). إمام في العربية والبيان والمنطق. ولد بتفتازان وتوفي بسمرقند. الأعلام ٧ / ٢١٩ ، بغية الوعاة (٣٩١) مفتاح السعادة ١ / ١٦٥ ، الدرر الكامنة ٤ / ٣٥٠ دائرة المعارف الإسلامية ٥ / ٣٣٩.

١٨٠