صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

عمل مجلس النواب الذي حقه أن يتخذ من الأهالي وأن لا تعطى الكلفة دفعة واحدة بل على قدر استطاعة الأهالي وقابليتهم وأن ذلك يأتي في المسلمين من الملك وهو المربي لرعيته والسبب في عدم اعطاء الحريّة التامة في فرنسا كما هو جار في انكلترا ثم تعامل الدول مع دول الإسلام على خلاف التصرف في داخليتهم لضعفنا وعدم انصافهم فعلينا بالوسائل وحكم تذاكر البنوك شرعا وليس هو من قبيل السفتجة. وعلاقة الدول والأحكام وفوائد الصحف وفوائد سكك الحديد والبريد والتكلم عليه وعدم تأخير المقصد في الكلام عند الزيارة لاثنين معا. والنهي عن الغيبة بين الأخوان. اجتهاد اليهود في المال بكل بلاد وأغلب الصناعات بأيديهم وعدم تعاطيهم الصنائع المجهدة. الطرق الموجبة للنفرة بالتفاضل ، ابلاغ الشريعة إلى الكفار واجب ولو بدون حرب ، اجتهاد الأجانب في العمل حتى وصّلوا بين شاطىء أميركا والبحرين الأحمر والأبيض وخرق المنسني والخرق تحت المنش ، أسباب عدم استواء الدول الأجانب في التظلم ببلاد الإسلام على حسب مقاصدهم وقوتهم فامريكا مثلا وإن كانت رعيتها عند الترك قدر رعيّة الإنكليز فلا تجد منهم تظلما ولا إقامة حجة مستمرة من سفيرهم ، الوجوب على الحكومة والعلماء فيمن يتوجه إلى الحج بتعليمه ما يجب عليه قبل السفر وإلّا فيمنع.

وفي ١٢ جمادى الأولى سنة ١٣٠٦ ه‍ (١٤ يناير سنة ١٨٨٩) عين صاحب الترجمة قاضيا في محكمة مصر الإبتدائيّة الأهليّة في مدة وزارة رياض باشا الثانية وكان في وزارة نوبار باشا كلف المرحوم بكتابة ما يراه عن القوانين المعمول بها في المحاكم الأهليّة من حيث مطابقتها للشريعة الغراء ، أو القوانين الجارية في الدولة العثمانية الشامل لها كتاب المجلة والدستور فرام أولا التوسع في الموضوع بتقسيم القوانين المصريّة بابا بابا ومقارنتها بالمجلة أو الدستور وإذا لم يجد نصا مطابقا لها فيهما فيطبقها بقدر الإمكان على قول أحد المجتهدين بدون تقيد بمذهب مخصوص ، غير أن عملا مثل هذا يلزمه طول الوقت وكثرة العمال والزمن غير قاض بذلك فالتزم أن يصرف النظر عن هذا العمل وكتب عن القوانين ما نصه :

«القوانين الأصول الّتي عليها مدار الحقوق في الحكومة المصريّة هي القانون المدني وقانون التجارة البري وقانون التجارة البحري وقانون العقوبات وهاته القوانين الأربعة نظر مطابقتها للقوانين العثمانيّة أو للشريعة المطهرة على التفصيل الآتي :

فأما قانون العقوبات وقانون التجارة البريّة والبحريّة : فجميع ما يوجد من موادها في القوانين العثمانيّة المماثلة لها هو مطابق مطابقة كاملة ، وهو أيضا الأكثر من مواد القوانين المصريّة لكن القليل جدّا من مواد هاته القوانين لا يوجد أصلا في مثلها من القوانين العثمانيّة.

وأما القانون المدني المصري : فهو مخالف للمجلة العثمانيّة الّتي هي قائمة مقامه

٤١

مخالفة كثيرة كليّة ، غير أن القانون المدني المصري مع ذلك أكثره مطابق للشريعة المطهرة على الإطلاق من غير نظر إلى خصوص مذهب معين بل بالنظر إلى أقوال الأئمة المعمول بأقوالهم في الديانة ، والقليل من هذا القانون المدني مخالف أيضا لجميع تلك الأقوال غير أن تحويره بما يرجع به إلى مطابقة أحدها مما يقتضيه الحال أمر سهل يسير بفطنة حذاق أهل الخبرة والعلم».

وكذلك كلفه الباشا المشار إليه تقديم تقرير بما يراه لإصلاح حال الأوقاف وقد فعل وكان موجها همته في مدة توظفه بالمحاكم للسعي وراء تطبيق قوانينها على الشريعة الغراء ، ولما قدم ولي عهد الإنكليز إلى مصر كان صاحب الترجمة من الأفراد القليلين الذين اجتمعوا به وفي تلك السنة أنهى رياض باشا ترميم منزله بالحلميّة فهنّأه المرحوم بهذه الأبيات :

أن الوزير المصطفى في عصره

لا زال عونا للمليك بأزره

أبدى من التدبير في الإصلاح ما

قد حقق المعهود منه بقطره

فلقد أتى في قصره ما يبتغي

حسنا به ومتانة مع وفره

والقطر قصر واسع الأرجاء قد

أبدى له أنموذجا من قصره

وكلاهما مستأهل بعياله

وإدارة بإصابة من فكره

فكما نشاهد في الصغير إجادة

فكذا الكبير نراه صار بأمره

إذ اتقن التحسين حتى أرّخوا

قصر رياض فيه جنة مصره

(سنة ١٨٨٩)

وقد عين عضوا في اللجنة الّتي تشكلت للنظر في تعميم المحاكم الأهليّة بالوجه القبلي وعضد هذا التعميم ، وكذلك انتخب عضوا في لجنة تشكلت في المحكمة بناء على طلب نظارة الحقانيّة لتقديم تقرير للنظارة بكل ما يرى لزوم تعديله في القوانين على حسب ما يلائم حالة البلاد وعين عضوا في لجنة بنظارة الداخليّة لمراجعة الأحكام الصادرة من قومسيونات الأشقياء وانبنى على عمل هذه اللجنة الإفراج عن عدد عظيم من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة في طره وكان إمضاؤه على تقرير هذه اللجنة آخر أعماله الرسميّة فتوجه إلى مدينة حلوان لتغيير الهواء ، وهناك اشتدّ عليه المرض وبلغ به الضعف غاية المنتهى وظهر في جهة جنبه الأيسر خرّاجان بسبب الحقن بالمرفين أعقبهما بعد فتح الطبيب لهما تكوّن المادة في الرئة وبعد أن لازم الفراش بالمرض المعروف بذات الجنب نحو الخمسة والعشرين يوما فارق الحياة وذلك في الساعة الخامسة ونصف بعد ظهر يوم الأربعاء ٢٥ ربيع الثاني سنة ١٣٠٧ ه‍ (١٨ دسمبر سنة ١٨٨٩) وقد خلف ثلاثة بنين رزق بهم من بنت عمه الّتي تزوّج بها في ١٤ ربيع الثاني سنة ١٢٧٧ ه‍ وكان قبل ملازمته للفراش محتفلا بالمولد النبوي الشريف هناك بمحضر بعض الأصحاب وقد دخل إلى الحرم من

٤٢

تلك الحفلة ولم يخرج حيا وفي مدة مرضه ورد عليه مكتوب من صديقه رياض باشا ونصه :

«جناب الأستاذ :

من صميم الفؤاد قد تكدرت من خبر ما طرأ على جنابكم من انحراف المزاج الذي لم أعلم به إلّا من منذ كم يوم وادعو المولى سبحانه وتعالى أن يمنّ عليكم بالشفاء وكمال الصحة والعافية ونراكم معنا عن قريب ، وعلى أي حال أترجاكم أن لا توأخذوني والعذر عند كرام الناس مقبول.

في ١٣ ربيع الثاني سنة ١٣٠٧ ه‍».

محبكم المخلص

رياض

وقد حضر دولة الباشا المشار إليه إلى حلوان وقصد عيادته وأرسل إليه نجله ، وكذلك كان المرحوم توفيق باشا كثير السؤال عنه يوميا بواسطة طبيبه عيسى باشا حمدي ، ولما توفى أظهر لأبنائه جميل التلطف تغمده الله برحمته ، وقد شيع رياض باشا جنازة صاحب الترجمة صبيحة يوم الجمعة وكانت مودّتهما صافية خالصة ودفنه في التربة المخصوصة الّتي شيدها بقرب ضريح الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه وقد كتب على قبره هذه الأبيات وهي من إنشاء الشاعر البليغ حفني بك ناصف :

يا قبر أضنانا البكاء وتبسم

أدريت أن الفضل فيك مخيم

أعلمت أنك قد حويت محمّدا

وتركت أكباد الورى تتضرّم

هذا الذي كانت بدائع فكره

تملي البيان على اليراع فينظم

من عترة ثوت العلوم بدارهم

فهم لطلاب الهداية أنجم

أولاه مولاه مواهب فضله

والله يعطي من يشاء ويرحم

وأقام في دار النعيم فأرخوا

في جنة الفردوس أسكن بيرم

سنة ١٣٠٧ ه‍.

وقد رثاه جملة من أحبابه وكتبت الجرائد تنعيه ولنقتصر منها على ما قالته «الوقائع المصريّة» جريدة الحكومة المصريّة الرسميّة الصادرة في ٢١ دسمبر سنة ١٨٨٩ نمرة ١٤٥ : «إنا لله وإنا إليه راجعون. في آخر ليلة الخميس الماضي انتقل من هذه الدار الفانية إلى الدار الآخرة الباقية المرحوم الشيخ محمّد بيرم أحد قضاة المحكمة الإبتدائيّة الأهليّة بمصر ، وصاحب جريدة الإعلام العربيّة. وكانت وفاته رحمه‌الله بمدينة حلوان عقب اشتداد الداء العصبي الذي مني به من عدة سنين ولم ينجع فيه علاج الأطباء.

وفي صباح يوم الجمعة الماضي احتفل بنقل جسده من حلوان احتفالا يليق بمقامه وفضله وانتظره على محطة ميدان محمّد علي العدد العديد من رجال الحكومة السنيّة

٤٣

وأكابرها ، وفي مقدمتهم صاحب الدولة رياض باشا رئيس مجلس النظار وناظر الداخليّة والماليّة وكثير من العلماء وقضاة المحاكم الأهليّة ومشاهير المحامين وذوي الفضل من الوجوه والأعيان. ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام ما كان من صاحب الدولة رياض باشا من العناية بأمر المرحوم والإهتمام بشأنه والمساعدة في إكرام تشييع جنازته ودفنه وتعزية أولاده وتشجيعهم على تحمل المصاب إلى غير ذلك من الإحتفال والإكرام ، ولما وصلت الجنازة إلى المحطة شيعت في مشهد حافل مشى فيه دولة رئيس النظار ومن تقدم ذكرهم ومن حضروا من حلوان بغاية السكون والوقار وكان في مقدمة المشهد الذاكرون ومرتلو البردة وغيرها من الأحزاب والأوراد ، ثم المشيعون للجنازة فحملة السرير وكلهم آسفون لفراق هذا الرجل العظيم الشان ، وقد دفن رحمه‌الله في المدفن الذي بناه صاحب الدولة رياض باشا بقرافة الإمام الشافعي عليه الرضوان وفرّقت الصدقات على الفقراء والمساكين ودعا الناس للمرحوم بالرحمة والغفران.

أمّا الرجل رحمه‌الله فكان عالما فاضلا فقيها كاملا متضلعا من العلوم الشرعيّة بأنواعها مطلعا على أحوال الأمم وله الباع الطولى في فنون التاريخ القديم والحديث وكان من ذوي الأقلام البليغة فيما يريد كتابته من المواضيع وقد ألف رسائل كثيرة في الأحاديث والأصول والأحكام الشرعيّة والجغرافيا التاريخيّة والسياسيّة وغيرها ، وكلها تدل على غزارة مادته وسعة تفننه في المعارف والعلوم وكان كثير الاستشهاد بأحوال الأمم الغابرة والحاضرة في كتاباته وأقواله وله قوة حاضرة في إقامة الدليل والبرهان كما يشهد بذلك المقامات الافتتاحيّة الّتي كان ينشرها في جريدة الإعلام رحمه‌الله رحمة واسعة وأفرغ على آله وذويه جميل الصبر. وعزاهم على مصابهم فيه أكمل العزاء وأثابهم على الصبر عظيم الأجر آمين».

وهذا ما قالته جريدة «الحاضرة» الصادرة بتونس في ٢٤ ديسمبر سنة ١٨٨٩ عدد ٧٤ «صباح يوم الخميس الفارط نشرت أخبار التلغراف من حلوان مصر القاهرة خبر وفاة العلامة النحرير صاحب الصيت الشهير المؤلف الشيخ السيد محمّد بيرم وبما أنه من مفاخر البلاد التونسيّة تقوم الحاضرة بواجب رثائه وهي أدرى من غيرها بفضائل رجالها ، فقد ولد هذا العالم في بيت العلم البيرمي سنة ست وخمسين ومائتين وألف وتربى في مهاد العلم والتعليم ، وقرأ على ابن عمه الشيخ أحمد بيرم وعلى عم جده الشيخ مصطفى بيرم وعلى شيخ الإسلام الشيخ محمّد معاوية وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ الشاذلي بن صالح والشيخ محمّد الشاهد والشيخ علي العفيف وغيرهم من فحول جامع الزيتونة إلى أن حصل على مرتبة عالية وتقدم لخطتي التدريس ، وقرأ كتبا مهمة بجامع الزيتونة وولي مشيخة المدرسة العنقيّة بعد وفاة عمه شيخ الإسلام الرابع وختم بها الأختام المهمة وكان يعيدها كل سنة في بيت الحضرة العليّة.

٤٤

وكان عالما فاضلا عالي الهمة عزيز النفس رفيع الحسب منشئا فصيح اللسان جميل المحاضرة صاحب أناة ووقار خبيرا بالسياسات الشرعيّة والوقتيّة حسن التدبير واسع الإدارة امتنع من قبول الخطط الشرعيّة عدة مرار متعللا بضعف بدنه ، وكان عضوا في عموم الجمعيّات الّتي انعقدت لوضع التراتيب العلميّة والتنظيميّة أول الوزارة الخيريّة وهو الذي قام برئاسة جمعيّة الأوقاف عند تأسيسها فأسس أصولها بعد أن جمع شملها بما يقتضيه العلم والإنصاف ، وولي نظارة المطبعة الرسميّة واعترته أمراض عصبيّة بمعدته سافر بسببها عدة مرار لباريز وإيطاليا وحنكته الأسفار بما يزيده في الاعتبار ، وبإشارته كان إنشاء المستشفى الصادقي وباشر إقامته على النمط الذي رآه بباريز ، ومن قلمه كان إنشاء قانونه وشكره الأمير يوم فتحه في الموكب العمومي وولي عضوا في مجلس الدولة الشوري على عهد وزارة ابن إسماعيل واشتد مرضه والحّ في طلب الإعفاء ولم تسعفه الدولة بذلك وخرج لبيت الله الحرام أواخر سنة ست وتسعين ومائتين وألف ورجع على طريق الشام.

ولما رأت الدولة انحلال وظائفه أحالتها لغيره في الثامن والعشرين من محرم سنة ١٢٩٧ ه‍ وتنقل من الشام إلى دار الخلافة العثمانيّة فنزل بمنزل التعظيم والتكريم وعرضت عليه نقابة الأشراف والفتوى بالشام فلم يقبل لضعف بدنه ، ثم انضمّ إليه أبناؤه وعائلته وأجرت عليه الدولة جراية سلطانيّة وهنالك ألف رحلته «صفوة الإعتبار بمستودع الأقطار والأمصار» وأودعها من الأصول السياسيّة والأصول العلميّة ما يدل على كمال تضلعه وقوة عارضته ، وأقام بالآستانة إلى أن شق عليه مرضه العصبي وأشار عليه الأطباء بالتنقل إلى البلاد الحارة فتنقل بأهله وأبنائه أول المحرم سنة اثنتين وثلاثمائة وألف وتلقته الديار المصريّة بالرحب والقبول وأنزله الجناب الخديوي منزلة التكريم وأجرى عليه جراية تليق بأمثاله وفتح بها مطبعته الإعلاميّة وأفادت صحيفة «الإعلام» في سائر الجهات العربيّة إلى أن ولي حاكما بالمحكمة الأهليّة وفي أثناء هاته الأسفار كان مجدا في الاعتناء بكرام أبنائه في المدارس إلى أن وصلوا إلى قدم الكفاءة للمهمات وترقى أولهم لخطة كاتب بمجلس النظار بالديار المصريّة نسأل الله أن يجعل منهم خلفا محمودا وأن يديم عليه في نعيم الجنان ظلّا ممدودا».

هذا وقد قيل إن قيمة المرء لا تقوم بمقدار مادحيه فقط بل بانضمام المنتقدين عليه أيضا ، وعلى ذلك نقول أنه من دون سائر الجرائد العربيّة والإفرنجيّة قد انفردت إحدى جرائد الآستانة العربيّة بنشر ما يخالف أمره عليه الصلاة والسلام : «اذكروا موتاكم بخير» (١).

__________________

(١) الحديث في سنن أبي داوود (٤٩٠٠) بلفظ : «أذكروا محاسن موتاكم» وفي الترمذي (١٠١٩) وفي السنن الكبرى للبيهقي ٤ / ٧٥ وفي شرح السنة للبغوي ٥ / ٣٨٧ وفي مشكاة المصابيح (١٦٧٨) وفي اتحاف السادة المتقين ٧ / ٤٩١ و ١٠ / ٣٧٤ وفي كشف الخفا ١ / ١١٤. وفي المعجم الكبير للطبراني ١٢ / ٤٣٨ وهو باختلاف يسير.

٤٥

ولم يكن ذلك ليؤثر على حسن صيته وشهرته فقد قيل ـ كلام العدى ضرب من الهذيان ـ ومن تأمل في تاريخ حياة المغفور له علم أنه كلما خفض الأعداء والحساد من شأنه ذراعا ارتفع ميلا وكلما اشتدت به ملمات الحوادث وكوارث الزمن زاد قدره اعتلاء ، فقد خرج المرحوم من دياره مغربا مشردا فما زالت به همته حتّى بلغت به إلى شرف المقابلة بالحضرة الشاهانيّة ونوال أقصى الرعاية السلطانيّة وخسر أمواله وأملاكه ، فقام له فضله وعلمه بعدم الحاجة لأحد فعاش ميسورا ومات ميسورا واجتهد بعض ذوي التقصير في الحط من سيرته والطعن في شهرته فما زاده ذلك إلّا اعتلاء في الصيت واحتراما في النفوس وتوقيرا في الصدور ، فقضى حياته حميد السيرة وانتقل إلى رحمة ربه طاهر السريرة وعلى كل حال فنسأل الله أن يجازي الجميع خيرا ولا يريهم ضيرا ، هذا وقد كتبت ما كتبته والله يعلم إني لم أقصد به فخرا ولا حبّا في الظهور وإنما هي حقائق مثبوتة بمستنداتها ألقيتها تحت نظر القارىء ليرى في حياة هذا المؤلف وما طرأ عليه من نعيم وبؤس العبرة الّتي يتوخاها وقياما بحقوق الأبوة والتربية وإجابة لما كان كلفني به عند قدومه إلى مصر ولكوني أعلم الناس بأحواله رحمه‌الله رحمة الأبرار.

وكلما تذكرت على قبره محاسن أفعاله في حياته العموميّة وجميل أخلاقه وشهامة نفسه في حياته الخصوصيّة أكاد أنشد بيت المعرّي مخاطبا لقبر أبيه :

لأطبقت أطباق المحارة فاحتفظ

بلؤلؤة المجد الحقيقة بالخزن

٩ ذي الحجة سنة ١٣١١ ه‍

محمّد بيرم

٤٦

التعريف بكتاب

صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار

وهو رحلة

الشيخ الجليل والعالم المحقق النبيل السيد محمّد بيرم الخامس التونسي

رحمه‌الله وطيب ثراه

الجزء الأول ـ يشتمل على مقدمة وأقسام وفيها مباحث : في أحكام السفر شرعا والإستدلال على قدرة الخالق والقول بتكوير الأرض ودورانها والإستدلال على ذلك بأقوال الحكماء والفقهاء والصوفيّة وغير ذلك من المباحث الشرعيّة والعلميّة الطبيعيّة وذكر ما ورد في السفر من كلام الحكماء والأدباء وحكم السفر لغير أرض الإسلام وأسباب سفر المؤلف وتقسيم أحوال أهل الأرض الآن مقسّما ذكرهم إلى (٨٧) فصلا أي على عدد الحكومات المستقلة مشروحة كل واحدة منها بالشرح الوافي وهو أتم كتاب في الجغرافية العموميّة للكرة الأرضيّة مطبوع باللغة العربيّة.

وفي هذا القسم كثير من الفوائد : كدخول الإسلام إلى الصين وذكر دولهم فيه والمملكة التي أنشأها السلطان سليمان وذكر استيلاء الإنكليز على الهند والموكب الذي حصل لتلقيب ملكتهم بلسطانة الهند وسفر ولي عهدهم إلى ذلك القطر وما جرى له من الإحتفال وكذلك سفر شاه إيران إلى أوربا والأستانة وما لاقاه فيها من إكرام السلطان عبد العزيز وتفصيل أحوال مملكة مراكش وأسباب تقدم أوربا.

ويلي هذا الكلام على القطر التونسي منشإ المؤلف ثم جدول عمومي عن أحوال جميع ممالك الأرض وبيان عدد سكانهم وديانتهم وقواتهم الحربيّة والبحريّة وإيرادهم ومصروفهم وتجارتهم وديونهم وطول السكك الحديديّة فيها.

الجزء الثاني ـ في بقية الكلام على القطر التونسي بالتفصيل عن إدارته وسياسته وأحكامه وأخلاق أهاليه وجميع ما يتعلق بذلك من زمن الفتح الإسلامي إلى حين دخول فرنسا فيه.

٤٧

الجزء الثالث ـ في الكلام على مملكتي إيطاليا وفرنسا بالإسهاب وأسباب تقدمهما وتاريخهما القديم والحديث وحالتهما الإداريّة والسياسيّة وقواتهما الحربيّة والماليّة وانتشار العلوم والمعارف فيهما ورسوخ الحريّة في ابنائهما.

الجزء الرابع ـ في الكلام على قطر الجزائر وتاريخه ودخول فرنسا فيه وما وقع في حربه مع الفرنسيس وبيان حالته الآن كل ذلك بغاية البسط والشرح وكذلك الكلام على مملكة إنكلترا وما رآه المؤلف فيها وذكر تاريخها وأسباب تمدنها وتقدمها وانتشار مستعمراتها وأحوالها بالتفصيل ثم ذكر جزيرة مالطه واستيلاء الإنكليز عليها وحالتها قديما وحديثا.

وفي هذا الجزء الكلام على القطر المصري وبيان أحواله إلى سنة ١٣٠٣ هجرية أي حين وصول المرخصين العثماني والإنكليزي إليه وذكر الديار المصريّة وجغرافيتها وتاريخها وحكوماتها وسياستها وتفصيل الثورة العسكريّة وفيه بحث عن افساد دعوى حرق المسلمين لمكتبة الإسكندريّة.

الجزء الخامس ـ في الكلام على الحجاز بالتفصيل والدولة العثمانيّة وتاريخها إلى حين عقد معاهدة برلين وأسماء سلاطينها وتاريخ ولايتهم مع بيان أعمالهم الشهيرة منظومة في قصيدة.

وفي جميع هذه الأجزاء مكاتبات لبعض الملوك والسلاطين والأمراء ومعاهدات دوليّة كثيرة وفرمانات سلطانيّة متعددة في أغراض ومقاصد شتى.

٤٨

ما شاء الله كان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[تمهيد]

الحمد لله مالك الملك والممالك. خالق النور والظلمة والضلال والهدى إلى أقوم المسالك. سبحانه الخالق الحكيم. المبدع للكون وما فيه من حقير وعظيم. رسم عليه دلائل وحدانيته لتدبر المتبصرين. (وَمِنْ آياتِهِ [خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) [الروم : ٢٢] والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على تاج العالم المصون. ومظهر الكمالات المسرى به إلى المسجد الأقصى والمقام المكنون. سيدنا ومولانا محمد رسول الله. المطهر عنصره الجثماني. والمنزه جوهره الروحاني. من الكدر والاشتباه. وعلى آله الطاهرين. وأصحابه الذين جابوا الأرض في هداية المخلوقين.

أما بعد : فإن الله جلت عظمته اقتضت حكمته الباهرة. أن ربط في هاته الدار الأسباب بالمسببات خفية كانت أو ظاهرة. وأخفى مراده في التكوين. فكان مدار تكاليف الشرع هو اعتبار الأسباب رحمة بالمؤمنين. وتفويض ما وراء ذلك إلى خالق مسبب (١) يجري على مقتضى تقديره في الأزل وما يدرك أسرار حكمته إلا قليل من الكاملين. وكان مما عرض للعبد الحقير. أن بليت بمرض أعيا علاجه أطباء قطرنا الشهير. وأشير عليّ بالسفر لأجل ذلك الغرض. فاستخرت الله تعالى واستشرت الأصدقاء لتحصيل ذلك الحق المفترض. فجبت بحارا وقفارا. ومدنا وأمصارا على حسب ما يسره المقدور. وساعفت الوسائل على الوصول إلى مشاهدته من المعمور. ورأيت بعيني البصر والبصيرة. أمورا عجيبة خطيرة. أحببت نظمها في عجالة حفظا لها من الإهمال. وتطفلا على منح العلماء أولي الكمال.

كل سرّ جاوز الإثنين شاع

كل علم ليس في القرطاس ضاع

وهي وإن كانت بالنسبة لمعارف الكاملين والفحول. ليست مما يلتفت إليه أو يلاحظ

__________________

(١) في الأصل المسبب والصواب ما أثبتناه.

٤٩

بالقبول. لكنها على كل حال بضاعة من علم. تلاحظها بالإغضاء أعين أهل الحلم. فلعل الله بفضله يفيد بها أهل وظننا وإخواننا المسلمين. ويهدينا إلى إحياء معالم ديننا المتين. وسميتها : صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار والأقطار. معتمدا على فضل المانح الجليل. وهو حسبي ونعم الوكيل.

فنقول : أن هاته الرحلة مرتبة على مقدّمة ومقصد وخاتمة فالمقدّمة فيها ثلاثة أبواب : الباب الأول : في السفر من حيث هو ويشتمل على ثلاثة فصول الباب الثاني : في السفر لغير أرض الإسلام وفيه فصلان الباب الثالث : في تقسيم أحوال أهل الأرض وفيه خمسة أقسام وستة وثمانون فصلا والمقصد فيه ثلاثة عشر بابا : الأول : في سبب سفري. الثاني : في مملكة تونس. الثالث : في مملكة إيطاليا. الرابع : في مملكة فرانسا. الخامس : في قطر الجزائر. السادس : في مملكة إنكلتره. السابع : في جزيرة مالطه. الثامن : في قطر مصر. التاسع : في الحجاز وجزيرة العرب. العاشر : في بقية الممالك العثمانية. الحادي عشر : في مملكة أسفيسره. الثاني عشر : في مملكة النمسا. الثالث عشر : في مملكة الرومانيا. وكل باب يشتمل على فصول حسبما فيه من الفروع. الخاتمة : فيما يبنغي للأمّة الإسلامية إتخاذه من زيادة بث المعارف وما تثمره من الخيرات.

٥٠

المقدمة

الباب الأول

في السفر من حيث هو

الفصل الأول

فيما جاء في ذلك من الكتاب العزيز

إعلم أن الله تعالى قد أمر في كتابه العزيز بالسير في الأرض للإعتبار والإستدلال على وجوده ووحدانيته ، فقال تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) في آيات من الكتاب المجيد في [الأنعام : ١١ ـ والنمل ٦٩ ـ والعنكبوت ٢٠ ـ والروم ٤٢] ، وفي بعضها قال : (ثُمَّ انْظُرُوا) [الأنعام : ١١] وفي أخر قال : (فَانْظُروا) [النمل : ٦٩ ـ العنكبوت ٢٠ ـ والروم ٤٢]. فكان العطف تارة بالفاء وتارة بثم إشارة إلى أن النظر والإعتبار كما يلزم في حالة السير يلزم بعده حتى لا يكون الزمن والعمل خاليا عن فائدة صحيحة في نظر الشرع فأوّلا : يحصل النظر الإجمالي في حالة السير ثم يحصل النظر التفصيلي بالاعتبار عند الإنفصال منه حتى يستقرّ في النفس بغاية التروّي. ولا يخفى أن القاعدة الأصولية عندنا هي أن الأمر للوجوب ، وهو حقيقته ولا يصرف إلى غيره إلا عند القرينة الصارفة ، وقد اشتملت الآيات المذكورة على أمرين وهما : الأمر بالسير والأمر بالنظر. فكلاهما واجب غير أن الأول واجب لكونه وسيلة للثاني ، والثاني : واجب مقصود لذاته وإفادة ترتبه على سابقه تحصل بكل من الفاء وثم بيد أنه تحصل بكل واحدة فائدة خاصة ، فالفاء تفيد ترتب النظر على السير بغير مهملة ، وثم تفيد ترتبه عليه بعده حتى يكمل رسوخه ، وبهذا تبين الوجه في العطف بهما ولا نحتاج إلى أن الإتيان بثم لإفادة التفاوت بين مراتب الواجبين ، حيث أن أحدهما مقصود لذاته والآخر مقصود لكونه وسيلة كما ذهب إليه أبو السعود (١) والقونوي (٢) لأنّ هذا لا يكون فائدة يستدعيها المقام بخلاف ما ذكرناه.

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي المولى أبو السعود (٨٩٨ ـ ٩٨٢ ه‍) مفسر من علماء الترك المستعربين. الأعلام ٧ / ٥٩ شذرات الذهب ٨ / ٣٩٨.

(٢) القونوي : لقب لجماعة من فقهاء الحنفية : انظر الأعلام ٧ / ٣٠ و ١٥٣ و ١٦٢.

٥١

ثم أن كون السير واجبا لما ذكر هو ما عليه المحققون ، وإن سبق قلم الزمخشري (١) وتبعه القاضي البيضاوي (٢) إلى أن الأمر بالسير للإباحة والأمر بالنظر للوجوب ، فقد قال غيرهم : إن ذلك ينبو عنه المقام.

أما أولا : فلأنه إخراج للأمر عن حقيقته.

وأما ثانيا : فلا وجه لذكر إباحة السير للتجارة وغيرها في سياق الإفحام للجاحدين ، ثم يعطف عليه ما هو واجب ولا يتم إلا بسابقه.

وأما ثالثا : فقد تقرّر في الأصول أن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا فكيف يكون النظر في آثار المكذبين واجبا بدون سير؟ فإن قيل : إنا لم نر في دواوين أصول الدين أن من واجبات الديانة السفر كما ذكر؟ فالجواب أن معنى الوجوب معلق بما إذا لم يحصل الإعتبار المفضي للإعتقاد إلا بالسفر ، لأنه يؤدّي إلى رؤية الآيات بالمشاهدة التي لها من التأثير ما ليس لغيرها ، أما إذا حصل الإعتقاد فلا داعي حينئذ لوجوب السفر وإنما هو مباح. ولهذا كانت الآيات المذكورة في سياق الحجاج للمعاندين وكأن ما ذكر هو الذي أدى ببعض المفسرين للقول : بأن الأمر للإباحة.

وقد ذكر الغزالي (٣) في الإحياء : أن السفر تعتريه الأحكام الخمسة من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة لأنه من الوسائل فيأخذ حكم ما قصد به (٤) وأبان ذلك بيانا شافيا.

وإذا تقرّر أن السير واجب لأجل الإعتبار ، فنقول : إن المعتبر به أشياء منها ما دلت عليه الآيات المذكورة من الإعتبار بعاقبة المكذبين للرسل ، ومنها ما دل عليه قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢]. فإن المسافر يرى من عجائب قدرة الخالق جل وعلا من اختلاف الطباع واختلاف الأشكال والهيئات واللغات والبشرة ما يقضي بوجوب وجود صانع ذلك المختار في أفعاله ، إذ لو

__________________

(١) هو محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري جار الله أبو القاسم (٤٦٧ ـ ٥٣٨ ه‍) عالم بالتفسير والآداب واللغة. توفي في الجرجانية من قرى خوارزم. الأعلام ٧ / ١٧٨ وفيات الأعيان ٢ / ٨١ معجم الأدباء ٥ / ٤٨٩ رقم الترجمة (٩٤٥) مفتاح السعادة ١ / ٤٣١ معجم المطبوعات (٩٧٣).

(٢) هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين البيضاوي. قاض مفسر توفي في تبريز سنة (٦٨٥ ه‍). الاعلام ٤ / ١١٠ بغية الوعاة (٢٨٦) مفتاح السعادة ١ / ٤٣٦ طبقات الشافعية للسبكي ٥ / ٥٩.

(٣) هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد (٤٥٠ ـ ٥٠٥ ه‍) حجة الإسلام. مولده ووفاته في الطابران. الأعلام ٧ / ٢٢ وفيات الأعيان ١ / ٤٦٣ طبقات الشافعية للسبكي ٤ / ١٠١ شذرات الذهب ٤ / ١٠ الوافي بالوفيات ١ / ٢٧٧ مفتاح السعادة ٢ / ١٩١ معجم المطبوعات (١٤٠٨ ـ ١٤١٦).

(٤) انظر كتاب إحياء علوم الدين كتاب آداب السفر. ٢ / ٢١٧.

٥٢

كان الأمر مستندا للطبيعة لجاءت الخلق على هيئة واحدة في جميع ما تقدّم ، مع أنا نرى الإختلاف والتباين تارة مع قرب المناخ وتارة مع بعده ، مع أن الأرض واحدة وعناصرها واحدة وأصل البشر واحد ومزيد البسط لهذا في كتب الكلام.

ومنها : ما دل عليه قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١] فأمر تعالى بالإعتبار بما خلق من الأجرام العلوية وكيفية وضعها وحركاتها ، كما أمر تعالى بالإعتبار بما خلق في الأرض من الجماد والنبات والحيوان ، وفي هاته الآية أجمل المنظور فيه وقد فصله في آيات كثيرة من كتابه العزيز للإستدلال على وجوده ووحدانيته ، فقال في سورة [الرعد ٢]. (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). فذكر أن الأجرام العظيمة الهائلة قد بقي كل منها في مركز مخصوص من الجو وله حيّز يمتاز به عن غيره من غير اضطراب ولا تلاطم وليس لكل منها ما يعتمد عليه من الأجرام المرئية مع أن أجرامها هي في نفسها مرئية على خلاف المعهود فلا بد أن يكون جميع ذلك لموجب أوجبه ، فإن قيل : إن موجبه هو وجود أعيانها وذواتها فهذا مردود لوجهين :

الأوّل : أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيّز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحيّز.

والثاني : أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير المتناهية وهي بأسرها متساوية ، ولو وجب حصول جسم معين في حيّز لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز متساوية ، فثبت بهذا أن وجود الأجرام الفلكية في أحيازها ليس هو لذاتها ، وإنما هو لمدبر حكيم قادر خص كلا منها بما شاء.

ثم إنّ كمال الإعتبار بترتيب تلك الأجرام العلوية وكيفية أوضاعها وأشكالها إنما يتم على أكمل وجه بالسير في الأرض ، فما يرى منها في جهة القطبين لا يرى من المناطق المعتدلة ، وكذلك ما يرى في أحد نصفي الكرة لا يرى من النصف الآخر.

ثم قال تعالى عقب الآية السابقة : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد : ٣] قال المفسرون : إنه تعالى لما قرّر الدلائل العلوية أردفها بالدلائل الأرضية بالاعتبار بذات الأرض وما احتوت عليه من عجائب قدرة الخالق الحكيم القاضية بوجوب وجود صانعها ، فإن حكماء المتأخرين الذين وصلوا بالمعارف والتحاليل والآلات إلى ما لم تبلغه فلاسفة الأقدمين حتى زيفوا لهم كثيرا من خرافاتهم وبينوا خطأهم ، فهؤلاء حذاقهم قد أقرّوا بأنه لا بد من خالق لما هو موجود إذ ما يعللون به كثيرا من الأشياء من قولهم الجاذبية والنواميس والطبيعية وغير ذلك ، قد صرحوا بأنها عبارات إصطلاحية وإلا فحقائقها أمور مجهولة تلتزم متتبعها بالإعتراف بالصانع فمن هؤلاء الحكيم المتبحر «فيلكس

٥٣

لامروس» وهو من مشاهير فحول علمائهم في القرن التاسع عشر المسيحي حتى أن كتابه «في الجغرافية الطبيعية» الموسوم بالدراسة الأولية عليه مدار تعاليمهم في المدارس واختير للتعريب ليعلم ويعمل به في المدارس المصرية.

وقد صرح هذا في كتابه المذكور في مبحث الجو وكرة الهواء ، بقوله : «وإذا فرض زوال التثاقل العمومي من الهواء فإنه يتشتت في الفضاء» إلى أن قال : «لكن الحكمة الإلهية اقتضت الآن حفظ الأشياء وضبطها في مواضعها الشاغلة هي لها بموجب قوة مجهولة ذاتها لا فعلها تسمى بالجذب وهي كلمة يعلم منها الفعل لا السبب إذ هذا الأخير مع كثرة بحث الطبيعيين عنه وتفتيشهم عليه لم يزل مجهولا إلى الآن وعلى المتولع بدراسة العلوم أن لا يأخذ بظواهر مثل هاته الكلمات العلمية التي يوضح بها سبب أو أسباب طبيعية مجهولة لحادث من الحوادث ، فإذا قيل : هنا مثلا : إن الأجرام تزن أو تثقل لأنها مجذوبة لغيرها أو أنها جارية على مقتضى نواميس الجذب كان ذلك الدور المعيب (الخ كلامه)». ثم إن الإعتبار بأحوال الأرض المشار إليها في الآية الكريمة هي من جهات :

أولها هيئة الأرض : وهي كونها جرما عظيما ، حتى أن مقدار ما يصل إليه بصر الإنسان منها يراه مبسوطا مع أنها هي كرة ، قال العلامة الرازي (١). ما معناه : «أنه لا ينازع في كونها كرة إلا من لا تدبر له». وقد ألف الشيخ محمد بيرم الثالث (٢) قدّس سره رسالة في ذلك استدل على تكويرها بكلام الحكماء والفقهاء وأهل الباطن ، وها نحن نسرد هنا نبذة من ذلك مع اختصار وزيادة.

فأما كلام الحكماء : فمنه ظهور أعالي الأشباح من بعد ، ومنه ارتفاع الشمس والكواكب في جهات من الأرض بخلاف جهات أخرى حسبما حرر ذلك بموازين أخذ الإرتفاع.

وأما كلام الفقهاء : فقد ذكروا في كثير من المسائل أنه لا عبرة باختلاف المطالع في الصوم فيجب على أهل المشرق برؤية أهل المغرب للهلال ، لأن الوجوب معلق بشهود الشهر لطائفة من الناس بخلاف الإمساك والفطر فإنه يكون لكل أهل قطر بحسب ما عندهم ، لأن الوجوب معلق بدخول الوقت للمكلف ، وذكروا في الصلاة أن بعض الجهات تطول فيها الأوقات وبعضها تقصر حتى يفقد بعض الأوقات كالعشاء في بعض الجهات الضاربة إلى أقاصي أحد القطبين ، وذكروا في المواريث إذا مات متوارثان في يوم واحد

__________________

(١) هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري أبو عبد الله فخر الدين الرازي (٥٤٤ ـ ٦٠٦ ه‍) مفسر عالم بالمعقول والمنقول وعلوم الأوائل. توفي في هراة. الأعلام ٦ / ٣١٣ وفيات الأعيان ١ / ٤٧٤ مفتاح السعادة ١ / ٤٤٥ طبقات الشافعية للسبكي ٥ / ٣٣ معجم المطبوعات ٩١٥ الوافي بالوفيات ٤ / ٢٤٨.

(٢) هو محمد بيرم التونسي الثالث (١٢٠١ ـ ١٢٥٩ ه‍) انظر معجم المطبوعات (٦١٣).

٥٤

وزمن واحد منه لكن أحدهما في المشرق والآخر في المغرب فإن المغربي يرث المشرقي ، لما أن وقت المشرقي متقدّم في الوجود على وقت المغربي كالزوال مثلا.

وأما كلام أهل الباطن : فقد نقل عن سيدي عبد العزيز الدباغ رضي‌الله‌عنه : «أن ساعة الإجابة من يوم الجمعة الوارد فيها الحديث بأنها من عند جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة». قال إن ذلك خاص بوقت صعود إمام المدينة المنوّرة ولما كان ذلك الوقت لا يتحد في جميع البلاد ، منّ الله بساعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعلها تختلف باختلاف صعود الأئمة على المنابر من ذلك اليوم ، وجميع ما تقدم إنما يتأتى على القول بأن الأرض كوروية ولو كانت بسيطة لما تأتى شيء من ذلك ، إذ الشمس إذا ظهرت تظهر على الجميع في آن واحد. ومن كلام القطب سيدي أحمد بن عروس رضي‌الله‌عنه : «الصريح فيما نحن بصدده وهو من أنواع النظم المسمى بالملحون ، قوله:

وأدينا مثلتها دلاعا

تتكركب في جملة أدلاع

ماذ لحقوها من طماعا

ورماتهم في بيرما لوقاع

وهو صريح في تكويرها ودورانها على ما سيأتي ، وليس في القرآن ما يعارض ذلك إذ مساق الآيات لما يشاهد والمشاهد البسط في نظر العين ، ولما كان خطاب التكليف بهاته الشريعة المطهرة عاما لجميع طبقات الناس كان خطابهم على أسلوب يقتدر به كل على التوصل إلى قدر مدركاته ، هذا في مسائل التكاليف العامة كالإستدلال على وجود الخالق وصحة الرسالة والعلم بدخول أوقات الصلاة والصوم وأشباه ذلك ، أما ما يكتفى فيه بالإستفتاء عن الغير فقد خص الله به الفقهاء.

فقال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء : ٧]. وهذا أصل نافع يجري في كثير من الأشياء ، وقد بسطه الشاطبي (١) في موافقاته.

وثاني الجهات المشار إليها في الآية : الإستدلال بالجبال المعنون عنها بالرواسي ، فإن عظم خلقتها واختلاف أوضاعها واختصاص كل بحد محدود قاض بوجود مدبر خصها بتلك الحالات ، ولو كانت بمجرد الطبيعة التي هي إسم بلا مسمى لتساوت في جميع الحالات ، مع أن المشاهد هو اختلافها هذا بحسب الظاهر ، وأما إذا دق النظر فيما تختلف به مما تشتمل عليه من أنواع الصخور والتراب والطين والمعادن ، فذاك أمر يبهر العقول ويوقف الأذهان ، ومن أراد الإطلاع على أسرار ذلك فليراجع كتب الطبيعيات والكيمياء.

وثالث الجهات المشار إليها في الآية : الإعتبار بالأنهر واختصاصها بأحوالها التي هي عليها مما يقتضي وجود مخصص لها ، والأغلب في نظم القرآن قران الأنهر بالجبال إشارة

__________________

(١) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي أصولي حافظ. مالكي. توفي سنة (٧٩٠ ه‍). الأعلام ١ / ٧٥ نيل الإبتهاج (٤٦) معجم المطبوعات (١٠٩٠).

٥٥

إلى أن تكون الأنهر بسبب الجبال إما من الثلوج المذابة منها أو من منابع العيون المتفجرة فيها ، وكأن سبب كثرة هاته المنابع في الجبال هو أن الجبال من أسباب جذب الأبخرة والأمطار وعلى قدر تشرب سطح الأرض للمياه يكثر في باطنها اجتماعها ، ففي الأراضي البسيطة تتصاعد تلك المياه أبخرة لسهولة نفوذ البخار في أجسام الأرض المتخلخلة بخلاف الأراضي ذوات الجبال فإنها بصلابتها تمنع نفوذ الماء بخارا كما تحميه من تأثير حرارة الشمس ، فلا يزال الماء يجتمع في طبقات الجبال إلى أن يتكون منه مقدار عظيم فينفذ بقوة لأنه أعلى مما حوله من الأرض فتتكون منه الينابيع والعيون وتسيل جداولا ونهيرات ، فإذا اجتمعت في حوض تكون منها نهر ويعظم ويصغر بحسب ما يلتقي فيه من الأنهر والينابيع.

ورابع الجهات المشار إليها في الآية : الإعتبار بما في الأرض من الثمرات وأنها كلها مثل الحيوان ذكر وأنثى ، وهذا التفسير البين المحمولة فيه الآية على حقيقة اللفظ من قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣]. إنما اطلعنا عليه من ترقي العلوم الطبيعية والفلاحية ، فقد تبين بالتجربة والمشاهدة وقرّره جميع فلاسفة المتأخرين في كتبهم أن جميع أنواع الثمرات بل حتى الزهور أيضا تشتمل على ذكر وأنثى وإذا أفرد أحدهما عن الآخر لا تتولد الثمرة ، غير أن بعض الأنواع تكون فيه الشجرة الواحدة مشتملة على البزر الذكر وعلى البزر الأنثى وتتلاقح مع بعضها بالريح وهو المشار إليه بقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] وبعض الأنواع تكون فيه شجرة الذكر مفردة عن شجرة الأنثى وهذا النوع الأخير كان معلوما منه سابقا بعض أفراد كالنخل والتين ، لكن الآن قد تحقق أن جميع الأنواع لا تثمر إلا بالتلاقح بين الذكر والأنثى حتى إذا تتبع قطع أحد الصنفين من شجرة تشملهما وأبقى نور الآخر بحاله ولم يكن في ذلك الموضع شجرة أخرى مثلها فإن ما بقي فيها من النور لا يثمر ، وقد حرر ذلك وعلمت علامات الذكر وعلامات الأنثى في كل نوع بحسبه فسبحان القادر الحكيم الذي أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا وصدقا بأوضح المعجزات ، فقد أنبأ بهذا منذ أكثر من ثلاث عشرة مائة سنة عندما لم يكن هناك حكيم يختلج هذا بفكره فضلا عن الأمّة الأميّة وهو أحدها لا يقرأ ولا يكتب ، فلا شك أن هذا إنما هو بوحي من الخالق الذي يعلم ما خلق سبحانه وتعالى ، ولدقة هذا الأمر وغرابته قد اعترف منصفوا أهل هذا العصر بأن الحكمة قد فازت بها الأمة العربية منذ بعث فيها رسولها واستندوا لما اشتمل عليه القرآن من بديع الحكم ، فإن معرفة كون الريح تلقح الأشجار لم تعلم عند الحكماء إلا في آخر هذا القرن ، والقرآن الكريم ناطق بها ولهذا قال مستر اجنيري (حرف ج ينطق به بين التاء والشين) الإنكليزي معلم اللغة العربية في مدرسة عامّة الفنون في بلد أكس فور الكائنة جنوبي لندرة : «إن أصحاب الإبل قد عرفوا أن الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعلمها أهل أوروبا بثلاثة عشر قرنا». أقول وكذلك كون الثمار تشتمل على الزوجين وما ذلك إلا بتعليم الخالق لا بواسطات ولا تعلمات ولا تجربات وتحليلات كيمياوية وبذلك يعلم حقية قول من قال إن القرآن لم يفسر

٥٦

على حقيقته وإنما كانوا يبينونه على قدر ما تصل إليه العقول وعلى قدر الحاجة في الأحكام.

وبما تقدم يظهر أنه لا حاجة إلى تأويلات المفسرين في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣]. حيث حملوا الزوجية على معان أخر كاختلاف الطعوم والطبائع مما ينبو عنه التأكيد باثنين ، فإن ما ذكروه لا ينحصر في اثنين إلا بالنظر للمقابل وحيث تبينت الحقيقة فلا داعي إلى التأويل ويخالف ما قالوه من التأويل ويؤيد ما حررناه من الحمل على الحقيقة أن ما أوّلوا به لا يستقيم على نمط واحد في آيات القرآن العظيم الواردة في هذا المقصد كقوله تعالى في سورة [الحج : ٥](وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). فإن ما قالوه من اختلاف الطعوم أو الطبائع لا يطّرد في جميع ما تنبته الأرض بل فيها المتوافق في ذلك وإن كان بحسب التشخيص مختلف الأنواع بخلاف ما قلناه فإنه مع الحمل على الحقيقة هو مطّرد أيضا.

وبما تقدّم يعلم وجه طلب العلوم الرياضية على ما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى حيث أن التفسير المتقدّم في الجملة الشريفة إنما تبين بها كما أن تمام الآية اشتمل على إشارة غريبة من ذلك القبيل وهو الجهة الخامسة من جهات الإعتبار المشار إليها بقوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الرعد : ٣] : فقد تقدّم أنه تعالى بعد أن ذكر في الآية السابقة الدلائل العلوية ذكر بعدها الدلائل الأرضية ونسق فيها تعاقب الليل والنهار فجعله من الحوادث الأرضية ، فقال المفسرون لظهوره فيها وإن كان هو من متعلقات العلويات وهو الشمس ، واعلم أن مسألة حركة الأرض أي هل هي التي تدور أو أن الشمس هي التي تدور؟ هي من المسائل الظنية أعني أن أدلتها ظنية وكثير من مسائل علم الهيئة هو على هذا النحو إلى الآن ، كمسائل الأبعاد بين الكواكب ومقادير أجرامها وطبائعها. وما تشتمل عليه. وعلماء هذا الفن مقرّون بذلك كما يأتي ، ويشهد له أنهم كانوا مطبقين على أن بعد الزهراء من الشمس مقادير معلومة ، ففي سنة (١٢٩٣ ه‍) كان اقتران الشمس بالزهراء يعني أن الزهراء تمرّ حائلة بين الأرض والشمس فاعتنوا لذلك من قبل وأرسلوا العارفين إلى الجهات التي يمكن منها رؤية ذلك لتحرير الرصد بالآلات فحرروا ذلك ووجدوا أن جميع حسابات السابقين خطأ فإن البعد الذي حرر هو أقل مما كانوا يحسبون وكذلك مقدار جرم الزهراء ، ومن الجائز أيضا ظهور الغلط في هذا التحرير في وقت آخر.

وحيث كانت المسائل في هذا الفن ظنية اختلف علماؤه في أسباب وجود الليل والنهار واختلاف الفصول بالحرّ والبرد بعد الاجماع على أن ذلك من آثار تقابل الشمس والأرض ، فقدماء الفلاسفة ذهبوا إلى أن الأرض هي التي تدور والذين بعدهم ذهبوا إلى أن الأرض مركز للفلك وبدوران الفلك يحدث الليل والنهار ، وأن الشمس هي التي تدور معه ولها سير خاص بها يحدث منه الصيف والشتاء.

واشتهر هذا المذهب وزاد انتشارا عندما انتشر هذا العلم وتهذب في الأمّة الإسلامية

٥٧

لما استفحل فيها العلم ، وكان ذلك المذهب هو المشتهر ممن أخذوا عنه العلوم الرياضية ثم أحيي المذهب الأوّل ، وتأكد الآن عند علماء العصر بهذا الفن وأنكره المنتسبون للعلم من المسلمين ظنا منهم أن المذهب الآخر هو من عقائد الإسلام ، أو أن المذهب الآخر مصادم للنصوص ، والحق أن ليس شيء من هذا ولا من ذلك هو مما يجب اعتقاده عندنا وإنما المدار عندنا على الإعتبار بالآثار المشاهدة من الليل والنهار وأشباه ذلك وإثبات جريان للشمس ، وأما كيفيته فلا تعلق لها بالعقائد وسير الشمس ثابت على كلا المذهبين لأن المتأخرين يثبتون لها حركة رحوية على نفسها وحركة ثانية على منطقة لها أيضا ثم حركة ثالثة لها مع جميع ما يتبعها من الكواكب حول شيء مجهول ، كما أن هاته الدورة مجهولة المستقرّ أيضا وكأنها هي المشار إليها بقوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس : ٣٨]. وذلك أن المستقرّ أوتي بلفظه منكرا للإبهام فيفيد أنه غير معلوم للخلق ولهذا أوتي به مضافا إلى الشمس باللام فكان منكرا ولم يقل مستقرّها بالإضافة المفيدة للتعريف لأن ذلك المستقرّ غير معروف ، وعلماء هذا الفنّ الآن من غير المسلمين مقرّون بذلك فهو حينئذ إجماعي بيننا وبينهم. ثم أن كون حدوث الليل والنهار هو من آثار دوران الأرض ، ربما كانت آيات عزيزة تشير إليه فمنها : الآية المتقدّمة.

فإنه تعالى بعد أن ذكر الدلائل على وجوده من السماء ، ذكر الدلائل الأرضية وخرط فيها الليل والنهار ، فيشير ذلك إلى أنهما من آثار الأرض لأن وجودهما وإن كان يستلزم الشمس والأرض معا لكن تخصيصه بالإنخراط في الدلائل الأرضية يدل على تعلق خاص ، وهو كون دورانها هو السبب على أن منطوق الآية فيه تدعيم لهذا حيث قال : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الرعد : ٣]. فجعل الليل الذي هو ظلمة الأرض يغشى به النهار الذي هو ضوء الشمس ففيه تلميحة إلى أن الأرض هي التي تحدث ذلك بفعل الله.

ومن الآيات المشيرة إلى ذلك أيضا قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها ، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الشمس : ١ ـ ٤]. فجعل النهار الذي هو مقابلة وجه الأرض للشمس مجليا لها والليل الذي هو الظلمة الأصلية للأرض مغشيا لها ، فأسند فاعلية ذلك لغير الشمس بل لفاعل آخر وهو الليل والنهار الذي هو من آثار الأرض ، وإذا كان هذا ثابتا فما يدل على الآيات على طلوع الشمس وغروبها وغير ذلك يمكن تأويله باعتبار الأبصار والعرف الجاري في اللسان.

ثم اعلم أنه لا يلزم من دوران الأرض نفي السماء على ما يتوهمه غير العارف لأن السموات لا شك في وجودها للنصوص القطعية عليها ، غير أن جرمها غير معلوم لنا وإنما نعتقد أنها أجرام شداد هي بالنسبة لكل من على الأرض فوقه كما هو المفهوم اللغوي للفظ سماء (١) وأمّا ماهية أجرامها فالله أعلم بها ، ونعتقد أنها سبع طبقات شداد ثم طبقة أخرى

__________________

(١) سما : السمو الإرتفاع والعلو. تقول منه : سموت وسميت مثل علوت وعليت وسلوت وسليت. وسما ـ

٥٨

تسمى بالكرسي ثم طبقة أخرى تسمى بالعرش ولا يلزم من كونها شدادا أن لا تخترقها الكواكب بسيرها ، فإن ذلك مشاهد لنا كما أنه لا يلزم من سير الكواكب انعدامها حتى يقولون إن الكواكب ملقاة في الفضاء ، لأن ذلك متوقف على معرفة كنهها وهو فوق عقولنا ، لأن العقول إنما تتوصل إلى المعهودات للحواس وما لا تعهده الحواس يعسر إدراكه على حقيقته ، ولهذا كان علينا أن نصدّق الصادق ونكل معرفة ذلك إلى خالقها ، فقد قال سيدنا عبد الله بن عباس (١) رضي‌الله‌عنه عند قراءته لقوله تعالى : (وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ١٥ و ١٦] ما معناه : أن القوارير الزجاج الذي لا يحجب ما وراءه ، والفضة إذا طرّقت ما عساها أن تطرّق لا تكون إلا كثيفة ، فهاته الفضة هي نوع آخر لا نعلمه ونكل علمه إلى الله ، بل الأغرب أن مثل هاته المسائل أقرّ بها الحكماء الذين لا يعتقدون الشرع ، فقد قال أحد حكماء الفرنساويين المتأخرين ما ترجمته : «إن للعقل حدّا محدودا لا يتجاوزه ، كما أن للبصر حدا محدودا لا يتجاوزه ، فإتعاب العقل في التوصل إلى معرفة كنه الأجرام العلوية وما هيئتها ، كإتعاب البصر في أن يرى ما فوق السقف من أسفله ، فهب أنك أعنته بأعظم المرايا المكبرة فإنه لا يمكن أن يخترق السقف حتى يرى ما فوقه» اه.

ويمكن لنا أن نقرب لاؤلئك المنكرين للسماء فهم وجودها على مقتضى علم الهيئة الذي هم عليه الآن ، بأنهم يسلمون وجود كرة الهواء محيطة بالأرض وأنها عظيمة شديدة حتى قرّروا أن ذات الإنسان المتوسط مضغوطة وحاملة لأكثر من ثلاثة وثلاثين ألف رطل من الهواء ، ومع ذلك فإن هاته الكرة العظيمة الشديدة تخترق كيفما أراد المخترق لها فلم لا يجوز أن تخترق الكواكب السيارة السموات على هذا النحو ، ثم أن هاته الكرة الهوائية نهاية ارتفاع سطحها الأعلا عن سطح الأرض نحو ستة عشر فرسخا ، وهي في ذاتها تختلف طبقاتها وما فوقها ليس بخلو ، لأنه لا يوجد في الكون خلو مطلق كما هو رأي قدماء الفلاسفة ومتأخريهم ، كما قرّره الحكيم لا مروس في كتابه السابق ذكره فلم لا يجوز أن يسمى الشيء المعمر لحدّ محدود من الفضاء بالسماء وما فوقه من حدّ آخر بسماء آخر وهكذا ، وإن كنا نجهل حقائقها لكنا نقول أنها لا تمنع من سير الكواكب في مناطقها ، ومن ذلك الأرض فالأرض التي يقع بها الإعتبار بالأوجه المتقدّمة لا يكمل مزيد الإعتبار بما فيها من اختلاف أقطارها حرّا وبردا وثمارا وأنهارا وجبالا وسكانا إلا بالسفر ومشاهدة عجائب خلق الله فيها.

الفصل الثاني

فيما ورد في السفر من السنة : روى السيوطي في الجامع الصغير عن ابن السني وأبي

__________________

ـ الشيء يسمو سموا فهو سام : ارتفع وسما به. وأسماه : أعلاه. ويقال للحسيب والشريف : قد سما. وإذا رفعت بصرك إلى الشيء قلت : سما إليه بصري. أنظر لسان العرب ٦ / ٣٧٨ مادة (سما).

(١) هو عبد الله بن عباس حبر الأمة أبو العباس (٣ ق ه ٦٨ ه‍). صحابي جليل توفي في الطائف.

الأعلام ٤ / ٩٥ نكت الهميان (١٨٠) حلية الأولياء ١ / ٣١٤ رقم الترجمة (٤٥).

٥٩

نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سافروا تصحوا وتغنموا» (١) فأرشد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن في السفر ثمرتين راجعتين إلى الجسم زيادة على ما تقدّم من الثمرات الروحية ، الأولى : هي الصحة لما يشتمل عليه السفر من الرياضات البدنية ، إذ لا يخلو غالبا عن مشقة ولهذا رخص فيه من الرخص ما هو معلوم في الفروع بقطع النظر عن العلة الباعثة عليه كما هو المذهب الحنفي وإتعاب البدن يثمر صحته ، وأيضا لإستنشاق المسافر الهواء السليم الذي هو أنفع للجسم من الأكل والشرب لأن الإنسان لا غنى له عن التنفس في كل لحظة بخلاف الأكل والشرب لإمكان الصبر عليهما مدّة ما.

وبيان وجه احتياج الإنسان إلى الهواء في كل لحظة للتنفس هو :

«أن الله قدّر بحكمته تركب الجسم الإنساني على أبدع وجه ، وجعل سبب قوامه هو الدم المصفى من الغذاء ، فبعد هضم الغذاء في المعدة يمتص صفوه في قناتين توصلانه إلى القلب بعد اجتماعهما في قناة واحدة وهو إذ ذاك في لون البياض وقبيل الوصول إلى القلب يصب ذلك في قناة دم الدورة الراجع إلى القلب أيضا ، وللقلب شكل صنوبري منقسم داخله إلى قسمين يمين وشمال وكل منهما منقسم إلى قسم علوي وقسم سفلي وبينهما حاجز فيه منفذ يوصل بينهما له غطاء ينفتح وينطبق ، فالقناة المتقدّمة تصب في الطبقة العليا من القسم الأيسر ، ومن هناك ينفتح له الغطاء فيصب نقطة في الطبقة السفلى ثم ينقبض الغطاء بسرعة ثم نقطة أخرى وهكذا ، وكلما انطبق الغطاء ضربت جميع الأنباض التي في البدن ، فحركتها تابعة لحركة الغطاء قوّة وضعفا سرعة وبطئا ، ثم يخرج الدم من القسم الأيسر السفلي في عرق عظيم هو مجتمع عروق الأنباض فيصعد إلى أعلا ثم يتفرّع منه فروع وهاتيك الفروع تتفرع منها فروع أخر أقل منها حجما وهكذا إلى أن يعم جميع أجزاء البدن وهي عروق الأنباض ، وكلما انتهى نبض إلى حدّه يتلقى الدم منه عرق من عروق الشرايين التي لا تتحرّك ، وهاته وظيفتها إرجاع الدم إلى القلب فتكون عند اتصالها بالأنباض صغيرة الحجم ، ثم لا تزال تجتمع فتعظم إلى أن تصير عرقا واحدا فيصب في القسم الأيمن من القلب الذي هو مقسوم أيضا مثل الأيسر وحركته مثل حركته غير أن الدم يخرج من الطبقة السفلى منه في عرقين يوصلانه إلى الرئة ، ولا يخفى أنه أي الدم إذ ذاك قد دار في جميع البدن ونقص من أصل كميته بما ترشحه العروق إلى اللحم والعظم وقد تغيرت عناصره فقل منه الأكسوجين وزاد فيه الحامض الفحمي حتى بتغير لونه فيصير مسودا بعد أن كان أحمر ، فلو بقي على حالته لضرّ بقاؤه في البدن.

__________________

(١) الحديث : في السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ١٠٢ وفي مجمع الزوائد للهيثمي. ٣ / ٢١٠ و ٥ / ٣٢٤ وفي إتحاف السادة المتقين للزبيدي ١ / ٣٢٢ و ٧ / ٤١٠ وفي المسند للإمام أحمد بن حنبل ٢ / ٣٨٠ وفي كشف الخفاء للعجلوني ١ / ٥٣٩.

٦٠