صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

النعمة فكاد أن يبطل أهم فروع متاجر المملكة مع الأقطار الأجنبية ، فكان من الأكيد إزالة هذه العوائق بتيسير اشتغال الفلاحة والمعاملات ، وقد عرض فيما سبق قسم النظر على جنابكم صورة إحداث طريق اعتيادي بين الحاضرة والوطن المذكور حرصا على حصول الثمرات الأكيدة ، فلما وقع الآن ما نؤمل به إتمام هذه المصلحة بما لا يثقل مالية الدول مع استيفاء الشروط الواجب اعتبارها في مثل هذه المشروعات ، صار فرضا علينا نظرا إلى مصالح البلاد التي هي لا محالة مصالح أهل المملكة والأوروباويين المستوطنين بها على اختلاف أجناسهم ، كما هي مصالح أرباب الدين أن نهنىء جنابكم بإتمام هذا المقصد المبارك ولم يبق لمحبيكم إلا أن يؤملوا المتاجرة فيه في أقرب وقت ، بحيث تستكمل به رغبة الأهالي فيرون إن شاء الله اتساع نطاق التعامل ونمو أسباب العمران في تلك الجهات ، ويفتح ما بقي مرتجا إلى الآن من أبواب الفلاح وموارد الثروة وهذا أول ما ترتبط به فيما بعد سائر جهات المملكة من الطرق السهلة السريعة ، فلا حاجة حينئذ إلا للمداومة ومساعدة الوقت لتجديد شباب المملكة وفلاحتها والصناعة والمالية بها فيتم بذلك ما لم يزل جنابكم ساعيا فيه حق السعي منذ ثلاث سنين من تعمير هذا القطر ، والكتب من معظمي السيادة أعضاء قسم النظر من الكومسيون المالي في ٢٠ مايه المسيحي سنة ١٨٧٦ ، وصحح من الأعضاء الإنكليزيين والطليانيين والفرنساويين ، فلو كان في تلك الطريق ما يخل بالسياسة لما صحح الإنكليزيون والطليانيون لأن ذلك مباين لسياستهم ، ولو فرضنا جهلهم بها لنبههم أهل سياستهم لكي يكون لهم مستندا يوما ما ، بل إن أهل سياستهم لم يتعرض منهم أحد رسميا لذلك على أن توهم الإستيلاء الحسي بمجرد الطريق المذكورة من الفرنسيس ليس هو إلا وهم ، لأن قوة فرنسا ومنعها من الإستيلاء على تونس ليس هو لتوقفها على صعوبة الطريق فإن بين مرسى عنابه ومرسى حلق الوادي مسير إثني عشر ساعة فقط بالبواخر في البحر ، بل أن مرسى ابن زرت لا تبعد عليها أكثر من ثمان ساعات ، وسفن فرنسا التي توصلت بها من فرنسا إلى الجزائر بل ومن فرنسا إلى سانيفال بأفريقية الغربية وإلى كنبوديا بالهند الشرقية لا يصعب عليها قطع تلك الساعات.

تنبيه : قد أيد هذا الرأي ما حصل بالفعل في خارج القطر من هجوم عساكر فرنسا برا وبحرا على القطر سنة ٩٨ ولم تركب ولا فرقة منهم طريق الحديد المذكورة مع وصولها إلى حدود الجزائر ، وأما الإستيلاء المعنوي فإن كان المراد منه زيادة النفوذ وزيادة المتجر فسيأتي عليه الكلام في المطلب الثامن إن شاء الله. وإن كان بالمعنى الذي مر نقله عن أحد الإنكليزيين وبقاء مراسي القطر خالية؟ فهو مدفوع بأن السلع التي تؤدي عند دخولها إلى فرنسا تصير تؤدي ذلك في حدود الجزائر ، وغاية الأمر أن يتبدل الطريق ومحل الأداء ، وأما ذات الأداء فهو واحد وبه يتحد ثمن البضائع سواء شرحنت من هاته المراسي أم من هاته ، وقد اجتمعت في موطن مع الوزير خير الدين بعد الاتفاق المذكور وشيوع ذلك الاعتراض بما تقدم ذكره فذاكرني في دفعه بما يقرب مما شرحناه ، وزاد في الجواب وهو متبسم بأن

٢٨١

قال : إن الاعتراض بأن مآل ذلك الطريق هو إخلاء مراسي القطر التونسي وانحصار الشحن في مراسي الجزائر الخ. هو مما لا يقوله إلا جاهل أو متجاهل بما ينشأ عن الطرق الحديدية من العمران وسهولة المواصلة مما يكفي في البرهان عليه الوجود الخارجي في الممالك الحاوية لتلك الطرق والخالية عنها ، فإن ازدياد عمران الأولى وتوفر مكاسبها ، وعكس ذلك في الثانية مما يفنى فيه العيان عن البيان ، فأما المتجاهل فالكلام معه ضرب في العبث وأما الجاهل فجوابنا له أن المضرة من نقل البضائع بطريق الحديد إلى الجزائر على ما قالوا لا يخلو إما أن تحصل للأهالي أو للحكومة ، فإن قلنا أنها للأهالي بالنظر إليهم فرادى ، فالجواب أن الأفراد مدار نفعهم على زيادة أسعار بضائعهم بقطع النظر عن المحل المشحون منه ، وذلك لا يحصل إلا بتسهيل النقل المنحصر في طريق الحديد نعم إذا خشي من خروج النتائج الغلاء في البلاد فللحكومة منع الإخراج من أي طريق كان سواء كان من مراسيها أو من الحدود البرية ، وإن قلنا أن المضرة تحصل للأهالي بالنظر لمجموعهم من حيث نفع الوطن فهو يرجع حينئذ إلى منع الحكومة ، فيكون الجواب شاملا لكليهما معا وهو : أن مضرة الحكومة مندفعة بما تقدم شرحه من أخذها أداء الشحن إلى خارج القطر سواء خرجت النتائج من المراسي أم من الحدود البرية على السواء ، بل نقول : إن بالطريق الحديدية يحصل النفع ودفع الضرر في خصوص الأداء المذكور بخلاف وقت انعدام الطريق ، وبيانه أن الحدود ما بين تونس والجزائر ممتدة على جميع طول الحد الغربي للقطر التونسي المتجاوز أربعمائة ميل ، وأغلب سكانه أعراب رحالة يتكسبون بما يحملونه على ظهور إبلهم ، فإذا وجدوا أثمان النتائج أغلا في الجزائر لدخولها إلى فرنسا بدون أداء ، لا شك أنهم ينقلون نتائجهم إلى المحل الذي تسوى فيه أكثر من غيره كما هو واقع ، ويتحملون غلو الكراء بالحمل على الإبل لأجل ذلك ؛ فإذا جعلت الحكومة مراكز لأخذ الأداء عند الإخراج من الحدود لا يخلو الحال إما أن تجعل المراكز على طول خط الحدود ، أو تجعلها في أماكن مخصوصة هي أكثر مرورا وعمرانا من غيرها.

فأما الأول : فهو ممتنع لكثرة ما يلزمه من الحراس الذين لا يوفي بمؤنتهم مدخول ذلك الأداء.

وأما الثاني : فلا يحصل منه المقصود لأنه لما كانت جهات الحدود كلها سواء فصاحب النتائج يتحمل مسير نصف يوم زائد على جهة مركز الحراسة ، ويخرج نتائجه بدون أداء شيء ، فتلخص من ذلك :

إن النتائج تخرج إلى الجزائر دون أداء للحكومة التونسية بخلاف ما إذا وجد طريق الحديد ، فإن رخص الحمل فيه يعادل أضعاف الأداء على النتائج للحكومة ، فالأهالي تعدل عن الحمل على ظهور الإبل لغلوها وتؤدي أداء الحكومة في مركز الطريق الحديدية ولا يضرهم ذلك لأنهم يربحون ما توفر لهم من الكراء مع قرب المسافة وقصر الوقت ،

٢٨٢

والحكومة يمكن لها ضبط مركز الأداء بجعل حراس عليه لأنه متحد ، وبعد هذا كله إذا فرضنا توجه الإعتراض وصحته لماذا يحمل علينا وحدنا ، والحال أن المنحة إنما أعطيت بمشاركة جميع الوزراء والمستشارين ممن تقدم بيانهم ، فإذا تشارك جماعة في رأي فلماذا يحمل منكره على واحد منهم فقط لمجرد مباشرة تنفيذ ما استقر عليه رأي الجميع هذا كلامه ، على أن هذا كله مفروض عند وصل الطريق وقد علمنا اشتراط عدم وصله لمجرد الأسباب السياسية التي يأتي بيانها لا لما تقدم ذكره ، فلا يتأتى الإعتراض إلا عند ذلك وسيأتي لهذا مزيد بيان في موضعه إن شاء الله تعالى.

كما وقع الإعتراض على هذا الوزير في كون الفائض جعل للدين أكثر من القسط الذي عينت مداخيله لذلك ، حتى لزم الحكومة إكمال الفائض في بعض السنين من دخلها والإستقراض في بعض السنين برهن مدبغة الجلد للإيفاء بالفائض أيضا ، ومن المعلوم أن خلاص الدين بالدين يؤدي إلى تفاقمه ، وأجيب عن هذا الإعتراض بما تقدم شرحه في كيفية الوجه الذي أعمل في الديون ، فقد علمت أن الفائض قد حط من عشرين مليونا فرنكا إلى ستة ملايين ونصف بمشاركة نواب الدائنين ثم تأسيس ذلك المقدار على معدل الميزانية التي أرسلت من الوزارة السابقة التي وقع فيها الغلط في تقدير فصل السرحات كما بيناه هناك ، سيما وقد رأى الكومسيون الوفاء بذلك في بعض السنين ورأى اقتدار الحكومة على الإيفاء في بعضها ، فلا يسلم صاحب المال في ربحه بسهولة إلا بعد تيقنه العجز ، ولا يحصل ذلك إلا بمداخلة قسم النظر من الكومسيون في أحوال ميزانية الحكومة الراجعة لمصاريفها الخاصة ، وربما كان ذلك غير ملائم لسياسة الحكومة لمزيد التضيق عليها والتحجير على تصرفاتها ، فاختير أخف الضررين إلى أن يكشف الواقع على ما هو في الإقتدار حقيقة بطول المدة والتجربة ، وتنقاد وكلاء أصحاب الديون عن بينة.

لكن الوزير خير الدين خرج قبل حصول ذلك كما لام الوزير المذكور أفراد قليلون من المتوظفين على عدم إحيائه للقوانين لكن على أن تكون على غير الكيفية التي سبق بها العمل في تونس بل على وجه يندفع به الإعتراض الذي مر فيها ، بأن تكون موافقة لأحكام الشرع ، والمباشرين للأحكام الشخصية هم نفس الحكام الشرعيين بضبط نفس الأحكام في قول واحد شرعي ، وجعل مجلس شورى لمصالح القطر أعضاؤه من جميع جهات القطر إلى غير ذلك مما يناسب الحال من القوانين لما هو معلوم من ميله إليها كما مر في الكلام على قوانين عهد الأمان ، وحاصل جوابه الذي علمناه منه عند إبلاغ الإعتراض إليه وهو بتونس ، هو أن الدول الإسلامية لا يتيسر ذلك فيها إلا بإرادة الملوك أو الأمراء الذين لهم استقلال في الإدارة ، وقد كان والي تونس أجراها ثم لما أبطلت بالكيفيات التي مر ذكرها ، كان الوالي المذكور أشد النافرين عنها فلا يصفى إلى إنشائها وليس في ذات الأهالي من يرغب فيها بإلحاح في طلبها إلا أفراد قليلون ، كما بان بالكاشف فيما وقع عند إيقافها وكما بان بالإستخبار للأعيان عند إعلان الدولة العلية بالقانون الأساسي ، فلم يبق إلا أحد شيئين :

٢٨٣

وهما : إما بقاء الوزير خير الدين في الخطة بدون القوانين لرفع ما يستطيعه بذاته ، أو أنه لا يبقى في الخطة إلا بوجود القوانين فاختار هو الوجه الأول بدعوى عدم إمكان الوجه الثاني ، وهاته الدعوى المستندة لما تقدم ذكره رجح عند البعض خلافها ، لأنه لو تيقن والي تونس في أول الأمر إصرار الوزير على عدم البقاء في الخطة إلا بوجود القوانين لكان يحصل المقصود وتدوم القوانين معمولا بها في الأقل مدة بقاءه ولا لوم عليه بعد انفصاله ، ومن بلغ المجهود حق له العذر.

وقد كنا اطلعنا على تحرير للوزير المذكور بعد انفصاله عن الخطة بتونس في الجواب عن الإعتراض بما ذكر ، فأثبتنا خلاصته هنا ليحكم المطالع بين الشقين وحاصله : أنه بلغنا أن أناسا لاموا على عدم تأسيسنا في مدة وزارتنا التنظيمات السياسية المعبر عنها بالكنستسيون ، التي كنا أوضحنا في كتابنا أقوم المسالك الأدلة النقلية والعقلية على لزوم تأسيسها وإجراء العمل بها ، ولما كان صدور مثل هذا اللوم منبأ عن عدم فهم من صدر منه لما كنا شرحناه في الكتاب المذكور من الأحوال التي تنبني عليها التنظيمات وجب إعادة الكلام على ذلك وبذلك يتضح الجواب عما ذكر فنقول : «إن تأسيس التنظيمات السياسية الحاملة على اتباع المصلحة قد شوهد أنها نشأت في الممالك المستقرة بها بإحدى طريقتين ، إحداهما : أن يكون تأسيسها من الراعي ، وثانيتها : أن تطلبها الرعية ، والصورة الأولى هي الممكنة في الممالك الإسلامية إذا انتبه الراعي لفوائد التنظيمات فيسعى بجد واجتهاد في تأسيسها وحمل الناس عليها مستعينا بالله وبأهل الدراية والمروءة حتى تدرك العامة منافعها ويتمسكوا بها ، ويحصل لمن تسبب فيها فخر وأجر من أسس ما يدوم به العدل الذي فضل الحكماء صاحبه على فاتح الأقاليم الكثيرة ، ووجه ذلك ظاهر وهو أن مصير الفتوحات المؤسسة على غير العدل إلى التقلص والإختلال ومصير المملكة ذات العدل إلى البسطة والإعتدال ، والحكيم من لاحظ العاقبة والمآل وعند ذلك تدوم معمولا بها إذا كان في العامة استعداد إلى فهمها وقبولها ، وبدون ما تقدم لا يمكن إجراء ما ذكر فيما علمت ، فلا يكفي لذلك معرفة الوزير وحده بمصالحها وميله إليها ولا نظن أحدا من رجال السياسة العارفين بأصول مبنى التنظيمات يخالفنا في هذا ، فكان الواجب على المعترضين أن يبحثوا أولا عن معرفة حال أمير تونس هل هو ممن يسعى في تأسيس ما ذكر على الوجه المذكور؟ وعن حال الإيالة هل فيها من يعتبر لحفظها وقبولها؟ وفي ظني أن كلا الأمرين لا يوجد منه ما يسوغ الإقدام على تأسيس التنظيمات وفي يقيني عدم نجاحه بدون ذلك كما أعطته التجربة ، فإن التنظيمات التي أسست في هذه المملكة سنة ١٢٧٧ ه‍ المتقدم بيان أصولها الكافلة بتأمين السكان أبطلت تمشيتها مع الحلف على إجرائها بسعي الوزير واتباعه ، حتى آل أمر المملكة إلى ما قد رأيت من تصرفات الحكومة زمن وزارة السيد مصطفى وما نشأ عنها من المضار في النفوس والأعراض والأموال ولم يتعرض أحد لذلك بأدنى إنكار.

٢٨٤

فلما كان الحال ما ذكر وأيست من الوالي بتونس في تأسيس التنظيمات ، سعيت في تحسين إدارة المملكة وتأمين راحة السكان بقدر الطاقة والإمكان مستعينا بالله وبمن كان من أهل المروءة من رجال الحكومة ، إلى أن آل أمري إلى الإضطرار إلى الخروج وأن ترتب عليه ما حصل لنا بعده من الصعوبات بمنع الناس من مخالطتنا ، ولم أتحصل على الحقوق البشرية الواجبة شرعا وطبعا.

مع أن ذلك وقع في حق رجل تقلب في سائر رياسات الحكومة ، وحصل على يده مصالح حسب الوسع ، ويسوغ له أن يقول حكاية للواقع أنه بإعانة الله وعنايته حمى وحده مدة وزارته جميع السكان من الظلم والتعدي عليهم ، بدليل أنه بعد خروجه من الخطة رجع الأمر لما كان عليه قبل ذلك لأن الوالي في الحكومة لا زال هو بذاته ، وكذلك رجال الحكومة الذين خدموا معه وهم الذين خدموا مع السيد مصطفى أيضا لا زالوا متوظفين ، وهؤلاء قسمان : عفيف في نفسه غير قادر على منع غيره من الظلم ، وظالم كان محجوزا بنا عن ظلمه فانطلق بخروجنا من الخطة ، هذا وأني لا زلت أقول إن تونس لا تستقيم بدون تنظيمات ، وأنها لا بد لإجرائها من الطريقة المار ذكرها وإلا فالتنظيمات في تونس بدون ما ذكر كالعنقاء إسم بلا مسمى ، فلا تغترن بقول من لا يدرك الحقائق والله تعالى يرشدنا وإياهم إلى ما يرضيه بمنه آمين انتهى.

وبما تقدم من انتقاد بعض التصرفات وجد أضداد الوزير خير الدين السبيل إلى إيقاع التنافر بينه وبين الوالي إلا مسألة القوانين فلم يعرجوا عليها ، غير أن ذلك لم يفدهم لأنه مدفوع بما تقدم شرحه والوالي على علم منه ، فلذلك نزعوا إلى أوجه أخرى وبيانها يستدعي بيان منشأها وأسبابها ، وحاصله أن الوزير خير الدين لما باشر الوظيفة بلقب وزير مباشر لم يكن له ضد في نقض أعماله إلا الوزير السابق مصطفى خزندار ، لكنه لم ينجح لتبصر الوالي فيه ومعرفة سائر المتوظفين والأهالي بتصرفاته التي نفروها ، حتى ذات خدمة الوالي في نفسه وقصره ، فكان الجميع يدا واحدة مع الوزير خير الدين ولما عزل الوزير السابق مصطفى خزندار وولي مكانه الوزير خير الدين واستقر أمره بعد الإنفصال معه على ما مر شرحه ، طمعت نفسه للرجوع إلى المنصب أو في الأقل مواجهة الوالي وإسقاط خير الدين عن الوزارة واستعان على ذلك بأفراد من الأجانب وبأحد خاصة الوالي وهو الوزير مصطفى بن إسماعيل ، واعتضد الجميع كل على حسب فوائده فتارة يقدحون في التصرفات العامة وإشاعة ذلك في الصحف الأجنبية ويبلغونها بذاتها أو بتعريبها للوالي بواسطة خاصته المذكور ، لكن لما رأوا عدم نجاح المقصود بذلك لأنه لا يروج على الأهالي لمشاهدتهم حسن إدارة الوزير ، رجعوا إلى إشهار أراجيف تتعلق بالسياسة الخارجية فمنها ما يرجع إلى تنفير الوالي وعائلته من الوزير خير الدين وأشهروا أن للمذكور اتفاقا سياسيا سريا مع الدولة العلية ، ومنها : ما يعود إلى تنفير الأهالي من الوزير المذكور فأشهر أن مراده تسليم البلاد للفرنسيس ، ومنها : ما يعود إلى تخويف أصدقاء الوزير خير الدين وعموم الناس فأشهر أن

٢٨٥

مراد الوالي إرجاع الوزير السابق مصطفى خزندار لخطة الوزارة ، حتى أثر كل قول في أصحابه ونشأ عن الأخير التشويش في عقول العامة وتجار أوروبا بما أوجب إنحطاط أسعار الرقاع للدين التونسي عدة مرار للتخوف من تبديل السيرة في السياسة الموجبة لتعطيل فائدة الدين ، حتى أعلن للوالي بتكذيب تلك الإشاعات فكتب للوزير خير الدين مكتوبا ونشره في الرائد التونسي ونصه :

«بعد الحمدلة والصلاة ، أما بعد : السلام عليكم ورحمة الله تعالى ، فإنه بلغ لحضرتنا أن بعض أشخاص كادت أن تكون أسماؤهم معروفة ممن كان لهم في تصرف أمير الأمراء إبننا مصطفى منافع شخصية تعطلت عنهم بسبب مساعيكم الجميلة بالإدارة المنوطة بعهدتكم ، أشاعوا أراجيف لا حقيقة لها حملهم عليها الميل لما يوافق شهواتهم ، وهي وإن كانت مما لا يترتب عليه أثر ولا يكون لها موقع لأولي الأحلام إلا أنها ربما توجب لمن كان خلي البال شغلا عما يعينه ، مع أن الأسباب التي اقتضت عزل المذكور لم تزل تعضدها أنظارها والآثار التي أنتجتها مساعيكم الحميدة لم تزل تحمد أخبارها وتظهر للأعيان آثارها ، ولعلمنا بما في شغل الأسماع ولهي الآذان بسماع هذه الأراجيف التي لا توصل قائلها إلى مقصوده من إضاعة الوقت بنقلها والإلتفات إليها ، حررنا لوزارتكم هذا الرقيم لنهي من يشتغل بذلك وليتحقق السكان أن استحساننا للإدارة المنطوة بعهدتكم لم يزل والمنة لله تعالى متزايد بتزايد آثارها ، وأن ما أرجف به أولئك الأشخاص لا يجدون إليه مستندا وتشهر ذلك للسكان ليزول عنهم الشك الذي قصد إيقاعهم فيه وشغل بالهم به ، لترتاح أفكار من يريد مصلحة وطنه ونجح خدمته ، فالعمل أن تجتهدوا بالاستمرار على تلك السيرة الحسنة التي ظهرت آثارها لدولتنا والله تعالى يحرسكم ويمدكم بحفظه وإعانته والسلام» ، من الفقير إلى ربه تعالى المشير محمد الصادق باي وفقه الله تعالى بمنه ، كتب في الثاني والعشرون من شهر رمضان المعظم سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف.

(التوقيع)

صح من كاتبه محمد الصادق باي

فأنت ترى ما صرح به الوالي من حسن نتيجة خدمة الوزير خير الدين ، وهو الذي تشهد به سكان الإيالة على اختلاف أجناسهم ومع ذلك لا زالت الأعداء تسعى بالفتن بين الوالي والوزير حتى كان في خلال تلك المدة جميع رجال الحكومة في كدر من خوف تفاقم النفرة بين الوالي ووزيره الموجبة لانفصال الوزير عن الوظيفة ، ولما تيقن الوالي ذلك دعى الوزير خير الدين ووعده بقطع التعرضات وأمر مصطفى بن إسماعيل بالكف عن سيرته وموالاة الوزير خير الدين ، وكان ذلك أواخر سنة ١٢٩٢ ه‍ فدام على نحو ذلك بضع أشهر ثم عادت الكرة في أواسط سنة ١٢٩٣ ه‍ ، وأثرت الأقوال في الوالي إلى أن صار يستفهم من عمده عن رأيهم في فصل الوزير عن الخطة ، فرأى منهم استعظام الأمر وربما قال

٢٨٦

بعضهم أن بلدنا صغيرة وليست بمتأنسة بفصل الوزراء على التتابع سيما مع رؤية الرعية لسيرة هذا الوزير فربما نشأ من فصله ما يسوء العموم فأحجم الوالي عن فصله في أثناء تلك المدة ، وقال أحد المحبين للوزير خير الدين ، إن استناد الأضداد في اختراعاتهم يؤل إلى الإستبداد منك على الوالي ورؤساء المتوظفين وذلك ينقطع بأمرين : أولا : أن تتشارك مع بقية المستشارين والوزراء في إعطاء رأيهم مع مستشار القسم الأول من الوزارة ومع أعضاء قسم العمل من الكومسيون ، بحيث يشترك الجميع في الرأي عند تحرير ميزان الحكومة في الخرج في رأس العام. وثانيا : تقسيم الإدارة في الرسم تبعا لما هو جار في المعنى في أقسام الوزارة حتى يكون مستشار كل قسم يلقب بوزير ويمضي هو على المكاتيب ويتحمل مسؤولية ما يعود عليه.

ولما بلغ ذلك الكلام الوزير خير الدين لاحظ فيه ما يأتي وهو أن الأول واقع بالفعل لأنه بعد تحرير الميزان من قسم العمل ومستشار القسم الأول يعرض على بقية الوزراء والمستشارين ويبدون ما يظهر لهم فيه ، ثم يعرض بعد ذلك على الوالي للتروي فيه ويمضي ما يستقر عليه الرأي ، وأما الثاني فإنه حالة ضيق القطر وصغر الإدارة لا تقتضي تعدل المصادر ، بل ربما أوجب ذلك التعاوض في الأوامر لمأمور واحد في حادثة واحدة مع ما في ذلك من زيادة المصاريف بتعدد المأمورين في كل جهة وكل قبيلة وذلك لا تطيقه مالية الحكومة ولا تتحمل الرعايا الزيادة عليهم ، هذا خلاصة جوابه الذي لم يقنع الناصح حيث أن العرض في الأول إنما هو صوري والتضايق في الثاني مدفوع بالاقتصاد وحسن التقسيم مثل ما هو واقع بين المستشارين ، لكن الأهم من جميع ما تقدم امتناع الوالي من إجراء المطلوب بدليل ما جرى من بعد خروج الوزير خير الدين عن الوزارة واستمرار نوع الإدارة على ما سبق من انحصارها في شخصية الوزير الأكبر ، كما نصح الوزير المشار إليه لإبعاد التهم عنه بأنه ينبغي له أن يسوي بين نواب الدول في المعاملة ، ولا يزيد في تقريب نائب فرنسا وهو يقول أن معاملته مع ذاك النائب شخصية لا تعلق لها بالإدارة ، على أنه لو قيل إن تلك المعاملة مما يقتضيها الحال في دفع غائلة فرانسا لما بعد ذلك ، لأن ترجيح كفتها بتونس ضروري وارتكاب أخف الضررين واجب ، فإن لم تر لنفسها رجحانا تكالبت إلى أن تصل إلى قصدها ولو بالتغلب على تلك البلاد كما أوضحنا خلاصة سياستها سابقا ، ولما تقدم عادت المصافاة بين الوزير خير الدين والوالي حتى كتب الوالي إلى قنسل الفرنسيس بتكذيب ما أشيع تارة بعزمه على إبدال الوزارة وتارة بالعزم على التنقيص من مقدار الفائض ، مما أوجب عدم الإطمئنان بمالية الحكومة وانحطت أثمان رقاع دينها ، فكتب إليه في جمادى سنة ١٢٩٢ ه‍ بما نصه :

«الحمد لله وحده أما بعد : فقد رأينا في الجرنالات الفرنساوية ذكر ظنون أبرزت في صورة مقدمات مسلمة واستخراج نتائج ، منها يريد صاحبها التنفير من إدارة دولتنا وتنقيص ثقة حاملي الرقاع بما بأيديهم من رقاع الدولة ، مع أن تلك الظنون لا حقيقة لها في الواقع

٢٨٧

ولا أصل ، وما استخرج منها ترده الأدلة المشاهدة زيادة على كونه مبنيا على غير الواقع ، وهذه الأراجيف وإن كانت باطلة عند المنصف وعند من يعلم حقيقة الواقع ولم يترتب عليها ما قصده من الأمور السياسية فإنه نشأ عنها لغير من ذكر ولمن لا اعتناء له إلا بالتحفظ على ماله بمراعاة كل ما يطرق سمعه خوف ، ترتب عليه بعض إنحطاط في سعر الرقاع مع أن كوبونها يدفع في أوقاته كاملا ، وإدارة مداخيله جارية على الوجه الكافل بحفظه ، وغير خفي على جنابكم ما يلحق كلا من الدولة والمتجر من ضرر هذا الإرجاف الذي مع كونه لا حقيقة له ومضاد للواقع ، لا داعي إليه إلا أغراض غير خفية ، ولما كنا على يقين من أن جنابكم يود الخير لبلادنا كاتبناكم بهذا مؤملا منكم السعي الجميل بحسن وساطتكم في إيقاف هذا الضرر ، إذ لا شك في أن المتصدي لنشر ذلك والحالة هذه لم يكن له قصد إلا ما ذكرناه ، ولحرصه على ترويج ما أبرزه تكلف ما يظن أنه يعينه على مقاصده وهو توزيع نسخ من الجرنال وتبليغها لمساكن أناس لا معرفة لهم به ولا اشتراك لهم فيه مجانا من غير أن يطلب منهم عوضا عنه خلافا للعادة ، ونشر ما هو من فروع مقصده بغيره فتعين بما أشرنا إليه أن ذلك لم يكن للإرشاد ولا للنصح اللذين أبرز كلامه في صورتهما وإنما هو للمقصد المشار إليه الذي نتحقق أن جنابكم لا يرضاه ويبذل الجهد في تعطيله ولو بإشهار هذا إعانة لنا بما تقتضيه المودة ، على ما أملناه من الخير وتأييدا للحق بإظهار الواقع كما هو المقطوع به من إنصافكم ومحبتكم ودمتم في أمن الله ، وكتب في ٢٠ جمادى الثانية سنة ١٢٩٣ ه‍ ألف ومائتين ثلاثة وتسعين».

ثم حدث بعد ذلك في الآستانة ولاية السلطان مراد فتوجه إلى تهنئته من تونس على لسان الوالي وزير الحرب رستم وله مودة اقتضتها المعاشرة الطويلة مع الوزير خير الدين ، كما له معه مصاهرة حيث أن الأول زوج بنت الثاني ، وكان ذلك في جمادى الثانية سن ١٢٩٣ ه‍ وحصلت إذ ذاك الحرب بين الدولة العلية والصرب فظهر من جهات الإسلام الإعانة للدولة العلية بالمال لضيق ماليتها وبمقتضى الحقوق الدينية والإرتباط السياسي بين تونس ، والدولة لزمت الإعانة بالمال أيضا من تونس وكان حال الحكومة في ضيق المالية وعدم إمكان القرض ما علمت ، فاجتهد الوزير خير الدين بعد الإستشارة والمفاوضة في حصول الإعانة بالمال من الأهالي عن طيب نفس ، وصدرت بذلك مكاتيب الوالي والوزير إلى الجهات من الحرص في التعجيل ، فظهر من الأهالي غاية الرغبة إلى أن حصل مقدار مليون وأربعمائة ألف فرنك مع مصاريف الصرب والحوالات لإرسال المال سكة رائجة في الآستانة ، وقدر ما دفعته الأهالي ريالات ٢٣٨٤٠٤٢ ونشر حسابه في الصحيفة الرسمية ووصل بتمامه للباب العالي ، وفي أثناء ذلك رجع وزير الحرب رستم المذكور ، ثم حصل في الدولة العلية صعود سلطاننا المعظم عبد الحميد على تخت السلطنة وأعيد إرسال وزير الحرب المذكور للتهنئة أيضا وأقام بالآستانة ثمانية أشهر لتثبيطه من الباب لإحضار جوابه وإحضار ما تتفضل به الحضرة السلطانية على الوالي مع كثرة شغل الدولة إذ ذاك بحرب

٢٨٨

الصرب والجبل الأسود والبلغار وهرسك وبوسنه وبالمؤتمر الذي عقد في الآستانة وبإنجاز القانون الأساسي ثم بحرب الروسية ، وكان وزير الحرب أثناء إقامته بالآستانة في المدة الأخيرة قدر شهرين أو ثلاثة لم يرسل مكاتيب تبين سبب تأخره لأن كل أسبوع يظن أنه يرجع فيه وطالت غيبة المكاتيب وحملتها ذوو الأغراض على ما سيتلى.

ثم طلبت الدولة العلية الإعانة العسكرية لحرب الروسيا ولم يكن لحكومة تونس من العساكر التي تحت السلاح إلا مقدار ما يكفي لحفظ الراحة في القطر ، كما أن المال الضروري لذلك حاله ما علمت فرأى الوزير خير الدين المسألة مهمة جدا ولم يكتف برأي الوزراء ورؤساء الحكومة وطلب من الوالي عقد مجلس عام من ولي العهد في الحكومة وأهل المجلس الشرعي والوزراء وأعضاء جمعية الأوقاف والمجلس البلدي ورؤساء سائر أقسام الإدارات ورؤساء الكتبة والمستشارين وضباط العساكر من أمراء الألوية والفريقان وأعيان الأهالي ورؤساء ديانة اليهود وكبرائهم العرفيين ، فأسعف الوالي على ذلك وانعقد المجلس تحت رياسة الوالي نفسه وأذن وزيره خير الدين بإلقاء المراد على المجلس ، فقال ما معناه : إن الدولة العلية قد أعلمت الوالي بأن الروسيا أعلنت عليها حربا وإن لها في الحدود للمدافعة عن الخلافة الإسلامية والوطن نحو ستمائة ألف ، وأنها مع ذلك لا زالت محتاجة إلى كثرة العدد والعدد وأنها تطلب من الولاية إرسال العسكر ، ولعله سرد ذات التلغراف الوارد من الدولة ، ثم قرر أن للدولة حقوقا على تونس ، وأن تونس لها عادات مع الدولة لا محيص عنها ، وأن حالة الحكومة في العسكر وفي المال معروفة للجميع ، وأن الوالي جمع هذا المجلس ليشير عليه بما يراه في الطرق الموصلة للمقصود ، فخاض المجلس في الكلام وطالت المذاكرات وحصل التشاحن في الرأي ، إلى أن علت الأصوات.

وحاصل آراء المجلس هو أن بعضهم يرى إرسال العسكر بالمقدار الذي يطيقه القطر من العسكر النظامي المسرح أكثره وتقريبه نحو ستة عشر ألفا ، لكن فيهم من عجز فلا أقل من وجود ستة آلاف تقدر الأهالي على القيام بهم بما يلزم من الكسوة والقوت ، وأما السلاح فللحكومة من المدافع من الأنواع الجديدة أزيد من بطرية ، كما لها من المكاحل المسدسة أزيد من عشرة آلاف ، وإن كانت تعمر من أفواهها من النوع العتيق فالحكومة حينئذ تقوم بالسلاح وتعين بمليون من المال الذي لها أن تستقرضه من خزنة مجلس الإدارة لمدة ستة أشهر بلا فائض ، وترجعه بالإقتصاد من مرتبات ذوي المرتبات كل على ما يقتضيه حاله ، فإن بعضهم أراد إسقاط جميع مرتبه لذلك. ويتم التجهيز وترسل العساكر ويجعل على الأهالي تقسيط ما يقوم بهم يدفعونه منجما مع جريان الإقتصاد من الحكومة على نحو ما تقدم ، مع الإعلان بأن كل من أراد القتال بنفسه فله ذلك ، ويعلل هذا القسم رأيه بأن أحكام الدين قاضية بذلك مع أن نص فرمان سنة ١٢٨٨ ه‍ مصرح بشرط ذلك ، وأنه على فرض الإعانة بالمال الذي يمكن أن يوازي مصروف العسكر فلا يزال التبكيت على القطر

٢٨٩

بأنه لم يوف بشرطه ، وأصحاب هذا الرأي قليلون. وبعضهم يرى أن الإعانة إنما تجب بالأبدان ، وأما المال فلا يجب على أحد شيء ومن قدر ببدنه وماله فعليه أن يذهب وليس على هذا الرأي إلا إثنان ، وجميع العلماء والعامة ضدهما وسقط اعتبارهما وقتئذ من أعين بعض رؤساء الحكومة سيما الوزير خير الدين ، وبعضهم يرى أن العسكر يحتاج إلى التدريب وإلى السلاح الجديد وبدونه العسكر كالعدم والمال لإقامة ذلك غير موجود ، لأن الغصب على أخذ المال من الرعية غير سائغ لما هم عليه ولجهل الحال في الملا والفقر ، فلذلك يلزم أن يوكل الأمر إلى الإختيار كل بما يستطيع.

وبهاته الصورة لا يعلم مقدار ما يتحصل حتى يمكن الاعتماد عليه وتجهز العساكر على مقداره ، وعلى فرض حصول شيء أولا فلا تحقق لجريانه في المستقبل للقيام بالعسكر في المؤنة والذخائر ، ولذلك يكون اللازم هو إحضار المال لإعانة الدولة العلية بالمال وإعانتها واجبة لا محالة ، غير أن جمع المال يوكل إلى اختيار الدافع واجتهاده كما حصل في إعانة الحرب مع الصرب ، وهذا هو الرأي الغالب الذي استقر عليه أمرهم ، وهذا القسم يدفع تعليل القسم الأول من شرط الفرمان بوجوب إرسال العسكر ، بأن شرطه الطبيعي أن يكون ذلك في الإمكان ، وقد تبين أن الإمكان غير موجود وعمل بهذا الرأي لأنه رأى الغالب.

«وحكم المسألة شرعا أفردناه برسالة فيما كتبناه على باب الجهاد من صحيح البخاري جامعة لحكم المذهب الحنفي والمالكي». ثم جمعت الإعانة المالية على نحو ما تقدم وأرسل بعضها في مدة وزارة خير الدين وقدره ، فرنك ٠٠٠ ، ٣٠٠ ولم يعلم حسابها بالتحقيق ، لأن الوزير خير الدين خرج قبل نهايتها وبعده لم ينشر حسابها مثلما نشر حساب السابقة ، ثم أرسلت الدولة العثمانية بطلب ستمائة بغل لجر الأثقال الحربية وإن كانت خيلا وبغالا فلا بأس به ، فعمل الوزير خير الدين حزمه في طلبها من أعيان المتوظفين وقبائل العربان والبلدان بأن عين لكل فرد ما يدفعه من عدد البغال أو الخيل ، وكذلك القبائل والبلدان على أن يسعر ما يدفعه أهل البلدان والقبائل من الحيوانات بالمال ويقسط ثمنه على جميع الأهالي على حسب الجدة ، ويدفع الثمن لصاحب الحيوان بحيث لا يناله من المال إلا أمثال غيره ، فتسابقت الناس إلى ذلك وتنافسوا فيه ، وكثير من أصحاب الحيوانات في القبائل والبلدان امتنع من أخذ الثمن وجعلها في سبيل الله ، وأحضرت الحيوانات وبقيت تنتظر سفن الدولة لحملها لأن حملها في السفن التجارية غير مأمون عليه خشية تعرض سفن المحارب الذي أشاعه من يريد اجتناب تونس من الدولة العثمانية ، وشحنت تلك الحيوانات للآستانة بعد خروج الوزير خير الدين من الوزارة ببضعة أيام.

وفي مبدأ الحرب سأل أحد نواب الدول الوالي والوزير عن قصد الحكومة في التداخل في الحرب وحذرها من عواقب قدوم الأسطول الروسي إلى مراسيها وخسارتها من

٢٩٠

ذلك مع عدم كبير الفائدة من إعانتها للدولة ، فأجابه الوزير : بأن الوالي لا يستطيع ربط نفسه بالكلام في عدم التداخل في الحرب ، ثم جاء قنسل الروسيا وأنذر ، واحتج بأن الوالي صرح بأنه لا يتداخل في الحرب ، فكذبه الوزير وأن الوالي لم يصرح بشيء ينزع حريته ، كما أن الرائد التونسي نشر من المقالات السياسية المنتصرة للدولة العلية ما هو مشهور ، وهو لا ينشر إلا ما يوافق مشرب الحكومة لأنه هو الصحيفة الرسمية لها ، والوزير هو الذي يشير بالمقاصد التي تنشر فيه ، فمن جميع ما تقدم اتخذه أضداد الوزير خير الدين سبلا لتنفير الوالي منه وإسقاطه من الوزارة ، فقالوا : إن وزير الحرب كان سبب طول مكثه في الآستانة السعي بما يضر بالوالي ، وأنه يكاتب الوزير خير الدين وهو لا يظهر مكاتيبه للوالي لأنها ضده ، وأن زيادة ميله للدولة العثمانية ظاهرة مما تقدم بيانه ، والوزير يقول : إن تأخر وزير الحرب لا علم له بسببه لأن واقعه في نفس الأمر هو ما تقدم شرحه ، وأنه لو تروى القائل في قوله لوجده غير صحيح ، لأنه لو كان بينهما شيء حقيقة للزم أن يأتي من وزير الحرب مكاتيب صورية ليطلع عليها الوالي ، ولما ساغ عدم إظهار ولا مكتوب واحد حتى يتفطن الوالي مما لا يفعله عاقل فدل ذلك على بطلان أهل التهمة وقد حققه الخارج ، كما يقول الوزير أن ما فعل مع الدولة العلية هو الواجب بمقتضى فرمان سنة ١٢٨٨ ه‍ ، وهو الواجب ديانة ولا قصد إلا حفظهما ، ولكن لم يجب ذلك في السعاية بل أثرت في الوالي لأنه كان حصل قبيل تلك المدة نازلة إدعاء مصطفى بن إسماعيل على يوسف بن عطار أحد تجار اليهود بتونس أنه يطلبه بسبعة ملايين أو أزيد من جهة رقاع مالية ومصوغ أعطاها له للتجارة بها ، وأنكره المدعى عليه واستظهر وكيل مصطفى بن إسماعيل بحجة ثبت في الوزارة زورها على ما يسرد تفصيله في المطلب الثامن ، وأراد الطالب أن يكون هو الخصم والحكم ورفع المطلوب أمره للوزير بهروبه إلى قنسلاتو إنكلتره وحمايتها له ، وتداخل القنسل في النازلة له فرأى الوزير أن يعقد لفصلها مجلسا وأنف من ذلك الطالب ووافقه الوالي وامتنع الوزير من الحكم في النازلة تجنبا من الكلام فيها من الجهتين ، فازداد حنق مصطفى بن إسماعيل من الوزير.

ومن ذلك التاريخ اشتدت الوشاية وأشاعوا أن الوالي نفر من الوزير بسبب ما تقدم ، وأنه بلغه عدم إرتضاء رؤساء الحكومة بسيرة الوزير مستندين إلى ما سبقت الإشارة إليه ، ثم أشاعوا أن الوزير يريد تسليم البلاد إلى فرنسا مستندين بسكة الحديد المار ذكرها وإلى عدم إرسال العسكر إلى إعانة الدولة العثمانية ، وازداد إشاعة هذا بعد انفصال الوزير خير الدين عن الوزارة لقصد تنفير الأهالي منه ، حيث أن الوجه الأول لم يؤثر فيهم والوزير يجيب بنفس الوقائع وأدلتها مما وقع في الخارج واستوفينا ذكره ، وكثر الكلام في هذه المنحى إلى أن خاطب الوزير الوالي بحكاية مضمون ما تقدم شرحه من كثرة ما أشيع في شأنه ، وأن الإشاعات صادرة من خاصته وأن ذلك مما يقدح في نفس المنصب ويعطل الإدارة ، وأنه يلزم أحد شيئين : إما توثق الوالي به ورفع العوائق ، أو استعفاؤه. وقد كان الوالي إذ ذاك

٢٩١

صمّم على قبول استعفائه لا لاعتقاده ما أشيع بل لأن مصطفى بن إسماعيل غير متداخل في الإدارة بما يرضيه ، لأن الوزير ممانع له لما يراه من تصرفاته حسبما يأتي إن شاء الله في المطلب الثامن ، وعلم أن الحامل للوالي هو ما ذكر بما صرح به مصطفى بن إسماعيل عند ولايته ، فإنه قال ما معناه : لو أن الوزير خير الدين ساعفني لما خرج عن الوزارة ، فلما ذكر أجاب الوالي الوزير خير الدين بسؤاله عن رأيه في النازلة ، فأجابه بأن رأيه ما ذكره ، فقال أعد عليّ الكلام يوم السبت عند اجتماع الوزراء بعد الإشارة إلى أن أوداءه خانوه بما أوقعه في تلك الحال ، وذلك مما يؤيد القول بأن الوشايات لم يصدقها حقيقة وأن يريد تغيير الصدور بينه وبين أحبته ، فاجتمع الوزير خير الدين بالوزراء والمستشارين قبل الدخول على الوالي وقص عليهم الخبر مما كان ذكره لهم فرادى ومجتمعين ، وكان مآل كلامهم أن الأولى به تحمل المشقة وعدم فتح باب الكلام في الإستعفاء ، وقال الوزير محمد الذي تولى بعده وكان معلوما عند جميع الناس أنه هو الذي يتولى بإشاعة المعرض المتقدم ذكره واتباعه ، بأن لهم اتفاقا مع الوزير محمد على ولايته وأبلغوا للوالي رضاه بذلك وكان علي ابن الزي صاحب مصطفى بن إسماعيل الخاص كثير التردد على جهات مسكن الوزير محمد ليظهر للناس صدق الدعوى ، فقال الوزير محمد للوزير خير الدين : أما أنا فإني لا أتولى مكانك ولو دقت عظامي ولكني أخدم مع كل من يوليه الوالي ، كذا شاع وحمل كلامه ذلك على تكذيب ما شاع عنه ولما دخلوا على الوالي أعاد الوزير خير الدين الكلام في الإستعفاء على نحو ما مر فأجابه الوالي بأنه هو أبو عائلة وقد حصل له التعب ومحتاج للراحة فيأمره ببقائه مرتاحا في محله ، فرجع لبستانه بقرطاجنه وكان ذلك في رجب سنة ١٢٩٤ ه‍ ، ومنع الوالي المتوظفين من الاجتماع بالوزير خير الدين حتى خواص أحبائه بل وأتباعه الذين على أيديهم متعلقات كسبه ، إلى أن خرج من القطر للآستانة ولم يعمل حسابه معهم.

وفي عشية يوم انفصاله عن الوزارة تذاكر بعض رؤساء المتوظفين في زيارة الوزير المذكور وذكر أحدهم ممن أبلغ إليه النهي بواسطة أنه عازم على زيارته تلك العشية متغافلا عما بلغه ، فحذره الحاضرون من الوزراء والمستشارين من وقوع ذلك قبل الإستشارة وأنهم هم في أنفسهم عازمون على مثل ذلك ، وإنما علقوه على استشارة الوزير الجديد فلما استأذنوه أحالهم على إذن الوالي ولما استأذنوه أعلن بالمنع ، وجعلت عيون على كل من يقدم إليه فبقي منفردا وتكاثرت الأقوال في الخوف عليه ، ونازلة الشهيدين إسماعيل السيني ورشيد لم تبرح من البال ، وكان هو متجلدا متغافلا عما يظهر إليه من الغضب وطلب مواجهة الوالي لمجرد الزيارة فاضطرب في أمره ثم أذن له في وقت خاص ، ووقع بين الوالي وقنسل الفرنسيس كلام سأل فيه القنسل الوالي عن سبب خروج الوزير خير الدين عن الوزارة ، فأجابه : بأن خروجه ليس كخروج الوزير السابق ، لأن الوزير السابق ارتكب ما يشين العرض ، وأما خير الدين فلا سبب لخروجه إلا الخلاف السياسي الواقع بيني وبينه وأنت تعرفه ، وهو إشارته إلى ميل الوزير للدولة العلية لأن الوالي كان تحقق لوم قنصل

٢٩٢

فرنسا على سياسة الوزير مع الدولة العلية ، وإلا فما هو الخلاف السياسي الذي يعلمه القنصل دون غيره ، وهذا يؤيد الكلام السابق في حقيقة أسباب انفصال الوزير المذكور عن الوزارة.

ولما تفاقم التنافر طلب الوزير خير الدين السفر لمداواة مرض عصبي فأذن له بعد التصعب التام ووداع الوالي ، ولما استقر في أوروبا حذر من العود خوفا عليه فكاتب هو الوزير محمد بما مضمونه : أنه كان أرسل إليه مكتوبا جوابا عن مكتوبه بأن الوالي سأل عن حاله وعن وقت رجوعه وأنه إنما كان سافر لأجل التداوي أولا وثانيا لأجل التباعد عن القيل والقال وهو المقتضى لتطويل الغيبة ، فإذا رأى رجوعه لا بأس فيه فليأمر الوالي به لأن غاية مراده هو أن يعيش في بلاده مع عائلته تحت ظل الوالي مع حريته الشخصية من غير أن يتداخل في شيء من الأمور كما هي عادته عند انفصاله من الوظائف ، بدليل سيرته في التسعة سنين السابقة التي بقي فيها بلا مأمورية ، وأنه كان ينتظر الجواب عن ذلك المكتوب الذي تضمن الإعلام بعزمه على السكنى بالقطر خلافا لما يشيعه المغرضون ، متعهدا بعدم التداخل في شيء من الأمور السياسية ، وأنه طلب حريته الشخصية حيث صدر الإذن للأهالي والمتوظفين باجتنابه ، ومع انتظاره للجواب مدة من الزمن لم يرد له الجواب إلا بكون رجوعه لا يتوقف على إذن مع التغافل عن الموجبات المشار إليها مع أنه لم يطلب إلا ما كان الوالي سمح به للوزير مصطفى خزندار في صفر سنة ١٢٩٢ ه‍ من الرخصة في مخالطة من يشاء والسفر الخ ، مع أن ذلك الوزير كان مطالبا بمال جسيم وليس خروجهما من الوظيف سواء لاختلاف الأسباب ، وما طلبه الوزير صاحب المكتوب هو ضروري في حقه لما صدر من الإذن في المنع من الاجتماع به حتى أن وكيله المالي امتنع من القدوم إليه هذا زيادة على الصعوبات التي وقعت عند إرادته السفر ، ولم يجب عن هذا المكتوب وكان القصد من أضداده إما حمله على عدم العود أو أنه إذا عاد يتسبب له بإيقاعه في محذور وخيم ، ومع ذلك قدم الوزير خير الدين لتونس عندما شاع أن بعض بواخر الروسيا قادمة إلى تونس وكانت حالته مع الوالي أشد مما سبق ، فأرسل إليه بأن يقصر من القدوم إليه إلا بإذن متعللا بأن الوزير مصطفى خزندار تشكى من منعه هو من زيارة الوالي مع عدم منع الوزير خير الدين ، وقال كثير من الناس هو قياس مع الفارق ثم عاد الوزير خير الدين إلى السفر أواسط سنة ١٢٩٥ ه‍ ورجع ، إلى أن أتاه إذن بسلك الإشارة من الأعتاب السلطانية بالقدوم إلى الآستانة ، فاستأذن الوالي وامتنع من الإذن له حتى دعا القناسل المعتبرين واستشارهم في ذلك ، فكلهم أشاروا عليه بأن لا وجه في منعه وإلا وفق له الإذن بطيب نفس منه ، فأذن له عن كره ومنعه من وداعه وسافر في رمضان سنة ١٢٩٥ ه‍ وترقى في عناية الخليفة به إلى أن صار صدرا أعظم في ذي الحجة من تلك السنة ، وجلبت عائلته في باخرة سلطانية ومن ذلك الوقت خرج الكلام على هذا الوزير عن موضوعنا الذي نحن في صدده ، وقد انحصرت دعوى أعداء خير الدين في أمرين.

٢٩٣

إحداهما : إرادته تسليم البلاد للفرنسيس.

والثاني : ميله إلى الدولة العلية.

فلا شك أن الخلاف السياسي الذي ذكره الوالي لقنسل فرنسا لا يتعلق بالدعوى الأولى وعليه فلا سبب إلا الثاني ، وعلى كل فقد أشهد الوالي قنسل الفرنسيس بعد خروج الوزير خير الدين من الخطة باستحسان سيرته إلا الخلاف المذكور ، فعلى الواقف المتأمل في ذلك إذ الحق ما شهدت به الأعداء ، فعداوة الوالي لخير الدين بعد خروجه من الخطة لا يجهلها أحد والحجة القطعية في ذلك امتناعه من مقابلته عند صدور الإذن بالقدوم لدار الخلافة وطلب الوداع.

المطلب السابع : في وزارة محمد خزندار

اعلم أن هذا الوزير أصله من اليونان وحضر إلى تونس في ولاية حسين باشا ، وربي في الحكومة وتعلم الفروض العينية والقراءة والكتابة ونشأ على صفة التعفف عن الرشا موسوما بحسن الرأي جدي الطبع كثير الصمت صبورا محبا للسادة الأشراف ، صاهره أحمد باشا بالمولى الشريف سيدي محمد الشريف على إبنته ، صاحب صدقات سرية متباعدا عن الشفوف متحد السيرة ، كان قربه الوالي حسين باشا بما راعاه به صاحب التصرف إذ ذاك شاكير صاحب الطابع وصار من خواصه ، وزادت به عناية الوالي المذكور حتى أولاه خزندار وكذلك أخوه من بعده مصطفى باشا في استنجابه ، إلى أن قيل أنه حصلت غيرة منه لشاكير صاحب الطابع المذكور ، واتهم بأنه أغرى بعض خواصه به في المعسكر الذي توجه تحت رياسة صاحب الطابع المذكور لثورة أهل جبل باجه ، فأطلق على الوزير محمد الرصاص في واقعة حربية هناك فأصيب في رجله وعوفي مع بقاء تأثيرها ، ثم استنجبه أحمد باشا وولاه عاملا على الساحل وحسنت فيه سيرته وطالت مدة ولايته عليه من حدود سنة ١٢٥٣ ه‍ إلى سنة ١٢٨٠ ه‍. ودافع عن أهله ما استطاع من تعديات محمود بن عياد بتكفله بخلاص كل ما يطلب منهم ابن عياد ، على أن لا يباشرهم ابن عياد بتوجيه أعوان الخلاص الملتزمات التي يطلبها منهم ، وأعان على مصاريف عسكر حرب القريم بألف قفيز من الشعير ، ووجهه أحمد باشا رسولا عنه للدولة العلية في استطاع نيتها في ترتيب الأداء على تونس والإعتذار إليها ، ثم وجهه أيضا لإحضار مهمات العسكر في حرب القريم ، ثم عاد مع العسكر وأقام هناك مدة ثم رجع ، ولما ولي محمد باشا أرسله بالهدية والنجدة الثانية من العسكر وطلب تقرير ولايته فقضى مأموريته وعاد وكان في عزم الوالي المذكور تقديمه لوزارة الداخلية فعاقه عنه ما تقدم في إبقاء الوزير مصطفى خزندار ، ولكن الوالي المذكور قربه واعتمده ورفع شأنه وأرسله رئيسا على المعسكر الموجه إلى الأعراض والجريد لجلب رئيس قومه من أعراب طرابلس المسمى بفومه عند ثورته على الدولة العلية هناك ، ثم التجائه إلى تونس عند خشيه الإستيلاء عليه وأحدث في أطراف الجهة الجنوبية من قطر

٢٩٤

تونس شيئا من الإختلال ، فوجه عليه الوالي المذكور معسكرا تحت إمرة الوزير محمد المذكور ولقبه في تلك الوجهة بأمير الأعراض.

واستقال الوزير محمد من اللقب ولم يساعفه الوالي ، وفي ولاية الصادق باشا ولي الوزير محمد وزارة الحرب عند استعفاء وزيرها منذ ولاية أحمد باشا وهو مصطفى أغا ، ثم ولي عوضا عنها وزارة الداخلية ثم عوضها بوزارة البحر كما ولي رئيسا ثانيا بالمجلس الأكبر عند وجود القوانين حينما استعفى الوزير خير الدين ، ثم لما حدثت الثورة العامة سنة ١٢٨٠ ه‍ بقي الوزير محمد في زوايا الخمول إلى أن حدث الكومسيون المالي فولي فيه عضوا ، وأرجعت إليه الولاية على الساحل وأبلي في التخفيف على أهله من مصاعب الديون ما تقدم شرحه بإعانته للوزير خير الدين ، ثم سنة ١٢٩٠ ه‍ ولي مستشار القسم الثاني من الوزارة الكبرى مع التلقب بوزير الإستشارة ، ولما حصلت مبادىء استعفاء الوزير خير الدين شاع التعاضد بالوزير محمد لقصد تقليده الوزارة الكبرى ، حيث كانوا على علم بأن نقل الوزارة من خير الدين إلى ابن إسماعيل صعب عظيم في أعين العامة والخاصة ، ويلزم مدة الإستئناس بمباشرة مصطفى بن إسماعيل للسياسة تحت رياسة غيره ، فلما استعفى خير الدين قلد الوالي الوزارة الكبرى للوزير محمد خزندار بعد أن استقاله منها وبكى واعتذر بكبر السن ومرض البدن فلم يساعفه الوالي فتلقاها ، وألبس نيشان البيت الحسيني وطلب من الوالي أن لا تتغير سيرته عن الطور المعتاد له في الأبهة اللازمة لرياسة الوزارة ، كما قلد أيضا رياسة الكومسيون وكان ذلك في رجب سنة ١٢٩٤ ه‍.

وولي في وظائفه التي كانت بيده مصطفى بن إسماعيل وبقي الوزير محمد في الوزارة متحفظا في ما يستطيعه على إبقاء ما كان على ما كان ، وصاحب النفوذ هو غيره على ما سيأتي شرحه ، ومع أكثر الجزئيات التي تعرض له لا يبدي فيها أمرا إلا بالإستشارة ، ولم يحدث في مدته شيء جديد سوى حرص الدولة العلية على إرسال العسكر فاعتذر إليها بأن غاية ما في الوسع هو الإعانة المالية للأسباب التي مر شرحها ، فلم تصغ لذلك وزادت إلحاحا وتهديدا بلزوم العسكر وطالت المراجعات والإعتذارات من تونس ، إلى أن صرحوا للدولة العلية بأن غاية ما في الوسع والقدرة هو إحضار أربعة آلاف من النفوس بلباسهم فقط وسلاحهم من النوع القديم وما عدا ذلك يلزم أن يكون جميعه على الدولة ، فرضيت بذلك وأعلمت بأنها ترسل إلى حملهم على عجل سفنها فتجب المبادرة بإحضارهم ، فأحضروا وصرف على كسوتهم ولوازمهم مدة حضورهم وانتظارهم للسفن مما جمع من الإعانة المالية من الأهالي التي سبق ذكرها في وزارة خير الدين ، وانعقد الصلح قبل سفرهم فورد الإذن بسراحهم.

وكذلك حدثت نازلة انتهاء أجل الكنت دي صانسي لكنها لما كان كل من الحرص فيها وانتهاء خصامها في مدة الوزير مصطفى بن إسماعيل ، وهكذا نازلة وصل الطريقة الحديدية المار ذكرها بطريق الجزائر ، فإنها وإن وقعت في وزارة الوزير محمد لكنها في

٢٩٥

الواقع منسوبة لسعي مصطفى بن إسماعيل حيث كانت التصرفات بين هذين الوزيرين في مدة وزارة محمد مثل التصرفات بين الوزير مصطفى خزندار والوزير خير الدين بعد ولاية هذا وظيفة وزير مباشر ، وغاية الفرق بينهما أن وزارة محمد وابن إسماعيل لم يظهر فيها جهرة التباين والعناد ، ووزارة خزندار وخير الدين بخلاف ذلك ، فليس من الإنصاف نسبة مساعي أحد الرجلين إلى الآخر كما ذكرنا مثل ذلك سابقا ، سيما مهم المسائل الخارجية فقد كادت أن ينفرد بها الوزير ابن إسماعيل وليس للوزير محمد فيها إلا الإجراء ، ودام الوزير محمد على ذلك متجنبا لكل صعوبة مقتصرا على امتناعه من الرشا وبيع الوظائف في نفسه مشيرا بلطف إلى استقباحها لمن يريدها مداريا لسائر المتوظفين ، إلى أن أحس بالكلام بإرادة استعفائه بعد ولايته بستة أشهر فعرض بذلك للوالي متعللا بالعجز والمرض فأشار عليه الوالي بالتحمل والبقاء في الخطة إلى الوقت الذي يشير عليه الوالي بالإستعفاء فعمل بذلك.

وفي ربيع الأول من سنة ١٢٩٥ ه‍ كثر الكلام في عود الوزير الأسبق مصطفى خزندار فكذبته الحكومة بنشرها في صحيفتها الرسمية فصلا طويلا في أن ذلك الكلام مما يشوش على السكان ويحير الأفكار وأنه بهتان والوالي لا يعمل به وأنه من الإفتراء والإرجاف ، وذلك في عدد ١١ من الرائد في ١٦ ربيع الأول سنة ١٢٩٥ ه‍ ، وإنما ذكرنا ذلك ليتيقن أن نفرة الوالي للوزير المذكور لأعماله حقيقية لا كما قيل من أنها بسعي الوزير خير الدين ، حيث أنه في ذلك التاريخ بعيد عن الوالي وأشغاله ثم أن الوزير محمدا بقي منتظر الإشارة لاستعفائه كما بقي من جهة طالب المنصب وصاحب الولاية انتظار إعادته هو للإستعفاء أو التعريض به ، وبقي هكذا الحال كل شق ينتظر صاحبه مدة أشهر إلى أن أظهر الوالي كثرة الكلام في الرغبة في استعفاء الوزير وأحضر نيشان آل بيته الذي صار علامة ملازمة للوزارة الكبرى وفطن بذلك الوزير محمد فقدم للوالي معرضا بالإستعفاء على حذر حيث اعتمد الوصاية بأن الوالي هو الذي يشير عليه فقبل بالرحب والبشر وأوصاه بأن يكتب غدا مكتوب الإستعفاء ، فلما حضر الجميع إلى قصر المملكة من الغد أمر الوالي قبل أن يصل إليه مكتوب الإستعفاء الوزير محمدا بأن يستصحب معه الوزير مصطفى بن إسماعيل إلى محل الوزارة ويعلن لجميع المتوظفين بعد جمعهم بأن الوالي أولى مصطفى الوزارة الكبرى ورياسة الكومسيون بعد أن ألبس الوزير مصطفى نيشان البيت ، ولاطف الوالي الوزير محمدا وأمره بأن يعود إليه بعد ذلك الموكب مصاحبا للوزير الجديد فعمل بذلك على هيئة استغربت إذ لم يعهد مثلها ، وبعد ذلك كتبت مكاتيب الإستعفاء وقبوله ونشرت في الرائد وكان ذلك في شعبان سنة ١٢٩٥ ه‍ ، فمدة وزارة محمد عام وشهر ولقب في ذلك الوقت بوزير الإستشارة وجعل له مرتب عمري وقدره ستون ألفا في السنة ، وأمره الوالي بأن يقدم إليه في كل أسبوع في يوم السبت مع جملة المتوظفين أو عندما تدعو حاجة لحضوره ، وجعل منزلة حضوره في موكب الوالي فوق منزلة الوزير الحالي بحيث لم ينزل عن مرتبته ،

٢٩٦

ثم استقال هو من ذلك ونزل تحت الوزير ثم ولي عضوا في مجلس الشورى الآتي ذكره وبقي على ذلك إلى الآن.

المطلب الثامن : في وزارة مصطفى بن إسماعيل

هذا الوزير من الناشئين في حاضرة تونس ، ولما شب رباه أحد متوظفي قصر الحكومة الملقب بزهير حتى نسب إليه في اللقب ثم أخذه منه الصادق باشا الوالي الحالي وصار من خدمته وقربه ورقاه إلى رتبة أمير لواء مع انضمام رتبة أمير لواء ثانيا في عسته العسكرية الخاصة ، وهي وظيفة مقصورة عليه لم تكن من قبل ولا بقيت من بعد ، ومن حدود تلك المدة عرف بلقب ابن إسماعيل نسبة إلى والده الذي يقال أنه مسمى بذلك ، وهو متواضع بشوش كثير التردد على الصالحين وزيارتهم شديد الإعتقاد فيمن ينتمي إلى علوم الحدثان ، شره على الأشياء الجديدة كثير الإنفاق على ما يعود إلى لذاته محب للتجمل بالملابس المجوهرة ، حتى تتعدد الخواتيم المكللة بإصبعه وترى المجوهرات على صدره وسلسلة ساعته ، عارفا بأخلاق سيده ملائما في سيرته معه لمرضاته ، حتى تمكن ميله إليه واشتدت رغبته في استرضائه إلى أن قدمه على معاصريه وأبناء جنسه ، فبلغ إلى الرتبة المشار إليها ، ثم رقاه إلى رتبة أمير لواء العسة وأبطلت الرتبة الثانية المشار إليها ، وفي أواخر مدة التنافر بين الوزير خير الدين ومصطفى خزندار انتهزت تلك الفرصة إلى التنويه بشأن مصطفى بن إسماعيل ورقي إلى رتبة الفريق ، وأرسل من الوالي كما تقدم إلى مالطه لإبلاغ العناية بالوزير خير الدين وكان يظهر إليه الميل عن مصطفى خزندار ، ثم ولي عاملا على الوطن القبلي أواخر مدة مصطفى خزندار وأخذ مستلزمات العمل المذكور بنقلها إليه بدون انتهاء مدة من كانت بيده.

وامتدت الأيدي إلى أرزاق أهالي العمل المذكور بالرشا في الأحكام وغيرها حتى قال كثير من أهله لقد زال العناء عن أهالي القطر إلا نحن فإنا لم نر شيئا من أثر ذلك لإغضاء الوزير خير الدين النظر عنه لمعاضدته إياه ، واستولت بعض حواشيه على الأوقاف ببلد سليمان إلى أن آل أمرها لما كنا شرحنا بعضه ، فإن جامع الحنفية والمدرسة ببلد سليمان لم يكتف فيهما بأخذ دخل الوقف وإهمال الموقوف عليه حتى خرب وتعطل جريان الشعائر ، بل نقل منهما مهمات من الرخام وغيره إلى دار المتولي ، كما أقيمت في ذلك حجج من أهالي البلد وقدموها إلى جمعية الأوقاف وجرى على الأهالي من المتاعب ما بلغ إلى قتل النفس كما ذكروا ذلك في قتل حميده بايوض أحد أهل الحاضرة الذي انتقل بالسكنى إلى هناك وذهب دمه هدرا وسودت في موته رقعة على أنه مات حتف أنفه تبرئة عند الحكومة رسما من دمه ، وشدد على الأعيان من أهل الحاضرة وغيرهم في خلاص قانون الزيتون الذي كان مرتبا على الوطن القبلي الذي مر ذكره وتحملوا من مباشري الخلاص إهانات لم تعهد لهم ، حتى أن بعضهم كان جالسا بحانوت أحد أصحابه في العطارين فجاء المستخلص وألزمه بالخلاص حالا مع أن العسر عمومي فضلا عن كون الرجل لم يكن

٢٩٧

مستعدا ولا مال محمولا معه فأهين بما أذرف دموع المشاهدين من ذلك الملأ ، ومثل ذلك متعدد.

ثم ولي الوزير ابن إسماعيل وظيفة صاحب الطابع أواسط سنة ١٢٩٠ ه‍ ، ويوم ولاية الوزير خير الدين الوزارة الكبرى ولي الوزير ابن إسماعيل وزارة البحر غير أنه لم يباشر هاته الوظيفة في محل الوزارة ، وإنما جعل ما يتوقف على إمضائه يحمل إليه أين كان ليمضيه حتى يقال إنه انفصل عنها ، وهو لا يعلم مضمون تلك الوظيفة إذ لم يكن التصرف على نحو إرادته ولأنه يعتمد من ينيبه من غير احتساب عليه ، ثم عزل عن ولاية الوطن القبلي لأن الوزير خير الدين قد استقر في الوزارة الكبرى وظن أنه غني عن معاضدة ابن إسماعيل حينئذ ، فاقتحم مع الوالي صعوبة الإلحاح بعزله ومن ذلك التاريخ برح الخفاء فيما كان كامنا من منافرة الوزير ابن إسماعيل للوزير خير الدين ، وأن إظهار الميل إليه لم يكن حقيقيا والتفت عليه عصبة الوزير الأسبق خزندار من الأجانب وبعض المأمورين لترويج أغراضهم مما تقدم شرحه ، وفي أثناء تلك المدة كانت أموال الوالي وذخائر الحكومة من المجوهرات والياقوت الأبيض الذي تركه محمد باشا كلها في تصرفات الوزير ابن إسماعيل المذكور إلا ما أخرج من ذلك مما أرسله في هدايا الدولة العلية وما أعطاه الوالي إلى الوزير خزندار ، وله قسط وافر أو غيره ، وكان التحم في تلك المدة بالوزير ابن إسماعيل شخص من سكان الحاضرة يقال له علي ابن الزي كانت الناس تتقيه من قبل ثم ازدادوا منه إتقاء لما التحم بالمذكور ، وتفصيل حالة هذا الشخص لا تناسب هذا التأليف على أن من شاهدها لا يبلغ ما نذكره لما يعلمه ومن لم يشاهدها لا يكاد يصدق بوجودها ولذلك لا نذكر إلا ما يتعلق به من حوادث سيده.

فمنها : أنه حسن إليه معاطاة التجارة في رقاع ديون الدول وراد له تاجرا بعد تاجر إلى أن استقر أمر مع أحد تجار الأقمشة الحريرية من يهود الحاضرة المسمى بيوسف بن عطار ، وأرسله إلى فرنسا للتجارة هناك ثم لما عاد التاجر حصلت بينه وبين علي ابن الزي نفرة ، فأغرى به سيده لإرادة استئصاله وسجن التاجر في سجن الضابطية لأن الضابطية كانت لا تسأله عمن يريد سجنه وإنما حسبها التنفيذ لما يراه ، وادعى على التاجر بنحو سبعة ملايين فرنكا أو تزيد بين مال ومصوغ وحجارة كريمة من الياقوت الأبيض على أنها من أعلى نوع وأنه سافر بذلك إلى فرنسا ولم يؤخذ منه حجة في بيانها وأنه أرجع إليهم بالإرسال من فرنسا مقدارا وافرا من الياقوت الأبيض من النوع الرديء على أنه لم يبع مما تسلمه منهم ، وقبلوا ذلك وبقي التاجر إلى أن أحضر بالضابطية وأخذت منه حجة على أنها بتصحيحه وأنكرها هو وطال الأمر إلى أن تخلص التاجر من السجن وهرب إلى قنسلات الإنكليز محتميا بها طالبا إجراء الإنصاف في نازلته ، وتداخل القنسل الإنكليزي مع الحكومة في إنصاف الرجل ولاحت علائم الزور على الحجة ولم يكن معها من القرائن أو الأسلوب التجاري ما يؤيدها ، سيما في مبلغ وافر مثل ذلك بل ربما كان معها من القرائن عكس

٢٩٨

الدعوى ، إذ أن المدعى به عليه من الياقوت هو من أعلى نوع وهو المصرح به في الحجة ، ثم النوع الذي أرجعه إليهم وقبلوه وأرسلوا له فيه مكاتيب بوصوله من غير إنكار لكونه من نوع ما أعطوه ولا تعريض بذلك ، مع أن ذلك المقدار البليغ يعطى لإنسان من غير بيان ولا حجة ولا دفتر ولا تؤخذ عليه الحجة إلا بعد رجوعه بمدة ، وهو تحت الغصب زيادة عما كان عند انتهائها فإن جميعه يؤيد كلام التاجر ، فإنه بعد أن رفعت النازلة إلى الوزير خير الدين وإرادته تشكيل مجلس للنظر فيها وامتناع الوزير ابن إسماعيل من ذلك حسبما تقدمت الإشارة إليه وبقي التاجر محتميا بالقنسلاتو تصالح معه الوزير بن إسماعيل بمائة ألف فرنك وعشرين ألف فرنك ، وتعجب كل من سمع بالدعوى التي هي نحو ثمانية ملايين كيف يصالح عنها بذلك القدر لو كانت حقا ، والنازلة مقررة في الوزارة وفي القنسلاتو.

ولو نظرنا إلى ما وقع في النازلة من الكلام على ألسنة الناس الذي منه : أن مما قاله علي ابن الزي إلى الوزير ابن إسماعيل : أن التاجر المذكور لما عاد من فرنسا أرجع له مصوغا أو أتاه بمصوغ بقيمة بليغة من المال وأنه اكتشف عن حالة المصوغ بعد الإنفصال بالصلح مع التاجر فإذا هو من البلور المقلد على الياقوت ، فأذنه الوزير ابن إسماعيل ببيعه حيث لم يكن فيه من فائدة ، فأخبره بأنه بيع ببضع آلاف وأدخلها له في حسابه ولما وقعت الواقعة الآتي بيانها مع ابن الزي تبين أن عين ذلك المصوغ لم يزل بخزائنه وأنه من الياقوت حقيقة وأمثال ذلك لطال الكلام في النازلة ، لكن لا داعي لنا في ذكر ما يقال على ألسنة الناس سيما وهو مما يعود إلى ما بين الخادم والمخدوم ، وإنما الداعي إلى ذكر ما تقدم هو بيان كونه سببا في خروج عائلة التاجر المذكور من رعايا تونس وصيرورتها تحت الحماية الإنكليزية ، كما أنها كانت سببا في تمكن النفرة وإظهارها بين الوزير خير الدين والوزير ابن إسماعيل وميل الوالي إلى معاضدة هذا لأنه مكنه من جميع أمواله حتى أن نفقته ونفقة عياله كانت على يده ، وقد نشرت أخبار متواردة في الصحف الخبرية عربية وغيرها فيما تقتحمه العائلة من تباعة ذلك ولم يقع تكذيبه ، وحيث كان من الخصوصيات فلا نجلبه هنا أيضا ، وإنما أشرنا إليه لتعلم خلاصة التصرفات المالية ، وبما تقدم وغيره حصلت الإشاعات التي أشرنا إليها في أسباب استعفاء الوزير خير الدين وقرائن الحال دلت على أنه كان القصد توجيه الوزارة إلى الوزير مصطفى بن إسماعيل ، غير أن معرفة حال المتوظفين والأهالي في التسليم لذلك كانت مجهولة فقدم للوزارة الوزير محمد وقدم إلى استشارة القسم الثاني من الوزارة الوزير مصطفى بن إسماعيل ، لكي يباشر العمال والأهالي في شكاياتهم ويتأنس بمباشرة التصرفات العامة ، فكان لا يتعرض لتصرفات الحاضرين من اتباع الحكومة عند ورود الدعوى إلا أن تكون نازلة له بها خبرة بواسطة أحد علائقه وتقررت له من قبل قدومها إلى الوزارة فحينئذ يأذن فيها بما كان وقع عليه الإنفصال ، وحصلت في أثناء هاته المدة الرشوة التي كادت تتناسى سيما في توظيف العمال ولم يقتدر الوزير محمد على دفاعها غير أنها لم تتفاحش إذ ذاك ، كما ولي الوزير مصطفى بن إسماعيل عاملا على الساحل لاستعفاء

٢٩٩

الوزير محمد عنه ، فجرى أول الأمر العمل فيه على ما كان ثم ولي على المستير رجلا نائبا عن العامل بجعل ينيف عن المائة ألف ، وكان ذلك الرجل مدينا للأجانب من قبل واشترى الوظيفة لخلاص ما اشتراه به ولخلاص دينه وتكسبه ، وامتدت يده إلى الأهالي وإلى النواب الذين تحت نظره وتفاقم الأمر مع شدة الضعف المالي في الساحل واشتكت رعايا الأجانب إلى قناسلهم هناك لأن أهل الساحل لم يزالوا في رق دينهم فما يتحصل لهم من المال عوض أن يدفع لدائنهم صاروا يدفعونه إلى المتولي ، وبقي أمرهم على ذلك إلى نحو ما سيرد خبره.

وفي أول مدة تداخله في الإدارة وجه قصده إلى التداخل في المسائل الخارجية والمداخلة مع نواب الدول فاستعطفه أحد نواب الأجانب على أمير اللواء إلياس المصلي لعلقة بينهما ذاتية على إرجاع المذكور إلى خطته التي كان فيها ، وهي وظيفة مستشار ثان في الوزارة الخارجية وقد كان عزل عنها في أواخر وزارة خزندار أثناء ولاية خير الدين وزيرا مباشرا بسبب واقعة ، وهي : أن إحدى الجمعيات الأجنبية التي تجمع المال لنوع من أنواع المرحمة توسطت إذ ذاك بقنسل فرنسا لتعينها الحكومة التونسية بشيء من المال على وجه المرحمة ، فأرسلت الحكومة بواسطة المستشار المذكور مقدارا من المال ، ولما اجتمع القنسل بالوزير شكر صنعه وذكر له المقدار الواصل لتلك الجمعية فإذا هو غير مطابق لما أعطته الحكومة ، ووقع التحقق في النازلة إلى أن عزل المستشار المذكور وبقي بلا وظيفة ولا مرتب إلى أن قدم من الأجانب من عطف على المذكور ، فتوسط له لدى الوزير خير الدين في وظيفة فأفهمه أن ذلك غير لائق لما تقدم؟ فألح على أن يحصل له نفع ونال بواسطته مرتبا سنويا قدره ستة آلاف ريال وقطعة من أرض مقدار ما يبنى بها دار للمذكور ، وكبر ذلك على الوزير ابن إسماعيل إذ ذاك وجعلها هجيراه فلما تعاطى هو الأشغال السياسية وتوسط لديه في إرجاع المذكور للخطة السابقة بادر بالإجابة بالقبول ، ولما انتهى الأمر للوالي استفظع النازلة سيما وقد سمع بعض القناسل بذلك وأوغر بالإنكار ، بل ربما قال بعضهم : إنه يعد ذلك إهانة لهم ، وحصل من المتوسط أيضا التشديد في الإتمام بمقتضى القبول الذي أجابه به الوزير ابن إسماعيل وهو وإن لم يكن إذ ذاك وزيرا للخارجية إلا أنه علم أن كلامه رسمي مثل وزير الخارجية ، ونكر ابن إسماعيل التعهد بالقبول وإنما قال إني وعدت بإبلاغ الوالي المطلب فقط ، وتفاقم الخلاف إلى أن استرضى الطالب ووظف المذكور وظيفة مخترعة وهي كاتب سر الوالي بالفرنساوي ، وجعل له مرتب إثنا عشر ألفا سنويا ، ثم ابتدأت نازلة الكنت دي صانسي فألح الوزير ابن إسماعيل في تعجيل فصلها وكان فيها ما سيرد خبره.

ثم جاءت نازلة وصل السكة الحديدية التونسية بسكة الجزائر ، وذلك أن الشركة التي بيدها المنحة وشرعت في العمل بها بعد أن قربت أن تصل ببلد باجه لزمها وصل السكة المذكورة بسكة الجزائر لأنها إن لم تصلها تتوقع الخسارة ويفوتها تيقن ربح الخمسة في

٣٠٠