صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

قنسل الإنكليز على إنشاء عهد الأمان. ومما استدل به كل منهم عمل الدولة العثمانية بالتنظيمات الخيرية حتى صرح بذلك وزير الخارجية لفرنسا في مكتوبه المرسل في ذلك الشأن إلى قنسله المأمور بقراءته على الوالي وتفاوض الوالي مع خاصته ووزرائه في ذلك واستقر الأمر على إنشاء عهد الأمان وقرىء في موكب شامل لجميع المتوظفين وأعيان البلاد ونواب الدول ورئيس الأسطول الفرنساوي. ونصه :

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أوضح للحق سبيلا ، وجعل العدل لحفظ نظام العالم كفيلا ، ونزل الأحكام على قدر المصالح تنزيلا ، ووعد العادل وتوعد الجائر ومن أصدق من الله قيلا.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي مدحه في كتابه بالرؤوف الرحيم وفضله تفضيلا ، وبعثه بالحنفية السمحا فبينها تبيينا وفصلها تفصيلا ، ورتبها كما أمره ربه إباحة وندبا وتحريما وتحليلا ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا ، وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا على معالم الهدى علما لمن اقتدى ودليلا ، وفهموا الشريعة نصا وتأويلا ، وأبقوا سيرتهم الفاضلة وأحكامهم العادلة أمانا جليلا ، ونستوهبك اللهم توفيقا يوصل إلى الإسعاد برضاك توصيلا ، وعونا على أمور الإمارة التي من حملها فقد حمل عبئا ثقيلا فقد توكلنا عليك والتجئنا إليك وكفى بالله وكيلا. أما بعد :

فإن هذا الأمر الذي قلدنا الله منه ما قلده وأسنده إلينا من أمور خلقه بهذا القطر فيما أسنده ، ألزمنا فيه حقوقا واجبة وفروضا لازمة راتبة ، لا تستطاع إلا بإعانته التي عليها الاعتماد ولولاها فمن يقوم بحق الله وحق العباد ، فمحضنا النصيحة لله في عباده وأرضه وبلاده ، والأمل أن لا نبقي فيهم بحول الله ظلما ولا هضما ولا نخرم لهم في إقامة حقوقهم نظما ، وأنى ينصرف عن هذا القصد بعمله ونيته من يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة ولا يحب الظالمين في بريته ، فقد قال لنبيه المعصوم الأوّاب : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) [ص : ٢٦]. والله يرى أنني آثرت في قبول هذا الأمر على خطره مصلحة الوطن على ذاتي ، وعمرت بخدمته الفكرية والبدنية غالب أوقاتي ، وقدمت من التخفيفات في الجبايات ما علم خبره وظهر بعون الله أثره ، فانتشرت الآمال وتشوّقت النفوس إلى ثمرات الأعمال ، وانقبضت عن التعدي أيدي العمال ، واستقصاء المصالح يقتضي تقديم إجمال ، ومن رامها جملة فقد عرضها بسبب التعذر إلى الإهمال ، ورأينا غالب أهل القطر لم يحصل لهم الأمنية بإجراء ما عقدنا عليه النية ، وجرت عادة الله أن العمران لا يقع من نوع الإنسان إلا إذا علم أن برأته هي الأمن له والآمان ، وتحقق أن سياج العدل يدفع عنه خوف العدوان وأن لا وصول لهتك ستر من حرماته إلا بقوّة الدليل ووضوح البرهان ، ولا يكفي لتحققه الواحد والإثنان ، فإذا رأى

٢٢١

الجاني تعدّد الأنظار غلط إن كان منصفا حدسه ، وقال : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١]. وقد رأينا سلطنة الإسلام والدول العظام الذين على سياستهم الدنيوية أعمال الأعلام في النقض والإبرام ، يؤكدون الأمان من أنفسهم للرعية ويرونه من الحقوق الواجبة المرعية ، وهو أمر يستحسنه العقل والطبع وإذا اعتبرت مصلحته فهو مما يشهد باعتباره الشرع ، لأن الشريعة جاءت لإخراج المكلف عن داعية الهوى ومن التزم العدل وأقسم عليه فهو أقرب للتقوى ، وبالأمن تطمئن القلوب وتقوى وقبل هذا كاتبنا علماء الملة الأركان وبعض الأعيان بعزمنا على ترتيب مجالس ذات أركان للنظر في أحوال الجنايات من نوع الإنسان والمتاجر التي بها ثروة البلدان ، وشرعنا في فصوله السياسية بما لا يصادم القواعد الشرعية ، هذا وأحكام الشريعة جارية مطاعة والله يديم العمل بها إلى قيام الساعة ، وهذا القانون السياسي يستدعي زمنا لتحرير ترتيبه وتدوينه وتهذيبه ، وأرجو الله الذي ينظر إلى قلوبنا أن تستقيم بهذا الترتيب أحوال الرياسة ولا يخالفه ما ورد عن السلف الصالح من اعتبار السياسة ، وأنا العبد الفقير أتعجل لمرضاة ربي بما تطمئن إليه النفوس وتكون منزلته في النفس منزلة المشاهد المحسوس ، وتأسيسه على [أحد عشر قاعدة] :

الأولى : تأكيد الآمان لسائر رعيتنا وسكان أيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرمة وأموالهم المحرمة وأعراضهم المحترمة ، إلا بحق يوجبه نظر المجلس بالشورى ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو الإذن بإعادة النظر.

الثانية : تساوي الناس في أصل قانون الأداء المرتب أو ما يترتب وإن اختلف باختلاف الكمية بحيث لا يسقط القانون عن العظيم لعظمته ولا يحط عن الحقير لحقارته ويأتي بيانه موضحا.

الثالثة : التسوية بين المسلم وغيره من سكان الأيالة في استحقاق الإنصاف لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف ، والعدل في الأرض هو الميزان المستوي يؤخذ به للمحق من المبطل وللضعيف من القوي.

الرابعة : أن الذمي من رعيتنا لا يجبر على تبديل دينه ولا يمنع من إجراء ما يلزم ديانته ولا تمتهن مجامعهم ويكون لهم الآمان من الإذاية والإمتهان لأن ذمتهم تقتضي أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا.

الخامسة : لما كان العسكر من أسباب حفظ النوع ومصلحته تعم المجموع ولا بد للإنسان من زمن لتدبير عيشه والقيام على أهله ، فلا نأخذ العسكر إلا بترتيب وقرعة ولا يبقى العسكري في الخدمة أكثر من مدة معلومة كما نحرره في قانون العسكر.

السادسة : أن مجلس النظر في الجنايات إذا كان الحكم فيه بعقوبة على أحد من أهل الذمة يلزم أن يحضره من نعينه من كبرائهم تأنيسا لنفوسهم ودفعا لما يتوهمونه من الحيف والشريعة توصي بهم خيرا.

٢٢٢

السابعة : إننا نجعل مجلسا للتجارات برئيس وكاتب وأعضاء من المسلمين وغيرهم من رعايا أحبابنا الدول للنظر في نوازل التجارات بعد الإتفاق مع أحبابنا الدول العظام في كيفية دخول رعاياهم تحت حكم المجلس ، كما يأتي إيضاح تفصيله قطعا لتشعب الخصام.

الثامنة : أن سائر رعايانا من المسلمين وغيرهم لهم المساواة في الأمور العرفية والقوانين الحكمية لا فضل لأحدهم على الآخر في ذلك.

التاسعة : تسريح المتجر من اختصاص أحد به بل يكون مباحا لكل أحد ولا تتاجر الدولة بتجارة ولا تمنع غيرها منها وتكون العناية بإعانة عموم المتجر ومنع أسباب تعطيله.

العاشرة : إن الوافدين على أيالتنا لهم أن يحترفوا بسائر الصنائع والخدم بشرط أن يتبعوا القوانين المرتبة والتي يمكن أن تترتب مثل سائر أهل البلاد ، لا فضل لأحد على الآخر بعد الإنفصال مع دولهم في كيفية دخولهم تحت ذلك ، كما يأتي بيانه.

الحادية عشر : إن الواردين على إيالتنا من سائر أتباع الدول لهم أن يشتروا سائر ما يملك من الدور والأجنة والأرضين مثل سائر أهل البلاد ، بشرط أن يتبعوا القوانين المرتبة والتي تترتب من غير امتناع ولا فرق في أدنى شيء من قوانين البلاد ، ونبين بعد هذا كيفية السكنى بحيث أن المالك يكون عالما بذلك وداخلا على اعتباره بعد الإتفاق مع أحبابنا الدول.

فعلى عهد الله وميثاقه أن نجري هذه الأصول التي سطرناها ، على نحو ما بيناها ووراءها البيان لمعناها وأشهد الله وهذا الجمع العظيم المرموق بعين التعظيم في حق نفسي وعلى من يكون من بعدي ، أن لا يتم له أمر إلا باليمين على هذا الأمان الذي بذلت فيه جهدي وجعلت سائر الحاضرين من نواب الدول العظام وأعيان رعيتنا شهداء على عهدي ، والله يعلم أن هذا القصد الذي أظهرته وجمعت له هؤلاء الأعيان واشتهرته هو ما أودعه الله في نيتي ، وإجراء أصوله وفروعه فورا أعظم أمنيتي والمرء مطلوب بجهده ومن عاهد الله لزمه الوفاء بعهده ، والحق هو العروة الوثقى والآخرة خير وأبقى واستحلف من لدي من هؤلاء الثقات والحماة الكفاة أن يكونوا معي في إجراء هذه المصلحة يدا واحدة بقلوب سليمة متعاضدة وأقول لهم : «ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون ، اللهم من أعاننا على مصالح عبادك فكن له معينا وأورده من توفيقك عذبا معينا ، اللهم اجعل لنا من عنايتك وإعانتك مددا وهب لنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا ، منك الإعانة على ما وليت ولك الشكر على ما أوليت ، المهدي من هديت والخير كله فيما قضيت» هذه مقدمة أنتجتها الإستشارة ورآها العبد الفقير ناجحة صالحة فأعنا اللهم ببركة القرآن وأسرار الفاتحة والسلام. من الفقير إلى ربه تعالى عبده المشير محمد باشاباي صاحب المملكة التونسية في ٢٠ محرّم الحرام سنة أربع وسبعين ومائتين وألف صح من كاتبه المشير محمد باشاباي والله على ما نقول وكيل.

ثم عقد الوالي مجلسا رئيسه الوزير مصطفى خزنة دار وزير العمالة وأعضاءه :

٢٢٣

مصطفى آغه وزير الحرب وخير الدين وزير البحر والوزير إسماعيل السيني والوزير محمد وكاتب أسرار الوالي أحمد ابن أبي الضياف ، وأذنهم باستخراج أحكام سياسية تدور عليها أعمال الحكومة ، واستخراج أحكام فرعية في الحقوق الشخصية يجري بها الحكم في القطر ، وأذن أن يكون شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع أحد أعضائه فامتنع من الحضور دون مشارك : من العلماء الحنفية والمالكية ، واستقرّ الرأي على إضافة الشيخ محمد ابن الخوجة (١) المفتي الحنفي والشيخ أحمد بن حسين رئيس الفتوى في المذهب المالكي والشيخ محمد البنا المفتي المالكي وهؤلاء الأعلام الأربعة هم أكبر علماء القطر إذ ذاك ، فحضروا أوّلا ثم امتنعوا واكتفوا بأن كتب كل منهم شرحا منفردا على الإحدى عشرة قاعدة المار ذكرها ، أبدوا فيها الأحكام الشرعية المطابقة لتلك القواعد واقتصروا على ذلك متعللين بأن الذي بدا لهم من مغزى الجماعة هو الميل البحت للسياسة الساذجة من غير التفات إلى محاذاة الشرع ، بل وربما عرض ما يصادم القواطع ، وحيث كان عمل المجلس على ما يستقر عليه رأي الغالب لم يأمنوا أن يسند إلى المجلس ما يخالف الشرع ويحمل ذلك على عاتقهم ، والذي تبين لكل من الفريقين فيما بعد مما ولدته الليالي أن الصواب في غير مسلكه على ما يتحرّر إن شاء الله تعالى في الخاتمة.

ولم يتم هذا المشروع في مدّة الوالي المذكور مع حرص القناسل عليه وتأكيدهم بأنه لا محيص عما أشهدهم عليه بالنيابة عن دولهم ، ولم يبخل الوالي بذلك لأنه محب طبعا للعدل وإنما عاقه عن إتمامه الأجل ، وفي آخر مدّته أغراه وزيره بتعاضد مع روش قنسل فرنسا حيث كان العامل فرنساويا على ما يأتي وحسنا للوالي جلب ماء زغوان (٢) الذي كان جاريا لقرطاجنة في قنوات من البنا وعلى حنايا بأن يجلب على يد جمعية فرنساوية في قنوات من حديد ويوصل إلى المرسى والحاضرة ، وإنما يحصل من ثمنه للديار وللمزارع يوفي بالمصروف عليه في مدة يسيرة وينشأ منه فوائد للزراعة حول الحاضرة والمرسى ، وكان الوالي مغرما بحب العمران والفلاحة وبالمرسى أيضا ، وهي معطشة من قلة الماء الحلو فوافق على ذلك واتفقوا على جلبه وعلى بناء دار لقنسلات فرنسا بهية خارج باب البحر من الحاضرة بمقدار للجميع قدره إثنا عشر مليونا تدفع على أقساط أربعة كل قسط في سنة بثلاثة ملايين ، وقد عد بعضهم ذلك مبدأ محن القطر حيث آل إلى دين بالربا والحق أنه لا لوم على الوالي في ذلك لأن الحكم على ما هو موجود وعلى اعتبار جريان الأمر على الإستقامة ، ولا يحمل عليه فساد غيره وإن بناه على شيء من أعماله هو في نفسه سليما إذ المفسد يبني فساده على ما يريد ، والنظر في الحقيقة للعمل من حيث هو فينظر فيه هل فيه مصلحة أم لا؟ وجلب ذلك الماء على الكيفية المذكورة فيه مصلحة ، وهو تعطش

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي بن الخوجة الحنفي التونسي شمس الدين ، توفي في ١٠ محرم سنة (١٢٧٩ ه‍) فهرس الفهارس ١ / ٢٨٥ ومعجم المؤلفين ٨ / ٢٥٦.

(٢) جبل زغوان : بالقرب من تونس في القبلة. انظر معجم البلدان ٣ / ١٤٤.

٢٢٤

البلاد في أغلب السنين ، لأن شربها من المواجل المحبوس فيها ماء المطر ومن بير خارجها ماءها غير خالص العذوبة تسمى بير كلاب ويستعمل لغسل الصابون مياه فساقي حول الحاضرة لأن أبارها ماءها ملح لا يصلح إلا لاستعمال تنظيف البيوت ، وكثيرا من السنين تحصل الشدة للأهالي من قلة الماء صيفا حتى يبلغ ثمن القلة لمقادير وافرة مع التعب في جلبه ، ثم إعزام الوالي بالفلاحة ترغيبا للسكان في العمران الذي أثمر إقبالهم عليها على ما سيرد ، يستدعي جلب الماء الحلو على أن مالية الحكومة إذ ذاك وافية بذلك المقدار لأن الفلاحة التي هي ركن ثروة هذا القطر قد تكاثرت في تلك المدة وأقبلت عليها الناس إقبالا عجيبا ، حتى غلت أسعار الأراضي ملكا وكراء أو غلت أسعار الحيوانات وغلى قرض الأجير المسمى بالخماس غلوا فاحشا ، حتى بلغ قرض الخماس إلى ألف وخمسمائة ريال ، وذلك لكثرة استغناء الأهالي سيما الأعراب وأنفتهم من صناعة الخماسة لاقتدار كل على أن يصير فلاحا مستقلا بنفسه ، ونتج من ذلك ثروة الحكومة ثروة زائدة على المعتاد مع نقصان المصاريف على العساكر ، فكان دخل الحكومة في الأقل نحو نيفا وعشرين مليونا في السنة وبيان تقريبه ما يأتي :

ريالات

٠٠٠ ، ٠٩٧٠٠

عدد النفوس التي تؤدي الجباية ٠٠٠ ، ٢٧٠ على كل نفس ريالات ٣٦

٠٠٠ ، ٠٦٠٠

مدخول مكس الغلال في الحاضرة المسمى فندق الغلة

٠٠٠ ، ٠٥٠٠

دار الجلد أي محل دبغ الجلود

٠٠٠ ، ٠٥٠٠

كمرك الدخان

٠٠٠ ، ٠٦٠٠

كمرك السلع الداخلة والخارجة

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١

سراح خروج الزيت والقمح والحبوب

٠٠٠ ، ١١٠٠

قانون زيتون الساحل وصفاقس

٠٠٠ ، ٠٩٠٠

قانون نخيل الجريد

٠٠٠ ، ٠٥٠٠

محصولات المدن وغيرها أي الأداء على ما يباع في الأسواق

٠٠٠ ، ٠٥٠٠

لزامات صغيرة في الحاضرة وغيرها كالحوت والخيل وغيرها

٠٠٠ ، ٦٧٥٠

أعشار القمح والشعير على كل ماشية ربع قفيز قمحا ومثله شعيرا وعدد

٠٠٠ ، ١٢٠

المواشي فيجتمع من ذلك أقفزة

٠٠٠ ، ٣٠

قمحا ومثلها شعير سعر ١٥٠ الأول وسعر ٧٥ الثاني

٠٠٠ ، ٠٣٠٠

أعشار الزيت متوسطا كل سنة أمطار زيتا ٠٠٠ ، ١٢ سعر ٢٥ المطر

٠٠٠ ، ٢٢٩٥٠٠

الجمع

فالحكومة التي دخلها ما تقدم ومصاريفها الإعتيادية لا تتجاوز الإثني عشر مليونا ، لأن أحمد باشا مع كثرة عساكره ومصاريفها كان دخل الحكومة زمنه نحو خمسة عشر مليونا إلى الثمانية عشر ، ومصاريفها مثل ذلك لأنه لم يتداين شيئا ، ومحمد باشا نقص كثيرا من

٢٢٥

العساكر فلم يكن مصروفه الإعتيادي مجاوزا الإثني عشر مليونا ، نعم له مصاريف غير إعتيادية فيما يخص ذاته ، وماذا عساها أن تبلغ فإذا دفع من دخل الحكومة ثلاثة ملايين في السنة مدة أربع سنين لمنفعة عامة لا يكون فيه ضرر ، ولاعتماده على مثل ذلك اشترى له الوزير المذكور مصطفى خظنة دار مصوغا بقيمة خمسة عشر مليونا مقسط ثمنه أيضا ليكون ذلك ذخر للحكومة عوضا عما باعه أحمد باشا من ذخائرها الثمينة في مصاريف حرب الروسيا ، لأن المال الناض يسهل إليه امتداد الأيدي بخلاف المجوهرات مع ما في طبع الوالي من الميل إلى طبائع الأقدمين ومنها إدخار المصوغ ، وهو ولئن كان مسرفا فيما يتعلق بذاته وحرمه بالنسبة لأسلافه لكنه يؤثر الإقتصاد للعامة واتباع الحكومة بأن يستلطف لهم لكي يقتصدوا في مصاريفهم ، فقد قدم عليه المولى الإمام الشريف سيدي محمد الشريف في رمضان وكان محبا للإشراف معظما لهم شنشنة أهل تونس الإسلامية فأدخله لقصر حرمه مختليا معه مباسطا ومؤانسا له ، فعرض في أثناء الخطاب لومه للشريف على التقصير في القدوم إليه فأجابه معتذرا ببعد مسكنه حيث كان مسكن الوالي بالمرسى وبتعب الركوب على ظهر مركوب للوصول إليه لأنه ليست له كروسة أي عجلة ، فأجابه الوالي : بأن ملك مثله للكروسة مضر لما يلزمها من المصاريف السنوية ، وهو لا يبخل عليه بإعطاء كروسة له بلوازمها ، ولكنه يخشى عليه كثرة مصاريفها فلذلك رأى أن يعطيه ثمنها وثمن ما يجرها ، على شرط أن يشتغل به فيما له دخل في مصالحه ، وأما ركوبه فإنه مهما أراد الركوب يرسل إليه ليبعث له كروسة ليركبها ، وأعطاه خمسة آلاف ريال ولعمري أنها من نصح الأصدقاء.

وله في مثل ذلك كثير من المساعي سيما فيما يعود إلى تكثير الفلاحة وغراسة الزيتون والأشجار من الأهالي ، حتى رغب أهالي الحاضرة أيضا وأنشأوا في مدته القصيرة ما ينيف على الستين ألف شجرة من الزيتون في أرض تعرف بعبدي خوجه من مرناق ، وتوفي رحمه‌الله ولم يترك على البلاد ولا دانقا دينا بالربا ، إلا الأموال المقسطة في مقابلة الأشياء المار ذكرها وبقايا أثمان أشياء مما لا يخلو الأمر عن مثله ، مع أنه ترك خزائن من الحديد مملوأة بمسكوكات الذهب التي أنشأ ضربها ، كما ترك خزانة مهمة جدّا ملآنة بالمصوغ والياقوت الأبيض المسمى بالإلماس أو «الديامنت» المتجمع من النياشين التي أبطلها وأخذها من أصحابها وعوضها بنياشين من الفضة على حسب مجرى الدول ، وعوض أصحاب الرتب العسكرية علامات في أعناق لباسهم ، وقد كان كل من أرباب نياشين الإفتخار ومن أهل الرتب العسكرية له نياشين من «الديامنت» مختلفة النوع والنفاسة على حسب الرتب ، فمنها نيشان يبلغ خمسة عشر ألف ريال ، ومنها دون ذلك وهي كثيرة جدا. فاجتمع منها مع ما اشتراه مقدار وافر يعرف ذلك كل رجال الحكومة وأتباعهم بل وجميع آل بيته ، واستولى أخوه محمد الصادق باشا في (٢٤) صفر سنة (١٢٧٦ ه‍) ولما كان هذا الوالي يتقي الصعوبات ويأتمن من يرى أمانته ويطلق له التصرف من غير معارضة كانت الوقائع تختلف في مدته اختلافا بينا بحسب الوزير الذي بيده التصرف ، مع أن الوالي متحد.

٢٢٦

فلذا لزم أن نذكر لك كل وزير بانفراده والوقائع التي جرت مدة ولايته ومساعيه لأن الوالي يأتمنه ويعمل على رأيه ، وهي القاعدة الجاري بها عمل الممالك المتمدنة لو تمت شروطها ، وهي جعل محتسب من الأمة لمراقبة أعمال الوزير حتى لا تضر به ولا بالأمة ، غير أنه ينسب إلى الوالي تفخيم أمر الحكومة فأطلق عليها لقب الدولة وعلى نفسه لقب الملك ، وأدمج ذلك في ألفاظ القانون المسمى بقانون الدولة ووزع منه نسخا على سائر الدول ليكونوا شهداء عليه ، وسلم بيده إلى يد الإمبراطور نابليون الثالث نسخة منه عند الاجتماع به في الجزائر ، وكتب تلقيب وزرائه بإسم الوزير في مكاتيبه للدولة العلية ، وقيل له في ذلك من بعض رجال حكومته فقال الدولة لها السيادة علينا وطاعتها واجبة ولكن لا نهين أنفسنا وكذلك اخترع زيادة النياشين وقلد بها نفسه ورجال حكومته وغيرهم ، فمنها :

نيشان العهد : وهو مرصع بالياقوت الأحمر والأخضر جعل للبسه قانونا وعددا ويتبعه شريط أبيض مثل الذي سبق ذكره في اختراع أحمد باشا ، ومنها :

نيشان عهد الأمان : على شكل آخر وخصصه بأصحاب المباشرة في الوزارة إلى غير ذلك من الأشياء التي مدارها على الأبهة مع رأفة نفسه ورقة قلبه.

وأول ما افتتح به حلفه باليمين اللازمة في قبول بيعته على مقتضى عهد الأمان وسرد عند البيعة العامة التزاما نصه :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تبارك من جعل الأمان أقوى أسباب العمران والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد فيقول العبد الفقير إلى ربه المشير محمد الصادق باشاباي وفقه الله لما يرضاه وأعانه على ما أولاه : إني قبلت البيعة من الأعيان الحاضرين على ما وقع الإلتزام به في العشرين من محرم الحرام سنة (١٢٧٤ ه‍) من المرحوم المقدس أخينا المشير سيدي محمد باشاباي ، وهو عهد الأمان لسائر السكان على الأعراض والأموال والأديان وما حواه من القواعد واللوازم والأركان ، وحلفت وأحلف بالله وعهده وميثاقه على مقتضاه وأن لا أخالفه ولا أتعداه ، وهذا الكلام صدر مني ونقله الناطق به عني وخطي وختمي فيه أقوى شاهد وأوضح إعلان لكل من حواه هذا الديوان وسائر الرعية والسكان ، وعلى مقتضاه عليكم السمع والطاعة ويد الله مع الجماعة.

حرر يوم السبت الخامس من صفر الخير سنة (١٢٧٦ ه‍).

ثم التفت إلى الوزراء فوجد الوزير مصطفى خزنه دار هو صاحب الشفوف على الكل لإلتفات أغلب أتباع الحكومة عليه وانقيادهم إليه رغبة ورهبة لما له من اليد وكذلك قناسل الدول فسلم إليه أمر الحكومة ولقبه بالوزير الأكبر ، وبقي منفذا لرأيه ملازما للسير على نهجه في كل أمر حتى فيما يعود إلى خاصة ذاته ، فكثيرا ما كان يلبس الوالي ثيابه ويتقلد

٢٢٧

بمنطقته تهيئا لركوبه إلى الحاضرة في كل يوم من رمضان لكون عادته ذلك ، ويبقى منتظرا للوزير ليركب معه لأنه لا يركب دونه فيرد عليه رسول الوزير معتذرا له بأنه غير قادر في ذلك اليوم على الخروج لمرض أو شغل فيلوي الوالي عزمه ولا يتوجه للحاضرة وحده ، وكان لا يباشر فيها شيئا من الإدارة وإنما يذهب لمجرد التنزه والتفرج على الأسواق من شبابيك قصره وحيث علمت ما تقدم نذكر لك بعض حالات هذا الوزير وما طرأ من تصرفاته كما نذكر لك غيره من الوزراء.

المطلب الخامس في وزارة مصطفى خزنه دار :

اعلم أنه رجل أصله من قرية قرب ساقس جلب إلى تونس وسنه دون العشر سنين ، وأخذه أحمد باشا ورباه وتعلم القراءة والكتابة وبعض الفروض العينية كالتجويد والوضوء والصلاة ، ونشأ على مسايرة أخلاق سيده بشوشا غير متفحش غيورا على من انتمى إليه جالبا لهم الأرباح بكل وجه ، كما أنه كان غيورا على تقرب أحد من الوالي ومع ذلك كان كثير الإعتقاد في الصالحين ومن انتمى إلى معرفة الحدثان مواظبا على قيام الثلث الأخير من الليل وله فيه أوراد مخصوصة إلى أن يصلي الصبح ثم ينام ، وكان أولا قبل كبر بنيه ذا كرم كثير العطاء لحاشيته ثم صار شحيح النفس حريصا على الإمساك والتقتير ، ولم يعهد أنه باشر أحدا بشتم أو كلام منكر مدة وزارته على طولها وهي خمسة وثلاثون سنة إلا رجلين يقال لأحدهما علي زيد وللآخر عثمان هاشم ، وكان لا يقدم إليه أحد يطلب شيئا منه إلا يعده بقضاء حاجته كيفما كان حالها ، مع أنه ربما كان الوفاء ببعضها غير ممكن ، وقيل له في ذلك فأجاب بأن سليقته تأبى أن يقنط الطالب [بل يؤنسه] ويصرفه بالوعد وإن كان عازما على عدم إعطائه ويرى أن تعليق الآمال أولى من الأياس منها ولذلك كثيرا ما حصل منه الخلف بما يعد ، وصاهره أحمد باشا على أصغر أخواته ثم ولاه خزنه دار ثم لما أحدث أحمد باشا ألقاب الوزراء ولاه وزارة العمالة وهي عبارة عن التصرف في الداخلية ، فراكن إليه محمود بن عياد وتشاركا سرا حتى صار المحتسب والمحتسب عليه شريكين وحصر دخل الدولة وخرجها في محمود كما تقدم ، وللنجاة بما حصلا معا سهل خروج محمود إلى فرنسا من غير حساب وخانه محمود فأظهر عقد الشركة مع مصطفى خزنه دار وطلب على يد مجلس الحكم إلزام الشريك بدفع نصف قيمة السلع المجلوبة لمصالح الحكومة واستولت هي عليها بعد خروجه من تونس ، وعرض هذا الحكم على الوزير مصطفى خزنه دار بواسطة قنسل فرنسا في تونس ، كما أظهر أن شريكه خزنه دار كلفه بطلب حماية فرنسا له كما قرره في الصفحة الرابعة من الرسالة الأولى التي عرضها على مجلس التحكيم وبعد أن كاد يحصل على الحماية عدلت فرنسا عن ذلك والحال أنه لم يبد له من سيده موجب لذلك بدليل بقائه على منصبه وتصرفه إلى أن مات سيده ، ثم بعد سفر محمود بن عياد استعوضه بسعد بن عبيد وجعله سمسارا على بيع الوظائف ، فكان المتولي يدفع ما اتفق معه

٢٢٨

عليه والمعزول يغرم ما يدعي به عليه أهل عمله مع كونه مضطرا إليه لأنه ما دفع المال لشراء الوظيفة إلا ليربح ما يتمعش به وما يدخره للمستقبل ، وعظم بذلك الخطر والفقر على الرعايا حتى شاهدت قبيلة أولاد عياران كثيرا منهم يستلقطون حب الزيتون بالأجرة لأربابه وعند ما يتم عملهم يأتون إلى الفلاح ليحاسبوه عما تجمع لهم من المال ومعهم أحد أتباع هذا العامل فيحصي لهم جميع أجرهم بعد إخراج مقدار ما أخذوه لقوتهم ويرسله الفلاح معهم إلى دار العامل ليقبضه لأنه حاجر عليهم في قبضه وأشباه ذلك كثيرة.

كما أنه استعوض عن ابن عياد فيما يتعلق بشراء مهمات الحكومة ودفع أموالها أناسا منهم عطية الذي وقع منه أمور عجيبة. منها :

أنه ولي على أعشار الزيت ودفعها في مصاريفها المعينة ، ومنها :

الإجحاف في مؤنة العساكر فكان يدفع إليهم الرديء من الزيت زيادة على مضاعفة الكيل من الدافع ، بل من سوء عمله أنه كان يدفع للعساكر أوساخ الزيت الذي يحمل في قفاف الحلفة ولا يسيل منها ، كما كان يحك ما لصق بحيطان مراجل الزيت ودنانه المسماة بالجرار وما تجمع من ذلك الدسم الوسخ يغلي في الماء السخن ويدفع للعساكر على أنه زيت ، والأرباح التي تحصل لعطية كان يصرفها لمصالح الوزير خزنه دار ، ومنها :

أنه ابتدأ في بناء جامع قرب باب القرجاني ونسبه إلى نفسه مع أن المصروف عليه من مال الحكومة بعض منه على يد ابن عياد والبعض الآخر كان صرفه على يد عطية المذكور ، والدليل على أن ما صرفه لم يكن له أنه مات مفلسا ومع ذلك لم يتم الجامع إلى الآن ، وقد بنى الوزير خزنه دار سبيلا ببطحاء القصبة ووقف عليه حوانيت بجواره ولا زال مستمرّا إلى الآن ، وقد استعوض عن ابن عياد أيضا القائد نسيم شمامة وجعل وظيفته كونه قابض الأموال ، وكان يشتري المهمات بسعر ويحتسبها على الحكومة بأضعاف ، كما أنه حصل بواسطة الوزير المذكور بناء لعدّة زوايا ، فمنها : تجديد زاوية الولي الصالح القطب سيدي أبي الحسن الشاذلي (١) رضي‌الله‌عنه الكائنة بجبل الجلاز بنيت على شكل حسن متقن حيث كان الوالي إذ ذاك أحمد باشا تلميذا للشاذلي رضي‌الله‌عنه ، وكذلك جدد بناء زاوية الولي الصالح سيدي علي الحطاب رضي‌الله‌عنه ، الذي هو أحد تلامذة الشاذلي الكبار وهي في الجهة الغربية من تونس تبعد عنها ثمانية عشر أو عشرين ميلا في الوطن المسمى بالمرناقية وبنيت أيضا بناء حسنا ، ومنها زاوية الحاج علي شيحه الكائنة قرب الحلفاوين من ربض باب سويقة من حاضرة تونس ، وهو منتسب للولي الصالح سيدي عبد السلام الأسمر (٢) رضي‌الله‌عنه ، وبنيت بناء حسنا.

__________________

(١) هو علي بن محمد بن محمد بن خلف المنوفي المصري الشاذلي أبو الحسن (٨٥٧ ـ ٩٣٩ ه‍). من فقهاء المالكية. مولده ووفاته بالقاهرة. الأعلام ٥ / ١١ ، شجرة النور الزكية (٢٧٢) ونيل الإبتهاج (٢١٢).

(٢) هو عبد السلام الأسمر الفيتوري صوفي توفي سنة (٩٨١ ه‍) عن نحو مائة سنة له كتاب الأنوار السنية في أسانيد الطريقة العروسية. انظر فهرس الفهارس ١ / ١٤٦.

٢٢٩

ومنها تجديد بناء زاوية الولي الصالح ملاذ أهل تونس وعمدتهم سيدي محرز بن خلف (١) رضي الله تعالى عنه ، وهو رجل كبير في العلم والصلاح من كبار رجال مذهب الإمام مالك رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وبنيت بناء حسنا وما صرف على جميع ذلك من مال الحكومة ، كما أنه استوهب من الوالي محمد الصادق باشا سبخة السيجومي التي بقرب الحاضرة من الجهة الغربية الجنوبية وأنفق على تنشيفها عدّة مئين من الألوف من مال الحكومة ، وحفر لذلك خندقا يمرّ في واد بين جبال المحل المعروف ببئر القصعة ثم يمرّ على الوهاد المعروف ببحيرة باش حانبه ، ثم يصل إلى الأرض المعروفة بمدار ابن عروس وهناك ينهمل الماء المنحدر من السبخة فحصل بذلك تلف الأراضي التي على مصب ذلك الخندق ، لأنه لم يجعل لها سبيلا إلى الوصول إلى البحيرة مع كون مائه ملحا أجاجا ، وتعطلت عند مصبه الطريق الموصلة إلى مرناق وإلى حمام الأنف ثم ما والاه من الجهة الجنوبية في وقت الشتاء لتعطل طريقه الأصلي من الوحل فصار الطريق الشتوي أيضا إما معطلا أو صعبا جدّا مع أن نفس السبخة لم تنشف لأن ارتفاع قعرها على سطح البحيرة إنما هو نحو ميتروين ونصف فقط ، ويلزم لانحدار الماء في الأقل صانتي ميتر لكل ميتر ، وطريق الخندق لما كانت طويلة لم يكن فيها الإنحدار المطلوب فلم تنشف السبخة ، وقد أنذر بذلك أحد حذاق المهندسين وقال : لا يمكن تنشيفها إلا بنفق تحت جبل المنوبية لقرب المسافة الكافية للإنحدار ، فلم يعمل بقوله ولم يحصل المقصود وبقي الأمر على ذلك إلى أن سد الخندق في بعض جهاته بإذن الحكومة في وزارة خير الدين لرفع الضرر عن الطريق وعن الأراضي المشار إلى جميعها ، كما شرع في عمل طريق صناعي بين تونس وحلق الوادي فعمل فيه من جهة حلق الوادي نحو أربعة أميال ومن جهة تونس نحو خمسة أميال ثم ترك ، فأما الذي من جهة حلق الوادي فأبطلته جمعية طريق الحديد ، وأما الذي من جهة تونس فلم يزل منتفعا به لكنه محتاج الآن إلى التدارك بالإصلاح لأنه ضروري في وقت الشتاء ، حيث أن الأرض التي يمرّ عليها المسماة بالخضراء صعبة المرور لكثرة الوحل.

ولما ولي محمد باشا وأقرّ الوزير المذكور بمعاضدة الوزير إسماعيل السني حصل الإغراء للوالي علي محمد المرابط أمير أمراء عساكر القيروان وصهر أحمد باشا وعلي صالح شيبوب أمير لواء عساكر غار الملح وغيرهما من خاصة أحمد باشا من أبناء البلاد ، فنزعت رتبهم واستؤصلت جميع أموالهم وسمع الثقات من وزراء أحمد باشا الحاضرين مواطن الإغراء شدّة انفعالهم من ذلك ، ولما وقع استقراره بالوزارة عند محمد باشا بواسطة ما تقدّم أراد أن يبرهن على صدق ما وسمه به الوزير إسماعيل السني من الصدق والنجابة

__________________

(١) هو محرز بن خلف بن رزين البكري من نسل أبي بكر الصديق. (٣٤٠ ـ ٤١٣ ه‍). مؤدب تونسي زاهد. كان سلفيا. توفي في تونس. الأعلام ٥ / ٢٨٤.

٢٣٠

وعلم ما لا يعلمه غيره ، فطلب من الوالي عمل حسابه عما مضى وبعد إتمامه جاء بالدفاتر وبتلخيصها وعرضه على الوالي محمد باشا ، ورأيت في صفة الموطن بخط الوزير ابن أبي الضياف (١) ما نصه : «وقال له بمحضر الوزراء ورجال الدولة هذا حسابي قبضت في مدّة خدمتي ما هو مرقوم في هذا التلخيص ، وصرفت في المدّة ما هو مرقوم أيضا وكان المصروف أكثر وأنا غير طالب له ولم أدفعه من مالي وليس على دولتك المباركة دين ، فقال له بعض الحاضرين من الوزراء بديهة : أنا أوّل قادح في هذا الحساب ، ومن أين جاءت هاته الزيادة؟ فأجابه الوزير بلين وسياسة : لك أن تنظر في فصول القبض هل نقص منها شيء وفي فصول الدفع هل زاد فيها شيء وما وراء ذلك نتيجة أصابعي ولي أن أتطلبه لو استحللت الخيانة ولهذا أتيت بالدفاتر ليطلع عليها كل من يريد الإنتقاد فخجل القادح الخ».

والكاتب المذكور عالم بالبلاغة حيث ورى بقوله : «فخجل» أي خجل من الجواب لأنه قيل : إن المال من الأشياء التي لا تنمو بذاتها ، فالقسمة العقلية إما أن يكون من فصول المقبوض شيء لم يرسم ، كأن يكون المقبوض من الطوارىء التي لا تنضبط كالأخذ من العمال زيادة على الموظف ، أو تكون بعض وجوه المصروف لم تصرف حقيقة ، أو يكون المقدار الحقيقي منها دون ما رسم في الدفاتر ، أو يكون الدافع دفع من عنده ، أو اقترض وهذان الأخيران قد أقرّ الوزير بعدمهما وإقرار الإنسان ماض عليه فلزم بالضرورة أحد الوجوه السابقة ، ولعلها هي المرادة بقوله : «بأصابعي»

ثم أنه في مدّة محمد باشا لم تقع مظالم الرعية من العمال لما تقدّم من سيرة ذلك الوالي ، وإنما يقال أنه جعلت له حصص من المال والمصوغ جعلا من الجالبين لماء زغوان وبائعي المصوغ ليكون العقد بتلك المقادير ، وفي آخر مدّة الوالي المذكور لما رسخت قدمه حصل الأخذ للوزير من بعض العمال بدعوى أنه مع تشديد الوالي في قبض أيديهم لا بد أن يسرقوا ، وجعل السمسار رجلا يقال له خليفة السائس مشاركا لسعد بن عبيد مع التحذير من أن يظهر أدنى تشك من الرعايا ، وقد أدركت المضرات حذاق القطر حتى قال أحد العلماء قصيدة يستغيث بها القطب الصالح سيدي أحمد التجاني (٢) رضي‌الله‌عنه لما دهى القطر من تلك الأعمال مطلعها :

كادت تنيط رجاءها بالياس

مهج فغوثا يا أبا العباس

إلى أن قال :

__________________

(١) هو أحمد بن أبي الضياف بن عمر بن نصر حفيد المجذوب ابن الباهي العوني ، أبو العباس (١٢١٩ ـ ١٢٩١ ه‍). وزير تونسي ، كاتب ومؤرخ. مولده ووفاته بتونس. الأعلام ١ / ١٣٨ اليواقيت الثمينة (٧٧) شجرة النور الزكية (٣٩٤) وإيضاح المكنون ١ / ١٦.

(٢) هو أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد الشريف التجاني ، أبو العباس (١١٥٠ ـ ١٢٣٠ ه‍). فقيه مالكي ملم بالأدب. توفي في فاس ، الأعلام ١ / ٢٤٥ وشجرة النور (٢٥٨).

٢٣١

إنا إليك نبث ما قد نابنا

من مكر ذي شر شديد الباس

درب على فعل القبائح قائم

بالجور ناء عن مدى القسطاس

ثم قال :

نشبت مخالب كيده في قطرنا

وبدت مضرته على أجناس

ومراده والله يمحو رسمه

إلحاقه بالأربع الأدراس

خفيت مدارك كيده فتحيرت

في غورها النبها من الأكياس

حار اللبيب ولم يفد تخمينه

مع ضربه الأخماس في الأسداس

ثم قال :

واستأصل الأموال من أربابها

ورماهم بالذل والإفلاس

كل تراه وقد أمضى فؤاده

يشكو القديم وللجديد يقاسي

إلى آخرها وهي طويلة ، مع أن التباعد بين وظيفة المشتكي والمشتكى منه مما يؤيدان الشكوى عن غير أغراض شخصية ودليل صدقها الخارج ، ثم لما استولى محمد الصادق باشا وكان الوزير يخشاه لما هو مشتهر عنه من الصلابة جد الوزير في إتمام قوانين عهد الأمان سيما واليد كانت فيها جائلة من قبل للإطمئنان على نفسه ، بدليل ما جرى بعد ، وأظهر ميله إليها لعموم العدل لكي يستعين بمحبي الإنصاف على إنفاذها فتممها وشرع في العمل بها في ١٥ شوّال سنة ١٢٧٧ ه‍ ، وحلف الوالي على إنفاذها وعدم مخالفتها. وكذلك سائر المتوظفين ، واستغرقت جميع مداخل الحكومة في المصاريف التي عظمت وكثر المتوظفون والكتبة على ما تستدعيه القوانين وزيادة ، ووفرت المرتبات على نحو غير معهود في القطر حتى صار لذات الوزير خزنه دار من المرتبات ما بيانه في السنة :

ريالات

٠٠٠ ، ١٤٠

مرتبه على الوزارة الكبرى

٠٠٠ ، ٠٦٠

مرتبه على وزارة العمالة

٠٠٠ ، ٠٦٠

مرتبه على وزارة الخارجية

٠٠٠ ، ٠٦٠

مرتبه على وزارة المال

٠٠٠ ، ٠٦٠

مرتبه على نيشان آل بيت الوالي الذي هو حامل له

٠٠٠ ، ٣٨٠

الجمع

مع أنه يصرف مصاريف غير ذلك من أموال الحكومة كما تبين من الحسابات في الحكومة ، وجعل القائد نسيم لا يدفع لمن يطلب مالا من الحكومة إلا بإسقاط مقادير رابحة زيادة على الأرباح من شراء المهمات ، واستغرق بمثل ذلك جميع مداخل الحكومة ثم جعل جميع المال المطلوب للمعاقدات المار ذكرها من ماء زغوان وغيره دينا بالربا واستقرض له

٢٣٢

مبلغا بالربا من أوروبا قدره نحو تسعة عشر مليونا فرنكا حسبما هو محرر بالتقرير المصحح بخطه وخط المجلس الأكبر ، وقد برح إذ ذاك الخفا وبان لعقلاء رجال الحكومة سوء تصرفاته فكان أعظم المضادين له من كان أكثرهم قربا إليه ، وألحوا عليه في الكف عن تلك السيرة فصار لهم بالمرصاد وصار يشينهم عند الوالي ويقدح فيهم ضد ما كان يقول فيهم لأنه علم حالة الوالي وانقياده إليه ، ورام نقض القانون أو إبقائه صورة لأن مقصد الأمن على خصوص ذاته قد حصل بجريان الوالي على رأيه وإبعاده كل أحد عنه إلا الخدمة لخدمة ذاته ، واشتدت المشاحنة بينه وبين الوزير خير الدين إلى أن استعفى من وظائفه ثم تبعه الوزير حسين والوزير مصطفى أغه والوزير رستم ، وخلا الجو لخزنه دار وأخذت السيرة في طور آخر جديد ورام أن يضاعف أداء الجباية على الأهالي ويصيرها إثنين وسبعين ريالا على الرأس عوضا عن الستة والثلاثين ريالا التي أسسها محمد باشا وطلب موافقة المجلس الأكبر ، فامتنعوا واستبد هو بإمضائها مع تحذير العقلاء له ، فلم يلتفت إليهم مع أن الأهالي في ثروة من أثر سيرة محمد باشا تقويهم على الدفاع عن أنفسهم مع ما استأنسوا به من تلك السيرة وسماعهم بأن العدل والإنصاف قد شملهم بالقانون وأن لهم الكلام على حقوقهم ، فامتنعوا قاطبة وأراد غصبهم على ذلك فثار القطر كله ثورة واحدة لم تعهد من قبل على غاية من الرياضة والأمن بحيث لم يتعرضوا بالأذية لأحد مع أمن السبل وكثرة الغادي والرائح وضبط كل جهة ببعض أهلها لردع السفهاء وحفظ الراحة والأمن ، وكان متولي أكبر الجهة الغربية والملتف عليه أكثر قبائل الأعراب رجلا يسمى علي بن غذاهم وذلك سنة (١٢٨٠ ه‍).

ولا زالت هذه الثورة تسمى ثورة ابن غذاهم وكاتب الجهات بأنا أخوان ومطلبنا واحد وليس المراد منه الإفساد فالواجب حفظ الأمن والراحة وتأمين السبل ولا نتعرّض لأحد بشيء سوى اتباع الحكومة ، فإذا أرادوا وغصبنا على الظلم ندافع عن أنفسنا ، وأنذرت القبائل عمالهم الذين كانوا بين أظهرهم فمن أراد منهم التوجه إلى الحاضرة أوصلوه بأمان ومن أراد الإقامة منكفا عن التداخل في أمرهم أبقوه بأمان ، ولما توجه أمير الأمراء فرحات إلى الكاف لإجبار قبائل ماجر على ذلك الأداء ، تعرّضوا له وقتلوه فشدد النكير عليهم علي ابن غذاهم وقال لهم : أصل اتفاقنا إنما هو على الدفاع عن أنفسنا وما ضركم قدوم الرجل إلا إذا حاربكم فدافعوا عن أنفسكم ، وكاتب المذكور رئيس الفتيا العلامة الشيخ أحمد بن حسين وطلب منه التوسط في الصلح مع الحكومة ، وحاصل مطالب الجميع إبطال الأداء الجديد وعزل الوزير مصطفى خزنه دار ومحاسبته ، فامتنع الوالي أولا من جميع مطالبهم واشتد الكرب على الحكومة حتى لم يبق أمر الوالي نافذا إلا في الحاضرة ونحو إثني عشر ميلا حولها ، واشتد الخوف في الحاضرة وقدمت أساطيل الدول وأسطول الدولة العثمانية وفيه رسول سياسي أنزل في قصر المملكة بالحاضرة ، وتداخلت نواب الدول في النازلة وفي قبائل القطر وبلدانه كل بما يوافق سياسته ، وكان من جملة إلحاح قنسل الفرانسيس

٢٣٣

على الوالي لإرجاع الراحة عزل الوزير خزنه دار لكنه خاطبه بذلك شفاها كما هو مشهور في البلاد ، ورأيته بخط الوزير ابن أبي الضياف.

وأصر الوالي على الإمتناع إلى أن أحضر الوالي معسكرا قليلا وجهه تحت رياسة إسماعيل السني لميل الأعراب له لصدقه ، ثم خلفه الوزير رستم عند مرض الأول ووقع الإتفاق مع جمهورهم على إعطاء الوالي الأمان إلى الجميع وإسقاط الأداء المطلوب وعفا الله عما سلف ، وكتب الوالي بذلك أوامره وباشر بإعطاء الأمن كل من وفد عليه من الرؤساء وانتهز الوزير الفرصة لإبطال القوانين ، بدعوى أن الثورة قامت لطلب إبطالها وما سمع ذلك من أحد لأن أصولها لا تنافي الشريعة وغاية ما تكلمت فيه الناس هو فروع منها ، وذلك أنهم أنكروا كون قوانين الأحكام الشخصية لم تكن شرعية في كثير من المسائل ونسبها الجهلاء إلى أنها كلها مخالفة للشرع لجهلهم ولرؤيتهم هيئة الحكم على خلاف ما تعودوه في هيئة الأحكام الشرعية ، وللتصريح بقصر الأحكام الشرعية على أبواب خاصة دينية ، ولعدم إدخال الحكام الشرعيين في الحكم بالقوانين ، ولأن بعض من أدخل في الحكام لا جدارة له بها حتى خرج عن طوره بما لم تتحمله أنفس المعاصرين ، ولأنه أجريت القوانين دفعة واحدة في جميع الأنحاء حتى في القبائل التي لم يوجد أن يوظف فيها من يعرف القراءة والكتابة التي هي ضرورية في المتوظف ، وصاروا يخبطون خبط عشواء ، وكذلك ملّ الأهالي من التطويل الزائد في الأحكام على ما هو عادة الأشياء في مبدئها ، فهو في الحقيقة إرادة لإصلاح نفس القوانين لا كره ذاتها بدليل أن المجلس الأكبر لم يتعرّض له أحد من العامة والخاصة بالقدح فيه إلا بعدم اشتماله على أفراد من جهة المملكة حذاق لكي يعرفوا بما يليق بأحوال أطراف القطر ، والحال أن المجلس الأكبر هو روح القوانين لمحافظته على أساسها ، لكن الذي لم يكن له قصد سوى الأمن على نفسه وقد وجد الوالي لا يخشى منه ، أشاع هو ومن كان على شاكلته أن الناس يطلبون إبطال القانون وقد اعتمدت تلك الإشاعة وأبطل القانون ، والدليل على أن الناس لم يطلبوا ذلك المكاتيب التي أرسلها قنسل الإنكليز تسجيلا على إبطال المجالس ومفهومها قاض بموافقته قنسل فرنسا على ذلك ، وإن كان سر الأمر هو الإغراء من قنسل فرنسا بإبطالها ، لما ذكر في سياسة فرنسا بتونس.

ونص تعريب مكتوب قنسل الإنكليز الأول في فبراير سنة (١٨٦٤ م ١٢٨٠ ه‍) : «المعروض على جنابكم الرفيع ، أني [أرى] من الواجب عليّ أن نذكر جنابكم في هذا الوقت الذي أحواله الزمت جنابكم الرفيع توقيف تراتيب الحنان المؤسسة على الحرية في بلادكم ، فإن هاته التراتيب وقعت الوصاية في شأنها وكان ترتيبها بملاحظة الدولتين الحبيبتين الإنكليزية والفرنساوية وجنابكم ، وعدهما إذ ذاك رسميا بإتمامها وإبقائها على جميع قوتها وعدم تغييرها ، ووكيل الدولة الإمبراطورية الفرنساوية ورد له الإذن من دولته كما ورد لي الإذن من دولتي لأنهما على اتفاق واحد في النازلة وفي الحث على طلب

٢٣٤

ترتيب المجالس المختلطة بسرعة لفصل نوازل الجنايات والنوازل المتجرية لما يلزم من الوقت لعمل القانون المتجري ، ولما كان الإذن المذكور الصادر لنا من دولنا الذي تشرفت بعرضه على جنابكم بمكتوبي المؤرخ في (١٧) اشتنبر سنة (١٨٥٧) ، وهو نظير المكتوب الذي خاطبكم به موسيو روش نصا سواء ، ولم تزل المكاتيب موجودة يجب أن تكون سير نواب الدولتين في هذه المملكة على مقتضاها ، ولهذا يجب أن نطلب من جنابكم بشدة حرص أمرا زائدا على إبقاء المجالس وهو المبادرة إلى المجالس المختلطة الموعود بها منذ زمان طويل ، وبمقتضى ما تقدم من الإذن طلبت مشاركة قنسل جنرال دولة فرنسا في هذا المطلب كما يطلع جنابكم على نسخة مكتوبي إليه ، وهو موسيودين بوفال هذا وزيادة على الوعد الرسمي الذي أعطاه جنابكم إلى ملكي إنكلاتيره وفرنسا بحفظكم التراتيب المبنية على الحنان والتمدن التي أعطاها جنابكم لبلاده ، لا يخفى عليكم أن دولة إنكلاتيره عقدت مع دولتكم شروطا تقتضي دوام التراتيب المذكورة لأنها هي الحافظة لحقوق رعايا إنكلاتيره في هذه الملكة ، ومع وجود ذلك فتبديل تراتيب الحكومة الآن والرجوع إلى الكيفية القديمة بدون سبقية إعلام للدولتين الإنكليزية والفرنساوية بمقصود جنابكم يظهر منه في السياسة أنه فعل يدل على نقصان الإعتبار ، ولا شك في عدم وقوع ذلك من جنابكم مع دولتين حبيبتين ، وأيضا يظهر منه أنه غير صواب مع الدولة الإنكليزية التي في شروطها الأخيرة صدقت أمان الحكومة التونسية ومحبة الدولتين إلى جنابكم توجب عليّ عدم الزيادة في المشاق الموجودة في حكومتكم بمطالب تشق في هذا الوقت ، ولكن واجبات خدمتي تلزمني أن أطلب منكم رسميا دوام الأصول المؤسسة عليها إدارة الحكومة ، وخصوصا أني أترك لجنابكم انتخاب الكيفية التي تظهر لجنابكم أنها لائقة ومناسبة لإجراء تلك الأصول والجنوس المتقدمة في التمدن ، ربما لزمهم في أزمان متعددة بدون أن يتعرّضوا للأصول المؤسسة عليها قوانينها تبديل كيفية العمل بها وهذا الباب مفتوح لتونس اقتداء بالدول الأوروباوية الذين لا شك في فطنتهم وحكمتهم ، وهذا الأمر يظهر لي أنه سهل حيث أن التشكي الواقع من زيادة الأداء ومن تطويل المجالس في الحكم يمكن دواؤه بما تتهنى به البلاد وترجع إلى حالها الأصلي ، وهذا أعظم دليل على حسن خلق الرعية المستنتجة من هذه التراتيب لأنه لم يوجد في تواريخ تونس مثل سيرة القبائل في هذا الزمن لما لهم من الشكايات وهم متسلحون على عاداتهم السابقة في سالف الزمن ، لكن لم يتعرضوا بسلاحهم إلا للإحتماء من أداء ثقيل فوق طاقتهم» اه.

ثم كاتب الوالي أيضا بما نص تعريبه في مايه سنة ١٨٦٤ الواضع إسمه أسفله يتشرف بتقرير ما يأتي : وهو أني لما اعتبرت شأن الحال الغير المترقب الذي عرض لحكومة تونس ، رأيت من مقتضى الوداد أن لا أعطل سير عملها بما لا يقتضيه الحال ، ومع ذلك حيث لم يبلغني إعلام رسمي منكم بشرح كيفية مقدار التوقف الوقتي الذي وقع في قيود العمالة علاجا لأمرها ، فقد وجب على الواضع إسمه أن يطلب التعريف في ذلك ، كما أنه

٢٣٥

يجب عليه المحافظة بمقتضى هذا المكتوب على إبقاء ما حصل لدولة بريطانيا العظمى من الحقوق التي لا نزاع فيها بمقتضى شروطها مع علي جناب الباي ، محافظة متعلقة بما يمسها بمقتضى التوقيف الوقتي المذكور ، فالواضع إسمه يقرر للجناب أن تلك الحقوق معتمدها الاعتماد العمومي وقد لزم شرح الأسباب المبني عليها تقريره ، وهو أن المرحوم سيدي محمد باي والجناب العلي أدام الله عزه لما أصدرا عهد الأمان فهما ووزراؤهما والمفتون والقضاة وجميع علماء الشريعة الشريفة حلفوا يمينا وأكدوا يمينهم باستدعاء حضرة وكلاء الدول الأجانب بأنهم يحافظون على الوفاء بعهد الأمان بجميع شروطه ، وأبانوا أن عهد الأمان جزء من شروط الشريعة الشريفة والعلماء الكرام المذكورون ورجال الدولة أشهدوا الله على صدق نيتهم في إبقائها على الدوام والإستمرار من يوم صدورها فصاعدا ، وأن دولة بريطانيا العظمى اعتمدت على الوفاء والاعتقاد الذي لا يمكن منه فسخ لعهد الأمان بمقتضى هذه الأيمان ، وعقدت مع عليّ جناب الباي اتفاقا متعلقا بأمور منصوصة فيه ، فينتج من ذلك أن الحقوق المسلمة لرعية الإنكليز ولوازمها التابعة لتلك الحقوق بمقتضى الإتفاق المذكور معتمدها هو عهد الأمان والقوانين الناشئة منه وبذلك صار حقا من حقوق الدولة الإنكليزية يقتضي أن تطلع بسبب ذلك على حقيقة الحال في شأن عهد الأمان هل هو عامل بجميع شروطه أم لا؟ وكذلك توقيف القوانين الناشئة منه هل هي معالجة وقتية؟ ثم هل الحكومة التونسية مرادها أن تجري في المستقبل الأصول المقررة به على صورة مناسبة لحفظ مكاسب الإنكليز في العمالة التونسية وتأمينها؟ والواضع إسمه يطلب بحرص واجتهاد لا ينافي الأدب والتواضع جوابا شافيا شارحا للإستفهامات المذكورة ، ليخبر بها دولة ملكته المعظمة ، وكذلك أن الواضع إسمه يبقى ويتحفظ على لسان دولته في حقها على جميع الحقوق ولوازمها والكفالات التي أعطيت لرعايا الإنكليز بمقتضى ما هي مبينة بالإتفاق المذكور ، ويقرر أيضا أن ذلك الإتفاق إتفاق عمومي لا يخالف فيه من الجانبين». اه.

وأعاد الكتابة في يوليه الموافق لأواخر صفر سنة (١٢٨١ ه‍) ونص تعريب المكتوب : «الواضع إسمه أسفله نائب وقنصل جنرال حضرة المعظمة ملكة بريطانيا العظمى قد تشرف بمخاطبة الجناب العلي بمكتوب مؤرخ في مايه سنة (١٨٦٤) طالبا منه الشرح في شأن التوقيف الوقتي ، الذي وقع في رسوم العمالة بسبب أمر غير متوقع وقد أبقى وحافظ على لسان دولته في حقها على الحقوق التي يستحيل النزاع فيها ، الحاصلة لدولة المعظمة الملكة بموجب اتفاقها المعقود مع علي جناب الباي بمقتضى عهد الأمان والقوانين الناشئة منه ، وتوقيفها يمس الحقوق المذكورة ، وأن الواضع إسمه لا يمكن أن لا يحصل له في النازلة شيء من الفكر لأنه يرى أنه مضى شهران ونصف ولم يتشرف من الحضرة برد الجواب عن مكتوبه ، ولمراعاة الحكومة التونسية لم تقع معارضة غير ضرورية في سبيل إطلاق عملها وإنما الواضع إسمه أتاه الإذن بعد ذلك في تقوية عهد الأمان بسند ، مع أن دولة المعظمة الملكة لها اعتماد بأن عهد الأمان لما كان مبنيا على شروط الشريعة الشريفة لا يمكن نقضه

٢٣٦

إلا بنقض نفس الشريعة ، ولم تتخيل ولا يخطر ببالها بوجه من الوجوه أن السادة الأجلاء المفتيين والمدرسين للشريعة الذين حلفوا يمينا على إبقاء عهد الأمان أن يرضوا بأن يشيع في العالم ما لا يناسبهم من وقوع الشك في وفائهم بما عاهدوا عليه ، ومع ذلك دولة المعظمة الملكة ترى في الأمور المتعلقة باتفاق عمومي بينها وبين الحكومة التونسية أعظم اعتمادها دون الإعتقاد العمومي وهو صدق الباي ومحبته في إجراء العمل كما يجب بمقتضى الإتفاق المذكور ، فلذلك الواضع إسمه يرجو أن على جناب الباي يتفضل بالجواب عن الأسئلة المبينة في مكتوبه المؤرخ في مايه وذلك لإعلام دولته بجواب مقنع.

فأجابه الوالي في ذلك التاريخ ، بأن عهد الأمان باق على قوته ومفهومه ، فلو كانت الأهالي طلبوا إبطال القانون لما استطاع القنسل أن يسجل ضدا للرأي العام فيما يرجع إليهم ، على أنه قد صرح رسميا بما هو مطلوبهم كما هو بين لمن تدبر عبارة مكتوبه ، وكذلك ما نسب إلى قنسل الفرنسيس ولو كان امتناع الأهالي من القوانين موجودا لكان للوالي أعظم حجة في التعلل بدليل أنه يحتج به في خلواته على من لا يقدر على معارضته ، ومن وقتئذ تسلطت أيدي العدوان على الأهالي بسلب الأموال والقتل والضرب بالسياط المؤدي إلى القتل ، لأن الوزير اشتد حنقه عليهم حتى دخل عليه أحد الأعيان يوما وهو يقول : «طلبوا دمي فلا أرضى إلا بدمائهم ، طلبوا مالي فلا أرضى إلا بأموالهم». ولعل مراده بطلب دمه هو طلب عزله وقد اعتادوا في بعض الوزراء السابقين قتلهم فظن أن العزل يؤدي للقتل وإلا فنفس قتله لم يطلبه أحد أما المال فنعم قد طلبوا حسابه وأول باكورة بعد إبطال القوانين افتتح بها لأهل الحاضرة مع أنهم هم وحدهم الذين بقوا خاضعين للحكومة إلا أنه كثر بينهم الكلام في إنصاف مطلب الأهالي فجلد أحد أعيانهم المسمى محمد بن مصطفى عجم الشهير فيهم بالوجاهة بمجرد تهمته أنه أغرى بعض غلمان القصر الأميري بالهروب ، فجلد خمسمائة سوط مؤلمة بحضور أحد خواص الوالي لإتقانها وإكمال عددها وسجن مع الأعمال الشاقة في الكراكه ، ومنهم محمود بن سالم أحد الأعيان من التجار وأحد أعضاء مجلسهم ، ادعى الوزير أنه اشتكى به إليه من جماعة المجلس وسجنه. ومن أغرب الأمور أنه لما لاذ أهل المسجون بالوزير طالبين تسريحه أو بيان ما هو مطلوب فيه أرسل إلى جماعته يسألهم ما هي شكواكم التي سجنا بها الرجل فأجابوه أن جنابه أعلم بها منهم لأنه اعتمدها حتى عاقب الرجل بالسجن ، كما حصل لرجال الحكومة أشياء فمنها :

أنه حجر على الوزير إسماعيل السني الذي اعتمد في حل عقدة الثورة ، وعلى أمير الأمراء رشيد الذي سافر بالعساكر إلى الأستانة في حرب القريم ، وأمير اللواء الشريف السيد حسن المقرون الذي له اليد البيضاء في حفظ الراحة في الثورة في الحاضرة وحسين ورديان باشا وخسرف وعلي جهان ويونس الجزيري أمير لوا وحسن المدلجي أمير ألاي والسيد محمد المقرون ومحمد بن الحاج رئيس عساكر زواوة الذي جمعهم له عند عدم وجود غيرهم في الثورة وأعانه بما استطاع ، فحجر على جميع هؤلاء في الخروج من بيوتهم

٢٣٧

وخلطة الناس لأنه كان يوجس منهم الإعتراض على التصرفات ، ثم قتل الأولين في بضع دقائق من غير سماعهم لدعوى ولا حجة ولا استشارة وارتجت البلاد لذلك وشنعت القناسل سيما الفرنساوي والإنكليزي وسجلوا تسجيلا شديدا فكاتب الأول أي الفرنساوي إلى الوالي بما نص تعريبه :

إني أتمم خدمتي التي ساءني إتمامها وهي إعلام دولة الإمبراطور بالحادث الموجع الذي لوث قصر باردو بالدم ، فإن الفريق رشيد وزير الحرب كان رئيس العساكر التونسية في حرب القريم والفريق إسماعيل السني صهر جنابكم وقع قتلهما في القصر بمجرد تهمة لم يقع إعلامهما ممن صدرت ومن غير أدنى وجه من أوجه الحكم ، فلم يتيسر لي السكوت في مثل هذا الأمر وكان همي أن أقرر لجنابكم التأثير الذي لا بد أن يقع من ذلك وفي سيرتي هذه سبقت إذن جناب دولتي التي استحسنت فعلي المذكور استحسانا تاما ، وإن كنت مأذونا بإعلام دولة جنابكم وإعلام حضرتكم العلية نفسها بالتأثير الذي وقع لجناب دولة الإمبراطور من قتل الشخصين المذكورين ، ولم تتوقف دولة جنابكم في تحملها تلك المسؤولية العظيمة ، كما أني مأذون أيضا بأن أقرر لجنابكم التشويش الواقع من مشاق هذه الأحوال التي لم تزل تعظم من سائر جهاتها» انتهى.

وكتب الثاني أي الإنكليزي للوالي أيضا بما نص تعريبه : «أن الملحوظات الشفاهية التي تسامح الواضع إسمه أسفل هذا المكتوب في عرضها على جنابكم فيما يتعلق بالأمور الموجعة التي وقعت بقصر باردو في شهر التاريخ لا بد أنها أفادت جنابكم بأنها صادرة من التأثير القوي الذي عندي في شأن همة جنابكم ومصالحكم ، وفي شأن التأثير الموجع الذي سيقع بإنكلتره من ذلك ودولتي لا توافقني إذا ادعيت التداخل في تصرفات الدولة الداخلية التي يظهر لجنابكم استعمالها لحفظ الراحة العامة من مقاصد بعض الأشرار ، وبعد الشرح والتفصيل الذي تفضل به جنابكم عليّ لا يبقى لي شك في وجود حجج كافية أظهرت لجنابكم توقع مقاصد موجهة نحو ذاتكم العلية لإتلافها في قصركم نفسه ، ولا شك بناء على كونكم كبير الدولة أن يكون لكم الحق في استعمال سائر الطرق اللازمة لحل تلك العقدة التي مؤداها إتلاف ذاتكم العلية وخراب المملكة ، ولكن بسبب كون جنابكم هو شخص الدولة المرتسمة شرعا فمصلحتكم تقتضي ضرورة أنكم لا تسعوا إلا بإسم الشرائع وعلى مقتضاها فإنها أحسن ضمانة لكم ولا يبعد عنها إلا المتعدي عليها بفساده ، وبعد أن راضت نفس جنابكم وتأملتم في الأحوال لا شك أنكم تحققتم أن الخطر الحال الذي كان فيه جنابكم لم يكن حجة كافية في قتل فريقين من دولتكم لأن في تباعدكم عن طريقة سيرتكم المعتادة بعدا عن القواعد السالمة المرتسمة في القوانين التي منحتم بها بلادكم ، وهي وإن توقفت بالضروب الموجعة الخارقة للعادة فإنها لم تزل موجودة ، مع أن دولتكم مطلوبة بالشروط المنعقدة بينها وبين بريطانيا العظمى وجنابكم معترف بهذه الحقائق غاية الإعتراف لأنكم لم تتوقفوا في إقراركم الرسمي بأنكم تحترمون القواعد المذكورة وذلك

٢٣٨

بمكتوبكم لمسيو أوود المؤرخ في (١٨) أغسطس ولسنا نناظر عن مدة توقيف القوانين.

وقد حصل لي سرور لما حقق لي جنابكم بأنه لا يقع في المستقبل مثل هذه الأمور الموجعة التي وقعت ، وأعيد القول لجنابكم أني لا أتداخل في البحث عن جرم الجناية التي يمكن أن الشخصين المذكورين ارتكباها لأن إنسانية جنابكم التي كثير من أدلتها كافل لي بأن جنابكم كان متحققا بأنهما قتلا على حق ومع هذا التحقق كنا نود أن كيفية الحكم تكون على الصورة التي تقتضيها القوانين دفعا لما عسى أن يتهمكم به أعداؤكم ، فإن جنايتهما لم تثبت ولا يوجد شك في مساعدة أن القوانين هي أقوى الضمانات التي تستند إليها الملوك كأفراد الناس ، وقد رأينا في كل وقت أن كل من بعد عنها ليستعمل القوة المادية في تصرفه يكون سببا لأعدائه في أن يفعلوا معه كذلك مقتفين آثاره ، وأرغب من فضلكم المسامحة في هذه الملحوظات فإنها لم تقصد الأمور والأحوال التي فاتت لسوء البخت ، ولا يتيسر لأحد إصلاحها ، وإنما المقصود بها الطلب من فضل جنابكم أن تتذكروا أن بلادكم لم تبعد كثيرا عن أوروبا ، وأنها إذا لم تتقدم مع تقدم العصر فإن قواعد التمدن المتداخلة في كل مكان تعمها ولا يتيسر التصرف الآن كما كان في زمن الجدود ، لأن كل عصر له أحكامه وأحكام هذا العصر لا تقتضي أن الحكم الذي سيقع على الأسرى الذين لم يزالوا في العسكر أن الأمير يتصرف فيهم بما عنده من القدرة ، ويرى أن الحق له في التأمل بذاته في نازلة شخصية بل يلزم توفية حق المتهمين لدى مجلس وأنه يسمع مقالهم ويخاصمون على أنفسهم ويبرؤون أنفسهم من التهمة الموجهة عليهم ، فإذا أثبتت جنايتهم فالقانون يحكم وبهذه الكيفية تستحفظون على همتكم ولا تأخذون من القانون إلا الرفيع العالي في حق الملك وهو العفو عن المحكوم عليه» انتهى.

ثم جمع الوالي جميع رجال الحكومة وأخبرهم وأبلى في ذلك اليوم الوزير خير الدين البلاء الحسن بقوله القرائن التي ذكرت لا تثير لوثا فضلا عن القتل ، ثم على فرض صحة التهمة فبعد إيقافهما كان الواجب إقامة الدعوى عليهما وسماع جوابهما عليها إلى غير ذلك من الأعمال الواجبة ، وغاية الحجة في قتل الشهيدين هي التهمة بإعانة أخ الوالي محمد العادل باي على الهروب مع أنه لم يذكر في معرض الإحسان معه إلا رشيدا ولم يعرج على إسماعيل بشيء ، ورشيد نفسه لم يسمع الدعوى ولا قامت عليه حجة وأدمج في أثر ذلك نفي جميع من تقدم ذكره ، وكان في أثناء ذلك الوزير حسين خارج المملكة لما توقع من عظم كربها بعد تسليمه في جميع وظائفه فنجا مما لحق غيره ، ولحق به الوزير رستم فلم يبق من يعترض على التصرفات من رجال الحكومة.

وأما أهالي بقية القطر فقد أحيى فيهم ما دثر خبره ونسي ذكره من تسليط الحزب الحسيني على الحزب الباشي إلى أن خضدت شوكته ولصق بالأرض ، ثم كر على هذا الحزب أيضا ولحق بصاحبه فعاثت أيدي الأول بأهل الساحل وقتلوا النساء والصبيان مع

٢٣٩

معسكر الوزير أحمد زروق الموصي بالنكال وأحدث فيهم ما تقشعر من سماعه الجلود من قتل أربعة من رؤوس الساحل حكما هناك ، ولما أتى أهل المجلس الشرعي بالمستير لرئيس المعسكر أحمد زروق قابلهم بعسف وأحكم الأغلال والقيود في أعناقهم وأرجلهم وأمر بإزالة عمامة رئيس المفتين بلفظ مستهجن ، وعامل وفد صفاقس بما يقرب من ذلك وسجن القاضي وحكم أيدي النهب في الجميع ، وقد رأيت بخط الوزير الكاتب لأسرار الولاية في معرض ما حصل من أحمد زروق ما نصه:

وبالجملة فجميع ما ينسب في هذه الوجهة لأحمد زروق إنما هي نسبة تنفيذ لأنه مقيد التصرف بما يرد إليه في الأمر في كل نازلة الخ ، مما يصدق نسبة ما ذكرناه إلى صاحب التصرف وإن كان أحمد زروق تفاخر بما صنع حتى رآه بعض رجال الحكومة الكبار داخلا إلى جامع الزيتونة وهو لابس لنعله ، وقد جرى العمل باحترام الجوامع بعدم دخولها بالنعال فقال له في ذلك ، فأجابه بمرأى من الناس ومسمع بقوله : لولاي لربطت في هذا الجامع خيل أهل الساحل ، مع أن أهل الساحل معلوم إسلامهم وعلى فرض منعه المسجد من ذلك لا يسوغ له ذلك جواز إهانته ، وهذا الرجل أعني أحمد زروق لم يزل مقربا عند الوزير خزنه دار إلى أن انفصل عن التصرف ، ومن تصرفاته في تلك الوجهة أنه فلس الشيخ محمد الصويلح رئيس الفتوى بالإعراض وغرم أهالي تلك الجهات أموالا كثيرة أفنت الطارف والتالد وبقوا في قيد ديونها المثقلة للأجانب إلى هذا الوقت بحيث يصح أن يقال أن جميع ما يمكن أن يباع قد بيع وما لا يباع كالأوقاف وجميع ما تحصل من كسب أبدان أهل الساحل كله دفع للأجانب بسبب ديونهم ، ولو أفردت نازلة الساحل وحدها بتأليف لجاء مستكملا زيادة على القتل والسجن مع الأعمال الشاقة وضرب السياط الموجع أو القاتل ، حتى أن الوزير خزنه دار المذكور لما رأى خروج الضرب عن حده في السيد الشريف علي ابن عمر من أهل مساكن مع من أتى معه إلى محل حكم الوالي أظهر الشفقة وأرسل إلى الأعوان وقال لهم : إن سيدنا أمر بضرب هؤلاء لا بقتلهم فإن للقتل آلات تخصه ، وإنما أسند الأمر للوالي لأن ذلك هو دأبه كما تقدم من عدم مكافحته لأحد بما يوجع ويسند جميع الأعمال للولاة ، وأما جهات القطر الآخر التي سافر إليها المعسكر تحت أمر الوزير رستم فلم يقع بها من المضرات ما وقع بالأولى لأنه اقتصر على مجرد قود الطاعة واستخلاص المال الممكن للأهالي وعمل بالمثل القائل : «ولي أذن عن الفحشاء صماء عن الأوامر التي ترد عليه في سلب اللحم والعظم» ومن ذلك التاريخ حصل تغير الوزير خزنه دار عليه لما ذكر مع تعرضاته لتصرفات العمال على غير الوجه المعقول ، وكذلك المعسكر الذي سافر تحت أمرة ولي عهد الولاية أمير الأمحال أبي الحسن علي باي فقد اقتصر فيه على مثل ما ذكر واستعطف أخاه في العفو عن كثير من رؤساء تلك الجهات ، وأنكرت عليه تلك السيرة ممن يريد الخراب حتى أرسل معه إبراهيم بن عباس الرياحي قائد دريد وأمر أمير الأمحال باتباع إشارته وتنفيذ أمره لكي لا يجد الأمير سبيلا للإعتذار عن الناس مع ما

٢٤٠