صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

المتداولة بين الأمم الشهيرة وإن كانت بأثمان غالية ، فقد أخبرت فيها بوجود مطبخ خاص بأطعمة الترك والعرب وأوتيت منه بصحن كبير مملوا كسكسوا بلحم الدجاج ، وصحن آخر بالبامية المعروفة في تونس بالقناوية ، وثمنهما مع أجرة الحمل إثنان وأربعون فرنكا ، وهما يكفيان لشبع ستة أنفس طبخهما لذيذ على نحو الأصل ، كما أنك تجد فيها جميع الغلال من جميع الأقطار لأي وقت كان بل قد أتوا بعشوش نوع من الخطاف في الهند والصين يصنع عشه بنبات بحري ويطبخونه ويأكلونه ، أعني ذات العش بما احتوى عليه من زرق أفراخ الخطاف ويستلذونه ويمدحونه ، وأغرب من ذلك أنهم يأكلون الضفادع ويستلذونها أيضا بحيث يصح أن يقال أنهم يأكلون كل ما يؤكل ولا يكون قتالا أو مضرا عاجلا غير أن الأكل العام هو الدقيق من القمح ولحم البقر ، وللفقراء لحم الخيل أيضا والضان أقل استعمالا من البقر وفي القرى وشبهها يأكلون الشعير والذرة والبطاطس ، والفقراء أكثر استعمالا للخنزير من الأغنياء والأكل في القرى والبلاد الصغيرة أسلم من المدن والأمصار من الغش بالخلط للأشياء المضرة كالقهوة مثلا لا تكاد تجد قهوة في باريس مطبوخة غير مخلوطة بالسريس ، وهو نوع من البقول ، ثم إن أهل المدن لا يصنعون الخبز في بيوتهم ولا يدخرون الأقوات وكل شيء يشترى من السوق يوميا إلا قليلا من السكر ونحوه ، ويشترى أسبوعيا أو شهريا ، واللحوم المشوية أو المقلية يجعلون في نوع منها قطعا صغيرة من شحم الخنزير بحيث يشاهد عيانا كالمسامير في اللحم ، وبعض الطيور يشوونها ويجعلون عليها نحو رداء من الشحم المذكور كما يجعلونه أحيانا في بعض أنواع المرق في ألوان الطعام الذي يكون مع اللحم شيء من المرق ، وكيفية الذكاة في أوروبا عموما حسبما علمت أن البقر بعد أن يربط من قرونه يمينا وشمالا ومن أرجله أيضا حتى لا يستطيع الحراك وهو واقف يضرب على جبهته بمطرقة عظيمة من الحديد ضربة أو إثنتين حتى يغمى عليه فيذبح ويجمع دمه ليعمل منه نوع من الأكل في المصارين وبعضهم يكتفي بالقتل بالضرب على الرأس لكنه نادر وقد أبطل في إيطاليا منذ سنة ١٢٩٨ ه‍ وألزم الحكم بالذبح بحيث لا يباع غير المذبوح.

وأما الغنم : وشبهها فتذبح ابتداء.

وأما الطيور : فالإوز ودجاج الهند وأشباهها مما هو طويل العنق فيذبح ذبحا.

وأما الدجاج : فيجذب عنقه إلى أن ينقطع النخاع فيموت وينحصر الدم نحو الدماغ فيتجمد ويؤكل على حدة.

وأما الحمام : فالأكثر ذبحه وتارة يخنق وتارة يكسر ظهره مع قطع النخاع فيموت وإذا تقرر هذا فلنذكر حكم طعامهم شرعا فطعامهم إما أن يكون من الخنزير ومثله الحيوانات المحرمة عندنا كالسباع ، وإما أن يكون من الحيوانات المذكاة أي التي هي حلال عندنا وإنما يتوقف أكلها على التذكية وإما أن يكون من غير ذلك من المأكولات كالنباتات والمعادن والسمك ، وكل منها إما أن يتخذ لعادة كسائر المآكل المعتادة أو يتخذ لعبادة

١٤١

كالمتخذ لخصوص أعياد أو متخذ لخصوص هدية لمسلم ، فهذه تسع صور حاصلة من ضرب ثلاث في ثلاث ، وكل منها إما أن يكون محققا العين أو مشكوكا فيه فتصير ثماني عشرة صورة ، وها أنا أذكرها إجمالا مع أحكامها ثم نورد أدلة الحكم (١).

__________________

(١) مبحث : إعلم أن الذكاة الشرعية تكون بقطع مجرى الطعام والشراب ومجرى النفس بما له حدّ بشرط أن يكون الذابح مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ، فإذا حصل هذا وكان المذبوح مأكولا حل الأكل منه لمن علم ، وأما ما كان موته بما لا حد له ، كأن مات بسبب التردي أو الغرق أو شيء يزهق الروح بثقله لا بحده فلا يحل أكله ، وأيضا لا يحل أكل ما لم يعلم هل ذابحه هو ممن يصح تذكيته أم لا؟ لأن أمر اللحم في هذا أشد من أمر الجبن والحلوى ونحوهما ، فإنه إذا شك شخص هل في الحلوى التي بين يديه أو الجبن نجاسة جاز له الأكل منه مع الشك ، وأما اللحم فلا يجوز الشروع في أكله مع الشك في ذكاته كما نص على ذلك الفقهاء كابن حجر الهيثمي والسيوطي من الشافعية والقرافي من المالكية وغيرهم. بل تحريم اللحم الذي لم يعلم طريق حله بأنه شك في ذلك مجمع عليه.

ففي الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي ١ / ٤٥ و ٤٦ ما نصه : «وسئل نفع الله ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفار وثنية وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني ، فهل يحل أكل تلك الشاة المذبوحة التي وجدت في تلك المحلة أم لا؟.

فأجاب : «بأنه حيث كان ببلد فيه من يحل ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني ومن لا يحل ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد ورؤي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلا ، وشك هل ذبحها من يحل ذبحه لم تحل للشك في الذبح المبيح والأصل عدمه». اه.

وفي الأشباه والنظائر للسيوطي ص (٧٤) ما نصه : «الفائدة الثانية : قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب : شك طرأ على أصل حرام ـ وشك طرأ على أصل مباح ـ وشك لا يعرف أصله.

فالأول : مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحل حتى يعلم أنها ذكاة مسلم لأن أصلها حرام وشككنا في الذكاة المبيحة».

وفي هامش كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل ١ / ٣٠١ باب الوضوء نقلا عن شهاب الدين القرافي ما نصه : «الفرق الرابع والأربعون بين الشك في السبب والشك في الشرط وقد أشكل على جمع من الفضلاء قال : شرع الشارع الأحكام وشرع لها أسبابا وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشك ، وهو ثلاثة مجمع على اعتباره كمن شك في الشاة المذكاة والميتة وكمن شك في الأجنبية وأخته من الرضاعة» اه.

أي أن تحريم ما شك فيه من اللحم مسألة إجماعية فلا التفات إلى ما يخالط هذا الإجماع من قول بعض أهل العصر المتعالمين ، وهؤلاء ضرّوا الناس برأيهم المخالف للإجماع في البلاد العربية وفي أوروبا وأمريكا ، وموّه بعضهم بإيراد حديث البخاري [ورقمه ٢٠٥٧ ـ ٥٥٠٧] على غير وجهه ، والحديث ورد في ذبيحة أناس مسلمين قريبي عهد بكفر وذلك لقول عائشة : «يا رسول الله إن أناسا حديثي عهد بكفر يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال : «سموا الله أنتم وكلوه».

ومعنى الحديث أن هذه اللحوم حلال لأنها مذكاة بأيدي مسلمين ولو كانوا حديثي عهد بكفر ، ولا يضركم أنكم لم تعلموا هل سمى أولئك عند ذبحها أم لا؟ وسموا أنتم عند أكلها أي ندبا لا وجوبا.

لأن التسمية سنة عند الذبح فإن تركها الذابح حل الأكل من الذبيحة. فمن أين موّه هؤلاء بإيراد هذا الحديث على غير وجهه ، فكأن هؤلاء قالوا إن الرسول أحل أكل ما لم يعلم هل ذابحه مسلم أم مجوسي أم بوذي أم غير ذلك بالإقتصار على التسمية عند الأكل وهذا لم يقله عالم مسلم قط ، فليتقوا الله هؤلاء المشهورون وليعلموا أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أقواله وأفعاله وعقائده.

١٤٢

١

الخنزير وشبهه

محققا

لعادة

حرام

١

م

٢

هو لعبادة

محققا

حرام

٢

م

٣

هو لهدية

محققا

حرام

٣

م

٤

مشكوك فيه

لعبادة

مكروه

١

ه

٥

مشكوك فيه

لهدية

مكروه

٢

ه‍

٦

مشكوك فيه

لعادة

مباح

١

ح

٧

المأكولات غير

المذكاة محققة للعادة

مباحة

٢

ح

٨

هي محققة

لهدية

مباحة

٣

ح

٩

هي محققة

لعبادة

مكروهة

٣

ه‍

١٠

هي مشكوك

فيها لعادة

مباحة

٤

ح

١١

هي مشكوك

فيها لهدية

مباحة

٥

ح

١٢

هي مشكوك

فيها لعبادة

مكروهة

٤

ه

١٣

اللحوم المذكاة

محققة للعادة

مباحة

٦

ح

١٤

هي محققة

لعبادة

مكروهة

٥

ه‍

١٥

هي محققة

لهدية

مكروهة

٦

ه‍

١٦

هي مشكوكة

للعادة

مباحة

٧

ح

م / ١

١٧

هي مشكوكة

لعبادة

مكروهة

٧

ه‍

١٨

هي مشكوكة

لهدية

مكروهة

٨

ه

م / ١

١٤٣

فأما الدليل على تحريم المسائل الثلاثة الأول فهو واضح لحرمة تلك الأعيان بالنص ولا حاجة إلى بسطه لمعلوميته للجميع ، ولما كانت أحكام الشرع كلها مناطة بحكمة فما أدركناه قلنا إنه معقول وما لا قلنا إنه تعبدي مع العلم بأنه فيه مصلحة لنا لتنزه الباري تعالى عن الإحتياج وإنما قصور عقولنا أوجب عدم الإدراك ، ومهما بحثنا ودققنا النظر إلا زدنا خبرة وبصارة بحكم الشرع ، فمن ذلك القبيل ما اكتشف بالنظارات المكبرة والتحليلات الكيمياوية من أن في لحم الخنزير حيوانات مضرة تورث أمراضا معضلة جدا ، وتلك الحيوانات ممتزجة في لحمه لا تموت بالطبخ ولا بغيره فإذا أكل لحم الخنزير سرت تلك الحيوانات في دم آكله وأضرته ، وأهالي أوروبا اكتشفوا ذلك واحتمى كثير منهم عن أكله (فنحمد الله) على شرعنا القويم : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

وأما دليل مسائل الكراهة الثمانية وهي : ٤ و ٥ و ٩ و ١٢ و ١٤ و ١٥ و ١٧ و ١٨ فأصل الحلية أما بأصل الإباحة في غير المذكى أو بإباحة طعامهم في المذكى على ما سيأتي ، وإنما أتت الكراهة من حيث الإشعار بالتعظيم لشعائر الكفر في المتخذ للأعياد وكل ما أشعر بذلك مكروه.

أما إذا قصد التعظيم فينتقل الحكم إلى الكفر والعياذ بالله ، والمشكوك داخل في ذلك كما سنوضحه والكراهة في المذكى المتخذ للهدية جاءت من الخلاف في حليتها حيث قال بعض العلماء : «إن النص دال على حلية طعامهم وما يتخذ للهدية لمسلم ليس بطعام لأهل الكتاب فلا يشتمله النص». وهذا القول وإن لم يكن هو المعتمد عند غالب العلماء لكن مراعاته توجب كراهة التنزيه ، على أن لقائل أن يقول : إن أكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشاة المسمومة التي أهدتها له يهودية (١) دليل على الإباحة وشمول النص للهدية فتنتفي الكراهة وهو مقتضى إطلاق النصوص الفقهية عندنا كما يأتي.

وأما دليل الإباحة للمسائل السبعة وهي ٦ و ٧ و ٨ و ١٠ و ١١ و ١٣ و ١٦ فما كان منها من غير ما يذكى فهو مباح بأصل الإباحة العامة لأن كل ما لا تذكية له لا يتوقف على شيء مبيح سواء عدم المضرة والطهارة فهو من المسلم وغيره على السواء ، والأصل الطهارة حتى يتحقق النجاسة والشك في كونهم لا يتحرون من النجاسة غير عامل كما صرح به شيخ الإسلام بيرم الرابع في جواب سؤال عن جواز التيمم في بلاد الحرب للشك في مياههم وأوانيهم من حيث عدم اتقاء النجاسة فقال بعد ذكر حكم التيمم : وهذا كله مبني على نجاسة مياه أولئك القوم وأنى لنا بذلك ، ومجرد احتمال عدم التوقي غير مفض إلى الجزم بالنجاسة بل لا بد من تحققها أو غلبة الظن بها ، من ثم جاز تناول طعام أهل الكتاب واستعمال أوانيهم ولبس الثياب المجلوبة من بلاد الكفر بل المشتراة منهم بعد لبسهم لها

__________________

(١) الحديث في البخاري برقم [٢٦١٧] وفي سنن الدارمي بالمقدمة (١١) وفي المسند للإمام أحمد بن حنبل ٢ / ٤٥١ وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٨ / ٢٩١.

١٤٤

كل ذلك حملا على الأصل الذي هو الطهارة حتى يثبت ضدّها الخ.

وفي حواشي الدر للسيد ابن عابدين (١) رضي‌الله‌عنه من كتاب الذبايح ما نصه : أقول وفي بلاد الدروز كثير من النصارى ، فإذا جيء بالقريشة أو الجبن من بلادهم لا يحكم بعدم الحل ما لم يعلم أنها معمولة بأنفحة ذبيحة درزي ، وإلا فقد تعمل بغير أنفحة وقد يذبح الذبيحة نصراني تأمل الخ. الأصل في هذا ما صرح به في قواعد الأشباه من قاعدة اليقين لا يزول بالشك والمتيقن في أصل الأشياء الطهارة فلا تزول بالشك في المطعومات التي ليست بمحل للتذكية ، ويوافقنا على ذلك مذهب مالك رضي‌الله‌عنه فقد نقل عنه أنه سئل عن الجبن الذي يؤتى به من بلاد الروم وقد قيل إنه يعمل بأنفحة الخنازير ، فقال : أما أنا فلا أحرم حلالا وأما إن كرهه الإنسان في نفسه فلا أرى بذلك بأسا ، فأنت ترى تصريحه بالحلية وتبريه من التحريم وإنما جعل اجتنابه من الورع وهذا في المذكى فما بالك بغيره ولا يرد على هذا قاعدة إذا اختلط الحرام والحلال غلب الحرام الحلال المذكورة في الاشتباه ، لأن ذلك فيما إذا تيقن وجود الحرام كاختلاط أشياء نجسة بأخرى طاهرة وكل منهما محقق الوجود غير أنه ليس معلوما بعينه واستويا أو كان النجس أكثر فإنه تغلب الحرمة للجميع ، أما إذا كان الطاهر أكثر فيتحرى ويستعمل الاغلب على الظن طهره.

وأما مسألتنا فإن موضوعها كون الذات المعينة التي أصلها الطهارة وقع الشك فيها هل طرأت عليها نجاسة أم لا؟

وأما ما كان من مسائل الإباحة مما لا يحل أكله إلا بالتذكية ، فالدليل على الحلية فيه ما ذكر في الدر في كتاب الذبايح حيث قال : «وشرط كون الذابح مسلما حلالا خارج الحرم إن كان صيدا أو كتابيا ذميا أو حربيا إلا إذا سمع منه عند الذبح ذكر المسيح» الخ قال محشية السيد ابن عابدين قوله : «إلا إذا سمع» الخ فلو سمع منه ذكر الله تعالى لكنه عنى به المسيح قالوا يؤكل إلا إذا نص فقال : بسم الله الذي هو ثالث ثلاثة حاشا لله (هندية) (٢) وأفاد : أنه يؤكل إذا جاء به مذبوحا عناية كما إذا ذبح بالحضور وذكر إسم الله وحده ، والذي علمنا من حالهم الآن أنهم لا يسمون شيئا بل واللحم يوجد في بلاد أغلب أهلها متدينون بالنصرانية سيما فقرائهم كالقصابين ، وفي مثل ذلك يحمل على حالة الجواز لما قال في الدر في آخر الحظر والإباحة من قوله : «فعلم أن العلم بكون الذابح أهلا للذكاة ليس بشرط الخ» ويؤيده تصريح محشيه فيما نقلناه سابقا في مسألة القريشة والجبن ، بل وسيأتي النقل بجواز ما لم يسم عليه أو سمى غير الله تعالى إذا كان الذابح كتابيا ، وفي تنقيح الحامدية ، أول الذبايح ما نصه : سئل في ذبيحة الذمي الكتابي هل تحل مطلقا أو لا؟

__________________

(١) هو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي (١١٩٨ ـ ١٢٥٢ ه‍) فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره مولده ووفاته في دمشق ـ الأعلام ٦ / ٤٢ معجم المطبوعات (١٥٠ ـ ١٥٤).

(٢) انظر الفتاوى الهندية ٥ / ٢٨٥.

١٤٥

الجواب : تحل ذبيحة الكتابي لأن من شرطها كون الذابح صاحب ملة التوحيد حقيقة كالمسلم أو دعوى كالكتابي ولأنه مؤمن بكتاب من كتب الله تعالى ، وتحل مناكحته ، فصار كالمسلم في ذلك ولا فرق في الكتابي بين أن يكون ذميا يهوديا أو نصرانيا أو حربيا أو عربيا أو تغلبيا لإطلاق قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥]. والمراد بطعامهم مذكاهم قال البخاري رحمه‌الله في صحيحه قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : طعامهم ذبائحهم (١) ، ولأن مطلق الطعام غير المذكى يحل من أي كافر كان بالإجماع فوجب تخصيصه بالمذكى ، وهذا إذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله تعالى كالمسيح والعزير ، وأما لو سمع فلا تحل ذبيحته لقوله تعالى (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣] وهو كالمسلم في ذلك وهل يشترط في اليهودي أن يكون إسرائيليا وفي النصراني أن لا يعتقد أن المسيح إليه ، مقتضى إطلاق الهداية وغيرها عدم الإشتراط ، وبه أفتى الجد في الإسرائيلي ، وشرط في المستصفى (٢) لحل مناكحتهم عدم اعتقاد النصراني ذلك ، وكذا في المبسوط (٣) فإنه قال : ويجب أن لا يأكلوا ذبايح أهل الكتاب إن اعتقدوا أن المسيح إله أو أن عزيرا إله ولا يتزوجوا نساءهم ، لكن في مبسوط شمس الأئمة : وتحل ذبيحة النصراني مطلقا سواء قال ثالث ثلاثة أو لا ، ومقتضى الدلائل وإطلاق الآية الجواز كما ذكره التمرتاشي (٤) في فتاواه ، والأولى أن لا يأكل ذبيحتهم ولا يتزوج منهم إلا لضرورة كما حققه الكمال ، قال العلامة قاسم في رسائله قال الإمام : من دان دين اليهود والنصارى من الصابئة والسامرة أكل ذبيحته وحل نساؤه.

وقد حكي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إليه فيهم أو في أحدهم فكتب مثل ما قلنا ، فإذا كانوا يعترفون باليهودية والنصرانية ، فقد علمنا أن النصارى فرق فلا يجوز إذا جمعت النصرانية بينهم أن نزعم أن بعضهم تحل ذبيحته ونساؤه وبعضهم يحرم إلا بخبر ملزم ولا نعلم في هذا خبرا فمن جمعته اليهودية والنصرانية فحكمه حكم واحد اه. وعلى هذا النحو ما ذكر في الهندية (٥) وغيرها والسند للفقهاء في هذا الحكم وهو قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] والذي رأيته في الكشاف (٦)

__________________

(١) انظر صحيح البخاري كتاب الذبائح والصيد باب (٢٢).

(٢) هو كتاب للإمام أبي حامد الغزالي انظر كشف الظنون ٢ / ١٦٧٣.

(٣) المبسوط هو اسم لعدة كتب منها : المبسوط في فروع الحنفية لأبي يوسف ، والمبسوط في فروع الشافعية لأبي عاصم والمبسوط في الفقه المالكي للورغمي التونسي ، والمبسوط في الفروع لأبي جعفر الطوسي. انظر كشف الظنون ٢ / ١٥٨١.

(٤) هو محمد بن عبد بن أحمد الخطيب العمري التمرتاشي الغزي الحنفي شمس الدين (٩٣٩ ـ ١٠٠٤ ه‍) شيخ الحنفية في عصره من أهل غزة مولده ووفاته فيها الأعلام ٦ / ٢٣٩.

(٥) انظر الفتاوى الهندية ٥ / ٢٨٥ وما بعدها.

(٦) وهو كتاب كشاف القناع عن الإقناع للبهوتي الحنبلي. معجم المطبوعات (٥٩٩).

١٤٦

والبيضاوي (١) وروح البيان (٢) وتفسير أبي السعود والرازي (٣) يفيد ما ذكر في تفسير فتح البيان لسلطان بهوبال (٤) مع زيادات مفيدة في هذا ، فلنقتصر على ما ذكر فيه.

قال والحاصل أن حل الذبيحة تابع لحل المناكحة ، والطعام إسم لما يؤكل ومنه الذبايح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبايح ورجحه الخازن (٥) ، وفي هذه الآية دليل على أن جيمع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون إسم الله على ذبائحهم ، وتكون هاته الآية مخصصة لعموم قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] وظاهر هذا أن ذبايح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على ذبيحته إسم العزير ، وإليه ذهب أبو الدرداء (٦) وعبادة ابن الصامت (٧) وابن عباس والزهري (٨)

__________________

(١) هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين البيضاوي ، قاض مفسر ولد في المدينة البيضاء بفارس قرب شيراز وتوفي في تبريز سنة (٦٨٥ ه‍). الأعلام ٤ / ١١٠ بغية الوعاة ٢٨٦ مفتاح السعادة ١ / ٤٣٦ وطبقات الشافعية للسبكي ٥ / ٥٩. دائرة المعارف الإسلامية ٤ / ٤١٨.

(٢) هو كتاب روح البيان في تفسير القرآن لإسماعيل حقي أبو الفداء. معجم المطبوعات (٤٤١).

(٣) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أبو عبد الله فخر الدين الرازي (٥٤٤ ـ ٦٠٦ ه‍) مفسر عالم في المنقول والمعقول وهو قرشي النسب أصله من طبرستان ومولده في الريّ وإليها نسبته توفي في هرات. الأعلام ٦ / ٣١٣ الوافي بالوفيات ٤ / ٢٤٨ طبقات الأطباء ٢ / ٢٣ مفتاح السعادة ١ / ٤٤٥ ص تاريخ ابن الوردي ٢ / ١٢٧ لسان الميزان ٤ / ٤٢٦ مختصر تاريخ الدول (٤١٨) الفهرس التمهيدي (١٧٠٠) البداية والنهاية ١٣ / ٥٥ طبقات السبكي ٥ / ٣٣ معجم المطبوعات (٩١٥) وفيات الأعيان ١ / ٤٧٤.

(٤) هو محمد صديق خان بن حسن بن عليّ بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي أبو الطيب (١٢٤٨ ـ ١٣٠٧) ولد ونشأ في قنوج وتعلم في دهلي. وتزوج من ملكة بهوبال. له نيف وستون مصنفا بالعربية للفارسية. الأعلام ٦ / ١٦٧ إيضاح المكنون ١ / ١٠ معجم المطبوعات (١٢٠١) جلاء العينين (٣٠).

(٥) هو علي بن محمد بن إبراهيم الشيحي علاء الدين المعروف بالخازن (٦٧٨ ـ ٧٤١) عالم بالتفسير والحديث من فقهاء الشافعية بغدادي الأصل نسبته إلى شيحة. ولد ببغداد وتوفي بحلب. الأعلام ٦ / ٥ الدرر الكامنة ٣ / ٩٧ معجم المطبوعات (٨٠٩).

(٦) هو عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي أبو الدرداء صحابي من الحكماء الفرسان القضاة. مات بالشام (سنة ٣٢ ه‍) الأعلام ٥ / ٩٨ الإصابة رقم الترجمة (٦١١٩) حلية الأولية ١ / ٢٠٨ صفة الصفوة ١ / ٢٥٧ الكواكب الدرية ١ / ٤٥.

(٧) هو عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد (٥٣٨ ق ه ـ ٣٤ ه‍) صحابي شهد العقبة وبدر وسائر المشاهد. ولي القضاء بفلسطين ومات بالرملة أو ببيت المقدس الأعلام ٣ / ٢٥٨ تهذيب التهذيب ٥ / ١١١ الإصابة رقم الترجمة (٤٤٨٨) الجمع بين رجال الصحيحين (٣٣٤).

(٨) هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري من بني زهرة بن كلاب بن قريش أبو بكر (٥٨ ـ ١٢٤ ه‍) أول من دون الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء. تابعي من أهل المدينة مات بشغب.

الأعلام ٧ / ٩٧ تذكرة الحفاظ ١ / ١٠٢ وفيات الأعيان ١ / ٤٥١ تهذيب التهذيب ٩ / ٤٤٥ غاية النهاية ٢ / ٢٦٢ صفة الصفوة ٢ / ٧٧ حلية الأولياء ٣ / ٣٦٠ معجم الشعراء للمرزباني (٤١٣).

١٤٧

وربيعة (١) والشعبي (٢) ومكحول (٣) وقال علي وعائشة وابن عمر «إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل» وهو قول طاووس (٤) والحسن (٥) وتمسكوا بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ويدل عليه أيضا : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣] وقال مالك : إنه يكره ولا يحرم ، وسئل الشعبي وعطاء (٦) عنه فقالا : يحل ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون ، فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم غير إسم الله ، وأما مع عدم العلم فقد حكى الطبري (٧) وابن كثير (٨) الاجماع على حلها لهذه الآية ولما ورد في السنة من أكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح ، وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر

__________________

(١) هو ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء أبو عثمان حافظ فقيه مجتهد ، كان بصيرا بالرأي فلقب ربيعة الرأي وكان من الأجواد ، توفي بالهاشمية من أرض الأنبار سنة (١٣٦ ه‍) الأعلام ٣ / ١٧ تذكرة الحفاظ ١ / ١٤٨ تهذيب التهذيب ٣ / ٢٥٨ وفيات الأعيان ١ / ١٨٣ صفة الصفوة ٢ / ٨٣ تاريخ بغداد ٨ / ٤٢٠ ميزان الإعتدال ١ / ١٣٦.

(٢) هو عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري أبو عمرو (١٩ ـ ١٠٣ ه‍) راوية من التابعين يضرب المثل بحفظه ولد ومات فجأة بالكوفة. الأعلام ٣ / ٢٥١ تهذيب التهذيب ٥ / ٦٥ وفيات الأعيان ١ / ٢٤٤ حلية الأولياء ٤ / ٣١٠ سمط اللالىء (٧٥١) تاريخ بغداد ٢ / ٢٢٧.

(٣) هو مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل أبو عبد الله الهذلي بالولاء ، فقيه الشام في عصره ، من حفاظ الحديث. أصله من فارس ومولده بكابل ووفاته بدمشق سنة (١١٢ ه‍) الأعلام ٧ / ٢٨٤ تذكرة الحفاظ ١ / ١٠١ حسن المحاضرة ١ / ١١٩ ، تهذيب التهذيب ١٠ / ٢٨٩ ، حلية الأولياء ٥ / ١٧٧ ، وفيات الأعيان ٢ / ١٢٢ وميزان الإعتدال ٣ / ١٩٨.

(٤) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني أبو عبد الرحمن (٣٣ ـ ١٠٦ ه‍) من أكابر التابعين تفقها بالدين ورواية للحديث ، مولده في اليمن توفي حاجا بالمزدلفة أو بمنى ، الأعلام ٣ / ٢٢٤ ، تهذيب التهذيب ٥ / ٨ ، صفة الصفوة ٢ / ١٦٠ وحلية الأولياء ٤ / ٣.

(٥) هو الحسن بن يسار البصري ، أبو سعيد (٢١ ـ ١١٠ ه‍). تابعي كان إمام أهل البصرة وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء. ولد بالمدينة وتوفي بالبصرة. الأعلام ٢ / ٢٢٦ حلية الأولياء ٢ / ١٣١ ميزان الإعتدال ١ / ٢٥٤ وآمالي المرتضى ١ / ١٠٦.

(٦) هو عطاء بن أسلم بن صفوان (٢٧ ـ ١١٤ ه‍) تابعي من أجلاء الفقهاء. ولد في جند (باليمن) وتوفي بمكة. الأعلام ٤ / ٢٣٥ تذكرة الحفاظ ١ / ٩٢ تهذيب التهذيب ٧ / ١٩٩ صفة الصفوة ٢ / ١١٩ ، ميزان الإعتدال ٢ / ١٩٧ حلية الأولياء ٣ / ٣١٠ وفيات الأعيان ١ / ٣١٨ ونكت الهميان (١٩٩).

(٧) هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، أبو جعفر (٢٢٤ ـ ٣١٠ ه‍) مؤرخ مفسر ، ولد في آمل طبرستان وتوفي ببغداد. الأعلام ٦ / ٦٩. تذكرة الحفاظ ٢ / ٣٥١ وفيات الأعيان ١ / ٤٥٦ ، طبقات الشافعية للسبكي ٢ / ١٣٥ مفتاح السعادة ١ / ٢٠٥ البداية والنهاية ١١ / ١٤٥ غاية النهاية ٢ / ١٠٦ ميزان الإعتدال ٣ / ٣٥. لسان الميزان ٥ / ١٠٠ تاريخ بغداد ٢ / ١٦٢ وكشف الظنون (٤٣٧).

(٨) وهو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوّ بن درع القرشي البصروي ثم الدمشقي. أبو الفداء عماد الدين (٧٠١ ـ ٧٧٤). حافظ مؤرخ فقيه ولد في قرية من أعمال بصرى الشام وتوفي في دمشق. الأعلام ١ / ٣٢٠ ، الدرر الكامنة ١ / ٣٧٣ ، البدر الطالع ١ / ١٥٣ الدارس في تاريخ المدارس ١ / ٣٦ شذرات الذهب ٦ / ٢٣١ والبداية والنهاية ١٤ / ٣٢٤.

١٤٨

وعلم بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الصحيح (١) أيضا ، وغير ذلك إلى أن قال : وقال القرطبي وجمهور الأئمة أن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم وكذلك اليهود ، قال : ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى الذكاة كالطعام يجوز أكله الخ : «فتحصل مما مرحلية المسائل السبعة المذكورة من الطعام وأن الشك غير مؤثر فيها ، فإن قلت ؛ قد ذكرت أن بعض الطيور يخنقونها ويأكلونها بلا ذبح وأن بعض الأطعمة يجعل فيها شحم الخنزير فكيف الحكم في ذلك؟ فالجواب : أما الطعام الذي يتحقق فيه شحم الخنزير أو لحمه فهو حرام بالنص على نجاسة ذاته كما مر ، وطريق الوصول إلى التحقق إما برؤية ذاته من الآكل فيما نتبين فيه أو بغلبة الظن في الألوان التي جرت العادة بوضعه فيها أو بإخبار الطابخ أو المناول بأن يسأله الآكل هل في هذا شيء من لحم الخنزير أو شحمه فإن أخبره بالوجود امتنع وإلا حل ، لأن خبره مقبول في المعاملات وإن كان كافرا كما نص على ذلك في كتاب الحظر والإباحة من دواوين الفقه ، وصوروها بقول الكافر : اشتريت اللحم من كتابي فيحل أو من مجوسي فيحرم ، وصرحوا بأنه وإن آل خبره إلى ديانة يعمل به بخلاف ما إذا أخبر أولا عن حكم ديني كقوله : هذا طاهر أو نجس أو حلال أو حرام لجهله بذلك بخلاف المعاملات ، وهذا السؤال إنما هو على وجه الورع ، وإلا فالأصل فيما لم يتحقق فيه شيء من النجاسة هو الطهارة كما مر ، وينبغي أن يعلم أنهم لا يقصدون الآن غش المسلم بأكله المحرم عليه كما يتوهم بعض العامة ، إذ عندهم الإخبار بذلك كقولهم هو لحم دجاج أو لحم إوز ولا يعنيهم أمر الحرمة ، والحل عند المسلم بل جمهورهم لا يدري شيئا من ذلك.

وأما مسألة الخنق فإن كان لمجرد شك فلا تأثير له كما تقدم (٢) ، وإن كان لتحقق فلم أر حكم المسألة مصرحا به عندنا (٣). وقياسها على تحقق تسمية غير الله أنها محرمة عند الحنفية ، وأما عند من يرى الحل في مسألة التسمية كما هو مذهب جمع عظيم من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فالقياس عليها يفيد الحلية ، حيث خصصوا بآية : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥]. آية (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١]. وآية : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣]. وكذلك تكون مخصصة لآية

__________________

(١) الحديث في البخاري برقم [٣١٥٣ ـ ٥٥٠٨] وفي صحيح مسلم كتاب الجهاد رقم (٧٢) وفي النسائي كتاب الضحايا رقم (٣٨) وفي سنن الدارمي كتاب السير رقم (٥٦) وفي المسند ٣ / ٣١١.

(٢) لقد علمت أن ما كان موته بما لا حدّ له كأن مات بسبب التردي أو الغرق أو شيء يزهق الروح بثقله لا بحدّه فلا يحل أكله. وعلمت أيضا أنه لا يجوز الشروع في أكل اللحم مع الشك في ذكاته كما نص عليه كثير من الفقهاء ، لأن أمر اللحم في هذا أشد من أمر الجبن والحلوى والقريشة ونحوهم.

(٣) انظر الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي ١ / ٤٥ والأشباه والنظائر للسيوطي ص (٧٤) والتاج والإكليل لمختصر خليل. ومواهب الجليل شرخ مختصر خليل ١ / ٣٠١ فقد صرحوا بتحريم اللحم الذي لم يعلم طريق حلّه وأن الشك في ذلك مجمع عليه.

١٤٩

(الْمُنْخَنِقَةُ) [المائدة : ٣] ويكون حكم الآيتين خاصا بفعل المسلمين والإباحة عامة في طعام أهل الكتاب إذ لا فرق بين (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وما خنق فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب كذلك الثاني وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب النصوص من مذهبه بما ينثلج به الصدر سيما إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل الذكاة كما أخبر به كثير من علمائهم ، وأن المقصود التوصل إلى قتل الحيوان بأسهل قتلة للتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس مستندين في ذلك لقول الإنجيل على زعمهم فلا مرية في الحلية على هاته المذاهب ، فإن قلت : كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه؟ قلت أما إن كان المقلد من أهل النظر في الأدلة وقلد الحنفي عن ترجيح برهان فهذا ربما يقال إنه لا يسوغ له ذلك ، وأما إذا كان من أهل التقليد البحت كما هو في أهل زماننا ، فقد نصوا على جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء والعامي لا مذهب له وإنما مذهبه مذهب مفتيه ، وقوله أنا حنفي أو مالكي كقول الجاهل أنا نحوي لا يحصل له منه سوى مجرد الإسم فبأي العلماء اقتدى فهو ناج على أن الكلام وراء ذلك ، فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره والكلام مبسوط في ذلك في كثير من كتب الفقه ، وقد حرر المبحث أبو السعود في شرح الأربعين حديثا النووية وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي فليراجعهما من أراد الوقوف على التفصيل ، فإن قيل : قد ذكرت أن الخنزير محرم وإن كان من طعامهم فلماذا لا يجعل مخصصا بالحلية أيضا بهاته الآية أي آية طعامهم [المائدة: ٥] وإذا جعلت آية تحريمه [المائدة : ٣](١) محكمة غير منسوخة فكذلك تكون (الْمُنْخَنِقَةُ) [المائدة ٣](٢)؟ ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على مسألة الخنزير وأي مرجح لذلك؟

فالجواب : أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها ما حرم لغيره ، فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا تبقى على تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها ، وأما متروك التسمية أو (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣](وَالْمُنْخَنِقَةُ) [المائدة : ٣] فإن التحريم أتى فيه لعارض ، وهو ذلك الفعل. ثم أتى نص آخر عام في كل طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة وبالاجماع أيضا وبقي المحرم لغيره ، وهو مسألتان أحديهما : مسألة التسمية ، والثانية : مسألة المنخنقة ، فبقيتا في محل الشك لتجاذب كل من نصي التحريم والإباحة لهما ، فوجدنا إحداهما : وهي مسألة التسمية وقع الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم ، وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة. وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعاما لهم مسكوتا عنها فكان قياسها على مسألة

__________________

(١) قال الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) [المائدة : ٣].

(٢) قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) الآية.

١٥٠

التسمية هو المتعين لاتحاد العلة ، وأما قياسها على مسألة الخنزير فهو قياس مع الفارق فلا يصح إذ شرط القياس المساواة ، وإنما أطلنا الكلام في هذا المجال لأنه مهم في هذا الزمان وكلام الناس فيه كثير والله يؤيد الحق وهو يهدي السبيل.

مطلب في المواكب

إعلم أن المواكب الرسمية في أوروبا عموما متشابهة وقد تقدم ذكر حالتها في إيطاليا فلا داعي لإعادتها هنا ، غير أنه ربما يشكل على القارىء شيء وهو أن فرنسا ليس لها الآن ملك فمن هو مناط المواكب الرسمية؟ فاعلم أن دعواهم في الجمهورية أنها خالية عن الملك هو أمر وهمي لأن وظيفة الملك كأنها أمر ضروري لا مندوحة عنه حتى وقع الخلاف بين علماء الكلام هل أن الملك واجب بالعقل أو السمع فقط ، واحتج القائلون بأنه واجب سمعا بأنا نجد أمما عائشون على وجه ما من الإستقامة بدون ملك ، وكل ذلك أمر وهمي ولا مجال للخلاف في المسألة إذ إقامة الملك أمر طبيعي لا تمكن الإستقامة بدونه ، وما ذكره المحتج من وجود أمم الخ هو كاف في الرد عليه لأنه معترف بأن تلك الأمم أو القبائل تنقاد إلى رؤساء منها ، فالخلاف حينئذ إنما هو في اللقب وفي تحديد السلطة أو إطلاقها وكذلك حالة الجمهورية في بعض الممالك الآن ، لأن من يقيمونه رئيسا لها ما هو في الحقيقة إلا ملك عليهم لمدة معينه وتصرفه مقيد بحدود معينة فلا مندوحة لهم حينئذ عن الإقرار بوجوب الملك والإنقياد إليه ، وغاية أمرهم هو اختلاف اللقب وزيادة الأبهة والعظمة ، أما أصل التوقير والسمع والطاعة والإنقياد له فكله موجود عندهم فرئيس الجمهورية يفعل جميع ما يحتاج فيه إلى الملك من مراسم المواكب وغيرها غير أنه أقل أبهة وضخامة من الملوك في اللبس والأعوان ، وأما بقية المواكب الاعتيادية فهي كما مر ذكره في إيطاليا ، وقد دعوني في سنة ١٢٩٢ ه‍ للفرجة على موكب دفن اثنين من الجنرالات ماتا سنة ١٢٨٦ ه‍ ١٨٧٠ م في حرب الكومون أي الإشتراكيين في باريس وكانت جثثهما مصبّرة في صناديق بكنيسة ليزان المدفون بها بونابارتي الأول ، وأعدوا لهما موكبا حافلا بإحضار جم غفير من العساكر المشاة والخيالة والطبجية بمدافعهم وقوفا في البطحاء الكبيرة أمام الكنيسة وغصت سائر الطرقات والميادين بالخلائق المتفرجين وامتلأ داخل الكنيسة بالأعيان المدعوين ، وكانت فوانيسها موقودة والشموع الكثيرة مسرجة وكبار القسوس حول المعبد يرطنون بألحان ونغمات تمديدية تميل إلى الحزن يتفنون واحدا فواحدا ولهم سكتات في الوسط يضج فيها قوم من صغار القسوس جالسين في رواشن عالية محيطة بداخل الكنيسة ويلحنون ترطينهم بأنغام أيضا شبه السلفيين وهكذا إلى ختام أدعيتهم ، ثم حملوا الجنازتين المكسو تابوتهما بلباس أصحابهما الرسمي ووضعتا في عجلات معدة لذلك مزينة بالأزهار وتقصيب الذهب والفضة وسارت العساكر بمدافعهم في المقدمة ومن ورائهم الجنازتان ومن ورائهما بقية المشيعين ركوبا في كراريس سود وسرج الخيول أسود والخيل سود ولباس الركاب أسود ، وذهبوا إلى المقبرة وكانت المدافع تطلق بعد كل

١٥١

خمس دقائق كل ذلك إظهارا للعناية بمن نفع وطنه منهم ترغيبا لمن يسلك ذلك المسلك.

وعلى نحو من ذلك رأيت سنة ١٢٩٥ ه‍ ١٨٧٨ م جنازة ملك «الهانوفر» الذي أدخلت مملكته دولة البروسيا في مملكتها وفر هو وسكن في باريس ، وهو شيخ مسن ولما مات حضرت جنازته أمراء ووزراء ألمانيا وجعلت له دولة فرنسا أبهة على نحو ما تقدم ، غير أنه أخرج من داره لا من الكنيسة ولقد تذكرت في تلك الكنيسة عندما شاهدت حركاتهم وهيئتهم قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادق الأمين : «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ، قلنا : اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال : ومن» (١) اه كما ورد ذلك في الصحيح ، إذ علمت من ذلك منشأ وجود الكلات في الجوامع وتغني المؤذنين والمقيمين فيها وإجابتهم للأئمة بألحان متناسبة وتلحين الخطباء والأئمة في القراءة والدعوات إلى غير ذلك من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان وما هي إلا ضلالة وإفساد وزيادة ونقصان في العبادة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وحيث كان أعظم المواكب الاعتيادية عندهم هو رأس السنة نذكر ما وقع في باريس في رأس السنة الأعجمية الموافق لذي القعدة سنة ١٢٩٠ ه‍ من حالة التزاور عندهم فيها ، لأنهم يكتفون عن أتعاب الزيارة بإرسال أوراق الأسماء فيما بين المعارف وترسل بواسطة البريد أو حمالين معدين لقضاء الحاجات يقفون في الطرق وعلى صدر كل واحد قطعة من نحاس عليها عدد وساما من الحكومة بأنه أمين مجاز له في تلك الصناعة ، فوزع بواسطة البريد فقط مليون وخمسمائة وستون ألف ورقة عدا ما وزع بواسطة الحمالين ، وأرسلت إلى أهالي باريس مكاتيب تهنئة من الخارج مليون وخمسمائة ألف وكان المرسل منهم في يوم رأس العام من المكاتيب المضمنة في البريد تسعة آلاف مكتوب ونسبتها لغير المضمن نسبة واحد من مائة.

مطلب في اللغة

اللغة الفرنساوية فرع من اللغة اللاتينية ولهذا لم يزالوا يراعون في الكتابة أصول تلك اللغة حتى يكتبون أحرفا لا ينطقون بها بل وبعضها لمجرد مراعاة الأصل بدون فائدة أخرى ، ولا زالت في التهذيب والإعتناء بها ولها جمعيات علمية لتحسينها وضبطها وقد اشتهرت اشتهارا كليا في العالم من وقت ارتقاء نابليون بونابارتي الأول إلى إمبراطورية فرنسا ، حتى وقع الاتفاق بين الدول الأروباوية على أن تكون هي اللغة المستعملة في المحاورات والمخاطبات بين الدول ، وصار من لوازم أهل السياسة معرفة التكلم بها ولذلك

__________________

(١) الحديث في صحيح البخاري برقم (٣٤٥٦) وفي صحيح مسلم كتاب العلم رقم (٦) : وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل ٢ / ٣٢٧ ، ٣ / ٨٤ وفي المستدرك للحاكم ١ / ٣٧ وفي مشكاة المصابيح للتبريزي (٥٣٦١) وفي سنن ابن ماجه برقم (٣٩٩٤) وفي تفسير ابن كثير ٤ / ١١٤ وفي المعجم الكبير للطبراني ٦ / ٢٢٩ وفي كنز العمال (٢٠٩٢٣).

١٥٢

وقع الاصطلاح فيها على ألفاظ تؤدي معاني سياسية منضبطة محررة مختصرة تحتاج في غيرها إلى تطويل وإبهام ، وذلك الإتفاق على إجرائها في الخطابات السياسية لم يزل جاريا إلى الآن حتى أن ألمانيا لما غلبت فرنسا سنة ١٢٨٦ ه‍ ١٨٧٠ م حاولت نقل هاتيك المزية إلى لسانها فلم توافقها إنكلاتيره ، وقالت إما : أن نبقى على الإصطلاح المتعارف على اللغة الفرنساوية وإما أن كل دولة تخاطب بلسانها ، فأبقى الوجه الأول لأن الثاني فيه من الصعوبة ما لا يخفى إذ يلزم رجال السياسة تعلم لسان جميع الدول ذات السياسة ووجود مترجمين في وزاراتهم لتلك اللغات بخلاف الإستقرار على اللغة الفرنساوية التي مر ما وقع فيها من التحرير ، ومن اعتنائهم بلغتهم اعتناؤهم بالفصاحة فيها وإرتجال الخطب المستطيلة أعني الخطب على النحو العربي الأصلي بارتجال الكلام مع فصاحته وانسجامه لا كما يصنع الخطباء الآن من حفظهم لما ينشئونه إن كانت لهم قدرة على الإنشاء أو حفظ منشأت غيرهم أو سردها من ورقة ، إذ هذا خلاف الأسلوب العربي الأصلي وإنما هو أي الأصلي استحضار معان مرتبة في فكرة الخطيب وإلقاؤها عند الحاجة بألفاظ منسجمة فصيحة بليغة ، وذاك هو شأن كل أمة ترقت في سجايا الفخار فالفرنساويون توجهوا لهذا المقصد أيضا وبلغوا فيه على حسب اصطلاح لغتهم إلى المبالغ الحسنة ، فترى خطباءهم يقف أحدهم خطيبا يتكلم ساعتين وثلاثا بدون تلعثم أو مراجعة سوى البطاقة أحيانا مكتوب بها رؤوس النوازل التي يريد الخوض فيها وينتقل من واحدة إلى أخرى بربط المناسبات إلى انتهاء مقصوده ، وقد يعترض له بعض أضداده أفرادا ومجتمعين بالاستهزاء منه والسخرية من كلامه والرد عليه ولو بالضجيج وهو متثبت في مسلكه ، ويجيب الراد عليه بالمناسبة لأن أغلب ما تكون خطبهم في السياسة مع تنازع الأحزاب فيها سيما في مجلس النواب والأعيان ، وكثيرا ما يوضع للخطيب فوق المائدة أمام منبره كأس بالماء والسكر والزهر لعله يجف لسانه من كثرة الكلام أو الغيظ هذا أصله. لكني رأيت من يتخذ الشرب منه آلة للتفكر ومهلة للتدبير فيما يقول حتى أكثر من ذلك ، وصار يشرب كل ثلاث دقائق أو خمس وهو دليل عليه ، والحاصل أن خطبهم الآن شبه خطب أسلافنا العرب في الصورة وتشبه الدروس المتقنة في أدائها من علمائنا الفحول الآن مثلما أدركت من دروس شيخنا العلامة محمد النيفر (١) الأكبر قدس الله روحه ، إذ يستطيع الكاتب أن ينقلها من تقريره لفظيا وتصير تأليفا جيدا.

وخطباء القوم الآن يحضر مواطنهم كتاب عارفون باصطلاح مختصر في الكتابة حتى يحيطوا بجميع ما يقول الخطيب ، وأكثر الأسباب في طول خطبهم هو إدماج مسائل من فنون شتى فيها سيما علم التاريخ فبأدنى مناسبة يذكر تاريخ أدنى شيء مبحوث عنه وما وقع فيه من قديم الزمان وحديثه ، فلذلك كان فن التاريخ ضروريا لأهل السياسة وهو المعقول

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن قاسم النيفر ، أبو عبد الله (١٢٢٢ ـ ١٢٧٧ ه‍). قاض من أهل تونس. توفي في المدينة. الأعلام ٦ / ١٩.

١٥٣

لأن الوقائع الدهرية متشابهة متقاربة فمن أحاط علما بالتاريخ عرف الأسباب والدواعي والنتايج والتخلصات والغلطات ، فيتبع في الحال الحسن ويجتنب المضر ويحترس بالتشاور واجتماع الآراء وذلك هو مقدور البشر والله يفعل ما يريد ، وإنما أجرى سبحانه عادته بالصلاح إذا جرى العمل على حسب التدبير والأمر الإلهي باتخاذ الأسباب على مقتضى حكمته لا رب سواه ، ومن قواعدهم في اللغة أن يخاطبوا الإنسان بدون تلقيبه بالسيادة إلا الزوجة مع زوجها أو العكس ، والمخدوم مع خادمه ومع إبنه الصغير ، وإذا كان المخاطب ذا وظيفة الوزارة يزاد له لفظ بمعنى المرفع أو كان ذا خطة الإمارة يزاد له لفظ بمعنى المعظم أو كان ملكا يزاد له لفظ بمعنى صاحب الجلالة ، بحيث يتحرون في ذلك للغاية ، ويكثرون من إعادته في الخطاب مرارا وليس هناك استعمالات أخر في مزيد التملق والخضوع والذلة في الخطاب ، وألفاظ المكاتبات والتخاطب سواء وغاية الفرق هو الفرق الحاصل بين أفراد المتكلمين في البلاغة ، كما أن من عاداتهم تلقيب كل إنسان بلقب عائلته ولا يذكر إسمه إلا في المكاتبات أو إذا كان أكبر العائلة موجودا ، فالصغار منها يذكر إسمهم للتميز مع ذكر اللقب ولم تزل عندهم عناية بألقاب الشرف ، وهي : كونت وبارون ودوك ومركيز وترنس وغيرها ، لكنها قل استعمالها منذ استقرار الدولة الجمهورية وصاروا يكتفون بلفظ موسيو أي سيد لتسوية الناس في نظر الجمهور.

مطلب في القوة الحربية المالية والتجارية في فرنسا سنة ١٨٨٠

فرنك

بلغ طول سكك الحديد فيها ميلا ١٣٨٧١

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٦٢٠ ، ٠٠

دخلها أي تلك السكك.

٠٠٠ ، ٨٣٧ ، ٥٩٤ ، ٠٤

 قيمة الداخل إلى فرنسا من السلع سنة ١٨٧٩.

٠٠٠ ، ٠٩٠ ، ١٦٣ ، ٠٣

قيمة الخارج منها في تلك السنة.

٨٣٠ ، ٧٩٤ ، ٧٥٢ ، ٠٢

دخل الدولة سنة ١٨٨١.

٠٠٠ ، ٤٣٢ ، ٧٥٤ ، ٠٢

 خرجها فيها.

٩٨٣ ، ٠٣٥ ، ٨٦٢ ، ١٩

 ما على الدولة من الدين.

٠٥٤ ، ٠٠٠

 عدد السفن المدرعة العاملة والاحتياطية.

٠٠٠ ، ٣٢٥

حمولتها طونولاتو.

٠٠٠ ، ٥٠٠ ، ١

عدد عساكرها وقت الحرب.

٠،١٨٠،٠٠٠

عدد الفرسان.

١٥٤

الباب الخامس

في قطر الجزائر

الفصل الأول في سفري إليه

قد تقدم إني لما رجعت المرة الأولى من فرنسا كان رجوعي بحرا مارّا على بلد بونه المعروفة بعنابه ، وهي أحد فرض الجزائر ، فأرست بها الباخرة صباحا في مينا صناعية واسعة متينة تصل البواخر فيها إلى الرصيف في البر ويصل الرتل بطريق الحديد إلى حذو فوهة هاته المرسى الصناعية لكنه رتل للسلع خاصة ، وبهاته المرسى كثير من السفن والبواخر منها نحو ثلاثة بواخر لشركة معدن الحديد الموجود بقرب عنابه ، فهذا المعدن هناك غني ويستخرج بكثرة ويحمل في حوافل طريق الحديد وهي توصله إلى ذات البواخر التي تحمله إلى مرسيليا وفي كل يوم تخرج من المرسى باخرة مشحونة به وتدخل أخرى خاوية ، وفي مرسيليا يصفى ويشغل لأنهم وجدوا ذلك أرخص مصروفا من جلب معمل لتصفيته في محله ، ولما أرسينا رأينا البلاد من جهة الغرب متصاعدة في جبل وحول المرسى أبنية حسنة من النوع الأوروباوي ثم نزلنا إلى البر فوجدنا عجلات الركوب للكراء لكنها رديئة وسخة ، فذهبت لداخل البلد فإذا فيها قرب المرسى بطحاء وطريق متسع وحواليه أبنية جميلة وقهاوي ومنازل للمسافرين وحوانيت لبيع الحلويات والتحف الظريفة وفي وسط البطحاء حديقة صغيرة منتزها للمارة ، وفي وسط البلد بطحاء أخرى صغيرة يحيط بها سرادقات تحتها حوانيت وفي هاته البطحاء الجامع الكبير فذهبت إلى الحمام الذي هو قرب الجامع حيث كان فرضي التيمم في السفينة إذ لا حمام بها ، ولما دخلت إلى البلد وجب الحمام فإذا هو على نحو حمامات تونس وسائر بلاد المشرق ، غير أنه غير متقن النظافة وليس فيه بيوت منفردة للتطهير للإنسان وحده وإنما يتطهر الإنسان بعد التنظيف في محله ، فيقع الحرج من التحفظ على كشف العورة أمام المغتسلين ، ولذلك كان أكثرهم مكشوف العورة وهي مصيبة عامة ، في أغلب البلاد الإسلامية التي رأيتها على خلاف تونس فإن حماماتها لها بيوت صغيرة ذات أحواض صغيرة لغرف الماء منها ، ولها أنابيب للماء الحار والبارد وللبيت باب يغلق وينفرد الإنسان للتطهير وحده بلا مشقة ، ولذلك كنت أختار الحمامات الإفرنجية في أكثر أسفاري ولو في البلاد الإسلامية لأنها أبعد عن المحرم من كشف العورة وإن حصل فيها تعب من جهة الإغتسال المعتاد ، وذلك أن هيئتها بيت صغير فيه حوض كبير يحمل الإنسان وله أنابيب للماء الحار والبارد وفي البيت متكأ ومسطبة

١٥٥

ومعلاق للثياب ، وأرض البيت مفروشة بزربية فلا يمكن إخراج الماء عن الحوض وإنما يغطس الإنسان في الحوض ويغتسل فيه بالصابون إما بنفسه أو بخادم من الحمام ، ثم يجذب سلسلة من قعر الحوض لجذب سدادة فيخرج ما فيه من الماء ، ثم يجدد له ماء ثانيا ويأتي بمناديل من الكتان مسخنة نظيفة جدا يتنشف بها الإنسان وهو منفرد وبابه مغلق لا يدخل عليه أحد إلا بإذنه فإذا أراد الإنسان التطهير يزيل ما على بدنه من النجاسة في بيته إن أمكنه وإلا عند إتيانه إلى الحمام يأمر الخادم بأن لا يملأ الحوض بالماء ولما ينفرد يقف في الحوض ويأخذ الكاس الموضوع في البيت لأجل الشرب فيملؤه بالماء الحار والبارد من الأنابيب ويزيل ما عليه من النجاسة ويغسل رجليه ويخرج من الحوض ثم يفتح له منفذ خروج الماء منه ويفتح أنابيب إندفاع الماء ويطهر أرض الحوض بالغسل ، ثم يسدّ منفذ الخروج ويملأ الحوض ماء على قدر ما يكفيه ويغتسل ويتطهر فيه وهو سائغ على مذهبنا لأن الماء لا يصير مستعملا إلا بعد انفصاله عن جميع البدن والبدن كله في الإغتسال عضو واحد.

وأما على مذهب المالكية فهو أيسر ، وقد اضطررت في ذلك الحمام إلى استئجار أحد خدمته ليستر زاوية من الحمام بمسك إزار في يديه حتى تيسر لي تطهير ما تحت إزاري ، وهناك صعوبة أخرى وهي بعد الماء بحيث أن كل مغتسل يأتي إليه بنحو عنزة مما يسمى برميل مملوءة له ليتطهر بها بعد التنظيف ، ثم خرجت من الحمام وأتيت الجامع وإذا هو نظيف محروس قائم الأدوات مفروش بالحصير من السمار على نحو ما هو بتونس ولما كنت لابسا لنعل كالخف مما يصح المسح عليه وهو نظيف دخلت به المسجد وصليت به ، وكان هناك بعض الناس فرأيتهم ينظرون إليّ شزرا منكرين الدخول بالنعل إلى المسجد لكن لم يقل لي أحد منهم شيئا ، فلما فرغت من الصلاة خاطبني من بجنبي فقال لي : «أنت مسلم ولم تدخل المسجد بنعلك» فقلت له : هل تعرف الفقه؟ قال : نعم ، قلت : ما هو مذهبك؟ قال : مالكي [قلت] : فانظر في مختصر الشيخ خليل في كتاب الطهارة (١) فإنك تجد فيه مسألة المسح على الخفين وأن المسافر يمسح عليهما ولا ينزعهما ويصلي فيهما وأنا مسافر وحتى المقيم أيضا له لبسهما والمسح عليهما والصلاة فيهما ، وقد فعل ذلك النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مذكور في كتب الحديث ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يدخلون المسجد بنعالهم بعد تفقدها وتطهيرها إن كان بها نجاسة فهذا جائز شرعا وليس في

__________________

(١) انظر كتاب مختصر العلامة خليل صفحة (١٩) وما بعدها.

(٢) روى مسلم (٢٧٦) وغيره عن شريح بن هانىء قال : «أتيت عائشة رضي‌الله‌عنها أسألها عن المسح على الخفين ، فقالت : ائت عليا فإنه أعلم بهذا مني كان يسافر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته فقال : جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوما وليلة للمقيم». وروى الترمذي (٩٦) والنسائي ١ / ٨٣ واللفظ له : عن صفوان بن عسال رضي‌الله‌عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين : أن نمسح على خفافنا ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول إلا من جنابة.

١٥٦

نعلي نجاسة ولا وسخ فرضي بذلك وأخبر الحاضرين جهرة بأن الرجل مسافر وعارف بالحكم ، ثم خرجت من هناك وتطوّفت في البلد وقد فطرت فيها في حانوت لطباخ مسلم أكلا عربيا واستلذذته للغاية كيفما كان لاشتياقي للمعتاد ، سيما وقد كانت تلك السفرة هي أوّل سفراتي والأشياء الغير المعتادة تصعب على النفس أوّلا.

وأحسن ما في البلد سوق الخضر فإنه على النحو المتقن في أوروبا من كونه واسعا ذا قبة من الزجاج محمولة على قطع حديد مرفوعة على أعمدة حديد والحيطان أيضا مثل ذلك مع النظافة وحسن التقسيم ، ولكن ليس فيه حوانيت وإنما كل يباع يجلس في جهة ويضع مبيعه أمامه وبخارج البلد آثار قديمة للرومان من البناء والدهاليز تقصد للتفرّج وبخارجها أيضا بستان عمومي ويباع منه الأشجار الصغيرة وليس هو بمتقن ، والحارات القديمة في البلد وديارها على نحو ديار تونس وحاراتها الضيقة الطرق غير أن أبواب دور عنابه بدفة واحدة ، وبناء الباب مقوس قليل الإرتفاع وبخارج البلد أيضا جهة شاطىء البحر بعض من البساتين وحمامات من الخشب على ماء البحر تنتدبها الناس في الصيف وحولها قهاوي تحوي في الصيف الغث والسمين ، وسافرنا من هاته البلدة بعد الغروب قاصدين تونس وعدت إليها في سنة ١٢٩٥ ه‍ في سفرتي إلى فرنسا ذهابا وإيابا وأقمت فيها في الإياب أسبوعا وكان الزمن صيفا وهي لصغرها وعدم وجود الحركة الكثيرة بها لا ينشرح المسافر فيها.

وفي هاته السنة أيضا مررت في الإياب على مدينة الجزائر قاعدة هذا القطر وهي لها مرسى على نحو ما تقدم في عنابه والبلد أكبر من السابقة ومنظرها من جهة المرسى أبهج وأضخم وقد انشىء بها طريق للترمواي يخترق البلد من جهة المرسى ويذهب إلى قرية تسمى مصطفى جهة الشرق من الجزائر ، وأبنية البلاد على نحو ما ذكر في عنابه وهي أيضا متصاعدة في جبل وليس بها عيون غزيرة بل الماء له خزنة في الجبل تجتمع فيها مياه الأمطار من جهات الجبل ، ولذلك كانت الطرق الواسعة في الصيف محتاجة إلى الرش لقلة ما ترش به وبها أربعة جوامع للخطب إثنان مالكيان وإثنان حنفيان ، والجوامع نظيفة مستقيمة وبقية ما كان بها من الجوامع هدمت وبدلت ، وبها حصون متينة وهاته البلد هي مقر الحاكم العام لقطر الجزائر ومنظر البلد من جهة البحر جميل لكثرة الديار والبساتين في الجبل منحوت به درج يصعد فيها من أسفل البلد إلى أعلى الجبل ، كما أنه به طرق صناعية قليلة الإنحدار يصعد بها في العجلات إلى قمته ، وأمام دار الحاكم بطحاء صغيرة منظمة والدار من نوع أبنية الأهالي قديما وأمامها محل لطائفة من الجند حرسا وفي خارج البلد وداخلها مقامات للأولياء والعلماء محترمة منها : مقام سيدي عبد الرحمن الثعالبي (١) رضي‌الله‌عنه

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجزائري ، أبو زيد (٧٨٦ ـ ٨٧٥ ه‍). مفسر من أعيان الجزائر ، زار تونس والمشرق. الأعلام ٣ / ٣٣١.

١٥٧

خارج البلد في الجبل في مكان منشرح نزه ولضريح الشيخ مهابة ووقار قلبي ، وحوانيت البلاد على نحو ما ذكرنا في تونس وبساتينها تسقى بآبار يسنى عليها بالدواليب في الصيف ، وتنور البلد ليلا بفوانيس الغاز وبخارجها بستان انتزاه عمومي قليل الجدوى وبقربه سبيل قديم لا زال قائما وحذوه قهوة على النحو الغربي لكنها قذرة ينتابها بعض الناس ، ومنازل المسافرين بالبلد جيدة على النحو الأوروباوي وقد أقمت بهاته البلدة ليلتين ثم سافرت بحرا قاصدا عنابه ومنها إلى تونس فمررت ببلد دلس ، وهي قرية صغيرة على البحر لم نستطع الدخول إليها لشدّة هيجان البحر وعدم مرسى أمينة بها ، ثم مررنا على بجاية ثم جلجلى ثم أسكيكده ، وكلها قرى صغيرة الجديد من بنائها على النحو الأوروباوي والقديم على عادة أهل القطر ، والأهالي أغلبهم فرنساويون ارتحلوا إلى هناك.

وأما أسكيكده فالبلاد القديمة قد خسفت بها الأرض والعياذ بالله وقد بني على شاطىء البحر قرية جديدة منتظمة الطرق واسعتها على نحو النوع الأوروباوي ولم أشاهد تفاصيل هذه القرى لأن الباخرة لا ترسي فيها إلا قليلا ، وإجمال حالهم يندمج فيما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومن القرى التي رأيتها قرية قالة البعيدة عن عنابة نحو أربع ساعات في طريق الحديد في الجهة الجنوبية الشرقية منها وهي قرية مستحدثة يغلب على طبع أهلها البداوة وهي منتظمة البناء والطرق قليلة الماء وبها جامع وقاض وحاكم فرنساوي وعساكر وحصن وكنيسة وحديقة صغيرة للعامة.

الفصل الثاني : في التعريف بالجزائر

هذا القطر واقع على شط أفريقية الشمالي ويحده جنوبا الصحراء الكبيرة وشرقا تونس وشمالا البحر الأبيض وغربا مراكش ، وهو قطر متسع ذو جبال شاهقة وأنهر عديدة وعيون دافقة وبه معادن غنية من الحديد والفضة والآن مشتغلون بإخراجها سيما المعدن الذي أصله تابع إلى تونس قرب حدودها في القالة ، وبها معادن أخر عديدة منها المستعمل كالقصدير ومنها الذي لم يزل في زوايا الخمول ، وأما هواؤه وحيواناته ونباته فهو مثل تونس في عموم ما ذكرناه فيها ، والجهات الشمالية هي ذات الخصب والأشجار العظيمة والغابات ، ومدن هذا القطر وبلدانه أشهرها قاعدته الجزائر ثم وهران ثم تلمسان ثم قسنطينة ثم بونه وغيرها كثير لا يبلغ مبلغ ما ذكر ، ومراسيها المهمة هي المدن المذكورة غير قسطنطينة لأن هاته متوغلة في البر على قمة جبل ، وينقسم القطر بالنظر إلى طبيعة الأرض والسكان والإدارة إلى ثلاثة أوطان كبار.

أوّلها : وطن الجزائر وهو في الوسط ويمتد من الشط شمالا إلى الصحراء جنوبا.

وثانيها : وطن وهران غربي السابق ممتد معه كذلك.

وثالثها : وطن قسنطينة شرقي الأول ممتد معه كذلك. ولكل وطن قاعدة هي المدينة المنسوب إليها وله فروع على حسب الإحتياج وعدد سكانه نحو مليونين وسبعمائة ألف

١٥٨

وستون ألفا ، والمسلمون منهم مليونان وخمسمائة ألف والنصارى مائتا ألف ونيف واليهود نحو الثلاثين ألفا ، وقاعدة الجميع هي الجزائر عدد سكانها نحو خمسة وسبعين ألفا منهم ثمانية عشر ألفا مسلمون وتسعة آلاف يهود وثمانية وأربعون [ألفا] من النصارى من أجناس مختلفة ، وأكثرهم الإسبنيول ، والسكان المسلمون أصلهم من البربر وهم أكثر سكان الجهات الجنوبية والجبال ، وباقي الجهات سكانها من نسل العرب والمختلط منهم ومن البربر وبعض من نسل الترك الذين استوطنوا هناك وكذلك الأندلسيون الذين هاجروا بعد استيلاء الإسبنيول على بلادهم.

وأما النصارى على العموم فأكثرهم فرنساويون انتقلوا إلى هناك بعد استيلاء الفرنسيس سيما بعد حرب ألمانيا معهم سنة ١٢٨٧ ه‍ ١٨٧٠ م وأخذها لإقليمي الإلجاس واللورين فارتحل من أهالي ذينك الإقليمين نحو المائة والسبعين ألفا سكنوا الجزائر وأعانتهم دولتهم بإعطائها لهم الأراضي الخصبة التي أخذتها من الأهالي الأصليين عقابا لهم على الثورات وغيرها وأغلب هؤلاء الفرنسيس سكنوا جهات الشطوط وأنشأوا فيها قرى.

وأما المسلمون : فأغلبهم على مذهب أهل السنة في العقيدة وعلى مذهب الإمام مالك في الفروع ونسل الترك على مذهب الإمام أبي حنيفة وبعض السكان على مذهب الإعتزال كبني مزاب ، ثم أن أهل السنة في المدن والقرى يكثر فيهم معرفة أحوال الديانة وإن حصل الآن من كثير منهم تهاون كثير بالشعائر.

وأما البوادي فيغلب عليهم الجهل بالأحكام لكنهم لا زالوا متصلبين في العقيدة الإسلامية سيما أهالي الجهات الجنوبية والوسطى.

الفصل الثالث : في إجمال تاريخ الجزائر

مطلب في التاريخ القديم

اعلم أن أحوال هذا القطر التاريخية في القديم كانت في الأغلب متحدة مع تونس وطرابلس والمغرب فما بيناه في أحوال تونس كان شاملا لهذا القطر حتى في زمن الفتح ، واستقرار الحكومات الإسلامية لأنه في أغلب الاعصار تابع لتونس لما كانت هي مقر الحاكم العام الإسلامي لأفريقية ثم لما انفرد المغرب عن تونس كانت الجهة الغربية من الجزائر تابعة له ثم اتحد الجميع تحت دولة بني حفص وعن تقهقرها وانفراد المغرب انتشأت بعض حكومات منفردة في الجزائر كمملكة بني زيان من زناته التي مقرها في تلمسان ، ثم لما أشرفت الدولة الحفصية على الإضمحلال واستولى ، الاسبنيول على عدة جهات من شطوط أفريقية وكانت الفرق المنقسمة إليها الجزائر غير قادرة على مدافعة دولة كبيرة مثل الإسبنيول إذ ذاك ، وكانت الدولة العثمانية رافعة علم الحماية لأهل الإسلام وأسطولها يجوب البحار تحت عدة أمراء ، وأرست فرقة من هذا الاسطول تحت أمرة خير

١٥٩

الدين بربروس باشا وأخيه ، عروج على شطوط الجزائر للبحث عن حالة الأندلس مع الإسبنيول ضج إلى هذا الاسطول أهالي الجزائر وطلبوا من الأمراء حماية هذا القطر الإسلامي ما دام فيه رمق قبل هجوم الإسبنيول عليه وذلك أحق من تتبع الإسبنيول في الأندلس إذ لم يبق فيها مسلم فأجابوا طلبتهم بعد تصحيحهم للإتفاق ، ومن ذلك التاريخ استقرت الحكومة للدولة العثمانية وذلك في حدود سنة ٩٤٥ ه‍ وجرت أعمال الدولة في الجزائر على نحو ما قررناه في تونس لأن المراد هو حماية البلاد الإسلامية واتحادها وجرى من الولاة الترك أولا الإستقامة والعدل ثم لما تهورت العساكر إلينكشارية في جميع الجهات ، حصل منهم أيضا في الجزائر ما ضجرت منه الأهالي وطغوا في النصب والعزل للولاة من هؤلاء العساكر حسب الشهوات وقوة العصبية ، ولم يحسن من هؤلاء الولاة الإمتثال لأوامر الدولة العثمانية إلى أن ولي حسين باشا الذي كان سببا في دخول الفرنساويين إلى البلاد والحكم لله رب العباد.

مطلب في تاريخ الجزائر الجديد :

إعلم أن الدولة الفرنساوية لما ترقت في المعارف والقوات سيما في الأعصر الأخيرة لازمها حب الظهور وعدم تحمل الهوان وكانت الدولة العثمانية في شغلها الشاغل من أعمال إلينكشارية وحروب الروسية وثورات اليونان وضم إلى ذلك طغيان ولاة الأقاليم وعدم امتثالهم للأوامر ، وكان حسين باشا والي الجزائر مستبدا ظلوما مرتشيا قليل التدبر وحصل منه إهانة لقنسل فرنسا وذلك على ما في تاريخ ابن الضياف أحد التجار اليهود الأغنياء الجزائريين الملقب ببقرى أو جناح ، له خلطة مالية مع تجار من الفرنسيس وتداعوا في خسائر من الجهتين وانتصر حسين باشا لرعيته بالإلحاح على قنسل فرنسا في إنصافه وآل الأمر إلى صلح يدفع على مقتضاه التجار الفرنساويون إلى التاجر الجزايري مالا وافرا وأضمر حسين باشا أخذ المال لنفسه لما رآه ذريعا وراجعا لرعيته وتلك عادة ألفوها ولما قرب دفع المال وإذا بتجار أخر فرنساويون قاموا على بقرى المذكور بدين أوقفوا عليه المال الذي يريد قبضه فاستاء حسين باشا من ذلك وطلب من القنسل رفع الإيقاف وقال إن أرباب الدين الفرنسيس الطالبين لرعيته يتبعون ذمة المدين بعد قبضه للمال بحيث لا يكون للطالبين حق في المال الذي يدفعه الفرنساويون فامتنع من ذلك القنسل مستندا إلى أن المال المعرقل مال المدين والغرماء لهم حق فيه إلا إذا ضمنه من يرضون بذمته وكان المدين نفسه مغريا بهذا التدبير خوفا على ماله من الضياع باستيلاء الباشا عليه ، فأعرض الباشا عن القنسل وكاتب دولة فرنسا في غرضه فأرسلت المكتوب إلى القنسل وأمرته بالجواب عنه ، ولما قدم القنسل إلى الباشا لبعض مآرب خاطبه الباشا في استبطاء جواب مكتوبه المشار إليه إلى دولة فرنسا فقال له القنسل : إن المكتوب أرسلته الدولة إليّ وأمرتني بالجواب عنه فسأل عن سبب عدم إجابة الدولة له فأجابه بما فهم منه احتقاره وكانت بيد الباشا منشة يطرد بها الذباب فضرب بها وجه القنسل وطرده وبقي أسفا على ما فاته من مال بقرى ، وتهددت

١٦٠