صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

راحة الحدود ، وإني أرجو أن جلالته يشير على الباي أيضا بذلك فالسلطان سكت بعض دقائق ثم ظهر على وجهه الغضب ، وقال : إنه فهم من كلامي أن الدولة البريطانية تريد بقاء الحالة على ما هي عليه في تونس ولها نفع في ذلك ، وفهم أيضا أنا أشرنا على محمد الصادق بأن يعين العساكر الفرنساوية ، فنبهت عظمته بأني ما قلت أن الدولة الإنكليزية تنتفع بإبقاء الحالة الموجودة ، ولكنها تظهر تمني ذلك فقط على هذه الكيفية ونحن نتأسف كثيرا من فتح مسألة جديدة في الشرق ، وإنا لا نفتكر أنه توجد فوائد خصوصية لانكلترة مربوطة بأي كيفية كانت في أحوال تونس ، فعند هذا أجاب السلطان : بأنه لم ير كيف يجمع بين رجائنا في إبقاء حالة تونس على ما هي عليه ، ومع ذلك نشير على الباي بأن يعين العساكر الفرنساوية فهذان الشيئان لا يتوافقان ، لأنه على رأيه يكون دخول العساكر الفرنساوية إلى تونس ناقضا للحالة الموجودة.

وفي تلغراف آخر من موسيو «غوشن» أيضا يقول فيه : إن الجلسة التي وقعت بيني وبين باش وكيل ، كان يطلب فيها صحبة إنكلتره وقال : إن الدولة الإنكليزية تقدر أن تعمل مع الدولة العثمانية المعروف وأن الباب العثماني يكون ممنونا إذا كانت إنكلترة تريد أن تفعل معه ذلك ، فقلت له : إن ما كنت قلته لكم قد وقع والذي كنت تقوله دائما هو أنه يأتي زمن تكون فيه تركيا متذكرة بأن صحبة إنكلترة لها لازمة ، وقد تكلم على الحاجة الأكيدة الآن وتكلم أيضا على رد مودة إنكلترة ، فتبعته وقلت ما هو دليل المودة الذي أظهرته تركيا لإنكلترة منذ بعض سنين؟ وفي أي وقت اتبعتم إشاراتنا؟ وفي أي وقت قبلت استشاراتنا النافعة للسلطنة التركية؟ نعم إن الترك قد عملوا غاية جهدهم ليتركوا المودة التي في رأي العموم في إنكلتره ورجوعها الآن ليس بسهل ، فحضرته العلية أجابت بأن جميع الأشياء الآن تتغير من غير أن يظهر على وجهه الغضب من الكلام الذي قلته له قصدا واستمر في طلبه الإعانة ، وأنا شرحت له بأن نازلة تونس مثل النوازل الأخر الشرقية ولا تقدر إنكلتره على إتمامها وحدها ، ومع هذا فليس لنا فائدة خصوصية وسياستنا متمسكة بالموافقة الأروباوية ولا دولة تريد قيام عسر جديد قبل أن تتم الاعسار القديمة ، وكل دولة تكون حازمة إذا كانت تفتش كل واسطة لحصر النازلة التونسية في حدود ضيقة أقل ما يمكن ، لئلا تقوم نازلة تدخل فيها الدول برأي مختلف فجنابه العالي يقدر يفهم من جملة كلامي بأن ليس لي إذن لتقرر الرجاء بأن تكون الدول العظام الأروباوية يظهرون أنفسهم مختلفين على نازلة مخلبطة بين الباب العثماني وتونس ، والطلب الخصوصي من إنكلتره ليس بموافق لحالة الباب العثماني منذ بعض سنين مع الدولة المشار إليها ، فهذا الخطاب كاف في بيان الحال مع إنكلتره وهي وإن أظهر بعض أهل شوراها التنديد على سياستها وطلب المحافظة على تونس وإبقائها للدولة العثمانية ، وبين ما ينشأ لإنكلتره من المضرة عند استيلاء فرنسا على مرسى ابن زرت وعلى قربها من خليج السويس ورجحان كفتها في البحر الأبيض ، لكنه لم ينفذ كلامه حيث كان من حزب المحافظين الذي هو مغلوب حينئذ ، واحتجت عليه

١٢١

الوزارة بأن حزبه هو الذي فتح الباب لفرنسا فإن اللورد «صلسبري» الذي كان وزير الخارجية عند عقد مؤتمر برلين لما شاحنه وزير فرنسا على استيلاء إنكلتره على قبرص أجابه بأنه لا يعارض فرنسا إذا أرادت الإستيلاء على تونس ، فإذا يكون استيلاء فرنسا بوعد إنكلتره وقد غفل المستند لذلك عن كون الوعد من صلسبري كان في سياق أن ترضى بذلك الدولة العثمانية صاحبة الملك مع الرضى العام لا اغتيالا ، ومع ذلك فلإنكلتره مقاصد على تونس مخفية في مصر فرأت أن مساعدة فرنسا على تونس تلائمها في مقصدها هي في مصر عند الحاجة إذا ساعدتها فرنسا ، ولهذا لم تعترف بالمعاهدة الجديدة مع تونس رسميا حتى أن وزير فرنسا الأوّل أعلن في مجلس النواب بأن انكلتره وافقت على معاهدة ما به استنادا منه لما دار بينهم من الكلام فيها ، فأعلن وزير خارجية إنكلتره حالا بتكذيب ذلك الادعاء وما ذاك إلا تحفظا على ما يريد لدولته حتى إذا لم تساعفه فرنسا في مصر وآل بينهم الأمر إلى المشاحنة الحقيقية ، كان لانكلتره وجه في نقض ما حل بتونس.

وأما دولة الروسيا فلا إشكال أنها يسرها كل ما يضعف الدولة العثمانية ولا فائدة لها في مشاحنة فرنسا ، ولذلك كان جوابها بمثل محصول جواب سابقتها ، وأما دولة المانيا فأجابت خصوصيا بأن الأولى للدولة العثمانية الإضراب عن هاته النازلة وأنها هي لا تتعرّض لفرنسا بشيء والباعث لها على ذلك وجوه :

أولها : إظهار عدم التجافي عن فرنسا التي لها عليها حقد أخذ الثار.

وثانيها : جذب أعداء ومضادين إلى فرنسا كالدولة العثمانية وإيطاليا ، حتى إذا أعلنت الحرب يوما ما بين ألمانيا وفرنسا تجد ألمانيا الظهير على قرنها بما لذلك الظهير من الباعث الذاتي.

وثالثها : إشغال فرنسا بفتوحات جديدة في أراضي فسيحة وخلق كثير في أفريقيا ربما طال اشتغالها بهم حتى يبرد لهيب أخذ الثار.

ورابعها : إضعاف قوة فرنسا وقت الحرب إذ الأمم الذين تريد التسلط عليهم وإن لم يكونوا كفؤا لمحاربة فرنسا لخلوهم عن آلات الحرب والإستعداد لها ، لكنهم لما كانوا مسلمين وأهل نجدة وشجاعة ومثافنة للحرب لا يلبثون دائما أن يحدثوا عليها ثورات سيما إذا علموا بوقوع حرب بينها وبين أجنبي ، فتضطر فرنسا في وقت الحرب إلى أن تبقي قسما عظيما من جيشها محافظا على ذلك المستعمر وذلك يفيد

ألمانيا بنقصان قوة جيش خصمها في حربها.

وخامسها : تمهيد السبيل إليها فيما تريد التعاوض به بينها وبين النمسا ، لأن ألمانيا ليس لها مرسى على البحر الأبيض وقد بقي من جنس الألمان تحت النمسا عدة ملايين حول الجهات التي بقرب مرسى ترست فلو أخذت ألمانيا ذلك الباقي من الالمان مع تلك المرسى يكون ذلك غاية أمانيها ، ولكن ذلك لا يحصل إلا بحرب مع النمسا وقهرها أو

١٢٢

بمعاوضة ذلك لها بشيء يرضيها من ممالك الدولة العثمانية مثل أخذها ولايات مقدونية ومرسى سلانيك الموازي ذلك لما يؤخذ منها حسبما أشيع ذلك مرارا ، ولذلك كانت ألمانيا أوّل من بادر لأمر نائبها في تونس باتباع سياسة فرنسا فيها وتبعتها على ذلك أيضا النمسا لأنها ليس لها سياسة تخصها في تونس ، وهي لها مع ألمانيا عقد محالفة إتحاد على الذب والإقدام ، ثم أنها لها مطامح في جهة بحر الجزر لتتمكن فيه بمواقع مهمة لكي تسلم في مرسى ترست إلى ألمانيا حليفتها حيث لم يكن لها مرسى في البحر الأبيض كما تقدم ذكره ، فلا تعارضها فرنسا عند العمل. وأما إيطاليا فإنها تجرعت من ذلك الغصص وطوت على الضغائن التي لا تزال ولكنها لما كانت غير كفؤ بانفرادها لمعارضة فرنسا واتحادها مع الدولة العثمانية أيضا لا يجدي لاحتياج كل إلى المال مع ما فيه الدولة العثمانية من الحالة الداخلية والخارجية التي أعقبها الحرب الأخيرة ، فلم يسعها إلا السكوت وتحمل عرق القربة من عظم الضغينة في عموم الأهالي ، والدولة إذ هي حريصة على إبقاء ما كان على ما كان في تونس وكانت عند ملاحظتها مبادىء الشر عرضت بالسعي السياسي مع الدولة العلية فلم يكن من المقدر قبول الإنتباه لما أرادت حتى أنكر الوزير العثماني على المأمور الطلياني التكلم معه في تونس ، وقال له : إنها تابعة لنا ولا دخل فيها لأحد وعند هجوم فرنسا صار يتملق إلى ذلك المأمور لكي تمد إيطاليا اليد إليه ، فقال له مصداق المثل : «الصيف ضيعت اللبن».

وبما تمهد عبرت عساكر فرنسا حدود تونس معلنة بأنها تريد تأديب قبيلة خمير من أعراب الجبال الشمالية عند حدود الجزائر ، ولم يتعرض لها أحد بالمصادمة لأن حكومة تونس قد تقدمت حالتها الباطنية من التوافق مع فرنسا ومع ذلك فليس عندها تحت السلاح ألفا عسكري ولا اقتدار لها على معارضة فرنسا بالقوة ، واستندت ظاهرا إلى أمر الدولة العلية بارتكابها سبيل الملاينة ، وأظهر الوزير التونسي إذ ذاك التزام العمل برأي مجلس الشورى حيث فات الأبان مع أن جميع ما يتفاوض فيه يقرره إلى تابعه علي ابن الزي ليلا وهو يقرره إلى نائب فرنسا ، فكلما غزل المجلس غزلا نقضه لهم من هو بالمرصاد منهم حتى تعجبوا من اطلاعه على جميع أحوالهم ، وتمكنت عساكر فرنسا من بلد الكاف وباجة وابن زرت ، وفي أثناء تلك المدة كانت الحكومة التونسية لا تزال تسجل وتتشكى وأنها مستعدة لتربية قبائلها الذين هم في نفس الأمر إنما اتخذوا وسيلة فقط ، ومع ذلك فقد أوعز الوزير بواسطة تابعه المشار إليه إلى نائب فرنسا بأن لا واسطة مفيدة في الدخول تحت فرنسا إلا قدوم شرذمة من العساكر إلى قصر الوالي والإحاطة به ، إذ النسوة لما ترى ذلك تصعق بالخوف فيضطر الوالي إلى الإمضاء على الشروط ويجد العذر عند الأهالي ، ومع ذلك أرسل خبرا بالسلك الكهربائي إلى الباب العالي يقول إنه قد علم أن فرنسا تطلب عقد شروط ولا يعلم ما هي فماذا يعمل؟ فأجيب من الباب : بأن يحيل كل ما يطلب منه على الباب العالي ولا يمضي شيئا ، وقبل ذلك أشاع أصحاب الأخبار أن في عزم الدولة إرسال

١٢٣

خير الدين باشا إلى تونس معتمدا في حسم النازلة لمعرفته بأحوالها وسياسة الأهالي والأجانب ، ولكي يكون عونا على إبقاء الحالة المعروفة ، فأرسل الوالي تلغرافا إلى الباب يطلب أن يكون المرسل غير المشار إليه وتعجب كل غافل عن المقاصد الخفية من ذلك الطلب ، إذ تلك الحالة لا تدع مجالا للشخصيات سيما وقد سبقت من خير الدين إلى الوالي المشار إليه المجاملة وعدم الإكتراث بما فعل معه عند حلوله بالاستانة وترقيه فيها ، لكن المطلع على الباطن زاده ذلك تيقنا في التواطؤ على تلك الأعمال لأن وجود مثل خير الدين في تونس لا يروج عليه ما يروج على غيره ممن لم يثافن طبائع الشقين ، ومع مجاراة الباب العالي وتقليله لمواقع النزاع قدر الإمكان لتأمين الوالي حيث أظهر الميل إلى الدولة ، فإنه أي الوالي أسرع إلى إمضاء الشروط مع فرنسا والحال أن مداد الحبر من الباب العالي بنهيه عن الإمضاء لم يجف ولم يخبر الباب بعد ذلك بشيء حتى سأله عما شاع من إمضائه فأجابه بأنه مكره عليه ، وكل ما ورد بعد ذلك من الباب سلمه إلى نائب فرنسا مدعيا أن الشروط قاضية بذلك وهذا نص تعريب المعاهدة.

إن دولة جمهورية فرنسا ودولة باي تونس أرادوا أن يقطعوا بالمرة التحيير المخرب الذي وقع قريبا في حدود الدولتين وفي شطوط تونس ، وأرادوا أن يربطوا مخالطتهم القديمة التي هي مخالطة مودة وجوار حسن ، فاعتمدوا على ذلك وعقدوا معاهدة في نفع الجهتين المهمتين ، فعلى موجب ذلك رئيس الجمهورية الفرنساوية سمى وكيله موسيو الجنرال «بريار» الذي يتفق مع حضرة الباي السامية على الشروط الآتية.

أولا : المعاهدات الصلحية والودادية والتجارية وغيرها الموجودة الآن بين الجمهورية الفرنساوية وحضرة الباي يتحتم تقريرها واستمرارها.

ثانيا : ليسهل لدولة الجمهورية إتمام الطرق للتوصل إلى المقصود الذي يعني الجهتين العظيمتين فحضرة الباي ترضى بأن الحكم العسكري الفرنساوي يضع العساكر في المواضع التي يراها لازمة لتتقرر وترجع الراحة والأمان في الحدود والشطوط ، وخروج العساكر يكون عند ما يتوافق الحكم العسكري الفرنساوي والتونسي على أن الدولة التونسية تقدر على تقرر الراحة.

ثالثا : دولة الجمهورية تتعهد لحضرة الباي بأن يستند عليها دائما وهي تدافع عن جميع ما يتخوف منه لضرر ما إما في نفسه أو في عائلته أو فيما يحير دولته.

رابعا : دولة الجمهورية الفرنساوية تضمن في إجراء المعاهدات الموجودة الآن بين دولة تونس والدول المختلفة الأوروباوية.

خامسا : دولة الجمهورية الفرنساوية تحضر نحو حضرة الباي وزيرا مقيما لينظر في إجراء هاته المعاهدة وهو يكون واسطة فيما يتعلق بالدولة الفرنساوية وذوي الأمر والنهي التونسيين ، وفي كل الأمور المشتركة بين المملكتين.

١٢٤

سادسا : أن النواب السياسيين والقناصل الفرنساويين في الممالك الخارجية يتوكلون ليحموا أشغال تونس وأشغال رعيتها ، وفي مقابلة هذا فحضرة الباي تتعهد بأن لا تعقد معاهدة عمومية من غير أن تعلم بها دولة الجمهورية ومن غير أن يجعل على موافقتها من قبل.

سابعا : دولة الجمهورية الفرنساوية ودولة حضرة الباي أبقوا لأنفسهم الحق في أن يؤسسوا ترتيبا في المالية التونسية ليتمكن لهما دفع ما يلزم الدين التونسي العام ، وهذا الترتيب يضمن في حقوق أصحاب الدين التونسي.

ثامنا : إن غرامة الحرب يغصب عليها القبائل العصاة بالحدود والشطوط ، وتفعل دولة الجمهورية مع حضرة الباي فيما بعد شروطا على كميتها وكيفية دفعها ، ودولة حضرة الباي تضمن في ذلك.

تاسعا : للمدافعة على منع إدخال السلاح والآلات الحربية للمملكة الجزائرية الفرنساوية ، فدولة باي تونس تتعهد بأن تمنع دخول الأشياء المشار إليها من جزيرة جربة ومرسى قابس وسائر المرسى الجنوبية في المملكة.

عاشرا : إن هاته المعاهدة توضع لدى رضاء دولة الجمهورية الفرنساوية وترجع في أقرب مدة ممكنة لحضرة الباي السامية. حرر في ١٢ مايس سنة ١٨٨١ بالقصر السعيد ، الإمضاء : محمد الصادق باي والجنرال بريار.

والذي يؤكد صدق التواطؤ من قبل أن الوالي طلب ظاهرا من نواب فرنسا وهما أمير العساكر والقنصل أن يمهلاه مدة للتأمل من حالة الشروط ، فأجابه القنصل : بأنه لا داعي إلى ذلك حيث أن الشروط عند وزيرك منذ مدة وتأملتها أنت وهو ولم يبق إلا الإمضاء ، ويؤيده أيضا أن رئيس المجلس البلدي السيد محمد العربي زروق أحد أعضاء مجلس الشورى أصر على عدم الموافقة على إمضاء الشروط ، وألح على الوالي بذلك عند جمعه للمجلس وأمير عسكر فرنسا منتظر لانبرامها ، ونصحه بأن ما يخشى منه بعدم الإمضاء سيقع لا محالة بعيد الإمضاء فالتمسك بالبراءة الأصلية أسلم وأشرف ، وعورض بأنه قد علم أن الوالي إذا لم يصحح يولي الفرنسيس عوضه أخاه الثالث محمد الطيب باي ، لأنهم أكدوا أن له اتفاقا مع الفرنسيس فأجاب بأن جميع الأهالي لا تطيع الوجه المذكور وعلى فرض قهرهم يكون الوالي على شرفه وربما اضطرت الدول إلى التداخل بوجه يحسن الحال ، فلم يلتفت لكلامه وعزل أثر ذلك من جميع وظائفه وجعلت عليه مراقبة في داره وحجر عليه مخالطة الناس وتحقق مزيد الإضرار به ، إلى أن احتمى بقنسلاتو انكلتره وسافر عن وطنه وأقام بالاستانة.

ويشهد صراحة للتواطؤ ما صرح به البارون «بيلنك» الفرنساوي في تشرين لود سنة ١٨٨١ بما وقع في هاته المسألة وأنه كانت أرسلته دولته حيث كان أحد مأموري الوزارة

١٢٥

الخارجية لاستقراء أمر تونس ، وذلك في كانون ثاني سنة ١٨٨١ وأن الوالي أجاب إذ ذاك فرنسا بأنه يقبل الشروط إذا كان الواسطة فيها هو فرديناند لسبس ، لأنه كان يؤمل بواسطة المذكور الحصول على شروط أوفق له ، وأن الشروط إذ ذاك كانت غير التي قررت الآن ، ومع ذلك كله لم تعلم الدولة العلية بشيء وبه يعلم صدق الكلام في إضمار الوزير التونسي الشر للبلاد ولي بالخصوص ، حيث دافعت عن الحق ونصحته بما يقتضيه الدين والأمانة ، ثم كانت فاتحة أعمال نائب فرنسا عند إمضاء المعاهدة أن طلب من الوالي نفي علي ابن الزي حالا لكي لا يبيح بما وقع من الأسرار التي اطلع عليها ، فنفي إلى حصن قابس ثم توجه الوزير ابن إسماعيل إلى باريس في سفينة فرنساوية حربية شاكرا لأنعام فرنسا بتلك المعاهدة ، ومعلنا لها بأنه يصدق في خدمتها أزيد مما كان يبذله سابقا كذا في عبارته الرسمية عند ملاقاته رئيس الجمهورية المنشورة في الصحيفة الرسمية ، فقلدته فرنسا بأكبر نيشان لها مع الشريط الكبير ورجع إلى تونس ولم يلبث بضع أشهر حتى ورد الأمر على الوالي من وزير فرنسا بعزل وزيره ابن إسماعيل ، لأن نائب فرنسا بتونس توجه إلى باريس وتفاوض مع دولته فيما يسلكونه في تونس ، حيث أن الأعراب والجهات الجنوبية أعلنوا بأن الوالي لما بغى على الدولة العثمانية بدخوله تحت حماية فرنسا فهم لا يطيعونه لأنهم بايعوا أمير المؤمنين سلطان الدولة العثمانية قديما وحديثا فلا يحل لهم الخروج عليه ، وهرب على الوالي جميع عساكره فاضطرت فرنسا لتعبئة الجيوش لتطويع الأعراب ، وكان من جملة التدبير عزل ذلك الوزير الذي توقعوا منه أن يفعل معهم مثل ما فعل مع البلد التي وصل فيها إلى تلك الدرجة ، وتحقق الوزير ما ضرب من المثل بوزارة العلقمي وإن كان هذا أي ابن إسماعيل قد احتاز بجميع خزائن أمراء تونس حتى كان آخر ما بقي للوالي من مفاخر الجواهر عقد لؤلؤ منظم سبحه بها مائة حبة مع حلية زمرد محاط بها الياقوت الأبيض فأعطاهما إليه عند سفره لباريس بعد العزل المذكور ، ورام بسفره إرضاء فرنسا عليه وإرجاعه إلى الوزارة وبقيت البلاد إلى الآن في حيرة واضطراب ودخلت العساكر الفرنساوية إلى قصبة الحاضرة وإلى منازل العساكر في المدينة وأمام قنسلاتو فرنسا وسكن رئيس العساكر الفرنساوية بدار المملكة في بطحاء القصبة وصارت الحكومة لا تتصرف في شيء إلا بأمر الوزير الفرنساوي سواء كان في الداخلية أو في الخارجية ، وتفاقم الضرر بولايات غير الأهل في الوظائف بوسائل غير مرضية ، وعظم الكرب على القبائل والبلدان بما حصل فيهم من العساكر الذين أقاموا بالقيروان وسوسة وهدموا صفاقس وخرجوا من قابس بعد دخولها وعادوا إليها ونسأل الله أن يتداركنا بألطافه ويحسن العاقبة ، ومما ينبغي التنبه إليه هنا أن الأحوال السياسية التي أشرنا إليها مع الدول ، سيما مقاصد ألمانيا لا يمكن أن تخفى على أمة عاقلة مثل الفرنساويين ، فكيف مع ذلك قدموا على تبوء تونس مع كون الفائدة التي تحصل لهم منها لا توازي ما ذكر ، سيما إذا كانت المعاهدة مع تونس التي ذكرناها تجري حقيقة على ظاهرها.

١٢٦

فالجواب : إن كثيرا من عقلاء الفرنسيس قد نددوا على دولتهم ولا زالوا في الإعتراض عليها لكنها بعد الوقوع في الأمر المتسبب عن تهور ممن بيدهم مقاليد السياسة حتى اتهمهم مضادوهم من نفس الفرنسيس بأن لهم في ذلك أرباح ذاتية من التجارة في الرقاع الدولية ، وموهوا على العامة بالانتصار لحفظ ناموس فرنسا فبعد ذلك صعب على الدولة إهمال سعيها مع ما خسرته من الأموال المتجاوزة مائة مليون ، ومن الرجال الذين ماتوا بالحرب مع الأعراب وبالأمراض المتجاوزين خمسة وثلاثين ألفا فرأت فرنسا التحفظ على ما وقع مع السعي في حسن السلوك الذي يخفف أو يدفع عنها الغوائل المنتظرة ، ثم وراء ذلك أمر مهم جدا لفرنسا وهو طمعها في إحداث مملكة عظيمة في أفريقية مثل ما للإنكليز في الهند ، فتريد أن تمتد من الجزائر إلى ما جاورها شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى دواخل أفريقية والسودان وتصل بين شاطىء أفريقية الغربي في سانيفال والشرقي في الجزائر وتونس ، حتى رسمت جمعية فرنساوية رسما لخط الحديد في ذلك ولو يتم هذا يكون لفرنسا شأن عظيم ، غير أن القياس على الهند الإنكليزي هو قياس مع الفارق لا من جهة سياسة الفرنساويين في مستعمراتهم من حيث قلبها إلى عوائد الفرنسيس وإناطتها الإدارة في الكليات والجزئيات بباريس ولا من حيث أخلاق الأمم المستوطنين بأفريقية والمستوطنين بالهند ، وإن شئت الوقوف على برهان ذلك فانظر ما حررناه في أحوال الجزائر وفي أحوال الهند وسياسة كل من الدولتين يتبين لك حقيقة الحال.

وبما ذكرناه هنا يندفع الإعتراض على ما ذكرناه في سياسة تونس الخارجية من كون فرنسا لا تريد الإستيلاء عليها مع كون أعمالها ناقضت ذلك ، وشرح الدافع يؤل إلى أن الحامل لدولة فرنسا على مخالفة ما سبق من مقاصدها في تونس شيآن أحدهما : سياسي ظاهري ، والآخر : خصوصي باطني ، فالباطني : هو المشار إليه بما وقع من التهمة في نفع الأفراد الذي يأتي له مزيد شرح في مبحث الأحكام ، والظاهري : هو أن الدول قد تغيرت أفكارهم بالنسبة لمحافظة الدولة العثمانية منذ عقد معاهدة برلين ، فدلت أعمالهم على أن من ناسبه شيء منها وكانت له قدرة على حوزه بادر إليه وغض عنه النظر بقيتهم إذا كان المحوز أكثر مناسبة بالحائز ، وقد علمت مقاصد فرنسا في تونس ورأت أن إيطاليا لها من المقاصد والمناسبات ما يزاحمها ، ثم رأت سيرة ابن إسماعيل وأنه غير أمين فلا يبعد أن يفعل مع إيطاليا أو غيرها من الدول ما فعل معها لخوف أو طمع مع تيسر إجراء الأمور بواسطته ، فانتهزت الفرصة خوفا على درجة نفوذها فبادرت قبل أن تبادر ومن المعلوم أن السياسة تدور مع الأحوال الحاضرة ولله عاقبة الأمور.

الفصل السادس : في عوائد أهالي فرنسا وصفاتهم

إعلم أن الأهالي أصلهم القديم مجهول ، غير أنهم لما هجمت القبائل الشمالية الشرقية من آسيا على أوروبا تسلطت منهم قبيلة الإفرنج على فرنسا بعد أن أناخت في

١٢٧

البلجيك ، ولا زالت تتقوى إلى أن ملكت جميع فرنسا. واتحدت القبائل الأخر معها بالنسل والإسم كما تقدمت الإشارة إليه في مبحث التاريخ ، وكان لهم إذ ذاك شهرة بالشجاعة والتقدم بالحرية حتى كانوا أول من كثرت خلطتهم من الأروباويين بالعرب وأهل المشرق ، ولذلك ترى أن إسم الإفرنج يطلق على جميع أهل أوروبا عند جميع المشرقيين والعرب ، وذلك بإبدال السين جيما لأن أصل الإسم إفرنك فقلبت الكاف سينا عند نفس الأمة ، ثم حرف في الترجمة في لسان المشرق وصار إفرنج وذلك الإشتهار كاف فيما كان لتلك الأمة من التقدم وحب الأسفار والتجارة ولا زالوا على ذلك إلى الآن ، لكنهم يؤثرون الإقامة في وطنهم عن الإقامة الدائمة بغيره ولهذا تراهم أقل أهالي أوروبا استيطانا في سائر الممالك ، إذ أمريكا التي هي ذات ثروة وأمن وقليلة السكان بالنسبة لاتساع الأرض يهاجر إليها سنويا من الإنكليز والألمان والطليان وغيرهم خلق كثير يتجاوز مئات الألوف ، وأقل القليل من المهاجرين هم الفرنساويون بل أن ذلك حاصل ولو في مستعمراتهم في الأقاليم إذ الجزائر الآن تحت سلطتهم نيفا وخمسين سنة ومع ذلك لا يوجد منهم فيها إلا نحو مائتي ألف أو ينقصون ، وإنما بلغوا ذلك العدد بعد استيلاء ألمانيا على الإلجاس واللورين فرغبت دولة فرنسا أهالي ذينك الإقليمين للإتحاد بها بأن تعطيهم جميع حاجتهم مع الأراضي الخصبة الوسيعة في الجزائر ، وحيث كان في ذينك الإقليمين كثير ممن لا يريد الإنفصال عن فرنسا إلى ألمانيا هاجروا إلى الجزائر ومكنتهم الدولة بأرزاق العرب الذين استأصلت أموالهم بدعوى الخروج عنها والعصيان عليها ، ومع هذا الترغيب فإنما كان عددهم ما أشير إليه لولوع القوم بوطنهم في السكنى وإن كانوا منتشرين في سائر الأقطار للتجارة والسياحة ، كما أنهم لهم ولوع زائد بالتفاخر بمدينة باريس التي يحق لها الفخر ويسر كل فرنساوي مدحها وإن لم يكن من أهلها ، وهذا الطبع وهو حب التفاخر وإن كان طبيعيا في البشر لكن بعض الأمم فيه أزيد من بعض كما هو في الأفراد ، فالفرنساويون ذوو فخر ونشاط إلى الأعمال وسرعة إلى تبدل الأراء والأفعال حتى أورث ذلك فيهم كثرة الإنقسامات في الأحزاب السياسية ، وقد ذكرت صحيفة «الديبا» مرة عدد أحزابهم في السياسة فإذا هي أربعة عشر حزبا ، أحد أطرافها حزب الإشتراكيين أي الذين يريدون أن يكون الناس كسائر الحيوانات السائمة مشتركين في جميع ما بأيديهم ولو النساء ولا يستأثر أحد عن أحد بشيء ، والطرف الثاني الإستعباد التام لشخص ملك يتصرف فيهم تصرفه في الأثاث والمتاع وما بين ذلك درجات أقواها الآن حزب الجمهورية المضبوطة على نحو ما تقدم في السياسة الداخلية ، ويليه حزب الملكية القانونية وإن كان في ذاته له عدة أقسام من أتباع عائلة بونابارتي واتباع عائلة أورليان أو البربون إلى غير ذلك ، ولا تغتر أيها المطالع بكثرة أولئك الأحزاب في ضعفهم مع من ناوأهم من الخارج فإنهم إذا رامهم أجنبي يكونون عليه يدا واحدة فإذا انفصلوا منه عادوا إلى الشقاق بينهم ، ولولا هذا الشقاق لزادوا قوة ونفوذا إذ طباعهم مهذبة ومعارفهم متزايدة وتجارتهم وفلاحتهم متقدمة للغاية حتى أقر لهم بذلك أضدادهم ، وهم

١٢٨

لينو الجانب بشوشون في الملاقاة غير أنهم يتجبر قسم منهم على من تسلطه الفرنساويون عليه وفيهم كثير من المؤتمنين الناصحين العقلاء مثل من رأيناهم قدموا إلى بلادنا متوظفين وأحسنوا السيرة والإنصاف والنصح إلى وطننا ، ومن الإنصاف الوفاء لهم بالذكر الجميل فمن هؤلاء صاحب رتبة الوزارة «فيليت» ، الذي قدم إلى تونس بصفة محتسب عام مالي عندما أنشىء الكومسيون المالي فأبدى من نصح الوطن والوقوف على حقوقه ودفع الغوائل عنه ما لم يصله كثير من أعيان أبناء الوطن مع العفة والصدق وسعة المعرفة ، وعلى قدمه من أتى بعده بتلك الوظيفة وهو «لبلان» ومثله كابي الذين شهد لهم كل أبناء الوطن بالإستقامة والإنصاف بحيث يصح أن يقال : إن دولة فرنسا إنما تختار لوظيفة الإحتساب المالي من هو جدير بها ولا مطعن فيه ، إذ كل من الثلاثة هو من متوظفي دولة فرنسا في الإحتساب العام المالي ، وعلى نحو من هؤلاء صاحب رتبة الوزارة «فالات» الذي قدم إلى تونس بوظيفة نائب سياسي سنة ١٢٩٠ ه‍ فأبدى من أوجه الإنصاف ومساعدة الحكومة والأهالي على حقوقهم ما لهجت به ألسن الثناء عليه من جميع أبناء الوطن ، وقلما يرد مثل هؤلاء لمثل وطننا لتحاميهم عن المقاصد السيئة واتباعهم للإنصاف فدولتهم تقتصر بهم على وظائف داخليتها ، ومن مشاهير رجال سياستهم في عصرنا ممن اجتمعت به وله صيت بين الأمة الفرنساوية «كنبيتا» رئيس مجلس النواب ، وممن أدركناه أيضا زيادة على نابليون الثالث الرجل الشهير بالسياسة والمعارف «تيرس» وقلما تحدث أفراد مثله وإن كانت المعارف والتقدم حاصلة إلى العموم ، ومع ذلك فلا يزال في فرنسا خلق كثير على السذاجة والجهل ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها.

ففي سنة ١٢٩٧ ه‍ ١٨٨٠ م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلا جهة باريس وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الإبن من كسبه ما يشتري به حذاء ، فأرسل إلى أبيه يشتكي له القل ويطلب منه شراء حذاء له ، فاشتراه له وحمله في الطريق وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه ، فبينما هو ماش إذ مر محاذيا للسلك الكهربائي فقال هذا أيسر طريق إني أحمله الحذاء وهو يوصله لإبني ، فجاء إلى عود السلك وعلق فيه الحذاء وأسر إلى العود بقوله أوصل هذا لابني فلان في المكان الفلاني ، وذهب مسرورا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف ، ثم مر من غد متفقدا ما فعل السلك بالحذاء فوجد في ذلك المكان حذاء عتيقاء أفناه اللبس ، ففرح وقال إن إبني لعاقل حيث أرسل لي الحذاء القديم لأستعين به على ثمن الجديد ، فانظر لهاته البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد عن المعارف وتهذيب الأخلاق ، واعلم أن مثل ذلك الرجل كثير سيما في القرى الصغيرة والجبال ، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة ويعتقد التأثير لأحجار وجمادات ويتشاءم بالأوقات فقد رأيت في كثير من بلدانهم وبلدان الطليان وكذلك الإنكليز طاقات في حيطان فيها منارات توقد ليلا بالزيت أو بالشمع العسلي تقربا إلى بعض أوليائهم أو الجن معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة ، ولا ينورونها

١٢٩

بغير ما ذكر من الأنواع لأن القسوس يقولون لهم إن شمع الشحم أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها ، وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول أرواح فيها وقد ذكر من هذا النوع في كشف المخبا عن فنون أوروبا ما يتعجب منه المسامع ، مما ترى الأروباويين ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبئه على البلاد الإسلامية وحدها ويجعلونها سخرية وينزهون أوروبا عن مثلها ، مع أنها حاوية لشبهها ولأشد منها بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة وحاشا لله أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك ، بل أنها هي المهذبة والمنقذة من غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر ، وقد أفردنا لهذا تأليفا خاصا ، واعلم أنا لا نقصد من ذكر ما مر نسبة الجهل بالمعارف الدنياوية إلى عموم الفرنساويين أو ترجيح كفتنا على كفتهم كلا ، بل الحق أن الناس على ثلاثة طبقات فأهل الرفعة وأشراف القوم من ذوي البيوت العالية بالتوارث في الوظائف أو كثرة المال والترف تجد أغلبهم مقتصرين على معرفة مبادىء العلوم ومحبين إلى إنفاذ الأغراض ، وزيادة علو الصيت ، والرعاع من أهالي الجبال والقرى والبوادي أغلبهم أيضا جهلاء ولا فكر لهم إلا فيما ينفع كل فرد في خويصة نفسه ، والطبقة الوسطى هي مجال التمدن والمعارف والصنائع والتقدم وهم أيضا أصحاب الترجيح السياسي في فرنسا ، وهاته الطبقة هي المتقدمة بالنسبة لمشابهتها فينا فهي فيهم أرجح ميزانا وأهلها كثيرون بالنسبة لأهلها عندنا ، وبالنسبة إلى نفس أهاليهم أيضا فترى عدد أهل المعارف يزداد ويترقى يوميا ، وأهل هاته الطبقة عندنا مشاكلون في الصفات لأهل الطبقتين الآخرتين كما أن أهل الطبقة العليا عندهم أوسع تبصرا ومعرفة منها عندنا.

وأما بقية عوائد الأهالي فهي على نحو من عوائد الطليانيين في السلام والحياء والسماع والرماية والفروسية وغير ذلك ، وقد كانت فيهم تربية حسنة من التواضع بينهم ولين القول ، لكن منذ رسخت الحكومة الجمهورية تظاهر فيهم التهور شيئا فشيئا حتى أني أدركت ذلك ما بين سنة ١٢٩٢ ه‍ وسنة ١٢٩٥ ه‍ ، فقد رأيت من أخلاق الطبقة السفلى من الناس كالكرارسية والحمالين والسائلين ما لم نعرفه منهم في السنة السابقة ، وفلت السائلين مع أنهم يمنعون السؤال للفقراء لوجود أماكن المرحمة للعاجزين ، ومن يباح له السؤال تجعل له علامة تؤذن بإباحته ولا يكون إلا ناقص عضو أو حاسة ، وغيرهم يتحيلون على السؤال بعزف آلة طرب أو إهداء باقة زهر أو نحو ذلك من غير إلحاف في السؤال ، حتى إذا رأت الضابطية واحدا ملحا منعته أو سجنته ، وفي السنة الثانية رأيت تغاضي الضابطية عن ذلك وعن سوء معاملة الكرارسية للركاب حتى يكون بعضهم سكرانا ويتكلم الكلام الفاحش ولا يتعرض له أحد ، كما رأيت في هاته السنة عدة مواطن للتشاكم والتلاكم وبعضها وقع فيه الضرب بالحديد ومات فيه المضروب ، وفي بعض الأوقات يركض الكرارسي ركضا زائدا يمكن أن ينشأ منه الضرر بالمارة وكل هاته الأشياء

١٣٠

ممنوع ولم نر منه شيئا في المرة الأولى ، لكن الدعوى بمزيد الحرية التي تتبع الجمهورية أورثت ذلك الإهمال المفضي إلى التهور والخروج عن الإعتدال ، كيف لا وأحد أحزاب الجمهورية يطلب المصير لما عليه الحيوانات العجم من الإشتراك ، وقد ذكر لي أنه كان وقع مثل ذلك الحزب في إحدى مدن أوروبا العظيمة وثار على الحكومة واقتحم منازل الناس ، وكان في تلك البلاد أحد الأغنياء المشهور بالثروة حاذقا فطنا فأخذ عدة أكياس بالسكة الفضة وجلس عند باب داره وكلما مر عليه إنسان أعطاه فرنكا ، فجاءه جمع من الثائرين فقال لهم : إني منكم وقد حسبت مالي فإذا هو كذا كذا مليونا ، وأهل المملكة مساوون إلى هذا العدد فيصح لكل واحد فرنكا ، فكل من أتى أعطيته حصته ولا يسوغ أن أعطي لأحد مناب غيره ، فلم يسعهم إلا الرضا وتخلص من نهب أمواله وتشتيتها ومن قتله ببعض آلاف فرنك دفعها لأولئك الثائرين إلى أن قهرتهم الحكومة واضمحل أمرهم ، ومن تفاخر الأهالي إتقان الأغنياء للكراريس وبعضهم يجر كروسته أربعة أو ثمانية من الخيل بسائق واحد وبعضهم يكون هو السائق بنفسه ، وتجد بعض هاته الكراريس تركب إثني عشر راكبا فأربعة داخلها مثل المعتاد وأربعة على سطحها على كراسي لازمة كل إثنين على كرسي مثل الأسفل غير أن ظهورهم لبعضهم ، وإثنان على كرسي السائق وإثنان على كرسي الخدمة من وراء ، وفي قعر الكروسة محل لرفع ما خف من المأكول واللوازم ، فيركب صاحب الكروسة مع خواص عائلته وأحبابه وما يلزمهم لتنزه يوم ويذهبون لأحد المنتزهات خارج البلاد ، ومن عاداتهم أيضا أنهم يتأنقون في ظرافة اللبس والأثاث والبناء وتنظيمه وترتيبه وينشئون المنتزهات وأماكن الإرتياح ليشترك في فائدتها الحقير والعظيم ، وإن كان لكل جهة كالقهاوي فما كان منها للعظماء زاد في سعر ما يعطيه وأتقن آلاته حتى لا يزاحم الفقير الغني لكثرة المصرف من غير تحجير حكمي ، بحيث يصح أن يقال أن الملاذ والنزهة عند الفرنساويين ينال منها الحقير حظه وهي مشهورة يعرفها الوافد بأدنى سهولة مع كثرتها أو تهيئها إلى قبول كل أحد.

مطلب في التجارة

إعلم أن تجارة فرنسا لها الرتبة الأولى في سائر أقسام المسكونة ولهم براعة تامة في إدارة الأشغال ، ولكن الأصول في ذلك هي ما قررناه في إيطاليا غير أنها هي في فرنسا أقوى وأروج وتسبب عنها كثرة الثروة والغنى المفرط ، حتى صارت شركات تجارتهم لا يخلو عنها إقليم من العالم وبواخر بريدهم تخترق سائر البحور ودونك أنموذجا على ما لفرنسا من الغنى ، فإن دولتها عدلت المسكوكات الرائجة فيها سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨١ م فكانت كما ترى :

١٣١

فرنكات

١٩٠ ، ٩٤٧ ، ٢١٠

صرف قطع فضة بخمسة فرنكات.

٢٩٠ ، ٠٥١ ، ٩٦٥

صرف قطع ذهبا الواحدة بعشرة فرنكات.

٣٦٠ ، ٠٨٠ ، ٩٦٤ ، ٦

صرف قطع ذهبا الواحدة بعشرين فرنكا.

٣٦٠ ، ٤٢٢ ، ٢٠٤ ، ٠

صرف قطع ذهبا الواحدة بأربعين فرنكا.

٧٠٠ ، ٥٦٨ ، ٠٤٦ ، ٠

صرف قطع ذهبا بخمسين فرنكا.

٤٠٠ ، ٣٤٦ ، ٠٤٤ ، ٠

صرف قطع ذهبا بمائة فرنك.

١٩٠ ، ٤٧٧ ، ٣٦٧ ، ٥

صرف قطع فضة من نصف فرنك وفرنك إلى الأربعة فرنكات وقطع نحاس لإتمام الكسور.

٤٩٠ ، ٨٩٣ ، ٨٠٣ ، ١٣

فذاك من عين السكة خاصة عدا آلاف الملايين من قطع الأوراق المعدودة عوضا عن السكة من بنك الدولة ، وهاته الأوراق لها اعتبار أحسن من السكة لخفة مؤنتها فتزيد في الصرف نصفا في الألف وتروج في سائر الأقطار مرغوبا فيها لدى الصرافين وفي خصوص فرنسا وإيطاليا وسفيسرا والبلجيك يرغب فيها حتى غير الصرافين ، أما غير هاته من الممالك فإنها تعتبر عند الصرافين فقط ويؤيد اعتبار غناها ما ذكرناه في غرامة حربها مع ألمانيا ، وكذلك سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨١ م طلبت دولة فرنسا استقراض ألف مليون فرنكا فأحضر لها الصرافون وأرباب الأموال ما اكتفت به عما تطلبه بأخذها خمسة عشر فقط من كل مائة أحضرت لها ، وأساس ذلك الغنى هو الأمن الذي سوغ للأهالي عقد الشركات بإظهار أموالهم وترويجها ، والشركات هي الأساس الثاني مع حسن الإدارة فأورث ذلك ما أشرنا إليه من أنموذج الغنى وتبعه ثروة الدولة التي هي بيت مال الأهالي بعد أن كانت منذ مدة ليست بطويلة في غاية العسر والفقر من سوء إدارة حكومتها والحروب الأهلية والخارجية ، فذكر لي أن منذ نحو سبعين سنة كان لرجل منهم من أوراق دين دولتهم ما قدره عشرون مليونا فرنكا واحتاج أن يفطر ولو بيضا وخبزا فلم يجد من يعامله ولو بالعشرين مليونا التي معه ، مع أن دين الدولة الآن الذي يدفع فائدة خمسة في المائة تساوي المائة منه مائة وعشرين نقدا ، فانظر عجيب الفرق بين الحالتين في المدة القريبة.

وأحوال البريد هي في أول درجة من الانتظام في هاته المملكة برا وبحرا ومواصلة الطرق الحديدية والصناعية مع عجلات حمل الأثقال المختلفة الأشكال مع المتانة والحسن زادت التجارة رواجا بحيث أن السلع وغيرها لا تحمل إلا على العجلات ، وفي المدن العظيمة لا تجرها إلا الخيل السليمة أو البغال بقلة ، وسفن البريد تصل إلى أقصى ممالك المشرق والمغرب ومما يحسن إيراده عنوانا عما عندهم من الغنى أن الحكومة المصرية مدة

١٣٢

ولاية خديويها إسماعيل باشا (١) باعت سهاما من خليج السويس لدولة انكلاتيرة بمائلة مليون فرنكا فكثر في ذلك القيل والقال من جهة السياسة خوفا من استيلاء انكلاتيره على الخليج المذكور ، واهتزت لذلك فرنسا أزيد مما سواها فذكرت إحدى صحفهم يوما أن «روشيلد» أحد الصرافين الكبار المشهور بالغنى قد أعطى لصهره إذ ذاك مائة مليون فرنكا وخمسة وعشرين مليونا مهر ابنته ، ثم ذكرت على وجه التحمس والدعابة بأن البائع لو خطب هاته البنت لولد له وزوجها به لأخذ مائة مليون لحاجته وزاد ربحا خمسة وعشرين مليونا مع بقاء السهام على ملكه وإراحة العالم من التشويش والاضطراب.

مطلب في الأحكام

الأحكام في فرنسا أصولها هي المذكورة في إيطاليا لأن القانون الأصلي في ذلك هو قانون نابليون الأول إمبراطور الفرنسيس ، وإنما بينهم بعض خلافات مبنية على اختلاف العوائد وإدارة الأحكام منفردة عن الإدارة السياسية ولا سلطة لهاته عليها بالمرة ، ودونك مثلا لذلك وهو : أن «رستان» الذي كان قنسلا لفرنسا وسعى في الإنقلابات التي حدثت في تونس ، قد تكلم ضده وضد تصرف دولة فرنسا كثير من رجالهم في المجامع العامة وكذلك تكلمت ضدهم جملة صحف خبرية فرنساوية وغيرها ، وأشد الصحف مضادة إلى رستان وأعماله صحيفة «لانتراسيجان» التي يطبع منها يوميا ٥٣١ ، ١٥٠ نسخة ، وصاحبها هو الرجل الشهير «رشفور» الفرنساوي ، وقدح في عرض رستان في المال والسياسة وصار لكلامه رنة عظيمة ، حيث جعل استيلاء فرنسا على تونس كان لفوائد خصوصية مالية لمن سعى في ذلك ولمن أعان ، وكان رستان أشد تهمة فأراد رستان تبرئة نفسه بإقامة الدعوى على صاحب الصحيفة لدى مجلس الحكم وترافعوا وأدلى كل منهما بما توصل إليه من الحجج ، وكانت عدّة رجال من الدولة الفرنساوية في الانتصار إلى رستان حتى الوزراء السابقون في الخارجية شهدوا له بأنه منفذ لأوامرهم ولم يتحقق عندهم ما يدعى به عليه ، ومثلهم المنتصبون في الوزارة وحاولوا مستطاعهم في نصرته لكن الحق بدا وغلب ولم يمل مجلس الحكم لأهواء أحد ، وحكم على رستان وألزمه بأداء مصاريف التحاكم وبذلك صحت مقالات الصحيفة المشار إليها وخرج صاحبها صادقا منصورا ، وقد ترجمت جميع جلسات مجلس الحكم المشار إليه وأفردت بالطبع حتى باللسان العربي ، وبالإطلاع على ذلك الكتاب يتأيد جميع ما ذكرناه في الأحوال التونسية وأسباب انقلابها ، ويتأيد ما ذكرناه في السياسة الخارجية لفرنسا وفي السياسة الخارجية لتونس ، وما ذكرناه هنا من انفراد إدارة الأحكام عن إدارة السياسة سيما بعد

__________________

(١) هو إسماعيل «باشا» بن إبراهيم بن محمد علي الكبير (١٢٤٥ ـ ١٣١٢ ه‍) خديوي مصر. ولد في القاهرة. وهو أول من أطلق عليه لقب «الخديوية» من رجال أسرته. توفي في الآستانة ونقلت جثته إلى القاهرة. الأعلام ١ / ٣٠٨ النخبة الدرية (٣٠) ومجلة المقتطف ٤ / ٥٧.

١٣٣

إرجاع رستان المذكور لوظيفته في تونس بعد تلك المحاكمة مما يشهد لما قلناه في مباحث السياسة ، من أن سياستهم الخارجية ليست هي كإنصافهم فيما بينهم في داخليتهم وهو مما يحقق أن الرجال المنتخبين للأحكام إنما يكونون من أعف الموجودين وأنصفهم لا تميل بهم الأهواء عن الاستقامة ، غير أن هذا هو الأغلب لا سيما في المدن العظيمة وفي المجالس الانتهائية.

وأما غيرهم فالإرتشاء بينهم فاحش يكاد أن يكون مثل ما يصفون هم به حكام المشرق وطريقة الوصول إليه عندهم أيسر بما لهم من إباحة خلطة النساء ، فالمعطي للرشا يجعل الوسائل للتوصل إلى إحدى النسوة ذات النفوذ لدى الحاكم ويرشيها فتبلغه قصده بنفوذها بسبب قرابة أو وداد أو غير ذلك لدى الحاكم ، وربما أوصلت إليه حصة من الرشا وعلى تقدير الإكتفاء بما أخذته هي فهو أيضا رشا للحاكم حيث مال بالحكم للجهة التي انتفعت منها من يريد نفعها ، وبهاته الوسيلة تكون خصلة الرشاء عندهم مستورة نوعا ما لأن ظهورها يوجب العقاب الشديد بالقوانين مع عدم وجود الشفاعة عندهم ، ومع ذلك يوجد في هؤلاء أيضا كثير متعففين وقد حضرت يوما في مجلس الحكم لرؤية هيئة الأحكام والحكام في باريس فإذا هو بيت كبير مستطيل له باب يدخل منه المتفرّجون وباب للمتوظفين وباب للخصوم ، وفي صدره مسطبة عالية عليها ثلاث كراسي وأمامها مائدة مستطيلة عليها لكل كرسي دواة وأقلام وورق ، وعن يمين تلك الكراسي كرسي طويل يجلس عليه أزيد من عشرين شخصا ، وعن شمالها باب وأمامها في نحو نصف البيت درابزين حائلة بين المتفرّجين والخصوم ، وللمتفرجين كراسي يجلسون عليها وبقرب الكراسي التي في الصدر كراسي سفلية أحدها : لرئيس الكتاب ، والثاني : لوكيل الحق العمومي الذي رتبته رتبة محتسب عام على الحقوق ، وله اعتبار كاعتبار رئيس المجلس. وبعد هنيهة من دخول المتفرجين خرج من الباب الذي على الشمال رئيس المجلس ومعه عضوان كل منهم لابس جبة طويلة بأكمام واسعة حمراء وعلى أكتافه منديل مقصب بالذهب وعلى رأسه شعر أبيض عارية له ذنب معقود على قذلهم ، فوقف لهم الحاضرون وأومأ الرئيس بالسلام لهم ثم جلس الرئيس على الكرسي الوسط والعضوان عن يمينه وشماله وجلس كل من وكيل الحقوق والكاتب على مرتبته ، ولكل منهم أيضا زي خاص يشبه زي الرئيس والأعضاء ، ثم دخل وكلاء الخصام الذين لهم ذلك الوقت دعوى ولكل منهم مثل ذلك الزي ، ثم دخل من باب خاص جمع من الناس باللباس المعتاد وجلسوا على ذلك الكرسي الطويل وهم الجوري ، فتكلم الرئيس بالسؤال عن حضور شاهد فأحضر واقفا فحلف أمامهم ثم أدى شهادته وبعد سكوته تسار الرئيس والأعضاء ثم خاطبه الرئيس لائما عن عدم حضوره في اليوم المعين له ومعلما له بما يجب عليه من العقاب عن ذلك ، فاعتذر بالوحدة فأعلمه بلزوم الحكم فيه فوقف وكيله وقال إن الشاهد مسكنه في المحل الفلاني وهو غريب وفقير عاجز عن إكراء من يستعين به ، فوجه الرئيس القول للشاهد مشدّدا بلزوم

١٣٤

الحكم عن مخالفة القانون ثم سار العضو الذي عن يمينه ثم الذي عن شماله ثم أمر الشاهد بالإنصراف وأنه إن عاد لمثلها أجرى عليه الحكم وانصرف ، ثم قام الرئيس والأعضاء ودخلوا من ذلك الباب الخاص ولحق بهم وكيل الحق العام وبعد نحو ربع ساعة خرجوا وأحضروا المحكوم عليه مع أحد أعوان الحاكم وقرأ الرئيس ورقة صغيرة بالحكم على الجاني ثم التفت إلى الجماعة الجالسين عن يمينه وهم الجوري وسألهم عما ظهر لهم؟ فوافقوه وانصرفوا جميعا وخرج المتفرجون ، إذ لم يكن ذلك اليوم إلا تلك النازلة وقد أفهمني وكيل الحق العام أن الحكم كان مهيئا من قبل لتمام النصاب بدون ذلك الشاهد ، غير أنه لما حضر تمم شهادته والمحكوم عليه جاني بتزوير السكة ، وكان جميع من حضر سكوتا بغاية التوقير للمجلس.

وذلك الشعر الذي يضعونه عارية على رؤوسهم الأصل فيه أن الملك لويس الرابع عشر كان رديء الشعر فاتخذ له عارية وكان إذ ذاك شيخا فاقتدت به أماثل البلاد وسرت منهم إلى غيرهم من الأمم وإن قل استعمالها الآن إلا في المواكب الحافلة والقضاة ، ومن أهم ما يذكر في أحوال الإدارة الحكمية تنبيه الضابطية وهم الحارسون للبلدان وشدّة تنقيرهم وبحثهم ومراقبتهم حتى يتمكنوا بسهولة على الجناة ، ومع هاتيك المراقبة والإحتراس الشديد يقع الإحتيال البليغ من الجناة لكي يتوصلوا إلى غاياتهم وكثيرا ما يبلغون إليها ، لكنهم أيضا كثيرا ما تكشف أمرهم الضابطية وتتمكن منهم ، فقد ذكر أن أحد الصيارفة الكبار في باريس كان جالسا يوما في محله وإذا برئيس ضابطية باريس قد جاءه فأكرم مقدمه ورحب به ، فأخبره الرئيس أنه محتاج لمبلغ وافر من المال لبعض المصالح غير أنه لا يريد إفشاء ذلك ولهذا أتاه بنفسه ليقرضه لمدة قصيرة إيهاما لضرورة المصلحة عاجلا مع رجوعها لمتعلقات وظيفته ، فأقرضه ذلك المبلغ على نحو القواعد الجارية عندهم وكتب له خط يده فيه وانصرف ، فمضى الأجل ولم يأت المال لصاحبه فبعد ثالث يوم ذهب الصيرفي بنفسه إلى رئيس الضابطية ودخل عليه وبعد السلام انتظره الرئيس فيما يقول لأنه من العادات المتأكدة عندهم أن الزائر لا يؤخر الكلام في مقصد زيارته ولا يخوض في الفضول سيما لأصحاب الوظائف ، لأن الزمان مقسم كما أنه لا يدخل عليهم إثنان معا ليس بينهما علقة في نازلة واحدة لكن الصيرفي اعتمد على علم الرئيس فيما هو مطلوب فيه ولم يذكر له شيئا ، فلما مضت بعض دقائق سأله الرئيس ما هي حاجتك فتعجب الصيرفي وقال : إنها ذلك المال الذي أتيت إليه بنفسك ولذا لم أرسل لك غيري ، فاستغرب الرئيس في سره وتلطف في السؤال بقوله ذكرني النازلة لأنه علم أنه الصيرفي من كبار الأغنياء المعتمدين ولا يقول كلاما مثل ذلك افتراء ويعلم من نفسه أنه لم يذهب إليه ، فعلم أنه لا بد للأمر من واقعة فبين له الصيرفي ما وقع منه إلى أن قال له : وكتبت خط يدك ، ففكر مليا وطلب منه التمهل بعض أيام أخر من غير كشف للسر إلى أن يقع الخلاص ، فخرج الصيرفي أيضا مفكرا فيما رأى من الرئيس وفي نفس الجواب لأن ذلك مخالف لعادة الإقراضات.

١٣٥

ثم أن الرئيس أعمل فكره بأن النازلة لا بد أنها وقع فيها احتيال على الرجل من إنسان مشابه للرئيس ، ثم دعا ضابط مركز الضابطية الذي بقرب دار الصيرفي وسأله هل رأيتني منذ كذا يوما قدمت إلى ناحيتكم؟ فقال : نعم فقال : في أي وقت فبين له الوقت وهيئة الركوب بأنها على الوجه الرسمي من الأبهة والملابس والعجلة ، فازداد تحققا لارتكاب الحيلة ثم سأله وإلى أين ذهبت فأجابه بأنه ذهب لدار الصيرفي الفلاني وبقي عنده حصة كذا ثم خرج من عنده متوجها إلى الجهة الفلانية ، فدعا الرئيس ضابط الجهة التي عينها الضابط الأول وأخبره بمثل ذلك وأنه ذهب إلى جهة كذا فدعا ضابطها أيضا ، وهكذا تتبع الحال إلى أن أخبره الأخير بأنك دخلت الدار الفلاني ثم رجعت العجلة خاوية وبقيت أنت هناك ولم تخرج باللباس الرسمي فدعا بدفتر من سكن تلك الدار لأن كل محل سكن فيه إنسان لا بد وأن يقيد إسمه عند صاحب الباب أو عند صاحب منزل المسافرين ، وأحضر الناس الذي سكنوا في الوقت المعين في تلك الدار فوجد بينهم رجلا يشبه الرئيس في الذات والوجه فدعاه منفردا ، وقال له أين المال الذي أخذته باسمي وإن لم تظهره بطيب نفس أظهرته منك من غير إرادتك كما أظهرتك أنت؟ فلم يسعه إلا الإقرار به ورجع الرئيس المال إلى صاحبه معلما له بأنه لم يستقرض منه وأنه احتيل عليه في ذلك ، ولهم من أمثال هاته الإحتيالات في السرقات أمور كثيرة وساعدهم على ذلك تيسر إحضار الوسائل مثل ما مر ، في كون السارق تيسر له لبس مثل لبس رئيس الضابطية ووجد أيضا عجلة ذات أبهة وخدمة مثل عجلة الرئيس إلى غير ذلك ، لأن تلك الأمور موجودة بسهولة كراء وشراء ولا منع من استعمالها إلا ما كان منها من مشارات الحكومة المحلية أو غيرها ، فإنه إذا كشف على المزور يعاقب ومع شدة الإحتراس والضبط على نحو ما ذكرناه فإنك لا تكاد تجد رجلا بل وكثير من النساء يخرج بدون حمل سلاح صغير خفي كالحديد في وسط عصا الإتكاء وكالطبانجة ذات الطلقات المتعددة موضوعة في الجيب إلى غير ذلك ، وهذا جار حتى في نفس باريس وقد كنت مارا ليلة في عجلة مع أحد الوجوه ومع زوجه ذاهبين لدعوة عند «فرديناند لسبس» فاتح خليج السويس فسألتني المرأة : عن نوع السلاح الذي معي؟ فأجبتها متعجبا : بأني ليس معي سلاح وما الحاجة إليه وأنا في وسط باريس ، فقالت هي وزوجها : لا بد من حمل شيء فإن الوقائع في باريس تحير الأفكار ولذلك لا يخلو أسبوع بل وأقل منه بدون وجود مقتولين سيما في نهر السين فإنهم يجدون في الشباك الموضوع في أسفل النهر خارج باريس كثيرا من جثث المقتولين إما بقتل غيرهم أو بقتل أنفسهم ، وذلك لأن كثيرا من الأهالي من يقتل نفسه لتسخط من أمر دنيوي. غير أن هذا التخوف في باريس لا يقع في الطرق الشهيرة ، «كالشانزي لزي» و «البلفار» لكثرة المارة بها ، ومن عوائد حكمهم إغضاء النظر عن الزنى بحيث أن المومسات يتبرجن جهرة بلا معارض ، ولهن ديار تجمع أعدادا وافرة وديار لأبناء الزنى الذين تلقيهم أمهاتهم ، وأكثر التجاهر به في بارس ودونك شاهدا على تفاحشه ، فقد حرر عدد النفوس سنة ١٢٩٧ ه‍ ١٨٨٠ م

١٣٦

فكان المتزايد في سائر فرنسا ٩٢٠١١٧ مولودا منهم أبناء زنا ٦٨٢٢٠ مولودا.

مطلب في المعارف

إعلم أن المعارف الدنيوية في فرنسا قد تناهت لأعلى درجة من الإتقان والاجتهاد وما تقدم في أحوال باريس وما فيها من المكاتب والكتب وجمعيات الفنون والحث عليها كاف في بيان ارتقاء تلك الفنون في فرنسا حتى أقر لها بذلك سائر الأمم في أوروبا وصاروا عيالا عليها في كثير من الفنون ، ومن ذلك فن الطب ومقدماته فإن المعالجة بالمعادن بمجرد اللمس التي ذكرنا طرفا منها في الباب الأول عند ذكر معالجة مرضى كان اطلع عليها أحد الأطباء الكيمياويين من النمسا ولكنه لم تقبل منه حتى قدم إلى باريس واطلع عليها الحكيم شاركو ، وبعد تجربته لها وإعطائه الشهادة والإجازة فيها اشتهر أمرها وتعاطتها الأطباء في سائر الأقطار. ومن أسباب الترقي في المعارف عموما صناعة الطبع وقد تقدم فيها الفرنساويون إلى الذروة القصوى ، وعندهم من الصحف الخبرية السياسية فقط مما يطبع في مدينة باريس وحدها يوميا ستة وخمسون صحيفة يخرج من مجموعها يوميا ١١٠ ، ٩٤٣ ، ١ نسخة ، وهي منقسمة إلى أحزاب السياسة فمن صحيفة واحدة تسمى «لبتي جرنال» يطبع يوميا ٨٢٠ ، ٥٨٣ نسخة ، وما عداها أقل كل على قدر رواجه ، ولا تكاد تجد سائق كروسة أو عجلة حمل بدون أن تكون عنده صحيفة يومية يقرأها ، وقد أطنب الإطناب الحسن في بيان تقسيم العلوم وترتيب أقرائها وإفادتها العلامة رفاعة بك (١) رحمه‌الله ونعمه فمن أراد الوقوف على التفصيل فعليه بمراجعة رحلة المذكور إلى أوروبا.

والحاصل أن الفرنساويين محصلون على الدرجة العليا في المعارف الدنياوية ولهم اعتناء بسائر الفنون فيترجمون إلى لغتهم كل كتاب في فن غير معروف أو غريب ، ويدرسون اللغات الأجنبية واللغات القديمة التي لم يبق من يعرفها وتوصلوا إلى معرفة خطوطها بوسائل جيدة ، لكن مما ينبغي علمه أن مدرسيهم في الفنون التي يقصرون فيها يستعوضون قصورهم بما لهم براعة فيه ، فترى مدرس العربية مثلا يخرج بأدنى مناسبة لفظية إلى علم الجغرافية ثم إلى علم الإقتصاد السياسي ثم التاريخ ثم الهندسة ثم الكيميا ثم وثم إلى إن ينقضي الزمان من غير أن يفيد حقيقة المقصود من بلاغة بيت شعر أو مثل مما هو موضوع البحث ، وتخرج تلامذته معجبين من براعة شيخهم وأنه علامة العربية مع أنه لا يعرف مزية تقديم المسند أو المسند إليه ، بل معادات الضمائر لا يحسنها فضلا عن الإعراب وذلك يوجب الجهل بأصل الفن والغلط من العموم بظن تحصيلهم حقيقة للغة العربية ، وقل جدا من يحسنها مع أن فيهم المتفاخرين بعلم الترجمة بل والمدعين بالتآليف فيها ، ثم إن التعاليم

__________________

(١) هو رفاعة رافع بن بدوي بن علي الطهطاوي (١٢١٦ ـ ١٢٩٠ ه‍) عالم مصري من أركان نهضة مصر العلمية في العصر الحديث ولد في طهطة وتوفي في القاهرة. الأعلام ٣ / ٢٩ الخطط التوفيقية ١٣ / ٥٣ معجم المطبوعات (٩٤٢) الفهرس التمهيدي (٣٩٥).

١٣٧

لها مكاتب على طبقات ابتدائية ووسطى وانتهائية وعليا.

فالطبقة الأولى : لا تكاد تجد قرية خالية عنها.

والثانية والثالثة : إنما توجد في المدن الكبيرة كمرسيليا.

وأما الرابعة : فلا توجد إلا في باريس وإليها تأوي التلامذة بعد استكمال معارفهم ، على أن المثرين يؤثرون التعليم من البداية في باريس بل ولا يختص هذا بأهل فرنسا ، فإن الكثير من ممالك المشرق وبعض غيرها يرسلون أبناءهم للتعلم بها ، وفضلا عن الفخر بالعلم يفتخر بالتعلم بها وهي جديرة بذلك لولا طيش في أخلاق غالب المتعلمين بها من الغرباء سيما المسلمين ، فإنهم يحدث لهم فساد في أخلاقهم لخروجهم عن الطور والأدب الداعي له العرض والدين ، وكان سبب ذلك رؤيتهم بها كثرة الخلاعة والإطلاق والنفوس مائلة إلى الخبائث نسأل الله التوفيق ، ومن أسباب ترقي المعارف كثرة الكتب وسهولة التوصل إليها ففي فرنسا ٥٠٠ مكتبة تحتوي على ٠٠٠ ، ٥٩٨ ، ٤ كتابا من الكتب المطبوعة ، و ٠٠٠ ، ١٣٥ من كتب الخط ومكتبة الأمة في باريس هي أكبر الجميع ففيها ٠٠٠ ، ٠٧٨ ، ٣ مجلدا.

مطلب في الصنائع

الصنائع في فرنسا مضاهية لما فيها من المعارف والفلاحة فيها متقدمة للغاية علما وعملا بحيث أن لها مدارس عديدة تأوي إليها التلامذة من الآفاق لأخد علومها بالتدريس والمشاهدة ، وكل مدرسة تحوي من آلات العمل وآلات العلوم الآلية للفلاحة كالطبيعيات جميع ما يحتاج إليه ، وهكذا سائر الصنائع بحيث أن مصنوعاتها متقنة ظريفة للغاية يرغب فيها في سائر الأقطار لظرفها وتحسينها ورونقها وإن كانت بعض الأقطار أمتن صناعة ، وفرنسا جامعة لكل الصنائع المعروفة في العالم حتى الخزف الصيني والمنسوجات الكشميرية يقلد عليها في فرنسا ويؤتى بالمصنوع مشابها للأصل وقد برعوا في الآلات بأنواعها سيما الكهربائية ، وقد خصوا لها معرضا سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨١ م لامتحان ما أثمرت من الفوائد وقد رأيت سنة ١٢٩٥ ه‍ ١٨٧٨ م آلات غريبة كهربائية منها آلة يمكن بها رؤية ما في داخل المعدة ، بأن توخذ قناة جيدة من اللصطيك وطرفها زجاج وتدخل في الحلق إلى أن تصل للمعدة ويجعل في أعلى الحلق مقابل المعدة مرآة صغيرة ومقابلها على اللسان مثلها ، ثم يدخل في القناة سلك معدني لين إلى أن يصل إلى الزجاج الذي في المعدة ثم يوصل بالسلك من خارج أسلاك الكهرباء المضيئة فيضيء السلك في المعدة من غير إحراق ، ويرتسم خيال المعدة بما فيها في المرآة العليا ويرتسم مثله منها في المرآة التي على اللسان ، وينظر الطبيب بالمرآة المكبرة ما يريد وبمثل ذلك ينظر في الرحم وداخل الأذن والحلق ، ورأيتهم بصدد تجربة جر الأثقال بالكهربا وأروني آلة صغيرة تغلب قوة الإنسان الجهيد إذا كان قابضا يديه تفتحهما والعكس بأسرع وقت فلا يبعد أن تطال تلك الآلة على

١٣٨

طريق مناسب وينقل بها الأشياء من مكان إلى آخر وإن بعد مع تدبير لحفظ الجسم من خرق الهواء في السرعة المحرقة ، وقد رأيت سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨١ م سير رتل صغير للتجربة بالكهربا على وجه آخر كما ذكرنا في أحوال إيطاليا ، ورأيت في باريس أيضا مساسك مصورة بأشكال حيوانات تتحرك أعضاؤها وعيونها بالكهربا مع صغر جرمها حتى يوضع المساك من الذهب في رأس المرأة والآلة الكهربائية تخفى في الشعر ويرى الحيوان متحركا ، ومنه صورة فراش بألوانه البديعة من أحجار الزمرد والياقوت الأحمر والأبيض وغير ذلك من الأحجار الكريمة المطابقة لألوان أجنحة الفراش وهو يخفق بأجنحته الأربع فوق الرأس بالكهربا وهو غريب بديع جدا.

مطلب في هيئة المساكن والطرقات

قد تقدم في إيطاليا الهيئة العامة في المساكن وهاتيك الهيئة بنفسها هي التي عليها العمل في فرنسا ، غير أن باريس وحدها تزيد رونقا بما احتوت عليه من كثرة الطرقات المتسعة جدا وبكثرة التنظيف والتنوير في الليل ، كما أنها تختص بأن بعض طرقها مستعوض عن تبليطه أو تحصيبه بطليه بنوع صمغي يسمى اسفالت ، بحيث يكون بعد الجفاف رخوا فإذا مرت عليه العجلات لا تسمع لها إلا همسا وتسمع قرع حوافر الخيل على الأرض كالتصفيق المغطوط من مزيد الهدو للركاب حتى كأن العجلة لا تتحرك ، فتلك الطرق مروحة جدا غير أنها لم تعمم لأنها في الصيف تفشو منها رائحة كريهة ولأنها في الطرق الكثيرة المرور تعطب فيها العجلات المارة بسبب عدم سماع حركتها وإمكان الغفلة من العجلتية هذا ، وأما عموم البلاد والقرى فإن لكل منها مجلسا بلديا دأبه التحسين والتنوير في الليل بالبخار الغازي أو زيت النفط وهو قليل الاستعمال أو بالكهربا وهي أيضا لم يزل التنوير بها قليلا ، ولكنك لا تجد قرية غير منورة الطرق أو غير مصنوعتها على حسب اقتدار الأهالي فضلا عن المدن والأمصار وكل طريق مسمى باسم مكتوب على مبدئه وعلى كل باب عدد خاص ، ثم إن طرق الحديد يوجد منها كثير حتى صارت فرنسا مرتبطة جميع الأطراف والأواسط ببعضها ، وعلى حافتي الطريق أخشاب شاخصة مربوط بها أسلاك حديدية علامة على حرم الطريق لكي لا يجتازه الناس ولا حيواناتهم ، ولا زالوا مجتهدين في تكثير هاته الطرق الحديدية ، ثم إن مساكن الجهات الشمالية أحكم استعدادا للبرد من الجهات الجنوبية وإن كان لهاته أيضا نصيب وافر منها بحيث لا تجد بيتا في الجميع بدون موقد إما للحطب أو للفحم المعدني أو البخار الغازي بل وبعضهم يطبخون بهذا البخار ، وقد مر أن في باريس اخترعوا التدفئة للديار من مركز عام في البلد ، ثم إن سائر الديار لا يبلط منها بالرخام أو غيره من الأحجار إلا الدرج والمجازات الخارجة ، وأما بقية البيوت والمقاصير فإنها مبلطة بالخشب المتين وتحسينه وزخرفته تبع لحالة الدار ، وكل الطواقي التي هي مثل الأبواب في الإرتفاع والإنتهاء إلى الأرض لها أبواب من خشب منجور ولها

١٣٩

أبواب نحو ثلثها الأسفل خشب وثلثيها العلويين ذوي أطباق من الزجاج ، وأكثر الطواقي لها مع ذلك أيضا أبواب من أضلاع الخشب المنجور مقصبة يتحرك تقصيبها وكل تلك الأبواب ذو دفتين ينفتحان يمينا وشمالا.

وأما الحمامات : فهي عبارة عن ديار ذات مجازات طويلة بها عدة مقاصير صغيرة كل منها يحتوي على حوض من معدن أو حجر له منفذ من أسفل يخرج منه الماء الوسخ وله أنبوبان للماء الحار والبارد وتحتوي على كرسي ومسطبة ومرآة ومشط وأرضها مفروشة بزرابي ، والاغتسال إنما هو في الحوض وكل الأهالي يعتني بتنظيم مفروشات بيته على قدر سعته والأغنياء لهم ترف زائد في الأثاث والتحف ، وفي المدن الكبيرة يقيمون أسواقا في يوم خاص من كل أسبوع في الحارات المتطرفة وحوانيته من خشب أو كتان تنصب في الطرق الوسيعة وترفع في يومها يباع بها أنواع الأكل من لحم وبقول وفواكه وبعض تحف وثياب يشتري منها أهل تلك الحارات كفايتهم للاسبوع.

مطلب في اللبس

اللبس في فرنسا وفي إيطاليا سواء عند الرجال والنساء وكذلك اللبس الرسمي والعسكري إلا بعض شارات وألوان في الملبوسات تختلف بينهم.

أما أصل الهيئة فواحدة وحيث كانت الرفاهية في الفرنساويين أزيد فتجد نساءهم أكثر تبدلا في ألوان اللباس وشكله ورفعته على الجملة ، كما أنهن أزيد أيضا في وضع دقيق أبيض وأدهان أخر على وجوههن قصدا للتزين وإن كان ذلك يورث فسادا في البشرة ، وأكثر ذلك العمل في نساء باريس وتراهن يتفاخرن بالنحول واصفرار اللون لأنه كثيرا ما يحدث من كثرة السهر أو العشق وكلاهما ممدوح عندهم ، لأن السهر ينشأ من اجتماع الأحبة والاجتماع يستدعي المصاريف فهو علامة على الغنى بالوسائط ، كما أن من علامة الكبرياء أن تكون خدمة البيتوتات في المحافل يذرون على رؤوسهم غبارا أبيض ، والأصل فيه أن بعض المغنين كانوا يغنون في موسم «صان جرمان» بخارج باريس وبهم قرع فبيضوا رؤوسهم ليضحكوا الناس ، فتدرجت العادة شيئا فشيئا إلى أن فشت سنة ١٦١٤ ثم في سنة ١٧٩٥ جعلت عليه ضريبة للدولة واستمرت إلى الآن.

مطلب في الأكل

هيئة الأكل في فرنسا هي الموجودة في إيطاليا على السواء وكذلك المأكولات سواء غير أن طعام الفرنسيس أكثر أشكالا وألذ طعما لجعلهم الأبزرة في الطبخ أحسن من الطليان ، ولذلك تجد لطعامهم رائحة لذيذة مثل رائحة طعام العرب.

وفي المدن : توجد أنواع الخبز على مراتب شتى ولهم نوع يؤكل صباحا مع اللبن والزبدة جيد جدا صنعة وصفاء وطبخا ، وفي خصوص باريس جميع أنواع الأطعمة

١٤٠