صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

وكانوا يمنعون إقامة نواب الدول الأجانب في مملكتهم فضلا عن قاعدتها ، وحيث كانت دول أوروبا في هاته القرون الأخيرة لهم مزيد الاعتناء باتساع تجارتهم طلبوا من تلك الدولة الإذن لتجارهم بالإشتغال في المملكة والإقامة بها كما يقيمون سفراء لهم عندها ، وبعد مشقات شديدة حصلوا على الرخصة في وفود تجارهم لكن بخصوص مراسي معلومة على البحر ، وكذلك السفراء ، على شرط أن لا يبيت أحد منهم في البلد أو في البر وإنما يبيتون في سفن حول الشاطىء ، ثم في أواسط هذا القرن أرادت الدول زيادة اتساع الخلطة والتقدّم في الإلتحام بأن يكون لتجارهم الدخول إلى دواخل المملكة مع التعهد من الدولة بحمايتهم وأن يكون سفراؤهم يقيمون في قاعدة المملكة ، وحيث كان أهل الصين أشد الناس تحفظا على عوائدهم امتنعوا من ذلك ، وجرت من تجاسر الأوروباويين مهاوش قتل فيها منهم كثير ممن وجد في مراسي المملكة مخالفا لما أذن له فيه ، فتعصبت حينئذ دولتا إنكلترا وفرنسا على محاربة الصين وحاربوهم فما كانت بضع أشهر حتى وصلت عساكر أوروبا إلى قاعدة المملكة وعقدوا صلحا على نحو ما طلبوا.

وبهذا يتبين للمطالع حالة أهل المملكة في الشجاعة والفنون الحربية ، لأنهم مع كثرتهم المفرطة قهرتهم دولة الإنكليز والفرنسيس بعساكر قليلة لما لا يخفى من كثرة البعد بين أوروبا والصين سيما وقد كان ذلك قبل فتح خليج السويس الذي سيأتي الكلام عليه في المقصد إن شاء الله تعالى.

فكان طريق الوصول إنما هو رأس الرجاء الصالح ، نعم إن لكل من الدولتين مراكز حربية في الهند لا سيما دولة الإنكليز التي مملكتها في الهند أعظم من مملكتها في أوروبا ، لكن هبهم بلغوا ما بلغوا فلو كانت دولة الصين على كثرة سكانها لها الإستعداد الحربي مع الرجولية في السكان لأمكن لهم الفيضان على جميع العالم فضلا عن المدافعة عن نفسها ، وكان السبب في عدم اقتدارهم كثرة استعمال الأفيون الذي هو مصيبة عامة فيهم وتبلغ ببعضهم مبالغ نسأل الله تعالى منها اللطف والحماية ، غير أن هاتيك الخلة لا تعم جميع أقسام المملكة ، وذلك أن هاته المملكة الرحيبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبرى.

الأوّل : منشورية وهو الجهة الشمالية الشرقية من المملكة.

الثاني : المقاطعات الثماني عشرة ، وهو الجهة الشرقية والوسطى من المملكة ، وهو الصين الأصلية وتغلّب عليه أهل القسم الأول ثم تغلبوا على القسم.

الثالث : وهو الأملاك الإضافية مثل المنغول والتبت وغيرها ، وصار الجميع مملكة واحدة معروفة بالصين.

فأهالي الصين الأصليون هم الذي تغلب فيهم الصفة المتقدم ذكرها ، وأما المنشورية والمنغول وغيرهم فإنهم أقوياء وأشدّاء لا سيما التتر المنغولي. ولهذا كانت السلطنة لغير الصينيين الأصليين ، ولما تفطنوا في السنين الأخيرة لما لحقهم من قهر الأوروباويين لهم

٨١

مثل ما تقدّم من جهة إنكلترا وفرنسا ومن جهة أخرى قهر الروسيا لهم من جهة الغرب الشمالي وحمايتها لبعض ممالك التتر المنغول منهم ، جدوا الآن في الإستحضارات الحربية حتى روى بعض الأوروباويين عنهم أنهم أحدثوا ترتيبا في القوات الحربية يمكنهم من إحضار خمسة ملايين من العساكر تحت السلاح ، وشرعوا في الإستكثار من الآلات الحربية وجلبها من أوروبا على الطراز الجديد ، كما فتحوا معامل في ممالكهم لأجل ذلك ، وكذلك القوات البحرية استحضروا منها في ممالكهم معامل لأجل السفن والمدرعات والتروبيد ، واستصنعوا في أوروبا كثيرا منها فإن تم استحضارهم على نحو ما تقدم يمكن أن يصيروا على حالة الهجوم بقوات مفجعة.

وأما الديانة : فإنهم ليسوا على دين واحد بل على ثلاثة أقسام كبرى :

أوّلها : وأقدمها الدين الذي أسسه حكيمهم المسمى عندهم «بو» وقيل إنه كان أول سلطان في عائلة «هيا» وذلك قبل هذا التاريخ بنحو أربعة آلاف سنة ، وعقائد هذا القسم وفروع عباداته لهم فيها تآليف يعتبرونها كأنها كتب سماوية ، وفي القرن السادس عشر قبل التاريخ المسيحي هذب لهم تلك الديانة حكيمهم المسمى «كنفوتسي» ومضمون هاته العقائد الإقرار بالخالق سبحانه وتعالى وبالحشر ، ومن أخلاقهم السماحة ولا يغصبون على ديانتهم أحدا ولا يحتقرون ديانة من خالفهم.

القسم الثاني : هو الدين الذي أسسه حكيمهم «لاوتسو» ومضمون عقائدهم القول بالتناسخ (١) ، وعدد أتباع هذا الدين نحو مائة مليون.

القسم الثالث : الدين الذي أسسه حكيمهم المسمى «فواوصاكيا أو بدهة» ويعرف بالمذهب البدهي ، وكان أوّل ظهوره أواسط القرن السابع قبل الميلاد ، وعندهم من الكتب تآليف عديدة منقسمة إلى مجموعين :

أحدهما : يقال له «عندجور» وهو مائة وثمانية مجلدات.

والثاني : يسمى «دندجور» وهو مائتان وأربعون مجلدا ويوجد من كل منهما نسخة تامّة بمكتبة باريس الكبرى. قيل : إن المجموع الثاني اشترته دولة الفرانسيس بأربعين ألف فرنك. كما أنه يوجد أقسام أخرى من الديانات كالبراهمة (٢) وغيرهم من عبدة الأصنام أو النصارى

__________________

(١) التناسخ : Metempsychosis Transmigration وهو انتقال الروح بعد الموت إنما يكون على زعمهم بغرور الروح في أجساد مختلفة ، وذلك كله في الدنيا وإن روح أحسنت في قالبها أعيدت في قالب يؤذيها ، وزعموا أن أرواح الحيّات والعقارب كانت قد أساءت في بعض القوالب فعذبت في قوالب الحيات والعقارب ، قال بهذه النظرية بعض مفكري الهنود وفيثاغورس بين اليونان.

انظر المعجم الفلسفي ص ٥٥ طبعة مجمع اللغة العربية.

(٢) البراهمة : (برهمن) اسم لأعلى الطوائف عند الهندوس وهذا النظام يعتمد على المهنة وأن طبقة الكهنة الذين كرّسوا أنفسهم للفكر والعلم تطور إلى البرهمية ، يطلق هذا الإسم أيضا على الكاهن والمعلم الديني عند الهندوس. انظر المنجد (١٢٨) والملل والنحل للشهرستاني ٣ / ١٢٥ وصحح الأعشى ٥ / ٧٢.

٨٢

واليهود ، والديانة الغالبة فيهم هي البوذية ، وهي نوع من الوثنيين ، كما أن فيهم قسما عظيما من المسلمين يبلغ إلى ما ينيف عن الستين مليونا ، فمن هؤلاء نحو أربعين مليونا متفرّقين في الممالك أصلهم من الأهالي ، ومن العساكر المسلمين الذين جلبهم ملك الصين في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (١) حيث ثارت عليه رعاياه ، فاستنجد بالخليفة على أن يؤدّي إليه معلوما إذا أنجده ، فأرسل له أربعة آلاف من صناديد المسلمين وقهر بهم رعاياه وجازاهم عن ذلك بجواز الإقامة في مملكته مع جواز التزوّج ببنات الأهالي ومصاهرة الأعيان وإعطائهم ما يحتاجون إليه ، فأقاموا على شروط وهي استقلالهم في إدارتهم الخصوصية وعبادتهم وإشهارها ، فأجاز لهم مطلبهم لكن فرقهم على المدن العظيمة في مملكته ، وصار في كل مدينة مدينة مستقلة بالمسلمين على حسب كثرتهم وقلتهم مستقلين في أحكامهم الخصوصية مشهرين لشعائر الدين ، ولهم قضاة وأئمة بحيث لا يتداخل فيهم الحكم الصيني إلا في عموم السياسة ، ومنهم في مدينة «باكين» قاعدة المملكة نحو عشرين ألفا ولهم جامع ضخم قديم حسن جدّا ، ويسمونه بلغتهم «هوى هوى» ومساجد أخرى نحو العشرين منها إثنان لأهل الشيعة حيث حدث فيهم هذا المذهب في القرون الأخيرة ، وأغلبهم أهل سنة عن مذهب أبي حنيفة وكذلك بقية المسلمين في الصين مثل ما ذكر من القسمين.

ومن عادات هؤلاء المسلمين أن ينشروا في رأس كل سنة تقارير تشتمل على بيان أوقات الصلاة مكتوبا بأعلاها من أركان الإسلام الخمس كلمة الشهادة ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، ولا يذكرون الركن الخامس وهو الحج. قال بعضهم : إن علمائهم أسقطوا ذلك لعدم تحمل مشقة الطريق لبعد مسافة الحج عندهم ، وأظن أن علة منع الخروج من ممالكهم هي الباعث على ذلك ، وإلا فليست مملكة الصين بأشق في السفر من أهالي «سمطرا» وأقصى الغرب ودواخل السودان ، فجرت على ذلك عادتهم ولو بعد انتفاء المانع وسهولة السفر بحرا في البواخر.

ومن عاداتهم أيضا أن يكتبوا على أبواب الجوامع «خواي خوى ثانغ» أي محل الجماعة الإسلامية ، وأن يكتبوا «تسين جسن سواي» معبد الإله الحقيقي ، ويسمون علمائهم «لاوجوفو» أي المعلم الأكبر ، وأمّا أهل الصين فيسمون جوامع المسلمين «ليطاسو» أي محل العبادة الإسبوعية ، وحيث كان الدين الإسلامي لا يجوّز مناكحة المشركين أسلم كثير من نسائهم بل وعائلات النساء وتزوّج بهنّ المسلمون وتناسلوا إلى أن بلغ عددهم نحو الأربعين مليونا في هذا العصر ، ولم يزالوا على الإستقلال الإداري حتى حكى طرفا منه ابن بطوطة (٢) وهم عليه إلى الآن.

__________________

(١) هو عبد الله بن محمد بن العباس أبو جعفر المنصور (٩٥ ـ ١٥٨ ه‍) ثاني خلفاء بني العباس كان عارفا بالفقه والأدب مقدما في الفلسفة والفلك. توفي ببئر ميمون محرما بالحج. الأعلام ٤ / ١١٧ مروج الذهب ٢ / ١٨٠ و ١٩٤ تاريخ بغداد ١٠ / ٥٣ الكامل في التاريخ ٥ / ١٧٢ و ٦ / ٦ تاريخ اليعقوبي ٣ / ١٠٠.

(٢) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي أبو عبد الله ابن بطوطة (٧٠٣ ـ ٧٧٩ ه‍) رحالة مؤرخ. توفي في مراكش. الأعلام ٦ / ٢٣٥ وفي الدرر الكامنة ٣ / ٤٨٠ رقم الترجمة (١٢٨٥) دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٩٩ تاج التراجم ٥ / ١٠٩ وهو فيه محمد بن علي.

٨٣

ومن المسلمين أيضا أقسام في الجهة الغربية والغربية الشمالية من المملكة ، فمنهم المجتمع والمفترق ، وتسلطت على ممالكهم دولة الصين ولا يزالون ينتهزون الفرص للخروج عنها فتارة يتمكنون من ذلك وتارة تعود للإستيلاء عليهم ، مثل مملكة «كاشغار» في الجهة الشمالية الغربية فقد استقلت تحت ملك في عشرة الثمانين ومائتين وألف ، وهو الأمير يعقوب خان الذي ولد في جوار «تشقند» وحصّل العلوم في «سمرقند» ، واشتهر في أعظم مدارس بخارى مع مهارة في السياسة أهلته لأن يكون مشيرا مطاعا عند أمير «خوقند» ، وأرسله حاميا لمهاجمات الروس على قلعة «اكمتشيت» ، ثم توجه إلى «كاشغار» للحرب مع الصينيين وحصل على انتصار عظيم أورث له شهرة وثقة من المسلمين به هناك ، وطمع في تعويض مملكة سلطنة الصين بمملكة إسلامية وكسر لهم جيشا فيه أزيد من مائة ألف مقاتل واستولى على جهات معتبرة حتى ارتعدت منه مملكة الصين في سنة (١٢٩٣ ه‍).

وحيث كان بين عدوين مال إلى مسالمة الروسيا وعقد معها معاهدة تجارية ورام أحكام وحدة الإسلام ، فبايع بالخلافة للسلطان العثماني وتلقبه الدولة العثمانية بالأمير أدبا مع الخليفة ، وجلب هو من قاعدة الخلافة معلمين للفنون الحربية والصناعات الهندسية ونظم الجيوش فاخترمته المنية قبل رسوخ المملكة وتناحر بنوه وقسموا المملكة فانتهزت دولة الصين الفرصة واستولت على الجميع وإلى الآن أحوالها مخضرمة.

وهكذا أنشأت دولة إسلامية في أواسط الصين بميل إلى الغرب تحت سلطنة رجل يسمى السلطان سليمان ، في حدود السنين المذكورة ، وجعل قاعدة مملكته مدينة «طليفة» وإنشاء السلاح في ممالكه وطلب التعرف به من الدول وأنه متسلطن على نحو الستين مليونا من مسلمين وغيرهم فلم يكن إلا حلما وانتزعت منه السلطنة.

ومن عجائب مملكة الصين السور العظيم الذي يبتدىء من الشطوط الشرقية ويمرّ ممتدا بوسط المملكة إلى حيث العرض أربعين درجة شمالية والطول تسعة وتسعين شرقيا ، فمجموع طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلا ، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما ومن أعلى نحو خمسة عشر قدما ، وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما ، وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إلى أربعين قدما ، وهو مبني بالحجارة والآجر والقرميد وبعض أماكن طين فقط ، بناه بعض ملوكهم قبل التاريخ المسيحي بنحو مائتي سنة وعشرين سنة قاصدا به ردّ المهاجمات على المملكة الصينية الأصلية من المنغول والقبائل الشمالية ولم يجده نفعا إذ هم الذين تسلطوا على المملكة والسور الآن خراب في جهات كثيرة ، وقد غلط من توهمه السد الذي بناه «ذو القرنين» لمنع فساد «يأجوج ومأجوج» محتجا على ما يقول بأن ليس في الأرض سور ذو عظمة غير ذلك ، ورد قوله ظاهر لأن الصفات المذكورة في القرآن للسد (١) غير الصفات التي عليها ذلك السور ، ثم إن صفات يأجوج

__________________

(١) راجع سورة الكهف الآيات (٨٥ ـ ٩٨).

٨٤

ومأجوج المذكورة في النصوص المروية غير موجودة في أولئك الأقوام ، ودلت النصوص أيضا على أن ذاك السد يدكّ قرب الساعة وتحدث منهم حوادث لم تظهر إلى الآن ، فلا يكون حينئذ ذلك السور هو السدّ ولا يخفى أن بعض الأوروباويين الآن لهم دعوى مثل بقية البشر الغير متبصرين من العجائب بما هو عليه ، وادعاء بلوغ النهاية في العلوم حتى أنهم أنكروا وجود السدّ لدعواهم أن كرة الأرض صارت الآن معلومة ، ولم يجدوا فيها السد ، فهاته الدعوى هي في الواقع مبالغة منهم ، وإنما يقال إن اكتشافهم الآن للكرة أكثر من اكتشاف الأمم السابقين الذي وصلت إلينا مؤلفاتهم ، وإن احتمل إطلاع غيرهم على ما اطلع عليه الآن أو أكثر ، لكن لم نجد لذلك أثرا ولا يلزم من عدم وجود الدليل انعدام المدلول ، أما الإحاطة بجميع كرة الأرض وعلم جميع ما فيها فهو غير مسلم لوجوه.

فمنها : أن جميع علماء الجغرافية نصوا في تأليفهم أن جهة القطبين لم يمكن الاكتشاف عليها إلى الآن وأن المجهول جهة القطب الجنوبي أكثر من المجهول جهة الشمالي ، لأنه أي الجنوبي أشد انحرافا عن وصول الأشعة الشمسية إليه مستقيمة.

ومنها : أن الإكتشافات لا زالت تنموا شيئا فشيئا فإنه منذ أربعمائة سنة لم تكن أمريكا معروفة وكان علماء ذلك العصر يرون أن ما وراء شطوط القارات القديمة إنما هو بحر صرف ، حتى أن من ضمن في وجود عمران وراء ذلك سخروا منه تارة واضطهده جهلاء علماء الديانة تارة أخرى ، كما يأتي الكلام عليه في أحوال أمريكا ، ثم تبين بالواقع وجود ذلك العمران الذي يحسب القسم الثاني من أقسام الأرض ، ثم منذ ستين سنة اكتشفت استراليا التي هي القسم الخامس من القارات ، ولا زالت الإكتشافات متتابعة إلى الآن في أمريكا وفي غيرها ، ومنذ أربع سنين فقط اكتشف سواح الإنكليز جزيرة صغيرة جهة الشمال معمورة بخلق صغار الجثث فطس الأنوف كبار الأذان يأكلون نوعا من السمك ويلبسون جلده ويوقدون عظمه ، وكذلك اكتشف منذ قريب قوم من البشر على نحو تلك الصفة في شمالي أمريكا الشمالية ينحتون من جبال الثلج بيوتا ويجعلون للطواقي المنفذة للضوء قطعا من الثلج الصفيق لكي لا تمنع الضوء وتقيهم مرور الأرياح.

وهكذا لا زال الإكتشاف يتتابع : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١]. ومن تأمل سياق الآية الكريمة في حكاية حال «ذي القرنين» إلى بلوغه إلى «يأجوج ومأجوج» ظهر له من السياق أنهم جهة أحد القطبين إذ قال تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً

٨٥

قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف : ٨٥ ـ ٩٨].

فذكر أن ذا القرنين اتخذ أوّلا طريقا إلى أن بلغ منتهى الأرض من جهة الغرب فوجد الشمس هناك تغرب في ماء أسود كأنما هو بالحمئة أي الطينة السوداء وهو والله أعلم البحر المحيط الغربي لشدة عمقه يتراءى أنه أسود وسمي عينا نظرا إلى سياق عظمة قدرة الخالق وما اطلع عليه ذو القرنين الذي البحر المذكور بالنسبة إليه ما هو إلا كالعين إلى آخر الآية ثم ذكر أتباعه لطريق آخر وصل به إلى منتهى مطلع الشمس من الأرض وقص ما وقع هناك أيضا ، ثم ذكر أتباعه لطريق آخر ، فظاهر السياق أنه لغير المشرق ولغير المغرب فهو حينئذ إلى أحد القطبين وهو الذي ذكر فيه قصة يأجوج ومأجوج ، وعلى ذلك فذو القرنين سافر إلى أقاصي ثلاث جهات من الأرض والله أعلم ، أيّ القطبين الذي هو الجهة الثالثة.

ويؤيد هذا الفهم المأخوذ من السياق ما روي من «أن سيدنا الخضر كان وزيرا لذي القرنين وأنه اجتاز معه أرض الظلمة حتى وجد بها عين الحياة» الخ. وأرض الظلمة لا تكون إلا في أحد القطبين أو ما قاربه لأنه هو الذي يطول مغيب الشمس عنه كما هو معروف عند الحكماء والفقهاء ، وبنى عليه هؤلاء أحكاما في الصوم والصلاة مقرّرة في دواوين الفقه ، وليست هي أرضا غير المعروفة وإنما أتتها الظلمة مما أشرنا إليه ، ثم أن قارات الأرض إن كانت إذ ذاك على حالتها الآن ربما تقتضي أن القطب الذي وصل إليه هو الشمالي ، هذا إذا كانت هيئة الأرض إذ ذاك هي على نحو ما عليه الآن ، أما إذا كانت على شكل آخر فيمكن أن يكون القطب هو الجنوبي أيضا ، وإنما قلنا هذا لأن الأرض تتغير أشكالها على طول الزمان بما يحدث فيها من الزلازل العظيمة وانخفاض جهات من اليابسة وارتفاعات في جهات من البحر.

وهكذا فإن أمريكا على ما سيأتي كانت متصلة بقارة آسيا من جهة بوغاز برن بل أن جهة من مملكة تونس الشرقية تسمى برج بو الشاطر في عمل بن زرت كانت قديما مرسى السفن في دولة القرطاجنيين والآن صارت محترثات خصبة ، والبحر يبعد عنها نحو خمسين ميلا ، وكذلك في الجهة الجنوبية جنوبي الجريد كان فيها بحر يدخل إلى دواخل القارة الأفريقية والآن صار صحراء وهي المسماة بالصحراء الكبيرة. وسيأتي بقية الكلام عليه في الكلام على تونس. وكذلك خليج السويس كان بحرا موصلا بين البحر الأبيض والبحر الأحمر ثم سد ثم فتح الآن على ما سيأتي الكلام عليه أيضا في محله إن شاء الله تعالى.

فقد قال المفسرون في قصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر عند قوله تعالى : (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) [الكهف : ٦٠]. «إن المراد بمجمع البحرين هو محل إتصال بحر الروم

٨٦

ببحر فارس» (١). وهل ذلك إلا من السويس أو من مكان آخر من آسيا اليابسة؟ وهو أيضا يفيد المطلوب ، فتقلب حالات الأرض لا تبعد أن يكون سدّ يأجوج ومأجوج جهة القطب الجنوبي الذي هو وما قاربه أكثر مجهولية من الشمالي ، سيما وآثار سلسلة الجزائر إلى استراليا كالآثار الدالة على الإتصال ، ويؤيد أنه في أحد القطبين الصفات التي ذكرت ليأجوج ومأجوج في خلقتهم في الأحاديث الصحيحة كما في البخاري وغيره من الصحاح ، وهي صفات تقرب كثيرا من الصفات التي وجد عليها أهالي الجزيرة التي ذكرناها قريبا جهة الشمال واكتشفها الإنكليز وشاع أمرها وذكرها في صحف الأخبار ورسمت في خارطات الجغرافيين ، ووصول ذي القرنين إلى هاتيك الجهات وما وراءها ليس بغريب.

أما أولا : فلأن حرارة الأرض إذ ذاك ليست هي التي عليه الآن فجهات القطبين لم تكن على هاته الدرجة من البرودة ، ولذلك أدلة مسلمة في كتب الجغرافية الطبيعية خلاصتها على مذهب المتأخرين الذي لا يخالف الشرع ، أن هاته الأرض كانت كوكبا نائرا ناريا ثم انطفت طبقتها العليا ، ولا تزال تثخن تلك الطبقة ، وعلى قدر ثخنها تبرد وتنحصر الحرارة في جوف الأرض ومركزها ، ومهما وصلت الطبقة إلى درجة من الإعتدال الصالح لخلق من مخلوقات الله يخلقه الله فيها. وهكذا على التدريج إلى أن تم ما أوجده الله فيها واضمحل منها من أنواع الحيوان ما لم تبق صالحة له كنوع يشبه الفيل وهو أضخم منه وأنيابه مرتفعة إلى فوق ، فإنه الآن انعدم مما هو معروف من الأرض واكتشف على عظامه في طبقات سفلى من الأرض بالحفر جهة سيبيريا ، ويشهد بصحة هذا القول الأحاديث الواردة في التكوين وأن آدم عليه‌السلام ، خلق بعد الأرض بمدّة طويلة وأن الخيل خلقت قبل آدم عليه‌السلام بكثير ، إلى غير ذلك من الصفات الواردة عن الشارع في كيفية التكوين ، وقد وجد في سيبريا من عظام الحيوانات التي لا تعيش إلا في الأرض الحارة كالفيل وغيره بكثرة ، مما يدل على أنه ليس بمجلوب وإنما هو حيوان أصلي.

هناك ما يقضي بأن تلك الجهة كانت حارة ليست على ما هي عليه الآن من شدّة البرد ، فيحتمل أن زمن ذي القرنين كانت الحرارة معتدلة هناك حتى يمكن الوصول إلى تلك الجهة بلا مشقة ، ولا يقال إن التاريخ من زمن ذي القرنين إلى الآن لا يقتضي هذا التغير الكثير ، لأنا نقول : إن ذا القرنين هذا هو عربي كثر ذكره في أشعار العرب واسمه الصعب ملك من ملوك العرب العرباء معاصر لإبراهيم عليه‌السلام أو بقرب منه هذا هو الصحيح ، وإن غلط الرازي وغيره في توهمه أنه اسكندر المقدوني ومقدار زمنه لا يمكن الوقوف على تحقيقه ، وذلك أن ذا القرنين كان قبل موسى عليه‌السلام بكثير حسبما تقدّم في كون الخضر عليه‌السلام وزيره وهو الذي عاش وتعلم منه موسى عليه‌السلام ، وجميع التواريخ القديمة

__________________

(١) هو قول غير واحد : إن مجمع البحرين هما بحر فارس مما يلي المشرق وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب القرظي مجمع البحرين عند طنجة يعني في أقصى بلاد المغرب. انظر ابن كثير ٣ / ٩٢ وتفسير البغوي ٣ / ١٤٢.

٨٧

يعتمد فيها المؤرّخون على التوراة وهي قد وقع فيها التحريف قطعا في كثير من الآيات لا سيما ما يتعلق بالتاريخ تحريفا فاحشا ، ولا يلتفت لغلط ابن خلدون (١) في دعواه عدم التحريف بعد إثباته بالعيان ، وفيما أثبته الشيخ رحمة الله قدس‌سره في كتاب إظهار الحق من الإختلاف الكثير في التاريخ بين نسخ التوراة القاضي بعضها باجتماع نوح وإبراهيم وبعضها بالبعد الكثير بينهما ، وحرره مؤرخوهم أنه سنة (٣٥٢) مع أن العبرانية تقضي باجتماعهما لأن نوحا مات بعد ولادة إبراهيم ب ٥٨ سنة ، والسامرية تقتضي أن إبراهيم ولد بعد موت نوح ب ٥٩٢ سنة ، واليونانية تقتضي أنه بعده ب ٧٣٢ سنة والأولى يخالفها الإجماع والأخر بينهما التناقض التام ، وغاية المحقق أن إبراهيم لم يجتمع بنوح في عصر عليهما‌السلام ، والإختلافات على هذا النمط وعدم التحرير في التواريخ كثير جدّا فلا اعتماد حينئذ على ما هو موجود من التوراة ، نعم أن متأخري المؤرخين قد اعتنوا بهذا الفن وحرروه باستدلالات من الآثار القديمة والإطلاع على لغات قديمة لكن لم نطلع إلى الآن على أدلة وجدوها تثبت مدة زمن ذي القرنين على فرض تعينه وكم عدد السنين بيننا وبينه.

وأما ثانيا : فلا يبعد أن يكون لذي القرنين إذ ذاك من آلات حمل الأثقال وتيسير السفر ما لا يعلم الآن ، ويداعمه قوله تعالى في حقه : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) [الكهف : ٨٤] مما يقتضي اتساع اقتداره وتهييء الأسباب لمقاصده ، كعلم جر الأثقال مثلا الذي شوهدت الآن آثاره مما لم يقدر عليه متأخروا هذا العصر ، وكذلك النحت للقطع الهائلة التي لم تعلم كيفية قطعها ونقلها ، سيما وقد وجد في مصر من صورة السلك الكهربائي والرتل ما يقتضي علمه سابقا ، مع صور آلات أخرى غير معلومة كما سيأتي الكلام عليه في أحوال مصر.

فيمكن أن تكون حالة الأرض على هيئتها هاته ولذي القرنين وعلمائه وجنوده من المعارف والآلات ما تيسر لهم به الوصول إلى الأماكن الصعبة مما لم نعلمه الآن ، وأما قول بعض المؤرّخين : «إن الواثق (٢) من بني العباس أرسل معتمدين إلى السدّ وقاسوا بابه وقفله إلى غير ذلك من الصفات التي ذكرت له». فإنا لم نكن على ثقة منه ولم نعتمد عليه ، سيما ولم يعين أولئك المؤرخون مكانه وإنما يقتضي كلامهم أنه في الجهة الشمالية الشرقية من آسيا ، فلا يبعد أن يكون ما وصلوا إليه هو سور الصين ، وإذا فرضنا أنه هو المراد بالسد في النصوص الواردة ، يلزم حمل الصفات المذكورة فيها على بقاع من ذلك

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد ابن خلدون أبو زيد ولي الدين الحضرمي الأشبيلي (٧٣٢ ـ ٨٠٨ ه‍) مؤرخ فيلسوف عالم اجتماعي بحاثة. توفي بالقاهرة. الأعلام ٣ / ٣٣٠ نيل الإبتهاج (١٧) تعريف الخلف ٢ / ٢١٣ العبر ٧ / ٣٧٩ دائرة المعارف الإسلامية ١ / ١٥٢ نفح الطيب ٤ / ٤١٤ وفي الضوء اللامع ٤ / ١٤٥ رقم الترجمة (٣٨٧).

(٢) هو هارون (الواثق بالله) ابن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد أبو جعفر (٢٠٠ ـ ٢٣٢ ه‍) من خلفاء الدولة العباسية بالعراق. مات في سامراء. الأعلام ٨ / ٦٢ وفي الكامل في التاريخ ٧ / ١٠ وفي تاريخ اليعقوبي ٣ / ٢٠٤ وفي تاريخ بغداد ١٤ / ١٥ وفي مروج الذهب ٢ / ٢٧٨.

٨٨

السور ككونه من زبر الحديد ومفرغ عليه النحاس والصدفان.

حينئذ طرفان من ذلك السور كما تأوّل صفات يأجوج ومأجوج ، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية ، ويكون وعد الله الذي يدك فيه السدّ هو قرب الساعة ولا شك أن الساعة قربت ، كما أعلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى كناية عن مزيد القرب» (١) وكما قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١]. فما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى شيء قليل جدّا ، والطبيعيون أنفسهم مقرون بذلك لما يستدلون به من كيفية تكوين الأرض وارتباطها بالأجرام العلوية.

وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم ، هو ما وقع من التتر المنغولي من الفساد في الممالك وكفى بوقائع جنكس خان (٢) وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا مصداقا لذلك ، فإن من له إلمام بتاريخه يرى فيه العجب العجاب وهي مصيبة عظمى لم تحدث على المسلمين مثلها ، وإنما تطاول الزمان وعدم علم الجمهور بها هو الذي لم يصير لها اعتبارا الآن ، وكل هذا الأخير مستبعد وإنما يلزم المآل إليه إذا فرضنا الإحاطة حقيقة بجميع أطراف الأرض ، والحاصل أنه مهما وجدنا نصا عن الصادق يلزم التسليم إليه والتصديق به فإن وجدنا ما يخالف فهمه في الوجود وجب فهمه على مقتضى الوجود ، إذ يستحيل مخالفة خبره للواقع ، وقد نص على هذا العلماء الراسخون ، ومنهم سعد الدين التفتازاني (٣) في «التلويح». ثم إن لمملكة الصين من الأنهر العظيمة الحاملة للسفن الشراعية والبخارية ما أغناهم عن تكثير الطرق الصناعية في الأرض.

وأما الجهات التي لا تصل إليها الأنهر : فإنهم يصنعون فيها ترعا متصلة بالأنهر ميسرة للسير وحمل الأثقال ، حتى أن منها ترعة هي من عجائب الدنيا طولها نحو ستمائة وخمسين ميلا ، وصنعت في عدة أجيال من الجيل السابع من تاريخ المسيح أي القرن الثاني الهجري إلى القرن الثامن من الهجرة ، ولم تحدث فيها الطرق الحديدية إلى الآن.

__________________

(١) الحديث في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم كتاب الفتن برقم (١٣٥) وفي النسائي ٣ / ١٨٩ وفي الترمذي (٢٢١٤) وفي ابن ماجة (٤٥ ـ ٤٠٤٠) وفي السنن الكبرى للبيهقي ٣ / ٢٠٦ وفي الدر المنثور ٣ / ١٤٧ و ٦ / ٥٠ وفي الترغيب والترهيب للمنذري ١ / ٨٣ وفي أسباب النزول للواحدي (١٧٨) وفي إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٢٥٤ وفي مشكاة المصابيح (١٤٠٧ ـ ٥٥٠٥) وفي كنز العمال (٣٨٣٤٨ ـ ٣٩٥٧١).

(٢) هو جنكيز خان ابن يشوكي (١١٦٧ ـ ١٢٢٧ ه‍) منشىء الإمبراطورية المغولية ولد في إقليم دولون بلدة في (بلاد الروس) وكان إسمه الأصلي «تيموجين». هز بحروبه أركان الدول جميعا فيما بين الصين والبحر الأسود المنجد في اللغة والأعلام (٢١٩).

(٣) هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني سعد الدين (٧١٢ ـ ٧٩٣ ه‍) عالم بالعربية والمنطق توفي في سمرقند. الأعلام ٧ / ٢١٩ بغية الوعاة (٣٩١) مفتاح السعادة ١ / ١٦٥.

٨٩

وأما المعادن : فعندهم أغلب المعادن المعروفة ، ولكنهم لقلة مهارتهم في استخراجها وتصفيتها يحتاجون إلى جلبها من خارج.

وهكذا نباتات هاته المملكة فيها أغلب نبات المعمور لاتساعها واختلاف أقاليمها ، وكذلك الحيوانات والهواء ، وقاعدة المملكة هي مدينة باكين التي هي من أعظم مدن العالم ، سكانها أزيد من ثلاثة ملايين ولها سور يحيط بها ، وأغلب أبنيتهم طبقة واحدة مقسمة إلى عدة أقسام إلا قصور الملوك ففيها طبقات ، والأهالي يتزوّجون امرأة واحدة شرعية ويتخذون غيرها كالسراري على أنهنّ خذيمات لها ، ولهم شارات في التفاخر والدلالة على البيتوتية والغنا منها أن الأغنياء والأكابر يخلدون إلى الراحة حتى لا يكادون يتحرّكون وتغلب هاته الصفة في نسائهم ، فكان من عجائب عاداتهم فيهنّ أن بنت الأعيان إذا ولدت يجعلون لها حذاء من حديد أو ما أشبهه من الأشياء الصلبة ، ويلبسونه لها في سن المهد وتترك كذلك إلى انتهاء شبابها فتكون أقدامها صغيرة جدّا بحيث لا تستطيع المشي ، وكذلك كفوف يديها حتى لا تقدر أن تشتغل ولا ترفع شيئا ، من الإعتناء بتسمينها فتصير ذاتها ضخمة وكفها وقدماها في غاية الصغر ، دلالة على أنها لا تحتاج لعمل شيء بنفسها وكل الضروريات وغيرها تفعلها لها الخوادم ، فيصنعون مساطب لحملها على الأعناق عندما تريد المشي لأي جهة كانت وهكذا جميع الحركات ، ويستكثرون من الخدم على قدر البسطة في المال والجاه وعادة الحمل على الأعناق عامة حتى في الرجال الكبراء والأغنياء ، وهاته الخلة جارية أيضا في أهالي الهند.

وأما حكم هاته المملكة المتسعة : فهو يرجع إلى عامل واحد ذي حكم استبدادي مطلق وله وزراء يديرون ويجرون أمر المملكة على إرادته ، ثم في الجهات أمراء مستبدون في التصرف في إماراتهم تحت أوامر السلطان العام الذي يقلد ويعزل منهم حسب إرادته ، ومع ذلك الإستبداد فإنهم لتحفظهم على العوائد القديمة تجد كأن أحكامهم قانونية لإجرائهم الحوادث شبه بعضها ، ولا يتجاسرون على خرق العادات القديمة في جميع تصرفاتهم إلا في أمر أكيد عظيم وقلما يقع ، ولهم اعتقادات في ملكهم ربما أدّتهم إلى اعتقاد ألوهيته ، ولهم أيضا دواوين يضبطون بها إدارات التصرف والأموال وأرزاق العساكر ، فمن نظر إلى مجموع تصرفات المملكة يجدها مشابهة أعظم مشابهة إلى الدول القانونية ، وكان ذلك هو سبب قدم هذه الدولة وعدم تلاشيها ، إلا أن السلطان عندهم وإن كان له أن يفعل ما يشاء ، إلا أنه لا يفعل شيئا إلا بمشاورة رجال دولته وأرباب مجالسه في جميع الأمور ، وكل من أمرائه لا يتصرف إلا بمشاورة رجال مجالسهم ، ولا يتوظف أحد في خطة أيا كانت إلا أن يكون من أصحاب العلوم والمعارف الذين هم وجهاء الأمّة ، كما يشترط في كل موظف أن يكون متأهلا وجديرا بالخطة التي يتقلدها ، ومن عاداتهم الشبيهة بالقانونية أن المتوظف إذا ظلم أحد الرعايا ولو في أقل الأشياء يعاقب أشد العقاب ، بل إنهم مطلوبون كل على حسب خطته بما يطرأ على الأهالي من المصائب السماوية التي يكون في

٩٠

وسع البشر تداركها كفيضان الأنهر وسقوط الجدران وما شاكل ذلك ، ويعاقبون عليه بالعزل ولهم صحيفة رسمية قديمة قبل أن تعرف الصحف في أوروبا بقرون ، ولها نحو ستين صحيفة تنشرها يوميا ولا تحتوي إلا على الحوادث الخاصة بدولتهم وتصرفاتها ، وحيث كانت الكتابة عندهم صعبة جدّا لأنها فيها علامات عوضا عن الحروف ، منها أصلية ومنها فرعية تدل على الكلمات فكانت نحو ألفين وخمسمائة علامة وهي المستعملة الآن.

أما العلامات القديمة التي لم يبق استعمالها إلا نادرا فهي نحو أربعة وأربعين ألفا وأربعمائة وتسعة وأربعين شكلا ، فلذلك كانت معرفة الكتابة عندهم قليلة جدا. وقد تعارفوا صناعة الطبع قبل معرفتها في أوروبا بكثير ، وهي على غير الصورة المعروفة الآن ، فإنهم كانوا ينقشون الكتابة في ألواح بحيث تكون على عدد صفحات الكتاب الذي يريدون طبعه ، وإن شئت قلت ينسخون الكتاب أو الكتابة بالنقش في ألواح ويطبعون بها ما شاؤوا ثم يدخرونها إلى وقت الحاجة فيعيدون الطبع متى أرادوا.

وأما الغناء في المملكة فهو كثير لكثرة موارد الثروة وكثرة السكان ، ومع ذلك هو بالنسبة لغنى الممالك المتمدنة ذات الصنائع المخترعة قليل نظرا لعظم المملكة وما فيها ، وقد تقدّم ما في عزم دولتها وما شرعت فيه من القوّة الحربية.

وأما القوّة المالية فهي غير معروفة لاختلاف أنواع الأداء وتفرّقه على أنواع المتوظفين كل منهم له كيفية في الإستخلاص على وظيفته من الأهالي.

الفصل الثاني عشر

المملكة الثانية عشر مملكة الروسيا في آسيا

هاته المملكة تبتدىء من الشمال الأقصى من القارة ثم تنعطف مع حدود الصين الغربية وتصل إلى مملكة إيران من شماليها وإلى المملكة العثمانية من شرقيها ، فهي متسعة جدّا ولا تزال تتوسع في الممالك الصغيرة بأواسط آسيا حيث تفرّقوا شيعا فصارت تتغلب عليهم بتسليط بعضهم على بعض وانتصارها لبعضهم حتى تبتلعهم شيئا فشيئا بحيث لم يبق منهم إلا القليل كما سيأتي الكلام عليه بعد ، وحكمها في هاته المملكة سيبين في الكلام على هاته الدولة في ممالك أوروبا وكذلك بقية التصرفات السياسية.

وإنما نقول هنا أن فيها قسما يسمى سيبيريا هو شمالي الصين في نهاية شدة البرد ، وهو قليل السكان والحيوانات إلا بعض الحيوانات المتجلدة على البرد كالدب الأبيض والذئب الكبير ، وقد اطلع علماء الطبيعة على أن تلك الجهة كانت عامرة بأنواع من الحيوانات التي تألف الجهات الحارة كالفيل وبعض أنواع من الحيوانات فقدت الآن ، مثل حيوان أكبر من الفيل ويشبهه في الخلقة وله شعر صلب مستطيل يمتدّ من مبتدأ رأسه إلى مغرس ذيله يكون مرتفعا مفرزا عن بقية شعر بدنه ، وله أنياب طوال متجاوزة لشفتيه مثل

٩١

أنياب الفيل غير أنها مرتفعة إلى فوق ، واطلعوا على وجود هاته الأنواع هناك بكثرة عظامها في طبقات سفلى من الأرض ، تدل على أن تلك الجهة كانت حارة كما تقدم ، وهي الآن من شدة بردها اتخذتها الروسيا منفى لأصحاب الجرائم الشديدة ، فما يصلون إليها إلا بعد فقدان أكثرهم في الطريق ومن وصل منهم لا يبقى سالما وتحدث لهم وللسكان الأصليين أمراض في الأعين من شدّة الضوء المنبعث من سطوع الأشعة الشمسية في بياض الثلج المتكاثر الدائم.

ويوجد في هاته المملكة أعني بقية مملكة الروسيا في آسيا أنواع شتى من الفراء العالي. وفيها أنواع النبات المختلف الذي يوجد في أغلب الأقطار الباردة والمعتدلة ، وتجارتها متصلة مع جميع الأقطار لكنها ليست بمتسعة لصعوبة النقل حيث لم تتم الطرق الكافية الموصلة لشواسع هاته المملكة المتسعة ، ولأجل انحطاط درجة المعارف والصنائع التي يمكن بها مناكبة الأوروباويين في هذا العصر ، ولا يخفى أن مملكة متسعة مثل هاته تشمل أصنافا من البشر ، لا بد أن يكون أهلها مختلفي الطبائع والعادات ، فالمسلمون كالجركس والكرج هم أهل شجاعة وتجلد وصبر على اقتحام المشاق ، مع تعصب لبعضهم وغيرهم من المسلمين ، وغيرهم كأهل خيوا والقريم والداغستان هم أيضا فيهم تلك الصفات ، غير أنها أقل من سابقهيم ودونهم أيضا في التعصب وقد استولت الروسيا على هاته الممالك تدريجيا ، فمنذ نحو ثلاثمائة سنة وهي تمتدّ فيهم شيئا فشيئا ، ومع كون الروسيا استبدادية فالمسلمون الذين طال استيلاؤها عليهم وتناسوا العداوة ، تعاملهم الآن بالرفق وحرية الديانة بحيث يكون الأذان والصلوات في المساجد وعقد الأنكحة كلها قائمة ، وكذلك تعلم العلوم الدينية ، ولسانهم هو أيضا مباح ولا يتعرّض لهم بشيء ، وتجري عليهم بقية الأحكام الشخصية والسياسية مثل بقية الروسيين حتى في اتخاذ العساكر منهم ، لكن أكثر العساكر منهم هم على غير نظام ، مما يسمى قزاق نوع من الخيالة الغير النظامية ، وأما المسلمون الذين تسلطت عليهم من قريب فتجري فيهم أنواع القهر والغلظة من الحكم العسكري البحت ما تنفر منه الطباع ، وذلك للتحرّس من ثورتهم وتربية الجيل الناشىء على المذلة والخضوع إلى حكمها ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الفصل الثالث عشر

المملكة الثالثة عشر مملكة هرات

هاته المملكة موقعها شرقي إيران وغربي بعض الصين والهند وجنوب الروسيا وشمال أفغانستان ، وكانت تابعة لإيران ثم استقلت عند استقلال الأفغانستان وأهلها مسلمون سنيون والظن أنها لا تلبث أن تلتهمها بعض الدول المجاورة لها لصغرها بالنسبة إليهم ، والأقرب رجوعها لإيران بإعانة الإنكليز في هاته المدة لإتمام مأربه هو في الأفغان ، حيث أنهم موافقون لهم في المذهب ويمدونهم بالإعانة على حرب الإنكليز ، فلذلك أغرى إيران

٩٢

بالحرب لهم والاستيلاء عليهم ، بيد أن سياسة الروسيا عطلت ذلك.

وعدد الأهالي مجهول الحقيقة وعلى التخمين أنهم نحو مليونين تحت ملك مسلم استبدادي مطلق من ذرّية أحمد شاه ، الذي أنشأ في أفغانستان وما والاها مملكة ذات شأن والأحكام الشخصية شرعية ولهم أيضا فيها حكام سياسية لكن النفوذ قليل ، لأن أغلب السكان قبائل رحالة فيهم حرية البداوة هم من أصل التركمان ، وكانت في المملكة مدن عظيمة في أودية بين الجبال التي على جنوبي صحراء خوارزم هدمت كلها بتخريب جنكس خان التتري ، وقاعدة المملكة مدينة هرات وهي مدينة عظيمة تسقى بنهر يتشعب في شوارعها ودورها ، ولها تجارة حسنة في نتائج أراضيها المخصبة مع الممالك المجاورة ، وفيها من النباتات كل نبات الأراضي المعتدلة لاعتدال هوائها وسلامته ، وكانت مناخا للعلوم ومنبتا للعلماء الأفاضل حتى قال ياقوت (١) في المشترك : «إن علماءها لا يحصي كثرتهم إلا الله» وهي الآن دون ذلك وإنما فيها من العلماء حسب الحال ، ولأهلها من الصنائع الجيدة السيوف وآلات القطع ، لأن تيمور لنك نقل إليها ماهري هاته الصناعة من دمشق فبقيت فيهم إلى الآن ولهم مهارة في صناعة البسط والأقمشة الحريرية ، ويقال في قوّتها الحربية والمالية ما قيل في أفغانستان على نسبة عدد سكانها.

الفصل الرابع عشر

المملكة الرابعة عشر هي إمارات التتر المستقلين

هاته الإمارات موقعها غربي الصين وشرقي وجنوبي بعض الروسيا وشمالي وشرقي هرات وبعض إيران ، وجميع السكان مسلمون سنيون وحقيقة عددهم مجهول وإنما يقال على التقريب أنهم نحو سبعة أو ثمانية ملايين ، وقد كانت الممالك منقسمة إلى خمسة أقسام ، كل قسم مستقل تحت حاكم يلقب بالخان وهي : «خيوه ، وبخارى ، وتشقند ، وخوقند ، وقبائل التركمان الرحالة المعروفة بتيكي.

وأما الآن فإن «خيوا» دخلت في حوزة الروسيا وصارت جزءا من ممالكها وإن أبقيت لها بعض امتيازات ظاهرية كإبقاء خانها ولقبه ، غير أنها في الواقع هي من مستملكاتها الداخلة في حكمها وتحت أمرها.

وأما بخارى : فهي أيضا مثل خيوا غير أن امتيازاتها أكثر منها ، وعلى كل حال فكلاهما يصح أن يقال أنهما مستقلتان بالإدارة الداخلية تحت الأمر الروسي ، ويؤدّيان له الخراج السنوي ، ولهما عساكر بقدر ما تسمح لهما به الروسيا للتحفظ على الراحة في المملكة أو لإعانة الروسيا فيما تأمرهما به.

__________________

(١) هو ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي أبو عبد الله شهاب الدين (٥٧٤ ـ ٦٢٦ ه‍) مؤرخ جغرافي أديب لغوي. توفي في حلب. الأعلام ٨ / ١٣١ مرآة الجنان ٤ / ٥٩ وفيات الأعيان ٢ / ٢١٠.

٩٣

وأما تشقند : فقد صارت ولاية روسية تحت حكم جنرال روسي ، فهي حينئذ مشمولة بالكلام الذي سبق في أحوال مملكة الروسيا.

وأما خوقند : فلا زالت مستقلة تحت إمارة خانها ، وحكمها إستبدادي وعدد سكانها نحو مليونين.

وأما قبائل التركمان : فقاعدة مملكتهم هي «مرو». وموقعها جهة الشرق الجنوبي من بحر قزبين المستملكة جميع شطوطه الروسيا ، وعدد السكان نحو مليونين ونصف لكنهم ليسوا خاضعين حقيقة للخان وإنما هم قبائل لكل منها رئيس ، وكأنها مع أختها لا تلبثان أن تلحقا أخواتيهما إذ الحرب الآن قائمة على ساق بين الروسيا وقبيلة تيكي ، وقد كسروا الروسيا في هذا العام وهو سنة (١٢٩٧ ه‍) مرّتين إنكسارا هائلا ولا زالت تستعد لحربهم ، وإخوانهم ممن استولت الروسيا عليهم وغيرهم ينظرون إليهم كما كانوا هم ينظرون إلى حربهم معها ، إلى أن ينفذ حكم الله الذي لا معقب لحكمه وتكون له الحجة البالغة سبحانه وتعالى ، حيث تفرّق المسلمون شيعا للأغراض والأهواء النفسانية ، ولم يجروا الشرع في الأحكام الكلية والجزئية وأخلدوا إلى الجهل والتنعمات الزائلة ، حتى تمكن العدوّ منهم وصارت بلدان الإسلام ومناخ العلوم لعبة بأيدي الأعداء وأصحاب الأهواء ـ ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم ـ فوا أسفاه على بخارى وسمرقند وغيرهما من مدارس الدنيا في الفنون والعلوم الدينية والرياضية ، وواها على تلك الدقائق والاستنباطات والإختراعات لتأسيس العلوم وتهذيبها وإتقانها ، ورحم الله أولئك الرجال الذين عمروا الأرض وحموا الدين ولم تزل الأمم تستنفع بمعارفهم إلى الآن ، ولم يعملوا بها بل ولم يتعلموها حق علمها حتى كادت أن تصير في خبر كان ، والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

الفصل الخامس عشر

المملكة الخامسة عشر هي ممالك الأئمة في جزيرة العرب

هاته الممالك يحيط بها البحر من جهتين : فمن الشرق خليج فارس ، ومن الجنوب المحيط الشرقي ، ويحدّها غربا الحجاز واليمن من توابع الممالك العثمانية وعدن التابعة للإنكليز ، ومن الشمال العراق العربي للدولة العثمانية. وهاته الممالك هي المعروفة سابقا بنجد ، وتهامة ، واليمامة ، وأخلاقهم هي أخلاق العرب في هذا العصر من التجرّد عن أغلب الصفات التي كانت للعرب السابقين ، وأما الديانة في الجميع فهي الإسلام ، وأما المعارف والعلوم فكاد أن لا يعرف عندهم منها إسم ولا مسمى إلا قليلا منهم في قليل من علوم الدين ، والحاصل أنهم أمم يقرّ بهم الجغرافيون بستة ملايين من النفوس على البداوة ، وأغلبهم رحالة ينقسمون في الأحكام إلى شيع كثيرة يلقب كل رئيس منهم بالإمام ، كإمام مسقط ، وإمام رياض بنجد من الوهابيين ، أعني أتباع عبد

٩٤

الوهاب (١) الذين ظهروا في أوائل القرن الثالث عشر ، ناشرين دعوة شيخهم محمد بن عبد الوهاب حيث كان مدعيا بحفظ السنة وإبطال البدعة فتجاوز الحدود حتى منع المباح ، وقويت شوكته وكثرت أتباعه حتى تسلط على الحرمين الشريفين وقطعة من العراق إلى كربلا ومسجد علي ، وخرّبه وهدم البناآت على القبور وأزال الكتابات التي عليها ، وأراد أن يحمل الناس على الاتباع حتى في العادات والأحوال الدنيوية وإن اختلف الأعصار ولم يتقيد بمذهب خاص بل أنه يدعي العمل بالحديث على مقتضى ما يفهمه ، وسيأتي ما يتعلق بهاته المسألة في فصل من المقصد عند الكلام على رجوعي من السفر الأول إلى باريس ، وملخص الكلام أن هاته الفرقة تجاوزت المقصد الصحيح في الدين الذي ينبغي التيقظ إليه وإن كانت تدّعيه ، كما أن بعض الرادين عليها تجاوزوا حدّ ما ينبغي وخرجوا أعمالها كلها عن حدود الشرع ، بل كادوا أن ينسبوها للكفر وقد ألفت تآليف كثيرة في الردّ على مذهبهم من علماء مصر وتونس وغيرهم (٢).

__________________

(١) هو من أهل القرن الثاني عشر الهجري ، ظهر بدعوة ممزوجة ، بأفكار منه زعم أنها من الكتاب والسنة ، وأخذ ببعض بدع تقي الدين أحمد بن تيمية فأحياها ، وهي تحريم التوسل بالنبي ـ وتحريم السفر لزيارة قبر الرسول وغيره من الأنبياء والصالحين بقصد الدعاء هناك رجاء الإجابة من الله ، وتكفير من ينادي بهذا اللفظ : يا رسول الله أو يا محمد أو يا علي أو يا عبد القادر أغثني إلا للحي الحاضر ، وإلغاء الطلاق المحلوف به مع الحنث وجعله كالحلف بالله في إيجاب الكفارة ، وعقيدة التجسيم في الله والتحيز في جهة.

وابتدع من عند نفسه : تحريم تعليق الحروز التي ليس فيها إلا القرآن وذكر الله ، وتحريم الجهر بالصلاة على النبي عقب الأذان. وأتباعه يحرمون الإحتفال بالمولد الشريف خلافا لشيخهم ابن تيمية.

وفي تاريخ مفتي مكة أحمد زيني دحلان تحت فصل فتنة الوهابية ما نصه : «كان في ابتداء أمره (أي عبد الوهاب) من طلبة العلم في المدينة المنورة ... وكان أبوه رجلا صالحا من أهل العلم وكذا أخوه الشيخ سليمان ، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من أقواله وأفعاله ونزغاته في كثير من المسائل ، وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه

فحقق الله فراستهم فيه لما ابتدع ما ابتدعه من الزيغ والضلال الذي أغوى به الجاهلين وخالف فيه أئمة الدين. وزعم محمد بن عبد الوهاب أن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه إخلاص التوحيد والتبري من الشرك ، وأن الناس كانوا على الشرك منذ ستمائة سنة وأنه جدد للناس دينهم.

وكان محمد بن عبد الوهاب الذي ابتدع هذه البدع يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة : ومن توسل بالنبي فقد كفر. وكان أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب من أهل العلم فكان ينكر عليه إنكارا شديدا في كل ما يفعله أو يأمر به ولم يتبعه في شيء مما ابتدعه ، وقال له أخوه سليمان يوما ، كم أركان الإسلام يا محمد؟ فقال خمسة : فقال : أنت جعلتها ستة السادس : من لم يتبعك فليس بمسلم هذا عندك ركن سادس للإسلام.

وقال رجل آخر يوما لمحمد بن عبد الوهاب : كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له : يعتق في كل ليلة مائة ألف وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله ، فقال له : لم يبلغ من اتبعك عشر عشر ما ذكرت فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالى وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن اتبعك ، فبهت الذي كفر.

(٢) ألف كثير من علماء الحنابلة وغيرهم رسائل في الرد عليه. وكان أخوه سليمان قد ألف رسالة في الرد ـ

٩٥

لما استفحل أمر هاته القبيلة واستولت على الحرمين الشريفين ونشرت دعواها في تأليف خاص ، وبقيت على ذلك إلى أن تجرّد لها إبراهيم باشا من أمراء مصر وقهرها ، وأسر رئيسها سعود بن عبد العزيز العنزي (١) من ربيعة الفرس ، حيث كان هذا من أعظم أنصار الوهابي والقائمين ببيعته وانتشار مذهبه إلى أن مات في ضراعية وتلاشت من ذلك الوقت تلك الدعوة والدولة ، ولم يبق لها اعتبار إلا في نجد وأمامها الآن أحد نسل سعود المذكور ، وهو في التصرف أشبه بشيخ قبيلة بعيد عن الملك وانتظامه وشارته ، وهكذا سائر الأئمة المتقاسمين بتلك الجهات ، والأحق أن لا يعتبروا مملكة مستقلة وإنما يعتبرون كأنهم قبائل في أطراف الممالك العثمانية غير خاضعين إليها ، ولو أنها أحسنت التصرف بالدين والسياسة ، فإنها بإرادة الله تضمهم إلى ممالكها وتنظم أمرهم على أحسن ترتيب فينصلح حالهم وتتقوى بهم الدولة الإسلامية ، لأن في أراضيهم أودية فسيحة خصبة وجبالا غنية بالأشجار والمعادن ، لا سيما في نجد ، مع كرامة خيلها في الدنيا والرغبة فيها من جميع أهل العالم العارفين بالخيل ، وكذلك عندهم من الحيوانات الأنسية والوحشية ما هو مورد للثروة.

فكما امتدّت الدولة العلية بالولاية على اليمن شيئا فشيئا إلى العهد القريب ، كذلك إن شاء الله تجمع كلمة الإسلام هناك على خليفة واحد ، وكان سبب بقائهم إلى الآن لم تستول عليهم إحدى الدول هو اتساع أراضيهم وكون أغلبها صحارى وقفارا ، وأكثرهم قوم رحّل فلا يضبطون بسهولة لأنهم يلتجؤون إلى الدواخل ، والدولة العلية يسهل عليها ذلك لاتحاد الدين ، والإستيلاء على أغلب حدودهم فلا يصعب عليها المدد والإستعانة ممن جاورهم ، وبالعلماء في هدايتهم حتى تجري فيهم التراتيب الشرعية وتنتفع بهم الأمّة كما ينتفعون هم بالعدل والتمدن والمعارف ، ولا شك أن لاتحادهم اعتبارا عظيما عندما يتقدّمون ، لا سيما وأصل الغريزة العربية سليمة ولله الحمد ، أصفى قابلية للتقدّم من غيرها ، وشاهده ما حصل من العرب بعد غرس الحكمة فيهم بالدين الإسلامي وأهم هؤلاء القبائل وأئمتها الآن هي قبيلة مسقط ولها إمام وقد أدخل تحته طوعا قبيلته ظفار في هاته السنة وهي سنة ١٢٩٧ ه‍ ، وله نوع احتماء بالإنكليز كما سيأتي في الكلام على زنجبار من أفريقية.

__________________

ـ عليه سماها : «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية» وهي مطبوعة. وأخرى سماها فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب.

(١) هو سعود بن عبد العزيز بن محمد بن مسعود من عشيرة مقرن من عنزة شيبان (١١٦٣ ـ ١٢٢٩) يعرف بسعود الكبير. من أمراء نجد وليها يوم مقتل أبيه بالدرعية ، ساعد محمد بن عبد الوهاب في نشر مذهبه ، مما دفع بالدولة العثمانية بحشد جيوش من الترك وغيرهم بقيادة محمد علي باشا سنة ١٢٢٦ ه‍ لمحاربة آل سعود في نجد. وأرسل محمد علي باشا إبنه أحمد طوسون من مصر فدخل المدينة ومكة سنة (١٢٢٧ ه‍) والطائف سنة (١٢٢٨ ه‍). توفي بعلة السرطان المعوي. الأعلام ٣ / ٩٠ وفي البدر الطالع ١ / ٢٦٢.

٩٦

الفصل السادس عشر

المملكة السادسة عشر

هي مملكة نيبول وموقعها بين جبال هملاي الوسطى وتراي ، وبين سكين من شرقيها وكيماوون من غربيها ، فهي واقعة بين الصين والهند الإنكليزي ، فلها الصين من الشمال والشرق الشمالي ، والهند من الجنوب والغرب والشرق ، وعدد سكانها نحو مليونين ونصف ، وعوائدهم مثل أو قريب من الهمج من الدول الشرقية مع شجاعة وكذلك أحوال ديانتهم.

الفصل السابع عشر

المملكة السابعة عشر

هي مملكة بوتان أو بهتان ، وهي أرض بين جبال هملاي وأسام ، وهي شرقي المملكة السابقة وتفصل بينهما قطعة من ممالك الهند الإنكليزي ، فيحدّها جنوبا الهند الإنكليزي وكذلك شرقا وغربا ، ويحدها الصين شمالا ، وسكانها نحو مليون من النفوس وديانتهم وثنية ، ولهم ملكان أحدهما : ديني ويعتقدون حلول الإله المسمى عندهم «بودا» فيه ، ويلقبون هذا الملك «دورمه رجا» والثاني : هو الملك السياسي وبيده القوة الحربية والحكمية ، ويلقبونه «دب رجا» ، ويتصرف في العسكرية بواسطة أميرين. أحدهما : في مشرق المملكة. والثاني : في مغربها ، وهم في الحقيقة همج ، إذ القبائل غير خاضعين للحكام.

الفصل الثامن عشر

المملكة الثامنة عشر

هي مملكة كشمير الشهيرة بما لها من المنسوجات الرفيعة ، وتختها مدينة كشمير وقد صارت دولة مستقلة من سنة (١٢٦٣ ه‍ ـ ١٨٤٦ م) ، غير أنها تؤدي خراجا سنويا إلى الإنكليز ، وموقعها في الشمال الغربي من ممالك الهند الإنكليزية ، فيحدها جنوبا ما ذكر ، وشرقا الصين ، وشمالا التتر المستقلين ، وغربا أفغانستان ، وأهلها نحو سبعمائة ألف لكنها زادت اتساعا بما استولت عليه من قبائل الجبال التي فوق التتر ، وأهاليها مسلمون ولها ملك بإدارة استبدادية شبه القانونية ، وعليه نظر الحاكم العام الإنكليزي في الهند ، لكن لكثرة امتيازاته ذكرناه مستقلا ، وكذلك يرسم في الخرايط.

الفصل التاسع عشر

المملكة التاسعة عشر مملكة الجابون

هاته المملكة هي أوّل ممالك الجزر التابعة لآسيا وهي متكونة من عدة جزر شرقي مملكة الصين ، وكانت في القديم تابعة للصين ، وأهلها مثل أهل الصين في الشكل والعادات والحذق بالصنائع ، وعددهم نحو ثلاثة وثلاثين مليونا وثلاثمائة ألف وستمائة

٩٧

وخمسة وسبعين نفسا ، ثم استقلوا في أحكامهم وملكهم.

وفي أواخر هذا القرن أعني منذ نحو عشرين سنة استولى ملكهم رجل عاقل من عائلة الملك ، وشمر عن ساعد الجد في إحداث عصر جديد للمملكة حتى خرجت عن أن تشبه الممالك الشرقية ، وصارت كأنها دولة ومملكة أوروباوية غربية من أعظم الممالك ذات السطوة والشأن والتمدن والتقدم والمعارف والصنائع ، وذلك أنه تولى ملكهم المسمى «الميكادو» وكان حدث السن ذا أخلاق حسنة وتربية صالحة ، وكان معجبا بأحوال الأوروباويين القادمين إلى دولته للسياحة والتجارة ، وكان سمع من أحوال أوروبا وتقدمها ما هو معروف ورأى من تقهقر مملكته وما جاورها ما أوجب له العزم على تغيير حالتها ، ولكنه خشي من تمسك قومه بالعادات القديمة التي يحافظون عليها كأهالي الصين ، لكنه استعان بالخلة المخصوصة بها أمّته وهو إعجابهم بالحوادث الجديدة ، فابتدأ بتغيير زي المتوظفين ورؤوساء الدولة وجعله على النحو الأوروباوي ، وبقي هو في ذاته على الزي القديم مختبرا لأفكار القوم بذلك ، فلم ير منهم إلا الإسراع والإستحسان لما أمر به فلم يلبث أن غير زيه في نفسه.

وأرسل سفراء إلى أوروبا لاستقراء ما فيها من أصول المنافع والصنائع وآلات الحرب وحركاته ، وجلب المبادىء المحتاج إليها في مملكته من علماء وآلات وغير ذلك. ثم ألزم أمّته بإعطاء الحرية العمومية حيث كانوا تحت حكم الأشراف ، بمعنى أن كل عائلة شريفة تملك قسما من الأراضي بمن فيها من الناس يكونون تحت عبوديتهم وامتثال أوامرهم ، فأبطل هاته العادات وانتخب من قوانين ممالك أوروبا ما صلح في نظره وصلحه على مقتضيات عادات بلاده وأمر بالعمل به.

كما ألزم العمل بالطريقة العسكرية في حركات الحرب المعمول بها في أوروبا ، وألزم كل ذكر يبلغ سن العشرين بالإنتظام في سلك العسكرية للدفاع عن الوطن على قانون معروف ، وفتح المكاتب والمدارس في العلوم الرياضية وغيرها ، وكثر منها التكثير اللازم. وألزم الأهالي بعقد الشركات للبريد وأنواع التجارة والفلاحة ، وفتح الطرق الحديدية واستخراج المعادن ، وزيادة عما جلبه من السلاح الأوروباوي من الطراز الجديد ، أحدث معامل في مملكته وأنشأ السفن حتى كانت عنده إحدى عشرة مدرعة ، وبالجملة : فإن انقياد الأمّة الجابونية إلى هذا الملك وتقدم هاته المملكة في أسرع وقت من عجائب هذا القرن التي تخلد في التواريخ ، وستأتي قوّتها الحربية والمالية في جدول الدول.

وعلى ما تقدم فتعتبر كإحدى الدول الأوروباوية الأول المتقدمة ، وفيها من الثروة والتمدّن والغناء ما في ممالك أوروبا وما في مملكة الصين ، وقاعدة هاته المملكة مدينة «جدو» في جزيرة نيغون التي بها جبال بلكان كثيرة ولأجلها يكثر فيها الزلزال ، ومعادنها غنية وأصل ديانتهم كديانة أهل الصين.

٩٨

الفصل العشرون

المملكة العشرون مملكة أتشين

وهي قاعدة جزيرة سومطرى ، وهاته الجزيرة خصبة جدّا وفيها معادن جيدة ومغاص على اللؤلؤ ، ويقسمها خط الإستواء إلى قسمين ، وهواؤها على العموم جيد في الجبال رديء في الأودية ، وسكانها نحو ثلاثة ملايين ، وكان من الحق ذكرها في اتباع الدولة العثمانية ، لكن التغافل من بعض المتوظفين أوجب إهمال الدولة لحقوقها فيها على ما سيأتي ، وأوجب التكلم عليها باستقلالها ، «وذلك أن هاته المملكة كانت في الزمن القديم تحت رؤوساء من المجوس إلى أن فتحها السلطان «جوهشاه» من أمراء الهند في ٤ رمضان سنة ٦١١ ه‍ ، وأسلم كل أهلها وتمذهبوا بمذهب الشافعي ، وفي سنة ٩٢٢ ه‍ في ولاية سلطانها «فرماهشاه» بايعت بالخلافة للسلطان «سليم خان» وحصلت منه على فرمان متضمن لقبول حمايتها وإبقاء سلاطينها على يد الوزير سنان باشا ، ثم جدد ذلك السلطان «عبد المجيد» سنة ١٢٦٧ ه‍ وأرسل إلى سلطانها «علاء الدين منصور شاه» فرمان التبعية ونيشانا مرصعا ، ونشرت على قلعها وسفنها الراية العثمانية.

وعدة سلاطين تلك العائلة إلى سنة ١٢٩٣ ه‍ ستة وثلاثون سلطانا ، وبمقتضى ما لهم من الرخصة في إدارة المملكة مع تكاثر الأجانب وحبهم التسلط في جهات الهند وجزره عقد أحد سلاطينهم المسمى «علاء الدين محمود شاه» سنة ١١٥٥ ه‍ معاهدات مع الهلانديين على أحوال التجارة والسياسة ، ومنها أن لا يقع منهم التعدّي على أحد رعايا أتشين ولا التعدّي على حقوقها وممالكها ، ثم معاهدة أخرى مع الإنكليز سنة ١٢٤١ ه‍ أيام السلطان «جوهر العالم شاه» ، وبموجب ذلك سوغ للملكتين المتاجرة في مملكة أتشين فأما الإنكليز فما زالوا قائمين بعهدهم إلى الآن ، وأما الهلانديون فأخلوا بالعهد منذ سنة ١١٨٠ ه‍ فاستولوا على بعض جوانب من المملكة ، لكن لما كان أهلها نافرين عن سلطانهم وبينهم عداوة سكتت دولة أتشين على الإستيلاء عليهم كما هي المصيبة في هذا الزمن بالمسلمين من الشماتة ببعضهم بدخول الأجانب فيهم حتى يتمكنوا منهم جميعا لا قدر الله ، ثم لا زالت هو لاندة تفتح في أبواب التسلط على المملكة إلى أن فتحت عليهم حربا فجأة سنة ١٢٩٣ ه‍ وكان سلطانها إذ ذاك حديث السن وهو «محمود شاه علاء» وعند غيبة الناظر عليه ومدبر أمور ملكه الأمير «عبد الرحمن الزاهر» حيث توجه إلى الأستانة لاستنجاد الدولة العلية أيام السلطان ، عبد العزيز فلم يساعد ، واشتدّ الحرب بينهم ولا زال الهلانديون يفتحون في تلك المملكة إلى الآن ، وإن وجدوا من الحمية والشجاعة ما عاقهم عن إنفاذ غرضهم عن عجل ، لكن أعانهم خذلان بعضهم لبعض مع عدم آلات الحرب وعدم معرفة آلاته الجديدة ، وأما قوة هاته الدولة المالية والحربية فغير معلومة وكأنها لا تلبث أن تصير من أتباع هولانده كما وقع في جزيرة جاوة وجزائر وأقواق وغيرها مما استولى عليها

٩٩

الفرنسيس والهلانديون وغيرهم من الدول الأوروباوية ، فإن لكل من هاته الدول مستعمرات في هاته القارة في شطوط الهند وفي شرقيه وجزره ، وتجري فيهم أحكام الدول المتغلبين لكنها ليست كأحكام ممالكهم وإنما هي أحكام إستبدادية عسكرية بمراعاة العوائد للأهالي ، ولما كانت هاته المستعمرات لا تبلغ إلى مستعمرات الإنكليز لم نذكرها على حدتها مثل ما ذكرنا الهند الإنكليزية ، ولله ميراث السموات والأرض.

القسم الثاني من الأرض

هو قارة أوروبا ، هاته القارة يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا الجهة الشرقية فتتصل بقارة آسيا المار ذكرها ، والحدّ بينهما هو جبال أرال ونهر دون الذي مصبه في البحر الأسود ، ثم يحدّها جنوبا البحر الأسود وبحر مرمرا والبحر الأبيض وبغاز طارق ، وغربا المحيط الغربي والمانش ، وشمالا المحيط الشمالي والمنش والبلتيك والمتجمد القطبي ، وهاته القارة الآن رمقها السعد بألحاظه وحط لديها ركابه فكما تسعد أفراد الإنسان وتنحس كذلك بقاع الأرض حاشا البقاع المكرّمة بالأنوار الإلهية ، وإنما نعني البخت الدنيوي. فإن هاته القارة كانت قد لبثت مدّة وهي في الحضيض الأسفل ما بين خلاء وخراب ودثار وتوحش فيما سلف من العصور ، إلى أن حدثت فيها دولة الرومان واليونان وتشعشعت فيها المعارف وارتقى فيها التمدّن والصنائع ، لكنها لم تلبث أن عادت كما كانت عليه من التوحش والبربرية لاقتصار تلك المبادىء الحسنة على أفراد وإن كانوا كثيرين في مراكز مخصوصة ، وانحصار السلطة القهرية في تلك المراكز فزال التقدم بتقهقر تلك السلطة ، غير أنها حدث فيها تمدن آخر في مدّة الإمبراطور شارلمان (١) المعاصر للخليفة هارون الرشيد الذي أكب على المعارف وملازمة أهلها ، وبث منها في ممالكه ما وسعه الإمكان ، غير أنها تقهقرت بعده أيضا وشرع فيها تمدّن منذ خمسمائة سنة على خلاف المعهود سابقا ، وامتد فيها تدريجا إلى أن بلغت في هذا العصر إلى الدرجة القصوى من التهذيب والتمدّن والمعارف الدنيوية ، حتى صار لأهلها الوجاهة والنفوذ على جميع أقسام الأرض ودونك أنموذجا لأخبار ذلك الترقي ، وحاصله :

إن أهالي أوروبا استفادوا من العلوم التي باللسان اللاتيني واليوناني اللذين تحفظت عليهما الكنيسة ، وكان أهلها في مدّة الجهل العام يبذلون أقصى الجهد في التحفظ على تعلم ذينك اللسانين وترقي تلامذتهم في العلوم الموروثة من الرومان واليونان ، كما استفادوا من الأمّة العربية في المغرب بمجاورتها في الأندلس ، فأخذوا عنها العلوم الرياضية وتهذيب الأخلاق والجغرافيا التي علمتها المسلمون بالأسفار للحج من الأقطار القاصية والفتوحات

__________________

(١) هو شارل الأول الكبير (٧٤٢ ـ ٨١٤) ملك الإفرنج وإمبراطور الغرب ، مؤسس السلالة الكارولية ، جعل أكس لا شابل (آخن) عاصمة له ، حاول الإستيلاء على اسبانيا ففشل في سرقسطة سنة (٧٧٨) المنجد (٣٨١).

١٠٠