صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

ثم يلي ذلك جنوبا : (٣) عمل الساحل المنقسم إلى وطن سوسه وطن المنستير ، ويتبع كل منهما عدة قرى :

فمما يتبع سوسه : بلد مساكن أهاليها أشراف والقلعة الكبرى والقلعة الصغرى وغيرها ، وسوسه التي هي القاعدة ذات سور وحصون وهي مرسى على البحر ، وبها جامع عظيم وسكانها نحو تسعة آلاف نسمة ولهم حضارة وبقايا من العلوم.

ومما يتبع المنستير بلد المهدية ولها حصن وسور وجامع وهي مرسى تجارية أيضا ولها قاض خاص ، وأكثر سكانها حنفية من أبناء الترك الذين استوطنوا تونس ، وعدد سكانها نحو ثمانية آلاف نسمة ، ويتبعها أيضا بلد جمال وبلد المنارة وغيرها ، والمنستير هي القاعدة ولها سور وحصون وهي مرسى تجارية أيضا وسكانها نحو سبعة آلاف نسمة ، وهي دون سوسة في الحضارة والمعارف.

ويلي هذا العمل (٤) : عمل صفاقس ، وهو جنوبي السابق على شاطىء البحر ، وقاعدته مدينة صفاقس وسكانها نحو عشر آلاف ولأهلها شهرة بالتجارة في دواخل القطر وفي الممالك الإسلامية ، ولهم مزيد محافظة على الصلوات في المساجد ولهم بقايا من العلوم الدينية والأدبية ، وهاته البلدة لها سور وحصون وهي مرسى تجارية أيضا وتأوي إليها سفن الحكومة في الشتاء لأنها مأمن طبيعي للسفن ، ولشاطئها مد وجزر ويتبعها جزيرة قرقنة التي بها قرى ولأهلها صناعة الحلفة والحبال.

ثم يلي هذا العمل على الشاطىء الجنوبي (٥) : عمل الأعراض ، على جون قابس التي هي قاعدة العمل ، وسكانها نحو تسعة آلاف وهم على البداوة ، ولها مرسى قليلة التجارة وهذا العمل ينتهي إلى غايته الحدود من جهة الجنوب والجنوب الشرقي إلى طرابلس.

ثم يلي هذا العمل في الشرق (٦) : عمل جربة ، التي هي جزيرة في البحر وعدد سكانها أزيد من ثلاثين ألفا متفرقين على عدة قرى ولهم شهرة تامة بالتجارة في سائر ممالك الإسلام.

ويلي عمل الأعراض من غربيه (٧) : عمل الجريد ، الواصل إلى نهاية الحدود الجنوبية في الصحراء وهو منقسم إلى أربعة أقسام.

الأوّل : في جنوبية وهو وطن الوديان والشبيكة وتامغزا. ويليه شمالا : وطن نفطة ، ويليه شمالا : وطن توزر ، ويليه شمالا : وطن قفصة ، وهاته لها حصن ، وقاعدة جميع الجريد هي توزر ، وقد كانت مناخا للعلوم ولا زالت فيها بقايا وعدد سكانها نحو ألفي نسمة.

ثم شمالي هذا العمل (٨) : عمل القيروان ، وقد مر ذكرها لأنها لها التقدم على غيرها.

١٨١

ويلي عملها شمالا (٩) : عمل أولاد سعيد من البوادي سكان الخيام.

ويليه في الشمال الغربي. (١٠) : عمل رياح المشتمل على بلد زغوان في جبلها الشهير ، وعلى بلد تستور وعلى بلد مجاز الباب وغيرها ، وأكبرها تستور عدد سكانها نحو أربعة ألاف ، وهذا العمل يتصل بعمل الحاضرة. وحينئذ قد عرفنا جهة الشط الجنوبي الشرقي إلى الحدود ، ثم ما والاه من دواخل القطر ويبقى علينا تقسيم جهاته الغربية والشمالية.

فأما الغربية ، فيتصل بعمل الحاضرة (١١) : عمل طبربة ، وقاعدته طبربة وهي قرية الآن في غاية التأخر.

(١٢) ثم عمل تبرسق ، وهي قاعدته وسكانها نحو ألفي نسمة.

(١٣) ثم عمل باجة ، وهي قاعدته وهو عمل كبير وقاعدته ذات حصن وقصر لنائب الوالي الذي يسافر بالمعسكر كل صيف إلى هناك في القديم وعدد سكانها نحو خمسة آلاف نسمة.

(١٤) ثم عمل الكاف ، وهي قاعدته ولها حصن وهي في رأس جبل وعدد سكانها نحو خمسة آلاف نسمة ، ويتصل عملها إلى نهاية الحدود الغربية ، غير أنه لا يصل إلى الشط من جهة الشمال ، فتلك الجهات هي الأعمال الشمالية وتبتدىء من جهة الحد بجبال طبرقة وسكانها.

(١٥) بوادي وبها حصن.

ويليه (١٦) عمل جبال ماطر ، وهي قاعدته وسكانها نحو ألفي نسمة من البوادي.

ثم يليه (١٧) عمل بن زرت ، وهي قاعدة وهي مرسى أمينة جدا لو سهل لها بعض تسهيل في منفذها إلى البحر لأمكن أن تأوي جميع سفن الدنيا في أمان ، ولموقعها اعتبار عظيم في التمكن من البحر الأبيض ، وسكانها نحو ستة آلاف نسمة ولها حصن وسور والماء يجري إليها في قنوات من البناء من بعد للشرب لأهلها ، ويخترقها خليج يوصل إلى بحيرة المزوقة المتصلة ببحيرة أشكل التي بها جبل كالجزيرة فيه حيوانات كثيرة ، وهو منزه لمريد الصيد. ويتبع هذا العمل بلد غار الملح التي هي في نهاية الحد الشمالي من الشرق وسكانها نحو ألف نسمة ، ويتصل هذا العمل من جنوبيه بعمل الحاضرة وعلى ذلك فقد تصوّر القارىء هيئة تقسيم أرض هذا القطر ، غير أنه بقي له تقسيم آخر حكمي أيضا بالنظر إلى القبائل الساكنين به ومرجع أحكامهم.

فنقول : (إن أصل) أهالي هذا القطر هم من البربر وكانوا قبل الفتح إما نصارى أو وثنيين ثم أسلموا كلهم ، ولا زال في بعض القبائل شيء من عادات النصارى يفعلونه عن غير قصد ، وهو الوشم بين أعينهم على جباههم بصورة صليب صغير ، وكذلك استوطن به

١٨٢

كثير من العرب واختلطت أنسابهم بالأصليين ، ثم استوطن به أيضا من هاجر من الأندلس بعد المائة الثامنة وقد بنوا بلدانا بالقطر خاصة بهم ، وكذلك في ربض باب سويقة من الحاضرة بنوا حارة خاصة تسمى إلى الآن حومة الأندلس ، ومن بلدانهم التي أسسوها سليمان وزغوان وطبربة ومجاز الباب وتستور. وكلها مؤسسة بأماكن جيدة على شكل حسن متقابلة الطرق واسعتها مستقيمتها ، واختلط نسلهم بالقاطنين ثم وفد عليهم الترك واختلط نسلهم أيضا بالقاطنين ، ولكن الأكثر هم النوعان الأوّلان. وديانة الجميع هي الإسلام إلا نحو ستين ألفا من اليهود أغلبهم في الحاضرة وباقيهم متفرقون في أغلب بلدان القطر ، كما أن في القطر من النصارى الأوروباوين نحو الأربعين ألفا من أجناس شتى أغلبهم مالطيون من الإنكليز ، ويليهم الطليانيون ثم الفرنساويون ثم غيرهم قليلا هذا من غير اعتبار المسلمين التابعين للفرنسيس وإلا فعدد الفرنساويين بذلك الإعتبار أكثر من غيرهم ، ثم إن الأهالي الأصليين كانوا في صدر المدة على مذهب أبي حنيفة ، هم وجميع سكان الجزائر والمغرب إلى ولاية المعز بن باديس (١) ، فحملهم على اتباع مذهب مالك وذلك في حدود سنة (٤٠٦) ، وبقوا على ذلك إلى إلى أن جاء الترك فكانوا هم ونسلهم على مذهب أبي حنيفة ، ولذلك كان أكثر الأهالي مالكية. وهذا بيان أسماء الأعمال والقبائل والإشارة إلى أماكن إقامتهم :

(١) الحاضرة.

(٢) القيروان.

(٣) أولاد خليفة من جلاص جنوبي القيروان.

(٤) الكعوب والكوازين منهم غربي القيروان.

(٥) أولاد بدر منهم مثل السابقين.

(٦) أولاد سنداس منهم مثلهم.

(٧) كسرى في الغرب الجنوبي منهم.

(٨) الساحل.

(٩) المثاليث حول صفاقس من غربيها وجنوبيها.

(١٠) صفاقس.

(١١) جربة.

(١٢) الأعراض.

(١٣) نفات في الأعراض.

(١٤) تغزاوة من الجريد في جنوبيه الغربي.

__________________

(١) هو المعز بن باديس بن المنصور الصنهاجي (٣٩٨ ـ ٤٥٤ ه‍). من ملوك الدولة الصنهاجية بأفريقية.

توفي بالمهدية. الأعلام ٧ / ٢٧٠ وفيات الأعيان ٢ / ١٠٤ ، هدية العارفين ٢ / ٤٦٥.

١٨٣

(١٥) الوديان في جنوبيه.

(١٦) الحامة في جنوبيه الشرقي.

(١٧) توزر في شماليه.

(١٨) نفطة في وسطه.

(١٩) الشبيكة وتامغزا في نهاية الجنوب منه.

(٢٠) قفصة في شماله.

(٢١) أهل بيت الشريعة من عرب دريدر رحالة ما بين الجنوب الغربي والغرب الشمالي.

(٢٢) أولاد سيدي تليل في تلك الجهات.

(٢٣) أولاد سيدي عبيد مثلهم.

(٢٤) أولاد عزيز من الهمامة ما بين القيروان والجريد والأعراض وهم رحالة في تلك الأراضي الرحيبة.

(٢٥) أولاد معمر منهم مثلهم.

(٢٦) أولاد رضوان منهم مثلهم.

(٢٧) الغمامدية في غربيهم.

(٢٨) أولاد وزاز من الفراشيش في جهة الغرب الجنوبي.

(٢٩) أولاد ناجي منهم مثلهم.

(٣٠) أولاد علي منهم مثلهم والجميع رحالة في تلك النواحي.

(٣١) شقمطة في الغرب المتوسط من القطر.

(٣٢) الفؤاد قرب السابقين.

(٣٣) أولاد مهنة مثلهم.

(٣٤) أولاد بوغانم في الحدود الغربية.

(٣٥) الزغالمة مثلهم.

(٣٦) شارن مثلهم.

(٣٧) العوامر منهم مثلهم.

(٣٨) أولاد يعقوب قربهم.

(٣٩) التوابع مثلهم.

(٤٠) ورغة في جبال الشمال.

(٤١) الخمامسة ودوفان في بحاير الكاف.

(٤٢) الكاف سبق ذكره.

(٤٣) ورتتان في الجنوب من الكاف.

(٤٤) أولاد عيار قربهم.

١٨٤

(٤٥) أولاد عون قربهم.

(٤٦) جندوبة شمالي الكاف.

(٤٧) أولاد بو سالم قربهم.

(٤٨) الرقبة شرقي الكاف الجنوبي وغربي جنوبي باجة وفيها جبال وقبائل من سكان الخيام.

(٤٩) باجة سبق ذكرها ويتبعها جبال تشتمل على قبائل شتى غير خاضعين حقيقة للحكومة ممتنعين بجبالهم الوعرة ، وكثيرا ما ترسل معسكرات لأخذ الضرائب منهم وكثيرا ما يؤدّون إليها مقدارا عن غير تحقيق لعددهم وكسبهم ، وهم عمدون ونغزة ومقعد وخمير والشيحية.

(٥٠) تبرسق سبق ذكرها.

(٥١) رياح تقدّمت أيضا.

(٥٢) المحمدية ورادس كل منهما قرية لها عامل مخصوص والأولى : كانت مدينة قاهرة في ولاية أحمد باشا فأخنى عليها الذي أخنى على لبد في بضع سنين وكانت مستقرّة ومستقرّ جنده.

(٥٣) ثم المرسى وحلق الوادي وقد تقدّما.

(٥٤) أريانة وجعفر كذلك.

(٥٥) بن زرت كذلك.

(٥٦) ماطر وبجاوة بجبالها وقد تقدّمت.

(٥٧) الوطن القبلي كذلك.

(٥٨) قبطنة.

(٥٩) طياش.

(٦٠) حجري ليس لهم مقرّ بل هم متفرّقون في الأوطان.

(٦١) أولاد سعيد في النفيضة في الشمالي الشرقي للقيروان.

(٦٢) السواسي جنوبيهم.

(٦٣) الطرابلسية متفرّقون في الأوطان.

(٦٤) الغرابة كذلك.

(٦٥) العروش الرقاق الأولى كذلك.

(٦٦) العروش الرقاق الثانية كذلك.

(٦٧) دريد رحالة ما بين الغرب والجنوب.

(٦٨) عرب مجور تابعون إليهم.

(٦٩) أولاد حسن حنفيوا المذهب من دريد.

١٨٥

(٧٠) فطناسة اتباع جلاص.

(٧١) أولاد سيدي عبيد الظاهر في الجهة الغربية الجنوبية.

(٧٢) طبربة تقدّمت.

(٧٣) السبالة في الشمالي الغربي من الحاضرة على نحو إثني عشر ميلا.

وعدد جميع السكان نحو مليون ونصف ، لأن تحقيق العدد غير موجود سيما وكثير من أعراب الأعراض مثل ورغمه وكذلك جبالية باجة لا يعرف عدد ذكورهم البالغين القادرين على التكسب ، فضلا عن غيرهم ، وإنما يعرف عدد الذكور البالغين من بقية السكان الغير العاجزين عن التكسب وهم مائة وسبعة وعشرون ألفا عدا سكان بلدة تونس والقيروان والمنستير وصفاقس لاستثنائهم من الآداء المرتب على الرؤوس.

فصل : في إجمال تاريخ هذا القطر التونسي

ويشتمل على ثمانية مطالب :

الأول : في نبذة من تاريخه القديم.

الثاني : في علقته بالدولة العثمانية.

الثالث : في سياسة الخارجية.

الرابع : في سياسة الداخلية من العائلة الحسينية.

الخامس : في وزارة مصطفى خزنه دار.

السادس : في وزارة خير الدين باشا.

السابع : في وزارة محمد خزنه دار.

الثامن : في وزارة مصطفى بن إسماعيل.

المطلب الأول : في نبذة من تاريخه القديم : اعلم أن هذا القطر تداولته ولاية الرومانيين والقرطاجنيين منذ قرون عديدة قبل البعثة وصدر من زمن الخلفاء الراشدين إلى أن افتتح الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مصر ، ووصل أمير جيشها بالفتح إلى برقة بين طرابلس ومصر ، فأرسل يستأذنه في فتح أفريقية يعني بها تونس كما تقدم بيان وجه التسمية في الفصل السابق ، فأرسل إليه يقول ما مفاده : «إنها الغدارة المغدور بها ، ماؤها قاس مفرقة لقلوب أهلها لا تفتح ما دمت حيا» الخ. وكان وجه ذلك سياسة منه رضي‌الله‌عنه لخبرته بالأمور وهو علمه بالإختلاف الدائم بين أهلها الذي صار طبيعة لهم بحيث لا ينقادون لبعضهم ، ولذلك وهنت شوكتهم وصاروا طوع الأجانب المستوليين عليهم بحيث لا يعهد منهم قيام بشأن أنفسهم بل تسلم أنفسهم الإنقياد إلى الغريب بما لا تسلمه إلى واحد منهم ، والدليل على ذلك أن هذا القطر مهما تغلب عليه أجنبي إنقاد له أهله

١٨٦

إلى أن ينقرض أو يستولي عليه أجنبي آخر ، وحيث كانوا على تلك الصفة فالإستيلاء عليهم ولئن كان سهلا غير أنه لا تؤمن عواقبه.

أما أولا : فلأن الجيش إذا استقر هناك ربما سرت إليه طباع أهل الإقليم ، كما هو شأن الطبيعة البشرية من سريان الطباع بالمخالطة والملازمة ، فيقع بينهم التنافر الواجب التباعد عنه.

وأما ثانيا : فإذا غلب الجيش الإسلامي ولاة القطر الذين هم أجانب من الرومان ، لا يبعد أن يرجعوا إلى بني جنسهم ويعيدون الكرة على المسلمين ، وهؤلاء لا يمكن لهم الاعتماد على أهل القطر في إمدادهم وإعانتهم لما تقدّم من طبعهم ، وأنهم طوع الغالب كيفما كان وذلك لا يجدي معه رؤيتهم لعدل المسلمين واستقامة أمور دينهم ودنياهم لما في أصل الطباع من النفرة عن التعاون وميل كل لخويصة نفسه ، والحامل الديني وحده غير مجد لأنه يلزم له رسوخ وتخلق ومع ذلك قليل من يكفي له ذلك ، فقد قرر أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته : «أن العلماء على ثلاثة أقسام : الأول : من يبلغ به العلم إلى درجة تصير النظرى في حقه ضروريا لاطلاعه على أسرار العلوم وتخلقه بها ، حتى يصير العلم له طبيعة راسخة يرجع إليها رجوعه إلى سائر الضروريات ، ولا يمكن له العمل على خلاف ذلك كما لا يمكن للإنسان العمل على خلاف الضروري ، وهذا القسم قليل ما هم.

والقسم الثاني : اطلع على أسرار العلم لكن إطلاعا محتاجا إلى المراجعة والتذكر والتدبر وهؤلاء لا يجرون على مقتضى العلم إلا بكلفة من خوف الوازع الظاهري ، غير أنهم ينقادون إليه بالتسليم وهو في حقهم خفيف فأدنى درجاته تؤثر المطلوب منهم.

والقسم الثالث : هو الذي لا يطلع على شيء من أسرار العلم وإنما يسمع تكاليفه وينقاد إليها بالتقليد البحت وهذا لا يحمل نفسه على مقتضاه إلا بالوازع الظاهري وهو القسم الأكثر والأغلب في الوجود ، ولهذا أقيم في الدين وازع الحكم ، ليحرس الدين الشامل لجميع أقسام التصرفات الدنيوية والأخروية ، ولا يقال إن أهل القسم الأوّل يلزم أن يكونوا معصومين ، وذلك لا يصح لأنا نقول تصدر منهم الخطيئة على وجه الغفلة كما تغفل الحواس في بعض الأحيان. هذا إجمال كلامه وأنى لأهل أفريقية إذ ذاك وبلوغ درجة القسم الأول هذا على فرض إسلامهم ، وأما إذا رضوا بالطاعة وضرب عليهم الخراج فالأمر أبين مع أن المنعة إذ ذاك للمسلمين وخط التجائهم بعيد جدا ، وهو جزيرة العرب حيث كانت مصر إذ ذاك في أول فتحها ولم يستقر قرارها ، وليس من المعقول الرغبة في الفتوح بالتهور.

وبما تقدم يندفع إشكال بين وهو كيف يتوقف سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه عن بث الإسلام في أفريقية استنادا لمجرد ذلك التعليل وهو تفرق أهلها مع أن الأمر ببث الإسلام ليس بمشروط باتفاق قلوب أهل الإقليم ، ويؤيد ما قلناه : «إن سيدنا عثمان رضي‌الله‌عنه لما ولي الخلافة واستقر إذ ذاك أمر الإسلام في مصر وكان لجيش المسلمين قرب منعة

١٨٧

ومدد أمرهم بفتح أفريقية ففتحت سنة ٢٩ على يد سيدنا عبد الله بن سعد بن أبي سرح (١) رضي‌الله‌عنه ، مصحوبا بعشرين ألفا من الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم ، وكانت أسبيطلة هي القاعدة الثانية في القطر وهي مركز المشاورة واجتماع أهل الحل والعقد لكي يكونوا أحرارا في مفاوضاتهم لبعدهم عن الملك الذي مقره في قرطاجنة ، وما يرسي عليه أمرهم يبعثون به إليه وحيث كانت تفاصيل التواريخ لهذا القطر قديما قد تكلفت بها مؤلفات منفردة ومن أجلها الحلل السندسية (٢) ، فلا يمكن استيعابها في هاته العجالة لأنها خارجة عن المقصود الذي هو معرفة الحالة الراهنة ، وإنما الذي يتوقف عليه المقصود هو بيان ما عليه الحال ، لكن هذا لما كان له مساس بأمور سابقة لزم بيان مقدار الحاجة لتبيين الأسباب ومسبباتها.

ولذلك نذكر جملة الدول التي تولت هذا القطر من حين الفتح في جدول ، مع ذكر صفة الدولة إجمالا وتاريخ مدّتها بداية ونهاية ، وأسماء أصحاب الملك إلى أحمد باشا من أمراء الدولة العلية العثمانية ، ومنه نأخذ في ذكر بعض التفاصيل التي ينبني عليها المقصود ، حتى يكون المقصود مستوفي البيان إن شاء الله تعالى :

تاريخ الولاية

الأسماء

الملاحظات

٠٠٢٩

عبد الله بن أبي سرح

عامل للخليفة ثم من بعده عمال لوالي مصر التابع للخليفة

٠١٥١

عمر المهلبي أوّل دولة المهلبيين

تابع للخليفة المنصور العباسي وهكذا من بعده تابعون للعباسيين مع الإطلاق في التصرف بجميع وجوهه حتى الحرب والصلح.

٠١٨١

إبراهيم بن الأغلب (٣) هو أوّل دولة الأغالبة

مثل السابق وتوارثها بنوه

__________________

(١) هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري فاتح افريقيا من أبطال الصحابة أسلم قبل فتح مكة وهو من أهلها وهو من كتاب الوحي وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر. ولي مصر سنة (ه ٢٥) بعد عمرو بن العاص ، مات بعسقإن فجأة وهو قائم يصلي سنة (٣٧ ه‍). وهو أخو عثمان بن عفان بالرضاعة. الأعلام ٤ / ٨٨ أسد الغابة ٣ / ١٧٣ البيان المقرب ١ / ٩ الكامل في التاريخ ٣ / ١١٤ وفيه وفاته سنة (٣٦) النجوم الزاهرة ١ / ٧ ـ ٩٤.

(٢) هو كتاب «الحلل السندسية في الأخبار التونسية» للسراج الوزير الأندلسي أبو عبد الله. معجم المطبوعات (١٠١٨).

(٣) هو إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي (١٤٠ ـ ١٩٦ ه‍) ثاني الأغالبة ولاة أفريقيا لبني العباس مات ـ

١٨٨

٠٢٩٧

دولة العبيديين وأوّلهم عبد الله المهدي (١)

في نفس الأمر مستقلة وفي بعض الأطوار تظهر الخضوع للعباسيين وطورا للفاطميين بمصر

٠٣٦٥

دولة صنهاجة وأوّلهم المنصور بن يوسف (٢)

مثل السابقة

٠٦٠٣

دولة الحفصيين وأوّلهم الشيخ عبد الواحد (٣)

مستقلين واستولوا على المغرب ودانت لهم مصر والحرمين الشريفين برهة من الزمن

٠٩٨١

الدايات والبايات المراديون والباشوات منهم

أتباع للدولة العلية العثمانية فتارة يكون صاحب التصرف يلقب بالداي وتارة يلقب بالباي وتارة بالباشا

١١١٧

الحسينيون أوّلهم حسين باشا ابن علي تركي (٤)

أتباع للدولة العلية بامتياز في التصرف

١١٥٣

ابن أخيه علي باشا

مثله

١١٦٩

محمد بن حسين باشا بن علي

مثله

١١٧٢

أخوه علي باشا

مثله

١١٩٦

ابنه حموده باشا

مثله

١٢٢٩

أخوه عثمان باشا

مثله

__________________

ـ في العباسية. الأعلام ١ / ٣٣ البيان المغرب ١ / ٩٢ دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٣٦ الكامل لابن الأثير ٦ / ٥١.

(١) هو عبيد الله بن محمد الحبيب ابن جعفر المصدق بن محمد المكتوم الفاطمي العلوي من ولد جعفر الصادق (٢٥٩ ـ ٣٢٢ ه‍). مؤسس دولة (العلويين وجد العبيديين الفاطميين أصحاب مصر). ولد بالسلمية بسورية ومات بمدينة المهدية بالمغرب. الاعلام ٤ / ١٩٧ وفيات الأعيان ابن خلكان ١ / ٢٧٢ وفي الكامل لابن الأثير ٨ / ٩٠ وفي تاريخ الخميس ٢ / ٣٨٥.

(٢) هو المنصور بن بلكين (يوسف) بن زيري بن مناد الصنهاجي أبو الفتح ، صاحب أفريقيا والمغرب توفي قرب صبرة المنصورية المتصلة بالقيروان سنة (٣٨٦ ه‍) ودفن بظاهرها. الاعلام ٧ / ٢٩٨ البيان المغرب ١ / ٢٣٩.

(٣) هو يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاثي الحفصي أبو زكريا (٥٩٨ ـ ٦٤٧ ه‍) أول من استقل بالملك ووطد أركانه ، توفي ببونة ودفن في جامعها ، ثم نقل إلى قسنطينة. الاعلام ٨ / ١٥٥ أزهار الرياض ٣ / ٢٠٨ صبح الأعشى ٥ / ١٢٧ دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٤٧٤ البيان المغرب ٤ / ٢٩٠ وفيه أنه مات ببلد العناب فوات الوفيات ٤ / ٢٩٣ رقم الترجمة (٥٧٢).

(٤) هو حسين بن علي تركي أبو محمد (١٠٨٠ ـ ١١٥٣ ه‍) مؤسس الإمارة الحسينية في تونس وإليه نسبتها. أصله من كريت ولد بتونس وقتل في واقعة بالقرب من القيروان. الأعلام ٢ / ٢٤٧.

١٨٩

١٢٣٠

محمود بن محمد باشا

مثله

١٢٣٩

ابنه حسين باشا

مثله

١٢٥١

أخوه مصطفى باشا

مثله

١٢٥٢

إبنه أحمد باشا

مثله

١٢٧١

محمد بن حسين باشا

مثله

١٢٧٦

أخوه الصادق باشا

مثله

المطلب الثاني في علاقة القطر بالدولة العثمانية

إعلم أن سبب استيلاء الدولة العثمانية هو : أن الدولة الحفصية ضعف أمرها أخيرا إلى أن استولى الطليان على طرابلس وجربه ، ثم افتكتها الدولة العثمانية سنة (٩٥٨ ه‍) وامتد أمرها إلى القيروان بطلب من أهلها ، إذ كانت الدولة العثمانية هي الرافعة لعلم الدول الإسلامية ، واستقلت الجزائر وكثرت حروبها الأهلية وكانت قاعدتهم تلمسان ، وخشي الأهالي من استيلاء الإسبنيول عليها وكان أحد كبراء رجال الدولة العلية المسمى خير الدين باشا وأخوه عروج غازيان في البحر ، فاستصرخهم أهل بجاية للنجاة من ربقة الإسبنيول فاستولى خير الدين عليها وانقادت له سائر أهالي الجزائر ، وخطب للسلطان سليم العثماني وذلك في حدود عشرة الثمانين والتسعمائة ، ثم أنقذ تونس أيضا من جور الحفصي والإسبنيول ثم استعان آخر الحفصيين حسن الحفصي بالإسبنيول وعاد إلى تونس ، فأنقذها منهم سنان باشا سنة (٩٨١ ه‍) ورتب بها جندا من عسكر إلينكشارية قدره أربعة آلاف ، وعلى كل مائة رئيس. ومرجع الجميع إلى الوالي الملقب بالباشا وهو إذ ذاك حيدر باشا ، ثم وقع تنافر بين الرؤساء آل إلى حرب واستقرّ قرارهم إلى تسليم الأمر إلى واحد منهم يلقب «بالداي». وجعل على خلاص الجباية مولىّ يلقب «بالباي» وفي عهدته تأمين السبل وهناء القبائل ، ويسافر لأجل ذلك مرتين في السنة ، إحداهما : شتاء إلى الجهة الجنوبية ، والثانية : صيفا إلى الجهة الشمالية ، ويسافر في عسكر مؤلف من العساكر المشاة وهم إذ ذاك إلينكشارية.

ومن قسم الفرسان الموظفين في الحكومة ولهم جراية ويسمون بالحوانب والصبايحية وعلى كل خمسمائة رئيس يسمى «بالآغا» ، وكل قسم يسمى «يوجق» وجميعهم سبعة أوجاق لكل وجق مركز من القطر ، كما يستصحب الباي في سفره قسما من فرسان القبائل يسمون بالمزارقية ، ويسمى جميع الجيش المسافر فيه الباي «محله». وجرى العمل على ذلك غير أن رياسة التصرف العام تارة تكون بيد الداي

١٩٠

وتارة تكون بيد الباي تغلبا منه وأحيانا يحصل الباي على رتبة الباشا من الدولة العثمانية. واستقرّ الأمر على ذلك إلى أن كثرت الحروب الأهلية ما بين البايات والدايات على حوز الرياسة العامة ، وملت الأهالي من ذلك فنادوا بطيب نفس واختيار منهم بحسين بن علي تركي جد العائلة الموجودة الآن ، إذ كان إذ ذاك آغة وجق باجة وسلموا له أمر الولاية العامة بعد قتل كل من الباي والداي السابقين وأقرت ولايته الدولة العلية ولا زالت الولاية متوارثة في عائلته كبيرا عن كبير إلا ما ندر من ولاية حموده قبل محمود بعهد من أبيه وكذلك أخوه عثمان ، وأمضت الدولة العلية ذلك له في حياته ومنذ ذلك التاريخ استقرّت الرياسة العامة للباي ، وصار هو الذي يولي الداي إلى أن انقطع هذا اللقب وعوض برئيس الضابطية في سنة (١٢٧٧ ه‍) في ولاية الصادق باشا.

غير أن استقرار الولاية هكذا على نحو ما مر لم يكن بتعهد من الدولة العلية رسميا بالكتابة وإنما اقتضاه جريان العمل ، وذلك أن الدولة العلية كانت عادتها في الولايات إطلاق التصرف للوالي بحيث يكون له التفويض المطلق لاتساع أطراف الممالك مع صعوبة المواصلة إلا بعد مدة مديدة لا سيما في مثل الأماكن التي طريقها البحر من مقر الخلافة كتونس وطرابلس والجزائر ومصر وغيرها ، وتسمى عندهم بالأوجاق ومن كمال الإطلاق الذي اضطر إليه البعد اختيار الوالي لأنه إذا مات الوالي أو وقع ما يوجب عزله بتغلب غيره أو بثورة عامة يسلم أهل الحل والعقد في تلك الجهة لواحد منهم لإجراء ما لا بد منه ، وما يصل الخبر للدولة إلا بعد مدة ، وحيث لم يكن من قصدها إلا هناء الممالك الإسلامية وإجراء الشرع فيها والإدلاء بالخضوع للخلافة والإنقياد إليها وأداء الواجب لها من مال أو غيره ، لم يكن من فائدتها مخالفة ما يراه أهل الحل والعقد في الصقع الواقع به الواقعة ، لأن ذلك لا يحصل لها فائدة بل ربما توقع حصول غير فائدتها المار ذكرها «ورب البيت أعلم بما فيه» ولذلك تولي هي من ارتضوه لحفظ أمورهم وحفظ حقوقها ، والمتقرر في هذا القطر التونسي من الحقوق التي رسمتها الدولة العثمانية فيه عند فتحه هو إعانته بالسفن الحربية وما يلزمها في الحروب ، وهدايا ترسل من الوالي إلى دار الخلافة عند ولايته أو عند ولاية سلطان أو عندما توجد مناسبة للإهداء ، والأغلب في الهدايا سابقا أن تكون من نتائج البلاد كالخيل والحيوانات الغريبة من الصحراء والمنسوجات الحريرية والصوفية ، ومنها راية عظيمة متقنة تصنع عند ولاية السلطان فقط ويكتب فيها آيات قرآنية وأبيات من البردة وتزركش بالفضة ، ومنها أيضا السروج المحلات وسبح المرجان والعنبر والطيب والأسلحة المرصعة بالمرجان ، ومنها التمر والزيتون والسمن والشمع ، ثم توسع في هاته الهدية حتى صارت من المال والمجوهرات النفيسة وقد بلغت في بعض الأحيان إلى مليونين فرنكا وما يساويها من المجوهرات.

وكذلك رتب على القطر من الأشياء التي هي علامة على التبعية الخطبة بإسم السلطان

١٩١

والراية من نوع راية الدولة ورسم إسم السلطان على السكة وأصحاب الهدايا هم الذات السلطانية والصدر الأعظم من خواص الوكلاء كقبطان باشا والسر عسكر وأمثالهم ، وأما غير ذلك فلم تكن حالة القطر تقتضيه ولذلك لما رأى وزير الدولة سنان باشا الفاتح حالة القطر أمر رؤوساءه ، بأن الجباية يقيمون بها ضرورياتهم وما يلزم لحماية القطر من الإستعدادات الحربية وما يلزم إليه من المصالح العامة ، ولم يرسم بشيء آخر. ثم قدم قبطان باشا في حدود سنة (١٠١٣) لتفقد حال القطر وما تقتضيه حاله بعد استقرار الأمر ، فأرسى بأسطوله في حلق الوادي وخرج له إذ ذاك عثمان داي في جماعة من كبراء الجند وتفاوضوا معه على مصالح بلادهم ، وبعد أن تحقق عنده إنقيادهم لطاعة الدولة وعدم الإقتدار على الأداء ، أقلع من هناك راجعا وبقي الأمر على ذلك إلى أن بدا للدولة العلية إبدال عادات الدولة في شأن ولاة الأقطار من إطلاق التصرف إليهم لما تفاقم حال ظلمهم وعدم انقيادهم أحيانا لأوامرها ، ومنهم حسين باشا والي الجزائر الذي تسبب بأعماله في دخول الجزائر تحت الفرانسيس بحربهم.

وكان ذلك الإنقلاب في دولة السلطان محمود وصدرا من ولاية أحمد باشا ، فخشي الباشا المذكور من وصول النوبة إليه في التغيير ، وزاد خوفه بسبب ما كان حصل من سلفه من تعريضه بالإمتناع من نزول قبطان باشا في حلق الوادي عند قدومه لإرادة التوجه برا للجزائر ، لعزل واليها الذي عقد الحرب مع الفرانسيس وبزواله يزول الإرتباك ، فاعتذر له بأن الكرنتينة أي التحفظ من المرض العام لا تبيح نزوله ، وأكرم مقدمه وهاداه في ذاته وكان السبب الحامل له على الامتناع هو أن دولة الفرانسيس لما أعلنت بحرب الجزائر بعد التشكي للدولة العلية ، كاتبت حسين باشا والي تونس بالإنذار «بأنه إذا أعان بشيء يلحق الحصار والحرب به». مع إجماع الخلق على ظلم والي الجزائر فخشي والي تونس أن يعد مرور قبطان باشا إعانة للجزائر ، لأنه لا يمكن مروره بدون حامية فإذا دخل للجزائر بحامية من عسكر تونس يعدّها الفرنسيس إعانة ، وأيضا إذا تسامعت العربان بمرور باشا تركي في وسط الولاية هاجوا لما في طباعهم من التشكي من المتولي كيفما كانت سيرته ظنا أن الجديد يساعدهم على مرادهم كيفما طلبوا ، وقد كان ذلك من الغفلة التي سبق بها القدر لإنفاذ الأمر في الجزائر ، فخشي أحمد باشا مما سبق وانضاف إلى ذلك فتح الباب من الدولة العلية في مقدمات ما كان يخشاه ، وهو طلبها من تونس الأداء السنوي وإلحاحها فيه المرّة بعد المرّة ، إلى أن توجه إليها عالم القطر الأفريقي سيدي إبراهيم الرياحي (١) وواجه السلطان محمود وقبل اعتذاره وسكت عن طلب الخراج ، وأيضا طلب من الباشا القدوم بنفسه لدار الخلافة ولم يكن معتادا منذ الفتح الخاقاني إلى الآن ، وطلب منه أيضا أن تكون

__________________

(١) هو إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد الرياحي التونسي أبو إسحاق (١١٨٠ ـ ١٢٦٦ ه‍) فقيه مالكي ولد في تستور ونشأ وتوفي بتونس ، الأعلام ١ / ٤٨ معجم المطبوعات (١٣٨١).

١٩٢

خلطة تونس مع الدول بإذن خاص وولاية المناصب بأمر السلطان والإختيار لأصحابها من الوالي ، ويرفع في كل عام حساب دخل الحكومة وخرجها ، وأيضا قد فعلت الدولة في طرابلس ما فعلته في سائر ولاياتها من التغيير ، وكذلك في مصر لكنها بامتياز فقوي خوف الرجل وجعل يرود كل الأبواب للإطمئنان على إبقاء عادته المألوفة له ولآل بيته وللقطر ، من غير أن يخطر بباله قط الإستقلال لا هو ولا من سلف من آله فضلا عن الدخول في حماية دولة أجنبية ، وغاية الأمر زيادة المواصلة منه مع دولة فرنسا ، والمدارات بما لا يخل بشيء من العادات مع طلب محافظة عاداته لو تريد الدولة العلية إلحاقه بغيره ، وغاية ما حصل عليه من دولة فرنسا هو الوعد الشفاهي بحمايته وحماية امتيازاته الجاري بها العمل والعادة.

ويشهد لما مرّ سيما بعد ولاية العائلة الحسينية المستقرّة الآن ، أنّ الدولة العلية في سنة (١١٥٣ ه‍) أعطت جزيرة طبرقة التي هي من القطر التونسي إلى دولة الجنويز ، وأذنت بذلك والي تونس فسلم الجزيرة بالشروط التي عينتها الدولة ، وهي : أن لا يكون لهم بها حصن ولا يتجاوزون في بناء بلد هناك حدّا محدودا ، ثم خالفوا الشروط ولذلك افتك الجزيرة منهم علي باشا والي تونس إذ ذاك في تلك السنة. وفي سنة (١١٨٤ ه‍) حصلت وحشة بين فرنسا وبين علي باشا الثاني والي تونس من جهة الخلاف في الأسرى الذين أخذتهم تونس من قرسكا قبل استيلاء الفرنسيس عليها ، وكذلك صيد المرجان الذي أبيح للفرنساويين لسنتين بعدد معلوم من القوارب وأداء معلوم ، وتفاقم الخلاف إلى أن جاء الأسطول الفرنساوي إلى شطوط تونس ورمى بعض الحصون ، وكان إذ ذاك رسول الدولة في تونس قادما لطلب إعانة السفن الحربية على العادة في حرب الدولة إذ ذاك مع الروسيا ، فتداخل رسول الدولة في النازلة وأبرم الصلح على أن تدخل كرسكا في عهدة فرنسا وأن ترد الأسارى الذين أخذوا بعد استيلاء الفرنسيس عليها ، وأن يمكنوا من صيد المرجان خمس سنين مستقبلة بإثني عشر زورقا لا غير ، وأن يمكنوا من شراء ثلاثة آلاف قفيز قمحا ويخرجونها من غير أداء سراح عليها ، وأن يدفعوا ما جرت به العادة عند عقد الصلح من الهدية ، ورجعت بعد ذلك العلقة الحسنة المعتادة بين تونس وفرنسا على يد رسول الدولة العلية ، وكذلك أرسلت خمس سفن حربية بجميع لوازمها لإعانة الدولة في حرب الروسيا المذكورة سنة (١١٨٥ ه‍).

وفي سنة (١٢١٣ ه‍) أمرت الدولة العلية حموده باشا بحرب الفرنسيس معها عند استيلائه على مصر ، فامتثل الأمر وقطع الخلطة مع القنسل وأرسل سفنه الحربية لإعانة الدولة ، غير أنه تحفظ للغاية على أموال التجار الفرنساويين في بلده ولم يتعرض لسفنهم التجارية ، حتى قال تجار الفرنسيس إذ ذاك نحن بلا قنسل أحسن حالا من وجود القنسل ، وأعلم الباشا الدولة بسبب تلك المعاملة وهو كثرة الخلطة التجارية المتقادمة الموجبة لاشتراك مال التونسيين مع مال الفرنسيس ، فلو تعرض لأموالهم لكان تعرضا لمال التونسيين

١٩٣

أيضا. وانتقمت عليه من بعض الجهلاء من الداخل والخارج ، وعند وقوع الصلح عرفها له نابليون الأول وصارت بينهما مهادات واعتراف بالكمال.

وفي سنة (١٢٣٦ ه‍) أرسلت الدولة العلية رسولا أمرا بحفظ الوحدة وترك الحرب بين تونس والجزائر وعمل بأمره.

وفي سنة (١٢٣٧ ه‍) أرسل محمود باشا سبع سفن حربية ثم أردفها بإثنين لإعانة الدولة على حرب اليونان. وفي سنة (١٢٤٣ ه‍) أرسل حسين باشا أسطولا حربيا لإعانة الدولة في حرب واحترق مع جملة سفن الدولة ، ومصر والجزائر بعمل أساطيل الدول كما يأتي تفصيله في بابه.

وفي سنة (١٢٥١ ه‍) أرسل مصطفى باشا والي تونس هدية لقبطان باشا عند قدومه على طرابلس لنزعها من أيدي آل قرماني ، ثم طلب قبطان باشا الإعانة الحربية من تونس فأرسل والي تونس في تلك السنة ثلاث سفن حربية وأتبعها بتسع سفن تجارية حملت ثلاثمائة من الخيل.

وفي سنة (١٢٥٥ ه‍) طلب أحمد باشا والي تونس تقليده رتبة مشير مع هدية فاخرة ، فأنعمت الدولة عليه بذلك ثم زادته نيشانا آخر يرسم في غطاء الرأس ، والآن زال من رسم الدولة ولم يزل معمولا به في ولاة تونس.

وفي سنة (١٢٥٦ ه‍) أمرت الدولة العلية والي تونس بالعمل بالتنظيمات الخيرية وقرىء أمرها في موكب مشهور ، وأجاب عنه أحمد باشا الوالي بالامتثال غير أنه طلب وقتا للعمل مع مراعاة ما يلزم من التغيير بسبب عادات البلاد ، ثم ألح عليه في إتمامها سنة (١٢٥٨) ، فأرسل هدية فاخرة منها سفينة حربية ومائتين وخمسين ألف فرنك ، وطلب الإمهال في العمل بالتنظيمات.

وفي سنة (١٢٥٧ ه‍) لما رتب الوالي المذكور أمر تنظيم المولد النبوي ، قال له يمين حكومته أبو العباس أحمد بن أبي الضياف (١) : المناسب أن تخرج من باردو راكبا وعندنا من العساكر ما يكفي إلى الوقوف بين باردو وجامع الزيتونة ، فقال له : يفعل ذلك السلطان العثماني وليس لنا أن نفعل مثله ، فالمناسب الأدب معه ، رأيت ذلك بخط الوزير المذكور.

وفي سنة (١٢٥٩ ه‍) حصلت نفرة بين دولة الصاردو ووالي تونس أحمد باشا كادت أن تفضي إلى حرب بسبب منع الوالي إخراج الميرة إلى سردانيا لقحط حصل بالقطر ، وكانت الشروط مخالفة ، فأرسلت الدولة العلية رسولا خاصا ليبحث عن السبب وأمر الوالي

__________________

(١) هو أحمد بن أبي الضياف بن عمر بن نصر حفيد المجذوب ابن الباهي العوني أبو العباس (١٢١٩ ـ ١٢٩١ ه‍) وزير من الكتاب المؤرخين مولده ووفاته بتونس. الأعلام ١ / ١٣٨ إيضاح المكنون ١ / ١٦ شجرة النور الزكية ١ / ٣٩٤.

١٩٤

بفصل النازلة بصلح ، فأخذ تقريرا في النازلة وفصلت بصلح ببقاء ما كان على ما كان ودفع ما خسره تجار الصاردو في شراء الميرة.

وفي سنة (١٢٦٣ ه‍) أرسلت الدولة رسولا مخصوصا للوالي المذكور لتأمينه من جميع ما توهم مع إسقاط مطلب المال السنوي وتأييد الوالي في الولاية مدة حياته ، فأجاب بالفرح والقبول لكنه طلب إبقاء جميع الإمتيازات ، ومنها انتقال الولاية لآله عند موته.

وفي سنة (١٢٦٥ ه‍) أرسل عباس باشا والي مصر مكتوبا وداديا على وجه الإخوة ينصح فيه الوالي المذكور بترك الأوهام الحاصلة له ، وأنه قد ذهب للاستانة ونال رتبة الصدارة مع أن أباه وأخاه قد فعلا ما لم يحم حوله ولاة تونس ، وأنه لو يساعفه على اللقاء في بلد معين ويصطحبا معا للأستانة يكون له الحظ الأوفر ، فأجابه بأنه عبد للدولة ولم يختلج بفكره شيء مما يتهم به ، وقصارى أمره التمسك بالإمتيازات السابق بها العمل والجارية من القديم في القطر التونسي ، ثم أرسل عباس باشا رسولا من العلماء وآخر من التجار للتفاهم مع الوالي في مقصود الدولة ، فقرر لهم غاية أماله من ازدياد اللحمة الإسلامية والخضوع للدولة العلية على ما جرى من الإمتياز للولاية ، ومنه : عدم وجوب قدوم الوالي إلى الآستانة.

وفي سنة (١٢٦٣ ه‍) وقع خلاف بين والي تونس أحمد باشا ودولته فرنسا في شأن قبيلة نهد من جباليه باجه حيث أن القبيلة منقسمة إلى فخذين فخذ تابع لتونس ، وفخذ تابع للجزائر ، فاستولى الفرنسيس على الجميع ، فسجل الوالي أحمد باشا وكتب إلى القنصل فأجابه القنصل بمضمون مكتوب دولته ، وهو أن فرنسا تعطي إلى تونس أرضا أخرى عوضا عن هذه بعد تحرير الحدود ، فأجابه الوالي بما نص محل الحاجة منه وأما تجديد التحديد أو إبدال بعض العمالة بجزء من غيرها فمعلوم أنا نتوقف فيه على المشورة من جهة الدولة العثمانية ، وإن كان لنا التصرف العام في الإيالة بما يقتضيه اجتهادنا من المصلحة ، أما التنقيص منها أو إبدال بعضها فلا يحسن منا بغير إعلام لمولانا السلطان وتقرير ما ينشأ لنا من المضرات بسبب ذلك لجنابه العلي. ا ه.

وفي سنة (١٢٧٠ ه‍) أرسل أحمد باشا أربعة عشر ألفا عسكريا بجميع لوازمهم الضرورية والحربية ، وفرقاطة شراعية وستة سفن منها باخرتان لإعانة الدولة العلية في حرب القريم.

وفي سنة (١٢٧١ ه‍) أردف ابن عمه محمد باشا عند ولايته ذلك العسكر بأربعة آلاف وخيل ومهمات.

وفي سنة (١٢٨١ ه‍) أرسلت الدولة العلية رسولا مخصوصا إسمه حيدر أفندي

١٩٥

لمراقبة حال الثورة العامة في القطر التي سيرد بيانها ، وأرسلت إلى الحكومة مليونا فرنكا لإعانتها على ما حصلت فيه من الضيق.

وفي سنة (١٢٨٨ ه‍) أبرم الفرمان الآتي ذكره الذي استقر عليه القرار.

وفي سنة (١٢٩٣ ه‍) أرسلت الإيالة نحو مليون ونصف فرنكا لإعانة الدولة على حرب الصرب.

وفي سنة (١٢٩٤ ه‍) أحضرت الأيالة نحو ذلك المقدار لكنه لم يصل منه إلى خزانة الدولة العلية إلا أقل من الربع ، والباقي صرف منه على تهيئة العساكر التي قدرها نحو أربعة آلاف في كسوتهم وتعينوا للإرسال وحصل الصلح قبل سفرهم وهم في انتظار لسفن الدولة العلية لحملهم إذ لم يكن للحكومة قدرة على ما تحملهم عليه ، وسبحان محول الأحوال. كما أرسلت الولاية في تلك السنة للإعانة المذكورة نحو ستمائة بغل وأربعمائة حصان وما زاد على ذلك مما سلمته الأهالي بقي عند الحكومة التونسية.

وما تقدم كله زيادة على الرسل التي تتوارد في أغلب الأحيان بين التابع والمتبوع الذي هو كثير ، وها نحن نثبت هنا نص بعض المكاتيب التي أرسلت من ولاة هذا القطر في النصف الأخير من هذا القرن ، حتى يتيقن معها زوال كل شبهة ، ولم نذكر ما كان قبل هذه المكاتيب لأن المكاتيب كانت ترسل باللسان التركي ، ولما تقادم عهد الولاة بتونس نشأ جيلهم الأخير على جهل باللغة التركية ، وكان أحمد باشا صاحب المكتوب الأوّل ذا احتراز ونقد فكر ، فلم يرد أن يمضي كلاما لا يفهم أسرار تراكييه ، فكتب باللغة العربية وقبلته الدولة ، إذ كثير من ممالكها عربي ولا يسعها إنكار لغة شريعتها التي هي الحامية والذابة عنها ، وكان إرسال هذا المكتوب مع عالم القطر سيدي إبراهيم الرياحي في الغرض الذي تقدمت الإشارة إليه ، وهو طلب العفو عن الأداء السنوي ونص المكتوب :

اللهم بالثناء عليك نتقرّب إليك يا فاتح أبواب القبول والإقبال ، ومانح المنح التي لا تمرّ شواردها على البال ، تنزهت في العظمة والجلال ، ولا تول عبادك الإهمال ، بمحض الرحمة والإفضال ، فأقمت عليهم خليفة تعرض عليه الأحوال ، ويرفع عنهم بإعانتك الإختلال ، ويسوسهم للصلاح في الحال والمثال ، صلّ على سيدنا محمد خاتم الإرسال ، والملجأ المنيع عند اشتداد الأزمة والأهوال ، وعلى آله وأصحابه الذين ورثوه في الأقوال والأعمال ، وسرت مكارمهم مسرى الأمثال ، ونستوهب منك عزا لا يبلغ حده ، ونصرا يمضي في الأعداء حده ، لهذه الدولة العلية ، والسلطنة العثمانية ، والمملكة الخاقانية ، التي رفعت من الملة الحنفية أركانا ، وشيدت من معالمها بنيانا ، وأقامت للحق قسطاسا وميزانا ، وروت أحاديث العناية الربانية صحاحا حسانا ، وورث ملوكها الأرض وهم الصالحون سلطانا

١٩٦

فسلطانا ، حتى استنار الوجود ، بخليفة الوقت الموجود ، وهو مولانا السلطان محمود ، اللهم أعنا على ما أوجبت له من فروض الطاعة ، وتأييد الحق بجهد الإستطاعة ، واحفظنا برفقه وعدله من الإضاعة ، واجعل الملك فيه وفي عقبه إلى قيام الساعة ، وعطف قلبه إلى سماع هذه الضراعة ، من أيالته ومن بها من الجماعة ، على لسان أحمد المقيم على طاعته فيها ، والمجتني من ثمرتها ما يلزمها ويكفيها ، وطاعة خلافتك فرض على أهل الأرض وهي عند الله أنمى قرض ، فإذا لم يعرض الحال عليك فعلى من العرض ، تونس موضع شعائر الإسلام ، غريبة ببعدها عن استمطار أياديك الجسام ، ومساحة معمورها للسير نحو الستة أيام ، شأن أهلها التمعش من الزيت والبر ، والصوف والوبر ، يعانون في تحصيلها من ألم الحرّ والقرّ ، هذا غالب ما يسد لهم الخلة ، ويوجد غيرها لكن على قلة ، ومقدار زكاة ذلك لا محالة ، بحسب اتساع العمالة ، فما يفضل من خصبها فهو للقحط عدة ، وبذلك دام عمرانها لهذه المدّة ، لا فضل من ذلك لترف ، ولو في سبيل شرف ، هذا معظم دخل القطر ، إن جادت السحب بالقطر ، ويلزمه ضرورة لحفظ عمرانه ، وحماية أوطانه ، وتأمين سكانه ، وإصلاح مراسيه وبلدانه حماة وأجناد ، في كل جهة وبلاد ، لتأمين الجبال والوهاد ، وردع أهل الفساد ، ويلزم العساكر الكسوة والطعام ، والمرتب على الدوام ، ولا بد لهذا العدد ، من آلات وعدد ، وقوام هذا بالمال ، وهو السبب في عرض الحال ، بأن الدخل على قدر الإنفاق ، وذلك بشهادة الله غاية ما يطاق ، وإذا كلفنا الرعية المشاق ، ونزعنا الرفق والإشفاق ، كان ذلك ذريعة للنفاق ، وسلما للشقاق ، وربما هرعوا للدولة شيوخا وولدانا ، وكهولا وشبانا ، يسوقهم العجز ويقودهم الأمل ، إلى من في طاعته النيات منا والعمل ، فالسلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم ، وهذا من الواضح المعلوم ، وعبدكم حسبه تأمين البلاد ، وحفظها من طوارق الفساد ، بمن معه من الحماة والأجناد ، سهرنا لانامة أجفانها ، وتعبنا لراحة شيوخها وولدانها ، واقتحمنا المخاوف لأمانها ، وما تنتجه غلاتها ، تسد به خلاتها ، وعلى هذه السيرة ولاتها ، لا يقتنون لأنفسهم مالا ، ولو بسطوا لذلك آمالا ، إلا ما يقتضيه الحال من العادات المألوفة ، والمراسم المعروفة ، يصدهم عن ذلك عدم اليسار ، لا زهد الأبرار ، والله المطلع على الأسرار ، وبما بسطنا من الكلام ، في حال هؤلاء الإسلام ، يظهر للقائم بمصالح الآنام ، أن لا قوّة لهذه الايالة على آداء المال في كل عام ، هذه ضراعة رعيتك ، المستمسكين بطاعتك ، المستجيرين بحمايتك ، المرتجين لعنايتك وإعانتك ، قمت بتبليغها بين يدي سلطنتك الخاقانية ، وهمتك العثمانية ، وتبليغها من الواجب في حقي ، وهو ثمرة طاعتي وصدقي ، والمأمول من تلك الهمة ، النظر لهذا القطر بعين الرحمة ، وهذا المال في خزائن الدولة لا يزيد ، وثقله على هذا القطر شديد ، فارحم أيها المولى ضراعتنا ، ولا تفرق بما لا نطيق

١٩٧

جماعتنا ، فالأمر جلل ، وما قرّرناه بعض من الأسباب والعلل ، وقد فكرنا وأعيتنا الحيل ، فلم نجد إجابة المطلب إلا بتنقيص عمل ، يفضي إلى نقص وخلل ، أو تثقيل يقطع من الرعية الأمل ، ويضعف بسبب ذلك هذا العمران ، وتشتد الحاجة للإستمداد من كرم مولانا السلطان ، والله يجيرنا من حوادث الأزمان ، هذه وسيلة من بعدت داره ، ولم يكن بيده اختياره ، على لسان مملكة تونس ، مع قدوتها المونس ، صالح مصرها وإمام عصرها ، شيخ الجماعة ومفتيها ، الذي دانت له البلاد ببنيها ، ونالت به الملة أقصى أمانيها ، الساري ذكر تأليفه في النواحي ، السيد إبراهيم الرياحي ، وجهته حالتنا وانتظرت ، ومن سحائب رحمتك استمطرت ، اللهم أنت أعلم بنا منا ، فلا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا ، وارزقنا الرحمة من سلطاننا والهمة ، لإعانة أوطاننا ، إنك على كل شيء قدير وكتب في أواخر أشرف الربيعين سنة (١٢٥٤ ه‍).

وفيها : ما كتبه أحمد باشا المذكور في تبرئة نفسه مما رمي به ، من إرادة المخالفة ، ونصه :

الجناب المقصود لبلوغ الآمال ، ونجاح الأعمال ، جناب ركن الدولة وشمس ضحاها ، وقطب رحاها ، صدر صدور الكبرا ، ومركز دائرة الوزرا ، المشير الأفخم ، والصدر المعظم ، السيد مصطفى رشيد باشا ، لا زال محط الرحال وقبلة الوجوه ، بالغا من الله ما يؤمله ويرجوه.

أما بعد تقديم ما يجب للسلطنة من فروض الطاعة ، بحسب الإستطاعة ، فإن هذا العبد الذي مات في خدمة الدولة سلفه ، وعاش في فضلها خلفه ، روابطه مع الدولة العلية ثابتة الأساس ، معلومة في الناس ، واضحة وضوح الصبح غنية عن الشرح ، كما أن ما جبل عليه سلطان زماننا من كرم الطباع وطول الباع ، أمر انعقد عليه الإجماع وما على الصبح غطاء وما على الشمس قناع ، والأمان الذي مهده لأهل الإيمان واضح للعيان ، لا يختلف فيه إثنان ولا يخطر بالبال ما ينافيه ، لأنه من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وطالما تمنى هذا العبد الوفود إلى الحضرة العلية ومشاهدة الأنوار المجيدية ، لو ساعده الزمن ، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، وما صده والله عدم الأمان لأنه من المستحيلات العقلية مع أنه لم يصدر منه خلل في عمل ولا نية ، فاعلل النفس بأن التوجه إنما هو تعرض لعناية الدولة. والمقام إنما هو لحفظ ما لها في هذا القطر من الصولة ، وتؤثر واجب الخدمة على التعرض لمزيد النعمة ، والنصح في خدمة السادات مقدم على نفع خاصة الذات ، فاقتصرت بالضرورة على السنن المألوف والمسلك المعروف. من تقربي إلى الباب العالي بتقديم الهدية طبق الأصول الإعتيادية ، في هذا الوجق الذي أشرقت عليه الأنوار العثمانية. وحمته الشوكة الخاقانية ، وإن كانت الدولة على أضعافها غنية ، فما

١٩٨

راعني إلا ما في مكتوب الوزارة من أنه صدرت المساعدة من حضرة صاحب الخلافة بالتفضل بتوقيفها ، وأن هدايا الوكلاء العظام صار في حيز القبول بمقتضى الرخصة السلطانية ، ففهم العبد من التوقيف عدم القبول ومن عدم القبول نقصان الرضاء ، وفي المكتوب المذكور ما يشير إلى ذلك مع ما بلغه الرسول من تفسير الإشارة بصريح العبارة ، كما ذلك محرر في صحيفة. فحزن لذلك الفؤاد وماج في تيار الانكار ، إذ لم يصدر منا ما يقتضي ذلك وما سلكنا في غير مسالك ، أما كون سلامة تونس وسعادتها متوقفة على تأييد الروابط القديمة مع الدولة العلية فهو من المعلوم ضرورة وجاحده منكر للبديهيات ، وأما التبعد والتوحش الموجب لأنواع المحاذير فمحله إذا صدر منا خلاف ما انطوى عليه الضمير ، أو فعلا يقتضي نوعا من التغيير أما والحالة هذه فإن العبد لم يجحد حقا معتادا ، ولا أضمر بشهادة الله عنادا ، ولا وطأ لأسباب الشبهات مهادا ، ولم يصدر منه إلا المعلوم بسالف الأزمان ، وأقره السادة القادة من آل عثمان ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ، فلا مخاطرة والحالة هذه بالنفس ولا بالوطن أما النفس بوجود الأمان ، من ظل الله في أرضه والقائم بواجب الإسلام وفرضه ، وعدالته العمرية ونيته الخيرة وشفقته على البرية ، بأكثر من هذه الآمال حرية.

وأما الوطن فإنه في حماية دولته ، محوط بصولته يدافع عنه بقوّته ، ويكافح من ناوأه بشوكته ، ولا منافاة بين الذب على القطر الإسلامي وحمايته ، وبين التفضل باستمرار عادته ، واستغفر الله إن يخطر بالبال والحال الحال ، ما لا أقدر أن أفوه به من توهم الإستقلال ، أعوذ بك اللهم من هذا المقال ، كيف ومنابر القطر في كل جمعة تنادي بطاعته ، مع التشكر على تقرير عادته ، ولا رواج للدرهم والدينار إلا باسمه العالي في سائر الأقطار ، وأشرف ألقاب هذا العبد هو ما جعلته له السلطنة العلية وأهلته لنيله من المراتب السنية ، بمحض فضلها وكمال عدلها ، وعدم إمكان الحضور لهذا العبد الشكور إذا كان سببه صلاح الأمور ، والمثابرة على دوام حفظ الجمهور لا يتوقع منه المحذور ، واختلاف البشر في مدارك العقول معقول ومنقول ، وصدق الخدمة يقتضي التصديق في المقول ، هذا وطلب الوزارة شد الله أزرها وقرن باليمن نهيها وأمرها ، من العبد الفقير أن يودع لأمانتها ما في الضمير ، يوجب أن نشرح نيتي وما انطوت عليه طويتي ، فأقول والله شهيد على سري وعلانيتي ، هذا العبد الذي نشأ في طاعة الدولة العلية ، ورفل في حلل مرضاتها الجلية ، وتغذى بلبانها وعاش بإحسانها ، واستظل بأمانها وتشرف بخدمة سلطانها ، من بيت هو عاشر آله في الخدمة ومظهر ما للدولة من النعمة ، أعظم أمانيه دوام رضى مولانا السلطان وظل أهل الإيمان ، وأن تبقى خدمته على سني أبيه وجده ، ونيل هذا هو سعادة جده ، وأن هذه الإيالة الطائعة على هذه الحالة ، لا يراع لها سرب ولا يتكدر لها شرب بحماية القوة السلطانية والشوكة الخاقانية ، وبهذا الحال حفظ طاعتها وصلاح جماعتها ، وهو السبب في اجتماع الكلمة لهذه

١٩٩

الأمة المسلمة ، والله يقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣]. واختلاف عوائد الآفاق لا ينافي الطاعة والإتفاق. ولا يكون ذريعة للإفتراق ، وتمسك البلدان بعاداتها مخلوق مع ذواتها ، والمأمول من الحضرة العلية أدام الله نصرها ، إذا رأت هذا العبد في مقعد صدق ، وحققت إن نطق بحق ، أن يرق لهذه الفئة القليلة ويرحم ضراعتهم ويجمع بإبقاء عاداته الجميلة جماعاتهم ، حاشا فضله وإنصافه أن ينزع حلة تفضل بها أسلافه ، بل المأمول من كرمه الزيادة وهو المحيي لمآثر أسلافه السادة ، هذا ما في الجنان نطق به اللسان ، بلا شبه ولا تمويه ولا خواطر تنافيه ، فإذا ساعد القدر بالقبول فهو المظنون المأمول ، وإن كانت الأخرى فالله مع الصابرين وهو سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم والله يعلم أننا ما غيرنا ولا أضمرنا غير الذي أظهرنا ، ويوم تبلى السرائر نسأل عما صررنا ، وهذا المكتوب يشرف بلوغه إلى الباب العالي المستوجب لكل المعالي ، الثقة الفاضل المؤتمن نخبة أقرانه لنباهة شأنه ، إبننا محمد أمير لواء عسكر البحر ومعه الكاتب الثقة الخير العفيف الفقيه إبننا علي الدرناوي وجناب الوزارة يثق بأن ما يلقى إلى الحاملين من المقال يصل للعبد الفقير على أحسن حال ، والمرجو أن يعودوا إلينا بخبر يبسط النفس ويعيد لها الأنس ، والله يديم للدولة العلية المجيدية عزا لا يطاول حده ، ونصرا يمضي فيمن عاندها حده ، والسلام وكتب في ٢٠ ذي القعدة سنة (١٢٦٥ ه‍).

ومنها : مكتوب من أحمد باشا المذكور أصحبه مع العساكر المرسلة في حرب القريم مخاطبا به الصدر الأعظم ونصه :

أما بعد تقديم التحية المناسبة لتلك الوزارة العلية ، والفخامة الراسخة الجلية ، فهذا أمير الأمراء وأحد أعيان الكبراء ، الثقة العمدة فارس هذا الميدان إبننا رشيد وجهه معظم قدركم ، بهذه الفئة القليلة السابق تقريرها لجليل وزارتكم ، ووجهنا معه إبننا محمد أمير اللواء. والله يرى ما للعبد الفقير من الإستحياء عند عرضها على الباب العالي ويسهل الأمر ، إن ذلك على قدر العبد الفقير لا على قدر الدولة ذات العظمة والصولة والاعتماد على الوزارة العظمى في الإنهاء والتقرير وبهمم الرجال تنال الآمال وتحسن الأعمال ، والمأمول من وزارتكم المحمودة الصفات أن تهب لبائع نفسه لله حسن الإلتفات ، فاليد في طاعة الله وخدمة الخلافة واحدة والقلوب على ذلك متعاضدة ، والأنفاس متواردة والمأمول أن يرى أمير هذا الجيش من عنايتكم فوق الأمل والله يسدده إلى مرضى العمل ، وينصر مولانا السلطان ويعلي بسطوته أركان الإيمان ، ويديم وزارتكم ركنا منيعا وكهفا رفيعا ، والسلام. وكتب في شوال سنة (١٢٧٠ ه‍).

ومنها : مكتوب من محمد باشا عند ولايته على القطر ، يطلب التولية والتقرير ويعلم بإرسال نجدة عسكرية لحرب القريم ، وهدية مالية مصاحبة للمكتوب ، ونصه :

اللهم بالثناء عليك نتقرب إليك ، وبالصلاة على رسولك وخلفائه المتناسقين نسألك

٢٠٠