صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

سبل المتقين ، وبشكر نعمك نقرع باب كرمك ، وهو باب الدولة العلية العثمانية والسلطنة المجيدية الخاقانية ، المخدومة بالأعمال والنية ، المقصودة لبلوغ الأمنية ، الوارد فضلها على الأقطار من كل ثنية ، والشمس عن مدح المادح غنية ، وكفاها أن رفعت من الملة الحنفية أركانا ، وأقامت للحق قسطاسا وميزانا ، وروت أحاديث العناية صحاحا حسانا ، وورث ملوكها الأرض وهم الصالحون سلطانا ، يتبع سلطانا من سمي ذي النورين إلى من اختاره المجيد سبحانه لعباده ، وأقام به شرائع دينه وفروض جهاده وتولاه بإعانته وإسعاده ، ويسر على يده مصالح أرضه وبلاده ، لا زالت القلوب بطاعته مؤتلفة ، والسيوف والأقلام بخدمته متصفة ، والألسن في الإقرار بعجزها عما يجب له منصفة ، وبماذا أحيي تلك الحضرة العلية الشامخة والقدم التي في كل فضل راسخة ، ضاق نطاق العبارة ولم يبق إلا مسلك الإشارة ، فالرجوع إلى السنة وتحية أهل الجنة السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله من عبد نعمته العاكف منذ نشا على خدمته محمد بن خديم الدولة حسين باشا باي. أما بعد.

فالمعروض على تلك الحضرة ولها طول العمر ، ونفوذ الأمر ، أن رهين نعمتكم وعبد طاعتكم وعاشر هذا البيت في خدمتكم ابن عم عبدكم ومقام أخيه المشير أحمد باشا باي سار إلى عفو الله فداء الحضرة السلطانية متزودا بما مات عليه من طاعة الخلافة وخدمتها بالعمل والنية ، وفي الحين بادر أهل الإيالة التونسية عموما وخصوصا ، وكانوا بنيانا مرصوصا ، إلى هذا العبد الفقير وألقوا إليه مقاليد أمورهم ، والنظر في حفظ مفردهم وجمهورهم ، فقام العبد بما وجب عليه من جمع الكلمة الإسلامية ، والدعاء على المنابر للسلطنة المجيدية ، راجيا من رضى الخلافة في تأمين البلاد وزوال روعة العباد ، وسد طرق الفساد ، واعتصمنا بحبل الله جميعا ولبى العبد الفقير سلطنتكم سامعا مطيعا ، على عادة أسلافه الخدّام مع السلف الصالح السلاطين الكرام ، ووسيلة هذا العبد أنه نشأ في ظل سلطنتكم وتغذى بلبان نعمتكم ، وتعرّف من نعمكم الأنواع والأجناس ، واستضاء من عنايتكم بنور يمشي به في الناس ، والكرم يرى لسالف الخدمة تأكد حرمة ، وقد ترجى العناية من ذلك الباب ، اعتمادا على فضل ذلك الجناب ، ولا يمت بغيره من الأسباب ، وعادات السادات سادات العادات ، والأمل أن تزيد خدمة عبدكم على خدمة من مضى حتى يرى من ظل الله الرضى ، والله يعاملني في نيتي فيما عرضت من أمنيتي قبل حلول منيّتي ، وقد ابتدأ العبد خدمته بما كانت إليه فيه مع من تقدّم واحده ، والقلوب والجوارح عليه متعاضده ، وهو إرسال طائفة من العسكر إعانة لتلك الفئة القليلة التي تقدمت وبحسن القبول قوبلت والأمل الذي عليه المعول أن يشملها الفضل الأوّل ، ومعها جهد المقل ومنتهى طاقة الضعيف وعلى قدر المهدي الهدية في هذه الإعانة الجهادية ، وعلم السلطنة بالحال ولكنه يقتضي الإغضاء عنه يقدم ذلك عبدا لسلطنة المكتفي بوثوقه وأمانته وسياسته ونجابته أحد خواص عبدكم ومحل إبنه محمد أميرا للوا وهو النائب عن العبد العاجز في طلب الفضل الذي وسيلته الرجاء والأمل ، وفضل الكرام لا يتوقف على ملاحظة عمل ، اللهم أعنا على ما أوجبت لهذه

٢٠١

السلطنة من فروض الطاعة وتأدية الحق جهد الإستطاعة ، واعصمنا بيدها الطولى من الإضاعة ، واحملنا من مرضاتها على سنن السنة والجماعة ، اللهم إنا إليه ناظرون وعن أمره صادرون ولإنجاز وعدك في نصر من ينصر دينك منتظرون ، فما فقد شيئا من وجدك ولا خاب من قصدك ، آمين يا رب العالمين وسلام على المرسلين والخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وكتب في شوّال سنة ١٢٧١ ه‍.

ومنها : مكتوب من محمد الصادق باشا عند ولايته في طلب الولاية والتقرير مثل السابق ونصه :

الحضرة العلية الخاقانية السلطانية المخدومة بالعمل والنية ، واثقة من عدلها وفضلها ببلوغ الأمنية. والشمس عن مدح المادح غنية ، خليفة رسول الله وظل الله في الأرض ، الحامي لشعائر الإسلام من سنة وفرض ، من اختاره المجيد سبحانه للخلافة ، وزين بما يرضيه أوصافه ، ومحى بعدله كل إخافة ، اللهم يا كريم يا مجيد أدم له النصر والتأييد والخير المزيد والعمر الطويل المديد في الزمن السعيد والعيش الحميد ، وأعن العباد على ما أوجبت له من فروض الطاعة ، واجعل السلطنة فيه وفي عقبه إلى يوم الشفاعة. أما بعد : السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله فإن العبد الشاكر على وراثة خدمته الناشىء في نعمته السابح في بحار منته ، يعرض للأعتاب العالية ومنبع الفواضل المتوالية ، أنه تقدم منه أخبار للباب العالي بوفاة أخي وللحضرة العلية طول العمر ودوام الأمر ، فصبر العبد على القضاء ورجونا له حيث توفي في خدمة الخلافة الرحمة والرضى ، وحفظ العبد العاجز رتبته على العادة ، المقرّرة من السلاطين السادة ، ووجه لباب الفضل عبد السلطنة العلية نخبة الأعيان ، وصفوة الأقران ، وزير البحر إبننا أمير الأمراء خير الدين يطلب على لسان العبد الفقير الفضل المعتاد ، من لباب السلاطين الأمجاد ، وعلى عادة هذه البلاد ، وقدم العبد على قدره ما يستحيي لعظمة السلطنة من ذكره ، وإن كان مقام السلطنة الكبير يسمو على التقدير ، ويرى الفضل بالقبول أوّل مأمول ، فالعبد وجه رسله لباب الفضل وانتظر ، وفاز من وضع الأمل موضعه بنيل الوطر ، والله أسأل أن يطيل بقاء أمير المؤمنين ويعز به الدين ، ويقوي بشوكته حبل الله المتين ، ويحيي بعدله سنن الخلفاء الراشدين ، ويديم الخلافة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، آمين يا رب العالمين ، والسلام على أمير المؤمنين ، من عبد نعمته المخلص في خدمته المؤمل لنعمته ، الفقير إلى ربه تعالى المشير محمد الصادق باشا باي وفقه الله. كتب في ١٨ ربيع الثاني سنة ١٢٧٦ ه‍.

وكاتب فيما ذكر الصدر الأعظم بما نصه :

الصدارة العظمى والركن الأعظم الأحمى والرتبة الشامخة الشما ، صدارة ركن الدولة

٢٠٢

وعز الوزارة ، ومنتهى الأمال ومصدر الإشارة ، ومن لا تفي بمحاسنه العبارة ، الوزير الشهير الصدر الأعظم السيد محمد باشا لا زال كما يختار سعيد الأراء محمود الآثار ومناقبه تخلدها أقلام الأقدار.

أما بعد تقديم التحية المناسبة للوزارة العلية المستمدّة من أنوار الخلافة المجيدية ، فإن العبد الفقير قدم للباب العالي خبر وفاة أخيه إنا لله وإنا إليه راجعون وأن أهل الإيالة قدموا العبد الفقير العاجز لجمع الكلمة من هذه الأمة المسلمة ، فأجبتهم لحفظ مصلحة الوطن وقلت ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، والآن وجّهنا لباب السلطنة العلية ومنبع الفضائل الجلية عبد السلطنة نخبة الأعيان وصفوة الأقران وزير البحر أمير الأمراء إبننا خير الدين ، وفي رفقته أمير اللواء إبننا حسين لطلب الفضل المعتاد من السادة القادة السلاطين الأمجاد ، ووجهنا معه الهدية على قدر العبد الفقير لا على قدر السلطنة الكبير ، كما يرى جنابكم السامي تقييد ذلك ، وجنابكم يسير رسولنا فيما يراه من المسالك ، والمحقق المأمول أن وزارتكم العظمى تعامل رسل العبد العاجز بحسن القبول ، كما هو المعروف من آثاركم والشائع من أخباركم ، ويرجع الرسول بفضل السلطنة قرير العين مسرور الفؤاد ودمتم دام لكم الإسعاد وبلوغ المراد على ممر الآماد والسلام ، من معظم قدركم العالي وشاكر فضلكم المقدم والتالي الفقير إلى ربه تعالى المشير محمد الصادق باشا باي وفقه الله. وكتب في ١٨ ربيع الثاني سنة ١٢٧٦ ه‍.

والمكاتيب على هذا النمط كثيرة وكفى بإعلان الولاة في جميع مكاتيبهم الرسمية بلقب التشريف الذي منحتهم به الدولة العلية ، يقول كل منهم من المشير فلان باشا باي وهاته السياسة هي التي يدين بها أهل القطر التونسي ، كالإعتقادات الدينية مع التمسك بالإمتيازات الحاصلة الآن ، وأهمها إبقاء آل حسين بن علي على الولاية لالتحامهم بهم ، ومعرفتهم طبائع أهل القطر ومنازلهم وطبقاتهم ، وإنما جلبنا ما تقدم بيانه وإن كان الأمر غني عن البرهان لما شاع في أذهان بعض من لا خبرة له ، بأن أحمد باشا شق عصا الإسلام وتبعه من بعده ، وكادوا أن يلمزوا أهل تونس بالكفر لرضاهم بأعماله ، مع أنه لم يأت شيئا فريا ، وغاية أمره التحفظ على الإمتيازات التي أوجدتها العادة ، ورام أن يحصلها رسميا جاء على غير الطريق المناسب ولم يحصل إلا إسقاط طلب الأداء السنوي وإبقاء الولاية في مدة عمره ، وإن تاب إلى الله مما سلكه من عدم الإنقياد لما طلب منه الذي ترائى للجمهور أنه شبه خلاف ، ورقع خرقه بزيادة إرسال العساكر على ما كان يعهد الذي هو في أواخر عهده بهذه الدار ، وعزمه هو وابن عمه من بعده على التوجه إلى دار الخلافة كما هو مشهور عند خاصتهم ، وقال : إن تخوفنا من الدولة العثمانية أراه أن يجر بنا إلى العدم ، ومعاذ الله أن أكون سببا في خروج هذا الصقع الإسلامي من يد المسلمين وخروج روحي أهون عليّ من ذلك ، هب أن الدولة انتزعت من يدي هذا الملك ألست بمسلم ، ورأيته بخط أمين أسرارهم كتبهم الخاص الوزير أحمد بن أبي الضياف.

٢٠٣

المطلب الثالث في سياسة القطر الخارجية :

اعلم أنه لم يكن من الدول جميعا معارضي للسياسة المتقدمة حتى أن الدولة الإنكليزية كانت مراقبة لحركات ولاة القطر معارضة لكل ما يخالف التبعية للدولة العلية ، مما يظهره بعض الدول والولاة ، وقد كانت تشدّد في ذلك بعد استيلاء الفرنسيس على الجزائر ، حتى أنها لم ترد أن تقبل أحمد باشا في سفره إلى أوروبا إلا بواسطة سفير الدولة العلية ، وعدل هو عن زيارتها لمخالفة ذلك للعوائد معه حيث كانت تقبل رسله بلا واسطة ، غير أنها بعد حرب القريم أغضت وقصرت من مسلكها إرخاء للعنان مع من يريد زيادة النفوذ من الدول ، كي يعوضها بمثله في الجهات التي لها فيها منافع مع وجود الإستناد الرسمي للدولة العلية ، الذي كانت تحوم حوله فتستند لذلك عند الحاجة.

وأما دولة إيطاليا فإنها كانت في المدة السابقة متفرقة ولما اتحدت وصار لها اعتبار التعديل في السنين الأخيرة ، فكانت موافقة لسائر الدول رسما وعلنا ، وفي السر ينزع بعض متوظفيها لما صارت تنزع إليه دولة فرنسا على غير الطريقة الرسمية ، وذلك لأن باتحاد إيطاليا صارت مشاركة للدول العظام في النفوذ في البحر الأبيض وتطلب المنافع التي تناسبها في جوارها ، ثم إن وحدة إيطاليا وجعل تختها مدينة رومة أحيت رسم خريطة الإستيلاء على قرطاجنة تذكارا لملك الرومانيين ، غير أنها لم تحم حول ذلك الحمى جهارا لما تقدم من حق الدولة العلية ولأن دولة فرنسا ناشرة لواء السطوة وسياستها لا توافق على ذلك ، فصارت إيطاليا محافظة على إبقاء ما كان على ما كان.

وأما دولة فرنسا فإنها لم تخالف تلك السياسة ولم يكن يعنيها أمر تونس وعلاقتها بالدولة العلية إلى أن استولت على الجزائر للأسباب التي سترد في الباب الخامس عند الكلام على الجزائر ، فمن ذلك التاريخ صارت متحذرة من زيادة تداخل الدولة العلية في القطر التونسي لأسباب :

منها : أن الجزائر أصلها تابعة للدولة العلية ولم يكن استيلاؤها عليها بحرب مع الدولة العلية وإنما اضطرّ إليه الحال في الإنتقام من والي الجزائر لإهانته نائب فرنسا.

ومنها : أن نفس الإستيلاء على الجزائر إنما تم بعد سنين ، وحروب طويلة مع أهلها وما زال أهلها يدينون في عقيدتهم بالخلافة للسلطان العثماني.

ومنها : أن مجاورة دولة قوية مثل الدولة العلية توجب مشاحنات يقتضيها الجوار ، ولا تذعن إحداهما للأخرى بسهولة بخلاف ما إذا كان الجار ضعيفا فما هو إلا أن يؤمر فيتبع.

وشاهده : أن بمجرّد ما تم أخذ الجزائر سنة ١٢٤٥ ه‍ ، قدّمت فرقة من الأسطول الذي كان على شطوط الجزائر وطلب رئيسها من والي تونس زيادة في الشروط ، منها : أن لا تختص الحكومة التونسية بمتجر بل ولا تتجر ، ومنها : إبطال التلصص بالسفن على السفن التجارية وإبطال ملك الأسرى وإبطال ما اعتيد من الهدايا ، وأن يكون للفرنساويين

٢٠٤

التعامل في القطر مثلما يتعامل أهله ، فعقد الوالي معه ذلك على كره ، وسجل وأرسل إلى دولة فرنسا معلما بأن الشروط أخذت شبه غصب ، وكانت إذ ذاك دولة فرنسا في شغل من الثورة على ملكها ، فعدلت تلك الشروط بعض التعديل.

فلمثل تلك الأسباب لزم فرنسا مراعاة مصالحها ومداخلتها في حراسة سياسة تونس ، والذي استقر عليه القرار من الدولة الفرنساوية من ذلك التاريخ إلا الآن ، هو ما يشير إليه ما رأيته بخط أمين أسرار الحكومة أبي العباس الوزير أحمد بن أبي الضياف ونصه : «لما اجتمع أي أحمد باشا بملك فرنسا وهو لويز فليب في خلوة ، قال له : «إن كنت تروم الإستقلال فلا سبيل إليه ، والذي تعتمده مني أن فرنسا تحمي بسياستها حالتك التي أنت فيها الآن ، بحيث لا يتعدى عليك أحد من جهة البحر ، وأما البر فدبر أمرك فيه من جهة طرابلس ، وأساس حمايتك هو التحبب إلى الرعية والرفق بهم». سمعنا ذلك منه مشافهة رحمه‌الله اه.

وهاته السياسة التي صرح بها ملك فرنسا إذ ذاك هي السياسة المعول عليها عند عقلاء الفرنسيس قديما وحديثا ، حتى قال أحد كبار جنرالات الفرنسيس وأحد حكام قطر الجزائر ، بقصد التبليغ إلى حكومة تونس والحال أنه عسكري والغالب على الحزب العسكري هو الميل إلى استيلاء ، وذلك سنة ١٢٩٥ ه‍ عند ختام مؤتمر برلين في شأن الحرب الأخيرة بين الدولة العلية والروسيا ، وقد اشتهر إذ ذاك أن بعض نواب الدول في المؤتمر لما رأوا مشاحنة نائب فرنسا في تسليم قبرس إلى الإنكليز ، أو عز إليه على غير الطريقة الرسمية بأن تستولي فرنسا على تونس إرضاء لها ولم تعمل بذلك فرنسا ، فقال الجنرال المذكور لمن يبلغ : «قل لوزيركم وللباي ها أنتم ترون من هي الدولة التي تصدقكم من التي تكذبكم ، فإنهم يقولون لكم أنا نريد الإستيلاء عليكم ليبعدوكم وينفروكم منا ، والآن قد أعطوكم لنا وأبينا من الإستيلاء عليكم ، فلتعلموا من هو الصادق ولتعلموا أنا لم نمتنع من الإستيلاء عليكم لمجرد حب الباي ، لأن مصالح الدول لا تتداخل فيها الشخصيات ، وإنما امتنعنا لعدم فائدتنا ، لأن فائدتنا في تونس إن كانت هي المال فهي فقيرة وخالية ، وفرنسا ليست بمحتاجة. وإن كانت هي تكبير الأرض ففي الجزائر أراضي وسيعة ولا زالت إلى الآن خاوية محتاجة إلى العمران ، فالأولى بنا تعمير أرضنا قبل أن نأخذ أرضا أخرى خالية ، فأي مصلحة لنا في أن نرسل عساكرنا لإطلاق الرصاص عليهم في قابس والحالة ما ذكر ، نعم غاية ما نطلبه منكم هو الهناء والراحة في داخليتكم حتى نرتاح نحن براحة جوارنا ، وأما إذا أحدثتم الإختلال في داخليتكم وأحوجتمونا إلى إطلاق الرصاص لأجلكم ، فالأولى أن تطلقوه إذا لأجل أنفسنا لأن ما كنا نتباعد عنه توقعونا أنتم فيه الخ».

فكلامه صريح في أن سياستهم هي إبقاء تونس على ما هي عليه ، وكذلك سمعت من أعيانهم في السياسة أنهم كما لا يريدون هم الإستيلاء على تونس لا يريدون غيرهم أن

٢٠٥

يتولاها ، مصرحين بحقيقة سياستهم التي وفى بها كلام الجنرال المذكور ، مع الأنفة من منة الدول في المؤتمر بإعطائهم شيئا لا فائدة فيه زيادة على ما هم حاصلون عليه وهو غاية أربهم في تونس ، بأن يكون لدولة فرنسا المنزلة الأولى فيها وتتقدّم على غيرها في النفوذ السياسي والمتجري ، بحيث تكون كل مصلحة عامّة لا يقتدر على عملها الأهالي أو الحكومة تسلم إلى الفرنساويين ، ويرغبون في أن تكون الإدارة في الداخلية حسنة تثمر كثرة العمران والثروة ليزداد بذلك متجرهم وحركتهم ونفوذهم ، لكن على وجه في الإدارة لا يمكن أن يتعطل به قصدهم ، ويرى بعضهم أن من أسباب التعطيل أن تكون الحكومة قانونية شورية إذ ربما رأوا أن ذلك يعارض مصلحتهم في بعض الأحيان باستناد الحكومة في الامتناع من الإجابة إلى بعض مقترحاتهم لرأي الأمة التي هي مقيدة به ، وذلك عندهم مما لا يمكن أن يعارض لأنه هو القاعدة الأساسية في مملكتهم وما عدا ما تقدّم فلا أرب لهم في الإستيلاء على الأحكام أو معارضة الوصلة مع الدولة العلية التي لا تنقض هاتيك الأساسات.

فهاته هي مقاصدهم فلو تجديد الإدارة في الحكومة قادرة على الإنتفاع بها ودفع غائلتها ، ومنها عدم الإستواء في الحكم لكان مما يعين على الراحة ورجال الدولة الفرنساوية قابلون لإصلاح الأحكام وانفرادها كما سيأتي بيانه ، ومثل ذلك تقييد الحكومة بالقانون الذي لا مندوحة عنه ، ويتبين لرجال الدولة الفرنساوية أن التقييد بالقانون لا يفوت مصلحتهم المذكورة لأن عقلاء الأمة باجتماعهم تكون حالتهم أدعى إلى ما يزيد في خير الوطن ، وما يدركه أفراد المستبدين في تونس بالتصرف من وجود مراعاة الدولة القوية المجاورة يدركه مجموع العقلاء للأمة على وجه أتم مما هو للأفراد ، ويراعون مقتضى الأحوال.

نعم إنهم يفرقون بين ما يعود لما ذكر وما يعود لأفراد في خويصة ذاتهم مما لا يرضاه عموم الأمّة لو تطلع على تفاصيله ، ولمثل ذلك ألحت دولة فرنسا على تونس في تأسيس التنظيمات سنة ١٢٧٤ ه‍ كما سيتضح ، وعاضدتها دولة الإنكليز حتى ورد أسطول الدولة الأولى وكان في آثاره أسطول الدولة الثانية ، وألح كل من قنسليهما في إجراء الأمر محتجين بالشريعة وعمل الدولة العثمانية والسياسة الحاضرة ، وعاضدهما رئيس الأسطول الفرنساوي وتحققوا أن ذلك غير معارض لمصالح دولهم الخاصة ، وإن استند بعض متوظفيهم في بعض الأحيان ميلا إلى موافقة الولاة الممتنعين إلى أن الحكومة الشورية يخشى منها تعطيل مقاصدهم وينهون إلى دولهم الأحوال على ما يوافق سلوكهم ، وربما أشاروا إلى فوات مقصود دولتهم إذا خالفت رأيهم فتضطر دولتهم إلى السلوك على ما يشيرون إليه ، حيث أن الدول العظيمة تراعي الوصول إلى مقاصدها في الخارج بأي طريق أمكن ، وتكسو تلك الوسائل بحلل تحسنها أيدي السطوة والقوّة ، ولا مقايسة بين سيرتهم في داخليتهم وسيرتهم في الخارج سيما في الجهات التي لهم فيها مأرب ، فربما ارتكبوا في ذلك ما لا يمكن

٢٠٦

تصور مثله في داخليتهم ، ووجه ذلك هو التوصل إلى نفع دولتهم لأن مثل تلك المنافع إذا ساغ أن تعقد لأجله الحروب التي تراق فيها الأنفس وتضيع فيها الأموال من الطرفين ، فلئن يتوصل إليها بوسائل أخرى أيا كانت فهو أخف وأولى ، ولهذا لا ترى أثرا لمثل تلك السيرة في الجهات التي لا مقاصد لهم بها ، بل تراهم هناك يسيرون على نحو سيرتهم في داخليتهم ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الخاتمة إن شاء الله تعالى ، إذ القصد هنا خصوص ما يتعلق بالقطر التونسي من جهة سياسته الخارجية.

وحاصله من جهة فرنسا : إبقاء تونس على حالتها وامتيازاتها والامتناع من زيادة الإلتحام بالدولة العلية ، ولذلك لما قدم قبطان باشا إلى طرابلس لافتكاكها من يد آل قراماني سنة (١٢٥١ ه‍) ، أرسلت فرنسا أسطولا إلى حلق الوادي حذرا من قدوم الأسطول العثماني إلى تونس ، فتخوف إذ ذاك والي تونس مصطفى باشا من أن يتهم بسعيه في ذلك ، وكاتب قنسل فرنسا بما نصه :

وبعد ، فإن جناب الدولة الفرنساوية وجهت أجفانها لمرسى عمالتنا على مقتضى المحبة والمودّة وقابلناهم بإكرام ، لأن شقوفنا في مراسي الفرنسيس كأنها في مراسي عمالتنا ، فكذلك شقوف الفرنسيس عندنا ، وأما إقامة الأجفان في هذا الوقت بحلق الوادي ودونالمة مولانا السلطان بقربنا وفيها السيد قبطان باشا ، ربما تنتج لنا مضرة في الحال أو في المستقبل من جهة الدولة العثمانية أدام الله لنا وجودها ، لأنها ربما تظن في جنابنا ظنا يضر بنا ، ومعلوم أننا تحت طاعة مولانا السلطان في أمره ونهيه وباسمه نخطب في جوامعنا وعلى سكتنا ، فلا يخطر ببالنا أننا نعصيه أو نخالف أمره أو نعارضه بشيء ، فالمراد أن تعرف الأمرال بهذه المضرة التي نتوقعها والاعتماد على كمال عقلكم في حسن التبليغ ، وشقوف الفرنسيس مهما تمر بنا أو تأتي لمرسانا فمرحبا بها ، ونقبلها بالإكرام على مقتضى قوانين المحبة ولا زائد إلا الخير والعافية ، وكتب في (١١) جمادى الثانية سنة (١٢٥٢ ه‍).

وأجابه القنسل بما نص تعريبه :

أنه بلغنا ووصلنا المكتوب الذي تشرفنا به من عند السيادة ، وأعلمنا به الأمرال للندن وعلمنا جميع ما تضمنه ، وجوابنا عليه هو ما سنذكره ، وهو أن جنابكم العلي بريء وأجنبي وخارج من الإتفاق الذي اقتضاه نظر الدولة الفرنساوية في إرسال هذا الأسطول لسواحل تونس ، وأنتم لا يمكن لكم أن تمنعوا دولة الفرنسيس من ذلك وهو إرسال شقوفها لسواحل تونس ، ولأجل ذلك لا يوجد عليكم لوم ولا عتاب من جناب الدولة العثمانية ، لأنه لا وجه لذلك ، والدولة الفرنساوية تعلم تحقيق حالتكم مع الدولة العثمانية وحاشا جناب دولتنا أن ترضى بما يوجب لكم غيارا مع دولتكم ، وإنما مراد الملك أن تبقى جناب دولتكم مع الدولة العثمانية على العهد القديم السابق من غير تبديل ولا تغيير ، لكن الدولة العثمانية لا يمكن لها أن تخترع أمرا جديدا تضر به مصلحة الفرنسيس في الناحية التي تحت يده في أفريقية ،

٢٠٧

ولأجل أن يمنع ما عسى أن يقع من المضرة أرسل الملك أسطوله لتونس ليمنع به قدوم قبطان باشا لأجل التصرف بما هو مأمور به ، والأمرال لما بلغه أن قبطان باشا أتى لطرابلس وأعلم أن مراده الإتيان لتونس ، في ذلك الحين أرسل الأمرال جفنا من الأجفان التي تحت حكمه هنا ليعلم قبطان باشا أن حبيب السلطان الصافي وهو ملك الفرنسيس لا يمكن له أن يتحمل هذا التعدي بوجه من الوجوه في المملكة التي تحت يده في أفريقية ، لأن قدوم دونالمة المسلمين إلى تونس يتقوّى بها قلب باي قسنطينة الذي عندنا معه في التاريخ مكالمة ، وربما كان بيننا وبينه حرب ، فلأجل ذلك نعلم قبطان باشا أن لا يقدم ويرجع للمحل الذي جاء منه ، فإن صمم وعزم على القدوم فإن الأمرال واجب عليه أن يصده ويمنعه بالمدافعة القهرية بالقوّة ا ه.

فأنت ترى كيف صرح بالحالة المطلوبة مع تصريحه بأن الدولة العلية هي دولة تونس ، لكنها بامتيازها كما هو صريح عبارته لمن تدبرها ، فهذه هي السياسة الخارجية لهذا القطر ، واستمرّ عليها إلى سنة ١٢٨٠ ه‍ التي حصلت فيها الثورة العامة الآتي بيانها ، ونادى الأهالي بالتشكي للدولة العلية ، وقدّمت شكايات شفاهية وكتابة لرسولها حيدر أفندي عند قدومه بالأسطول العثماني مع أساطيل الدول ، وطلبوا بواسطته تداخل الدولة العلية في تحسين إدارة القطر ، بل إن بعض البلدان طلبوا الإنضمام الحسي للدولة ورفعوا العلم العثماني ، وتداخل في هاته الثورة نواب الدول كل على حسب ما تقتضيه سياسته ، فأثرت الحالة في الوالي ووزيره مع ما هو معلوم من الحالة السياسية السابقة ، وأنتج الرأي أن يرسل بالشكر للدولة العلية عما فعلته ، ويطلب منها تحرير الروابط والإمتيازات كتابة بما لم يبق معه مقال لقائل ، فسافر بذلك الوزير خير الدين مع التفويض التام ، وقص على الصدر الأعظم وهو إذ ذاك فؤاد باشا مطالبه ، وحصلت مذاكرات مع رجال الدولة عديدة أنتجت الإتفاق على أصول الروابط المبنية على العوائد المعروفة الآتي بيانها في نص الفرمان الآتي.

وتلقى الوزير خير الدين مع مزيد الترحاب به من الدولة ما يبلغه للوالي شفاها من مزج حلاوة الثناء عليه بمرارة الإعتراض على تصرفاته التي هوت بالقطر إلى الخراب وتلقى ذلك حتى من فم السلطان عبد العزيز نفسه ، ثم رجع بمكتوب من الصدر فؤاد باشا محتويا على الأصول التي وعد بأنها سيصدر بها الفرمان الذي صدر الإذن السلطاني به ولم يساعف الوقت للعجلة بصدوره ، ثم كتب الوالي يشكر ذلك واستنهض صدور الفرمان مرارا فيرد الجواب بالوعد ، وكان جميع ذلك غير معلن به إلى سنة (١٢٨٨ ه‍) وكانت فرنسا إذ ذاك في شغلها الشاغل من حرب ألمانيا لها ، فاطمأنت إيطاليا من جهتها وظنت تأثير التباعد من الدولة العلية وسنحت لها فرصة وهي أن وزير الحكومة التونسية مصطفى خزنه دار اكترى أرضا وسيعة تسمى بالجديدة إلى لجنة إيطاليانية ، وأرسل الوزير أحد أعوانه إلى تلك الأرض رائما التسبب لفسخ الكراء مع ما في نفس إيطاليا من جهة تونس ، فادعت اللجنة

٢٠٨

خسائر حصلت لها من تعدي تابع الوزير لو بسطت من الذهب على سطح تلك الأرض لما وسعتها وامتنع الوزير من تحمل ذلك ، فأعلن قنسل إيطاليا بقطع الخلطة وتهدد الوالي وجهزت إيطاليا أسطولها للإستيلاء لو لا تعرض الدولة العلية الذي حجزها عن ذلك ، وانفصلت النازلة بالشروط التي أرادتها دولة إيطاليا في الخسائر التي ادعت بها اللجنة ولم تختص بالواقعة بل هي عمومية ، فتيقن الوالي أن لا نجاة إلا باحكام الوصلة مع الدولة العلية بأمر علني تحصل منه الراحة ، فكتب الوالي يستحث إصدار الفرمان ، وكتب الوزير خير الدين للباب العالي مكتوبا في بيان الأخطار المحيطة بالإيالة إذا لم تتدارك الدولة العلية بحفظها ، فورد الجواب من الصدارة بأن نازلة الفرمان مهما تقتضي إرسال من يعتمد من الوالي للتفاهم في النازلة مع تلميح أو تصريح باستقباح السيرة التي عليها الوالي والصدر إذ ذاك علي باشا ، ففهم رجال الحكومة أن الدولة غير راضية بأن يبني الفرمان على ما في مكتوب الصدر السابق ، فوجه الوالي الوزير خير الدين بالتفويض الذي نصه :

من عبد الله سبحانه الموكل عليه المفوّض جميع الأمور إليه المشير محمد الصادق باشا باي سدد الله تعالى أعماله وبلغه آماله إلى الهمام المفخر أمير الأمراء إبننا خير الدين الوزير المباشر أدام الله حفظه وأجزل من السعادة حظه (أما بعد) :

فإننا بمقتضى ما نتحققه من صدقك وأمانتك وكتابتك وجهناك للأبواب العلية السلطانية العثمانية أعز الله نصرها وأدام الله فخرها للكلام فيما يؤكد أصول عاداتنا المألوفة المعروفة الآن وما تنفصل به مع الدولة العلية في ذلك بالكتابة فهو ماض في حقنا ، فوضنا لك في ذلك التفويض التام بحيث لم نستثن عليك في ذلك فصلا من فصول التفويض ولا معنى من معانيه ، وأقناك فيما ذكر مقام أنفسنا تفويضا تاما عرفنا قدره والتزمنا به والله أسأل لكم التوفيق والإمداد وبلوغ الآمال والإسعاد.

ومع التفويض المتقدم ومعرفة العادات المألوفة ، فإن الوزير المذكور لم يتمم شيئا مع الدولة إلا بعد أن عرض على الوالي الشروط التي استقر عليها الرأي للفرمان وقبول الوالي لها مع الإستحسان ، فتمم الفرمان مع الصدر إذ ذاك محمود نديم باشا ، وقاسى الوزير خير الدين متاعبا من مناضلة رجال الدولة العلية في زيادة شروط الإمتياز ، وناضل الوزير خير الدين عن حقوق البيت الحسيني بما يشهد له بصدق الوفاء والبراعة في السياسة ، ولم يزد في الفرمان على ما تضمنه مكتوب الصدارة إلا قليلا ، ورجع الوزير خير الدين بالفرمان علنا مع إعلاء رتبة نيشانه وإتيانه بالنيشان المجيدي المرصع للوالي ولعدة من كبار رجال الحكومة بنياشين ، ولما وصل إلى مالطة لزمته إقامة مدة الاحتماء بها حيث كان في الأستانة مرض الكوليرا ، ومن استبشار الوالي به وشكره على عمله أرسل له أمير لواء العسة مصطفى ابن إسماعيل ، وهو إذ ذاك أعز المقربين إليه فواجهه من خارج محل الاحتماء وأبلغ إليه التشكر وبات ليلة ورجع في الباخرة الخاصة التي قدم فيها ، ولما قدم الوزير المذكور

٢٠٩

بالفرمان المشار إليه عقد له موكب كأعلى ما يمكن من المواكب ، وألبس الوالي النيشان ، ثم تشرف بالفرمان وعظمه ثم قرأه علنا وهذا نص تعريبه :

بتعريب الباب العالي الدستور المكرم المشير المفخم نظام العالم ، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب ، متمم مهمات الأنام بالرأي الصائب ، ممهد بنيان الدولة والإقبال مشيد أركان السعادة والإجلال ، المحفوف بصفوف عواطف الملك الأعلى الوالي بتونس الآن ، الحائز الحامل للنيشان المجيدي الشريف من رتبة الأولى مع النيشان ، الهمايوني العثماني المرصع ، وزيري محمد الصادق باشا أدام الله تعالى إجلاله آمين.

ليكن معلوما عندما يصلكم توقيعي الرفيع الهمايوني ، أنه منذ وجهت وأودعت من جانب سلطنتنا السنية إدارة الإيالة التونسية التي هي من ممالك دولتنا العلية المحروسة المتوارثة التي عهدتك ذات اللياقة والأهلية ، كما وجهت سابقا إلى عهدة أسلافك لم تزل تظهر حسن السيرة والخدمة وتنهى إلى طرفنا الملوكي الأشرف خلوص النية والإستقامة ، حتى صار ذلك قرينا لعلمنا المضيء بالعالم فمأمولنا السلطاني على مقتضى الشيم المرضية ، التي جبلت عليها هو الدوام في ذلك المسلك المرضي والجد والاجتهاد في كل ما ينمي عمران مملكتنا الشاهانية ، وسعادة أهاليها تبعة دولتنا العلية ورفاهيتهم وراحتهم ، حتى تستديم بذلك استحقاق عنايتي الشاهانية واعتمادي السلطاني المبذولين في حقك وإن فئنا وتعرف قدر تلك العناية والاعتماد وتشكرهما.

ولما كان المقصود الأصلي والمراد القطعي لسلطنتنا السنية هو ارتقاء طمأنينة الإيالة المهمة الراجعة لدولتنا العلية ونمو عمرانها وتأسيس أبنية الأمن والراحة لسكانها يوما فيوما ، وكان من البديهيات أن السلطنة العزيزة لا يعزها ولا يؤودها صرف الهمّة والعناية العائدة إلى حقوقها الأصلية لتمام استحصال هاته المطالب ، وورد الطلب المندرج بكتابك المخصوص الموجه من طرفك أخيرا إلى جانب الخلافة العلية ، قررت وأبقيت إيالة تونس المحدودة بحدودها القديمة المعلومة بعهد تال بضم امتياز الوراثة وبالشروط الآتية ، وحيث أن مرغوبنا السلطاني على ما تقدّم بيانه إنما هو تزايد عمران تلك المملكة الشاهانية وثروة أهاليها وهي الآن في حالة مضايقة وتأخر في الواردات لكل من الحكومة والأهالي ، قد سمحت السلطنة السنية بعدم إرسال ما كان يرسل بإسم معلوم من الإيالة لطرف دولتنا العلية بموجب التبعية المقرّرة المشروعة رحمة لأهالي تلك الإيالة ، ولما كانت الإيالة المشار إليها من الأجزاء المتممة لمملكتنا الملوكية ، صدرت إرادتنا السنية بأن يكون الوالي بتونس مرخصا له في تولية المناصب الشرعية والعسكرية والملكية والمالية وهما السياسة لمن يكون متأهلا لها ، وفي العزل عنها بمقتضى قوانين العدل وفي إجراء المعاملات المعلومة مع الدول الأجنبية كما كانت سابقا فيما عدا المواد البوليتكية العائدة إلى حقوقنا المقدّسة الملوكية ، ونعني بها

٢١٠

ما كان كعقد الشروط المتعلقة بأصول السياسة والحرب وتغيير الحدود ونحوها مما يكون إجراؤه راجعا إلى حقوق سلطنتنا السنية.

وعند حلول القدر المحتوم في الولاية وتقديم المعروض بطلب الفرمان الشريف من الوارث الأكبر من عائلتك لطرف سلطنتنا السنية ، يرسل له الفرمان الشريف مع منشور الوزارة والمشيرية الهمايوني كما استمر العمل بذلك إلى الآن ، بشرط أن تستمر الخطبة بإسمنا السلطاني وتزين به السكة التي تضرب هناك علامة علنية للإرتباط القديم الشرعي لإيالة تونس بمقام الخلافة الجليل ، وأن يبقى السنجق على لونه وشكله ومهما وقع حرب لسلطنتنا السنية مع أجنبي يرسل العسكر من تلك الأيالة الشاهانية بقدر الإستطاعة طبق ما جرت به العادة القديمة في الجميع ، ومع تلك المواد يكون أمر الولاية بطريق الوارثة مخصوصا بعائلتك ، على أن تبقى سائر المعاملات الإرتباطية مع دولتنا العلية جارية مرعية كما كانت سابقا ، وأن تجري الإدارة الداخلية لتلك الإيالة مطابقة للشرع الشريف وموافقة لقوانين العدل التي يقتضيها الوقت والحال الكافلة بتأمين السكان في النقش والعرض والمآل ، فإعلانا لما ذكر صدر هذا الفرمان الشريف الجليل القدر من ديواننا الهمايوني ، وأرسل موشحا أعلاه بخطنا الهمايوني السلطاني ، فخلاصة نياتنا الشاهانية إنما هي إصلاح حال تلك الإيالة المهمة وما لآل بيتكم ، وتقوية ذلك حالا ومألا واستكمال أسباب السعادة والرفاهية والأمنية لصنوف تبعتنا المستظلين بظل عدلنا السلطاني ، ومأمولنا القطعي الملوكي أن يبذل من جهتنا الجهد في حصول ما ذكرتم ، حيث كان تمام المحافظة على حقوق سلطنتنا السنية المحققة بتونس من قديم الأزمان وعلى أمنة الأهالي القاطنين بتلك الأيالة المودعة بعهدة صداقتك من حيث النفس والعرض والمال وسائر الحقوق العمومية ، شرائط امتياز الوارثة الأساسية المقرّرة ، فيقتضي أن تتأكد محافظتها عن تطرّق الخلل دائما سرمدا ومتباعدا عن وقوع الحال والحركة على خلافها.

إذا عرفت ذلك فلا بد أن تعرف أنت ومن يقوم مقامك في أمر الولاية بالتوارث من أعضاء عائلتك قدر هاته النعمة العلية الشاهانية وتشكرها ، فعلى ذلك تسعى لتحصيل رضاي السلطاني بالغيرة ومزيد الإهتمام بإجراء هذه الشروط المؤسسة. حرر في اليوم التاسع من شهر شعبان المعظم سنة ثمانية وثمانين ومائتين وألف.

ونشر الفرمان في صحف الأخبار وحصل إذ ذاك من عموم الأهالي أفراح خارقة للعادة في ذات الحاضرة وفي سائر بلدان القطر وفي سائر قبائل العربان كل بما يناسب عوائده ، ودامت الزينات أزيد من ثلاثة أشهر متوالية ، والسبب في ذلك.

أما ما يتعلق بالوالي : فلإستقرار أمره على أساس متين له ولعائلته طالما سعى فيه من كان قبله ولم يحصل عليه كما تقدّم ، مع الإرتياح من مقاصد الأجانب المتنوّعة.

وأما الأهالي : فلحصول مرغوبهم من تمام الإتصال بالدولة الإسلامية ، مع شروط

٢١١

الأمن لهم وحسن الإدارة فيهم من ولاتهم الملتحمين بهم والمحبوبين عندهم ، وإن لم يجر المطلوب فيهم على وجهه مما أبقى الباب مفتوحا في حقهم ولم يحصل من الدول الأجنبية أدنى إنكار ولا معارضة لما تضمنه الفرمان المذكور إلا دولة فرنسا ، فلم توافق على الإعتراف به وبقي الأمر على ذلك رسميا إلا الآن ، لكن المقاصد والسيرة الصادرة من الوزير الحالي مصطفى بن إسماعيل وما نشأ عنها من الإرتباكات يجهل ما هو منتهاها ، فلله فيهم علم غيب هم صائرون إليه ، فهذا هو خلاصة السياسة الخارجية لهذا القطر إلى هذا العهد وهو جمادى الثانية سنة ١٢٩٧ ه‍.

تنبيه : قد حدثت حوادث مهمة مما أشرنا إليه بعد الفراغ من هذا الجزء نفردها بذيل وحدها إن شاء الله تعالى عند الكلام على سياسة فرنسا الخارجية.

٢١٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المطلب الرابع في السياسة الداخلية من العائلة الحسينية.

اعلم أنه منذ وليت العائلة الحسينية هذا القطر التونسي كان مدار أمرهم الرفق بالأهالي والخمول والتباعد عن سمات الملك والرفاهية ، وغاية الألقاب التي تحلى بها أتباعهم وأعوانهم هي ما يأتي :

فأولها : صاحب الطابع ، يعني حافظ ختم الوالي ومأموريته ختم المكاتيب ومباشرة المتوظفين فيما لم يباشره الوالي ، ويكون هو الواسطة بينهما.

وثانيها : باش كاتب ، وله رياسة الكتابة ومحاسبة العمال والرأي في كل الأحوال.

وثالثها : خزنه دار ، وهو حافظ مال الحكومة في قصر الوالي.

ورابعها : باش أغه ، وله رئاسة أغوات أوجاق الخيل.

وخامسها : كاهية ، وله نيابة الوالي في الأحكام.

وسادسها : أمين الترسخانة ، ولنظره ما يرجع إلى البحرية.

وسابعها : باش حانبه ، وهو الواسطة بين الوالي والمشتكين إليه مع رياسة الحوانب وهم الأعوان الخيالة للحكومة ، وهاته الوظيفة منقسمة إلى شخصين ، أحدهما : باش حانبه ترك ، والآخر : باش حانبه عرب ، وهذا له نفوذ على الآخر.

وثامنها : باش مملوك ، وله رياسة إدارة القصر الأميري.

وتاسعها : الداي ، وله الحكم في الجنايات [مطلقا] إلا القتل فهو خاص بالوالي ، وله حفظ الراحة في خصوص الحاضرة.

وعاشرها : شيخ المدينة ، وله الحكم في الليل وحفظ المدينة ليلا من السراق ، وترجع إليه سائر المعاملات العرفية وخصومات الأجانب في الديون ، كما أن في كل ربض شيخا لخصوص حفظه ليلا.

وحادي عشرها : آغة القصبة ، وله الحكم في العسكر الينكشاري والجنايات الخفيفة ومثله آغة الكرسي بانحطاط درجته عن السابق.

وثاني عشرها : رئيس مجلس التجارة ، ومعه عشرة أعضاء يسمون العشرة الكبار ولا

٢١٣

يجتمعون إلا في مهم ، كما أن لكل صناعة أمينا يفصل الخصومات المتعلقة بالصناعة.

وثالث عشرها : كاهية دار الباشا ، وله فصل الجنايات الخفيفة حول الحاضرة ، فهاته هي أهم الرتب السياسية والعسكرية.

وأما العلمية :

فأوّلها : الباش مفتي الحنفي ، أي رئيس المفتيين ثم المالكي ثم المفتي الحنفي ثم المالكي ، وقد يزاد على واحد في كل من المذهبين ، ثم قاضيان لكل مذهب قاض ثم قاضي باردو ثم قاضي المحلة ، أي المعسكر المسافر مع وارث الولاية ، ثم قضاة المدن الكبيرة ومفاتيها. ثم قضاة المدن الأخرى والجميع مالكية إلا ما يحدث أحيانا من ولاية مفتي حنفي في المهدية والمستير ، فهؤلاء أصحاب الأحكام.

وهناك وظائف دينية كالمدرس والإمام والخطيب وصاحب الولاية ، أي الأمير يجلس يوميا بمحل يسمى المحكمة صباحا لتلقي المشتكين من العمال والمتوظفين ومن الحرابة وقطع الطريق وأمثال ذلك ، أما نوازل المعاملة بين الناس فهي للحكام الشرعيين ، ونوازل التجارة لمجلسها والجنايات الخفيفة يباشرها الداي ، وله الجبس مع الأعمال الشاقة المسمى بالكراكة ، وله الضرب ثلاثمائة سوط فقط وأعظم به من مبلغ حرمة الشرع ، وهكذا كل نازلة فإنها ترجع إلى حكامها ممن مر بيانهم مع التوقير التام للحكام أهل الشرع ونفوذ أحكامهم ولو على ذوي المناصب العالية ، ويجتمع رؤساء المفتيين والمفتيون والقاضيان وقاضي باردو يوم الأحد بمحضر الوالي ، وتورد عليهم سائر النوازل المهمة في الحقوق الشخصية ، وليس للوالي إلا تنفيذ ما يحكمون به مع غاية التعظيم والتوقير ، ولا زال طرف من هذا العمل إلى الآن بحيث أن هيبة العلماء وتوقير الشريعة لا زالت في القطر التونسي على بعض ما يجب لها من الإجراء ، وكذلك سائر الشعائر الدينية ، ولقد أدركت أن سب الدين لا يمكن أن يكنى عنه بهاته العبارة تعظيما وتوقيرا ، بل يكنى عنه بسب المنكر ، وترى الكبير والصغير يقول : من سب المنكر أذيب الرصاص في حلقه كأنه هو حكمه المعروف ، وكذلك سائر العبارات الفاحشة مما يكنى به عن العورات لا تذكر أبدا ومن يذكرها في خلواته يعد من السفهاء ولقد تغيرت في هذا المعنى الحال ولله الأمر.

وأما ما يتعلق بالجباية وصرفها فقد كان لا يؤخذ من الأهالي إلا أعشار الحبوب من القمح والشعير ثم عشر الزيت ، وأداء مالي حسب مقدار مرتب العساكر الينكشارية مقسم على بلدان القطر يؤدّى على ستة أقساط في السنة وهو نزر يسير ، ثم العاشر وهو المسمى في العرف بالقمرق ، ثم مداخيل الأراضي والأملاك الراجعة لبيت المال مع ضرائب ضعيفة على القبائل مثل البلدان المارّ ذكرها ، عوضا عن زكاة المكاسب يوزعها على أفرادهم مشايخهم وعرفاءهم ، كل قبيلة بحسب حالها. ولما امتدّت أيدي العمال بما يسمونه الهواء وهو أخذ ما يقدمه أهل العمل للعامل برسم الضيافة ، ثم ما يلتقطه منهم بإسم وهبة أي

٢١٤

هبة ، ثم العقاب على الجناية بالمال جعل لذلك حموده باشا على العمال أنفسهم أداء يسمى بالإتفاق ، هو في الواقع قسط مما ينهبونه من الأهالي ثم زيد على ذلك ما يسمى باللفضية ، وهو ما يجعل رشوة للواسطة بين الوالي والعامل وآخذها إما أن يعطي منها قسطا للحكومة أو يأخذ الكل على حسب قربه من الوالي ، ثم إن جميع ذلك مشروط فيه أن لا تتشكى منه الأهالي فإذا ضجت قبيلة واشتكت للوالي من عاملها عزله حالا ، ويقال له لم يؤخذ منك مقدار يجحف بالأهالي فأنت تجاوزت الحد ثم يصرف جميع ما تقدّم في مصالح الحكومة ، والقطر من مرتبات العساكر وأقواتهم وجرايات المتوظفين بغاية الاقتصاد وهي جرايات ضعيفة ، والناس إذ ذاك مقتنعون بعيدون عن الترف يكتفون بمصنوعات القطر في اللبس والمسكن والمركب يكفيهم القليل لا سيما العلماء ، فقد رأيت بخط بيرم الثاني نعمه الله في حساب خاص بشؤنه بيان مرتباته وجراياته من الأوقاف والحكومة بلغ مجموعها شهريا إلى ثلاثين ريالا وسبعة أرباع الريال التونسي ، وثمنه مع ما هو عليه من جميع وظائفه العلمية وهي رياسة الفتوى ونقابة الإشراف ومشيخة المدرسة الباشية ودرس وذلك في أوائل هذا القرن ، نعم كان له كما لبقية المجلس الشرعي جراية من الطعام وهي إثنا عشر قفيزا قمحا ومثلها شعيرا وإثنا عشر مطرا زيتا ، وكان ذلك كافيا له ولعائلته وأبنائه وكانت ولاة القطر من بني حسين بن علي يعتنون بالاقتصاد وحمل الأهالي عليه بأوجه سياسية لطيفة ، منها :

أن حموده باشا رأى كثرة لبس الشال الكشمير أي الطيلسان في الأهالي فحضر من الشال المصنوع في جربة عددا ولبس هو منه وألبس رئيس الكتبة أيضا وخرجا بذلك اللبس يوم العيد لتلقي وفود الهنا وللصلاة ، وكان في أثناء إقبال الأعيان على هنائه يلتفت إلى رئيس الكتبة ويقول جهرة نعم الشال هذا صنع بلادنا فما لنا ولإضاعة أموالنا خارجها ، والأعيان يسمعون وهم لابسون للشال الكشميري فودوا أن لم يكونوا لبسوه من الخجل ، حتى أن من سمع منهم قبل الدخول عليه أزاله واستعار من غيره الشال الجربي وانكفوا من ذلك التاريخ عن الكشميري ، وله وقائع عديدة مثل هاته وهو في الحقيقة أعقل فروع ذلك البيت الذين استولوا على القطر ، فقد أنشأ فيه ما لم يكن فيه من الحصون والقشل والسفن والذخائر ، حتى أن مبانيه الخاصة به لم تزل منتفعا بها إلى الآن كبستان منوبه الذي صار قشله للخيالة وداره بتونس المسماة الآن بسراية المملكة ، وأعانه مقام وزيره يوسف صاحب الطابع الملقب بأبي الخيرات من كثرة أياديه في طرق البر مع الإنصاف والإقتصاد الذي لم يكن القطر يتحمل سواه.

حتى أن حسين باشا لما توسع في الرفاهية زيادة عما تقدم توقفت حكومته في دين قدره خمسة ملايين ريالات أي ثلاثة ملايين فرنك ، باع بها زيتا سلما (١) للتجار الإفرنج ولم

__________________

(١) السلم : هو نوع من البيوع يعجل فيه الثمن ، وتضبط السلعة بالوصف إلى أجل معلوم. (القاموس الفقهي صفحة ١٨٢) وفي اللسان يقال : أسلم وسلّم إذا أسلف وهو أن تعطي ذهبا وفضة في سلعة ـ

٢١٥

يمكنه إحضاره لهم ، فنشأ عن ذلك ولاية شاكير صاحب الطابع الإدارة بشروطه الشديدة على الوالي في تقصير يده عن التصرف في المال وفي العمال ، وأخذ من دار الوالي أغلب ما فيها من فضة وذهب واحتسب على خاصة مصاريفه الذاتية وتحملت الأهالي أول ولايته مظالم مالية إلى أن خلص الدين وعمر خزائن الحكومة ، وموجبات الإقتصاد الكلي هي ضعف واردات الحكومة للإقتصار على الحد في المداخيل الشرعية أو ما له شبهة بها ، كما تقدم في توزيع جرايات العساكر تحفظا على الديانة وللسير على ما تساعفه الديانة أيضا في غالب الأحوال إلا ما يندر ، كالعقاب بالمال على الراجح من منعه شرعا وأمثاله ، كما تقدم طرف منه ما دامت الرعايا راضية به ، ثم إن الإقتصار على ذلك لا يجتمع منه مبالغ تقتضي الترف لأن طبيعة أرض القطر ولئن كانت غنية غير أن كثرة توالي الحروب عليه والأمراض والمظالم في الدول السابقة أفنت من السكان القدر الأوفر ، فقد نقل بعض المؤرخين أن عدد سكان أفريقية في صدر الإسلام ويعني بها ما يشمل برقه المعروفة الآن ببني غازي وطرابلس وتونس والجزائر هو تسعة عشر مليونا ، مع أن عدد الجميع الآن لا يبلغ ستة ملايين ، ثم مع قلة السكان ضعفت أعمالهم واقتنعوا بما يسد الخلة ، وبقيت الأرض معطلة لوجوه : منها.

عموم الجهل بصناعة الفلاحة وتعمير الأرض وتكثير الأشجار ، ومنها :

خوف صاحب الثروة على نفسه وماله فيرى أنه يعمل لغيره فينزع منه الباعث ، ومنها :

الإكتفاء بما خف لسهولة الرحيل في الفتن ، ومنها :

عدم الثمرة إذا كثرت الغلال والحبوب لصعوبة نقلها للمدن وعلى تقدير وصولها لا تجد لها مشتريا ، لمنع إخراجها من القطر لأجل الحروب المستمرة مع أوروبا إلا لبعض الأجناس أحيانا لوقوع الصلح معه ، فإذا بقيت النتائج في البلاد رخص سعرها لزيادتها على قدر الكفاية واستمرت السيرة على نحو ما مر إلى ولاية أحمد باشا.

فأخذت الحكومة في طور جديد وتبعها الأهالي على مقتضى قاعدة الناس على مذهب أمرائهم ، وذلك أن هذا الوالي كانت له همة عظيمة أكبر من حالة القطر ، وقد وجد في ولاية أبيه ابتداء تنظيم العسكر النظامي فاعتنى هو بهم وبمهماتهم وتعظيم رؤسائهم ، ثم جد في تفخيم هيئة الحكومة تفخيما لا يخرجها عن المقام الحقيقي فلم يقل في مكاتيبه ألقابا تشعر بالإستقلال كإطلاق لفظ الدولة والمملكة ولم يطلق على نفسه لفظ ملك متحاشيا عن ذلك كل التحاشي هو وابن عمه محمد من بعده ، وإنما غير ما لا يمس الحقوق حتى غير الألقاب المار ذكرها آنفا. ففي الوظائف الشرعية لقب رئيس المفتيين

__________________

ـ معلومة إلى أمد معلوم ، فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة وسلمته إليه. لسان العرب ٦ / ٣٤٦ مادة (سلم).

٢١٦

الحنفية محمد بيرم الرابع بشيخ الإسلام ، وفي العساكر النظامية صير لها رؤساء على مقتضى أصل اصطلاحهم وأهمها على الترقي بين باشي ثم آلاي أميني ثم قائم مقام ثم أمير آلاي ثم أميرلوا ثم أمير الأمرا أو فريق ، وإنشاء النياشين المسماة بالافتخار وجعل له خمسة رتب ثم العليا وتسمى افتخارا أكبر ومعه شريط من الحرير أخضر يسمى بالفاشه ويلبس على الكتف والصدر والظهر على هيئة حمائليه ، ثم نيشان آل بيته خاص بهم ويعطى للملوك وأعيان بعض الكبراء ، وشكل للوظائف السياسية وزراء ، ولقب كلا منهم بالوزير في خطاباته الرسمية إلا إذا عرض ذلك في مكاتيب الدولة العلية فإنه يتحاشا عنه ، وأوّل من تلقب بتلك الألقاب في هذا القطر هم الوزير مصطفى صاحب الطابع ، وهو رئيس الوزراء عند اجتماعهم وصاحب التقدم عليهم لسنه وسابق تربيته للوالي ، لكنه لا تصرف له في شيء معين ، ثم الوزير مصطفى خزنه دار وزير العمالة أي الداخلية والمالية ، ثم مصطفى أغا وزير الحرب ثم محمود كاهيه وزير البحر ثم جوزاف رافو وزير الخارجية وفي آخر مدته لقب الداي بوزير التنفيذ وهو إذ ذاك كشك محمد ، وكان كل من هؤلاء الوزراء يباشره بنفسه فيما يتعلق بوظيفته ولا يتداخل واحد في وظيفة الآخر بشيء ولا نفوذ لأحدهم على الآخرين رسميا إلا الوزير الأوّل ، لكنه لرزنته وخموله وفهمه مغزى الوالي كان يقتصر على نصح الوالي فيما يراه أو يبدي له رأيه عندما يستشيره ، وصاحب النفوذ الحقيقي هو مصطفى خزندار لتقريب الوالي إليه ولأن مقتضى وظيفته التعلق بالأهالي والعمال وجميع أصحاب الإدارة ، وحيث كان هذا التفخيم يستدعي زيادة المصاريف والميل إلى الترف مع ما في نفس الوالي من الكرم على أهل إصطفائه وكبراء العساكر ، دعاه ذلك إلى زيادة الضرائب على الأهالي بأسماء سموها أثقلت الظهر وأوجبت الفقر ، وزعيم ذلك المضمار هو محمود ابن عياد باتحاد مع الوزير مصطفى خزندار مع انحصار جميع أنواع مصاريف الحكومة في يده من قوت العساكر وملابسهم وجميع المهمات للحكومة ولذات الوالي ، ولذلك وظائف بأسماء وهي :

الرابطة : وهي قبض الأعشار ودفعها ، والكوشة : وهي معمل الخبر والغابه وهي قبض أعشار الزيت وخرجها ، والغرفة : وهي اشتراء جميع مهمات الحكومة والوالي ، وانحصر جميع ذلك وغيره في ابن عياد وتغاضى الوالي عن المذكور وكادت أن تنحصر فيه ولايات جميع العمال ووظائف سائر جبايات الأموال لشركة سرية بينه وبين ذي اليد ، وقدم ابن عياد لاقتداره على إرضاء الوالي بإحضاره فعلا ووعدا ما يطلبه من المهمات والأموال وامتدّت يده بزيادة المظالم على ما ترسمه الحكومة بأضعاف مضاعفة ، ومن اشتكى لا يجاب إلا بقول الوالي أخلص مع عاملك ، وتوصل إلى كتب الأوامر بخطه سرا هو والوزير ويمضيها له الوالي من غير علم أحد مع تحسين الوزير لذلك عند الوالي بأن ما يربحه ابن عياد يكون خزينة حاضرة متى ما طلبها الوالي وجدها بالإستيلاء على كسبه ، وجمع ابن عياد بذلك أموالا عريضة قدرها «ريشارد وود» قنسل الإنكليز بتونس الذي أقام بها ما ينوف عن

٢١٧

العشرين سنة في رسالته التي ألفها قدحا في طريقة تلزيم مداخيل الحكومة بثمانين مليونا ، وهو المشتهر على ألسنة العارفين في تونس.

وأرسل ابن عياد تلك الأموال إلى فرنسا واحتال على السراح للسفر إلى هناك للتداوي عندما علم هو وشريكه أن عاقبته وخيمة وأحس بمباديها ، وسرحه الوالي ولم يحاسبه الوزير حتى سافر من غير حساب فلما سافر إلى هناك احتمى بدولة فرنسا وأعلن بعدم الرجوع ، كما طلب الحماية لشريكه وحصل على الإذن فيها غير أن دولة فرنسا تفظنت لأمره ورجعت عن حماية الوزير وعلمت أن سببها هو خيانته لبلاده وهو عندهم من أعظم الذنوب كما هو في نفس الأمر لكن ابن عياد لما تمم الشروط الواجبة في نيل الجنسية الفرنساوية وحصل عليها بالفعل قبل الإطلاع على أعماله لم يكن في وسع دولة فرنسا نزع ما ناله إذ قوانينهم لا تسمح بذلك ، وعند ما علم أحمد باشا بامتناع ابن عياد مع الأموال الذريعة التي نهبها ولم يحاسب على تصرفه قيض لخصامه الوزير النصوح خير الدين ، واتفق الفريقان على تحكيم إمبراطور الفرانسيس نابليون الثالث ، فأمر بعقد مجلس من ثقات المعتبرين في الوزارة الخارجية للنظر في النازلة ، وعرض الوزير خير الدين مطالب الحكومة وعرض ابن عياد مطالبه وألف كل منهما نحو ثمانية عشر رسالة في النازلة وأرسى الأمر فيها بعد عدّة سنين على صدور الحكم من الإمبراطور بما ملخصه.

ريالات

٠١٤١٧١٤٩٥

ثبوت مال عين قبل ابن عياد للحكومة

٠٢٠٩٠٢٧٥٠

وثبت عليه أيضا قيمة رسوم بانكه وتذاكر سراح

٠٣٥٠٧٤٢٤٥

٧٨٤٥٩٠٧

وثبت لابن عياد على الحكومة

٠٢٧٢٢٨٣٣٧

فإذا طرح ذلك من مجموع ما ثبت للحكومة بقي

قبل ابن عياد سبعة وعشرون مليونا ومائتان وثمانية وعشرون ألفا وثلاثمائة وسبعة وثلاثون ونصف ، كما صدر الحكم عليه بأن يحاسب في تونس على الرابطة وغيرها مما لم يمكن الحساب عليه في باريس ، وقد أفردت هاته النازلة بتأليف مخصوص للوزير حسين حيث كان له خبرة بالنازلة لأنه كان بمعية الوزير خير الدين عند خصامه فيها وسماه حسم الألداد في نازلة محمود ابن عياد ، وما انفصلت هاته للنازلة إلا بعد ما نشمت في الحكومة نازلة مثلها إذ الوالي مرض في تلك الأثناء بمرض الفالج وطالت مدّته ، واستبد الوزير مصطفى خزنة دار وعوض ابن عياد بالقائد نسيم الذي وظيفته أنه قابض للأموال وكذلك عوض ابن عياد فيما يرجع للعمال بسعد بن عبيد وغيره ، ولم يمكن لبقية الوزراء إنهاء الأمر إلى الوالي لمرضه وبقي الحال على ذلك إلى أن توفي ذلك الوالي سنة ١٢٧١ ه‍ في نصف رمضان ، ولم يترك على الحكومة ولا دانقا من الدين بالربا ولا بغيره إلا ما لا يمكن خلو

٢١٨

الوجود منه كدفع أثمان بعض مهمات مما لم يحل أجله ، ولقد أعان على عدم حصول الدين الوزير خير الدين لأن الوالي كان أرسله لعقد قرض في فرنسا عند إرسال العسكر لحرب الروسيا سنة ١٢٦٩ ه‍ ولم يمكن له معارضته لأنه مستبد ، لكنه تشدّد في شروط القرض وسوّف حتى توفي الوالي المذكور ، وساعد وريثه محمد باشا على عدم الإستقراض ومع ما تقدم فأحمد باشا مدّة صحته لم يستبد عليه وزير وله مآثر حسنة في القطر ، أهمها :

إحياء العلم بعد أن كاد يندثر ، فرتب في جامع الزيتونة ثلاثين مدرسا بجارية قدرها ستون ريالا في الشهر ، وهذا المقدار إذ ذاك له موقع عظيم لما تقدم لك في مقادير مرتبات العلماء ، ثم رتب إثني عشر مدرسا آخر بمرتب خمسة عشر ريالا في الشهر ، وخصص للأوّلين مواريث من لا وارث له الراجع ذلك لبيت المال ، وللثانيين أحباسا تلاشتها أيدي العدوان ، كما أقام بالجامع خزائن كتب بها نحو سبعة آلاف مجلد ونتج من ذلك إحياء العلم وكثرة العلماء بالقطر ومنهم فحول يعز نظيرهم ولا زال ذلك مستمرّا ولله الحمد.

ولما ولي محمد باشا في سنة ١٢٧١ ه‍ لم يغير شيئا من فخامة الحكومة لكنه جعل أكبر همه رفع المظالم على الرعايا وجلب ثروتهم لما كان يتيقنه من المضرات التي كانت حاصلة لهم ، وأبقى وزراء ابن عمه على ما كانوا مع ما في نفسه من حالة مصطفى خزنة دار لكنه غلبه على أمره فيه وزيره المستنصح لديه إسماعيل السني صاحب الطابع ، فكان كالباحث على حتفه بظلفه عفى الله عن الجميع كما يرد خبره ، والسبب في ذلك هو تخوف إسماعيل من تقدم أحد أقرانه للوزارة المعتبرة وهي وزارة العمالة ، فأنفت نفسه من ذلك وواعده وعاهده مصطفى خزنة دار على الإلتحام به وتقديمه على غيره إذا أبقي في الوزارة ، فسارع للوالي وقال له لا غنى لنا عن مصطفى خزنة دار لعلمه بما لم يعلمه غيره من أسرار الحكومة وأموالها إلى غير ذلك ، ولم يزل به إلى أن أقرّه وعاهده على الصفاء والنصح.

وأما الوزير مصطفى صاحب الطابع فقد أبقاه شيخ الوزراء من غير مباشرة ، وأما محمود كاهيه وزير البحر فإنه توفي وولي عوضه الوزير خير الدين وافتتح الوالي أمره بتنقيص كمية العساكر بعد انفصال الحرب مع الروسية مع مراعاة ضباطهم فأبقى في الخدمة القادر العارف على قدر الحاجة وجعل لغيرهم نصف مرتب مع إبقاء المقام ، وكذلك أسقط جميع المظالم على الأهالي وعوضها بأداء واحد على كل فرد ذكر بالغ قادر على السعي وهو ستة وثلاثون ريالا في السنة أي ثلاثة ريالات في الشهر وهي قدر فرنكين الذي لا يجحف بأحد مع إمكان ضبطه ، وضبط أيدي العمال عن التجاوز فيه مع تحجير العقوبة بالمال وعمم ذلك الأداء على جميع القبائل والبلدان بالسواء ، ولم يبق عليهم غيره إلا عشر الحبوب من القمح والشعير وعشر الزيت أو عوضه من القانون ، وقانون النخيل أي الخراج على أعداد النخيل ولم يستثن من ذلك أحدا إلا أهالي المدن الكبيرة وهي تونس والقيروان وسوسه والمستير وصفاقس ، فأبقى بها أنواع الأداء السابق المختلف الأسماء على أنواع

٢١٩

المكاسب وتلقت الأمة ذلك العمل بالسرور والإنقياد إلا السادات المعاونين الأشراف من أهالي الوطن القبلي لعدم سابقية أداء عليهم ، وكذلك ضبط أعشار القمح والشعير وجعل على كل ماشية قدرا معينا هو أقل ما يمكن حصوله في الغالب إلا أن يكون قحط بالمرة وإذا ثبت القحط يسقط على صاحبه ، وذلك المقدار هو ربع القفيز من كل نوع وإن زاد العشر الحقيقي على ذلك القدر فهو موكول إلى ديانة صاحبه يدفعه لمن شاء كل ذلك تحاميا عن أبواب المظالم.

وهكذا رتب أعشار الزيت وجعل لها مكاييل منضبطة ولا يأخذ إلا العشر وشيئا يسيرا مقدارا معينا لكراء المعصرة ، وشدد النكير على العمال فيما إذا امتدّت أيديهم إلى شيء زائد من الرعايا لأنه جعل لهم مرتبات على حسب أعمالهم يأخذونها من الحكومة ، ولم تنفع جناية العامل قرابته لأنه كان صلبا في الحق حتى عاقب أصهاره بأخذ ما أخذوه من الرعايا وسجن بعضهم بمساكنهم وسجن أتباعهم الذين شاركوهم في الأخذ وتوسطوا فيه ، ولذلك انكف الوزير مصطفى خزنة دار وصار على حذر إلا ما ندر أواخر مدّة الوالي المذكور ، وكان هذا الوالي جريا على الحكم ولو بالقتل فيما يراه من الحقوق واشتد خوف الوزير منه باطنا ، إلى أن حصل من أحد أتباع القائد نسيم اليهودي سبا للدين الإسلامي علنا في مجمع عظيم من المسلمين ، وكان أمر الدين إذ ذاك وشعائره بالمكان الأعلى على ما تقدم بيانه ، فاهتزت البلاد تعظيما للخطر سيما وقد رأوا أن الرجل لا تناله الأحكام لأنه إنما قدم على مثل ذلك اعتمادا على الاحتماء بسيده الذي هو من خواص الوزير ، وبلغ ذلك للوالي وقد كان منذ قريب قتل عسكريا لقتله يهوديا على مقتضى المذهب الحنفي من قتل المسلم بالذمي ، مع أن أحكام قتل النفس في القطر جارية على مقتضى المذهب المالكي لأنه يرى القود بغير المحدد ، وهو الموافق لحالة أهل القطر ولمذهب أغلبهم وهذا المذهب لا يرى قتل المسلم بالكافر ، فخالف الوالي عادة البلاد وأجرى حكم المذهب الحنفي فلزمه نظرا للهيجان العام توجيه النازلة إلى المجلس الشرعي فحكم المالكية بقتل اليهودي ووافقهم أغلب الحنفية وكتب فيها الشيخ بيرم الرابع بالموافقة مع نقل نصوص مدارها على التعزير المغلظ وقد يبلغ به للقتل وهو المعين في معروضات أبي السعود (١) وقد تحقق ما ظنته العامة ، فإن الوزير عارض انتصار التابعة في إنفاذ الحكم وطلب من الوالي أن يحكم هو في الجاني بغير القتل وألح عليه فامتنع لما تقدم واحتال الوزير حتى بإغراء قنسل الفرانسيس بالتداخل في النازلة وأنفذ الوالي الحكم فانتهزها الوزير فرصة ولاذ بفرنسا بواسطة قنسلها إلى أن أتى الأسطول الفرنساوي في المحرّم سنة ١٢٧٤ ه‍ وألح رئيسه وقنسلهم وعضدهم

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي ، المولى أبو السعود (٨٩٨ ـ ٩٨٢ ه‍) مفسر شاعر. من علماء الترك المستعربين. ولد بالقسطنطينية وهو مدفون في جوار مرقد أبي أيوب الأنصاري. الأعلام ٧ / ٥٩. شذرات الذهب ٨ / ٣٩٨ ، النور السافر (٢٣٩) الفوائد البهية (٨١).

٢٢٠