صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المحقق

الحمد لله الذي حمده من نعمائه وشكره على ألائه من آلائه ، أحمده حمد العارف بحق سنائه وأقف عند غاية العجز عن إحصاء ثنائه ، عاكف على رسم الإقرار بالإفتقار إليه والإستغناء به في كل آنائه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتوحد بعظمته وكبريائه ، المتقدس عما يقوله الملحدون في أسمائه ، وأصلي على سيد ولد آدم ونخبة أنبيائه ، محمد المفضل على العالمين باجتبائه واصطفائه ، وفضله بالآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات على أمثاله من المرسلين ونظرائه ، ورقاه إلى درجات العلى وأنهاه إلى سدرة المنتهى ليلة إسرائه ، وحباه بالخصائص التي لا يضاهى بها بهاء كماله وكمال بهائه ، ورداه رداء العصمة فكانت عناية الله تكنفه عن يمينه وشماله وأمامه وورائه ، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الهدى ونجوم سمائه وسلم تسليما كثيرا.

إن هذه الدراسة تهدف إلى تقديم رؤية لواقع البلدان التي رحل إليها الشيخ محمد بيرم الخامس التونسي من زوايا علمية تناول فيها جمع حقائق السياق المجتمعي الذي عاش فيه ، والمشكلات التي واجهته والتي ارتبطت ارتباطا وثيقا بمنهجية عمله.

لذلك كان هذا البحث الذي أسهم فيه المؤلف من إثراء تراثنا التاريخي من واقع ظروفه ، وبيئته المتطورة سياسيا واجتماعيا. والذي نجح فيه أنه ترك مصدرا أصيلا عريقا جديرا بكل اهتمام ورعاية ، لذلك اعتمدت في هذه الدراسة على منهجية مستقلة لاستيفاء النقص وتفسير الغوامض وذلك بالرجوع إلى كمية كبيرة من المصادر والمراجع ، والتي ستجد لها فهرسا مرتبا في آخر هذا الكتاب حسب التسلسل الأبجدي مع أسماء مؤلفيها وسنة الطبع.

ويأتي هذا الكتاب عرضا لحصيلة ما قد توصل إليه المصنف من البحث في مجال التاريخ حيث قال : «... فجبت بحارا وقفارا ومدنا وأمصارا على حسب ما يسره المقدور ، وساعفت الوسائل على الوصول إلى مشاهدته من المعمور ورأيت بعيني البصر والبصيرة

٣

أمورا عجيبة خطيرة ...» وذكر فيه البلدان التي رحل إليها من أوروبا وآسيا وأفريقيا ، وتوسع في مواضع شتى من الكتاب ، وأرخ فيه للقطر التونسي من زمن الفتح الإسلامي إلى حين دخول فرنسا فيه ، وبلاد الجزائر أيضا وحروب فرنسا فيها كذلك الديار المصرية والثورة العرابية وغير ذلك من الفوائد التاريخية التي أثرت بحق المكتبة العربية.

ظل هذا الكتاب حبرا على ورق زمنا طويلا إذ لم يبادر الباحثون والدارسون بتفحصه كمادة للدراسة والتوسع فيه وأخذ ما يرونه مفيدا للتصدي للغزو الفكري الجديد لما يحمله بين دفتيه من صورة للماضي نستخلص منها عبرة للمستقبل. ولا شك أن قضية الغزو الفكري لتاريخنا تشغل بال وأذهان المثقف العربي كما تشغل بال المنظر السياسي سواء بسواء.

بهذا الجهد المتواضع أرجو أن أكون قد وفقت في وضع لبنة جديدة تسد فراغ ما في المكتبة العربية. وإضافة ما يمكن أن ينمي تراثنا العربي ويطوره.

ولا أنسى في هذا المقام أن أتقدم بالشكر والعرفان بالجميل لكل من أسهم في إخراج هذا البحث ، وأعانني على تذليل عقباته ، من الأصدقاء المخلصين والأهل والأساتذة الأفاضل وفي مقدمتهم ابن العم نهاد بن حمدي الجنّان جزاهم الله عني كل خير.

هذا ما حاولت صنعه ولا أدعي أنني بلغت بهذا كمالا فالكمال لله وحده ، لكنها محاولة آمل أن يجد فيها الدارس والباحث ما يصبو إليه ، وإن كان ثمة شيء يذكر فهو ثنائي على أجدادي وأساتذتي الذين منهم تعلمت وعلى كتبهم عولت ومن آثارهم اقتبست غفر الله لهم ولي آمين.

مأمون بن محيي الدين الجنّان

مشق ٢١ / ١١ / ١٩٩٥

د ص. ب ٢٩١٧٣

٤

ترجمة المؤلف

هو السيد محمّد بن مصطفى بن محمّد الثالث بن محمّد الثاني بن محمّد الأول بن حسين بن أحمد بن محمّد بن حسين بن بيرام ، حضر إلى تونس قائدا على إحدى فرق الجيش العثماني عند فتحها من يد الإسبانيول على يد الصدر الأعظم سنان باشا سنة ٩٨١ هجريّة وقد تزوج بيرام بنتا من آل أبي عبد الله بن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة وإعتاب الكتّاب ، وهو الذي أرسله صاحب بلنسية زيان بن أبي الحملات إلى صاحب أفريقيّة (تونس) أبي زكريا يحيى بن أبي حفص يستغيث به لما حاصره ملك برشلونة الإسبانيولي فانشده قصيدته المشهورة الّتي أولها :

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

وقد قدر الله أن الأسطول الذي أرسله صاحب تونس لم يصل في الوقت المناسب لانجاد الأندلسيين فرجع ابن الأبار لتونس حيث استوطن بها سنة ٦٣٥ ه‍. وقد أمهرها بيرام أربعة آلاف ريال. هذا هو المنشأ الأصلي لهذه العائلة.

وقد ولد السيد محمّد بيرم بمدينة تونس في المحرم سنة ١٢٥٦ هجرية الموافق لمارس سنة ١٨٤٠ ميلادية ، وأمه بنت الفريق محمود خوجه وزير البحريّة بالأيالة التونسيّة ، وأمها بنت الغماد ذي الشرف المعروف ويتصل نسب آل بيرم بالسادة الأشراف من جهات أخرى أيضا ، أهمها : جهة محمد بيرم الأول فإن والدته بنت السيدة الشريفة حسينة بنت محمد بن أبي القاسم بن محمّد بن علي بن حسن الهندي الشريف ، وهذا السيد قدم إلى تونس وأجمعت عامتها وخاصتها على الاعتقاد بنسبه الطاهر والتبرك به ونسله فيها بركة أهل تونس إلى الآن ، أما نسبه فيتصل إلى الحسين السبط عليه‌السلام. وقد تولى محمّد بيرم الثاني نقابة الأشراف في حياة أبيه مضافة إلى خطة القضاء الّتي كانت بيده سنة ١٢٠٦ ه‍ واستمرت النقابة في يد ولده محمّد بيرم الثالث وحفيده محمّد بيرم الرابع إلى حين وفاته سنة ١٢٧٨ ه‍ كما أن رئاسة المفتيين الحنفيّة المعبر عنها في تونس بمشيخة الإسلام استمرت في يدهم ويد أبيهم محمّد بيرم الأول من ذي القعدة سنة ١١٨٦ ه‍ إلى ٤ جمادى الأولى سنة ١٢٧٨ ه‍ أي إحدى وتسعون سنة وستة أشهر ولم تنقطع إلّا مدة قليلة بين وفاة بيرم الأول وولاية بيرم الثاني. وكان جميع آل بيرم منخرطين في سلك العلماء مفتخرين بخدمة العلم إلا القليل منهم فقد دخلوا في الخدمة العسكريّة. فاجتمع لهذه العائلة خدمة

٥

الدين من الطريقين طريق العلم وطريق الجهاد. حتى إن أحمد بيرم توفي بجراحة أصابته في محاربة الجزايريين لمراد باي أمير تونس إذ ذاك سنة ١١١٢ ه‍ وكأن هذه الخدمة السياسيّة أثرت في صاحب الترجمة مع قرابته لوزير البحريّة حينئذ فصار له ميل كلي للتداخل في الأمور الملكيّة ومعرفة أحوال الحكومة. وقد كان جده محمود خوجه رام إدخاله في الخدمة العسكريّة لو لا ممانعة عمه شيخ الإسلام بيرم الرابع فدخل صاحب الترجمة إلى جامع الزيتونة وقرأ على مشايخ الوقت المعدودين. ولم يمنعه ذلك عن إشغال فكره بما يهواه من أمور الإدارة مع تباعد أهل العلم عادة عن كل ما هو خارج عن دائرة دروسهم ، وقد جرت عادة الكثير من العلماء والأدباء بتونس أن يكون لكل واحد منهم سفر شبيه بالسفينة يسمونه «كناشا» يجمعون فيه ما يحلو لديهم جمعه من إنشاآتهم أو إنشاآت غيرهم علميّة وأدبيّة نظما ونثرا متضمنة الفوائد المختلفة في فنون ومعان شتى ، وقد خطى صاحب الترجمة على خطاهم وعمره سبعة عشر سنة وأول ما افتتح به كتابه ما تجمع لديه من أوامر وقوانين ونظامات في شؤون الحكومة ، أصدرها إذ ذاك صهره الأمير محمّد باشا وهذا يدل دلالة واضحة لا شبهة فيها على ميل صاحب الترجمة وتعلقه بأحوال السياسة ، وقد كان في حال صباه يرى العربان يفدون على والده وهو مشغول بالزراعة يتضجرون ويتوجعون مما يصيبهم من ظلم الحكام وتشديدهم في نهب الأموال بسائر الطرق الّتي اخترعوها في ذلك الوقت مما هو مبسوط في الكلام عن سياسة تونس الداخليّة في «صفوة الإعتبار» ، فأثر فيه نحيبهم وبكاؤهم فأوقف حياته من ذلك العهد على الانتصار للرعايا وتخفيف الاستبداد عليهم والسعي وراء نشر القوانين وتأسيس المجالس النيابيّة ، والميل بكل جوارحه للحريّة مع ما جرت به العادة من تباعد ذوي البيوتات عن مثل ذلك ، حتى لقد بلغ به الولع بالحرية وحب المجالس الشوروية أن تخالف رأيا يوما وهو صغير السن لا يتجاوز من العمر عشرين سنة مع أبيه وابن عمه عندما افتتح الأمير الصادق باشا المجلس الأكبر وأسس قوانين عهد الأمان Constitution (كونستيتسيون) ، فكان صاحب الترجمة ينتصر لهذه المستحدثات ويتوسم فيها خيرا للبلاد وذانك يخالفانه مع أن أحدهما كان من جملة أعضاء المجلس ، لما غرس في أذهان أصحاب البيوتات من التنحي عن مثل هذه المستحدثات الّتي لا تروق في أعين حكامهم.

وبعد وفاة عمه الشيخ بيرم الرابع ولاه الأمير مشيخة المدرسة العنقيّة في ٦ جمادى الأولى سنة ١٢٧٨ ه‍ فباشر التدريس فيها ومن عادة علماء تونس من مشايخ المدارس أن يقرأوا فيها صحيح البخاري خصوصا في الأشهر الثلاثة المكرمة واعتبارا من ١٥ رمضان يبتدىء كل واحد منهم بحسب الدور بختم ما قرأه ، وذلك بأن يتلو الحديث الشريف الذي وقف عليه ويكتب عنه ما يعن له من الشروح والتعليقات ويكون لذلك مجلس حافل يستمر من العصر إلى قريب الغروب وتتوالى الاحتفالات المذكورة إلى الليلة السابعة والعشرين من رمضان حيث يكون ختم جامع الزيتونة ودور المدرسة العنقيّة في اليوم الخامس والعشرين

٦

منه ، وقد حضر الأمير بنفسه ذلك الختم في تلك السنة تشجعيا للشيخ الجديد وكان حديث الختم قوله عليه الصلاة والسلام «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» وفي ٩ جمادى الثانية سنة ١٢٧٨ ه‍ صار مدرسا في جامع الزيتونة من الطبقة الثانية ، وفي ١٥ رجب سنة ١٢٨٤ ه‍ رقي مدرسا من الطبقة الأولى فاستمر مباشرا للتدريس مشغولا بإدارة أملاكه وعقاراته وأموره الخصوصية وتوفي والده إلى رحمة ربه في ١٤ جمادى الأولى سنة ١٢٨٠ ه‍ وترك له ثروة عظيمة.

وفي تلك الأثناء ظهرت الفتنة العموميّة في الإيالة التونسية متسببة عما كان يتوقعه ويخشاه من عاقبة ظلم الرعيّة واستبداد الحكام ، وقبيل ذلك أقفلت المجالس الشورويّة الّتي كان صاحب الترجمة يتولع بها ويهواها ولا يتوسم لخير المملكة سواها ، وكأن ذلك أثر عليه تأثيرا شديدا حتى أنه كاتب أحد أصدقائه من أمراء المسلمين المقيمين بأوربا بما نص محل الحاجة منه : «فيا لها من حال. يرثي لها من رام النزال. وتخر لشدّتها شامخات الجبال». إلى أن قال : «فقد فاز من نهض بنفسه. واستراح من فتنة باطنه وحسه. إذ الآيات وردت على ذلك ناصة. فقال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ففاز المخففون. وابتلى المتأهلون. وو الله العظيم ونبيه الكريم. طالما نهضت عزائمي إلى الترحال. فأثقلتني قيود العيال. مع ما أنا عليه من الوحدة عن أخ شقيق. أو قريب يخلفني فيهم عند الضيق. ولم أستطع التخلص بكلي. لما لا يخفى مما يثقل كلي. وأقسم بالقرآن. وصفات الرحمن. أنني عرضت للبيع أملاكي. لأتخلص بها من أشراكي. وأستعين منها بالأثمان. فلم أجد من يصرف لهذا الوجه أي عنان. ولو من أعيان الأعيان الخ».

ومن ذلك الحين اشتد اتصاله بالوزير خير الدين باشا إذ كان هو رئيس المجلس الأكبر الذي الغي وكانت مناسبة الوصلة بينهما حبهما للحرية وتعميم الشورى في المملكة وهما كما لا يخفى القوّتان الوحيدتان لحفظ استقلال البلاد من التلاشي ، ولذلك فإنه لما تولى خير الدين باشا الوزارة الكبرى في تونس في رمضان سنة ١٢٩٠ ه‍ كان صاحب الترجمة من أكبر أنصاره ومحازبيه وتظاهر بذلك تظاهرا كليا حتى نشر في الرائد التونسي الذي هو جريدة الحكومة الرسميّة مكتوبين أظهر فيهما انبساط الأهالي من تغيير الوزارة وبين غلط المنتصرين للحاكم السابق وأنهم فئة قليلة لا تحب خير البلاد ، وكان بذلك أول تونسي جاهر بآرائه السياسية في الجرائد تحت إمضائه على ما أظن وزاد على هذا التظاهر الأدبي بأن سعى في أعمال تظاهر مادّي وذلك بأن اتفق مع علماء جامع الزيتونة على إقامة احتفالات في الجامع شكرا لله على انقاذ البلاد من عهد الجور وإدخالها في عصر الإطمئنان والرجوع لعهد الأمان ، وحصل بالفعل ذلك الإحتفال وأعقبه كثير مثله في جهات الحاضرة وبقيّة بلدان المملكة ، فكانت نهضة حقيقية وطنيّة صادرة عن إخلاص نيّة حبّا في الحريّة وإستقامة الأحكام.

٧

ولما استقرّ الوزير المشار إليه في المنصب ووجه عزيمته لإصلاح الإدارة رأى أن الأوقاف مشتتة قد استولت عليها أيدي الخراب والأطماع فرأى : «إن جمعها في إدارة واحدة يكفل حفظها ويجمع ريعها فيصرف في أوجهه المشروعة». وذلك على النحو الجاري في دار الخلافة السعيدة ، وقد رأى الوزير أن يعهد إلى صاحب الترجمة أمر هذه الإدارة الجديدة لما يعهده فيه من معرفته بالأحكام الشرعية وإطلاعه على المقتضيّات الوقتية فامتنع المرحوم أولا من قبول أي وظيفة كانت ، لأنه لم يكن يميل إلى التقيد بشيء مّا يمنعه عن السعي وراء ضالته المنشودة وهي الحريّة للرعيّة ودخوله في الوظائف يجعله بلا ريب مقيدا مع الوزير بالآداب الّتي تقتضيها الوظيفة ، أما بقاؤه خارجا عن دائرة الحكومة فيبقيه على حريته الّتي تمكّنه من تذكير الوزير بما عساه ينساه من تتميمه لما كان تعهد بإجرائه ، هذا فضلا عما كانت عليه سجيّة صاحب الترجمة من الهمة وإباءة النفس ، حتى كأن جدّه حسين بيرم المتوفي سنة ١١٥٥ ه‍ قد نظر إليه بظهر الغيب لمّا ذيل البيتين الشهيرين :

شيآن لو بكت الدماء عليهما

عيناي حتّى تؤذنا بذهاب

لما يبلغا المعشار من حقيهما

فقد الشباب وفرقة الأحباب

بقوله :

وأشدّ من هذين أن يلقى الفتى

ذل السؤال ووقفة الأبواب

ومع ذلك فقد تغلب أصحابه عليه وقبل إدارة الأوقاف في ١٧ صفر سنة ١٢٩١ ه‍ ولم ينفرد مع ذلك بأمرها بل شارك معه مجلسا مؤلفا من ثلاثة أعضاء أحدهم من رجال الإدارة والإثنان الآخران من أعيان الأهالي والتجار وجعل نظرهم في الأوقاف على قسمين :

الأول : الأوقاف الأهليّة أي الّتي هي موقوفة على ذريّة الواقف أو قرابته.

الثاني : الأوقاف الّتي على أعمال البر مثل الجوامع وقراءة القرآن وغير ذلك.

فأما نظرهم في الأول فهو مجرد نظر إرشاد ، وإما القسم الثاني فنظرهم عليه نظر تصرف مطلق ، والمباشر للأعمال هو الرئيس بعد أخذ رأي الأعضاء عنها ، وقد جمع الأوقاف كل نوع منها لجهة واحدة بأن ضم مثلا جوامع الخطب كلها لجهة والمدارس كلها لجهة وأوقاف القرآن لجهة وهكذا إلى آخر أنواع الموقوف عليه ، وجعل لكل قسم وكيلا خاصا يباشر العمل في ذلك تحت النظر الأصلي فيقبض الوكيل ويصرف في إقامة الشعائر وفي إصلاح الموقوف والموقوف عليه ولكنه لا يعمل شيئا إلّا بعد الإستئذان من رئيس المجلس ، وجميع حساباته ترسم في دفترين مخصوصين بشهادة عدلين أحد الدفترين للحسابات اليوميّة والثاني للحسابات العمومية ، وإنما جمع كل نوع من الأوقاف تحت نظر وكيل واحد لأن الموقوف عليه مختلف الريع بعضه غني وبعضه فقير ، فإذا

٨

كانت إدارتها جميعا متحدة فيصرف من دخل الغني على الفقير لأنهما من نوع واحد ، وبذلك تيسرت سهولة الإصلاح. ثم إنه في آخر كل أسبوع يقدّم الوكلاء حساباتهم ويوردون للخزينة العموميّة كل ما زاد عندهم من الإيراد على المصروفات الضرورية ، وهذه الخزينة لها ثلاثة مفاتيح اثنان منها يبقيان بطرف أمين المال والثالث يحفظ عند الرئيس ولا تفتح إلّا بحضور الجميع ، ثم إن جميع أماكن الأوقاف لا يحصل تأجيرها إلّا بعد الإعلان والمزايدة علنا بمحضر القاضي ثم إن أموال الأوقاف أول ما يقام منها الوقف والموقوف عليه حسب نص الواقف ويقدّم الأهم على المهم وجميع مداولات المجلس ودفاتر الإيراد والصرف في الخزينة العمومية ، يمضيها جميع الأعضاء مع الرئيس يوميّا ، وكان يصرف من فواضل الأوقاف على الأوقاف الّتي لم يحضرها دخلها وذلك على وجه القرض ولمّا يحضر مالها تعيد ما استقرضته للخزينة العموميّة ، ثم يدفع منها جميع مرتبات الحكام الشرعيين من قضاة ومفتيين في جميع المملكة والسادة الأشراف ، ويدفع منها مصروفات نظارة المعارف من موظفيها ومرتبات مدرسي جامع الزيتونة ومصروفات دواوين الشريعة المطهرة ، ومصروفات المجلس البلدي بحاضرة تونس وإصلاح الطرقات وتنظيفها وإقامة الجسور والقناطر ، ومصروفات المستشفى والمكتبة العموميّة وغير ذلك من مصاريف بعض المهمات الّتي تحدث أحيانا وترجع إلى مصلحة عموميّة إن كان في الفواضل ما يوفي بها ، وبسبب إجراء قوانين الأوقاف حقيقة بدون محاباة تحسن حالها وزادت إيرادتها حتّى بلغت في السنة الخامسة من وجود هذه الإدارة مليونين ومائة وخمسين ألف ريالا ونيفا ، وكانت في السنة الأولى مليونا واحدا ومائتي ألف ريال ونيفا ، زيادة على ما ظهر من الأوقاف الّتي كانت تلاشتها أيدي العدوان حتّى بلغت إلى مئات من قطع الأراضي والدكاكين والبيوت وآلاف من شجر الزيتون كما هو مبسوط في العدد ١٨ من الرائد التونسي سنة ١٢٩٧ ه‍ وظهرت أوجه من الموقوف عليه لم تكن في الحسبان كالوقف على تنوير الأماكن المظلمة في الليل والوقف على التقاط العقارب إلى غير ذلك من أوجه البر.

وقد التزم الرئيس أن يفرغ جهده لإصلاح هذه الإدارة المستجدّة وتدريب عمالها على العمل حسب المرغوب حتّى التزم في أول الأمر أن يباشر جميع الأعمال بنفسه جزئيّة وكليّة ليلا ونهارا واستمر على ذلك مدة طرأ عليه في أثنائها مرض عصبي لم يفارقه إلى أن قضى عليه ، وكان ابتداء المرض في صيف سنة ١٢٩٢ ه‍ وبسبب هذا المرض عزم على السفر للتداوي في أوربا فسافر إليها في شوال سنة ١٢٩٢ ه‍ وكان ذلك سببا لكتابته «صفوة الإعتبار». ولم تكن هذه الرحلة أول تأليف له بل قد سبق له كتابة رسالة سماها «تحفة الخواص في حل صيد بندق الرصاص» ، ومضمونها احتواه عنوانها وسبب تأليفها الخلاف الحاصل بين بعض العلماء في حل أكل الصيد المذكور من عدمه ، وألف أيضا في أول نشأته مجموعا مختصرا مفيدا في فن العروض وذلك عند بداية تعاطيه لنظم القريض ، وحرّر

٩

مسألة فقهيّة في جواز إسدال شعر الرأس وسببها أن الأمير أمر رجال حكومته بإسدال شعرهم وكانوا يحلقونه فاستفتى في جواز ذلك من عدمه واختلفت فتاوى العلماء خشية القول بالتشبه بالإفرنج فكتب المرحوم رسالته بالجواز مستندا على عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي تلك السنة أي سنة ١٢٩٢ ه‍ افتتحت في تونس أول مدرسة على حسب النظام الجديد المتبع في أوروبا سميت المدرسة الصادقيّة نسبة للأمير فكان المرحوم من أعضاء اللجنة الّتي رتبت نظاماتها واهتم كثيرا بإقناع الناس على إدخال أبنائهم فيها وكان هو من أول العاملين بقوله فجعل ابنه كاتب هذه الأسطر من جملة تلامذتها ، وقد حصل في بداية الأمر نفور الناس منها إذ أن العادة جرت بنفرة غير المألوف ولم تزل تلك المدرسة ناشرة فوائدها بين التونسيين وأكثر المتولين مناصب الحكومة بتونس الآن هم من الشبان الذين تغذوا بلبان معارفها.

وفي ١٠ جمادي الثانية سنة ١٢٩٢ ه‍ عهدت إليه نظارة مطبعة الحكومة فنظمها وأصلح شأنها وأصدر الرائد التونسي (الجريدة الرسميّة) في مواعيده المعينة كل أسبوع مرة وكان لا يصدر إلّا بحسب التيسير ، ولما كان الرائد التونسي هو الجريدة الوحيدة الّتي تصدر في تونس بذل كل ما في وسعه لجعله مفيدا لبني وطنه ، واستعان على تحريره بجهابذة أعلام كالشيخ حمزة فتح الله المصري ، والشيخ محمّد السنوسي التونسي. ونشرت فيه مقالات رنانة حاثة على الجامعة والوحدة والعدل والإئتلاف لا سيما زمن الحرب بين الدولة العليّة والروسيا ، وقد قسم المرحوم وقته فكان يتوجه لإدارة الأوقاف صباح كل يوم ويتوجه للمطبعة بعد الظهر. وفي تلك الأثناء نظم المكتبة الصادقية بإزاء جامع الزيتونة وهي مكتبة جمعت آلافا من الكتب النفيسة في كل فن ، تبرع بجانب عظيم منها الوزير خير الدين باشا وأكثرها كتب استولت عليها الحكومة من مملوكات الوزير القديم مصطفى خزندار ، وجعلها مفتوحة للمطالعة واستفادة العموم في جميع أوقات النهار بشرط أن لا يخرج منها كتاب وجميع مصاريف هذه المكتبة تحملت بها إدارة الأوقاف على ما مرّ بيانه.

وفي سنة ١٢٩٣ ه‍ لما ظهرت الحرب بين الدولة العليّة والصرب بذل صاحب الترجمة غاية مجهوده لمساعدة الدولة بالمال والخيل والبغال حيث لم تتيسر مساعدتها بالرجال لأسباب سياسيّة وموانع محليّة ، وقد نشر صاحب جريدة الجوائب الصادرة بالأستانة قصيدة لصاحب الترجمة في الحث على التعاون والإئتلاف عند تلك المناسبة قال فيها :

يا أمة الإسلام صونوا عزكم

بتعاضد وتمدن وتنافس

يا أمة الإسلام أحيوا ذكركم

بتآلف وتودّد وتآنس

يا أمة الإسلام نمّوا صيتكم

بمعارف وصنائع ومجالس

يا أمة الإسلام حوطوا أمركم

بتشاور وتدبر وحوارس

يا أمة الإسلام أجلوا فخركم

بديانة قد سترت بحنادس

١٠

يا أمة الإسلام هبوا للفلا

ح ولا تضيعوا نجحكم بتقاعس

يا أمة الإسلام عوا واستيقظوا

إن الهلاك مسارع للناعس

يا أمة الإسلام زيدوا ثروة

بتعاون ومصانع ومغارس

يا أمة الإسلام شيدوا مجدكم

بتناصر وتناصح وتجانس

يا أمة الإسلام شدّوا عزمكم

فثباتكم بين البرايا ما نسي

ولما خلت وظيفة شيخ الإسلام بتونس عند وفاة صاحبها توجهت الأنظار لتولية صاحب الترجمة عليها حتى إن المنصب المذكور بقي خاليا مدة شهرين لذلك ، فاعتذر بأن الوقت غير مناسب لإعادة جاه هذا المنصب ورجوع عزه إليه كما كان عليه زمن عمه.

ولما استعفى خير الدين باشا من الوزارة التونسيّة في رجب سنة ١٢٩٤ ه‍ رام صاحب الترجمة التخلي عن وظائفه أيضا ، غير أن مداخلة الأمير الشخصيّة منعته من تنفيذ هذا العزم وقد رأى من الوزير محمّد خزنه دار جميل العناية كما يستدل عليه من المكتوب الآتي :

«الهمام الأوحد النحرير الشيخ السيد محمّد بيرم رئيس جمعيّة الأوقاف دام مجده أما بعد.

السلام عليكم [ورحمة الله] وبركاته فالواصل إليكم ترجمة مكتوب ورد من المكلف بأمور دولة أسبانيا للإطلاع عليها وتعرفونا بما يجاب الرجل في النازلة وفي أمن الله دمتم والسلام من كاتبه محمّد في ٢٩ ذي الحجة سنة ١٢٩٤ ه‍».

ومن ذلك الحين أيضا صار الوزير مصطفى بن إسماعيل يظهر له كمال التودّد والتلطف وفي مصيف سنة ١٢٩٥ ه‍ أثناء وجود المعرض الباريسي سنة ١٨٧٨ توجه المرحوم ثانيا إلى باريس للمعالجة من مرضه الذي لم يفارقه ، وفي هذه السنة زار لندره من بلاد الإنكليز وعند عودته عرج على الجزائر ، وفي مدة إقامته بباريس أكرمه المارشال مكماهون رئيس الجمهوريّة الفرنسويّة إذ ذاك بإحضاره في الأوبره وهو التياتر والكبير في نفس لوجته (حجرته) وحضر بعض الاحتفالات الّتي أقامها الوزراء أثناء المعرض ، وبالجملة فإن القوم أكرموه إكراما فائقا ، وفي تلك السفرة احتفل ولي عهد الإمارة بتونس وهو الأمير الحالي بختن نجليه فكاتبه المرحوم بالتهنئة وكانت بينهما علاقة ودّيّة قديمة ، فأجابه الأمير بهذا المكتوب ونصه بعد الحمدلة والتصلية :

تبدّت في حلا الحسن الجلي

خريدة ذات ثغر ألعسي

تجرّ مطارفا وتميس تيها

ويسطو لحظها في كل حي

فيا لله ما أحلى دلالا

وأعذب لفظها شهد الشهي

فما للبحر لم يصبح فراتا

وقد أمست به زمن الملي

فقلت لها انتم يا خود فخر

فقالت بنت فكر البيرمي

١١

لقد حاز المعارف والمعالي

وحيد الدهر ذو الحسب النقي

أتت من نحوكم درر التهاني

منظمة بسلك جوهري

وكيف يفوت حظك بابتعاد

وفي الأحشاء ذو ودّ خفي

وها ولدي الزكي يروم وصلا

لجانبكم بباريس السمي

وأني ارتجي بشرى الشفاء

وعودكما مع اللطف الخفي

الماجد الزكي العالم أبو عبد الله الشيخ السيد محمّد بيرم حرسه الله تعالى. أما بعد أتم السلام فقد ورد نظمكم الرائق. وما تضمنه من التاريخ الفائق. في التهنئة بالختان وأني أهنيك بذلك كما ارتجي هناءك. بتمام شفائك. وأنت إن ترحلت عن حمانا جسما. فلم يزل ودّك مرتسما. بدفاتر الإحشاء رسما. والسلام ، من الفقير إلى ربه أمير الأمراء علي باي أمير الأمحال عفى عنه ، في ٢ رجب الأصب من سنة ١٢٩٥ ه‍.

ولما رجع من هذه السفرة واستقر مدة أحب أن ينظم المستشفى التونسي على النحو الذي رآه في أوروبا من إتقان المستشفيات والاعتناء بالمرضى وتقسيمهم كل قسم على حدة ، وكذلك تحسين حال المجانين إذ إن المستشفى التونسي واحد يقبل جميع المرضى. واستعان على ذلك بحكماء ماهرين أهمهم الدكتور ماسكرو حكيم الأمير الخصوصي ، وقد حسن للوزير مصطفى بن إسماعيل هذا العمل وتخصيص إحدى القشلاقات العسكريّة القديمة الواسعة لهذا الغرض ، وكانت معطلة خاوية تنعي بفراغها وإقفال أبوابها ما كانت عليه البلاد التونسيّة في العصر السالف من القوّة والاستعداد والتأهب للمكافحة والجلاد والمدافعة عن استقلال البلاد ، والقشلة واقعة في حي مرتفع نقي الهواء وفي تلك الأثناء حصلت منازعة بين الحكومة التونسيّة واحد الفرنساويين المدعو الكونت دو صانسي على أرض فسيحة تعرف بهنشير سيدي ثابت كانت تنازلت له عنها الحكومة لتحسين حالة الزرع وإنتاج الخيل ولما أخل بالشروط الّتي أعطيت له بمقتضاها ، وانتهت مدة التنازل رامت الحكومة استرجاعها وبينما هي تنازعه فيها إذا بالوزير وبعض أعوانه دخلوها عنوة فوقع لذلك هرج ومرج وانتهزها قنصل الفرنسيس الموسيو روستان فرصة لإرهاب الأمير والاستيلاء على الوزير وزيادة شوكة دولته في تونس ، فقطع العلاقات السياسية وطلب عدة مطالب للترضية أهمها عزل الوزير والتعويض على الكونت.

وكل مطلع على تاريخ تونس الحديث ملم بما كتب عن مصطفى بن إسماعيل في «صفوة الإعتبار» وغيرها يعلم أنه لم يكن أهلا لتقليد الوزارة ولا لمباشرة شؤون المملكة بأي وجه من الوجوه وهكذا جرت سنة الخلق كلما أخذت أمة في الإنحلال والإضمحلال تسلط عليها الوضيع. ونبذ الرفيع. وتقدّم الغافل. وتأخر العاقل. وتملك الغبيّ. واحتقر الذكيّ. وانتصر الجهل. وخذل الفضل. وقامت دولة الأوغاد والسفل. ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولو لا سيطرة الظلم والاستبداد من الحكام وإلجامهم الأهالي بلجام من الجور

١٢

والإعتساف. لما رفع مصطفى بن إسماعيل من حضيض الأرض إلى عنان السماء. ومن دائرة السوقة إلى منصب الوزراء ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ولما كان الوزير المذكور يحس من نفسه بعدم اللياقة لمركزه ، كان دائما متوقعا الشر من كل مقتدر على تفهيم الباي بحقيقة حاله وسوء أعماله ، ولذلك فإن رستان علم أن لا شيء يقوده غير الإرهاب فطلب عزله إرهابا له فسهل عليه قياده من ذلك الحين فصار في يده كالميت في يد غاسله ، وقد أسرع الوزير بترضية القنصل ترضية رسميّة على الإعتداء الذي حصل منه فداء لمركزه واستقرّ الرأي على تشكيل لجنة للتحكيم تحت رئاسة قاض فرنساوي يكون فيها عضوان تونسيان وعضوان فرنساويان تنظر في جميع مدعيّات الطرفين وتصدر حكمها فيها فكان صاحب الترجمة أحد ذينك العضوين التونسيين ، وقد ناضل عن حقوق حكومته بجميع قواه وبلغ به تعب الفكر والبدن منتهاه حتى عاد إليه المرض بعد أن كاد يشفى منه وقد أوصاه الحكماء الذين باشروا معالجته في باريس وفي مقدّمتهم شاركو الشهير بأن يقلل ما أمكن من الإشتغال بالفكر ويتباعد عن الإنفعالات النفسانيّة إذ إن مرضه عصبي واقع في الأعصاب الواصلة بين المعدة والقلب مع ضعف شديد في الدم تطرأ عليه أدوار غريبة في الوجع والألم التزم لتسكينها بتعاطي المرفين وهو روح الأفيون ، وقد رجع من باريس آخر مرة وكاد يبطل استعماله بالمرة بل بقي عدّة أشهر لا يستعمله أصلا غير أن مسألة صانسي وما رآه فيها من حيف الأجنبي لاهتضام حقوق البلاد والتلاعب باستقلالها أعاد إليه المرض كله بأشد مما كان عليه وقد صدر الحكم بمحقوقيّة الحكومة التونسيّة كما هي العادة في جميع المسائل الّتي تقع من هذا القبيل في البلاد الشرقيّة في مثل هذه الأوقات.

وفي تلك الأثناء أنهى تنظيم المستشفى الجديد المسمى بالصادقي وهو على قسمين : أحدهما : مجاني للفقراء يسع مائة مريض. والآخر : للموسرين بأجرة معينة زهيدة ، وافتتحه الأمير بنفسه في موكب حافل حضره في يوم ١٠ فبراير سنة ١٨٧٩ (١٨ صفر سنة ١٢٩٦ ه‍) وأعلن الوزير عن لسان الحكومة بحسن مساعي صاحب الترجمة في تنظيم هذا المستشفى بقوله في خطاب ألقاه على مسامع الأمير في ذلك الاحتفال وهو :

«بمقتضى الاذن العلي وعناية سيدنا أدام الله تعالى بقاءه بمصالح بلاده وقع انجاز هذه المأثرة الجميلة التي هي إحدى مآثر الحضرة العليّة ، وهي هذا المستشفى الصادقي الذي شرفه سيدنا أيده الله تعالى بالحضور فيه هذا اليوم ، وقد اعتنى الشيخ السيد محمّد بيرم ببذل الجهد في انجازه وترتيبه على الكيفيّة المشاهدة بما نرجو من الله تعالى أن يحل ذلك من سيدنا محل الاستحسان».

فأجاب الأمير بالشكر والثناء وأهدى إلى صاحب الترجمة في ذلك اليوم علبة مرصعة ذات قيمة وافرة مكتوب عليها اسمه بالأحجار الكريمة. وفي أواسط تلك السنة تطاول أحد

١٣

أعوان الوزير على القاضي المالكي الشرعي بديوان الحكم وهو أمر لم يعهد له مثيل في تونس حيث لم تزل الأحكام الشرعيّة وحكامها مرموقين بعين التبجيل والاحترام اللائقين ، فهاجت البلاد لذلك وماجت واتفق الحكام الشرعيون على تعطيل الأحكام إلى أن يسترضيهم الأمير بعزل الوزير وعقاب تابعه العقاب الصارم وإجراء القوانين والمجالس الشورويّة في البلاد لتكون ضمانة كافية على عدم العود لمثل هذا الحادث المكدر وعدم تسليم الادارة لمن لا يكون كفوءا لها ، وبعد أن اتفقت كلمتهم على هذه المطالب وكادوا أن يحصلوا عليها دخل بين بعضهم داخل الغرور والتفرقة فتشتتت آراؤهم وانحلت جامعتهم ورضوا بتبعيد التابع المتطاول لاحدى معاقل المملكة في قابس الواقعة على حدود طرابلس ، وبتشكيل الأمير لمجلس سماه مجلس الشورى للنظر في مهمات أمور الدولة وجعله تحت رئاسة الوزير نفسه وأعضاؤه بقيّة وزراء المملكة ومستشاروها وليس فيهم إلّا اثنان من الأهالي والباقي كلهم من مماليك الجراكسة وزاد عليهم اثنين هما السيد محمّد بيرم والعربي باشا زروق رئيس المجلس البلدي ، وكانا من أشد المعضدين لعزائم الحكام الشرعيين في مطالبهم الّتي طلبوها وكان ذلك في ١١ رجب سنة ١٢٩٦ ه‍ ولا يخفى ما في رضاء المشايخ بمثل هذا المجلس خصوصا بعد تعيين صاحبيهم فيه من الايقاع بهما والتغاضي عن صالح البلاد الحقيقي.

ولم تطل الأيام حتى اختلق الوزير مأمورية لصاحب الترجمة وأرسله بها إلى فرنسا وحاصلها السعي لدى كبراء القوم وخصوصا «غامبيتا» رئيس مجلس النواب إذ ذاك وصاحب القول الفصل في بلاده ، لتغيير قنصلهم في تونس لأنه اشتد على الحكومة اشتدادا لم يبق لها حريّة للعمل في شؤونها الداخلية قط ، ولم يقف عند حدّ في إلقاء الدسائس والفتن وتوغير الصدور بين الراعي والرعيّة حتى أنه لما طلب أعيان الأهالي التونسيين ما طلبوه من تأسيس الحريّة والشورى في بلادهم كان الموسيو «رستان نائب» الجمهوريّة الفرنسويّة ينصح الأمير بعدم الاصغاء إلى هذا الطلب ، وإن العساكر الفرنسويّة بالجزائر مستعدة لمعاضدته وكسر شوكة الأهالي واذلالهم عند اللزوم ، وهي سياسة قديمة اتبعتها فرنسا في تونس نفسها ، فإن قوانين عهد الأمان السابق ذكرها المؤسسة في تونس سنة ١٢٧٤ ه‍ كانت بمساعي فرنسا وانكلترا ظاهرا وتهديدهما للأمير باسطوليهما اللذين حضرا لذلك الغرض وكان ذلك لمجرد قتل يهودي في اقامة حدّ اقتضته الشريعة ، ولما اجريت تلك القوانين بالفعل سنة ١٢٧٧ ه‍ وتوجه الأمير لمقابلة الامبراطور نابليون الثالث في الجزائر وأهدى إليه نسخة من تلك القوانين اقتبلها منه بالشكر ظاهرا ولما اختلى الامبراطور بقنصله «ليون روش» وبخه توبيخا شديدا على ما رواه المرحوم الجنرال حسين وأفهمه غلطه من المعاضدة على إجراء القوانين الشورويّة في تونس حقيقة ، وقال له : «إن العرب إذا تأنسوا بالعدالة والحريّة فلا راحة لنا معهم في الجزائر مطلقا» ومن ذلك الحين وجه القنصل همته لاقناع الوزير مصطفى خزنه دار بإلغاء تلك القوانين ووجد منه اذنا صاغية فألغاها وبقيت كذلك إلى

١٤

هذا الوقت. وقد قبل السيد محمّد بيرم مأموريته كما قبل المرحوم حسين باشا وزير المعارف إذ ذاك بتونس مثلها لدى البرنس «بسمارك».

ولما توجه صاحب الترجمة للسلام على الأمير سلام الوداع واجهه بكلام اللوم والعتاب على ما جرى منه من تعضيد المطالب الأهلية ، فأجابه الشيخ بيرم بكلام أثر في نفسه تأثيرا لم يزل يكرّره بتوجع إلى آخر مدته وهو أنه قال له : «إننا نطلب الحريّة الّتي قال سيدنا أنه لا يعطيها لنا غيره» فأجابه الأمير : لمن أعطي الحريّة أللنجار والحداد أم لك أو لهذا؟ (وأشار إلى أحد كبار الحاضرين) فإن النجار والحداد إذا أعطيا الحريّة أساءا التصرف بها ولم تبق لنا معهما راحة ، فقال له السيد بيرم : «إن الحريّة الّتي يعطيها سيدنا للحداد والنجار تصيرهما مثلي أنا ومثل هذا» ، وأشار إلى ذلك الوجيه وسبب انزعاج الأمير من هذا الجواب هو تكرار لفظة الحريّة فيه ولم يعهد أنه سمعه من قبل ، حتى أن أمراء تونس قديما كانوا يعتقدون أنهم يمتلكون البلاد بمن فيها من الأرزاق والأنعام والسكان امتلاكا شرعيّا لا ينازعهم فيه منازع ، وأورد المؤرخ اللبيب الشيخ أحمد بن أبي الضياف في تاريخه نادرة جرت له مع أمير تونس حسين باشا الثاني في هذا الموضوع كادت أن تورده حتفه رحمه‌الله. دولما وصل صاحب الترجمة هذه المرّة إلى باريس وكان ظاهر أمره أنه توجه للتداوي اجتمع بالموسيو «غامبيتا» وفاوضه في المسألة الّتي كلفه بها الوزير وسلمه تقريرا فيها هذه صورته :

«إني أقدم على وجه خصوصي غير رسمي إلى حضرتكم العليّة تقرير ما هو واقع في المملكة التونسيّة مما عساه أن يكدر صفاء القلوب حيث كنت أنا وأهل بلادي على علم من أن الدولة العظيمة الحرّة لا يبلغها ما هو حاصل الآن من نائبها في تونس الذي اتخذ طريقة التشديد والتخويف ديدنا في كل شيء حتى صير حكومتنا متحذرة من أصدقائها عوضا عن زيادة الألفة والركون الذي هو الواجب مع الأمة الفرنسويّة الّتي كل أهالينا يعلم أنها وحدها هي الّتي تفيدنا ولهذا عندما امتلأ وطابنا من الكدر لم نقصد إلّا ابلاغ الحال إلى رجالها المنصفين من غير أن نطرق بابا غير بابها وذلك أن موسيو «رستان» النائب المذكور بعد أن أوقع دولتنا في إرتباك وكاد يغير علينا الدولة الفرنساويّة في نازلة موسيو دو صانسي الّتي لا تستحق تلك الأهميّة حسبما يوضح ذلك التقرير الذي حرره مجلس التحقيق المعين من فرنسا وبعد أن اضطر حكومتنا الفقيرة الّتي لم تستطع دفع كبونها (فوائد ديونها) ولا مرتبات متوظفيها إلى دفع مبالغ مجانا من المال والأملاك إلى أناس لا فائدة بهم لكلا الدولتين لأسباب نتحاشى عن ذكرها أمام فخامتكم حتى أنه خسرنا في مدة الستة أشهر الأخيرة فقط نحو مائة ألف وسبعة وأربعين ألفا فبعد هذا كله إذا هو الآن يتعرض رسميّا لتحسين ادارة البلاد الّتي بها تتمدن الأهالي ويدخلون في الحضارة وكانت الدولة الفرنساويّة أنالتنا إياها على يد نائبها سنة ١٢٧٤ ه‍ ١٨٥٨ انتصارا للإنسانيّة والحق فعوضا عن زيادة التقدم مع تقدم العالم إذا هو الآن مضاد لذلك وقال إلى سيادة سيدنا الباي لا تفعل مجلس الشورى الذي طلبته منك الأهالي وابق على حالتك العتيقة بل أوعز إليه مع بعض أعوانه المنكشف

١٥

حالهم بأن يقتل نحو ثلاثة أشخاص وينفي نحو سبعة ويلتجي إلى حمايته ولا عليه في شيء فلو لا مكارم سيادة سيدنا الباي لأوقع البلاد بل فرنسا ذاتها في ارتباكات مضادة للإنسانيّة والعدالة المجبولة عليها الدولة الجمهوريّة الفرنساويّة.

فيا أيتها الحضرة الفخيمة هل ترضى الأمة والدولة التي ترسل أبناءها إلى أقصى المشرق والمغرب لحفظ الإنسانيّة أن يكون نائبها مضادا لذلك في بلاد هي جارة لها عندما كانت الدولة العظيمة تخرج أهل الجزائر من الحكم العسكري إلى الحكم البلدي متسترا في دعواه بعدم التعرف بالمجلس بأنه سمع أن المقصد منه هو التعرض لمصالح فرنسا مع أنه على علم بأن مصلحة الأمة الفرنساويّة يعتبرها ويراعيها كل من الآمر والمأمور في بلادنا لعلمنا بمقامها بيد أنه إذا كانت المصلحة ليست لفرنسا وإنما هي مجرد فوائد شخصيّة فإن مصلحة البلاد تقدم عليها وهو الذي نؤمل المعاضدة عليه من الرجال المشهورين في العالم من الدولة الفرنساويّة وتبقى بمآثرهم مزينة صحف التاريخ فهذا أنا أنهي إلى مسامعكم الشريفة اختصار ما هو حاصل ولحضرتكم أن تطلبوا الايضاح ممن يعلم حالة بلادنا من الذين لهم خبرة بها من الصادقين.

وقد بادر صاحب الترجمة بارسال تفصيل المقابلة وما حصل فيها من الكلام إلى الوزير بمكتوب مؤرخ في ١٢ شعبان سنة ١٢٩٦ ه‍ من جملة ما قاله له فيه عن لسان «غامبيتا» : «إن كنتم تريدون الارتياح من الرجل (أي رستان) فيجب أن تكتموا هذا الأمر بل ولا اجتماعكم بي في شأنه وإلّا كان ذلك ينقض قصدكم». وما كاد يصل هذا المكتوب إلى تونس حتى انتشر الخبر بسر المسألة ولم يعلم إن كانت الاشاعة حصلت من نفس الوزير أو من المترجم الذي كان الواسطة في الكلام بين غامبيتا وصاحب الترجمة الذي لم يكن يتكلم اللسان الفرنساوي ، والحاصل أن القنصل انتهز هذه الفرصة الجديدة وأرعد وأبرق على الأمير والوزير وزاد في ايغار صدورهما على صاحب الترجمة وساعده البخت أو الصدفة بأنه في الوقت الذي كان الأهالي في تونس يطلبون تأسيس الشورى في بلادهم كانت الدول مشغولة في مصر بخلع إسماعيل باشا وحصل ذلك على يد خير الدين باشا صاحب الصدارة حينئذ ، وارتباطات الباشا المذكور بتونس وخصوصا بصاحب الترجمة مشهورة عند الجميع ، فاستنتجوا من ذلك أن طلب الشورى في تونس لم يكن القصد منه إلّا إحداث ارتباكات في المملكة تفتح الباب لمداخلة الباب العالي خصوصا ، وكان صاحب الترجمة معارضا شديد المعارضة في وصل سكة الحديد بين الجزائر وتونس وتعيين الحد الفاصل بينهما إلّا بعد العرض للدولة العليّة ، وزادوا في اقناع الباي بالتلغراف الذي أرسله خير الدين باشا يعلمه فيه بفصل إسماعيل باشا عن خديويّة مصر وقد استعمل الصدر الأعظم في تلغرافه عبارات اشتم منها رائحة التهديد والوعيد للباي حتى التزم الحال للاستفهام من الباب العالي بواسطة السفارة الفرنساويّة عن الغرض من عبارات ذلك التلغراف مع أنه في ذلك الوقت كانت العلاقات الخصوصيّة بين المرحوم وخير الدين باشا معكرة مكدرة من حين خروج الباشا المذكور

١٦

من وزارة تونس ، ولم يصف ماؤها إلّا بعد ذلك التاريخ كما يدل عليه المكتوب الآتي :

«الفاضل الزكي الثقة المعتمد الشيخ سيدي محمّد بيرم حرس الله تعالى كماله ، وبعد : قد وصلنا مكتوبكم في ٢٢ من الشهر وعلمنا ما احتوى عليه من لذيذ الخطاب ونحن لله الحمد على ما يسر الاحباب من العافية التامة في أمورنا الحسيّة والمعنويّة ، وأما ما أشرتم إليه من الأحوال السالفة عن قدومنا لدار الخلافة فجوابه عفى الله عما سلف والسلام ، من خير الدين في ٢٩ شعبان سنة ١٢٩٦ ه‍».

ومن راجع تاريخ مكتوب صاحب الترجمة المذكور أعلاه وجواب المرحوم خير الدين باشا عنه وقارن بينهما وبين تاريخ انفصال الباشا المشار إليه عن الصدارة العظمى الواقع في ٩ شعبان سنة ١٢٩٦ ه‍ يعلم علم اليقين أنه في مدة صدارة الباشا المشار إليه لم تكن بينه وبين الشيخ بيرم أدنى علاقة وإن كل ما بناه إذ ذاك المرجفون بناء على علاقاتهما الوداديّة القديمة هو محض اختلاق ، وكأن الوزير التونسي غفل أو تغافل عن حقيقة المأموريّة الّتي أناطها بعهدة صاحب الترجمة فأرسل إليه تلغرافا رسميّا إلى باريس نص ترجمته :

«من باردو في ٧ أغسطس سنة ١٨٧٩ الموافق ١٨ شعبان سنة ١٢٩٦ ه‍ من الوزير الأكبر إلى الشيخ سيدي محمّد بيرم : شاعت الأخبار بأنك متداخل في أمور سياسيّة خصوصا وأنه لم يصدر لكم أدنى أمر فيها ، ولذلك فإن سيدنا المعظّم يأمركم صريحا بأن لا تتداخلوا مطلقا في هذه المسائل حيث أنكم سافرتم لمعالجة صحتكم وإذا انتهت مدّة التداوي فارجعوا إلى تونس».

ثم بعد ذلك ورد له مكتوب من الوزير بتاريخ ٢٥ شعبان جوابا عن مكتوبه المؤرخ في ١٢ شعبان وفيه يقول : «أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقد بلغنا مكتوبكم الخصوصي وعلمنا ما ذكرتم وما وقع مع موسيو «غامبيتا» فمثلك من يعتمد عليه وعلى صداقته وأما كتمان السر فيكون مهنا لأن نفعه لنا وإنما الله يحقق الأمل من اتمام الوعد لأن القنصل في غاية القوّة الخ».

فلم يسع صاحب الترجمة بعد هذا الاضطراب في أقوال الوزير إلّا أن يستعفي من وظائفه فأجابه الوزير عن الاستعفاء بهذا المكتوب ونصه : «الفاضل الزكي المدرس الشيخ السيد محمّد بيرم رئيس جمعيّة الأوقاف حرسه الله أما بعد السلام عليكم ورحمة الله ، فإن ما عرضتموه علينا من طلب الاعفاء من رئاسة جمعيّة الأوقاف علمناه ومن معلوماتكم أنكم كنتم طلبتم هذا منا قبل سفركم على خير فلم نسعفكم لذلك والذي نعرفكم به أنني لم نزل على رأيي في عدم اسعافكم لما ذكر ونرجو الله أن يجمعنا بكم وأنتم على حال كمال ودمتم بحفظ الله والسلام ، من الفقير إلى ربه أمير الأمراء مصطفى الوزير الأكبر عفا عنه في ٣ رمضان سنة ١٢٩٦ ه‍».

١٧

وفي اليوم نفسه أرسل له مكتوبا آخر نصه : «أما بعد السلام عليكم ورحمة الله فإنه بلغنا كتابكم المؤرخ في ٢٥ الشهر الفارط متضمنا ما نحن على ثقة منه من سلوككم الطريق المستقيم في أقوالكم وأعمالكم وتحرزكم في الاجتماع من أن ينسب إليكم غير ما قصدتموه ولا يستغرب ذلك من مثلكم ونرجو الله أن يجمعنا بكم وأنتم على حال كمال ودمتم بحفظ الله والسلام».

وقد رجع صاحب الترجمة إلى تونس بعد الالحاح الشديد عليه من أصدقائه فوجد الحال متغيرا وملامح الوزير تظهر الشر ومع ذلك فقد أبلغه صاحب الترجمة ما رآه وسمعه في باريس بخصوص المسألة التونسيّة وأراء رجال السياسة فيها ، ومن جملة ما بلّغه أن الأخبار رائحة هناك بأن القنصل أقنعه بمساعدة فرنسا على مرغوباتها من ضم تونس إليها وفي مقابلة ذلك تضمن للوزير ولاية العهد على الامارة واستيلائه عليها بعد سيده ونصحه بأن لا يغتر بهذه الترهات فإن القنصل إذا حصل على مرغوبه لا يوفي وعده للوزير ولا تعود الخسارة إلّا على البلاد وأهلها ، وقد حقق الزمن حدس السيد بيرم فإنه لما دخلت فرنسا في تونس سنة ١٢٩٨ ه‍ لم تطل مدتها فيها حتى عزلت مصطفى بن إسماعيل عن الوزارة وأخرجته من البلاد بالمرة ولم نوف له بما وعدته به بل نظرت إليه نظر الخائن ، وكثيرا ما تكلمت جرائدها وأرباب الوجاهة فيها لتجريده عن نيشان اللجيون دونور الفرنساوي وهو حامل أول درجة منه ، وبقي يتقلب متغرّبا في البلدان تقذفه أمواج الذل والسؤال بعد أن صرف ما ادّخره أيام عزه من الأموال الطائلة وأصبح :

يوما بحذوى ويوما بالعقيق وبال

حديب يوما ويوما بالخليصاء

إلى أن جاءت به المقادير إلى القسطنطينية حيث تغاضت الدولة العثمانيّة عن ذنوبه وأبقته يتنعم بلذيذ الحياة ويتحسر على ماضي عزه وغبن صفقته.

أما صاحب الترجمة فإنه بعد عودته إلى تونس من مأموريته توجه إلى (المرسى) للسلام على ولي عهد الامارة الأمير الحالي السابق ذكره ، فوجد الأمير المشار إليه في مركبته أمام محطة السكة الحديد فاركبه معه وسارا إلى بستان الأمير فكبر هذا الأمر على مصطفى بن إسماعيل وأمر صاحب الترجمة بالكف عن التردّد على ولي العهد ، وكثرت الدلائل على سوء نيّة الوزير نحو السيد بيرم وتغلب دسائس موسيو «رستان» ضدّه حتى نصحه بعض الأصدقاء من خواص حاشية الباي بالسفر خارج المملكة لأن بقاءه في البلاد فيه خطر عليه ، فطلب بعد عيد الفطر التوجه لأداء فريضة الحج خصوصا وقد تهدّده الوزير بأنه إذا شاع الخبر الذي كان أعلمه به بخصوص مساعيه لولاية الامارة يلقيه تحت أعباء المسؤوليّة الثقيلة فامتنع الوزير من اعطاء الرخصة بالسفر وقد توسط حينئذ السيد الشريف نقيب الاشراف السابق في تونس للحصول على تلك الرخصة وبين للوزير عدم جواز منع المسلمين من أداء فريضة الحج وزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وللسادة الاشراف في تونس النفوذ الكبير والكلمة المسموعة فالتزم الوزير بالاجابة

١٨

وقد سافر صاحب الترجمة من تونس في ٢٦ شوال سنة ١٢٩٦ ه‍ ولم يعد إليها بعد وقصد مالطه ومنها للاسكندريّة ومصر القاهرة ، وفيها تقابل مع الخديو المرحوم توفيق باشا وكان ذلك في ابتداء ولايته فقدّم له قصيدة في التهنئة بالولاية وتاريخها.

وقد دار الحديث بينهما عن كيفيّة نظام اللجنة الماليّة الدوليّة المؤلفة في تونس لادارة أشغال الدين وعن النتائج الّتي أنتجتها ، وهل البلاد متضررة منها أم لا؟ وكان ذلك بسبب ما اقترحته انكلترا وفرنسا إذ ذاك على الحكومة المصريّة من اقامة لجنة للمراقبة الماليّة ، ثم أن المرحوم سار إلى الحجاز وقد تقابل في مكة المكرمة مع المولى الشريف حسين الأمير الأسبق وأكرم وفادته ثم بعد أداء فريضة الحج والمناسك توجه للزيارة في المدينة المنورة حيث أقام ثلاثة أيام وكان مرضه العصبي مشتدّا عليه في الطريق وهناك توسل للحضرة النبويّة بقصيدة طويلة طالبا من الله الشفاء للبدن واللطف بالوطن ومطلع القصيدة :

إلى السدّة العظمى شددت عزائمي

إلى سدةّ الاجلال شمس المكارم

إلى باب خير الخلق خصصت وجهتي

ومن فضل باب الله أملت راحمي

إليك رسول الله قد جئت ضارعا

وفضلك ممدود على كل قادم

فيا خير خلق الله جد لي بالرضا

وامّن مخافي من عقاب المآثم

ويا أكرم الأمجاد هب لي توبة

وأسس على التقوى قيام دعائمي

وأنت ملاذي في أموري كلها

فعجل شفائي من سقامي الملازم

ألا يا رسول الله طهر بلادنا

فقد جار في الأنحاء ظلما مخاصمي

يريد خلاف الحق في الخلق جائرا

فننصحه رشدا لذا كان ظالمي

فعجل بانقاذ البلاد من الذي

تأبط شرا وارتدى بالمظالم

وفرج همومي والكروب وعلتي

وليس سواك يرتجى للعظائم

وللعدل أن ينقاد كل ملوكنا

لكيما يحل الدين أعلى العواصم

ومن المدينة المنورة توجه إلى ينبع وسافر منها إلى بيروت مارا على خليج السويس وقد ذكر هذه الرحلة في أول الجزء الخامس وما لاقاه في سفره من كرم واكرام صاحب السماحة السيد السند السيد سلمان أفندي القادري نقيب اشراف بغداد.

ولما وصل إلى بيروت لاقاه والي سوريّة إذ ذاك المنعم المقام الجليل الذكر مدحت باشا بمزيد العناية [و] الرعاية ، واحتفل به أعيان المدينة من مسلمين ومسيحيين بما أبقى لهم في نفسه الذكر الحسن والثناء المستطاب ، وكان المرحوم من جملة المشتركين المساعدين في جمعية المقاصد الخيريّة الّتي تأسست في بيروت لانشاء مدارس خيريّة وقد زار تلك المدارس ولاقى من احتفال الأساتذة والتلامذة وانشادهم القصائد والمقالات الرائقة بين يديه ما زاد ابتهاجه ، وقد هنأه الشاعر الدراكة البليغ المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب بقصيدة شائقة ذات أربعة وأربعين بيتا مطلعها :

١٩

بدر العلى تاريخه (من غربه)

في الشرق أشرق نوره لمحبه

ومنها :

من أين هذا الطيب هل ريم النقا

ليلا سرى ليدير راحة صببّه

أو جاء بيروتا محمّد بيرم

من طيبة فذكت نوافح قربه

حيث الزمان على تلوّن طبعه

أدّى به كفارة عن ذنبه

وقد مدحه أيضا الأديب الفاضل واللوذعي الكامل الشيخ أبو حسن قاسم أفندي الكستي البيروتي بقصيدة غراء منها :

به تونس الغرب استعزت وأحرزت

بصحبته الفضل الذي ليس يجحد

يغار على الدين الحنيف لأنه

خبير به لا يعتريه التردّد

عليه من العلم الشريف جلالة

يقوم لها الدهر الحسود ويقعد

وسيرته الحسناء في كل موطن

بألسنة الأيام تتلى وتنشد

وبعد أن أقام هناك أسبوعا رام فيه التوجه لدمشق الشام لرؤية معالمها العظام وملاقاة السيد الأمير عبد القادر الجزائري غير أن الوقت لم يسعف بذلك لتراكم الثلج في الطريق وتعطيله للسكة فتوجه توّا إلى القسطنطينيّة وهناك ورد عليه مكتوب من الأمير المشار إليه نصه :

«بسم الله الرحمن الرحيم ـ الحمد لله حمد المتوسلين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين. وعلى آله وصحبه آمين. من خادم أهل الله عبد القادر بن محيي الدين الحسني إلى جناب العالم الفاضل. والهمام الكامل. صاحب المقام السني. الشيخ السيد محمّد بيرم أفندي المحترم. أدام الله عليه سوابغ النعم. أما بعد اهداء تحيّة مقرونة بالاخلاص والتكريم. وأدعية متوالية بدوام نفعكم العميم فالموجب لتحريره أولا السؤال عن راحة وجودكم السعيد. والابتهاج بسماع حديثكم المجيد. وثانيا قد بلغنا من ولدنا عبد القادر أفندي الدنا سلامكم. ومزيد محبتكم وودادكم. وحصل لنا بذلك تمام السرور. زادكم الله نورا على نور. ورغبة بربط أسباب المودّة بجنابكم. واستجلاب بدائع خطابكم. ومجاب دعائكم على الدوام. تحرّرت لكم هذه الأرقام. وعليكم السلام في ١٦ جمادى الأولى سنة [١٢٩٧ ه‍]».

المخلص

عبد القادر الحسني

وكان المرحوم قبل توجهه إلى الاستانة أرسل مكتوبا بواسطة بعض خواصه للوزير بتونس نصه :

«الصدر الهمام أمير الأمراء جناب الوزير الأكبر سيدي مصطفى أطال الله عمره أما بعد السلام التام ، فإني قضيت المناسك ولله الحمد ولم أستطع المبادرة بالرجوع إلى الوطن

٢٠