صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

المائة ، لأن دولة فرنسا ضامنة للشركة المذكورة ربح الخمسة في المائة على ما تنشئه من الطرق الحديدية بأفريقية وتتصل بالجزائر ، ودولة فرنسا إنما ضمنت ذلك لأنه مما يعمل به كثيرا في الممالك الأوروباوية لترغيب أرباب الأموال في إنشاء المنافع العامة مع تحقق الربح من أموالهم ، وهي لا يثقل عليها مثل ذلك لغناها وكثرة مواردها من الطرق الحديدية ، فعلى فرض خسران جهة من الجهات في الطرق يعدل بالربح الحاصل من الجهات الأخرى ، وإذا بقيت طريق تونس غير متصلة بالجزائر لا تحصل الشركة على الضمانة المذكورة ، فلذلك قدم إلى تونس زعماؤها وطلبوا وصل السكة مستندين إلى الفصل الثالث عشر من الإتفاق الذي بأيديهم في أصل المنحة من الشركة وهو أن الشركة يسوغ لها مد فروع يمينا وشمالا عن الخط الأصلي بعد الإتفاق مع الحكومة على جهة المركز الواصل له الفرع وعلى جهة مروره ، وأن المقدار الذي بين نهاية الخط الأصلي وبين حدود الجزائر لا يبلغ إلى مقدار طول الفرع الذي لهم الرخصة فيه ، وهو خمسون كيلومتر وأي نحو خمسة وأربعين ميلا ، وأنهم غاية ما يطلبون الإتفاق على تعيين المركز المنتهي إليه وتعيين جهة المرور كما يطلبون مد فرع إلى جهة الكاف بمقتضى الرخصة الأولى أيضا ، فنالت النازلة في البلاد وعند رجال الحكومة أهمية تامة لا بالنظر إلى فرع بلد الكاف لأنه خال عن كل شائبة وليس فيه إلا النفع ، وإنما الأهمية من حيث وصل الطريق بالجزائر.

وكثرت الأقوال في وجود مليون ومائتي ألف فرنك لتيسير أسباب الوصول إلى المقصود وتولى أمر الحرص فيها الوزير ابن إسماعيل ، وكان القنسل الفرنساوي معينا إلى الشركة على غير الطريقة الرسمية ، وإنما هو من باب المجاملة والنصح ويود فصل النازلة من غير أن تدعو إلى تداخله الرسمي باستنجاده من الشركة على ما يمكن أن تدعيه فيبرأ الوزير محمد إذ ذاك من تحمل العبىء ، وعقد لها مجلسا تحت رياسة مستشار الخارجية وأعضاؤه ثلاثة تونسيون وإثنان فرنساويان وإثنان طليانيان وكاتب إنكليزي ، والجميع من متوظفي الحكومة ، فتفاوضوا في المسألة لكن مع الإشارات المتواردة بالتعجيل واختلف رأي المجلس هل أن الفصل ١٣ المستند إليه من الطالب يقتضي ذلك أم لا؟ لأنه بالنظر للخريطة يتبين أن المقدار المطلوب ليس بفرع بل هو تطويل لأصل الخط حيث يتجاوز منتهاه النقطة الأصلية المنتهي إليها الخط الأصلي في البعد ، ولكن الذي ترجح عند أغلب المجلس أنه يصدق عليه أنه فرع إذ لم يقيد الفرع بعدم تجاوزه نقطة الأصل ، ومع هذا فإن الإستناد إلى ذلك الفصل لا ينتج المطلوب لأنه ولئن تضمن إمكان إمداد أحد الفروع ضمنا يعارضه التصريح القطعي بفصل خاص وهو : «أن الوصل بطريق الجزائر ليس للشركة عمله ولا رخصة لها فيه إلا باتفاق جديد» ولهذا خصص أيضا بأن الحكومة ليس لها إعطاؤه لغير الشركة المذكورة وهو حجة قطعية بأن إيصال طريق الحديد لحدود الجزائر لم يعط مدة وزارة خير الدين بل أنه شرط عدم الإيصال للحد ، وأن إعطاء الرخصة للشركة الفرنساوية في إيصال الطريق للحدود هو امتياز جديد أعطته الحكومة التونسية بعد خروج الوزير خير

٣٠١

الدين من خطة الوزارة ، ولهذا انتقل الكلام إلى أن الوصل هل للحكومة عمله أم لا؟ فتذاكر الجميع في منافعه ودفع الإعتراضات والمضرات الناشئة منه بما تقدم بيانه عند الكلام على وزارة خير الدين ، بل زاد بعضهم أن قال إنه إذا لم يصل تتحقق المضرة المالية للحكومة بأن ما يصل إلى المركز النهائي يقرب من الحدود مع عدم إنحصار جهة الخروج منها ، فتحمل النتائج على ظهور الحيوانات وتخرج إلى الجزائر من غير أداء لضرائب الحكومة إلى غير ذلك من المصالح ودفع المضار ، ومما عساه أن يقع من الإرتباكات السياسية عند الإمتناع عن الوصل ، ولما كنت أحد أعضاء ذلك المجلس وافقت على ما ذكر غير أني لاحظت شيئين.

أولهما : أن الوصل إلى الحدود يلزم منه تعيين الحد وهو واقع فيه خلاف وطال النزاع فيه مدة أحمد باشا وليس للحكومة أن تعين الحد وإنما ذلك يتوقف على إعلام الدولة العثمانية وهي التي تعين الحد.

وثانيهما : أن وصل الطريق ينشأ عنه كثرة القادمين من رعايا الجزائر لسهولة الإنتقال وقرب الوقت ورخص المصروف وذلك هو موجب رواج التجارة ، وأن الخلق من كل نوع فيهم المستقيم وغيره ، فإذا كثر الوارد من رعايا الفرنسيس وحصلت كثرة المخالطة استدعى ذلك كثرة الخصومات الطبيعية وليس لحكام تونس الحكم في نوازلهم ، بل النوازل ترفع إلى القناسل وأين هذا في قبائل العربان التي يمر بها الطريق بل وفي نفس البلدان ، ليس لأتباع الحكام وضع اليد على المطلوب فيفعل المتعدي ما يريد ويركب ويرجع إلى بلاده قبل أن يصل العلم إلى حاكمه ، فيجر ذلك إلى ضياع الحقوق سواء كانت للأهالي وهم الأكثر أو لغيرهم ويضطرون إلى إعمال وجوه يتوصلون بها إلى حقوقهم ربما أوقعت البلاد في ارتباك أو خروج الرعية عن حكمها ، ولا مندوحة عن هذا إلا باتحاد الحكم وقد كان السعي فيه من قبل ، ودولة فرنسا موافقة على أصله فلم يبق إلا إنجازه ، ولذلك لا تمكن الموافقة على وصل الطريق إلا بالوجهين المذكورين.

فقيل لي : أنّى لهاته المسألة التجارية من تعليقها بمسألة الحكم وهل ترضى باتحاد الحكم جميع الدول حتى تدخل فرنسا معهم إذ لا ترضى بذلك وحدها؟ فقلت : إن كانت نازلة الطريق متجرية بحتة فلا ضرورة لنا تحملنا على اقتحام المسألتين السياسيتين المشار إليهما إلا بعد التخلص منهما ومضرتهما تعدل وتفوق على المنافع المشار إليها أولا ، وإن كانت النازلة فيها شائبة سياسية ففرنسا تعيننا فيما يتعلق بها بجلب موافقة الدول على اتحاد الحكم وتبدأ بنفسها ، لأن الداعي معها وهو اتصال المملكتين وسهولة الوصلة بالطريق الحديدي على ما مر شرحه ، لا تشاركها فيها بقية الدول. فإذا رأوا جريان العمل بذلك مع جلبها لوفاقهم يغلب على الظن توافق الجميع ، وكانت هذه الملاحظات هي مبدأ رميتي بضدية قوم ومعاكسة آخرين وأغلب الأعضاء أنصفها ، وتكررت المذاكرات حسبما هو

٣٠٢

طبيعي في تعدد الآراء وكلف في أثناء ذلك أحد الأعضاء بصورة الشروط التي يمكن أن يقع عليها التعاقد.

وبينما المجلس يوما في أثناء المذاكرات وإذا بالخبر بأن الوزير ابن إسماعيل أخبر بأن القنسل قادم على الوالي ذلك اليوم للحرص على النازلة وأنها لا تتحمل زيادة الطول ، فمن ذلك التاريخ خرجت النازلة عن كونها شورية حقيقية وعدلت الشروط المشار إليها في أقرب وقت ، ودفعت أولى الملاحظات المشار إليها بالنص على أن مركز القمرق لا يكون علامة على الحدود ، وأنظر هل يجدي ذلك أم لا؟ كما دفعت الملاحظة الثانية بأن تكتب بانفرادها في أوراق الوزارة لتكون إشارة على الحكومة في السعي على مقتضاها ، وأبقيت في خزانتها مع تقرير كل ما وقع في المجلس وأمضيت المنحة وسمع ممن ناجزها وسعى فيها أنها من تصرفات الوزير خير الدين ، والواقف على كل ما قررناه يحكم بإنصافه. ثم أرسل هذا الوزير من الوالي لتهنئة ملك إيطاليا أمبيرتو بالولاية عوضا عن والده ، ثم سافر إلى معرض باريس واحتفل به الوالي العام بالجزائر ، واجتمع في باريس برئيس الجمهورية ورجال السياسة وذاكر بعضهم في فتح البحر بالصحراء الكبيرة من خليج قابس وعدد له منافع تنشأ من ذلك للجريد ، وذكر له أوصاف الجريد التي هو عليها الآن فتخلص الوزير ابن إسماعيل من الخوض في النازلة ، لأنه يخشى من المذاكرات السياسية ، بأنه كان في سن الصغر لما كان الوالي يسافر إلى تلك الجهات ، ولذلك لم يكن يعرفها ، وأن المذاكرة في النازلة تجري في الوزارة بتونس ، فتعجب المخاطب من الجواب. ثم شاع الخبر بالإستعانة ببعض نواب الدول على توجيه الوزارة الكبرى إلى الوزير ابن إسماعيل وأن بعض النصحاء صرح له بأن الوظيفة مآلها إليه لتوجه عناية الوالي إليه ، فلا داعي إلى الإستعانة بالأجانب على ذلك لأنه يفتح بابا غير مناسب ، فإن الذي يستطيع أن يعين على الولاية يستطيع ضدها عندما يريد فلم يفد ذلك.

ثم استقرت ولاية الوزير ابن إسماعيل الوزارة الكبرى في شعبان سنة ١٢٩٥ ه‍ على الكيفية التي تقدم ذكرها في استعفاء الوزير محمد ، واستبد الوزير ابن إسماعيل بالتصرفات وحصلت في البلاد تزينات تشبها بما وقع عند عزل الوزير خزندار ، وقد علموا ما بعثهم على ذلك إذ ذاك ، وأما هاته فكانت امتثالا لما أشير به عليهم بالإيعاز من الإتباع ، فحدث في هاته المدة أمور في الحكومة والقطر.

فمنها : تفاقم الأمر في نازلة دي صانسي ، وخلاصتها أن هذا الرجل الفرنساوي كان منح في وزارة مصطفى خزندار أن تعطى له أرض قدرها أربعمائة ماشية كل ماشية كيل مائة وإثنين وتسعين حبلا ، وكل حبل طوله خمسون ذراعا ، على أن تكون الأرض قابلة للزرع والسقي ، ويعطى له ذلك المقدار على أربعة أقساط مهما وفى بشروطه في سنة يعطى له قسط ، وعلى أن تعفيه الحكومة من جميع الأداآت ، واشترط عليه أن يربي في الأرض

٣٠٣

المذكورة أنواعا ثلاثة من الحيوانات ، وهي : الخيل ، والبقر ، والغنم ، في كل مائة ماشية عدد خاص من الأنواع المذكورة على أن تكون الأنواع من أحسن الموجود في القطر أو خارجه إلى غير ذلك من شروطه ، وهو يبيعها لمن شاء وليس للحكومة شيء في عوض ذلك إلا تحسين الأنواع المذكورة في القطر ، فمضت آجال منذ قبوله للأرض الأولى وادعت الحكومة عدم وفائه بالشروط وادعى هو التعلل بأنها هي لم توف له أيضا حيث طلب الإعفاء من الأداآت التي بواسطتها أيضا ، وكان ذلك في مدة وزارة الوزير خير الدين فآل الأمر بعد أن كادت أن تفصل النازلة بالمرة ، وبعد أن عقد لها مجلس من متوظفي الحكومة إلى إجراء مطلبه وأخذه القسط الثاني من الأرض ، وإسقاطه كل دعوى فيما تقدم تاريخه ، فلم يوف بما اشترط عليه أيضا وادعى أن سبب ذلك تداخل تونس في حرب الروسيا وأن الأرض التي أخذها ليست كاملة المقدار وأنها ليست بكاملة الصفات وأنها لم تعف مما هو مشروط وأن الحكومة لم تحم حقوقه من التعدي عليه من الأهالي ، فعقد لذلك مجلس تحت رئاسة الوزير ابن إسماعيل في مدة وزارة الوزير محمد ، وطالت المراجعات بين الحكومة وبين دي صانسي والقنسلاتو إلى أن ولي الوزير ابن إسماعيل الوزارة الكبرى فحرص في إتمام النازلة وتخليص الأرض من يد المذكور ، وانعقد لذلك مجلس من متوظفي الحكومة من الأهالي والفرنساويين وتكررت المراجعات إلى أن استقر الرأي على أن لا حق للكنت المذكور ، فأرسل الوزير ثلاثة من متوظفي الحكومة مع مصاحبة قنسل أوستريا لحوز الأرض المذكورة والشهادة على كيفية الحوز ، وقبيل إرساله أعلمه قنسل فرنسا بأن الأولى الصلح في النازلة بأن يضرب لصاحب المنحة أجل ثان للوفاء بشروطه ويسقط جميع دعواه فإن لم يوف تخلص دولة فرنسا الأرض منه وترجعها لحكومة تونس ، وبدون ذلك لا يمكن تسليم الأرض إلا بمجلس تحكيم مختلط وأنه لا يسمح لأتباع الحكومة بالدخول إلى الأرض وإن أتوا للإستيلاء يجدون من يعارضهم من أتباع القنسلاتو ، فلم يقبل منه ذلك. وعند وصول الرسل منعهم أتباع القنسلاتو من الدخول بالكلام فرجعوا وكتبوا التسجيل حالا فورد من قنسل فرنسا طلب أربعة مطالب :

أولها : طلب الترضية من الحكومة.

ثانيها : إلقاء المسؤولية على من تسبب في النازلة.

ثالثها : عقد مجلس مختلط للنظر في إثبات دعاوى دي صانسي أو عدمها.

رابعها : الجواب عن ذلك قبل مضي يومين وإلا فإنه يقطع الخلطة.

وشاع بالإيعاز أن المراد بإلقاء المسؤولية هو عزل الوزير فاضطرب الوالي والوزير واشتد الخوف ، وقال بعض الأجانب أن قطع الخلطة لا يعقبه الحرب فتربصوا حتى تعلم الدول ولعله يكون منهم التداخل ، فتفصل النازلة بوجه آخر ، ولم يقع من أحد القناسل جواب مقنع في عدم خوف الحكومة لعدم وصول الأخبار التلغرافية وضيق الوقت ، ولم يعلموا الدولة العثمانية وسعى أمير اللواء إلياس عند القنسل بالوجه الخصوصي بأن يكون

٣٠٤

الوزير في أمان ويجاب لجميع المطالب على أن يعزل الكاتب الذي توجه في النازلة وهو الحاذق الفطن المتفنن دابيد سنطليانه الذي على صغر سنه كان يحسن سبع لغات ، ومطلع على السياسة ونصوح لتونس كأعز النصحاء ووفى بجميع لوازم وظيفته ، ويقال إن سبب الرضاء بعزله هو شخصيات نفسانية ، فأرسل الكاتب استعفاءه قبل العزل ، وقبل وقوع الرضا الشفاهي بأن يكون ذلك نهاية المسؤولية التي هي إحدى المطالب ، ووقعت الإجابة إلى المطالب من الوالي بعد أن كتب تلغرافا إلى وزير خارجية فرنسا بأنه يريد أن يرسل له رسولا خاصا ليشرح له النازلة ، فأجيب بواسطة القنسل : بأن لا فائدة والحالة هاته في ذلك ، وأن القنسل معتمد من قبل دولته ، فأجاب الوالي حينئذ بالقبول ونزل الوزير ابن إسماعيل إلى القنسلاتو باللباس الرسمي ترضية عن الواقعة ، ثم عقد مجلس يرأسه موسيو فولون أحد أعيان الحكام الفرنساويين وكان رئيس مجلس التحقيق بالجزائر وهو رجل منصف عفيف ، وأعضاء المجلس إثنان تونسيان واثنان فرنساويان ، وبعد التروي في مجرد دعاوى دي صانسي هل هي واقعة أم لا عدا دعوى التعطيل بالحرب ، استقر الرأي على أن مقدار الأرض بالقيس الهندسي الذي لم يجر بكيفيته العمل في تونس هو ناقص ، وأن صفتها مطابقة للشروط ، وأن الإعفاء لم يقع لأن شروطه لم نقع ، وأن حماية الحقوق موفاة من جهة الحكومة ، ثم بقيت الأرض بيد دي صانسي إلى الآن ، وعند قبول الشروط كوفىء أمير اللواء إلياس بولايته مستشارا ثانيا بالوزارة الخارجية.

ومما حصل أيضا أنه ورد على تونس أحد الفرنساويين وطلب إنشاء مرسى أمنية للسفن على شاطىء قرطاجنة قرب حلق الوادي وألح على ذلك ، وتخوف من منعه فأعطي خمسة وعشرين ألف فرنك لكي لا يتشدد ، وأعطى إلى أمير اللواء إلياس عشرة آلاف ريال لتوسطه عنده بأن يرضى ولا تعطى المرسى ، وكذب في الصحيفة الرسمية أن كون إعطاء المال كان بسبب طلب قنسل فرنسا.

ومنها : جعل موكب لإحراق تذاكر الكبون أي الفائض الذي استخلص من مبدأ الكومسيون إلى ذلك الوقت ، وجازى الوالي الوزير ابن إسماعيل على ذلك الإحراق بالسيف المرصع الذي أنعم به من طرف الخلافة.

ومنها : أن أحد العمال من أشراف مساكن ولي على قبيلة المثاليث فادعى عليه بأنه أخذ منهم زائدا عن موظفات الحكومة نيفا ومائتي ألف ريال ولم يحرر الحساب على مقتضى الإنصاف المطلوب ، فطلب تحرير الحساب بمحضر أعيان من ثقات الحكومة فلم يجب وقبض به إثنان من أعوان الوزير ومنعوه من الخروج من داره إلى أن تخلص منهم بحيله ورمى بنفسه من إحدى طواقي علوه والتجأ جاريا إلى قنسلاتو إنكلترة فدخل بابها صائحا مستغيثا وأغمي عليه ، ولما أفاق سأله القنسل عن سبب حاله فقرر : أنه عذب بربط يديه وإحراق الحطب في وسط بيته والسكر فيها وصب الخمر أو القاذورة على رأسه ، وغير

٣٠٥

ذلك من أنواع التعذيب ليؤدي المال ، وأخذوا منه أجرا على ذلك خمسة عشر ألف ريال ، وآل الأمر إلى طلب القنسل إعادة الحساب فامتنع الوزير من ذلك وحصلت بينه وبين القنسل نفرة ودامت مدة إلى أن أبدل القنسل المذكور لفراغ مدة خدمته بالسن ، وهو سر ريتشاردو ودورقته دولته ثم جاء خلفه وصولح العامل المذكور بأقل من ربع ما ادعي عليه يدفعه على أقساط.

ومنها : أن أحد أغنياء الساحل الملقب بابن الحفصية ادعى عليه بأنه اشترى زيتا من الوزير وكتب عليه حجة بنحو ثلاثين ألف ريال فتلطف بالتخلص فلم يفد ، ثم طلب أن يتوجه إلى جهة الإفرنج ليستقرض منهم ويدفع ، فأرسل معه أحد الأتباع لمراقبته ولما وصل تجاه قنسلاتو فرنسا دخلها مستغيثا فتلقته أعوان القنسلاتو وقرر نازلته. واجتهد القنسل في حمايته لما ثبت عنده ظلمه وحماه من ذلك ولم يخرج من هناك إلا وهو وجميع عائلته تحت الحماية الفرنساوية ، وتفاقم الأمر في الساحل على ذلك النوع إلى أن كتب أحد القناسل إلى نوابه بقبول كل من يلتجىء إليهم ، وكتب تقرير فيما هو واقع فأحس الوزير ابن إسماعيل بذلك فاستعفى من ولايته عاملا على الساحل وتلطف للقنسل بأن يكون ذلك ختام النازلة فانفصلت على ذلك.

ومنها : أن أحد التجار الملقب بالصباغ الذي تقدم ذكره عند الكلام على الوزير مصطفى خزندار أقرض أهل مساكن في نكبة الساحل العامة سنة ١٢٨٠ ه‍ أموالا سلما على الزيت ، وتضاعف أمرها إلى أن عجزوا وسجنوا مدة طويلة فلما ولي الوزير ابن إسماعيل على الساحل توسط في الصلح مع التاجر على أن يتحمل هوله بما يطلبه منهم وهم يدفعون ذلك للوزير على أقساط فسرحوا على ذلك ، ونقل الناس عن التاجر المذكور أن المال أسقطه هو عن الوزير ابن إسماعيل لتوسطه في إرجاع بستان الوزير مصطفى خزندار بمنوبه ، الذي كان دفعه في الصلح عن مطالب الحكومة منه كما سبق ذكره ، وإن لم يرجع البستان إلا لورثة خزندار عند موته وإنما فعل التاجر ذلك للعلقة بينه وبين خزندار المذكور ، وبقي الوزير ابن إسماعيل يستخلص المال من أهل مساكن شيئا فشيئا هكذا شاع عند من سمع من الصباغ.

ومنها : أن أحد أتباع الوزير ولي على قبائل جلاص فما لبث فيهم مدة إلا وأقبل منهم فوج عظيم شاكين إلى الوالي بأنهم ضربت عليهم غرامة بنحو مائتي ألف ريال زيادة على أموال الحكومة ، ووقع في النازلة مبادىء هرج إلى أن صولحوا برفع الغرامة وإبقاء العامل.

ومنها : تكاثر الجعائل على الوظائف من العمال فقسمت لذلك بعض القبائل كالهمامة وعاد ما تتخوف الناس منه من امتداد الأيدي إلى الأموال ، حتى أشاع بعض العمال أنه شريك للوزير فيما يستلزمه من أنواع الدخل ، وبسبب ذلك انحطت بعض المداخيل فلزمه غابة الزيتون سنة ١٢٩٧ ه‍ أخذها تابع الوزير ابن إسماعيل بسبعة وعشرين ألف مطر زيتا ،

٣٠٦

وأحجم عن الزيادة عليه سائر الأهالي لما أعلن التابع أن أخذه لها شركة مع الوزير وليست هاته مما يتقدم إليها الأجانب الذين لا يخشونه ، لأنها تحتاج إلى ممارسة الإعراب ولم تسبق لهم عادة باستلزامها.

ومنها : أن قبيلة تسمى بالقوازين من المنتسبين إلى أحد الصالحين وعددهم لا يبلغ إلى الثلاثمائة رجل ، يسكنون في الجهة الجنوبية في حدود الصحراء كانت الحكومة منذ قديم معفية لهم من الأداء لقلتهم وقلة كسبهم ، واستمر الأمر على ذلك إلى سنة ١٢٩٦ ه‍ ، فأريد إلزامهم بالأداء فامتنعوا متعللين بالعادة والحال ، فألح عليهم وتهددوا بالغصب فتحملوا بأداء شيء من المال سنويا على أنهم يوزعونه على أنفسهم من غير أن يتداخل العامل في عددهم ، وتوزيع المال عليهم مثل ما هو جار في بعض القبائل المتوحشين كورغمه ومطماطه وشبههما ، وكان الفرق بين ما يمكن أن تحصل عليه وبين ما أرادوا هم إعطاءه بأنفسهم لا يتجاوز الألفي ريال على ما قرره أحد العارفين بهم ، فامتنع الوزير من مساعفتهم وأذن بغصبهم واستعمل لذلك بعض القبائل الذين لهم معهم عداوة مع بعض العساكر الخيالة الغير المنضمين المعروفين بالجوانب والصبائحية ، فعاثوا فيهم وقتل منهم كثير حتى النساء والأطفال بتمزيق جثثهم رحمهم‌الله.

ومنها : أن رئيس أطباء الوالي طلب أن يكون بالحاضرة مستشفى على النحو الأروباوي ، فتمم ذلك بمال الأوقاف وانتظم أمره ، وقد وفيت فيه بكل ما تحتاج إليه المرضى وتتم به راحتهم ، حيث كنت أنا المباشر إلى إنشائه. وجعلت فيه قسما منفردا خاصا بالنساء وكل ما يصرف على الداخل من المستشفى يكون من فواضل مال الأوقاف ولا يعطي المريض شيئا ، ولهذا اشترط أن يكون الداخل إليه فقيرا ، كما جعلت به قسما منفردا خاصا بالأغنياء ويقوم المستشفى بجميع لوازمهم على أحسن حال علاجا وسكنا ويعطون عوض ذلك قدرا زهيدا من المال ، وجميع أدوات هذا القسم من الأسرة والخدم والفرش مماثل لحالة بيوت الأغنياء المقتصدين في مصاريفهم ، وفائدة هذا القسم أن كثيرا من أهالي الحاضرة إذا مرض لا يجد من يوفي له بواجبات العلاج للجهل من العائلة مع أنهم يستكثرون أجرة الطبيب فيندفع عنهم ذلك في المستشفى ، وهناك فائدة أكبر من هاته وهي : أن أغلب بلدان القطر خلية عن الأطباء وكثيرا ما يأتي منهم أناس للتداوي بالحاضرة فلا يجدون مأوى سوى منازل المسافرين التي تسمى وكائل وهي غير صالحة لمثل ذلك فتحصل لهؤلاء هاته الثمرة مع الإشتراك في الفائدة المقررة لأهل الحاضرة.

ومنها : أن الوزير ابن إسماعيل استوهب من الوالي الأوقاف التي كان حبسها علي باشا الثاني على الإناث من ذريته فسعى في جعل بينات تشهد بملكيتها في مدة وزارة خير الدين وعطلها إذ ذاك الوزير المذكور ، ثم بعد خروجه تمت الهبة وبقيت الأوقاف عنده بالهبة ، ولما تكاثرت عنده الأراضي المسماة بالهناشير المختلفة كبرا وصغرا باع منها عددا

٣٠٧

وافرا إلى لجنة فرنساوية وغيرها.

ومنها : أنه استوهب من الوالي أيضا مصيدة السمك ببلد المستير المسماة بالتنارة ثم أحالها إلى لجنة أخرى ، كذا شاع أيضا.

ومنها : عمل طريق بين باب البنات وباب سويقة من الحاضرة قرب دار الوزير وفيها أكثر مروره إلى جهة باب البحر.

ومنها : أن أحد الأغنياء من الأهالي توظف في الحكومة المسمى بمحمد عريف توفي رحمه‌الله عن غير ولد وكانت له بنات من إبنه ، فأوقف كسبه عليهن وعلى من يتزايد له ، وبعد وفاته وضعت زوجه حملها فكان ولدا ذكرا ثم توفي في أثر ذلك ، وكان للمتوفي ابن عم فتعاضد مع الزوجة وأرادا أن يعطلا الوقف المذكور ليصير المخلف إرثا فيرثان أغلبه ، واستعانا بتابع الوزير المسمى علي ابن الزي على مواعيد له ، وقد كان القاضي جعل وصيا على البنات وحفظ الوقف والمنقول فطلب التابع أن ينقل حكم النازلة من الشريعة إلى الوزارة على خلاف الديانة والعادة من تحكيم الشرع في المواريث والأوقاف ، وأرسل الوزير إلى القاضي مكتوبا بأن يسلم رسوم الوقف إلى كاتبين ، أحدهما من خواص الوزير ، والثاني من الوزارة ، مع الوعد في المكتوب بأن الوزارة بعد الإطلاع على الرسوم ترجعها وكان المتسلم لها أبو الزوجة وهو وكيلها مع أحد الكاتبين ، فطال الزمن وأبلغ الوصي إلى القاضي التخوف على الرسوم إذ شاع أنها سيقع فيها تغيير فأرسل إلى أبي الزوجة وإلى الكاتب اللذين تسلما الرسوم بطلب ترجيع الرسوم فأبيا فأحضرهما فامتنعا فسجن أبا الزوجة حيث أنه هو المتسلم وأخبر بأن الرسوم بعلو في داخل المحكمة الشرعية هو محل اشتغال الكاتب المذكور حيث كان من شهود الأوقاف ، وذلك العلو هو مكان اجتماعهم ، فبعد أن ألح القاضي على الكاتب وامتناعه أمر بأن يمنع من دخول العلو خشية إخراج الرسوم منه ، وبقي القاضي بمحل حكمه على الهيبة الشرعية حسبما سبق التعريف بذلك من كون أهل الشرع بتونس لهم من التعظيم والتوقير قريبا مما كان عليه الحال في الأعصر المعظمين للديانة وشعائرها ، فما كان غير بعيد إلا وعلي ابن الزي المذكور قارم فضرب باب العلو برجله وكسر قفله ، وأمر الكاتب بالصعود وإخراج الرسوم وأخرج المسجون وأمره بالذهاب حيث شاء وقدم على القاضي وباشره بما لا يناسب ذكره.

وفشا الخبر وعظم الأمر عند العلماء والعامة إلى درجة لم تعهد ، فأبطلت الدروس من الجامع الأعظم وأغلقت دار الشريعة وكثر اللغط وسرى إلى خارج الحاضرة ، وأبلغ أمر النازلة إلى الوزير ابن إسماعيل فأراد أن يهون النازلة بمنع تابعه من القدوم إلى تونس ، وأرسل معلما إلى القاضي بأنه سجنه فلم يلتفت لذلك العلماء ، وتقدم الشيخ أحمد بن الخواجة شيخ الإسلام وجمع العلماء مرارا وأظهر أشد الإنتصار للشرع وكتب جميع المجلس الشرعي مكتوبا وأرسلوه إلى الوالي قصدا بلا واسطة الوزير على خلاف المعتاد ،

٣٠٨

وقدم به رسولهم على الوالي في مجلسه العام فقرىء عليه فإذا فيه تفصيل الواقع والإشارة إلى أن الخطب عظيم ، فاهتز الوالي وتوقى عاقبة الأمر وأحضر الجاني وأمر بنزع رتبته وحبسه ثم نفيه إلى حصن جربه ، وقدم على أهل المجلس باشكاتب ووزير الشورى وتأسف لهم على ما وقع وهدأ بالهم بما صدر من الحكم فاقتنعوا في الجاني بما وقع ، ولكنهم طلبوا مواجهة الوالي وقصوا على باشكاتب المذكور ما هو حال بالقطر مما تقدم شيء منه ، إلى أن بلغ الحال إلى تلك الدرجة وتوقعهم لما هو أعظم ، وكان شيخ الإسلام يبكي على حالة من لا أرب له في الدنيا وكل تكلم بما بدا له من فظاعة الحال فأبلغ باشكاتب ما سمع وما رأى فاضطربت أفكار الوالي وتكاثر الكلام في الناس وكانوا كلهم على كلمة واحدة في اتباع أهل المجلس الشرعي ، ومما ذكر إرادتهم إنهاء الأمر والشكاية إلى خليفة المسلمين وطلب إجراء ما تضمنه الفرمان المؤرخ في شعبان سنة ١٢٨٨ ه‍ من إجراء العدل والإنصاف في الرعايا ، وبلغ الوالي قصد العلماء وهو طلب تشكيل مجلس للنظر في المصالح وفي أعمال المأمورين لكي لا يقع مثل ما وقع ، وخشي مما شاع من تداخل الخلافة الكبرى لظنهم أن السلطان لا يرضى بضياع أهالي تونس لمخالفة السيرة الإدارية لما هو مشروط في الفرمان السلطاني ، سيما وقد بلغ الأمر إلى ما هو راجع إلى الشرع وحمايته وأن ذلك أيضا يجري إلى تداخل بقية الدول العالمين بقبح السيرة ، مع كون الصدر بالدولة العثمانية إذ ذاك هو خير الدين باشا الذي يراه عدوا له ، فأرسل الوالي إلى العلماء ثانيا يقول لهم : أمهلوني بضع أيام ، فإن جعلت ترتيبا سياسيا يقنعكم فاقدموا إليّ حينئذ شاكرين وإلا فلكم أن تبدوا ما يظهر لكم ، وكان هذا رأي أشير به على الوزير بأن يعمل كما قيل : «بيدي لا بيد عمر» (١) وخشية تفاقم المطالب على ذلك النحو ، ووقع إذ ذاك مبادىء إنحلال في عزم أهل مجلس الشريعة لأن رئيسهم تقرب إليه الوزير سرا ، فانحط حرصه وتوجهت أطماع البعض إلى المسابقة لإرضاء الوزير فأجابوه : بنعم ، ثم جمع الوالي وزراءه وأعلمهم متأسفا من مطلب أهل الشريعة بأنه يريد أن يجعل مجلسا مركبا منهم ، أي من الوزراء ورؤساء الإدارة دون غيرهم من الأهالي للنظر في المصالح وجريان السياسة ، فأجابوه : بأن ما يظهر له حسن فهو حسن ، وكان هذا الجمع من الوزراء والمستشارين مشتملا على جميعهم حتى أن الوزير حسين كان إذ ذاك قدم من إيطاليا لمصالح في مأموريته فصادف الواقعة ، وكان ممن وافق الوالي على رأيه في جعل المحتسب والمحتسب عليه واحدا خلافا للمعقول ، ولما يعلم من طبعه من لزوم الإحتساب الحقيقي على تصرف المأمورين بثقات من الأهالي إلى غير ذلك من أوجه العدل ، ومع هاته الموافقة فلم يسلم من القدح.

__________________

(١) هذا المثل قالته ابنة الزباء ملكة الجزيرة وقنسرين لما وقعت في أيدي قصير وعمرو ، وكان لها خاتم فيه سم فمصته مفضلة أن تقتل نفسها قبل أن يقتلها عمرو انظر جمهرة الأمثال للعسكري ١ / ١٨٥ رقم المثل (٢٩١) والقصة في صفحة (١٩١).

٣٠٩

ثم أن الوالي أرسل لأهل الشريعة يعلمهم بأنه أنشأ مجلسا مؤلفا من عشرة أعضاء تحت رياسة الوزير ابن إسماعيل وأعضاؤهم الوزراء والمستشارون وبعض رؤوساء الإدارة ، ولما بلغ لأهل الشريعة ذلك ، قالوا : ليس قصدنا المتوظفين لأنهم دائما تحت الأمر ولا خبرة لهم بما في أطراف القطر ، وإنما المراد أن يكون المجلس من المتوظفين والعلماء وأعيان من البلاد والعربان ولا أقل أن يكون عددهم ثلاثين عضوا ، وأنهم لا يقصدون إلا مصلحة البلاد لأنهم ليس لهم غرض إلا هناء القطر وهناء الوالي ، وقيل : إن قنسل فرنسا صرح بأنه لا يتعرف بالمجلس وأنه إن أراد الوالي الإستعانة بعساكره لردع الطالبين فهو حاضر له ، حيث أن طريقة الوزير هي التي تبلغه إلى قصده كما ذكرناه في محله ، ثم لما بلغ الوالي جواب العلماء أرسل إليهم بأنه يزيد إثنين من رؤساء المتوظفين وأن هذا المجلس ينظر فيما يقتضيه الحال من الكيفية ويجري العمل به ، وكان في أثناء هاته الأيام دبت السعاية بالترغيب لبعض العلماء والترهيب لهم من تداخل الأجنبي بلا مستند ، فرضي عمدهم بذلك وكان سببا في تمكن الفيض على من زيد حيث انتهى رضاء المقترحين عند ذلك وصرح الوالي بما يشف عن ذلك والله المطلع على السرائر.

ثم جعل هذا المجلس في نفس الأمر إذا اجتمع يعرض عليه ما يريد الوزير والأغلب أن يكون المعروض هو بعض النوازل التي تعرض بقلة ، ولما كان أغلب الأعضاء يسايرون الوزير لم يظهر لوجوده من أثر إذ لا يتداخل في نصب ولا في عزل ولا سيرة عامل أو رشا وشاهد ذلك الخارج ، فإنه لم يمض عليه شهران حتى وردت الرسل على شيخ الإسلام بأن يتشفع في الجاني على الشرح فلم يوافق جهرة بل أظهر زيادة الامتناع ثم سودت سرا بطاقة إلى المنفي ليكتب على نمطها مكتوبا لأهل المجلس الشرعي ، ولما ورد مكتوبه على نحوها كتبوا إلى الوالي مستشفعين بعد أن امتنع بعضهم ، وقيل : عندما سمع بذلك! ليت شعري ما هو وجه كتبهم مع علمهم بالحقائق.

ومنها : أنه شرع الوزير أثر ما تقدم في بناء دار شيخ الإسلام المذكور بتونس وكذلك داره بجبل المنار ، وكثر تردد تابعه الجاني المذكور عليه حتى نشأ عنه قيل وقال يسوء جانب العلم والخطة.

ومنها : أنه اشتكى بعض السكان في مطلب له من تابع الوزير المذكور إلى القاضي ، فلما دعي للجواب امتنع وورد الإذن إلى القاضي الشرعي بأن المذكور لا ترفع نوازله إلا للوزارة فليس له النظر فيها ، وقد علمت سابقا ما هي حالة احترام الشريعة وحكامها.

ومنها : بناء محل للكرنتينة أي الإحتماء للواردين من الأقطار التي يكون بها مرض عام معدي ، وبني ذلك بحسب رغبة الأجانب وحرص رئيس أطباء الوالي وجعل له طبيب خاص ، وكان بناؤه بإحدى المراسي المسماة غار الملح.

ومنها : حصول الهرج في القبائل بالجهة الغربية حتى ادعى قبائل الجزائر التعدي من

٣١٠

قبيلة وشتاته التونسية ، فأرسل عليهم الوزير بعض أتباع الحكومة وشاع أنهم اغتصبوا منهم نحو ثمانمائة رأس من البقر أعطوهم إلى قبائل الجزائر وأخذوا لأنفسهم وكبيرهم خمسمائة رأس من البقر.

ومنها : أن تابع الوزير ابن إسماعيل استلزم لزمة الصاغة ، أي دخل الحكومة مما يؤخذ على المصوغ المباع من الفضة ، فادعى على أحد أهالي القيروان الأغنياء من الذين يتعاطون التجارة بأنه أخفى ما يلزم الأداء عليه للزام ، وسجن وكاد أن يفلس وراد لنفسه وجها للحماية في المستقبل.

ومنها : أن شركة طليانية طلبت مد سلك كهربائي بين تونس وإيطاليا ولم يجبها الوزير إلى ذلك ، وكان ذلك سببا في تعكير الخلطة مع إيطاليا بدعوى أن شروط أصل إنشاء التلغراف لا يقتضي منعهم.

ومنها : جعل أداء على العجلات التي في الحاضرة حسبما هو جار في سائر البلدان لإصلاح الطرق.

ومنها : منح لجنة فرنساوية لإنشاء مرسى في شاطىء البحيرة بالحاضرة بعد أن طلبت أن تكون المرسى حول حلق الوادي ، مع إنشاء طريق حديدية إليها من الحاضرة مارة على طريق رادس فمانعت في ذلك الشركة الطليانية التي اشترت من الشركة الإنكليزية الطريق الحديدية الواصلة بين تونس وحلق الوادي المارة على العوينة مستندة إلى شروطها وكاد أن يتفاقم الخلاف إلى أن أرسى على ما تقدم.

ومنها : منح اللجنة الفرنساوية المذكورة وهي صاحبة طريق الحديد الواصلة إلى الجزائر ، بأن تنشي طريقا حديدية إلى الساحل وأخرى إلى ابن زرت وأن تستبد بالطرق الحديدية في المستقبل إلى أي جهة.

ومنها : أن أحد أقارب صهر الوزير ابن إسماعيل قتل حلاقا بإطلاق مكحلة عليه في دكانه لمشاجرة بينهما ولم يقتص منه.

ومنها : أن أحد التجار الطليانية كان يدعي بأن جده كان أتى لمحمود باشا الذي توفي سنة ١٢٣٩ ه‍ بشيء من السلع ولم يأخذ ثمنه ، وهو نحو خمسة عشر ألفا وكانت نشرت النازلة مرارا ولم تقبل حتى عند الكومسيون المالي المختلط ، وحفيد ذلك التاجر صهر لأمير اللواء إلياس المتقدم ذكره فأعطى حينئذ ما يطلب ، ولما كانت مالية الحكومة ضيقة والكومسيون غير متعرف بالدعوى أعطي الطالب أرضا قبل إن قيمتها نحو ستين ألفا ، ولما ورد الإذن من الوزير على الكومسيون بأن يأذن وكيل أملاك الحكومة بتسليم الأرض المذكورة للطالب توقف المحتسب العام الفرنساوي في وجه ذلك ، ولكن قد تمكن الطالب من الأرض.

ومنها : أن في رأس سنة ١٢٩٧ ه‍ صنع بعض أتباع الوزير مصحفين على النحو الذي

٣١١

تقدم في وزارة خير الدين وقدموهما للوالي والوزير ابن إسماعيل في موكب بإسم الإهداء من الأهالي ، وانظر ما هي الخصلة التي كانت سببا لذلك ، ثم في ربيع الأول من تلك السنة قدموا للوزير أيضا مثل ما تقدم سيفا مجوهرا ، ثم في شوال من تلك السنة قدموا له أيضا دواة مجوهرة بقلمها بإسم اليهود من الأهالي ، لكن الخصلة التي استحقت ذلك لم تعين ولا في واحدة من تلك الأشياء.

ومنها : أن أحد المهندسين الفرنساويين كان ادعى أنه مطالب للحكومة بمال مدة وزارة مصطفى خزندار وتؤملت مطالبه فلم تقبلها الحكومة ، وكذلك عند انتصاب الكومسيون المالي عرضت عليه تلك المطالب واستقر الأمر على عدم قبولها ، ومهما ادعى بها لم تقبل ولا وجدت قناسله مستندا لتدعيم دعواه ، ففي وزارة الوزير ابن إسماعيل قيل أن يجعل فيها تحكيم وعقد لذلك مجلس مختلط من التونسيين والفرنساويين ورئس عليه أولا أحد رؤساء الأحكام فلون الذي تقدم ذكره في نازلة دي صانس غير أنه لم يقبل ، كأنه علم غير ملائمتها لما هو عليه فقدم للرياسة غيره وصدر الحكم على الحكومة بأدائها للمذكور نحو ثلاثمائة ألف وخمسة وخمسين ألف فرنك.

ومنها : أن التاجر الصباغ الذي تقدم ذكره أيضا كانت له دعوى من نوع السابقة ولم تقبل لا من الحكومة ولا من الكومسيون المالي فكذلك الوزير ابن إسماعيل قبل فيها التحكيم ، وصدر الحكم بأداء الحكومة نحو أربعمائة ألف وخمسين ألف فرنك ، والحال أن الحكم كان صدر من الكومسيون المالي الذي هو مختلط من تونسيين وفرنساويين وطليانيين وإنكليزيين وفيه أحد كبراء الموظفين من دولة فرنسا وانتصابه باتفاق الدول المذكورة على التراضي به في جميع النوازل المالية ورد هو كلا من المطالب المار ذكرها ، واستمر العمل بذلك أزيد من عشرة سنين مع ما فيه الحكومة من العسر المالي كما تقدم شرحه.

وأضيف إليه استيهاب ما بقي على ملك الحكومة من مهم الأملاك للوزير أبي إسماعيل حتى تمم ما بقي مما يعتبر منها عندما تزايد له مولود ، بل حتى الأحباس التي أوقفتها الحكومة على المدرسة الصادقية أراد أن يأخذ منها أهمها هو وبعض من المقربين عنده بوجه الإنزال أي الكراء المؤبد ، وعند امتناع القاضي من ذلك جعلت الأوقاف المذكورة من أملاك الحكومة وخوطب بذلك رئيس الفتوى من المالكية فأنزلوها على يده ، فالعمال يشترون الوظائف والأهالي تتحمل أعمالهم والمالية والسياسة والشريعة على ما تقدم ذكره ، وآخر المنح التي بلغتنا أنها حصلت في هذا العهد أن وقع الإلتزام إلى دولة فرنسا بأن لا يحدث شيء جديد في القطر من الأعمال العامة النافعة إلا بعد عرضه على الفرنساويين ، فإن لم يوجد منهم من يريد عمله فإذ ذاك يسوغ أن يباشره غيرهم بحيث وقع التقيد في ذلك بإرادتهم ، وهذه خلاصة التاريخ في القطر التونسي إلى هذا العهد وهو مبدؤ سنة ١٢٩٨ ه‍.

تنبيه : قبل طبع هذا الجزء طرأ الحادث العظيم على القطر ، وسنفرده بذيل خاص في

٣١٢

الجزء الثالث إن شاء الله تعالى عند الكلام على سياسة فرنسا الخارجية.

فصل في بعض عوائد أهل القطر وصفاتهم

مطلب في الأوصاف العامة

قد تقدم أن السكان مسلمون إلا ما قل من يهود ونصارى الذين مجموعهم نحو مائة ألف ، وأما التبصر في أحوال الديانة فإنما هو في المدن وبعض القرى وأما في القبائل الساكنين بالخيام فلهم معرفة إجمالية خصوصا ذوي الثروة والذين تنشأ في أوطانهم زوايا لبعض الصالحين ، فيرشدهم مشايخ الطرق ، وأما باقيهم فيعرفون من عقائد الإسلام الوحدانية لله ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقة وربما كان بعضهم لا يعرف عدد أوقات الصلوات وغيرها من الفروض العينية ، وكأني بإثمهم يتحمل به من يعلم حالهم ولا يرشدهم ، والكل على مذهب الإمام مالك رضي‌الله‌عنه إلا قليلا منهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه ، والجميع أهل سنة إلا بعض أهل جربة فهم على مذهب الإعتزال ولهم علماء ومساجد خاصة ، وللأهالي تعظيم لشعائر الدين ومنها الحياء فإن الإبن سيما من الأعيان لا يجلس أمام والده إلا بإذنه ولا يستنشق التبغ ولا يدخن به أمامه أبدا وكذلك أمام والدته ، هذا فضلا عن الكلام الفاحش أو خطاب زوجته بل حتى إذا كان له ابن صغير فإنه لا يحمله ولا يخالقه أمام والديه ، ويقبلون أيدي والديهم في السلام عليهم وربما كان ذلك كل صباح وهي تحية التلامذة لمشايخهم وتحية السادات الأشراف ولجميع الأهالي تعظيم كامل لهم ، وأما سلام الأكفاء فهو التقبيل في الكتف إلا الأعراب فإن بعضهم يقبل يد بعض أو رأسه ، ولا تكاد تسمع أحدا من ذوي المروءة يغني فضلا عن النساء اللاتي صوتهن عورة (١) ، بل

__________________

(١) اعلم أن القول المعمول عليه في المذاهب الأربعة في صوت المرأة أنه ليس بعورة ، وكيف يقال إنه عورة وقد ثبت في الحديث أن الرسول رخص لجارية في الغناء عند إهداء العروس إلى زوجها فقد روى البخاري في الصحيح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة ما كان معكم لهو فإنه الأنصار يعجبهم اللهو» [الحديث رقم ٥١٦٢] وفي رواية الطبراني عن شريك عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني»؟ قالت عائشة : تقول ماذا؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقول : (أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم فلو لا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم ولو لا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم).

الحديث في مجمع الزوائد ٤ / ٢٨٩ وفي فتح الباري ٩ / ٢٨١ شرح حديث (٥١٦٢).

ورواية الطبراني هذه صحيحة ففيها زيادة كما هو ظاهر على رواية البخاري وهي الضرب بالدف والغناء بهذه الكلمات ، ومعنى الجارية في اللغة : الفتاة كما هو مذكور في القاموس المحيط ٤ / ٣١٣ مادة (جرى) وفي اللسان : الجارية : الفتية من النساء. انظر لسان العرب ٢ / ٢٦٧ مادة (جرأ).

وروى البخاري أيضا عن عائشة رضي‌الله‌عنها : «دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحول وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند النبي ـ

٣١٣

__________________

ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «دعهما» فلما غفل غمزتهما فخرجتا». [الحديث في الصحيح برقم ٩٤٩] قال ابن حجر قوله : «جاريتان» زاد في الباب الذي بعده : من جواري الأنصار ، وللطبراني من حديث أم سلمى أن إحداهما كانت لحسان بن ثابت وفي الأربعين للسلمي أنهما كانتا لعبد الله بن سلام وفي العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فليح عن هشام بن عروة : «وحمامة وصاحبتها تغنيان» وإسناده صحيح ولم أقف على تسمية الآخرى لكن يحتمل أن يكون اسم الثانية زينب وقد ذكره في كتاب النكاح. فتح الباري [٢ / ٥٦٠ حديث رقم ٩٤٩] وقال أيضا : ... لكنه عدم انكاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره ، وقال أيضا : واستدل به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره. فتح الباري ٢ / ٥٦٣.

وكذلك روى البخاري عن خالد بن ذكوان : قالت الربيع بنت معوّذ بن عفراء : جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل حين بني عليّ فجلس على فراشي كمجلسك مني. فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من أبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن : «وفينا نبي يعلم ما في غد» فقال : «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين» [الحديث رقم ٥١٤٧].

قال ابن حجر : وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين :

وأهدى لها كبشا تنحنح في المربد

وزوجك في النادي ويعلم ما في غد

فقال : «لا يعلم ما في غد إلا الله» والحديث في السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ٢٨٩ وفي المستدرك للحاكم ٢ / ١٨٥ وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٨ / ١٢٩ وفي اتحاف السادة المتقين للزبيدي ٦ / ٤٩٣ و ٥٥٨ وفي الدر المنثور للسيوطي ٣ / ١٥ و ٥ / ١٦٩ وفي فتح الباري ٩ / ٢٥٤ [الحديث ٥١٤٧].

قال المهلب «في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح وفيه إقبال الإمام إلى العرس وإنه كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح» ا ه. وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ ببعض المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفهن ويتغنين ويقلن :

نحن جوار من يني النجار

يا حبذا محمد من جار

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله يعلم إني لأحبكن» [انظر سنن ابن ماجه الحديث رقم ١٨٩٩ وهو في اتحاف السادة المتقين ٦ / ٤٩٤] وقال الحافظ البوصيري : «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» انظر مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة ١ / ٣٣٤.

وقال الزبيدي في كتابه إتحاف السادة المتقين ٤ / ٣٣٨ : «قال القاضي الروياني فلو رفعت صوتها ـ أي المرأة ـ بالتلبية لم يحرم لأن صوتها ليس بعورة». ا ه وفي فتح الباري كتاب الأحكام باب بيعة النساء [شرح حديث رقم ٧٢١٤] ما نصه : «وفي الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة». ا ه.

وذكر النووي في شرح صحيح مسلم ١٣ / ١٠ في شرح حديث كيفية بيعة النساء ما نصه : «وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة وأن صوتها ليس بعورة». ا ه. وقال ابن عابدين في حاشيته ٥ / ٢٣٦ : «ويجوز الكلام المباح مع امرأة أجنبية» وأيضا نقلا عن كتاب المجتبى : «وفي الحديث دليل على أنه لا بأس بأن يتكلم مع النساء بما لا يحتاج إليه وليس هذا من الخوض فيما لا يعنيه». وقال الشيخ زكريا الأنصاري في كتاب أسنى المطالب ٣ / ١١٠ ما نصه : «ثم إنّ صوت المرأة ليس بعورة على الأصح». ا ه.

فالحكم في صوت المرأة بعد هذا البيان أنه ليس بعورة إلا لمن كان يتلذذ بسماع صوتها فيحرم عليه الاستماع حينئذ. فإن قيل : أليس في قوله تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ـ

٣١٤

لهاته الصناعة أناس خاصون وفيهم من النسوة عاهرات وهن يسكن بديار في حارات مخصوصة.

وما ذكر من الغناء ومثله الرقص خاص بالحاضرة وأكثر البلدان بخلاف الأعراب فعندهم ذلك غير معيب ، كما أن الأكل في الطريق أو في الأماكن المكشوفة للمارة معيب تسقط به العدالة ، وكذلك دخول القهاوي تتجنبه أصحاب المروءة حتى أن الأعيان ليس لهم محل اجتماع عمومي وغاية تفسحهم بالمشي في الطريق النزهة أو أماكنهم الخاصة مع أحبابهم ، نعم يتساهلون في دخول القهاوي في أماكن النزهة خارج الحاضرة ولكن أعيان الأعيان لا يدخلونها أيضا ، والتدخين بالتبغ لا زال معيبا عند ذوي المروءة وليس ذلك إلا مجرد اتباع للعادة وإلا فلا فرق بينه وبين النشوق مع كثرة استعمالهم لهذا جهرة ، وحكم

__________________

ـ [الأحزاب : ٣٢] تحريم الاستماع إلى صوت المرأة؟.

فالجواب : أن الأمر ليس كذلك فقد قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ١٧٧ ما نصه: «أمرهن الله ـ أي نساء النبي ـ أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللّين كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المريبات والمومسات فنهاهن عن مثل هذا اه».

وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط ٧ / ٢٢٩ ما نصه : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي فلا تجبن بقولكن خاضعا أي لينا خنثا مثل كلام المريبات المومسات.(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي ريبة وفجور. قال ابن عباس : «لا ترخصن بالقول» وقال الحسن : «لا تكلّمن بالرّفث» ا ه وقال الكلبي : «لا تكلمن بما يهوى المريب» وقال ابن زيد : «الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل» وقيل : «لا تلنّ للرجال القول».

أمر تعالى أن يكون الكلام خيرا لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه مثل كلام المومسات ، فنهاهن عن ذلك. ا ه.

فيعلم من ذلك أنه ليس المراد بهذه الآية أنه يحرم عليهن أن يتكلمن بحيث يسمع الرجال أصواتهن ، بل النهي عن أن يتكلمن بكلام رخيم يشبه كلام المريبات المومسات أي الزانيات. فقد صحّ عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنها كانت تدرّس الرجال من وراء ستار. وفي تلخيص الحبير ٣ / ١٤٠ ذكر ابن حجر ما نصه : «فإنه ثابت في الصحيح أنهم كانوا يسألون عائشة عن الأحكام والأحاديث مشافهة». ا ه.

وفي كتاب المستدرك للحاكم ٤ / ١١ عن الأحنف بن قيس قال : «سمعت خطبة أبي بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم والخلفاء هلم جرا إلى يومي هذا فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من في عائشة رضي‌الله‌عنها». ا ه.

وفي التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٧ عند تفسير قوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) [النور : ٣١] ما نصه : «وفي صوتها وجهان أصحهما أنه ليس بعورة لأن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنّ يروين الأخبار للرجال». ا ه. ومنهن عائشة رضي‌الله‌عنها كانت تحدّث الرجال بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفتيهم حتى قال بعض من سمع حديثها : «إني سمعت صوت أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلم أر أحسن من صوت عائشة» ولم تكن تغيّر صوتها. وكذلك كانت تحدث بعض النساء من آل صلاح الدين الأيوبي حديث رسول الله للرجال. والأفضل أن يعلم النساء في المكان الذي يوجد فيه من النساء من هنّ أهل للتعليم من حيث الكفاءة والثقة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

٣١٥

الجميع شرعا على مذهبنا الحنفي الجواز ، وكذلك المعمول به من المذهب المالكي ، لابتنائه على مسألة الأصل في الأشياء الإباحة وهي مسألة خلافية ، فقالت طائفة : الأصل الإباحة حتى يرد المحرم ، وقالت طائفة : بالمنع حتى يأتي المبيح ، وقالت طائفة : بالتوقف والصحيح الأوّل لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩]. فجميع ما في الأرض خلق لمنفعتنا فنستعمل كل شيء في محله إلا ما ورد فيه المنع ، ويشهد له أيضا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» (١) وقوله عليه الصلاة والسلام : «دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» (٢) وكل من الحديثين منقول في الصحيح ، وكان ورود الحديث عقب السؤال عن أشياء لم يرد فيها حكم بالتحريم فدل على الإباحة.

وهذا التبغ لم يكن معروفا زمن البعثة وإنما عرف بعد الإكتشاف على أمريكا كما تقدم ، فيكون حكمه هو الإباحة الأصلية ، وكان الإستحياء من استعمال التدخين مطلقا أو النشوق أمام الوالد والكبراء مبني على أصل آخر غير التحريم ، وهو أنه لما كان فيه خلاف فالورع تركه إذ الورع هو ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس ، ولما كان الأصل في المؤمنين هو السلوك على أكمل الصفات فكأن أهل تونس يستحون من ترك الورع أمام ذوي المقام ، كما أنه لا يوجد في الحاضرة أماكن للملاهي أي الملاعب إلا في رمضان ، فتكون فيها أماكن للصبيان ليلا يلعب فيها بتصاوير من وراء الستار بالخيال من الصور في نور المصابيح ويسمى المكان خيال الظل ، وربما أحضر فيها نوع من السماع ، وصورة اللعب هي تشخيص حكاية بصور من الجلد على هيئة المحكي عنه ، واللاعب يتكلم على لسانها والجميع من وراء الستار بحيث يشخص للناظرين من خارج الستار كأن الواقعة مشاهدة وإن كانت الصور صغيرة طولها قدر شبر ، والأغلب أن تكون الأماكن وسخة ولا يدخلها إلا الصبيان وبعض من لا مروءة له من الرعاع لتقضية الأوقات فيما لا فائدة فيه سوى السخرية والضحك وإضاعة الزمان ، والأغلب في الحكايات أن تكون مضحكة مما يدركه الصبيان وربما شخصوا المستحيلات العادية كالغول والشيطان إذ هذا لا يرى ولا تعرف صورته بحيث يصح أن يقال إن تلك الملاهي لا ثمرة فيها إلا مجرد لهو الصبيان ، وكان الأصل في إساغتها ما نص عليه فقهاؤنا في كتاب الحضر والإباحة من جواز شراء اللعبة للصبيان ،

__________________

(١) الحديث في صحيح البخاري برقم (٧٢٨٩) وفي سنن أبي داود برقم (٤٦١٠) وفي صحيح مسلم الفضائل (١٣٢) وفي المستدرك للحاكم ٣ / ٦٢٦ وفي تفسير القرطبي ٦ / ٣٣٥ وفي مشكل الأثار للطحاوي ٢ / ٢١٢ وفي جمع الجوامع للسيوطي (٦٢٢٢) وفي مشكاة المصابيح للتبريزي (١٥٣).

(٢) الحديث في البخاري برقم (٧٢٨٨) ونصه : حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» والحديث في الشفا ٢ / ١٩ وفي سنن الدارقطني ٢ / ٢٨١.

٣١٦

فقاسوا عليه اتخاذ ملهى لهم ليلا في رمضان لكي يسهروا ولا يستيقظوا مبكرين فيوقظون والديهم ، إذ عادة الناس في رمضان هي السهر أغلب الليل ومنهم من يستغرق جميع الليل بحيث لا يشتغلون إلا قرب نصف النهار ، وكأن هاته عادة مبنية على العبادة إذ قيام ليالي رمضان بالعبادة مندوب إليه بيد أن الكثير يشتغل بالملاهي كسماع آلات الطرب في القهاوي أو لعب الورق المسمى بالكارطة وهو الكثير ، ولهم منه أنواع شتى أشهرها ما يسمى بالتريسيتي أو لعب النرد أو الدامة أو الشطرنج وهي الألعاب الموجودة في القطر ، ويوجد أيضا لعب المنقلة والخربقة بقلة في الحاضرة وبكثرة في غيرها ، لكن الأعيان إنما يسهرون في رمضان أو غيره بديارهم أو ديار أصدقائهم ، وبعضهم بعد صلاة التراويح يسردون كتابا في السير أو الحديث ثم يتسامرون بالكلام ، وبعضهم يتعاطى أحد الألعاب المذكورة.

وأما في غير رمضان فعموم الناس يبكرون إلى أشغالهم ولا يرجعون إلى ديارهم إلا عند الظهر للفطور ثم يعودون إلى أشغالهم إلى قرب الغروب ، وبعضهم ممن تكون ديارهم بعيدة عن محل أشغالهم يفطرون في حوانيتهم ويوجد في حارات الإفرنج ملاهي على نحو ملاهي أوروبا ، كما يوجد فيها قهاوي كثيرة على نحو قهاوي أوروبا ومنازل للمسافرين مثلها ، ولكن أعيان الأهالي يتحاشون عن الدخول إلى الجميع وإن كانت مخالطتهم مع الأجانب وغيرهم حسنة ، وقد كان لعموم الأهالي ولوع بالفروسية ولهم في مسابقة الخيل مواكب تسمى ملاعب يعقدها كبراء الحكومة أو كبار العمال ، ومن له انتساب إلى الأعراب خارج الحاضرة في إحدى الجهات المتسعة ، ويستدعون إليها الفرسان فيأتون بأحسن الملابس والسروج المزركشة بالذهب والفضة والسلاح مثل ذلك وتارة يلبس الفارس على رأسه شيئا من ريش النعام يسمى عروج ، والأصل فيه تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسيدنا حمزة في إحدى الغزوات بريش كما في عيون التواريخ (١) ، والحاصل أن لبس الفرسان جميل جدا ولهم براعة في الحركات الحربية ، فترى الفارس في حال السباق يطلق ويعمر مكحلته عدة مرار ، وتارة يطلق أربعة مكاحل كل بجعبتين ثم يطلق قرابينه ثم أربعة طبانجات ثم يخترط سيفه ، وجميع ذلك السلاح محمول عليه ولا يعطل له شيئا من خفة حركاته ، وتراه إذا اخترط السيف يصير بين كروفر ، وبعضهم في حالة السباق يدلي يده إلى الأرض فيحمل منها قبضة من تراب ، وبعضهم يفرش له بمحاذاة ميدان السباق رداء من حرير في نهاية الصفاقة ففي حالة الركض النهائي يمد يده ويرفع طرف الرداء ثم وسطه ثم آخره ، وبعضهم يركض فرسه وبينما هو في حملة السباق وإذا بالفارس يقف على رجليه فوق السرج ويطلق البارود ، ثم يجلس ويلتصق بدير الفرس ثم يلتصق بحزام الفرس ثم يقف على رأسه ويديه فوق السرج ورجلاه إلى فوق وعليهما مكحلة ، ثم يدفع المكحلة ويلتقفها بيده ويجلس ويطلقها ، كل ذلك والحصان في نهاية ركضه وجميع أعماله في بعض دقائق ، وهذا العمل

__________________

(١) كتاب عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي المتوفي سنة (٧٦٤) انتهى فيه إلى آخر سنة (٧٦٠ ه‍). كشف الظنون (١١٨٥).

٣١٧

الأخير من النادر في الفرسان. ومنهم من يلعب في دائرة لا يتجاوز قطرها عشرة أذرع والحصان في حالة الرباع بل رأيت من يركب على حصانه ويركز الحصان رجليه في الأرض ويرفع يديه معا ويلتفت يمينا فيطلق فارسه القرابينة ثم يرفع يديه كذلك ويلتفت شمالا فيطلق فارسه القرابينة أيضا ، والحال أنه عمرها في حصة رفع الحصان يديه ويستمر ذلك كذلك بالتتابع نحو نصف ساعة وليس بين الطلقة والطلقة إلا بضع ثوان من الدقائق الزمانية على غاية من السرعة والتتابع وهذا أيضا نادر ومنهم من يخترط السيف ويصير مع راجل أو فارس مثله في غاية الطعان والكر والفر.

والحاصل أنهم يشخصون حالات الحرب بالخيل على أنواع شتى وتكون إذ ذاك طبول الحرب تعزف ومعها مزامير للعربان وذلك أعظم ألعاب الأهالي التي يفتخر بتعليمها ويتبادرون في إتقانها ، وذلك مبني على أمر ديني وهو ما ورد من أن كل لهو حرام إلا ثلاث منها : «ملاعبة الفارس لفرسه» (١) وورد أيضا الحث على الفروسية (٢) وعلى السباق وأبيح فيه المخاطرة إذا كانت مع ثالث ، فلذلك كانت هاته الخلة مما يتنافس فيها من رجال الحكومة وغيرهم في جميع القطر ، لكن في هاته المدة الأخيرة تناقص الأمر منذ كثرت الكراريس وربما صار الكبراء يتنزهون عن اللعب بخيلهم جهرة ، نعم بقي ركوب الخيل مرغوب فيه كما أن الصفات الأولى لا زالت عامة في البلدان والأعراب وهو الحق ، لأنها من صفات الرجولية والدين ومما يشملها قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠]. وهاته الخلة تستلزم الرماية التي هي من مشمولات القوة المأمور بها في الآية الكريمة ، وقد تجرد منها أغلب أهل الحاضرة حتى أن بعضهم لا يكاد يستطيع أن يطلق طبانجة كما أنه لا زال في الحاضرة وبعض البلدان تعليم الخيل والبغال من نوع الهملجة وهي أن يرفع الحيوان يدا ورجلا معا من أحد شقيه على الإستقامة ثم الشق الآخر ليكون سيرها لينا لا يتعب الراكب بخلاف الخبب ، ثم يتقنون ذلك التعليم إلى أن يصير الحيوان به يماري الراكض ، ولهم في ذلك اعتناء بحيث تجد منهم جماعات يخرجون كل عشية صيفا وخريفا إلى حد الأماكن القريبة من الحاضرة النزهة كسيدي فتح الله قرب شوشة رادس أو منوبة في قهوة سيدي ابن الأبيض أو سبالة الأحواش ، وبعد الإستراحة هناك يركبون ويتسابقون بالسير المذكور ، وربما اعتنى بعض غير الأعيان حتى بالمسابقة على الحمير بالسير وقد يوجد بعض منها يسابق الخيل والبغال مع أن هاته يمكن أن تجاري الحصان في ركضه إذا لم يكن شديد الجري ، والخيل على

__________________

(١) الحديث في الدر المنثور للسيوطي ٣ / ١٩٣.

(٢) أحاديث السبق والرهان والحث على الفروسية كثيرة راجع صحيح البخاري كتاب الجهاد باب (٥٦) والترمذي أيضا باب (٢٢) والنسائي الخيل (١٤) وابن ماجه جهاد (٤٤) وأحمد بن حنبل في مسنده ٢ / ٢٥٦ وأبو داود جهاد (٦٠).

٣١٨

حسنها في القطر يعتنون بتربيتها وتهذيب أخلاقها كي تصير مساعدة للفارس في جميع أغراضه ، ثم إن الأهالي ينقسمون إلى ثمانية أقسام :

فالأوّل : الأصليون من البربر. والثاني العرب : وهم الذين قدموا عند الفتح ثم بعده على أجيال عديدة. والثالث الأندلسيون : وهم الذين قدموا عند تغلب الإسبنيول على بلادهم. والرابع الترك : وهم الذين وردوا عند الإستيلاء على تونس ثم من ورد منهم بعد ذلك. والخامس السودان : وهم الذين جلبوا من دواخل أفريقية لبيعهم. والسادس الجزائريون : الذين رحلوا بعد استيلاء الفرنسيس على الجزائر ، والسابع اليهود : وهم قدماء في السكنى ، والثامن : الوافدون من أوروبا.

فالأقسام الستة الأول تخالط نسلهم ولم يبق تمييز بينهم إلا قليلا من البربر في جهات الأعراض لا زالوا يستعملون لغتهم ، وكذلك قليل من السودان متميزون بلونهم وقليل من أهل الجزائر يتميزون بمجرد نحلتهم وانتمائهم واللون الغالب على الجميع هو لون البياض المشوب بسمرة ومنظرهم جميل يكثر فيهم الحسن وهم أقوياء سليمون أهل مروءة وتواضع وبشاشة وحسن معاشرة.

مطلب في التجارة :

اعلم أن أغلب الأهالي تقاصروا في هذا الميدان ، وقصارى الأمر أنهم يتجرون في البضائع التي تنفق في البلاد الإسلامية بإخراجها إليها ، ويجلب ما يروج من بضائعها في القطر ، مع أن أغلب الخارج منه والمجلوب إليه من بلاد أوروبا وكله منحصر في الأوروباويين إلا نادرا من الأهالي ، ثم أن قيمة التجارة بين الداخل والخارج لا يتجاوز معدلها الأربعين مليون فرنكا في السنة.

فأما البضائع الخارجة فهي : الحبوب من قمح وشعير وفول وغيرها ، وكذلك الزيت والصوف الساذجة والمنسوجة والقطن والإسفنج ، وبيض السمك ولحم نوع منه ومنسوجات الحرير والقطن والشاشية وأشياء أخر زهيدة.

وأما البضائع الداخلة فهي كثيرة فمنها : المنسوجات القطنية والحريرية والصوفية ، وأنواع الأخشاب والحديد والقرميد والسكر والقهوة وأواني النحاس وغير ذلك ، مما هو محتاج إليه في الحضارة ولا وجود له ، من نتائج البلاد. وحمل السلع إلى خارج القطر في السفن البحرية وقد أرسى بأعظم مراسي القطر وهو حلق الوادي في سنة ١٢٩٥ ه‍ مايتان وسبعة وخمسون باخرة وأربعمائة وثمانون سفينة شراعية كلها للأجانب إلا عددا يسيرا ، وأغلب الأجانب رواجا في التجارة هي التجارة الفرنساوية والطليانية.

وأما حمل السلع في البر فهو على ظهور الإبل والخيل والبغال والحمير والعجلات المسماة بالكرطونات ، وواسطة المواصلة هم فرق من تجار القطر يسمون بالحمارة تكون لهم دواب وافية ويكونون ذوي عرض وأمان تسلم إليهم التجار البضائع وهم يبلغونها إلى

٣١٩

جهاتها بعدت أو قربت ، ولكل جهة حمارون مخصوصون ولا يكون ذلك إلا بين البلدان ، وأما القبائل الأعراب فلهم قوافل يجتمعون عند قصد إحدى البلدان أو الأسواق التي تقام في أيام من الأسبوع بإحدى الجهات ، كسوق الخميس قرب الركبة وأمثاله ، ويحملون على دوابهم ما اشتروه ويرجعون إلى أماكنهم ، ولما كانت الطرق الصناعية قليلة تعطل أغلب التجارة زمن الشتاء في دواخل القطر ، لكن الطريق الحديدية المارة إلى الجزائر سهلت التجارة إلى الجهات الغربية كما أنه رتبت بواخر للبريد والسلع بين مراسي القطر الشهيرة ، زيادة على البرد التي هي ثمانية تأتي أسبوعيا من أوروبا ، فإثنان إلى فرنسا والجزائر ، وإثنان إلى إيطاليا ، وأربع إلى مالطا ، وقد يأتي غيرها على غير انتظام ، وليس للأهالي من السفن شيء إلا قليلا من ذات الشراعي لأهل جربة وصفاقس والساحل.

مطلب في ترتيب الأحكام والإدارة

الآن الوالي يجلس يوم السبت في كل أسبوع غالبا بمحل من قصر الإدارة الكائن في بلد باردو يسمى هذا المحل بالمحكمة ، وهو بيت كبير مستطيل وبصدره كرسي ذو درج مموه بالذهب وعليه تاج معلق ، والدرج مكسوة بالمحبر نوع من منسوج الحرير الثخين الغالي ، يجلس عليه الوالي ويوضع بجنبه زوج طبانجة ويقف عن يمينه وشماله على الدرج من حضر من أهل بيته ، ويقف الوزير عن يمينه من أسفل الدرج بحيث يكون مواجها إلى الجهة اليسرى من الوالي ويليه بقية الوزراء على حسب أسبقيتهم في الوظيفة ، ثم يليهم كبراء العساكر النظامية ثم رؤساء العساكر الخيالة غير النظامية المسمون بالأغوات ، ثم العمال والأظاباشية والكواهي أي الصنف الثاني والثالث من رؤساء العساكر الخيالة الغير النظامية ، وعند نهاية الصف عن اليمين يتممون الصف عن اليسار ، فإن زادوا جعلوا صفا ثانيا وراء الصف الأول ويجلس باشكاتب على مسطبة على يسار الوالي مقابلا لأول الصف الأيمن ، ثم يليه مسطبة طويلة يجلس عليها كتبة من أقسام الوزارات على حسب رتبهم ، ثم يقف تجاه الوالي عن بعد في آخر الصفوف نحو ستة رجال يسمون شواش السلام والشطار ، بلباس أحمر مقصب بالفضة وعلى رؤوسهم شواش حمر وشراباتها فضة وعليها مما يلي الجبهة قطع من النحاس الأصفر ومغروز فيها أنواع من ريش أجنحة الطير الطويل وبأيديهم معاول طوال من النحاس الأصفر يركزونها ويتكؤون عليها ، وعند جلوس الوالي في ذلك المجلس يرفع صوته كبير هؤلاء الشواش بكلام باللغة التركية معناه : دعاء بالنصر والتأييد للوالي ، ثم يرفع صوته بقوله : سلام ورحمة الله ، ثم يقف وراء هؤلاء رؤساء البوابة أي أصحاب الباب وتعزف الموسيقى العسكرية عند دخول الوالي لذلك المحل ويأذن إذ ذاك الوالي بإدخال أصحاب الشكايات ، فيرفع صوته رئيس البوابة بقوله : «باش حانبا» أي يا رئيس الحوانب أدخل ، وهو الترجمان بين الوالي والمشتكين لا لكون الوالي يحتاج إلى فهم لغة المشتكين بل لكونهم بعيدين في الوقوف عنه وربما يكون بعضهم لا يحسن الإلقاء

٣٢٠