صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

والساعات لم يتكاثر كغيره ولا يلبث أن يعم ، واتحاد ساعات البلد أمر مهم جدا في كثير من الأمور ولهذا كانت أوقات طرق الحديد في كل مملكة معتبرة على قاعدة تلك المملكة فتجد جميع ساعات المحطات متحدة على وقت واحد.

الفصل الثالث : في بقية البلدان التي شاهدتها بفرنسا

فأولها : بلد «فرسال» هي غربي باريس تبعد عنها مسير نصف ساعة في الرتل وهي منتزه الملوك وبها قصور أنيقة وبدائع من تحف الملوك ومآثرهم ، ومنها الكراريس الرسمية التي تبلغ قيمتها الملايين لما فيها من الذهب والفضة وإتقان الصنعة ، وحول تلك القصور البساتين والحدائق الجميلة ذات المياه الدافقة والبرك الواسعة ، قد جعل فيها سنة ١٢٩٥ ه‍ وهي سنة المعرض عدة ليال للزينة واندفاع المياه ، فرأيت هاتيك الحدائق ملونة بقناديل الأنوار المحاكية كثرة النجوم وشماريخ البارود بألوان وأشكال صاعدة وفائضة ودائرة ، ومنابع المياه طائرة في الهواء كل عمود منها في غلظ نحو نصف ذراع مرتفع عن منبعه نحو أربعين ميترو فكأنها منائر من الزجاج تبرق بسطوع الأنوار عليها ، وكذلك أنواع أخر من المنابع ترمي إلى أمامها على استقامة إلى أمد بعيد وكل تلك المياه منبعثة من نهر السين بآلات قوية بخارية والمتفرجون عدة مئات الألوف ، وحول البلاد غابات ومماشي جميلة والبلاد واسعة الطرق نظيفة ظريفة والقصور الملوكية ليس بها من المفروشات إلا قليلا من آثار الملوك متحفظين عليها على ما كانت عليه ، وقد رأيت بها كلا من مجلس الأعيان والنواب إذ كانا نقلا إلى هناك بعد حرب ألمانيا سنة ١٢٨٧ ه‍ ١٨٧٠ م ، وكان جلوسي في بيت رئيس الجمهورية إكراما منه لي على عادتهم في الإكرام بمثل ذلك ، فأما مجلس الأعيان فلم يكن به شيء من المسائل المهمة ذلك اليوم إذ هو يوم لتصحيح قانون استقر عليه رأيهم في استقراضات وإصلاحات للولايات ، حتى رأيت الأعضاء كل مشتغل بالحديث مع صاحبه والكاتب يقرأ في القانون ولما كثر اللغط نبههم الرئيس مرارا للإستماع فكأنه لم يخاطب أحدا واضطر للسكوت ، وذلك لأن ذلك القانون قد تباحثوا فيه مرارا واستقر الرأي فيه وطبع ووزع على الأعضاء وعرفوه تفصيلا فكانت قراءة الكاتب إليه قراءة رسمية ، ليقع الإمضاء عليه فقط.

وأما مجلس النواب فتذاكروا فيه على مسألتين.

أولاهما : طلب وزير المال للرخصة في صرف خمسة آلاف فرنك على جنازة أمير آلاي بلغ السبعين سنة من العمر ومات تحت السلاح فقيرا بعد أن ذكر تاريخ حياته ومآثره ، وطلب إجراء ستة آلاف فرنك سنويا لعائلته وأن ذلك المطلب استقر عليه رأي الوزراء ، فما ختم كلامه إلا وارتفعت الأصوات من جهات اليمين منكرين لذلك وردت عليهم أصحاب الشمال واشتد الوطيس بين الفريقين إلى أن التزم الرئيس بإسكاتهم ، ورام اتباع القرعة ، فخرجت الأكثرية بموافقة الوزراء فقلت لرفقائي : هل رأيتم ما وقع؟ قالوا : نعم ، لكن ما

٨١

قصدك؟ قلت : إن دخل دولة فرنسا نحو ثلاثة آلاف مليون وقد اتفق وزراؤها ورئيس الدولة على صرف خمسة آلاف فرنك على رجل بذل في خدمة دولته والدفاع عن أمته مجموع عمره ومع ذلك لم تستطع الدولة أن تنفذ أمرها في مال الأمة إلا بعد مشورة أهل الحل والعقد وموافقتهم وبمثل ذلك لا يصرف المال إلا في وجهه لا على اختيار فرد ولا على مداراته ، ثم قام وزير الخارجية وذكر ملخصا في تجديد معاهدة تجارية مع إيطاليا وأن شرح النازلة يوفي به أخوه الذي هو أيضا عضو في المجلس ، فقام هذا العضو خطيبا نحو ساعة وذكر ملخص تاريخ التجارة بين المملكتين وأن إيطاليا أرجح تجارة من فرنسا وطلب تعديل فصول في المعاهدة السابقة فوافقوه على ذلك.

وثانيها : بلد السيفر وهي قرية على نهر السين قريبة من باريس نحو نصف ساعة في العجلة وبها معمل السيفر للخزف وبستان أنيق وقصر ملوكي.

وثالثها : بلدة «صان أكلوا» بقرب السابقة وقريبة من هيآتها ، والحاصل أنك إذا خرجت من باريس راكبا كروسة إلى فرسال فإنك ترى كأن البلاد الثلاثة المتقدمة متصل بعضها ببعض ، وينتقل من واحدة إلى أخرى بالرتل وبالكروسة وبالتراموي وبالأمنيبوس وبالبواخر النهرية سوى فرسال ، فإن النهر لا يحمل السفن إلى قربها.

ورابعها : بلدة «فونتين ابلو» التي هي أصغر من فرسال وعلى نحوها ، لكن ليس بها إلا قصر واحد ملكي وبه أثاث لنابليون الأول ، ومنها مائدة كانت أمامه وقت إعلامه بانكسار جيوشه عند تعصب أوروبا عليه وكان بيده موسى فضرب به المائدة غيظا ولا زال أثره فيها ، لكن هاته البلد تفضل غيرها بما حولها من الغابة ذات الأشجار الفائقة ، ومحيط الغابة نحو أربعين ميلا وفيها من الطرق والمقاعد ما يفرح النفوس ، وفي وسط الغابة قهاوي ومعامل لخرط تحف من أخشاب الغابة ، وفيها كثير من الصيد كبقر الوحشي وغيره والغابة متصاعدة في جبال جميلة بما كساها الله من النبات ، وفيها صخرة يعتنى بالتفرج عليها سقطت على حجارة صغيرة كانت في الوسط فصارت الصخرة تتحرك كلما حركها أحد مع عظم جرمها ، وفي الجبال عيون كثيرة ويجري حول البلد نهر فهي من منازه فرنسا المقصودة.

وخامسها : بلدة «اليون» وهي بلدة كبيرة ذات بطحاآت وبناآت أنيقة ويخترقها نهران أحدهما ، يسمى «هالرون» منحدر بسرعة وتسافر فيه البواخر بقلة. وثانيهما : نهر «السون».

ثم يجتمع النهران خارجها ويذهبان إلى البحر ، وهي متوسطة بين مارسيليا وباريس ، ومنظر الجبل الذي حولها جميل سيما جهة منتزهها المطل على النهر الأول ويصنع في مطاعم ذلك المنتزه طعام من سمك النهر الأحمر ويتغالون في ثمنه ، وعلى النهر عدة جسور في البلد أحسنها الجسر الحديد ذو القوس الواحد المعلق وسطه في أطرافه بسلاسل ، وأحسن أماكن هاته البلدة هو بطحاؤها الكبرى التي بها قصر «البورس» وقصر الحاكم ، وأهاليها يظهر عليهم الجد في الصناعة لأن هاته البلدة هي أشهر البلاد الفرنساوية بمنسوجات

٨٢

الحرير ، فكانت السكان قليلو الجولان في الطرقات إذ أغلبهم معتكف في المعامل وتجارة أهلها شهيرة في المعمور ، ورأيت فيها النفق في الجبل الذي يصعد فيه الرتل صعودا بينا ، حيث كان قسم من البلد في أعلى الجبل وقسم في أسفله فجعلوا طريقا حديديا ولتقريب الطريق واستقامته ثقب له الجبل حتى يصعد مستقيما وجعلت فيه حافلة وسيعة تحمل نحو خمسين نسمة ويجذبها للإصعاد حبل من سلوك من الحديد بآلة بخارية إلى أن تصل إلى أعلى الطريق فينزل الركاب منها ، ويسمى ذلك «بالتونيل» وأقمت بهاته البلد يوما وليلة وهي ليست إلا شغلا للتجارة.

وسادسها : بلدة «مارسيليا» التي هي أعظم مرسى تجارية لفرنسا بل وفي البحر الأبيض ، وهي بلدة كبيرة ذات جمال ونزهة وفيها حركة عظيمة للتجارة إلى سائر الأقطار ، وفيها أخلاط من السكان من سائر الأقطار وأحسن طرقها طريق «كانوبيار» فيه قهاوي ومقاعد ربما فاقت بجمالها على قهاوي باريس ، وفيها منتزه يسمى «اشاتودو» في أعلى مكان بها ومنه ينحدر الماء المجلوب إليه على حنايا ذات بناء متين ومحل انقسام الماء له منظر بديع من حسن البناء وتأنيقه وحوله حديقة نزهة ، وبها حيوانات عديدة من أنواع شتى ، ومن محلات نزهتها دار الآثار القديمة قرب شاطىء البحر وقرب محل السباق ، وأنزه قصر بها هو القصر المسمى أوتيل «دوديزيرف» المتخذ مطعما على ربوة من الجبل المحدق بالبلد يحيط بالقصر من جميع جهاته رواقات على أسطوانات بشكل جميل مع تنميق للبناء وحسن الفرش والمأكل ، يحيط به حديقة ظريفة فهو نزهة للخواطر ولولا أن منظره للبحر عشية تكدره الشمس لأنه غربي ، لكان أجمل ما رأيته من نوعه. أما قوة حركة التجارة بهاته البلدة فهي عبرة للمتبصرين وذلك أنك تشاهد من حركة العجلات والسفن والقوارب والأرتال وكثرة البضائع من أنواع شتى داخلة وخارجة إلى الصين وأمريكا وسائر الأقاليم ، وترى من المخازن التي هي حقيقية بإسم قرى لكبرها وكثرة ما فيها من السلع ما يحير الفكر ، كما أن قصر «البورس» بها يكاد يناكب بورس باريس. والحاصل أنها هي ثاني بلد لباريس فيما رأيته بفرنسا ، وأما مرساها فهي ذات حوضين عظيمين لا من السفن وترى فيها من البواخر وغيرها ما يشبه الغابات المحتبكة ، وقد وردت على هاته البلدة ثلاث مرات في سفراتي وأقمت بها عدة أيام ذهابا وإيابا.

وسابعها : بلدة «طلون» التي هي أول مرسى حربي على البحر الأبيض وهي بلدة حربية إذ لا نضارة لها ولا انشراح بالنسبة لغيرها ، لكن فيها من الحصون والأحواض لإنشاء السفن والمدرعات والمعامل لإنشاء المدافع والكلل والألغام البحرية وغير ذلك من قوات الحرب شيء كثير ، ورأيت فيها إحدى عشر حوضا بكل واحد سفينة مشتغل بإنشائها منها ما هو على تمام ومنها ما هو في البداءة والخلائق منكبون على الاجتهاد كالنمل في المصيف.

وقد كان سفري إليها سنة ١٢٩٥ ه‍ ، وكان مصاحبا لي في الرتل سفير الصين القادم بالإستدعاء للمعرض وهو وزير البحر عندهم ، وهو رجل مسن شعره خفيف على عادة أهل

٨٣

الصين وكل لحيته وشواربه بيض نحيف الجسم ومعه غلمان لا أدري أهم أبناؤه أم أتباعه ، ومعهم غيرهم من الأتباع مجموعهم نحو ثلاثة عشر رجلا ، وكان راكبا في حافلة منفردة هو وأتباعه والحافلة ذات مخادع ومقاصير ومرافق بحيث لم ينزل منها مدة السير إلى أن وصلنا إلى «طلون» فنزل هناك حيث أعدت له دولة فرنسا باخرة حربية ذات طبقتين من المدافع لتوصله إلى مرسى بلده في الصين وكانت الباخرة مباحة ذلك اليوم للمتفرجين ، والحاصل أن هاته البلدة بلدة حربية تظهر عليها سمات القوة والشارات العسكرية وأقمت بها نحو ستة ساعات.

وثامنها : بلدة «نيس» التي هي على شاطىء البحر وهي مأوى الأغنياء وذوي الترف من الفرنسيس وغيرهم من أهالي الأقطار الباردة في الشتاء ، وذلك لأن موقعها على جون مستقبل الجنوب ويحيط بها من بقية الجهات سلاسل جبال شاهقة تمنع عنها مرور الرياح الباردة فكانت مأوى في الشتاء حسنا ، وكثرت بها القصور والمباني الجميلة ومنازل المسافرين الرحيبة وجميع ديارها صغيرة لا تزيد على أربع طبقات سوى منازل المسافرين ، وذلك لأن عادة الإنكليز في بناءاتهم على ذلك النحو وهم أكثر القادمين إلى هاته البلدة ، ولأن غيرهم أيضا إنما يقدم منهم ذوو الترف المتعودين على سكنى الإنفراد فلذلك كانت مبانيها جميلة ظريفة ، وسياج حدائقها من الآجر أو الحجر مرصوف على أشكال حسنة ، والبلدة يشقها نهر تجري فيه المياه عند نزول الأمطار فقط وعليه عدة قناطر ، ولها عدة ملاهي لكن لما قدمت لها صيفا وجدت البلد كأنه خال عن السكان لقلة من به بالنسبة لكثرة البساتين والديار المنفردة وليس بها ملهى مشتغلا سوى الملهى الصيفي على شاطىء البحر ، ويقرب من هاته البلدة عدة بلدان هكذا على نحوها ظرافة ونزاهة وأقمت بها ليلة ويوما.

وتاسعها : بلدة «أياتشو» وهي قاعدة جزيرة قرسكا وهي مرسى أمنية صناعية ومن عاداتهم في المراسي أن البواخر مهما وصلت تتمم أشغالها الليل والنهار سواء فتحمل السلع وتنزل غيرها وكذلك الركاب بحيث أن ساعاتها المعينة لا تتأخر عنها ، ويجد المسافر في المرسى وحولها ضروريات ما يحتاج إليه وهي منورة وهاته البلدة ظريفة جميلة ذات أشجار كثيرة من النارنج والليمون فكانت رائحة الزهر عند دخولي إليها في الربيع عابقة ، وفيها بطحاء وسيعة بوسطها صورة نابليون الأول والدار التي ولد بها لا زالت على هيئتها وفرشها للتحفظ عليها كالمصالح العامة لأنه من رجال السياسة المعدودين في الدنيا ورقى اسم فرنسا إلى درجة عظيمة وهو في الأصل من عموم أهالي هاته البلدة ، وأقمت فيها بضع ساعات ولما أوقدت المصابيح ليلا عند الغروب ثم طلع البدر نقصوا النصف منها اقتصادا.

فهاته هي البلدان التي دخلتها وأقمت فيها بفرنسا في السفرات الثلاث ، وعند رجوعي إلى الوطن في السفرة الأولى راكبا من مرسيليا وكان ذلك في يناير الموافق لمحرم سنة ١٢٩٣ ه‍ ليلا صادفت هيجانا عظيما في البحر حتى كادت أن تهلك الباخرة بمن فيها وانكسر منها عمودان من حديد معلق فيهما قاربا ومات ثلاثة من الخيل وانكسرت رجل

٨٤

أحد الركاب ولم يستطع أحد ولو من النوتية أن يتحرك من محله ، وجاءني السفن صباحا بعد هدو البحر مهنيا بالسلامة وأخبرني أنه لم ير مثل تلك الليلة وأنه ربط نفسه بحبل مع عمود الباخرة ليستطيع الثبات في مكانه وما وصلت الباخرة إلى جزيرة كرسكا إلا بعد ميعادها بإثني عشر ساعة.

ومن غرائب المرائي أني رأيت في الليلة الثانية في البحر أن سنة من أسناني سقطت وكأن أحبائي سألوني عنها وكنت أسلي نفسي بأنها كانت غير ثابتة بل مضطربة ولذلك لم أجد ألما في نزعها فلما أفقت انقبضت من تلك الرؤيا ولم أعلم ما تشير إليه ، فلما وصلت إلى الوطن ظهر لي في أوجه الأحباب الملاقين غبارا وفي أثناء الطريق سرد عليّ الفاضل محمد السنوسي (١) هاته الأبيات قال :

فاشكر الهك واذكر النعم التي

ردتك بعد تلاحم الأهوال

فأتيت أرضك سالما وأعز ما

تلقاه فيها فوزكم بالآل

فترى بنيك من السلامة في حلى

موصوفة منكم بكل كمال

وجميع أهلك والأحبة كلهم

يلقونكم بتساحب الأذيال

هذي هي النعم التي لم نوفها

حق الثناء على الولي المفضال

وهو الذي أبقى إليك الأخت كي

تسمو بعزك في حلى الإجلال

إذ لم تصب في غير ليلة أمسنا

والآن ترقب منك خير هلال

فاشكر الهك صابرا متيقنا

بجزيل فضل الواحد المتعالي

فأعلمتني بوفاة أختي الوحيدة رحمها الله ونعمها وكنت تركتها مريضة بالسل فتوفيت ليلة قدومي بعد تلك الرؤيا بليلتين وحضرت جنازتها ، ولم أعلم بأن رؤيا مثل ذلك تدل على موت الأقارب إلا بعد أن حللت في الاستانة سنة ١٢٩٧ ه‍ فذكر مثل في الوصول إلى المقصود بالملاطفة ، وهو أن أحد الملوك كان رأى أن جميع أسنانه سقطت ، فأتى بمعبر فقال له : سيموت جميع أهلك ، فبطش به ، ثم أتى بمعبر آخر فقال له : إن الملك أطول عمرا من جميع عائلته فأجازه ، فتعجبت بتذكر تلك الرؤيا إلى أن قال لي المتحدث : إن أمر هذا مشهور في علم الرؤيا فقلت نعم ها أنا قد شاهدته في نفسي لكني لا أريد معرفة هذا العلم لأنه يشوش الفكر ولا يكاد يتوصل إليه إلا قليل ، لأن له شروطا في الإحاطة بأحوال الرائي ووقت الرؤيا والإحاطة بالمرئي إلى غير ذلك وربما غفل عن شيء منها فيتغير المعنى ، وأما أصل العلم فلا شك في ثبوته (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا

__________________

(١) هو محمد بن عثمان بن محمد السنوسي أبو عبد الله (١٢٦٧ ـ ١٣١٨ ه‍) أديب له اشتغال بالتاريخ والنظم مولده ووفاته بتونس. كان يحرر جريدة الرائد التونسية الرسمية وعين حاكما في القسم الجنائي بمحكمة الوزارة بتونس ومدرسا بجامع الباشي فيها. له مجمع الدواوين التونسية ، جمع فيه دواوين الشعراء التونسيين المتأخرين في عدة مجلدات. الأعلام ٦ / ٢٦٣ شجرة النور الزكية (٤١٧).

٨٥

قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ويكفي في ثبوت هذا العلم الأحاديث المروية في صحيح البخاري ومنها : أن الرؤيا الصالحة جزء من ثلاثة وستين جزءا من النبوّة (١).

وأما سفرتي الثانية ، إلى فرنسا سنة ١٢٩٥ ه‍ فكانت من تونس إلى مرسيليا توا بمرور الباخرة البريدية على بلد بونة من أعمال الجزائر ، وكان البحر في غاية الهدو حتى رأيت على سطح الماء قطعة من نبات بحري مثل قطع القطن المنفوش متكاثرة وهي قليلة الظهور وإنما ترى عندما يكون الماء في غاية السكون ، كما رأيت أعمدة من البحر منبعثة بقوة مثل أعظم الفوالق فأخبرني أنها من نوع سمك يفعل ذلك وأن منها العظيم الذي إذا صادف عمله ذلك إحدى السفن الصغيرة ربما أغرقها وهو من عجائب المرئيات ، وكذلك عند رجوعي من هاته السفرة كان البحر مثل ذلك إلى أن وصلنا إلى بلد الجزائر وكان الوصول إليها صباحا بعيد الشروق لكنا لم نر البر ، وكان السفن أخبرنا بالوصول لكنه لما لم ير البر مع تيقنه بالحساب للوصول التزم الوقوف وذلك لكثرة الضباب المتكاثف ذلك الصباح فما انقشع الضباب بحر الشمس إلا ووجدنا البركانة في مقدم الباخرة والمرسى عن يمينها ، فكان من لطف الله التدارك بالوقوف والتزمت الباخرة أن ترجع القهقرى إلى أن تيسر لها الدوران ودخلت المرسى ، وسيأتي الكلام على مملكة الجزائر في باب مخصوص.

وأما السفرة الثالثة : فكانت على طريق إيطاليا ومنها إلى فرنسا ومنها إلى انكلاتيرة وهكذا الرجوع ولم يكن البحر إذ ذاك إلا على ما هو معتاد ومما حدث في الوطن في سفرتي الأولى وبلغني خبره وأنا في باريس ظهور دعوى وقعت لها طنطنة من الشيخ المسن التقي أحمد بن المهدي في العمل بالسنة حسب إدراك كل من فهمها وترك الأخذ بأقوال الأئمة المجتهدين ، واختلفت الروايات في الواقعة ومدارها تصميمه على رأيه وتعصب العلماء عليه إلى أن حكموا بنفيه ، فارتحل إلى مكة المكرمة ومات بها رحمه‌الله.

وتحرير الكلام على المسألة باختصار حسبما وعدنا به في الكلام على أئمة جزيرة العرب هو أن يقال إن الشيخ المذكور هو من تلامذة الشيخ السنوسي (٢) ذي السيط الشهير

__________________

(١) الحديث نحوه في : البخاري برقم (٦٩٩٠ ـ ٦٩٨٩) وفي سنن ابن ماجه برقم (٣٨٩٧) وفي مسند الإمام أحمد ١ / ٣١٥ ، ٢ / ١٨ ، ٤ / ١٠ ، ٥ / ٤٥٤ وفي مجمع الزوائد ٣ / ١٧٣ وفي التمهيد لابن عبد البر ١ / ٢٨١ وفي دلائل النبوة للبيهقي ٧ / ٩ وفي الكامل لابن عدي (١٤٧٣) وفي الدر المنثور ٣ / ٣١٣ وفي مشكاة المصابيح (٤٦٠٨) وفي اتحاف السادة المتقين ١ / ٢٢٦ ، ٩ / ٢٧٣ و ١٠ / ٤٢٤ وفي كنز العمال (٤١٤٠١ ـ ٤١٤٠٤).

(٢) هو محمد بن علي بن السنوس أبو عبد الله السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي (١٢٠٢ ـ ١٢٧٦ ه‍) زعيم الطريقة السنوسية الأول ومؤسسها. ولد في مستغانم من أعمال الجزائر وتعلم بفاس وتصوف وبنى زاوية في جبل أبي قبيس ، ثم رحل إلى برقة سنة (١٢٥٥ ه‍) وأقام في الجبل الأخضر فبنى الزاوية البيضاء. وكثر تلاميذه وانتشرت طريقته فارتابت الحكومة العثمانية في أمره فانتقل إلى واحة جغبوب فأقام بها إلى أن توفي فيها ، له نحو أربعين كتابا ورسالة. منها : «الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية». الأعلام ٦ / ٢٩٩ ، فهرس الفهارس ١ / ٦٨ وشجرة النور الزكية ١ / ٣٩٩.

٨٦

علما وعملا ، غير أن هذا التلميذ هو دون شيخه بمراحل في العلم فألف رسالة أراد أن يذكر فيها طريقة شيخه فلم يوف بها وتغير المعنى المقصود لشيخه ، إذ مدار هاته الرسالة أن لا يقلد أحد إلا المعصوم ولذلك يجب على الأمة أن لا يعملوا إلا بالكتاب والسنة ويتركوا ما وراءهما ولا يخفى أن ظاهر ذلك يوقع في إفساد الشرع حيث أنه لا مخالف في أن لا أتباع إلا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما في الكتاب والسنة ، لكن أين أهل الفهم منهما. وأين أدوات ذلك التي كانت في صدر الإسلام سليقة وصارت على التدريج صناعة وعلوما تتعلم وتدلى الأمر حتى لم يبق من يوفيها حقها؟ فإذا سوغنا لكل أحد أن يعمل بما يفهم مع ما هو عليه من الجهل كان ذلك هو عين الفساد ، ولذلك لزم اتباع الإجماع والاجتهاد من أهله المسلم إليه وقد كانت المجتهدون كثيرين في الصدر الأول ، فمنهم من كثرت أتباعه وتسلسل النقل لأقواله إلى الآن وهم الأئمة الأربعة أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل رضوان الله عليهم. ومنهم من انقطع النقل عنه فلا يجوز الآن تقليده لعدم صحة السند في مذهبه بالنسبة لأهل العصر ، وإلا فكلهم سواء بالنسبة للمقلد وكل من ليس له ملكة الإطلاع على الأدلة ومناطاتها وترجيحها فهو عامي وله أن يقلد من شاء من الأئمة المجتهدين ، لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء : ٧] وبذلك تحفظ الشريعة لأن سند الاجماع هو نص من الشارع ، وسند القياس هو الإستنباط من نص الشارع أيضا ، فرجع الأمر إلى أن لا عمل إلا بالكتاب والسنة ، والشيخ السنوسي رحمه‌الله مقرر لذلك في رسالة له ألفها في المعنى المتقدم واختصرها تلميذه اختصارا مخلا ، وذلك أن الشيخ السنوسي قرر في رسالته «وجوب الاتباع للشارع والتباعد عن العمل بالرأي والبدع. وحث على وجوب إخراج المكلف نفسه من حضيض التقليد إلى درجة الاجتهاد (١) والكمال حتى

__________________

(١) الإجتهاد : هو استخراج الأحكام التي لم يرد فيها نص صريح لا يحتمل إلا معنى واحدا من الكتاب والسنة.

فالمجتهد : من له أهلية ذلك بأن يكون عالما بالأحكام في كتاب الله ـ وبناسخه ومنسوخه ـ وعامه وخاصه ومطلقه ومقيده وغير ذلك ، ويستدل على ما احتمل التأويل بالسنة وبالإجماع فإن لم يكن فبالقياس على ما في الكتاب ، فإن لم يكن فبالقياس على ما في السنة ، فإن لم يكن فبالقياس على ما اتقف عليه السلف وإجماع الناس ولم يعرف له مخالف ، ولا يجوز القول في شيء من العلم إلا من هذه الأوجه ، ولا يكون صالحا لأن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقوال السلف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب ، ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات ولا يعجل ويسمع ممن خالفه ليتنبه بذلك على غفلة إن كانت ، وأن يبلغ غاية جهده وينصف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما قال. وتشترط العدالة وهي السلامة من الكبائر ومن المداومة على الصغائر وهي أن تغلب على حسناته من حيث العدد ، ويشترط فوق ذلك شرط هو ركن عظيم من الإجتهاد وهو فقه النفس. أي قوة الفهم والإدراك.

أما المقلد : فهو الذي لم يصل إلى تلك المرتبة بل يعمل بما قال المجتهدون كالشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة. والدليل على أن المسلمين على هاتين المرتبتين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نضّر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها ، فرّب حامل فقه لافقه له» اخرجه الطبراني في الكبير ١٧ / ٤٩ والهيثمي في مجمع الزوائد ـ

٨٧

يقدر أن يفهم كلام الشارع ، ثم ذكر شروط ذلك». وأنه إذا ابتلي الإنسان بالتقصير فحينئذ يلتجىء إلى تقليد أئمة الهدى وعلى الناقل عنهم أن يتثبت في السند لكي لا ينسب لأحد ما لم يقل به كما يقع كثيرا في تفريعات بعض المتأخرين فيخطئون في التخريج ومع ذلك ينسبون القول لأحد الأئمة فيما لم يقل به ، بل نقل عنه أنه قال على ما هو عليه من العلم

__________________

ـ ١ / ١٣٨ الشاهد في الحديث قوله : «فرب حامل فقه لا فقه له». وفي رواية الترمذي وابن حبان كما في الترتيب ١ / ١٤٣ : «فرب مبلغ أوعى من سامع» فإنه يفهمنا أن من الناس من حظه الرواية فقط ، وليس عنده مقدرة على فهم ما يتضمنه الحديث من المعاني. وفي لفظ لهذا الحديث : «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. وقد عدّ علماء الحديث الذين ألّفوا في كتب مصطلح الحديث : [علوم الحديث لابن الصلاح (٢٩٦) وتدريب الراوي للسيوطي ٢ / ٢١٨]. المفتين في الصحابة أقل من عشرة فإذا كان الأمر في الصحابة هكذا فمن أين يصح لكل مسلم يستطيع أن يقرأ القرآن ويطالع بعض الكتب أن يقول : «أولئك رجال ونحن رجال فليس علينا أن نقلدهم». وقد ثبت أن أكثر السلف كانوا غير مجتهدين بل كانوا مقلدين للمجتهدين منهم ما روي في صحيح البخاري في كتاب الأحكام باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور. ونصه : «أن رجلا كان أجيرا لرجل فزنا بامرأته فسأل أبوه فقيل له : إن على ابنك مائة شاة وأمة. ثم سأل أهل العلم فقالوا له : إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فجاء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زوج المرأة فقال : يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا (أي أجيرا) على هذا وزنا بامرأته فقالوا لي على ابنك الرجم ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة ثم سألت أهل العلم فقالوا : إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة فردّ عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» فهذا الرجل مع كونه من الصحابة سأل أناسا من الصحابة فأخطئوا الصواب ، ثم أفتاه الرسول بما يوافق ما قاله أولئك العلماء.

فإذا كان الرسول أفهمنا أن بعض من كان يسمعون منه الحديث ليس لهم فقه أي مقدرة على استخراج الأحكام من حديثه وإنما حظهم أن يرووا عنه ما سمعوه مع كونهم يفهمون اللغة العربية الفصحى فما بال هؤلاء الغوغاء الذين يتجرأون على قول : أولئك رجال ونحن رجال.

وفي هذا المعنى قصة الرجل الذي كان برأسه شجة فأجنب في ليلة باردة فاستفتى من معه فقالوا له : اغتسل ، فاغتسل فمات. فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قتلوه قتلهم الله» : [أخرجه أبو داوود كتاب الطهارة باب في المجروح يتيمم]. فإنه لو كان الإجتهاد يصح من مطلق المسلمين لما ذمّ رسول الله هؤلاء الذين أفتوه وليسوا من أهل الفتوى. ثم وظيفة المجتهد التي هي خاصة له «القياس» أي أن يعتبر ما لم يرد فيه نص بما ورد فيه نص لشبه بينهما.

فالحذر الحذر من الذين يحثون أتباعهم على الاجتهاد مع كونهم وكون متبوعيهم بعيدين عن هذه الرتبة فهؤلاء يخربون ويدعون أتباعهم إلى التخريب في أمور الدين.

وشبيه بهؤلاء أناس تعودوا في مجالسهم أن يوزعوا على الحاضرين تفسير آية أو حديث ثم يبدي كلّ رأيه مع أنه لم يسبق لهم تلق معتبر من أفواه العلماء ، وهؤلاء المدعون شذوا عن علماء الأصول لأن علماء الأصول قالوا : القياس وظيفة المجتهد. وخالفوا علماء الحديث أيضا فالإجتهاد مشروع لأهله وليس لكل فرد من أفراد المسلمين وإلا لضاع الدين والفوضى لا تليق بالدين. قال الأفوه الأودي :

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

٨٨

واتساع الباع : أني إذا استفتاني مستفت من ملتزمي مذهب مالك فإني لا أفتيه إلا بما نقل عن ذلك الإمام ولو كنت مرجحا لغير قوله : «حسبما اطلعت عليه من الأدلة ، وذلك لأن المستفتي إنما سألني عن قول مالك لا على قولي».

والحاصل أنه في نفسه يرى صحة الاجتهاد له ويرى على كل مكلف إبلاغ نفسه إلى تلك الدرجة فإن لم تحصل فليقلد المجتهد ، ورأيت في تأليف كثير من أهل العصر في الهند النحو إلى هذا المنحى وأن من له إطلاع على الأدلة ومناطاتها يجب عليه اتباع الدليل ، وكان هؤلاء العلماء يريدون من هو من طبقة أهل الترجيح المنصوص عليها في كتب الفقه.

الفصل الرابع : في التعريف بفرنسا

اعلم أن فرنسا من ممالك أوروبا الغربية وتبتدىء من عرض درجة ٤٢ ودقيقة ٢٠ شمالي إلى درجة ٥١ ودقيقة ٥ من العرض المذكور ، ومن طول درجة ٦ ودقيقة ٥٠ شرقي إلى درجة ٧ ودقيقة ٩ من الطول الغربي ، لأن مبدأ الطول عند كثير من المتأخرين هو باريس التي هي قاعدة هاته المملكة ، ويحدها جنوبا البحر الأبيض وإسبانيا ، وشرقا إيطاليا وسفيسرة وألمانيا والبلجيك ، وشمالا بحر المنش وخليج كالي الفاصل بينها وبين إنكلاتيره ، وغربا البحر المحيط الغربي ، فلذلك كانت ذات موقع جسيم ونفوذ برا وبحرا في ثلاثة أبحر محيطة بها ، ويتبعها عدة جزر منها : كرسيكا وجزر يارس في البحر الأبيض ، وجزر ري وأوليرون وويسان في المحيط ، وفيها جبال كثيرة وأعظمها جهة الشرق كالجورا وآلاب وتتصل بسلسلة مارة جهة الشمال إلى جهة الجنوب الغربي ، فتصل بجبال بيرني الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا ، وأعلى جميع جبال فرنسا هو جبل «أوروفان» ارتفاعه على سطح البحر ٦٢٣٠ قدما وليس بها جبال بلكانية.

وأما أنهرها : فهي كثيرة وليس بها ما يحمل السفن الكبيرة وإنما البعض منها يحمل الصغيرة وأشهر أنهرها : نهر السين ، الذي يخترق باريس وطوله ٤٥٠ ميلا ويصب في «المنش» ، ثم نهر السوار وطوله ٦٠٠ ميلا ويصب في المحيط الغربي ، ونهر رون وطوله ٥٤٠ ميلا وهو عميق سريع السير ويصب في البحر المتوسط ، ونهر جيرون ويصب في البحر الغربي إلى غير ذلك من الأنهر. وبها من الترع نحو من تسعين ترعة ولا زالوا مجتهدين في تكثيرها ، ووصلت الأنهر والبلدان بعضها ببعض لنقل الركاب والبضائع زيادة على سقي الأراضي ويبلغ طول هاته الترع جميعا نحو خمسة آلاف ميل وأما بحيراتها فلم أعلم فيها إلا ثلاثة.

أولاها : بحيرة «ديبورجي» حذو جبل «المونسني» حلوة محدق بها منظر جميل ويمر على شاطئها طريق الحديد.

وثانيتها : بحيرة «دنسي» قرب جبل آلاب وكلاهما جار يصب في نهر الرون.

٨٩

وثالثتها : بحيرة «آن قان» قرب باريس.

وأما هواؤها فالجهة الشمالية منها باردة والجهة الجنوبية معتدلة وينزل الثلج فيها جميعا شتاء ومع ذلك فهواؤها سليم لائق بالصحة ولا يقع فيها الضباب إلا بقلة وهو متعب جدا ، فقد صادفته في سنة ١٢٩٢ ه‍ وذلك أني ذهبت زائرا أحد معارفي قرب الغروب نحو الساعة الرابعة بعد الزوال فخرجت في الساعة السادسة بعد مضي الغروب بنحو الساعتين ، فوجدت الطرقات في غاية الظلمة ولم أدر إلى أي جهة الطريق فتعجبت من ذلك وسألت صاحب الباب ما بالهم لم ينوروا الطرقات تلك الليلة؟ فقال : كلا ، ولكن الضباب منع نور الفوانيس من الظهور مع ما عليه باريس من كثرة التنوير ، فأرسلت ليؤتى لي بكروسة فلم يدر المرسل الطريق واضطررت إلى تتبع اللمس للحائط مع التحذر من المصادمة وكنا نعلم قرب موقف الكراريس فذهبنا إلى جهتها ولم نر نور فوانيسها إلا عند الوصول إليها ، فلما أردنا ركوب أحديها امتنع صاحبها وكثر اللغط بينه وبين التابع فجاء أحد الضابطية وألزمه بإركابنا وإيصالنا إلى منزلنا ، فأجابه بأنه غير ممتنع لكن الخيل لا تمشي لأنها لا ترى ، فقال : إركبوا إلى أن نعمل وجها ، فلم يكن غير بعيد حتى ظهرت المشاعل على وجه الأرض بيد الضابطية وغيرهم ، مشاعل من حبال غليظة تحرق وتدار باليد في الهواء على وجه الأرض على نحو ما تفعله البوادي ، فأخذ السائق الكروسة رجلا منهم ومكنه من أحد تلك المشاعل وجعل هو يسوق الخيل وراءه إلى أن أوصلنا وأعطينا للرجل إحسانه ، وكنا نسمع صهيل الخيل بكثرة في تلك الليلة مع قلة صهيلها هناك على كثرتها ، وكذلك كثر نباح الكلاب وزاد حسها وضوحا هذا وحس العجلات ، ولما وصلنا إلى البلغار على كثرة تنوير حوانيته وقهاويه لم يظهر منها شيء إلا إذا لصق الإنسان بالفانوس فإنه يرى نوره مقصورا عليه ، وقد ذكرت تلك الليلة صحف الأخبار وشيدت بشأنها وأن مثلها كثير بإنكلترا ليلا ونهارا ، أما البرد فهم مستعدّون له لبسا ومسكنا ولهم عملة لإزالة الثلج من الطرقات وشدّة ذلك البرد مع طول مدّته أهون من شدة الحرّ في الصيف الذي لا تطول مدّته ، لأنه يكاد أن يكون الهواء منقطعا من شدة سكونه وحره.

وأما نباتات فرنسا : فينبت بها جميع نباتات أراضي الإعتدال والأراضي الباردة بالنظر لجنوبها وشمالها ، وعلى الإجمال فالجهة الشمالية منها أجمل منظرا لأن في الجنوب جبالا صخرية وأحراشا غير صالحة للزراعة ، وأهم نباتاتها العنب سيما جهة بلد بردو وشمبانيا لكن في هاته السنين الأخيرة أصيب بمرض أوجب خسائر بليغة ، وفيها من الكمثري أنواع فاخرة لذيذة سيما في الشتاء وبطيخها وخوخها حسن لكنهم لا يأكلون البطيخ الأخضر المعروف بالدلاع أو الحجب وعندهم أكله معرة ، وبقية فواكهها وأشجارها حسنة وفيها آجام وغابات لأخشاب السفن وغيرها كثيرة جدا.

وأما حيواناتها : ففيها جميع الحيوانات الأنسية والنعم وخيلها على ثلاثة أنواع :

٩٠

فأولها : العراب العتيقة وهي مخصوصة للركوب.

وثانيها : البراذين وهي لجر الأثقال والحوافل الكبيرة للركاب.

وثالثها : المختلط من نسل المذكورات ويستعمل لكلا القسمين ، لكن أكثره لجر الكراريس.

ومنه الجميل للغاية القصوى والبغال بالنسبة إلى الخيل قليلة الإستعمال وأقل منها الحمير ، ورأيت في باريس أن الحمير الإناث الوالدات يطاف بها بكرى الصباح على الأزقة لحلب من يشتري لبنها ، وهي نظيفة حسنة ، والبقر ضخم جدا يعتنى بتسمينه للأكل ولهم على من يفوز بأكثرية التسمين جوائز ، حتى بلغ مرة وزن ثور منها نيفا وأربعين قنطارا وتستعمل للحرث أيضا ولجر الأثقال بقلة ، والغنم من النوع الذي له ذيل وذوات الألية قليلة ، وأما أنواع الحيوانات المسبعة فالظن أنه لا يوجد منها إلا الدب والذئب والثعلب والخنزير ، وأما غيرها فقد انقطع من هناك للإعتناء بقطعه مع كثرة العمران ، نعم يوجد منها مربى في الأمصار كالأسود والنمر ويتوالد الأسد ويرضع بنيه كلاب كبار لتقليل جرأته ولعدم ضعف والدته ، وأما الثعابين والحيات فهي قليلة ولا يزالون مجتهدين في قطعها فإن غابات فنتين أبلو مجعول لكل من أتى بحية منها مقدار من المال ، أما في باريس فلم أسمع بوجود عقرب ولا غيرها من الحشرات ولا خنفسة وكان ذلك لشدّة الإعتناء بنظافة الديار والطرقات حتى لا تكاد تجد في حائط ما مغرز مسمار ، وكلها متقنة الطلي ظاهرا وباطنا بالجص أو الرمل والجير سواء الظاهر والباطن مع عدم وجود الخراب في أي جهة ، نعم في الجنوب من المملكة يوجد البق والذباب وغيرهما من الحشرات وهي أيضا قليلة في المدن بالنسبة لما نعرفه في البلاد التي تشبه تلك البلاد في الحر ، وطيورها كثيرة رحالة ومقيمة ولا يصطادونها إلا في أوقات معلومة كما أنه ليس لأحد أن يصطاد إلا برخصة من الحكومة يؤدّي عليها معلوما وليس له أن يصطاد في غير أرضه المعّدة لذلك أو أراضي العامة المعدّة لذلك برخصة فيها من الحكومة أو يدخله غيره أرضه برضاه ، ومن خالف ذلك عوقب. وأنواع الصيد كثيرة وفيها من نوع الفيزان كثير.

وأما مدن فرنسا : فقاعدتها باريس وقد تقدم ذكرها وهي مائلة إلى الشمال من المملكة وبقية المملكة تنقسم إلى ستة وثمانين ولاية كل ولاية لها مدينة هي مركزها ويتبعها عدة أوطان لكل وطن مركز ويتبعه عدة أوطان صغار وهاته أيضا إلى أصغر منها ، فمجموع النوع الأول من الأوطان عدده ٣٧٠ والثاني عدده ٢٩٣٨ والثالث عدده ٣٧٥١٠ ولكل منها مدينة أو قرية هي مركزه فهي حينئذ كثيرة جدا ومن أشهرها ما تقدم ذكره منا.

وأما معادنها : فليست بكثيرة لكن منها الغني للغاية فالذهب لا يكاد يستخرج من محله وإن وجد لأنه لا يوفي بمصاريفه ، والفضة موجودة بقلة ومثلها النحاس والفحم الحجري كثير غني ، وكذلك قطران الأرض وأنواع من الحجر والرخام الأبيض ومنه الشفاف

٩١

وأنواع عديدة من الحجارة كجر الطبع وأنواع الجص والكبريت ومقاطع الحديد والرصاص كثيرة وبها حجر الزجاج ، والمياه المعدنية نافعة شهيرة كحمام «فيشي» وحمام «برني».

وأما مراسيها : فكثيرة حربية وتجارية وقد تقدم ذكر بعضها ويقاس عليه ضخامة وحصانة باقيها.

وأما سكانها : فأصلهم القديم من قبائل مختلفة وردت إلى هناك من المشرق في أوقات مختلفة ، وأشهر القبائل قوم من الكنيسيين وقسم منهم عبر المحيط إلى انكلتيرة ، وانضاف معهم في فرنسا قبائل أتت من جنوب أفريقيا يسمون الباسليك ولا زال إلى الآن سكان جبال «برني» يتكلمون بلغتهم ، ثم وفد عليهم الرومانيون ثم هجمت عليهم قبيلة الإفرنج الآتية من الشرق واستوطنت قبل ذلك في البلجيك ، ثم تغلبت على قبائل فرنسا واختلط نسل الجميع واتحد باسم الإفرنج ، ثم حول إلى الفرنسيس وصاروا الآن جنسا واحدا وهو الفرنساوي إلا أهل نيس وساقويا وقرسكا فهم طليانيون ، وعدد الجميع ستة وثلاثون مليونا ونصف عدا ما في مستعمراتها والديانة الغالبة هي النصرانية على المذهب الكاتوليكي ، وقد كان هو مذهب الدولة الرسمي لكن الآن لم يبق من الدولة اعتبار لديانة أو مذهب خاص ، حتى أنها أزالت سنة ١٨٨٠ علامات التمذهب العلنية عن الأماكن الرسمية والمكاتب ، كما يوجد فيهم المذهب البرتستانتي. وديانة اليهود وتوجد الدهرية بكثرة وقليل موحدون بالعقل أو باتباع لعيسى عليه‌السلام. ويتبع فرنسا مستعمرات ففي أفريقية قهرت الجزائر وادعت بالحماية على تونس واستولت على سانيغال وجزائر غوري وسانت ماري وبورون ، وعدد سكان هاته المستعمرات نحو الخمسة ملايين منهم مسلمون نحو أربعة ملايين والباقي على مذاهب وديانات شتى ، ويتبعها في قسم آسيا أرض «بوندشيري» «وكاريكال» وما هي «ويناون» ، «وشاندرنفور» كلها في شطوط الهند ، كما لها «سايغون» في كوشين الصين وعدد سكان الجميع نحو الثلاثمائة ألف ، ولها في أمريكا جزائر صان بييروميكلون ومارتينيك وغوادلوب والفيان الفرنساوية وسكان جميعها نحو الثلاثمائة ألف أيضا ، ولها في الأقيانوس جزر مركيز وتابيتي وسكانها نحو المائة والخمسة وسبعين ألفا فجميع السكان والملحقات نحو اثنتين وأربعين مليونا.

الفصل الخامس : في إجمال تاريخ فرنسا

مطلب : في تاريخها القديم :

كانت هاته المملكة تسمى قديما «غاليا أو غالة» ويجهل الحال في تاريخها القديم أعني ما قبل تاريخ الميلاد بألف وستمائة سنة ومن هذا الوقت عرفت أحوالها ، فكان أهلها شجعانا حاربوا من جاورهم ولم يخضعوا لدولة الرومان إلا بعد مشاق ثم استقلت فرنسا عنم باستيلاء أمة الإفرنك في القرن الخامس ، وذلك أنها خضعت لعدّة رؤساء متحدين ثم خضع الجميع لملك سنة ٤٢٠ مسيحية وأول عائلة معروفة من ملوكها تسمى

٩٢

«الميروفنجيين» ، وفي مبادىء القرن السادس تغلب إسم قبيلة الإفرنك على جميع الأهالي لانتصارها على جميعهم ثم قلبت الكاف سينا وصارت فرنسا ، وذلك لقب أطلق عليهم مأخوذ من فرانكس أي شجعان. ثم انقسمت إلى عدّة ممالك واتحدت عدة مرار وكانت شوكة الملوك ضعيفة فيهم والنفوذ إلى جمعيات الأعيان التي تجتمع كل سنة وتختار الملك وتعين السيرة في الإدارة حتى كان للأهالي حرية تامة ، بل قد تخرج عن الإعتدال إلى التهور فقد ذكروا أنهم كانوا يقتسمون الغنائم ويعطون الملك حصة كآحاد الجيش ، فلما انتصروا في إحدى الوقائع وقد انتهبوا فيها كنيسة كان من جملة ما فيها إناء من ذهب طلبه الملك من الجيش برضاهم ، فبينما هم بصدد إجابته وإذا بأحدهم تقدم وضرب الإناء ببلطته وقال له بأعلى صوته : ليس لك أدنى شيء سوى ما يخصك بالقرعة ولا نقر لك بامتياز. وأول تدين ملوكهم بالديانة النصرانية كان في أواخر المائة الخامسة مسيحية.

وفي أواخر هاته الدولة أعني سنة ٧٣٢ وقعت الحرب مع العرب الأندلسيين الذين تغلبوا على قسم كبير من جنوب فرنسا حتى وصلوا إلى «اليون» وخرجت تلك المستملكات واتحدت مع فرنسا ، وبقيت فرنسا على نحو ما ذكر إلى أن استولى عليها كارلوس الكبير ويعرف أيضا بشارلمان المعاصر للرشيد العباسي ، وقد ضم إلى فرنسا عدّة ممالك من أوروبا حتى تسمى بإمبراطور المغرب وانتقل تاجه إلى فروع من العائلة إلى أن بقي الآن في ألمانيا التي كانت إحدى ممالكه واستقل بها أحد أحفاده عند ما قسم إبنه ممالكه على أولاده ، فملك بكره على جرمانيا ، والثاني على فرنسا ، والثالث على إيطاليا ، وضعف ملكهم بإسنادهم الأمور إلى غير أهلها فكانوا يقدمون خدمتهم إلى أعلى المناصب والألقاب بدون جدارة فاستقلوا على ساداتهم ، وملتهم الأمم وتناصروا إلى أن خربت العائلة واستولت على فرنسا العائلة الكابيتيانية ومن مشاهير ملوكها فليب الثاني الملقب أوغسطوس (١) الذي اتحد مع ملك الإنكليز الملقب بقلب الأسد (٢) على حرب المسلمين المعروفة بحرب الصليب الثالثة (٣) لكنهما لما وصلا إلى صقلية تنافرا وافترقا ، بعد رجوعه من الشام بوقائع صلاح الدين (٤) أثار الحرب على الإنكليز واستخلص منهم بعض ما كانوا ملكوه من فرنسا.

__________________

(١) هو فيليب الثاني Philippe المعروف بأوغست (١١٦٥ ـ ١٢٢٣) ملك فرنسا سنة (١١٨٠) من بناة الوحدة الفرنسية حارب ملك الإنكليز والأمبراطور وغلبه في بوفين ، نظم الإدارة الملكية والإقليمية ، اشترك في الحملة الصليبية الثالثة سنة (١١٩١) وفي عهده تأسست جامعة باريس. المنجد صفحة (٥٣٧).

(٢) هو ريكاردس قلب الأسد المولود في أكسفورد ملك انكلترا سنة (١١٨٩ ـ ١١٩٩) ساهم في الحملة الصليبية الثالثة المصدر السابق ص (٣١٦).

(٣) انظر كتاب الأخبار السنية في الحروب الصليبية لسيد علي الحريري ص ١٦٧.

(٤) هو يوسف بن أيوب بن شاذي أبو مظفر صلاح الدين الأيوبي (٥٣٢ ـ ٥٨٩ ه‍) لقب بالملك الناصر ، من أشهر ملوك الأسلام من قبيلة الهذانية من الأكراد. ولد بتكريت وتوفي في دمشق. الإعلام ٨ / ٢٢٠ ، وفيات الأعيان ٢ / ٣٧٦ طبقات الشافعية للسبكي ٤ / ٣٢٥ مرآة الزمان ٨ / ٤٢٥ النجوم الزاهرة ٦ / ٦٣ شذرات الذهب ٤ / ٢٩٨.

٩٣

ومن هاته العائلة «صان لويز» الذي أسر بمصر ومات بتونس وله تذكار معروف قرب قرطاجنة وذلك في حدود سنة ١٢٧٠ ه‍ ومنهم فليب الثالث الذي حدد للأعيان سلطتهم على العامة بمجلس الشورى لكن اضمحل ذلك بميل فليب الخامس (١) إلى الأعيان ، وأشرفت فرنسا على السقوط وتداخلت فيها الدول المجاورة ونشأت مع الإنكليز الحرب المعروفة بحرب المائة سنة وكان مبدؤها سنة ١٣٣٧ وانتصر الإنكليز في كثير من الوقائع ، وتملكوا كثيرا من الجهات حتى ذات باريس مع التناصر الداخلي في فرنسا ، ثم ظهرت بنت لأحد الفلاحين تسمى جان دارك فادعت علم الغيب والتأييد الإلهي لإنقاذ فرنسا ، وساعدها الملك بتأميرها على الجيش وأظهرت شجاعة غريبة وافتكت من الإنكليز عدّة جهات ، وفي حصارها المدينة كمبيان أخذت أسيرة وحكم عليها بالحرق لأنها ساحرة ثم عقد الصلح مع الإنكليز سنة ١٤٤٤ ولم يبق بأيديهم إلا الجهات البحرية ثم أعيدت الحرب ولم تخلص فرنسا إلا سنة ١٤٥٣ ، فرتب الملك إذ ذاك كارلوس السابع الجيش المستمر تحت السلاح ، وقد كانت العادة من قبل أن الأعيان المالكين للمملكة بأهلها هم الذين يقدمون العساكر للملك فكسر كارلوس شوكتهم واعتنى بترقية المملكة في المعارف حيث كان مطلعا عليها.

وقد نقلت صناعة الطبع إلى باريس في أيامه ، وأنشأ مدرسة خاصة للطب وباستقامة سيرته نال من الفتوحات والترقي ما لم ينله غيره من ملوكهم بالحروب ، ثم في أيام هنري الثاني (٢) سنة ١٥١٠ تعصب به الكاتوليك وأغروا أمه به وقتلوا كل من ظفروا به في فرنسا من أهل مذهب البرتيستنت في يوم واحد ، ويقال إن عددهم إذ ذاك نحو سبعين ألفا وقتل الملك بيده عددا كثيرا وهو واقف متهللا في أحد رواشين قصر اللوفر ، ثم تعاقب على فرنسا الصعود والهبوط على حسب سطوة الملك واقتداره إلى أن عظمت جدا في أيام لويس الرابع عشر (٣) الملقب بالكبير المتولي سنة ١٦٤٣. وفي أيامه وأيام والده حدثت الحروب المعروفه بحروب الثلاثين سنة وانتقل لفرنسا النفوذ الذي كان للنمسا في أوروبا وظهر فيها عدة مشاهير بالمعارف ، وهو الذي أنشأ قصر «فرساي» وبساتينه ، وقصر «ليزان

__________________

(١) هو فيليب الخامس (١٦٨٣ ـ ١٧٤٦) حفيد لويس الرابع عشر ملك فرنسا. مؤسس سلالة البوربون الإسبانية. عيّن ملكا على أسبانيا سنة (١٧٠٠). المنجد ص (٥٣٧).

(٢) هو هنري الثاني ملك فرنسا (١٥١٩ ـ ١٥٥٩) في عهده اشتد نفوذ عائلة (غيز) حارب كارل الخامس وعقد صلح فوسيل سنة (١٥٥٦) مات في مباراة المصدر السابق ص (٧٣٢).

(٣) هو لويس Louis الرابع عشر (١٦٣٨ ـ ١٧١٥) ملك فرنسا (١٦٤٣ ـ ١٧١٥) ابن لويس الثالث عشر وأمه حنّة النمساوية. بدأ حكمه الشخصي بعد وفاة الكاردينال مازاران سنة (١٦٦١). فأبعد (فوكه) ، عمل على إقرار النظام والأمن أعلن الحرب على هولندا وإسبانيا واصطدم بالبابوية. بلغت فرنسا في عهده أوجها في حقول الأدب والفن والعلم ، فكان عصره عصرها الذهبي. أقام بلاطه في فرساي ، لقب بالكبير. المصدر السابق ص (٦١٨).

٩٤

فاليد» لكنه فيه آخر أمره فقدت فرنسا ما نالته في الداخل والخارج بأسباب التعدي على الرعايا وضعفهم ، وبعده فقدت فرنسا المستعمرات الهندية وغيرها وإن حازت كرسكا واللورين ، وكان ذلك باتباع لويس الخامس عشر (١) لشهواته وتحكم النساء فيه وإلغائه للشورى مع مجلس نواب الأمة ، وآخر الملوك من تلك العائلة هو لويس السادس عشر (٢) الذي انتقم من إنكلاتيره بإعانة أمريكا على استقلالها ، وحدثت في أيامه الثورة العامة التي قلبت حال التاريخ حيث كان يرجى منه إصلاح ما أفسده أبوه وجدّه ، لكنه كان ضعيفا عن الوفاء بذلك فهو خاتمة التاريخ القديم.

مطلب في تاريخ فرنسا الجديد

اعلم أن الفرنساويين لما انتشرت فيهم المعارف وعلموا ما لهم وما عليهم ونالوا من بعض ملوكهم أحيانا أنصافهم ، واشتهرت بينهم الصحف الخبرية المعلنة بالمحامد والمذام وحدث فيهم أخيرا ما أشير إليه من الظلم ، انعقدت فيهم جمعيات سرية للتدبير والعمل فيما يمكن لهم به حفظ حقوقهم ومملكتهم ، وتفطن لذلك لويس السادس عشر فكان مرة يميل إلى معاضدة الأمة فيما تريده ومرة يحجم إلى عادات الأعيان والسيرة القديمة حتى خشي على نفسه وفر مع عائلته ، لكن الأهالي أرجعوه غصبا وخضدت شوكته فخاف بعض ملوك أوروبا من أن يلحقهم ما لحقه بسبب فتح أبصار رعاياهم وقد كانوا إذ ذاك مستبدين ، فتعاضدوا على إركاس الفرنساويين لا سيما إمبراطور النمسا صهر لويس المذكور فإنه تولى كبر تلك الحرب ، غير أن الفرنساويين دافعوا عن حقوقهم بجد وانضم إليهم ملكهم المذكور وأجرى الجمعية الأهلية المسماة بالجمعية الوطنية وذلك سنة ١٢٠٧ ه‍ ١٧٩٢ م ، ثم بدا لهم منه الخيانة فقتلوه مع زوجته وطردوا إبنه إلى جدّه إمبراطور النمسا وذلك بحكم الحكومة الإجرائية التي حكمت بإلغاء الملكية وإثبات الجمهورية ، وأعلنت لسائر الأمم أنها تساعدهم على نحو عملها وتسمت الحكومة جمعية اتفاق الأمة وكان من أكبر زعمائها بولتير (٣) الذي لا دين له ، وهو أحد الذين أثاروا غيظ الأمة بما ينشره من الأقايل والكتابات.

__________________

(١) هو لويس الخامس عشر (١٧١٠ ـ ١٧٧٤) ملك بعد وفاة جده لويس الرابع عشر بوصاية فيليب دوريليان. تقرب من النمسا ليقاوم مطامع بروسيا وانكلترا ، لكن حرب السبع سنوات مع انكلترا أفقدت فرنسا كندا والهند. مات مبغضا من شعبه. المصدر السابق.

(٢) هو لويس السادس عشر ، ولد في فرساي سنة (١٧٥٤) ملك فرنسا سنة (١٧٧٤ ـ ١٧٩٢) تزوج ماري انطوانيت النمساوية واتهم بعد محاولة هربه في ٢٠ حزيران (١٧٩١) بالتعامل مع الأجنبي وبالخيانة.

قتل في ٢١ كانون الثاني (١٧٩٣). المصدر السابق.

(٣) هو فولتير فرانسوا ماري أرواي (١٦٩٤ ـ ١٧٧٨) ولد في باريس مؤلف فرنسي من نوابغ زمانه أقام في بروسيا وسويسرا ، تزعم حركة الفلسفة المادية وقاوم رجال السلطة الدينية والمدنية ونقدهم بقلمه اللاذع. كتب في الشعر والتاريخ والمسرح والمراسلة والفلسفة ومن مؤلفاته في المحاورات الفلسفية «كنديد» المصدر السابق ص (٥٣٣).

٩٥

ولما استتب أمر الجمعية تجاوزت حدود الإعتدال بمضادة الأديان وقتل رؤساء الكنائس وإبدال أغلب العادات حتى الأيام والشهور ، فجعلوا الاسبوع عشرة أيام ومبدأ التاريخ هو عام انتصاب الجمهورية ، وكذلك أشهروا الحرب على جميع الدول وانتصر الفرنساويون سيما تحت راية نابليون الأوّل بونابارتي الذي كان أحد أبناء العامة فتعلم الفنون العسكرية وساعده القدر بالإنتصار الذي نال به أعظم الشهرة فكان من أعظم رؤساء العساكر ، ثم عوضوا تلك الحكومة بحكومة «الدركتوار» أي الحكومات المديرية مؤلفة من خمسة أشخاص ، وحدثت في أيامها الحروب العظيمة مع سائر الدول ووافق نابليون البخت فانتصر على الجميع وملك إيطاليا ورتب فيها حكومات عديدة جمهورية ، ثم استولى على مصر وأراد الشام بقصد التوصل إلى الإستيلاء على الهند انتقاما مع الإنكليز ثم عاضدت إنكلاتيره الدولة العثمانية واسترجعوا مصر وما أخذ من الشام ، وهيجت إنكلتره دول أوروبا على الإتحاد على فرنسا فاستعدوا لحربها وحاربوها وكانت الحرب سجالا ، لكن نابليون الأول لما وصل إلى باريس بعد أن كاد أن يكون أسيرا في رجوعه من مصر وجد حكومة الدركتوار على شفا وأوروبا منتصرة في أغلب الجهات ، فاستعان بحزبه ورتب حكومة جديدة تسمى بحكومة القنسلات مؤلفة من ثلاثة أشخاص يسمون قناسل وتبوأ هو رياستها وذلك سنة ١٢١٤ ه‍ ١٧٩٩ م. ثم تسمى قنسلا لمد حياته وتسلم رياسة الجيش ورجع الإنتصار المفقود والتفت عند ذلك إلى لم شعث الداخلية وإصلاح الأمور فسماه مجلس الأعيان إمبراطور سنة ١٢١٩ ه‍ ١٨٠٤ م ونال صيتا عظيما في الدنيا بانتصاراته على أغلب أوروبا ، فدخل فيينا وبرلين وعقد الصلح مع دولتيهما كيف شاء وأمست إيطاليا وكثير من جرمانيا تابعة لفرنسا ، وانتصر على الروسيا أيضا وعقد معها صلحا ومعاهدة سرية من شروطها اقتسام جميع أوروبا بين فرنسا والروسيا عدا الممالك العثمانية وإن بلغها أنها أيضا في القسمة حتى اغتاظ السلطان لذلك كما سيأتي في محله.

ومن المستثنى من القسمة أيضا الممالك الإنكليزية وكان ذلك سنة ١٢٢١ ه‍ ١٨٠٦ م وأتم تأليف قانون الأحكام الشهير المعروف بكود نابليون سنة ١٢٢٣ ه‍ ١٨٠٨ م وهو عمدة أحكامهم ونسجت أوروبا فيما بعد على منواله ، وهو كتاب مقسم على أبواب المعاملات والجنايات وكل مسألة من الباب يعقد لها فصل يبين حكمها بعبارات بينة من غير بيان لدليل الحكم ولا لمحل استخراجه لسهولة التناول ، وكان عين لتأليفه جمعية علمية عولت في تنظيمه على ما يليق بالعادات من أحكام الشرع الإسلامي وأحكام الرومان ، وسنة ١٢٢٨ ه‍ ١٨١٢ م عاد لحرب الروسيا لنكثها شروط الصلح المار ذكرها وانتصر عليها ، إلى أن وصل قاعدتها مدينة موسكو وقد أعدوا له كيدا بإحراق المدينة فلما وصلها وجدها قاعا صفصفا ، وكان الوقت شديد البرد فهلك عسكره بردا وجوعا وعاد هو متنكرا إلى فرنسا ، وجهز نفسه لحرب الروسيا وألمانيا وبروسيا والنمسا الذين اتحدوا عليه بسبب إنكساره فغلب أخيرا ودخلت العساكر المتحدة إلى باريس ، وملكوا

٩٦

على فرنسا لويس الثامن عشر (١) وأسكنوا نابليون جزيرة الأب على أنه ملك عليها وذلك سنة ١٢٣٠ ه‍ ١٨١٤ م. وبعد عشرة أشهر عاد إلى فرنسا وتلقته الأهالي بالرحب لما نالوه من العظمة في أيامه فهرب لويس الثامن عشر إلى مقره أولا بإنكلترة ، ثم اتحدت الدول ثانيا ومعهم إنكلتره وقهروا نابليون فتنازل عن الملك لابنه بلقب نابليون الثاني سنة ١٢٣١ ه‍ ١٨١٥ م فلم تعترفه الدول وأعادت لويس الثامن عشر.

وأما نابليون فطلب الإقامة بإنكلترة مستأمنا تحت أحكامها فقبلته ، وعند إرادة نزوله من السفينة الحربية الإنكليزية إلى البر أعلمته بأنه أسير للدول فسجل على ذلك ولم ينفعه ، ونفي إلى جزيرة هيلانه في الأقيانوس الاتلانتيكي إلى أن مات ، ونقلت جثته فيما بعد إلى ليزان فاليد بباريس وانحصرت إذ ذاك فرنسا في حدودها القديمة ، ثم تبوأ ملكها كارلوس العاشر أخو ملكها الذي أجلسته الدول ، وفي مدته استولى على الجزائر وأراد أن يحجز من حرية المطابع والقوانين فثاروا عليه ، وولي لويس فليب سنة ١٢٤٦ ه‍ ١٨٣٠ م فأطلق الحرية وأحبوه لكنهم أسقطوه أخيرا لامتناعه من إصطلاح قوانين الإنتخاب وكانوا يميلون إلى الجمهورية وإلى عائلة بونابارتي ، فأعادوا الجمهورية ثانية سنة ١٢٦٥ ه‍ ١٨٤٨ م ورأسوا عليها لويس نابليون ابن أخي نابليون الأول ووريث ملكه حيث مات إبنه عن غير عقب وكان ابن أخيه مرسوما في ولاية العهد ، وذلك بعد أن نفي مرة إلى أمريكا وأخرى إلى إنكلتره وإيطاليا وسجن مرة في حصن وفر منه بتزييه بزي أحد عملة البناء بعد حلق شاربه ، وأشهر عدة تآليف تنوه بالحرية والفخر فسلموا له زمام الإدارة وأبدى من المصالح الداخلية واستمالة رؤساء الجيش إليه ما اقتدر به على الإعلان بإمبراطوريته سنة ١٢٦٩ ه‍ ١٨٥٢ م وتلقب بنابليون الثالث وعاضد الدولة العلية وإنكلترة على حرب الروسيا سنة ١٢٧١ ه‍ ١٨٥٤ م لتهاونها باعترافه إمبراطور في مبدء أمره.

وللدواعي السياسية من الخوف من استيلاء الروسيا على الممالك العثمانية وعقد الصلح على معاهدة باريس سنة ١٢٧٣ ه‍ ١٨٥٦ م وانتصر إلى إيطاليا على النمسا بدعوى القاعدة التي أسسها وهي اتحاد الجنسية كما تقدم في تاريخ إيطاليا الجديد ، حتى اتحدت إيطاليا سنة ١٢٧٦ ه‍ ١٨٥٩ م وحارب الصين مع إنكلتره سنة ١٢٧٧ ه‍ ١٨٦٠ م وانتصرا عليه ، وافتتح المكسيك من أمريكا سنة ١٢٧٩ ه‍ ١٨٦٢ م وملك عليها مكسيمليان (٢) أخا إمبراطور النمسا وكانت إذ ذاك دول أمريكا المتحدة في حرب شديدة داخلية ، ولما فصلت

__________________

(١) هو لويس الثامن عشر شقيق لويس السادس عشر (١٧٥٧ ـ ١٨٢٤) ملك فرنسا سنة (١٨١٤ ـ ١٨٢٤) هاجر أثناء الثورة وعاد إلى بلاده ليملك بعد سقوط نابوليون. توصل إلى أن يحفظ لفرنسا حدودها ومكانتها بفضل سياسة تاليران في معاهدتي : «باريس ومؤتمر فيينا (١٨١٥)». المصدر السابق ص (٦١٨).

(٢) هو مكسيمليان أرشدوق النمسا (١٨٣٢ ـ ١٨٦٧) نودي به امبراطورا على المكسيك لما دخلها الفرنسيون (١٨٦٤) لم يوفق في الحكم فقتل رميا بالرصاص. المصدر السابق ص (٦٨٢).

٩٧

حربهم حنقوا على فرنسا من تداخلها في قارتهم فتسلل نابليون بعساكره وترك المكسيك حتى قتلوا من ملكه عليهم وذهب سعي نابليون سدى ، ومن ذلك الوقت ابتدأ ميل القلوب عنه لاستبداده باطنا وتصرفه طبق شهواته في السياسية بعد أن كان أوصل فرنسا إلى ذرى المجد حتى لحظتها سائر الدول بعين الوقار ، وهرعت ملوك الدنيا إلى باريس في دعواته للمعرض وكانوا يفتخرون باستمالته نحوهم حتى فضله كثير من عقلائهم على عمه ، لكنه لما غره زيادة البخت استبد برأيه باطنا وأسرع إلى التداخل في أمر غيره فقلقت الأهالي من عمله ولما أحس بذلك أعلن بعمل الإنتخاب العام له من سائر السكان بحيث لا يختص بأصوات الأعالي بل حتى العامة لأنهم لهم الحق في ذلك من حيث أن التملك إنما هو على الفرنساويين مطلقا ، ولما كانت العامة محبين له لعدم إطلاعهم على مخفياته أو عدم تبصرهم مع أنه محسن إليهم بحيث يؤثر نفعهم ويوجد لهم أسباب الإنتفاع عند المحل ، ثم إن حزبه يغريهم بالمال عند الإنتخاب إذ كان ينفق في مثل ذلك من أموال الدولة مقادير ذريعة سرا وترسم في ميزانية الدولة بأسماء أنواع من المصاريف اللازمة ، فبذلك الوجه حصل أغلبية عظيمة في ارتضاء الفرنسيس به ملكا عليهم وأنشأ إذ ذاك قانون الإمبراطورية المؤرخ في سنة ١٢٨٧ ه‍ ١٨٧٠ م ونص تعريبه.

الحكم الأول : لمجلس الأعيان مزية وضع الأحكام والقوانين بالإشتراك مع الإمبراطور ومجلس النواب ، وله أيضا البداءة في وضع المعروضات واللوائح إلا أن الأمور المتعلقة بالمالية ينبغي أن تقرر أولا في مجلس النواب.

الحكم الثاني : عدد أعضاء مجلس الأعيان يمكن زيادته حتى يبلغ ثلثي عدد مجلس النواب ما عدا الذين يحضرون فيه بالاستحقاق ، وليس للإمبراطور أن يعين فيه في كل سنة أكثر من عشرين.

الحكم الثالث : قد تعين إلغاء المزية التي خص بها المجلس من جهة التشريع المذكور في الحكم الحادي والثلاثين من القانون الذي تقرر في ١٤ كانون الثاني أي يناير سنة ١٢٦٩ ه‍ ١٨٥٢ م.

الحكم الرابع : التراتيب التي ألحقت بهذا القانون وهي المشمولة في الأصول العموميةالتي استقرت في ١٤ وفي ٢١ من كانون الأول سنة ١٢٦٩ ه‍ ١٨٥٢ م ، وفي ٢١ وفي ٢٢ من الشهر المذكور في السنة التي بعدها ، هي أصول المملكة وقوانينها الأساسية.

الحكم الخامس : وهذه الأصول والقوانين إنما يغيرها سكان المملكة بطلب الإمبراطور.

الحكم السادس : تعين إلغاء الفقرة الثانية من حكم ٢٥ و ١٧ و ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢ و ٣٣ و ٣٥ و ٤٠ و ٥٢ و ٥٧ من تلك القوانين ، وكذا الأحكام المخالفة لهذا القانون.

٩٨

الحكم السابع : يبقى ما تقرر في قوانين ١٤ من كانون الثاني دجنبر سنة ١٢٦٩ ه‍ ١٨٥٢ م وفيما بعد ذلك معمولا به اه. ثم ألحق بهذا القانون علاوة أخرى ، هذا نص تعريبها :

الفصل الأول

الاول : قوانين المملكة تعترف وتثبت وتتكفل بالأصول المعظمة التي شهرت في سنة ١٢٠٤ ه‍ ١٧٨٩ م وهي أساس شرع الفرنسيس العمومي.

الفصل الثاني : في مزايا الإمبراطور وملكه

الثاني : المرتبة الأمبراطورية التي خصّت بلويس نابليون بونابارت ، وهو نابليون الثالث فوضت إليه بحسب قرار رأي جمهور المملكة وفي ٢١ تشرين الثاني ننبر سنة ١٢٦٩ ه‍ ١٨٥٢ م ، وهي مزية متوارثة في سلسلة ذريته الذكور الأول فالأول ويلغى منها الإناث وذريتهن إلغاء دائما.

الثالث : إذا لم يكن للإمبراطور المشار إليه وارث فله أن يتخذ وارثا من سلالة أخوة نابليون الأول الذكور ، وهذا الإتخاذ لا يباح لخلفائه ولا لورثتهم.

الرابع : إذا لم يوجد له وارث حقيقي أو متخذ يخلفه في الملك البرنس نابوليون وورثته الحقيقيون من سلالة الذكور الأول فالأول ويستثنى من ذلك الإناث وذريتهن استثناء دائما.

الخامس : إذا لم يوجد وارث شرعي أو متخذ لنابوليون الثالث ولخلفائه فلسكان المملكة أن ينتخبوا أمبراطورا ويعينوا من أهله الوارث من الذكور دون الإناث ، وفي مدة انتخاب الأمبراطور تدار الأمور بواسطة الوزراء القائمين بالوظائف بحسب أكثرية الآراء.

السادس : أفراد عائلة نابوليون الثالث الذين تثبت لهم الوراثة وكذلك سلالتهم ذكورا وإناثا هم من العائلة الإمبراطورية ، ولا يمكن لهم أن يتزوجوا إلا بإذنه وإذا تزوجوا من دون إذنه كان ذلك سببا في حرمانهم من حقوقهم في الخلافة وفي حرمان ذريتهم أيضا ، ولكن إذا كان زواجهم عقيما فللبرنس الذي تزوج حق في الخلافة وللإمبراطور أن يعين ألقاب الباقي من العائلة ويعين حقوقهم وما يجب عليهم ، وله عليهم السلطة التامة.

السابع : النيابة في الملك مقررة في القوانين التي نظمت في ١٧ تموز يوليه من سنة ١٢٧٢ ه‍ ١٨٥٦ م وفي الأحوال المشروحة في الفقرة الثالثة من الحكم الخامس ، ينعقد كل من مجلس الأعيان ومجلس النواب ويقر رأيهم على إقامة من ينوب في الملك.

الثامن : كل من أفراد العائلة الإمبراطورية الذين تحق لهم الخلافة يسمى برنسا وأكبر أبناء الإمبراطور يقال له برنس أمبريال.

التاسع : كل من يطلق عليه برنس يؤهل لأن يكون من أعضاء مجلس الأعيان ومجلس

٩٩

الدولة ، بحيث يبلغ ثماني عشرة سنة تامة ولكن جلوسه في المجلسين متوقف على رضى الإمبراطور.

الفصل الثالث : في نوع حكومة الإمبراطور

العاشر : الحكومة للإمبراطور بمساعدة الوزراء ومجلس الأعيان ومجلس النواب ومجلس شورى الدولة.

الحادي عشر : وضع الأحكام والقوانين يجري بالإتفاق مع الإمبراطور ومجلس الأعيان ومجلس النواب.

الثاني عشر : البداءة في القوانين منسوبة للإمبراطور وللمجلسين المذكورين ، ولكن كل تقرير يرسم فيه بوضع الضرائب ينبغي الإقتراع عليه في مجلس النواب.

الفصل الرابع : في أحوال الإمبراطور

الثالث عشر : الإمبراطور مسؤول لأمة الفرنسيس وله الحق في كل وقت لأن يبلغها استدعاءه.

الرابع عشر : الإمبراطور هو رئيس الدولة وهو يحكم على العساكر البرية والبحرية وله أن يأذن بالحرب ويجري معاهدات السلم والتجارة والإتفاق والمخالفة ، ويعين جميع الوظائف ويثبت التراتيب والأحكام اللازمة لتنفيذ الشرع.

الخامس عشر : إجراء الأحكام القضائية يكون باسمه.

السادس عشر : له الحق في منح العفو والإعفاء.

السابع عشر : وفي أن يقر الأحكام ويشهرها.

الثامن عشر : ما يراد بعد الآن من تعديل الأحكام وتعريفات الكمرك وجعل البوسطة على حسب الموافقة مع أمم أخرى لا يكون العمل به واجبا إلا بعد أن يقرر أي المجالس عليه.

التاسع عشر : الوزراء مرتبطون بالإمبراطور وحده وهم يتذاكرون في مجلس يكون الإمبراطور رئيسه وهم مسؤولون.

العشرون : يصح للوزراء أن يكونوا من أعضاء مجلس الأعيان أو مجلس النواب وأن يحضروا في أحدهما أيان شاؤا وأن ينصت إليهم حين يتكلمون.

الحادي والعشرون : يجب على الوزراء وأهل مجلس الأعيان ومجلس النواب وضباط العساكر البرية والبحرية والقضاة وذي المراتب أن يحلفوا هذه اليمين ، وهي : «أني أحلف بأن أكون خاضعا لقوانين المملكة وأمينا للإمبراطور».

الثاني والعشرون : الحكم الذي صدر في ١٢ كانون الأول دجنبر سنة ١٢٦٩ ه‍ ١٨٥٢ م وفي ٢٣ من نيسان ابريل سنة ١٢٧٣ ه‍ ١٨٥٦ م مما يتعلق بالمرتب لمصروف

١٠٠