صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

لكن حكمة الله تداركت هذا الملم باللطف فجعلت الرئة تجذب الهواء الذي هو مركب في حالة سلامته الأصلية من الآزوت وهو أكثر أجزائه ، ولا يضرّ ولا ينفع الحيوان ذا الدم إذا كان مخلوطا مع بقية الأجزاء ومن الأكسوجين الذي هو الجزء النافع للحيوان ذي الدم ، وأقل منه كمية الحامض الفحمي الضار للحيوان المذكور ، ومن شيء يسير من الماء حالة كونه بخارا فإذا دخل الهواء الرئة استرجع الدم منه الأكسوجين الذي فقده ودفع فيه ما عنده من الحامض الفحمي المضرّ ثم أخرجته الرئة بالتنفس وأخذت هواءا آخر لما ورد إليها من الدم أيضا وهكذا في كل لحظة ، وعندما يصفو الدم في الرئة برجوعه إلى اعتداله ينبعث منها في عرق عظيم ويرجع إلى القلب من الجهة اليسرى على نحو ما قدّمناه وهكذا ، فسبحان القادر الحكيم اللطيف.

وبهذا البيان ظهر وجه احتياج الإنسان للهواء أكثر من الغذاء وإذا علم ذلك علم وجه كون السفر مثمرا للصحة لأن الهواء في الأماكن المسكونة يكثر فيه الجزء الحامض الفحمي المدفوع بتنفس السكان بخلاف الأماكن الغير المسكونة فإن هواءها يكون أصفى وأنقى من غيرها ، والمسافر لا بد له من قطع مفاوز وبحارا فيستنشق ذلك الهواء الحسن فيصفى دمه ويصح بسببه بدنه كما قال عليه الصلاة والسلام وبما قررناه في التنفس والهواء يعلم وجه كراهة النفخ على الماء والطعام شرعا ، لأن الهواء المنفوخ به يكون حاملا لجزء كثير من الحامض الفحمي الذي هو مضر بالصحة.

واعلم أن ما قرّرناه في حسن الهواء وسلامته للمسافر هو بالنظر إلى الغالب الكثير فلا يعترض عليه بأن هناك أماكن خالية عن السكان ومع ذلك هي وخمة لما يعرض لها من تعفن أو غيره فلا يكون هواؤها سليما لأن ذلك قليل والحكم على الغالب ، وهكذا القول في الغنيمة أي الربح المالي إذ شأن المسافر الإطلاع على أحوال التجارة والسعي فيها فيربح إذا سعى لها ولا يعترض بكون المسافر لا يربح إذا سافر لمقصد سياسي أو تنزهي أو بدنّي أو غير ذلك ، إذ مدار حصول الشيء على السعي في أسبابه.

الفصل الثالث

فيما ورد في السفر من كلام الحكماء والأدباء : اعلم أنه قد ورد في مدح السفر كثير من كلام البلغاء والحكماء فلا نطيل بجلبه هنا ونقتصر على كلام الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه حيث قال :

تغرّب عن الأوطان في طلب العلا

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرّج هم واكتساب معيشة

وعلم وأداب وصحبة ماجد

فقد جمع من فوائد السفر ما تتشوّق النفوس إلى اكتسابه.

٦١

الباب الثاني

في السفر لغير أرض الإسلام وفيه فصلان

الفصل الأول

في النصوص الدالة على الجواز

لا خفاء أنّ الأعمال بمقاصدها ، فإما أن يكون السفر لمقصد صحيح شرعا كمقصد مصلحة عامّة أو مصلحة خاصة لا مندوحة عنها ، أو يكون لمجرّد توسع في المال وتنزه ، وعلى كلا الوجهين فالسفر جائز غير أنه يختلف حكمه بالنسبة للمروءة وحفظها حتى تبقى العدالة أو لا تبقى بانعدام المروءة ، وها نحن ننقل ما اطلعنا عليه في المسألة. ففي الفتاوى البيرمية نقلا عن خط الشيخ محمد بيرم الرابع (١) ما نصه : «سئل جدي رحمه‌الله عن ركوب البحر والذهاب لدار الحرب هل يسقطان العدالة أم لا»؟ فأجاب بما نصه : أما نفس ركوب البحر فإنه لا يمنع قبول الشهادة إلا عند ظن الهلاك ، وأما الذهاب إلى دار الكفر فينظر فيه للسبب الحامل عليه ، فإن كان مصلحة : إما عامّة للمسلمين ، أو خاصة بالذاهب ، كما إذا كان به مرض عجز عن علاجه هنا فهذا لا بأس به ولا تسقط العدالة بسببه ، وإذا كان لغرض التجارة والاستكثار من حطام الدنيا فهذا هو الذي تسقط به العدالة هذا ملخص ما فهم من كلام أصحابنا كما في الوهبانية وشروحها والله تعالى أعلم انتهى.

وفي الفتاوى الهندية من كتاب السير بعد أن ذكر أن الرجل لا يخرج للجهاد إلا إذا رضي أبواه أو من يقوم مقامهما على التفصيل المقرر هناك قال : «وإن أراد الخروج للتجارة إلى أرض العدوّ فكرها خروجه (أي الأبوان) ، فإذا كان أميرا لا يخاف عليه منه أو كانوا قوما يوفون بالعهد يعرفون بذلك وله في ذلك منفعة فلا بأس بأن يعصاهما ، ثم ذكر مسائل تحوم على أن المدار في الجواز وعدمه على غلبة الظن بالأمن فإذا حصل ذلك جاز له السفر ولو بغير رضى الوالدين فتلخص مما تقدم أن السفر إلى أرض غير المسلمين جائز كيفما كان المقصد على شرط الأمن ، وإنما يختلف الحكم بالنسبة للعدالة ، ولا يخفى أن العدالة مدارها على حفظ المروءة والتنزه عن الرذائل وسفاسف الأمور ، فإذا كان يقتحم الأخطار من السفر المذكور لمجرّد الزيادة في التحسينات كالتنعم بالنظر أو بزيادة المال كان ذلك قادحا في العدالة وإن لم يكن محرّما ، وأما إذا كان السفر المذكور لغرض صحيح ولو

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن محمد بيرم الرابع (١٢٢٠ ـ ١٢٧٨ ه‍) عالم بالحديث والتراجم والآداب. توفي بتونس. الأعلام ٧ / ٧٤ فهرس الفهارس ١ / ١٧٤.

٦٢

لتجارة محتاج إليها له خاصة أو له ولغيره فهو مع كونه مباحا لا يسقط العدالة أيضا بل له الأجر الأخروي إذا صحح النية وأخلصها التي هي أساس العبادة ، وقد علم مما مر أن شرط الجواز هو الأمن وهذا الشرط لا يختص بأرض غير الإسلام بل هو شرط أيضا في أي أرض كانت كما في حواشي الشيخ ميارة (١) على لامية الزقاق (٢) حيث قال أثناء الكلام على الإمامة ما مفاده : «إن الإنسان إن لم يستطع كف الظلم والمعاصي تجب عليه الهجرة». فإذا كانت تجب الهجرة منها فكيف يجوز الإقدام على الدخول إليها والله تعالى يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥]. ثم أن الأمن يعلم حصوله وعدمه من الباب الآتي إذ أهل الأرض الآن مختلفوا الصفات والأحوال.

الفصل الثاني

في تطبيق الحكم على سفر العبد الضعيف إلى ممالك أوروبا : سيعلم من المقصد الوجه الحامل لي على السفر إلى ممالك أوروبا وهو إما التداوي بعد العجز عن علاج المرض في بلادنا أو مصلحة أو ضرورة وكل الوجوه الثلاثة مما يسوغ السفر بلا سقوط العدالة ، وإذا اعتبرنا ما حصل من ثمراته وأقله الحمل على جمع هاته الخلاصة فإني أرجو من كرم الله تعالى أن يعفو عن زلاتي ويعاملني بمحض جوده وفضله سيما والبلاد التي قصدناها من بلاد الأجانب هي تامّة الأمن كما يعلم من الباب الآتي.

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله ميّارة. (٩٩٩ ـ ١٠٧٢ ه‍) فقيه مالكي. الأعلام ٦ / ١١ ومعجم المطبوعات (١٨٢١).

(٢) هو علي بن القاسم بن محمد التجيبي أبو الحسن المعروف بالزقاق فقيه مالكي كان مشاركا في علوم الدين والعربية توفي بفاس سنة (٩١٢ ه‍). الأعلام ٤ / ٣٢٠ شجرة النور الزكية ١ / ٢٧٤.

٦٣

الباب الثالث

في تقسيم أحوال أهل الأرض الآن

وفيه سبعة وثمانون فصلا

اعلم أن الله جلت قدرته قد قسم الخلائق في هاته الأرض وخالف بين عوائدهم واصطلاحاتهم ولغاتهم وإن اتحد الجميع في أصول الاحتياجات كالطعام والملبس والوازع ، وقد قرب الجغرافيون سكان كرة الأرض من اثنتي عشرة مائة مليون إلى ثلاثة عشرة مائة مليون ، وقسموا الأرض إلى أقسام خمسة وهي آسيا ، وأوروبا ، وأفريقيا ، وأمريكا ، وأستراليا ، وهي أقسام اعتبارية إذ الأرض واحدة وما فيها متقارب متماثل.

القسم الأوّل آسيا

اعلم أن القسم الأقدم عمرانا والأكثر سكانا والأشرف معنى لما حواه من كونه مصدرا للديانات الإلهية ودارا للرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام ، ومنبع سطوع النور العظيم الحاوي للذات الشريفة المحمدية عليها أفضل الصلاة وأزكى التحية هو قسم آسيا الشامل لمكة والمدينة والقدس ، وهو يحده شرقا خليج برنغ والمحيط الشرقي ، وجنوبا المحيط الهندي وخليج فارس والبحر الأحمر ، وغربا البحر الأحمر والبحر الأبيض وبحر مرمرا والبحر الأسود ونهر دون وجبال أورال ، وشمالا المتجمد الشمالي وهذا القسم يشتمل على عشرين مملكة.

الفصل الأول

في المملكة العثمانية

اعلم أن أعظم الممالك الإسلامية في هذا القسم هو المملكة العثمانية لاستيلائها على أغلب الممالك الإسلامية التي كانت تقسمت واتحادها تحت سلطنتها ولاشتمالها على الحرمين الشريفين ، ولأن سلطانها هو صاحب الحرمين الشريفين ولامتدادها على ممالك وسيعة إسلامية في أفريقية ، كما أن لها في أوروبا ممالك واسعة فتألف من المجموع مملكة عظيمة تختها القسطنطينية ، وتسمى فاروقا لفرقها بين أرض آسيا وأرض أوروبا ولفرقها بين البحر الأبيض والبحر الأسود ، فكان لها بهذا الموقع عظيم الإعتبار ، وسكان هاته القاعدة زهاء مليون ونصف ، وأقسام هاته المملكة هي الأناضولي وفيه آسيا الصغرى والشام والعراق وديار بكر وأرمينية والجزيرة والحجاز واليمن ، ولها في أوروبا قسم الروملي ولها فيه ولايات ممتازة وهي إيالة البلغار والروملي الشرقية وفيه جزائر البحر الأبيض التي منها ما

٦٤

له امتياز كجزيرة كريدوسيواس ، ولها في أفريقيا ممالك أيضا وهي طرابلس ومصر وتونس ، وهاتان الأخيرتان لهما امتيازات خاصة في الإدارة.

وتشتمل المملكة الآن في الأقسام الثلاثة من الأرض على نحو اثنين وعشرين مليونا عدا الممالك التي لها امتيازات ، فإذا انضم ذلك كان الجميع يناهز الأربعين مليونا ، والذي يخص قسم آسيا فقط من السكان نحو ستة عشر مليونا ، وقد ابتدأ تأليف هاته المملكة من سنة (٦٩٩) تحت سلطنة السلطان عثمان في أرمينية ولا زالت تعظم إلى أن بلغت نهاية السطوة على جميع ممالك المعمورة ، ثم ابتدأت الروسيا في حروبها وتداخلت الدول الأوروباوية تارة بالدفاع عنها وأخرى للربح منها ، ولا زالت بين الدول لها اعتبار وحكومتها شوروية في الرسم ، لكنها الآن تحت الحكم العرفي.

ولم تزل سلاطينها يحضون على الأمن في جميع أنحاء المملكة وفي جميع أنواع السكان الذين أغلبهم مسلمون ، وهم نحو ستة عشر مليونا ، وباقيهم أغلبهم نصارى على مذاهب شتى ، والباقي من ديانات مختلفة. ولزيادة توطيد الأمن وإجراء العدل أسس المقدس السلطان عبد المجيد التنظيمات الخيرية في سنة (١٢٥٧ ه‍) ، ثم أكدها ولده السلطان المعظم عبد الحميد بالقانون الأساسي الذي أصدره في سنة ١٢٩٣ ه‍ وفقه الله لما يرضاه ، وبقية التفاصيل المتعلقة بهذه المملكة تأتي إن شاء الله تعالى في المقصد ، وقوّتها المالية والحربية تأتي في آخر المقدمة في جدول قوات الدول بحول الله وإرادته.

الفصل الثاني

المملكة الثانية هي مملكة فارس

وهي مملكة إسلامية قاعدتها إيران وعدد سكانها من الخمسة ملايين إلى سبعة ما بين سنية وشيعية ، ولها تقدّم في الحضارة وبعض رجال دولتها مهذبون لهم معارف كافية في السياسة ، ورئيس الدولة يلقب بالشاه وهو الآن الشاه ناصر الدين من آل البيت المطهر ، وقد التفت إلى الإصلاحات التي يقتضيها الحال لما شاهده في أوروبا وغيرها عند أسفاره لها منذ استدعته الدولة النمساوية في سنة ١٢٩٠ ه‍ للحضور للمعرض الذي فتحته فأجاب دعوتها ، كما أجاب السلطان عبد العزيز العثماني دعوة دولة فرانسا لمعرضها في سنة ١٢٨٧ ه‍ ، والشاه المشار إليه زار في سفرته المذكورة الدولة العلية ، فإنه بعد أن وصل إلى لندره على طريق الروسيا وألمانيا ، رجع على طريق فرانسا ثم النمسا المدعو إليها ، ومن هناك توجه للآستانة.

ولما علم السلطان بقصده لزيارته أرسل له باخرة جليلة سلطانية لركوبه وجفنين مدرعين يحفانه ، وأرسل له فيها وزير البحر فركب الشاه الباخرة من إحدى فرض إيطاليا بعد زيارته لملكها ، فوصل إلى جناق قلعة في يوم الأحد (٢٢) من جمادى الثانية سنة (١٢٩٠ ه‍) فأطلقت له المدافع من القلعة واصطفت له العساكر واقتبله هناك الصدر رشيد باشا في باخرة سلطانية ومعه سفير الشاه في الأستانة ووالي جزائر البحر الأبيض ، وفي يوم

٦٥

الإثنين لاقاه في بحر مرمرا سفراء الدول في بواخرهم الرسمية ووجوه تجار الفرس في ستة بواخر أخر ، ولاقاه هناك أيضا فرقة من الأسطول العثماني فوصل في موكبه البهي إلى الآستانة من يومه وأرسى قبالة قصر بكلر بيك المعد لنزوله فأطلقت له المدافع وتوجه السلطان للقائه في الباخرة ورحب به وآنسه ولبثا مليا والمترجم بينهما ميرزا حسين خان صدر دولة الشاه ، ثم نزلا معا إلى القصر وأطلقت المدافع من جميع الأسطول العثماني ثم رجع السلطان إلى قصر بباشكطاش ، ثم زاره الشاه بعد الإستراحة وآنسه وكان كل منهما متقلدا بنيشان صاحبه وزينت له سائر الدواوين الملكية ومنازل تجار الفرس ، وحصل له من العناية ما أكد له مزيد الألفة بين السلطنتين ثم عاد إلى بلاده ، وأخذ في فتح الطرق للتقدّم لكن السير فيها بطيء ثم عاد إلى أوروبا سنة (١٢٩٥ ه‍) لزيارة معرض باريس على وجه غير رسمي ، وزاد استبصارا فيما ينبغي اتخاذه وشرع في شيء من التنظيم سنة (١٢٩٦ ه‍) تداركا لما يحيط به سياج الحفظ لأمته ومملكته التي أخذت منها الروسيا قسما عظيما في أواسط القرن الحالي ، وهاته المملكة حكمها الآن استبدادي مطلق ، غير أن ما لا باعث عليه من الجزئيات يجري فيه الحكم الشرعي الإسلامي والغرباء لهم الأمن من جهة الحكم إذا دخلوا المدن العظيمة منها وحلوا فيها.

أما غيرها فلا اطمئنان فيها إلا إذا أخذ المسافر وصيات من رؤوساء الحكام أو خفراء له ، ودخل هاته الدولة وخرجها يأتي إن شاء الله تعالى.

الفصل الثالث

المملكة الثالثة هي مملكة أفغانستان

وموقعها شرقي فارس وقاعدتها كابل وقد كانت هاته المملكة مقر المملكة الغزنوية ثم السلجوقية ثم استقلت بولاية أحمد شاه في القرن الثاني عشر ثم دخلت تحت السابقة الذكر ، ثم استقلت في عشرة السبعين بعد الألف والمائتين بإعانة الإنكليز ، وسكانها نحو الستة ملايين وقيل ثمانية والأول أقرب ، أكثرهم أهل بادية وسكان جبال والديانة العامة هي الإسلامية السنية والحكم استبدادي مطلق ، ولا راحة تستقر فيها لكثرة الثورات وعدم انقياد القبائل ، ثم تعارض سياستي الروسيا والإنكليز فيها حتى اغتر أميرها وحارب الإنكليز فوقعت المملكة في قبضتهم وخذلته الروسيا حيث تم لها جل قصدها من حرب سنة ١٢٩٤ ه‍ بتسليم الإنكليز لها ، ومن عادات هاته المملكة أن يكون نحو عشر السكان عساكر دفاعية عن الوطن ، وفيهم المشاة والخيالة وهم غير منتظمين ولا يبقون في الخدمة العسكرية إلّا نوبا والأهالي تقوم بهم فإن كل مقاطعة أو ولاية عليها مقدار معلوم من العساكر بما يلزمهم ، ثم هم يقسمون اللوازم على ما يقتضيه الحال فأصحاب الأملاك يقومون بالخيالة وغيرهم يقومون بالمشاة.

وأما الطوبجية : فمنهم خيالة ومنهم مشاة وكلهم ملازمون للخدمة ، والدولة تقوم بهم

٦٦

وتجري لهم مرتبات ، وحدث في جندهم بعض تنظيم على النوع الجديد منذ مدّة قريبة ، وتقدير دخلها مجهول.

الفصل الرابع

المملكة الرابعة هي مملكة بلوجستان

وتسمى سابقا بالسند أي داخلة فيه ، وموقعها جنوبي المملكة السابقة وعدد سكانها نحو المليونين وهم متفرّقون تحت رؤوساء شتى وأعظمهم الآن خان كيلات ، والديانة الغالبة هي الإسلام على مذهب أهل السنة ، لكن كأنها بالنظر للغالب إسم بلا مسمى حيث كانت الغارات مستمرة بينهم وسفك الدماء يفتخر به سيما في الأقوام المشركين الذين بقوا في الجبال ، فهم لا يبقون هناء للمسلمين ، وحيث كانت أراضي هاته المملكة رديئة وهوائها رديء وتجارتها قليلة ، لم يرغب فيها الإنكليز ورضوا باستمالة رؤوساء القبائل إليهم بعضهم بالإرهاب وبعضهم بالإرغاب وبما تقدّم يعلم حال هاته المملكة.

الفصل الخامس

المملكة الخامسة هي مملكة الهند الإنكليزية

وموقعها على شاطىء البحر المحيط الجنوبي الهندي ، وتتوغل في داخل القارة إلى جبال هملاي وهي محادة للمملكتين الأخيرتين في الذكر من شرقيهما ، وهي مملكة عظيمة جدا تشتمل على ما ينوف عن المائة والتسعين مليونا من النفوس منهم مسلمون نحو أربعين مليونا وازدادوا في السنين الأخيرة نحو خمسة عشر مليونا بدخول الأهالي في دين الإسلام طوعا عند وقوع المناظرات الآتي ذكرها.

والجميع تحت الإستيلاء الانكليزي غير أن بعضهم لهم استقلال في إدارتهم الداخلية وهم عدة ملوك وأمراء ، وعدد هاته الممالك الممتازة ثمانية عشرة مملكة ، وسبب استيلاء الإنكليز على هاتيك الممالك الرحيبة على وجه الإجمال ، أن هاتيك الممالك كانت في القرون الأخيرة انقسمت إلى إمارات وملوك طوائف يتناصرون على مدى الزمان سيما بعد ضعف المملكة الإسلامية هناك عند انقراض دولة السلطان محمد شاه في أواسط المائة الثامنة هجرية الموافقة للمائة الرابعة عشر مسيحية ، فمن ذلك الوقت تزايدت المناقشات بين ملوك تلك الأقطار وزاد انقسامهم إلى طوائف صغار مع أن نفس أجسامهم وخلقتهم ليست بمستعدة للحروب والأتعاب. لأنهم أناس نحاف الأجسام ، فيميلون إلى الراحة والتنعم بالملابس الرائقة والمآكل الخفيفة والإستكثار من المال والمجوهرات ، لا سيما أهل الأقطار الجنوبية لحرارة أقاليمهم بقربها من خط الإستواء ، ولهذا من قديم كانت سلطة الأفغانستان متوالية عليهم من غربيهم وشمالهم ، فداموا على تلك الحالات التي سئمت منها نفوسهم وضجروا أشد الضجر لمباينتها لطباعهم ، وقد كان أهل البرتغال من الأوروباويين فتحوا

٦٧

السير على طريق رأس الرجاء الصالح من أوروبا إلى الهند وتملكوا بعض مراكز في تلك الجهات سنة (٩٠٣ ه‍ و ١٤٩٧ م) ، ثم قلدهم في التجارة غيرهم من الأوروباويين حتى عقدت شركة إنكليزية للتجارة في الهند ، وعينت أولا سفينتين عظيمتين شراعيتين ومحتويتين على قوات دفاعية للخوف مما عساه يطرأ عليها من تجرىء أهل تلك الأقطار الذين كانوا يجهلون تفصيل أحوالهم لبعد المسافة وطول الطريق ، الذي هو رأس الرجاء الصالح وكان هذا في سنة (١٠٥٣ ه‍ و ١٦٤٣ م).

فنفقت التجارة الإنكليزية هناك وكثرت خلطة الإنكليز بالأهالي ، وتعرفوا أحوالهم بما سهل لهم التداخل في سياستهم وتداخلوا فيها ، [وأطلقت] اليد لتلك الجمعية التجارية إلى أن وقعت الحرب بين فرنسا وإنكلترا في سنة (١١٥٩ ه‍ و ١٧٤٦ م) ، فحينئذ ابتدأ النفوذ السياسي وأبطلت الشركة وتسلط الإنكليز على بعض الشطوط الهندية مع النفوذ والوجاهة في غيرها ، حتى أن بنباي أعطيت من الهنود مهر الكاترينة زوجة كارلوا الثاني ملك الإنكليز في عشرة الستين وسبعمائة وألف أي حدود سنة ١١٧٥ ه‍ ، والممالك التي استولت عليها دولة الإنكليز بدون واسطة الشركة التجارية هي الممالك المعروفة بحكومة الخلجان ، ومنها جزيرة سيلان التي هي في الجنوب الغربي من الهند وسكانها نحو (٢٣٧٥٠٠٠) وكذلك جهات الخلجان فالجميع استولت عليها دولة الإنكليز بلا واسطة ، ولهذا كانت إدارتها هناك مخالفة لبقية ممالك الهند ، فلحكومة الخلجان إدارة منفردة تحت حاكم عام له مجلس شورى ومجلس نواب للنظر في مصالحهم وتأليف ما يصلح بهم من القوانين ، وأعضاءه هم كل ذي وظيفة في تلك الحكومة من الأهالي وأعضاء أخر من الإنكليزيين توظفهم الدولة ، ثم الرئيس العام هناك يرجع نظره لوزير المستعمرات لا لوزير الهند ويخاطبه بدون واسطة الحاكم العام في الهند.

وأما بقية الممالك الأخر فقد أخذتها الدولة من الشركة المار ذكرها ولم تزل سلطة الإنكليز تتقدم هناك حتى استولوا على بنغالة في سنة (١٢٧١ ه‍ ـ ١٨٥٧ م) ، وازدادت حينئذ السلطة تقويا ونفوذا وامتدّت في تلك الممالك حتى دخلت في حوزتها جميعها من غير كبر مشقة ، إلى أن حدثت ثورة عامة شديدة هائلة من الأهالي وأوقعوا بالإنكليزيين الذين هناك أشد وقعة في سنة (١٢٧٤ ه‍ ـ ١٨٥٧ م) ، حتى آيس الإنكليز من تلك المملكة وأيقنوا بتقلص ظلهم منها لو لا اغترار الأفغانستان ومعاضدتهم للإنكليز على قهر الهنود ، فقهروهم وقتلوا منهم خلائق لا تحصى ومثلوا بهم شرّ مثلة ، وعادت السلطة الإنكليزية سلطة تامة ولم يحصل للإفغانستان إلا التسلط على سياسته ومملكته بما لم يستقر معه قرار إلى الآن ، ثم أن الإنكليز لقبوا ملكة إنكلترا بإمبراطورة الهند في سنة (١٢٩٣ ه‍ ـ ١٨٧٦ م) وعقدوا له في الهند موكبا حافلا لم يسمع بنظيره ، وحضره كل ملوك الهند الذين تحت ولاية الإنكليز.

٦٨

وحيث كان من العجائب بمكان رأينا أن نثبت هنا ما ذكره أحد مراسلي الصحف العربية في شأن ذلك الموكب ونصه : «بينما الناس في فترة وإذا بالإنكليز اخترعوا طريقة أنتجت جملة فوائد لهم ولرعيتهم وهاك بيانها تفصيلا وهي : تلقيب ملكة الإنكليز بإمبراطورة الهند فلهذا أجمعت جمعية عمومية من ملوك الهند ومن أمرائها في بلدة دهلى التي كانت قبلا تخت ملك ملوك الهند ، فبعد أن حضر جميع هؤلاء الملوك والأمراء وأهل الثروة العظمى ونصبوا خيامهم الفاخرة خارج البلدة ، كرت الناس من كل فج عميق إلى دهلى ما بين متفرج وتابع وما بين تاجر وصانع وعامل ، إلى أن غصت المدينة بالناس وصار المحل الذي أجرته عادة في الشهر خمس روبيات مائة روبية ، والعجلة التي تكرى عادة بربع روبية بعشرة روبيات ، فكأن السماء أمطرت والأرض أنبتت بني آدم ، فإن شارع دهلى عرضه أربعين مترا وكان المار فيه يخشى على نفسه من شدة الإزدحام ، وجل هؤلاء الناس وصل إلى دهلى بواسطة سكة الحديد فإنها متشعبة في جميع أقطار الهند كتشعب عروق الجسد ، وهذا الجمعية الكبرى تسمى بلغة أهل الهند «بالدربار» ، فجميع ما شاهدته في هذا الدربار يعجز لساني عن بيانه وقلمي عن حسابه ، وإنما أشرح لك فصلين :

أحدهما : في كيفية دخول حكمدار الهند إلى دهلى ، وكيف استقبلته ملوك الهند وأمراؤها ، وكيف مشوا في صحبته وإنقادوا في موكبه وخلف ركابه.

والفصل الثاني : في صورة الجلسة أي هيئة اجتماع الملوك وكيف ألقى عليهم خطاب امبراطورتهم ، وكيف تلقوه بالاحتفال والقبول.

أما الفصل الأوّل : فهو أنه في السادس من ذي الحجة سنة (١٢٩٣ ه‍) بعد الظهر بساعتين ، اصطفت العساكر الإنكليزية البيض وهم في أحسن الملابس وبغاية النظام في الطول والإستواء من محطة سكة الحديد إلى محل قيام الحكمدار ، وهو مسافة ثمانية أميال وارتصوا من طرفي السوق الكبير من الجانبين ، فبعد الساعة الثانية سمعنا صوت المدافع إيذانا بوصول الحكمدار ، وشرع أول الموكب في المرور وكان أولهم فرقة من خيالة على خيل حمر بغاية الجسامة على لون واحد وسروج بلون واحد ولباس فرسانها بلون واحد وعددهم نحو الخمسمائة ، ثم تلتها فرقة أخرى خيالة نحو الخمسمائة على خيل بيض جسام كنظام ما قبلها ، ثم تبعتها فرقة أخرى خيالة نحو الخمسمائة على خيل شهب في غاية الضخامة كنظام ما قبلها ، ثم أعقبتها سرية أخرى خيالة نحو الخمسمائة على خيل بلق كنظام ما قبلها ، ثم حلبة أخرى على خيل شقر ثم أخرى على خيل صفر ثم وثم وثم إلى أن مر نحو خمسة آلاف خيال جميعهم بغاية الأبهة ، ثم أقبلت الطوبجية ومعهم مائة مدفع خلف بعضها في غاية الضخامة وحسن النظام وحسن الآلات والعدد مع كبر الخيل وحسن هيئتها ، ثم أقبلت سرية الفيلة وأوّلها فيل عجيب الشكل أظنه أعلى فيل في أرض الهند ، وناباه بارزان عن شدقيه نحو ذراعين وعليهما أطواق من الذهب حلية له ، وعليه تخت جسيم

٦٩

جميعه من الفضة الخالصة ، ورخت طويل إلى الأرض مرصع ، وعلى ذلك التخت اللورد ليتون حكمدار الهند ، وهو رجل ضخم الجسم أحمر اللحية وكان على يساره زوجته وخلفه فيل مثله في الحلية عليه بنتان صغيرتان ، وخلفهم نحو عشرة أفيال أقل من الفيل الأوّل في الحلية وعليهم أتباع ذلك الحكمدار وخدامه ، ثم أقبلت أفيال أخر نحو العشرة وجميعها بالحلى الفاخرة وعليهم حكمدار «مدراس» وأتباعه ، ثم حلبة أفيال أخر نحو العشرة وعليهم حكمدار «بمباي» وأتباعه ، ثم سرب أفيال أخر نحو العشرة عليهم حكمدار «لاهور» ، ثم أفيال أخر عليهم حكمدار «السند» ، ثم فرقة أفيال أخر نحو العشرين وهي مركوب سلطان حيدرآباد وأتباعه ورخت الفيل الأوّل منها مرصع بالجواهر ، ثم فرقة أفيال أخر نحو العشرة عليها راجاجيت برا ووزراؤه وهكذا.

ثم أقبلت أفيال خلف أخر عليها ملوك الهند والراجات وعددهم نحو التسعين وكانوا كلهم خلف الحكمدار بعماية الوقار والرزانة والخضوع والتؤدة ، ويقال إن عدد الأفيال في ذلك الموكب نحو ألف ومائتي فيل وليس فيها كلها أعلى من فيل الحكمدار. وهكذا انتهى الموكب الذي لم يسمع بمثله منذ نزل آدم عليه‌السلام على جبل سرنديب ولا أظن أنه سيحصل مثله ، وكان مبدؤ مروره من الساعة الثانية إفرنجية إلى الساعة الرابعة ، وإنما قلت إن هذا الموكب لم يسمع بمثله لأنا ما سمعنا أن ملكا من ملوك الهند المتقدمين أطاعه جميع النوّاب وجميع الراجات بدون توقف ولا مخالفة ولا توان ، أو أنهم مشوا خلفه في موكبه وتحت ركابه وهو جالس بالتعاظم على فيل أعلى من جميع أفيال الدنيا وجميع الملوك ينقادون خلفه مع الأدب والتؤدة ، وإذا أمكن لأحد قياصرة أوروبا العظام وملوكها الفخام أن يحشر اليوم عسكرا مثل هذا العسكر ومدافع مثل هاته المدافع فمن أين له ألف ومائتا فيل تنقاد خلفه وعليها تسعون ملكا ، فو الله لو لم يكن للإنكليز في الشرق فخر إلا هذا الموكب لكفاهم.

الفصل الثاني : في صورة الجلسة أي كيفية اجتماع الملوك وكيف ألقى عليهم الحكمدار خطاب إمبراطورتهم ، وكيف تلقوه بالقبول والإحترام ، وكان ذلك يوم (١٤) ذي الحجة سنة (١٢٩٣ ه‍) وهيئته نصف دائرة جنوبي ونصف دائرة شمالي ، وجميعه مسقف بالقماش وبين الشطرين طريق فاصل للمرور.

فالنصف الجنوبي عليه ملوك الهند أرباب التيجان ، وهو عبارة عن دكة مرتفعة بدرجتين عرضها نحو أربعة أذرع وطولها نحو مائة ذراع ، وعليها كراسي الملوك مصطفة بحسب رتبتهم.

والنصف الشمالي هو قسمان بينهما طريق فاصل وارتفاع الربعين نحو أربعة أذرع وله درجات للجلوس ، وفي وسط الدائرة دكة مرتفعة نحو أربعة أذرع مساحتها خمسة في خمسة ولها مرقاة للصعود عليها فهذه الدكة الوسطى جلس عليها حكمدار الهند ووجهه إلى جهة

٧٠

الجنوب جهة الملوك ، والربع الذي على يمينه جلس عليه الإنكليز المتفرجون أرباب المناصب ، والربع الذي على يساره جلس عليه أعيان أهل الهند وأمراؤها غير أرباب التيجان وهم المدعون للحضور ، وقطر هذه الدائرة نحو مائة ذراع وحولها دائرة أخرى كبيرة خالية عن الناس لها حاجز من درابزين خشب فاصل بين المتفرجين العوام وبين مجلس الأمراء ، والمسافة بين الدائرة الداخلة والدائرة الخارجة نحو مائة ذراع ومن حول الدائرة الخارجة عسكر الإنكليز نظاما وخيالة مرتصين في ذلك الفضاء وعددهم بالتقريب نحو العشرين ألفا ، وأكثرهم من الإنكليز البيض ، ومسافة ما بين المجلس وما بين دهلى ستة أميال في صحراء واسعة بقرب جبل صغير يسمى جبل الفتح ، فإن الإنكليز فتحوا دهلى من هذا الجبل سنة (١٢٧٤ ه‍).

ثم اجتمع الناس المتفرّجون من كل فج عميق ما بين ماش وراكب حتى ملؤوا ذلك الفضاء. فصار من بيده تذكرة العزيمة يدخل في الدائرة الداخلية ومن ليس بيده تذكرة يقف خارج الدرابزين الخشب ، ففي الساعة الثانية عشرة أقبل حكمدار الهند وهو لابس من فوق السترة والبنطلون جبة واسعة الأكمام وطويلة الذيل وهي أشبه بالفرجية التي تلبسها كبار العلماء بمصر ولونها رمادي وجميع أطرافها مطرزة بالذهب ، ومع الحكمدار زوجته ومن خلفه ابن السلطان لكهنؤ وابن أخي سلطان ينبال في صورة خادمين ، فلما صعد على درج التخت رفع الغلامان أذيال جبته عن التراب إلى أن استقر فوق التخت فجلسا هما على كرسيين صغيرين خلفه وجلس هو على كرسي مذهب وزوجته على يساره ، ثم أخرج الحكمدار من جيبه ورقتين أعطاهما لرجل إنكليزي جهوريّ الصوت ، فقرأ الأولى وهي باللغة الإنكليزية ومضمونها : «أن الملكة لقبت بإمبراطورة الهند وأن جميع الأمم ارتضوا بذلك». ثم قرأ الورقة الثانية وهي باللغة الهندية ومضمونها : مثل الأولى ، فعند ختامها قام جميع ملوك الهند وصاحوا بارك الله لها في هذا اللقب ونحن أيضا جميعا راضون بذلك ، فأطلقت المدافع من طرف عساكر الإنكليز ومن طرف ملوك الهند واشتغلت آلات الموسيقى بأحسن الألحان ، وانفض المجلس في الساعة الواحدة فكانت مدة جلوس الملوك نحو ساعة ، ومدة جلوس الحكمدار وقراءة الورقة نحو ربع ساعة ، ثم نورت جميع البلدة ليلتين جرى فيهما من ألعاب البارود ما يعجز عن تصوّره.

وكيفية وصول ملوك الهند إلى الدربار : أن كل ملك قدم بعساكره من أبناء جنسه وبمدافعه. فلما وصلوا إلى محل الجلوس دخلت الملوك وجلسوا على كراسيهم تجاه الحكمدار ووقفت عساكرهم وأفيلتهم خارج الدائرة وعددهم نحو التسعين ملكا وهم مرتبون بحسب العدد.

وهكذا المدافع التي كانت تقابلهم بالسلام عند قدومهم ، أعني أنه عند قدوم ملك حيدرآباد على قلاع الإنكليز ، أطلقوا له واحدا وعشرين مدفعا ولراجا بروده كذلك ومثلها لراجا جيتبور ، وتسعة عشر لراجا كشمير ، وثلاثة عشر لنواب رامبور غالب علي خان لأن

٧١

رتبته بالنسبة لأقرانه هي العدد الثاني والخمسون.

وهكذا يتقهقر العدد في مدافعهم إلى آخرهم وهم نواب دجانة ، إذ لم يطلق له سوى ستة مدافع. فكانت كثرة الإطلاق باعتبار كبر دولتهم وكثرة إيرادهم واتساع دائرتهم بالحرية والتصرف المطلق ، وأكثر ملوك الهند من الوثنيين. أما المسلمون فلهم خمسة عشر ملكا.

ثم إن الإنكليز استفادوا من هذا الدربار ثلاث فوائد.

إحداها : أنهم جعلوا أهل الهند وملوكها رعية لهم برضاهم واختيارهم لا بالسيف وطريق التغلب كما مر في الأزمان السابقة.

الفائدة الثانية : أنهم جمعوهم ليختبروا حالهم من جهة المال والقوة العسكرية وهل عندهم أسلحة جديدة يخشى بأسها أو لا ، فوجدوهم على الحالة الهمجية القديمة في الأسلحة وآلات الحرب حتى أن بعضهم كان لعساكرهم البنادق والفتيلى أي المشادلي ، وبعضهم يحمل القوس والنشاب والرمح ، وبعضهم يلبسون الدروع والخود على العادة الجاهلية ، فاطلعوا على قوتهم وعرفوا أنهم ما داموا يجهلون الأسلحة الأوروباوية فلا يمكن للخناس الذي وسوس للصرب أن يوسوس لهم.

الفائدة الثالثة : أن تجار الإنكليز ربحوا من هذا الدربار عشرة ملايين ليرة لما حصل عنه من رواج التجارة ونفاق السلع حتى فاق على معرض باريس في زمن نابليون ، حيث جلب إليه من كل غريبة ونادرة وعجيبة ، فإن عدد تذاكر سكة الحديد التي بيعت إلى السفر إلى دهلى بلغت نحو مليوني تذاكرة ، وبعض الوفود رحل من محل بعيد عن دهلى مثل أهل كلكوته وأهل مدراس وأهل السند وأهل بمباي وأهل بشاود ، وكان بعضهم يركب في الدرجة الأولى وبعضهم في الثانية وبعضهم في الثالثة ، فالدرجة الأولى أجرتها نحو عشرين جنيها ، والدرجة الثانية أجرتها نحو عشرة جنيهات ، والدرجة الثالثة نحو ثلاثة. فإذا ضربت القليل في الكثير والقريب في البعيد كان المدفوع من مليوني نفس ثمانية ملايين ليرة ، وجميع ملوك الهند حضروا ذلك الدربار امتثالا لأوامر الحكمدار ما عدا ملكة تنجاور فإنها اعتذرت بأنها في حالة الولادة ، ونواب وأمير وغالب علي خان فإنه تعلل بأنه مريض بداء البرص وأنه لا يمكنه الحضور في مجمع الملوك لئلا تنفر طباعهم منه انتهى. ثم زار تلك الممالك ولي عهد ملكة إنكلترا واحتفلوا به وهادوه بهدايا نفيسة ملوكية يأتي الكلام عليها في الكلام على معرض باريس من المقصد.

ثم إن استيلاء الإنكليز كما تقدم كان شيئا فشيئا ، فبعض الملوك والأمراء سلموا إليه السيادة وأبقاهم على ولايتهم عند قصده لهم بالحرب ، وأبقى لهم ما يملكون من المال والمجوهرات في خاصة ذاتهم وبعض التصرفات ، والتصرف الحقيقي بيد الإنكليز سواء كان في الإدارة المالية أو السياسية ، وأما العسكرية فلكل عساكر تحت أمره ، وكثيرا ما تأتي العساكر الإنكليزية لإرهاب الولاة والملوك وإخضاعهم ، فالتصرف حقيقة للإنكليز لكن للملوك الأبهة والإسم بحيث أن التصرفات تنسب إليهم بالإسم ، كما أن بعضا من الملوك

٧٢

والأمراء طلب الدخول لما رأى العواقب آيلة إليه ، فلذلك لم تزل إلى الآن ممالك مستقلة بإرادتها تحت ولايته ، فمنها ما يؤدي له خراجا ومنها ما يأخذ الملك وحكومته مقدار ما يكفي للقيام بمصالحهم وما بقي يرجع إلى حكومة الهند العامة وتصرفهم على نحو ما سبق ، وقد قسم الإنكليز تلك الممالك الهندية عدا حكومة الخلجان المتقدمة إلى ثلاثة أقسام كبيرة :

فالقسم الأوّل : مملكة بنغالة وقاعدتها كلكوته ، وهي مقر الحاكم العام ويتبع هذا القسم من الممالك الممتازة بالإدارة إحدى عشرة مملكة :

فأوّلها : مملكة نيزام وهي واقعة في وسط أرض دكين بين مملكة بنباي من غربها وبين مملكة مدراس من شرقها ، وتخت هاته المملكة مدينة حيدر أباد التي سكانها نحو أربعمائة ألف نفس ، والإنكليز ساكنون في بلدة صغيرة من غربها تسمى سكندرآباد ، وبهاته المملكة بلد تسمى «أهور» بها معابد عجيبة تحت الأرض دالة على مهارة مهندسي ذلك العصر عندهم ، وسكان هاته المملكة نحو عشرة ملايين وملكها من الهنود وله زيادة استقلال في إدارته على ما للممالك التابعة للإنكليز ، ويؤدّي لهم خراجا معينا سنويا وهي مملكة إسلامية.

وثانيها : بوندلكند وبها عدة خانات كل خان يحكم على قبائل وجهات خاصة ، وعدد سكان هاته المملكة الموزعة على الخانات نحو ستة ملايين ، ولكل خان مركز هو تخت حكومته.

وثالثها : مملكة بوبول ولها ملك أيضا وسكانها نحو ستمائة ألف وسبعين ألفا وتختها بوبول.

ورابعها : مملكة شنديا ولها ملك أيضا وسكانها نحو مليونين ونصف وفي هاته المملكة بلدة «أوجين» التي تعتبرها الهنود مبدأ خط الطول وتختها كواليور.

وخامسها : مملكة هلكار ولها ملك أيضا وسكانها نحو ستمائة ألف وتختها هندور وهاته الممالك الأربعة الأخيرة في الذكر كانت هي مملكة المهرجات سابقا.

وسادسها : مملكة راجابوتان ولها ملك وسكانها نحو سبعة ملايين وتختها أوديبور.

وسابعها : مملكة بهوبال ولها سلطانة إسلامية بالوراثة للملك من آبائها ، وزوجها مباشر للتصرفات بالنيابة عنها وهو رجل عالم كما ذكرنا في غير هذا المحل ، وسكانها نحو ستمائة ألف وتختها بهوبال.

وثامنها : مملكة لادك ولها أمير وسكانها نحو مائة ألف وسبعين ألفا من الأنفس ، وتختها لادك.

وتاسعها : مملكة بدستان ولها ملك له زيادة امتياز في الإدارة ، وسكانها من المسلمين

٧٣

وقاعدتها على نهر السند تسمى اسكرودو ، وتسمى هاته المملكة أيضا ببلاد البلتسي.

وعاشرها : مملكة كناوود وهي صغيرة وعدد سكانها قليل ولها أمير.

وحادي عشرها : مملكة سيرمور مثل المتقدمة عليها وتختها نحمين.

والقسم الثاني من الأقسام الكبرى : هو ممالك بونباي ويتبعه من الممالك الممتازة خمس ممالك :

فأولها : مملكة كاش وتختها بوهيج.

وثانيها : مملكة كانبي وتختها كانباي.

وثالثها : مملكة أكوى كووا وسكانها نحو مليون وثمانمائة ألف نسمة وتختها باردوه.

ورابعها : مملكة ساوندواري وتختها ساوندواري.

وخامسها : مملكة كولابور وتختها مدينة كولابور.

والقسم الثالث من الأقسام الكبرى : هو ممالك مدراس ويتبعه من الممالك الممتازة إثنان.

فأوّلها : ميسورا وتختها ميسورا وسكانها نحو ثلاثة ملايين.

وثانيها : مملكة أتراه نكور وعدد سكان هاته المملكة مليون وثلاثمائة ألف نسمة ، وتختها بلداتريفان ديرام ولكل حاكم مستقل بامتياز في الإدارة على نحو ما تقدّم ذكره.

فما تقدم هي الأقسام الكبرى التي لكل منها أقسام صغرى تحتها وممالك ممتازة ترجع إليها ، كما أنه يوجد أربعة أقسام صغرى ليست داخلة تحت الأقسام الأولى وإنما لها إدارة منفردة تحت نظر الحاكم العام الإنكليزي ، وهي أقسام أربعة داخلة بتا تحت الإنكليز وإدارتها بيدهم مثل الأقسام الكبرى ، وهاته الأربعة أقسام.

أوّلها : المسماة بولاية الشمال الغربي.

وثانيها : المسماة أود.

وثالثها : المسماة بنجاب.

ورابعها : المسماة بالولاية الوسطى.

كما تتبع ممالك الهند الإنكليزي مملكة كشمير لكنها لما كان لها زيادة امتياز ذكرناها منفردة وسيأتي الكلام عليها.

والممالك الممتازة إن كانت إسلامية فرئيسها يلقب بنائب لأنهم في السابق كانوا نوّابا لسلطان المسلمين الذي تخته بلد دهلى ، وإن كانت الممالك غير إسلامية فرئيسها يلقب براجا هذا.

وأمّا كيفية الإدارة السياسية والعسكرية في جميع الممالك الهندية فإن جميع الأقسام ترجع إلى حاكم عام إنكليزي يرتبط مع دولة إنكلترا بواسطة وزارة الهند في لوندره ، ثم هو في نفسه قد وظفته دولته بهذا الإسم في (سنة ١٢٧٥ ه‍ ـ ١٨٥٨ م) ، ورتبت للهند قانونا

٧٤

خاصا فمن مهمات كلياته أنّ الحاكم العام له النظر العمومي على أقسام المملكة كلها وما يتبعها وتصرفه مقيد بمجلس شورى مركب من أعيان الإنكليز المقيمين في الهند ومن أحد كبراء الأهالي ، وهذا المجلس والرئيس عليه الذي هو الحاكم العام تحت احتساب مجلس الندوة في لندرة ومسؤول له ، والواسطة بين الدولة والحاكم العام هو وزير الهند في لندره وله في الوزارة مجلس عدد أعضائه خمسة عشر وكاتبان ، ومن حقوق مجلس الهند المذكور إنشاء القوانين العامّة في الهند وتنظيم الإدارة السياسية والعسكرية وإنشاء الأحكام العامّة ، وما ينشؤه هذا المجلس إذا وافق عليه مجلس الندوة في لندره يصير معمولا به في ممالك الهند.

ثم لكل من الأقسام الثلاثة الكبرى المذكورة حاكم خاص ومجلس شورى مركب من أعيان الأهالي وأعيان الإنكليز تحت رياسة الحاكم ، ومن وظائف هاته المجالس إنشاء قوانين الأحكام الخاصة بقسمهم وعرضها على الحاكم العام وبعد نظره هو ومجلسه فيها والتصديق عليها يرفعها إلى الندوة بلندره كما تقدم ، كما أن للمجالس الثلاثة المذكورة الإحتساب على سيرة الحكام في قسمهم والنظر على الضابطية المكلفة بالأمور السياسية والأحوال العرفية ، ولهم النظر على الملوك والأمراء الراجعين إلى قسمهم ، كما أن لحكام هاته الأقسام المقيد تصرفهم بالمجالس قوة على التنفيذ بواسطة القوّة العسكرية ، ثم لكل قسم ولايات فرعية ومنها الممالك والإمارات المستقلة ، وكل من هاته الولايات لها مجالس إدارة تحت رياسة الوالي أو الأمير أو الملك ، ويتصرف بمشاركة نظر المجلس في الإدارة السياسية والمالية والعسكرية ، والمتوظفون يكونون بحسب أهالي الولاية : إما من مسلمين فقط أو هنديين فقط أو مختلطين ، والتصرفات الصادرة من هؤلاء سواء كانت حكمية أو سياسية أو مالية يمكن رفعها لمجلس القسم الراجعة الولاية إليه وله تحقيق النظر في النازلة على قواعد عندهم في ذلك ، وهكذا الأحكام الشخصية في كل ولاية لها مجلس وقوانين يتصرفون بمقتضاها ، وهاته القوانين قواعدها الكلية هي قواعد أحكام الإنكليز.

غير أن لكل ولاية قوانين خاصة مطابقة للعوائد والعرف المتعارف فيها ، أمّا ما يرجع إلى الزواج والإرث والملك ، فإن الأهالي تجرى عليهم أحكام ديانتهم بواسطة مجالس من أهل الديانة ويمكن رفع أحكامهم إلى مجلس الولاية ومنه إلى غيره إلى أن ينتهي إلى المجلس العام ، والديانات التي لها متوظفون هناك من الدولة هي الديانة الإسلامية والبرهمية وما أشبههما من الديانات المجوسية والوثنية ولهم خرافات مبسوطة في كتب الكلام ، والسكان الآن مختلطون من عرب وفرس وأوروباويين وهنود أصليين ، والمعارف عندهم الآن في تقدّم سيما العلوم الكيمياوية والحكمية لفتح الإنكليز هناك المدارس مشتملة على ما في أوروبا من المعارف ، واقتدت بهم الأهالي حتى ضعفت تجارة الإنكليز بما ينتج من مصنوعات البلاد والعلوم الإسلامية نافقة السوق ولها فحول مؤلفون منهم : سلطان

٧٥

بهوبال (١) الذي طبع الآن من تأليفه في مطبعته ومطابع الممالك العثمانية كثير من تأليفه ، فمنها : تفسير للقرآن سماه «فتح البيان في مقاصد القرآن» (٢) نحا فيه التوسط بين المنقول والمعقول ومنها : «المحصول في علم الأصول» (٣) ومنها : «لقطة العجلان فيما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان» (٤) وهو كتاب بديع فيه تحرير كثير من المسائل الأصولية والكلامية والفرعية وله عدة تآليف أخرى ، وهذا العالم الملك هو من نوادر هذا العصر فإنه مع اشتغاله بمهام السياسة التي تقلدها بالنيابة عن زوجته سلطانة تلك المملكة قد تبحر في الفنون العلمية سيما الشرعية وآلاتها وفصاحته في نسج تآليفه يحمده عليها أهل اللغة العربية وعلى الخصوص في هذا الزمن الذي كادت أن تتلاشى فيه اللغة والعلوم من الأمّة الإسلامية.

ومن فحول علمائهم في هذا العصر الشيخ العلامة رحمه‌الله (٥) صاحب تأليف «إظهار الحق» (٦) الذي ألفه بسبب مجادلات دينية فتح بابها قسيسوا البروتستانت رائمين دعوة أهل الهند المسلمين إلى ديانتهم ، فأفضى الحال إلى مناظرتهم مع الشيخ المذكور وآل الحال إلى مناظرتهم بالتأليف فأفحمهم بتأليفه المذكور مستندا في الردّ إلى كتبهم وأقوال علمائهم بما ينبىء عن اتساع باعه واطلاعه ، وهذا التأليف قد ترجم إلى الفرنساوية وغيرها من اللغات وهو بديع في بابه وقد صار الآن عزيز الوجود مع أنه طبع مرتين وشاعت منه آلاف من النسخ وفي هاته المملكة علماء أخر ولله الحمد.

كما أن لأهلها تقدّما في الحذق والصناعات سيما النقش والترصيع في الخشب والعاج من قديم الزمان ، ومنسوجاتها وطرازها شائع في أغلب الأقطار ، كما أن أهلها هم الذين اخترعوا الأرقام الحسابية ولذلك تسمى بالأرقام الهندية إلى الآن وهو اختراع عجيب شمل جميع الأعداد في تسعة أشكال ، ويكفي للدلالة على ما كان عندهم من الحذق في الصنائع

__________________

(١) هو محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي أبو الطيب (١٢٤٨ ـ ١٣٠٧ ه‍) زوج ملكة بهوبال الهندية ، من رجال العلم في المعقول والمنقول. الأعلام ٦ / ١٦٧ معجم المطبوعات (١٢٠١) إيضاح المكنون ١ / ١٠.

(٢) طبع هذا الكتاب بهامش تفسير ابن كثير الدمشقي في بولاق سنة (١٣٠٠ ه‍).

(٣) هو كتاب حصول المأمول من علم الأصول يبحث عن الأحكام والإختلاف في المنقول ، طبع هذا الكتاب بمطبعة الجوائب سنة (١٢٩٦ ه‍).

(٤) هو كتاب يشتمل على تواريخ الأمم السالفة. طبع في سنة (١٢٩٦ ه‍) وفي الهند سنة (١٢٩١ ه‍) ضمن كتاب خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان.

(٥) هو رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي الحنفي باحث عالم بالدين والمناظرة. توفي بمكة سنة (١٣٠٦ ه‍). الأعلام ٣ / ١٨ معجم المطبوعات (٩٢٩) هدية العارفين ١ / ٣٦٦ إيضاح المكنون ١ / ٣٢٣.

(٦) هو كتاب في مسألتي النسخ والتحريف اللتين جرى فيهما المناظرة بينه وبين قسيس. انتهى من تأليفه سنة (١٢٨٠ ه‍) ومعه أربع رسائل. طبع في المطبعة الخيرية سنة (١٣٠٩) وفي مصر سنة (١٣١٧ ه‍) وهو مطبوع عام (١٩٩٤ م) بتحقيق الدكتور محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوي الأستاذ المساعد بكلية التربية بجامعة الملك سعود ـ الرياض في القاهرة دار الحديث.

٧٦

المعابد التي في جزيرتي الفيلة وسلسيت الكائنتين قرب بنباي ، فإن تلك المعابد منحوتة في الصخر نحتا عجيبا في الصناعة والاتقان ، كما أنه في إيالة بيجابور في جبل نحات مدينة فيزيابور التي كانت تختا لملك المسلمين هناك وفيها بناآت بديعة والآن خربت ، وهاته المملكة لما كانت متسعة جدّا فهواؤها مختلف ولكن تغلب فيها أمراض تقل في غيرها ، وتشتمل على أغلب النباتات المعروفة في غيرها ولها نباتات تختص بها كالقماري والجوز الطيبي وغيرها ، وقد امتدّت فيها الآن طرق الحديد تخترقها في أغلب الجهات ، كما أن المواصلات في أنهرها العظيمة متوفرة بالسفن ، كما أن الطريق الحديدي اخترق أهم جهاتها ودونك أهم ما وصل إليه.

فمنه فرع من كلكوته إلى دكة ، ومنها إلى ميرزابول ، ومنها ايضا إلى دهلى ومنه إلى أباد إلى بنباي ، ومنها إلى كوراتشي ، ومنها أيضا إلى مدراس ، ومن هاته إلى بيبول ومنها إلى نيفاباتام ومن مدراس إلى كلكوته ومن كوراتشي إلى حيدرآباد ومن ملتان إلى لاهور ومنها إلى بيشاور ، ولا زالوا يمدونها في أغلب الجهات حتى قربت إلى حدود الأفغانستان ويمكن أن تصل إلى الصين والممالك العثمانية ، إذ التفكر في ذلك مستمر بحيث أن السفر الآن في الهند مع الأمن في غاية السهولة الموصلة بالطرق الحديدية والعادية والأنهر والترع ، كما أن السلك الكهربائي واصل بعضها ببعض كما وصلها بأوروبا بحيث أن إنكلترا تصل لها الأخبار من الهند على ثلاثة طرق :

فأوّلها : من الهند إلى خليج فارس إلى الممالك العثمانية إلى بقية أوروبا.

والثاني : من لندره إلى جبل طارق إلى مالطة إلى السويس إلى عدن إلى الهند.

والثالث : من لندره إلى فرنسا إلى الجزائر إلى مالطه إلى البقية مما تقدم.

ولا يبعد أنه يصل أيضا على طريق رأس الرجاء الصالح فإنه وصل من لندره إلى هناك ومنه إلى زنجبار فلم يبق إلا منها إلى الهند ، ومن أخشابها المنفردة بها عود القماري.

وأما قوة هاته المملكة الحربية والمالية فستأتي إن شاء الله في جدول الدول.

الفصل السادس

المملكة السادسة

هي مملكة بورما وهي إلى الشمال الشرقي من المملكة السابقة وعدد أهلها نحو ثلاثة ملايين ونصف وديانتهم بوذية مشركون ، وحكمهم استبدادي مطلق وهم أهل مكر وخديعة وليس لهم ولوع إلا بعلم النجوم والأرصاد والسحر وأكثرهم يعلم القراءة والكتابة ، ولأراضيهم نتائج حسنة وتجارة واسعة مع مجاوريهم من الهند والصين ، وقاعدة المملكة مدينة أفاقي القديم والآن مدينة مندلاي ، والداخل إليهم يكون في قبضة البخت من حكامهم وإن كان الإنكليز في هاته الأزمنة مرشدا إليهم ، بعد أن أخذ منهم قسما في سنة (١٨٢٥ ه‍) ، وقد صار يأمرهم بالعدل حتى أنكر على ملكهم في سنة (١٢٩٦ ه‍) قتله لثمانين

٧٧

نفسا من الرجال والنساء والأطفال شر قتلة وهم من عائلات الملك ، وكاد أن يعقد معه حربا لأجل استتباب الأمن جوار الهند ، ودخل هاته الدولة وخرجها مجهول وقوتها من النوع الهمجي وكأنها لا تلبث أن تدخل في حكم الإنكليز.

الفصل السابع

المملكة السابعة

مملكة سيام أو صيام وهي جنوبي المملكة السابقة وشرقي بقية المملكة الهندية الإنكليزية ، وعدد أهلها مع ما يتبعها في جزيرة مالقا وغيرها نحو ستة ملايين ونصف ، وديانتهم وحكمهم مثل المملكة السابقة ومعارفهم أقل من سابقيهم لكنهم يوصفون بالأمانة وتجارتهم من معادن بلادهم الغنية مع الهند والصين والأوروباويين ، وقاعدة المملكة صيام في القديم والآن مدينة بان جوك ، والدخل والخرج والقوّة كلها مجهولة وهي في القوّة على غير نظام.

الفصل الثامن

المملكة الثامنة

هي مملكة كوشين الصين أو أنام وهي شرقي المملكة السابقة ، وعدد أهلها قبل استيلاء الفرنسيس على قسم منها ما بين إثني عشر مليونا إلى ستة عشر مليونا لكنها الآن نحو تسعة ملايين ، وقاعدتها مدينة أووي وبلسان الهنود فوشواش وقيل وهو الأصل مدينة هويفو وهي مربعة الشكل يحيط بها نهر هو من جانبين وترعة من الجانبيين الآخرين ، عرض هاته الترعة سبعون ذراعا وكل ذكر عندهم ملزوم بالدفاع عن الوطن من سنّ العشرين إلى الستين ، ولهم خلق بشوش ولبس النساء والرجال سواء وهو سراويل وجبة إلى الكعب ، والرجال لا يزيلون شيئا من شعورهم وإنما يربطونها ومن عاداتهم إباحة السكر ولا ديانة عندهم وإنما يعتقدون خرافات كثيرة ، والنسوة لا يحتجبن ويتعاطين الأشغال مثل الرجال ، وملكهم له اعتناء بتعليم الأهالي العلوم الرياضية ويرسل خمسة عشر تلميذا من أبناء أعيانهم إلى فرانسا للتعلم في مدارسها وعند رجوعهم يعوّضهم بغيرهم ، وهم يبثون علومهم في الأهالي ، وبعد استيلاء الفرانسيس على قسم من مملكته صار محافظا على موالاتهم وحفظ عهودهم حتى أرسل سفيرا مخصوصا لباريس مدة ولاية الرجل الشهير تيارس رياسة الجمهورية الفرانساوية ، كما رتب هذا الملك جيوشه على الطراز الأوروباوي ، وستتأتى قوّته العسكرية في جدول الدول ، وأما المالية فمجهولة ، وأما العادات الحكمية فلا تخرج عن عادات الممالك السابقة.

الفصل التاسع

المملكة التاسعة

مملكة كمبوديا وهي غربي بعض المملكة السابقة وجنوبي بعض صيام ، وعدد أهلها نحو مليون وقاعدتها مدينة سايكون في القديم والآن مدينة بنوم بنه ، ويقال في ديانتهم

٧٨

وحكمهم وقوّتهم ما هو واقع في الممالك المجاورة لهم ، وقد استولى الفرنسيس على قسم من هاته المملكة عند مصب نهر كمبوديا وقد صارت هاته المملكة تحت حماية فرانسا منذ سنة (١٢٨٠ ه‍ ـ ١٨٦٣ م).

الفصل العاشر

المملكة العاشرة

هي مملكة ملقا وهي شبه جزيرة إلى الجنوب من مملكة صيام ويحيط بها البحر من جميع بقية الجهات ، وعدد أهلها نحو ثلاثمائة وخمسة وسبعين ألف نسمة والديانة الغالبة فيها هي الإسلام وحكمهم الصوري ملك مستقل مستبد لكنه قليل النفوذ ، وأغلب القبائل تعيش بحرّيتها تحت رياسة كبرائها ، وكل قبيلة تدافع عن نفسها ولذلك يعدها الجغرافيون منقسمة إلى أربعة قواعد.

الأولى : براك.

والثانية : سلنكور.

والثالثة : جوهر.

والرابعة : باهنك.

وأراضيهم غير مخصبة لكنها فيها معادن غنية وأشجار الأفيون كثيرة فتجارتهم فيه مع الصين واسعة ، وقد استولى الإنكليز على جهات من هاته المملكة منها مدينة ملقا.

الفصل الحادي عشر

المملكة الحادية عشرة

هي مملكة الصين وهاته المملكة هي أكثر ممالك العالم سكانا وأغناهم ، لاحتوائها على أقاليم مختلفة ، ففيها جميع أنواع النبات والمعادن ، وتجارتها متسعة مع جميع الأقطار ، ولأهلها شهرة قديمة في الصنائع ، وأهمها : صناعة الخزف فإنها اشتهرت بإتقانه على جميع النواحي فيتنافس الناس في اقتناء أواني الخزف الصيني تنافسا كليا ، وبعضهم يبلغ به درجة خارقة للعادة وللإعتدال ، سيما في أوروبا حتى تجد الواحد منهم يزين بيته بترصيف تلك الأواني التي تتكلف عليه بمآت الألوف ، وكذلك ملوك الهند وما والاه يتنافسون في اقتناء الرفيع من أواني ذلك الخزف ، وقد يبلغ ببعض الناس اشتراء صحن واحد بألف فرنك فما فوق ، وعلى وجه العموم كل الناس يرون رقته وحسنه ، غير أن هاته الصناعة الآن انحطت في هاته المملكة عما كانت عليه بكثير لعدم الإتقان السابق ، فالتنافس والتغالي إنما هو في الخزف القديم وله صفات كثيرة تميزه عن غيره.

فمنها : إنه هو وإن كان كثيفا لكن النور يظهر من ورائه.

ومنها : أنه إذا ضرب عليه يكون حسن طنينه كأنه طنين معدن مطرق من المعادن العزيز.

٧٩

ومنها : حسن الألوان فيه كما أنهم لهم إتقان في صناعة النقش والتصوير في سن الفيل وغيره.

وأما المعارف والعلوم : فالظن أنهم كانت لهم في القديم فنون كثيرة وبقيت فيهم الدعوى فقط ، بحيث يرون أنفسهم أعلم أهل الأرض ، لكن في الواقع ليس لهم إلا شيء من الحكميات والنجوم مغرمون باستخدامه في علم الغيب وأشباهه مما لا طائل تحته ، وحدث فيهم أخذ بعض الطبيعيات عن الأوروباويين واستخدموها في منافعهم كالبخار والكهربا لكن لم يتجاوزوا إلى الآن المقدار الذي أخذوه ولم يخترعوا شيئا فيه ، وقد كانوا اكتشفوا بيت الإبرة ، وقد أثبت بعض المؤرخين أنها من اختراع العرب كما أن أهل الصين اخترعوا البارود ولم يعرف أنهم استعملوه في حرب قبل استعماله فيها عند غيرهم ، وإنما كانوا يستعملونه للإصلاح كدك التلال وغيره ، وإن وجد من آثار سلاحهم قديما ما يدل على أنهم كانوا يستعملونه فيه ، وأوّل ما عرف البارود في جهاتنا من العرب سنة (٧٣٧) هجرية.

وموقع هاته المملكة من مبدأ الشطوط الشرقية من آسيا على المحيط الشرقي إلى أن تتصل بأملاك الروسيا ، ومن الجهة الجنوبية تبتدىء من جبال هملاي إلى سبيريا من جهة الشمال فهي حينئذ تحاد الهند من شماليه وما والاه من الممالك الشرقية منه ، وعدد سكان هاته المملكة نحو الثلث من سكان العالم كله وهم على ما تحرّر في سنة (١٢٨٦ ه‍ ـ ١٨٦٩ م) قريبا من خمسمائة وسبعة وثلاثين مليونا من النفوس ، وهذا المقدار يساوي نحو الضعف من سكان أوروبا كلها ، ومع هاته الكثرة التي هم عليها كانوا في السالف لا تكاد تجد منهم خارج مملكتهم إلا النادر القليل لأعجابهم بأنفسهم ، ولأن اصطلاحات أحكامهم تمنع الخروج من الوطن إلا بإذن خصوصي مع التشدد فيه حتى يتبين وجه أكيد لمريد السفر ، ثم مع ذلك إذا غاب المسافر عن وطنه مدة ثلاث سنين يمنع من العودة إليه والدخول فيه ، كما أن من أحكامهم منع دخول أجنبي إلى أرضهم إلا برخصة مخصوصة فأذا نالها كان أين ما حل مكرما محروسا ، وأما إذا دخل بغير رخصة فلا يأمن على نفسه سيما من الحكم ، وقد بقوا على هاته العوائد إلى أواسط هذا القرن ، ثم أطلق الإذن لمن يريد السفر فصار يخرج منهم الكثير إلى الهند وجزائره وإلى أمريكا ، والخارجون لهم براعة في التجارة.

وتكاثر الخارجون لضيق الأرض بهم حتى أنهم في وطنهم يضطرون إلى السكنى على الألواح في الشطوط ، بل أنهم يجعلون على الألواح بساتين لأن الأرض لا تكفيهم لكثرتهم وإتقانهم لتعميرها بالفلاحة حتى أنهم يعملون من أنواع السرقين ما لا يعلمه غيرهم إلى الآن ، وهذه المملكة تنقسم إلى ثماني عشرة ولاية تسمى كل واحدة منها بلغتهم «سنقا».

وأولها : المحتوية على تخت السلطنة تسمى باكنغ أوبا أوتاشي أوبى ، ويبلغ عدد سكانها أربعين مليونا ، ثم أن كل ولاية تنقسم إلى أوطان يقال للواحد منها بلغتهم «فو» وكل وطن من هاته ينقسم إلى أجزاء يسمى كل واحد منها «تشيو» ثم كل جزء ينقسم إلى أقسام متعددة صغار تسمى «هيان».

٨٠