صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

الممتدة شرقا وغربا والإعتناء بالتجارة ، حتى أن ملك صقلية دعا إليه العلامة الإدريسي (١) ، وألف عنده كتابه الغريب المسمى : «نزهة المشتاق» في الجغرافيا ، واستفادوا أيضا من الإسلام في المشرق في مدّة حروب الصليب فخالطوهم وتعلموا منهم مسالك الترقي والقوة وفنون المعارف فانبثت فيهم في جهات عديدة في وقت واحد ، فكانت في القرن الثالث عشر المسيحي الموافق للقرن الخامس والسادس الهجري علماء في الفلسفة وغيرها في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ، واجتهدت من ذلك الوقت كل جهة في ترقية نفسها والتشبث بالوسائل التي لا تحوجها إلى غيرها ، وأعظم الوسائل التي أعانتهم على بلوغ المعارف صناعة طبع الكتب التي كثرت بها الكتب ورخصت حتى تيسر الإطلاع عليها حتى لغير ذي الثروة.

ولما انفتحت بصائرهم وعلموا أن العوائق عن بلوغ المقصود منحصرة في عدم إنسجام الإدارة والأحكام على مقتضى المصلحة وعدم صرف النظر إلى منافع الأمّة حيث لم تكن لهم شريعة تضبطهم وإنما الملوك المستبدّون هم الذين يتصرفون كما أرادوا ، وجذبوا إليهم العلماء بالترغيب والترهيب فأعانوهم على العامّة إلى أن وصلوا إلى درجة الإضمحلال ، فلما انفتحت بصائر الأمم تحزبوا في جهات إلى تقييد التصرف من الملوك بمشاورة رؤوساء الأمم ووجهائهم ، وأن تكون الإدارة على قانون معلوم موافق لعادات الأمّة وما يقتضيه حالها وأن يستوي الشريف والمشروف في الحقوق الشخصية ، وأن لا يمتاز قسم من الناس بالأشياء الضرورية كالعلوم والأراضي والتجارة وغيرها ، فحصل هذا المقصود في بعض تلك الممالك بإراقة الدماء الغزيرة بين الملوك المستبدين وبين الأمّة.

وفي بعض الممالك تفطن عقلاء ملوكها إلى وجوب العمل بذلك الوجه إما لحذقهم وإيثارهم للمصلحة العامّة على الخاصة بهم حيث علموا أنها أي الخاصة لا تدوم إلا بدوام الأمّة ، فآثروا مصلحة الأمّة أو إتقاء من أيلولة أمر المملكة إلى ما آل إليه غيرها مما لا ثمرة لهم في الإصرار على منعه ، فسارعوا إلى منح الأهالي بالقوانين والحرية منة منهم ، وما حصل في إحدى الممالك إجراء القوانين على أي وجه من الوجوه المتقدّمة إلا أخذت في الترقي والثروة لانكفاف الظلم المؤذن بالخراب ، فتحسنت أحوالها ونمت سكانها وعمرت أرضها وكثرت صنائعها وانتشرت فيها المعارف وزادت إتقانا واختراعا وامتدّت تلك المملكة بسطوتها على من لم يجاريها فيما هي عليه ، وسرى العمل على ذلك النحو في جميع ممالك أوروبا تدريجا إلى أن عم جميعها ولم يبق منها الآن مخالفا لبقيتها إلا مملكة الروسيا بحيث يصح أن يقال إن جميع أوروبا كأنها مملكة واحدة على نمط واحد ، وغاية الإختلاف بينها إنما هو بزيادة الثروة والقوة والحضارة ، أما أصول هاته الأشياء فهي موجودة في الجميع.

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الأدريسي الحسني الطالبي أبو عبد الله (٤٩٣ ـ ٥٦٠ ه‍). مؤرخ من أكابر علماء الجغرافيا. وفاته في سبتة على الأرجح. الاعلام ٧ / ٢٤ الوافي بالوفيات ١ / ١٦٣ معجم المطبوعات (٤١٤).

١٠١

ولذلك نتكلم على هاته القارة كلاما عاما ونذكر أسماء ممالكها وقواها إذ هذا كاف في المقصود من هذا التأليف ، حيث أن المقصود هو معرفة الممالك الآمنة من غيرها ، سيما ونحن سنذكر إن شاء الله تعالى في المقصد تفاصيل ممالك مهمة ، منها. فيقاس عليها غيرها ، إذ هي متشابهة على التقريب. وإنما نفرد دولة الروسيا لمخالفة سيرتها للبقية ، وأما الدولة العلية فقد تقدّم الكلام عليها في قسم آسيا ، فأحكامها جارية في الجميع على السواء غير أنها لما كانت لها في قسم أوروبا ولايات ممتازة وولايات غير ممتازة فنعيد ذكرها هنا أيضا ، وعلى ذلك فنقول :

«إن أوروبا تنقسم إلى دول جنوبية ودول وسطى ودول شمالية وجميعها ثمانية عشرة مملكة كلها نصرانية إلا الدولة العلية كل منها مستقل عن الآخر وإن كان بعضها يتألف من أكثر من مملكة واحدة ، فالدول الجنوبية ستة وهي :

الدولة العلية ، والجبل الأسود ، واليونان ، وإيطاليا ، وإسبانيا ، والبرتغال ، والوسطى ستة أيضا وهي :

فرنسا ، وأسفيسرا ، والبلجيك ، وأوستريا ، والصرب ، والرومانيا ، والشمالية ستة أيضا وهي :

الروسيا ، والسويد ، والدانيمرك ، وهلاندة ، وألمانيا ، وانكلترا.

الفصل الحادي والعشرون

فأما الدولة الأولى فهي الدولة العلية وتختها القسطنطينية ، فحالتها العامّة تقدّم الكلام عليها وأما الخاص منها بهاته القارة فإن لها ممالك رحيبة فمنها ما هو ممتاز ويؤدّي أداء سنويا معلوما وإدارته في نفسه مستقلة ، كولاية البلغار التي قاعدتها صوفية فإنها بعد معاهدة برلين الناتجة من حرب سنة ١٢٩٤ ه‍ التي سيأتي تفصيلها في المقصد إن شاء الله تعالى ، صارت هاته الولاية إمارة نصرانية مستقلة وإدارتها على نحو الإيدارات العامّة في ممالك أوروبا ذات القوانين التي يرد الكلام عليها عن قريب إن شاء الله تعالى.

وأغلب سكانها بلغاريون وبقية سكان الإمارة من المسلمين واليونان ، وكل منهما في أشدّ الضنك لا سيما المسلمين من قساوة القسم الغالب الذي صارت له السيادة على الجميع ، لأنهم ولئن كانوا ظاهرا إدارتهم حرة قانونية لكن الباطن استبدادية تحت إشارة الروسيا المستبدة الموادة للإمارة المذكورة ، وهاته الإمارة ليس لها حق في إنشاء حصون على حدودها والحصون التي كانت فيها للدولة تهدم بمقتضى معاهدة برلين ، وعساكر الإمارة يكونون من الأهالي وأغلب رؤوسائهم الآن من الروس وإلى الآن لم يتعين مقدار الأداء السنوي الذي يلزمها أداؤه للدولة العلية بسبب التراخي عن إجراء جميع فصول معاهدة برلين ، وكذلك للدولة العلية في هاته القارة ولايات أخر مستقلة في الإدارة وما زاد من دخلها عن مصارف مصالحها الذاتية يؤدّى إلى خزنة الدولة ، إلا الكمرك والدخان فهما راجعان للدولة ، وهاته الولايات نصرانية وشروط واليها أن يكون نصرانيا يولى من الدولة

١٠٢

بعد موافقة الدول عليه ولا يعزل قبل إتمامه لخمس سنين ، وأما العساكر فليس لها أن تنظم جيشا وإنما تحدث حرسا أهليا لإنفاذ الأحكام وحفظ الراحة المعتادة ، وإن أحوج الحال إلى قوّة عسكرية فإن الدولة ترسل للوالي مقدار ما يطلبه لذلك ، وللدولة أن تقيم في الحصون والحدود عساكر على حسب ما يظهر لها بشرط أن لا يكون على الأهالي منهم أدنى كلفة أو تعلق. وهاته الولايات هي:

الرميلي الشرقية ، وأكريت ، والسوسام. والأحكام الجارية فيها قانونية بواسطة مجالس من الأهليين ، كما أن للدولة ولايات أخر في هاته القارة ليس لها امتياز عن غيرها من بقية الممالك ، وهي : ولايات الرميلي كادرنة وشقودرة ، وسلانيك ، وجزاير البحر الأبيض ، وأما بوسنة وهرسك فكلاهما تحت تصرف النمسا ، وهما من حقوق الدولة ، ولذلك كان لها فيهما العلم بحيث ينشر كل من علم أوستريا وعلم الدولة معا ، والخطبة بإسم السلطان العثماني والمتوظفون العثمانيون إن صلحوا في نظر الوالي الأوستورياوي يبقون ، كما أن أوستريا أدخلت عساكرها مشاركة للعساكر العثمانية في صنجق نوفي بازار مع بقاء الإدارة بيد الدولة ، وكل ذلك بموجب معاهدة برلين.

فيحد أملاك الدولة في أوروبا الآن شمالا نهر الطونة ، وغربا النمسا والصرب والجبل الأسود وبحر البنادقة ، ويحدها جنوبا بوغاز القسطنطينية وبحر مرمرا وبوغاز جناق قلعة وبحر الجزر والبحر الأبيض واليونان ، وشرقا البحر الأسود وبحر الجزر.

الفصل الثاني والعشرون

وأما الدولة الثانية وهي الجبل الأسود ، فإنها استقلت بعد الحرب الواقعة سنة ١٢٩٢ ه‍ وكانت تابعة للدولة العلية ولا زالت تلقب بالإمارة ، ثم ضم إليها قطع من ممالك الدولة العلية وصار الآن سكانها نحو ثلاثمائة ألف ، ويحد هاته المملكة شمالا في البعض أوستريا ، وغربا بحر البنادقة ، ومن بقية الجهات الدولة العلية ، وقاعدة المملكة ستين.

الفصل الثالث والعشرون

وأما الدولة الثالثة وهي اليونان ، فإنها كانت تابعة للدولة العلية أيضا واستقلت في سنة ١٢٤٦ ه‍ ، وكان إذ ذاك عدد سكانها نحو ثمانمائة ألف فتكاثروا إلى أن بلغوا الآن إلى ما يزيد على المليون ونصف ، ولهذا الجنس الشهرة التامّة في التقدّم وفنون العرفان في الأعصر السابقة ، إلا أنهم لم يبقوا على ما كانوا عليه ، وإلى الآن لهم اعتناء زائد بالأسفار وقوة البحر ، وهذه المملكة شبه جزيرة في البحر الأبيض فيحيط بها من جميع الجهات إلا الجهة الشمالية فتحدها الدولة العلية ، ولها جزاير أخر بقربها تابعة لها وقاعدتها أتينا.

الفصل الرابع والعشرون

وأما الدولة الرابعة وهي إيطاليا ، فقد كانت منقسمة إلى عدّة إمارات وممالك ثم في

١٠٣

أواسط هذا القرن أخذت في الإتحاد إلى أن تم إتحادها بجعل مدينة رومة تختالها في سنة ١٢٨٧ ه‍ ، وصارت دولة من الدول العظام ، سكانها نحو سبعة وعشرين مليونا ويحدها البحر الأبيض من الغرب في البعض ، وفي الباقي فرانسا ، ويحدها جنوبا البحر المذكور ، ويحدها من الشرق بحر البنادقة في الجل وفي البعض أوستريا ، ويحدها شمالا أوستريا في البعض وفي الباقي سفيسرة وفرانسا ، وسيأتي مزيد الكلام عليها بانفرادها في المقصد إن شاء الله تعالى.

الفصل الخامس والعشرون

وأما الدولة الخامسة فهي دولة إسبانيا ، وقد كانت متلاشية في شمال الأندلس ولما أكب المسلمون هناك على شهواتهم وعملوا بالظلم بعد أن بلغوا الدرجة القصوى من العدل والمعارف والقوّة حتى فتحوا قسما عظيما من فرانسا ثم تركوا ما كانوا عليه وانقسموا ملوك طوائف كما قال شاعرهم : (١)

مما يزهدني في أرض أندلس

ألقاب معتضد فيها ومعتمدي

ألقاب سلطنة في غير موضعها

كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

فحينئذ استعانت دولة الاسبنيول بذلك الإنقسام والظلم ، وأعانت بعضهم على بعض وتستبدّ هي بالفائدة إلى أن تسلطت على الجميع ، وفعلت من التوحش والقسوة ما تنفر عن سماعه الآذان ، حيث ألزمت المسلمين إما تبديل دينهم أو القتل ، فهرب من قدر منهم على النجاة أفواجا أفواجا حفاة عراة وتشتتوا في المغرب والجزائر وتونس أيدي سيا ، ثم استفحل أمر تلك الدولة أي الإسبنيولية إلى أن كانت هي وحدها إذ ذاك ذات التقدّم على سائر الدول الأوروباوية لما فازت به من ثمرات فنون المسلمين وصنائعهم ، وكانت وحيدة في القوّة البحرية حتى أن أوّل من اكتشف أمريكا كان من أسطولها كما سيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

وعمرت مستعمرات في أمريكا والبحر الهندي وأفريقية ، غير أنها فيما بعد أثخن فيها الإستبداد جراحة سنة الله في أرضه فتقهقرت إلى أن كادت أن تتلاشى ، وخرج عنها كثير من مستعمراتها وخربها الظلم ونقصت فيها الأنفس والأموال والثمرات ، إلى أن استفاقت الأمّة من غفلتها وثاروا ثورة واحدة حتى حصلوا على ترتيب دولة قانونية ، وامتدّ أمرهم في تحصيل مقصودهم بضع سنين وهي من سنة (١٢٨٦ إلى سنة ١٢٩٣ ه‍) ، فاستقرّ حالهم على حكومة حرّة وملكوا عليهم ابن ملكتهم السابقة التي ثاروا عليها بعد أن سيروا الحكومة

__________________

(١) هو محمد بن عمار المهري الأندلسي الشيبي أبو بكر (٤٢٢ ـ ٤٧٧ ه‍) وزير شاعر هجاء يلقب بذي الوزارتين. قتل في أشبيلية ذبحا على يد المعتمد. الاعلام ٦ / ٣١٠ المغرب في حلى المغرب ١ / ٣٨٩ و ٣٩١ وفيات الأعيان ٢ / ٥.

١٠٤

الجمهورية ، ثم عدلوا عنها ورادوا أحد عائلات ملوك أوروبا فملكوا عليهم ابن ملك إيطاليا ، ثم بدا له منهم النفرة فخلع نفسه وأوصلوه إلى بلاده محروسا مكرّما وعادوا إلى الجمهورية ، فأنف منها شرفاؤهم وأغلب الأهالي فاستقر أمرهم على ابن ملكتهم المذكور ، على أن يكون تحت القوانين المرتبة وخاضعا لها فاستقام حالهم بذلك وأقبلوا على إصلاح شؤونهم ، بيد أن ذلك لما كان حاصلا من عهد قريب وبعد حروب أهلية لم تتراجع دولتهم إلى أن تعد من الدول الأوّلية ، وسكان هاته المملكة عدا ما بقي لها من المستعمرات سبعة عشر مليونا ولها مستعمرات في أمريكا وفي شطوط أفريقيا وآسيا وجزر الأقيانوس ، يبلغ عدد سكانها نحو تسعة ملايين ، وهاته المملكة يحدها جنوبا بوغاز طارق والبحر الأبيض ، وشرقا البحر الأبيض في البعض وفرانسا في الباقي ، وشمالا المحيط الشمالي ، وغربا المحيط المذكور ومملكة البرتغال ، وقاعدتها مدريد.

الفصل السادس والعشرون

وأما المملكة السادسة وهي مملكة البرتغال ، فقد كانت قسما من الأندلس ثم إسبانيا وعند تقهقر هاته استقلت عليها وأجرت القوانين فكانت مستقيمة السيرة على قدر حجمها. وسكانها نحو أربعة ملايين ونصف ولها مستعمرات في شطوط أفريقية والصين والهند ، يبلغ عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين ونصف ، ويحد هاته المملكة غربا المحيط الغربي ومن بقية جهاتها إسبانيا ، وقاعدتها أشبونة بالتسمية العربية وحرفوها الآن فصارت لزبون.

الفصل السابع والعشرون

وأما الدول الوسطى فأولها : دولة فرانسا ، ذات النخوة والشأن المتقدّمة في التمدن والسطوة والعرفان ، وسيأتي تفصيل الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وإنما نقول هنا : إن هاته المملكة حوت من المحاسن والصفات ما أقر لها به معاصروها ومناكبوها ، ولو لا تقسيم أهلها لأحزاب مع سرعة العمل بينهم لما جارتها دولة ، وهي تشتمل على نحو ستة وثلاثين مليونا من النفوس ، ولها مستعمرات في جميع القارات يبلغ عدد سكانها نحو خمسة ملايين ، واستقلالها قديم وتختها مدينة باريس. ويحدها جنوبا البحر الأبيض وإيطاليا وإسبانيا ، وشرقا إيطاليا وسفيسرة وجرمانيا والبلجيك ، وشمالا البلتيك والمانش والمحيط الشمالي ، وغربا المحيط المذكور. وهي من أقدم الدول القانونية وإن طرأ عليها في الوسط شيء من الإستبداد لكنها أزاحته ، وحكومتها جمهورية وقاعدتها باريس.

الفصل الثامن والعشرون

وثانيها : دولة سفيسرا ويحدها جنوبا إيطاليا ، وشرقا أوستريا ، وشمالا المانيا ، وغربا فرنسا ، وقد كانت تداولها كل من فرنسا وألمانيا مدة قرون وفي خلالها يحصل لها في بعض الأحيان استقلال ، إلى أن تم استقلالها باعتراف جميع الدول الكبيرة وضمانتهم لاستقلالها وذلك سنة ١٦٤٨ أي أواسط القرن الحادي عشر الهجري ، ولا زالت على ذلك.

١٠٥

وسكانها نحو مليونين ونصف ، وحكومتها جمهورية خالصة ، بمعنى أن المجالس العليا ينتخب أعضاؤها من أنفسهم سبعة أشخاص لمدة ثلاث سنين يكونون بمثابة الوزراء في إدارة الأمور على نحو ما تتفق عليه

المجالس ، وينتخب لهؤلاء السبعة رئيس لمدة عام واحد يكون هو رئيس الدولة العام وتخت المملكة مدينة بارن.

الفصل التاسع والعشرون

وثالثها : دولة البلجيك ، فيحدها جنوبا وغربا فرنسا ، وشمالا بحر المانش والمحيط الشمالي ، وشرقا المحيط الشمالي وهولانده وألمانيا. وعدد سكانها نحو خمسة ملايين وتخت المملكة مدينة بروكسل ، وكانت من ملحقات فرنسا ثم استقلت بأمرها مع اتحادها بهولاندة بعد سقوط نابليون الأول ، ثم استقلت بتا سنة ١٨٣٠ مسيحية الموافقة سنة ١٢٤٦ هجرية فسبقت أيضا في العمران والثروة.

الفصل الثلاثون

ورابعها : مملكة دولة النمسا المتركبة من دولتين مستقلتين وهما أوستريا وهنكاريا ، وكل منهما لها إدارة خاصة بجميع داخليتها ووزراء يباشرون الإدارة في كل منهما ، ولها ملك واحد يلقب بإمبراطور أوستريا وملك هنكاريا ، ولهما قانون معلوم في كيفية الإتحاد والإنفراد وحدود كل منهما ، ومنها أن يكون وزير الخارجية وعلائقه متحدا في كل من المملكتين ، ودولة أوستريا من أقدم دول أوروبا وكانت في مبدئها صغيرة ثم تعاظمت ودخلت في العصبة الالمانية حيث أن من أهاليها قسما عظيما من الجنس الالماني ، وصارت لها الرياسة على العصبة مدة إلى أن انتزعتها منها دولة بروسيا سنة ١٢٨٤ ه‍ في حرب عاضدتها فيها إيطاليا واستقرت الآن منفردة عن العصبة الالمانية ، وصار عدد أهالي هاته الدولة نحو سبعة وثلاثين مليونا ، ويحدها جنوبا رومانيا والصرب والدولة العلية وبحر البنادقة وإيطاليا ، وغربا سفيسرة وألمانيا ، وشمالا ألمانيا والروسيا ، وشرقا الروسيا ورومانيا ، وقاعدة المملكة الأولى هي مدينة فيينا ، وقاعدة الثانية هي مدينة بست وتحت تصرفها بوسنة وهرسك.

الفصل الحادي والثلاثون

وخامسها : دولة الصرب ، وإنما صارت دولة مستقلة بعد حرب سنة ١٢٩٣ ه‍ وكانت إمارة مستقلة بالإدارة تابعة للدولة العلية وتؤدّي لها الخراج ، وبمقتضى معاهدة برلين صارت دولة مستقلة يحدها جنوبا الدولة العلية بإمارة البلغار وغيرها ، وشرقا هي أيضا ونهر الطونة ، وشمالا النهر المذكور والنمسا ، وغربا ولاية بوسنة وهرسك الراجعة للدولة العلية وتصرفها بيد النمسا ، وعدد سكان هاته الدولة مع ما أضيف إليها بمقتضى المعاهدة المذكورة نحو المليونين ، وقاعدتها بلغراد.

١٠٦

الفصل الثاني والثلاثون

وسادسها : دولة رومانيا ، يحدّها جنوبا الدولة العلية بولاية البلغار في البعض وفي الباقي نهر الطونة ، ويحدّها شرقا البحر الأسود والروسيا ، وشمالا الروسيا والنمسا ، وغربا النمسا ، وقاعدتها بخارست ، وعدد سكانها نحو خمسة ملايين ، وبقية أحوالها مثل الدولة المتقدمة عليها في الذكر ، لكنها متقدمة في التمدن والمعارف والقوة ، وعندما كانت تابعة للدولة العلية كانت تسمى بالولايتين أي الأفلاق والبغدان حيث كانت منقسمة إليهما ، ثم اتحدتا في عشرة السبعين والمائتين وألف تحت أمير واحد ، ثم استقلت بمقتضى معاهدة برلين بعد أن دخلت في إعانة الروسيا على كره من الأهالي ، ولا زالوا محبين للترك إلى الآن.

الفصل الثالث والثلاثون

وأما الدول الشمالية فالدولة الأولى منها : دولة إنكلترا السابقة في الحرية والثروة ، وهي جزيرتان منقطعتان في المحيط الشمالي يحيط بهما البحر من جميع الجهات ، وأقرب جهة من القارة إليها هي مملكة فرنسا ويفصل بينهما بحر المانش ، وأضيق جهة منه بينهما نحو عشرين ميلا وسكانها نحو ثلاثين مليونا ، وقاعدتها مدينة لندرة ، ولها مستعمرات في جميع أقسام الكرة ، فمنها : الهند وجزره ، وعدن في آسيا ، كما تقدّم الكلام على ذلك. ومنها رأس الرجاء الصالح وغيره في أفريقيا ، ومنها آيالات في أمريكا الشمالية وأخرى في الجنوبية ، وأعظم جزائر أوستريا وعدد جميع من يتبعها في المستعمرات نحو مائة وتسعين مليونا ، وسيأتي الكلام على هاته المملكة مفصلا في باب خاص من المقصد إن شاء الله تعالى.

الفصل الرابع والثلاثون

والثانية منها : دولة هولاندة ، ويحدها شمالا وغربا المحيط الشمالي ، ويحدّها جنوبا البلجيك ، وشرقا ألمانيا ، وقد كانت تداولتها دول جرمانيا وفرنسا وإسبانيا إلى أن استقلت مع البلجيك بعد سقوط نابليون الأول ، ثم انفصلت عنها البلجيك سنة ١٨٣٠ م ـ ١٢٤٨ ه‍ ، وعدد سكانها نحو ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف نفس ، ولها مستعمرات في جزائر الهند وجاوا وسمطرا وأمريكا وأفريقيا ، عدد سكانها نحو عشرين مليونا من الأنفس وقاعدة المملكة مدينة هاك.

الفصل الخامس والثلاثون

والثالثة منها : دولة ألمانيا المتألفة من ستة وعشرين دولة كل منها مستقل بإدارته الداخلية ، ولهم قانون في الوحدة ومجلس يشترك فيه الجميع عدد أعضائه على قدر مناسبة سكان الممالك المشتركة فيه ، والرياسة على جميع هاته الدول الآن لدولة بروسيا وملكها يلقب بإمبراطور ألمانيا ، ويحدّ جميع المملكة شرقا الروسيا والنمسا وبحر البلتيك ، وشمالا البحر المذكور والدانيمرك ، وغربا هولاندة والبلجيك وفرنسا ، وجنوبا سفيسرة وإيطاليا والنمسا ، وعدد سكان الممالك أحد وأربعون مليونا ، والقاعدة الكبرى للجميع هي برلين ،

١٠٧

وهذه أسماء الدول المتألفة منها العصبة مع عدد السكان وأسماء القواعد :

عدد سكان الممالك

أسماء القواعد

أسماء الممالك

٠٠٠ ، ١٧١ ، ٢٥

برلين

بروسيا

٠٠٠ ، ٨٦٤ ، ٠٤

مونيخ

بافير

٠٠٠ ، ٨١٨ ، ٠١

استوتكادر

فورتنبرغ

٠٠٠ ، ٤٦١ ، ٠١

كارلس

بادن الكبرى

٠٠٠ ، ٥٦٠ ، ٠٢

درازد

الساكس

٠٠٠ ، ٩٧ ، ٠٠

نيوستراتس

مكلنبورغ ستراتس

٠٠٠ ، ٣١٦ ، ٠٠

أولدنبورغ

أول دن بورغ

٠٠٠ ، ٢٨٦ ، ٠٠

ويمبر

الساكس ويمر

٠٠٠ ، ١٨٨ ، ٠٠

ميننجن

الساكس ميننجن

٠٠٠ ، ١٧٤ ، ٠٠

غوطا

الساكس كوبرى غوطا

٠٠٠ ، ١٤١ ، ٠٠

التنبورغ

الساكس التين بورغ

٠٠٠ ، ٠٧٥ ، ٠٠

رودول استاد

أشفارزبورغ

٠٠٠ ، ٠٦٨ ، ٠٠

سوندرسوزن

شوراشبورغ سوندرسوزن

٠٠٠ ، ٠٨٩ ، ٠٠

شلايز

أدليس شلايز

٠٠٠ ، ٠٤٥ ، ٠٠

غرايز

أوليس غرايز

٠٠٠ ، ٢٠٣ ، ٠٠

ديسو

أنحلت

٠٠٠ ، ٣١٢ ، ٠٠

ابرونزويك

أبرونزويك

٠٠٠ ، ١١١ ، ٠٠

ديتموله

ليب ديتموله

٠٠٠ ، ٠٣٢ ، ٠٠

بوكي بورغ

لبيب شاومبورغ

٠٠٠ ، ٠٥٦ ، ٠٠

أدرسن

فالديك

٠٠٠ ، ٨٥٣ ، ٠٠

دارمستاد

ايس دارمستاد

٠٠٠ ، ٥٤٨ ، ٠١

(كولما)

(استرسبورغ) (ميتس) للجاس واللورين

٠٠٠ ، ٣٦٠ ، ٠٠

هانبورغ

بلدة هامبروغ

٠٠٠ ، ٠٥٢ ، ٠٠

لونك

بلدة لنك

٠٠٠ ، ١٢٣ ، ٠٠

بمريم

بلدة بريم

٠٠٠ ، ٠٠٣ ، ٤١

١٠٨

وكلها ذات قوانين ، والسياسة الخارجة متكفلة بها الدولة الرئيسة.

الفصل السادس والثلاثون

والرابعة منها : دولة السويد المتألفة من دولتي السويد والنورويج ، وكل منهما مختصة بإدارتها الداخلية والوزارة واللسان والعساكر بحيث لا يجمع بينهما إلا كون الملك واحدا والسياسة الخارجية أيضا لحكومة السويد ، وكانت المملكة قديما ذات عظمة فاستقلت عنها الدانمرك وأخذت قسما عظيما منها الروسيا واستقرّت على الحالة التي هي عليها الآن منذ سقوط نابليون الأول ، فمجموع سكان المملكتين نحو خمسة ملايين ونصف يخص السويد نحو أربعة ملايين ويخص النورويج نحو مليون ونصف ، وقاعدة الأولى استكولم وقاعدة الثانية كريستيانية ، ويحدّ المملكتين اللتين هما شبه جزيرة تمتدّ إلى نهاية القطب الشمالي ، فمن الجنوب بحر البلتيك وخليج بوتنيا ، وشمالا المتجمد الشمالي في القطب ، وغربا خليج الصوند والبحر الشمالي وبحر الإسكندنافيا اللذان هما من المحيط الشمالي ، وشرقا الروسيا في البعض ، وفي الباقي الخليج الفاصل بينهما.

الفصل السابع والثلاثون

والخامسة منها : دولة الدانمرك ، وانفردت عن السويد والنورويج في أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة ، ثم في أوائل عشرة الثمانين ومائتين وألف هجرية ، حاربتها كل من بروسيا والنمسا وامتلكتا منها ولايتي الشولسويغ وهولستين التي هي أول شرارة ألقيت لانقلاب الموازنة السياسية في هذا القرن كما يأتي تفصيله في المقصد عند ذكر إيطاليا إن شاء الله تعالى ، فاستقرّت المملكة شبه جزيرة ممتدة من الجنوب إلى الشمال ويحدّها جنوبا حيث تتصل بالقارة ألمانيا البرسيانية ، وشرقا خليج الصوند وبحر البلتيك الفاصلان بينها وبين السويد ، وشمالا خليج سكارج راك الفاصل بينهما أيضا ، وغربا البحر المحيط الشمالي. وسكانها نحو مليون وستمائة ألف ولها مستعمرات في جزائر البحر الشمالي من أوروبا ، ولها في أمريكا أيضا مستعمرات ، ومجموع سكان مستعمراتها نحو مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا وقاعدتها كونبهاغ.

الفصل الثامن والثلاثون

والسادسة منها : دولة الروسيا ، ومملكتها بالنظر لسطح الأرض هي أكبر الممالك وقد تقدم الكلام على قسمها من آسيا ، وأما في أوروبا فيحدّها شمالا المتجمد الشمالي ، وشرقا جبال أورال ونهر دون الفاصل بين آسيا وأوروبا ، وجنوبا البحر الأسود والرومانيا والنمسا ، وغربا ألمانيا والسويد. وعدد جميع سكان المملكة بين آسيا وأوروبا نحو نيف وثمانين مليونا من النفوس ، منهم نحو ستين مليونا من المذهب المسمى أرتيدوكس ، وهو مذهب اليونان من المسيحيين وكلهم من نوع البشر المسمى بالسلاف ، وبقية العدد منه نحو ثمانية

١٠٩

ملايين مسلمون ، والباقي من مذاهب شتى من الديانة المسيحية وغيرها والدولة على المذهب الأرتيدوكس ، وهي وإن لم تجبر غير أهل ذلك المذهب على تبديل ديانتهم أو مذهبهم ، غير أنها تمنعهم من حرية المذهب وإشهار تعاليمه ، بل تجبرهم على تعليم أبنائهم في مكاتبها وتجبرهم أيضا على ترك لغاتهم ، ولا يخفى أن أهل مملكة مثل تلك في الإتساع وكثرة الأجناس لا بد أن يكون لهم لغات شتى ، حتى قيل إن اللغات الأصلية فيهم تتجاوز الخمس عشرة لغة.

وهاته الدولة تكونت على الصفة المار ذكرها في مدّة قليلة ، فإن هاته المملكة كانت قديما لا يعرف منها إلا أهل الجنوب بإسم قبائل إلى القرن الثالث المسيحي ، فتألفت في روسية وأوروبا سلطنة عظيمة من أمة الغوت ، ثم تلاشت بالحروب الأهلية وبهجمات الأمم الشرقية على أوروبا وتمادت على ذلك ، إلى أن استولى على أغلبها التتر في مدّة «باتوخان ابن جنكز خان» ، ثم ابتدأ تأسيس المملكة سنة ١٤٨١ م ـ ٨٨٦ ه‍ على يد إيغان الملقب بالأمير الكبير ، وخضعت له ولذريته القبائل المتكونة منها روسية الأصلية ثم انقطعت عائلته. وحدث في المملكة تقهقر أشرف بها على الإضمحلال ، إلى أن تولاها «ميشال رومانوف» (١). وهو الذي أسس الدولة الموجودة الآن وذلك سنة ١٦١٣ م ـ ١٠٣٢ ه‍.

فأخذت في الراحة الأهلية وضم ما كان خرج عنها إلى أن تولاها بطرس الأكبر محيي تلك الدولة فهو الذي أسس إسمها بين الدول المعتبرة واجتهد في ترقيتها ، وكان مع مزيد اعتنائه بالسياسة ومباشرتها بنفسه تحمل أتعاب السفر الشاق في ذلك الوقت لتعلم الصنائع بنفسه حثا لأمّته على الإقتداء به ، وبقي مدّة في ترسخانة هلاندة لتعلم صناعة النجارة حتى أتقن تعلمها وجلب للمملكة معلمين من عدّة صنائع ، وأخذت من ذلك الوقت في الترقي والإتساع مع خرمه هو ومن خلفه ، ومهارتهم في الفنون الحربية والمكايد السياسية إلى أن بلغت الآن إلى ما هي عليه من مزيد القوة والإتساع ، ولو أنها كانت في المعارف والحرية مثل بقية ممالك أوروبا لما كادت أن تسلم منها دولة ، بيد أن بقاءها على أصول الإستبداد أوجب فيها قلة الثروة والمعارف ، فلم تقدر على إنجاز كل ما تضمره وإن كان القيصر الموجود الآن وهو الإسكندر الثاني قد حرر الفلاحين من تملك الأعيان لهم ، حيث كان سابقا إن قسم الأعيان من المملكة من ملك منهم أرضا يملكها بمن فيها من البشر ويستعملهم استعمال العبيد بحيث يتصرف فيهم تصرفه في المتاع ، كما كانت تلك العادة جارية في أوروبا حتى أن الفلاح إذا أراد التزوّج بعد الإذن له من سيده ، يأتي بعروسه ليلة عرسه إلى سيده ولا يمكن له أن يدخل بها قبل أن يبارك له عليها سيده ، وإن أراد الإختلاء بها فله حق ذلك وقس على ذلك من أنواع الشناعة ما شئت ، ففي سنة ١٨٦٧ م ـ ١٢٨٤

__________________

(١) آل رومانوف : Romanov هي الأسرة المالكة في روسيا من (٦١٣ ـ ١٩١٧) أولهم القيصر ميخائيل وآخرهم القيصر نيقولا الثاني. المنجد (٣١٤).

١١٠

ه ، أبطل القيصر إسكندر الثاني ذلك الحكم وحرر الفلاحين.

وأما إدارة هاته المملكة فهي من قبيل الإستبداد المطلق بمعنى أن رئيس المملكة ويلقب عندهم بإكزار بمعنى قيصر أو إمبراطور مع إنضمام معنى الرياسة الدينية ، فهو الذي يتصرّف في الكليات والجزئيات على حسب إرادته واختياره ومن ينوبه في الوظائف يتصرّف مثل ذلك التصرّف بإسم الإكزار ، وللإكزار رياسة التصرّف في الديانة وفي الملك وفي العسكر وفي الشخصيات ، ومع ذلك لهم تراتيت ومجالس لتدبير الملك وإدارة الولايات.

فأوّل هاته المجالس :

المجلس المسمى بمجلس السلطنة ، وهو مجلس تشريع وإدارة وحكم فيستشار في جميع الأمور المهمة غير السياسة الخارجية فإنها مختصة بالملك ، ويستعين بوزرائه فيها ، ولهذا المجلس النظر في أحداث القوانين وإجرائها وتعين المداخيل والمصاريف وتدقيق النظر في محاسبات الوزراء وترفع إليه الأحكام الشخصية الثقيلة ، ويتركب من الوزراء وأعضاء العائلة الملكية وأعضاء ينتخبهم الإمبراطور لمدّة حياتهم ، وحضور الأعضاء فيه على نوعين.

فالأول : لازم الحضور.

والثاني : يحضر بالإستدعاء لداع يقتضيه ، وله تقاسيم في الإدارة كل قسم مناط به شيء مما يتعلق بالوظيفة.

المجلس الثاني : هو مجلس السناتو الذي أسسه بطرس الأوّل ، ووظيفته حراسة القوانين والمراقبة على سيرة كبار المتوظفين والولاة ، والحكم النهائي في الجنايات السياسية إلّا خصوص نوازل يختص بها الإمبراطور ، وهو ينقسم إلى أقسام مراكزها في عدّة جهات من المملكة في المدن الكبيرة ، ويجتمع في أوقات الاجتماعات العامّة.

المجلس الثالث : مجلس ينظر في خصوص المعاريض المقدّمة للإمبراطور وهل للمشتكين من الحكام عرض نوازلهم على أحد المجلسين المذكورين سابقا.

المجلس الرابع : المجلس الديني المركب من أساقفة الايالات الكبيرة ، ووظيفته تسمية كبار الكنائس والنظر في إدارتها إذا أمضاه الإمبراطور.

والمجلس الخامس : مجلس الوزراء المؤتلف من تسعة وزراء فأكثر على ما يقسم الإمبراطور إدارة الوزراء إليه.

والمجلس السادس : مجلس الرقيب العام ، أعضاءه مثل الوزراء.

ثم إن المملكة تنقسم إلى أقسام وهي أيضا تنقسم إلى أصغر منها إلى آخره سواء كانت في المدن أو في البوادي ، فالأقسام الكبار المتصرّف فيها هو الوالي العام البلدي ، وهو المطالب للإمبراطور بجميع ما يحدث في ولايته ، ولذلك كان له الإطلاق أيضا في

١١١

إمضاء ما يراه مجلس الولاية أو دحضه ، وهكذا كل رئيس في قسم أصغر منه هو مطالب لمن فوقه ، فلا جدوى في أن كان لكل منهم مجلس مركب من أعضاء من أهل المكان ، وفي كل قسم كبير جمعية تسمى جمعية الأعيان عدد أعضائها على حسب الدوائر والمشيخات الراجعة لذلك القسم ، ورئيسها يلقب بمار يشال الأعيان ووظيفتها تعيين غالب المتوظفين في كل ثلاث سنين إذا أمضاه الوالي أو الإمبراطور ، وفي كل مدينة أو قرية مجلس بلدي تحت رياسة أحد أعيانهم ، والذي ينتخب أعضاء المجلس والرئيس هو البلدية من البلدان ، ومعنى البلدية هو الأعيان والأواسط من الناس ، وأما أصحاب الخدم البدنية فليس لهم هذا المقام.

ووظيفة المجالس البلدية إدارة الأشغال العامة ومصالح البلدان والحكم فيما يحدث بين البلدية في التجارة ، كما أنه يوجد في هاته الأقسام مجالس للحكم في الجنايات ومجالس للحكم في الأمور العرفية وإمضاء الحكم مناط برئيس القسم كما تقدم ، كما أن لكل مشيخية بالبادية جمعية من كبار عائلاتهم لفصل نوازلهم وتقسيم الأداء اللازم للدولة وتعين من يدخل للعسكر ، ورؤوساء هاته الجمعيات هم أقدمهم في المشيخة ولهم الخيار أيضا في تنفيذ رأي الجمعيات ، ومن مجالسهم مجلس الصلح وهو الذي يونج المتوظفين عن تجاوز مأمورياتهم والحكم في الجنايات الخفيفة والماليات التي لا تبلغ أربعمائة فرنك ، ومن قواعدهم أن الخصمين إذا حكما أحدا يمضي حكمه على شرط تقييده في دفتر مخصوص لذلك ، أما أحكام الحكام فهي شفاهية. ويشترط في المتوظفين أن يكون أصحاب عرض وأن لا ينقص سنّ أحدهم عن الخمس والعشرين سنة ، وفي خصوص الولايات التي في حدود المملكة يوجد حاكم عسكري مع الحاكم المدني وله الرياسة عليه ، وبخصوص ولاية فلندا وزارة خاصة في قاعدة المملكة ومجلس سناتوا يسميه الإمبراطور في كل ثلاث سنين ، وتخت جميع المملكة هي صان بطرسبورغ ، فإدارة هاته المملكة وإن كانت لها مجالس وقوانين وكثير من متوظفيها تنتخبهم الأهالي لكنها في الواقع استبدادية ، حيث أن إجراء كل شيء وتنفيذه مناط بالإمبراطور ثم بخلفائه ولهم الخيار في التنفيذ وعدمه من غير تقيد بمرجع.

ولا يخفى أن ذلك الرئيس وإن كانت أغراضه لا تعم جميع الجزئيات لكنه له حواشي وأتباع فيراعى لكل منهم بعض الوجوه ولكل منهم علائق وأغراض فيتسع الخرق في المراعاة والمداراة وتجري الأمور على الشهوات ، ولهذا لما كثرت الصحف الخبرية في نفس المملكة ، وكثرت فيها الصحف الأجنبية ، وكثرت المدارس التي تعلم أصول التهذيب ، وكثرت المواصلة ببقية ممالك أوروبا بالطرق الحديدية ، انفتحت بصائر أهالي المدن الكبيرة في الروسيا وسرى الأمر منهم لمدن ثواني في جهات من المملكة ، فحصل منهم سنة ١٢٩٦ ه‍ ثورات عديدة ولا زالت مستمرّة إلى الآن ، لكن تارة تشتد وتارة تخف في طلب إجراء الحرية والقوانين مثل بقية أوروبا ، وزادهم حملا على ذلك ما رأوه من

١١٢

دولتهم عند إعلانها الحرب على الدولة العلية سنة ١٢٩٤ ه‍ الآتي خبرها في المقصد إن شاء الله تعالى ، حيث حررت أهل البلغار مع أنهم أحسن إدارة منهم وجعلت لهم ولاية ممتازة إدارتها قانونية ، فقالوا ما لنا نتحكم على جيراننا وننفع غيرنا ونهرق لأجلهم دماءنا وأموالنا ، ونحن في حالة أتعس منهم فكأنّ لسان حالهم يقول :

يا أيها الشيخ المعلم غيره

هل لا لنفسك كان ذا التعليم

فالحاصل أن مملكة الروسيا إنما تقدمت بالسطوة والقوة لمجرد حذق أمرائها ، فإن القيصر ولئن كان له التصرف المطلق لكنه دائما يراعي مصلحة المملكة ويقدّمها على حظوظه الخاصة ولا يصرف من أموال الدولة إلا في مصالحها ، وهو في حد ذاته في غاية الإقتصاد. ثم إنه يستعين بالرجال العارفين الحازمين الصادقين ولا يغير أحدا من الكبراء من منصبه إلا لمصلحة مهمة أو ذنب ثابت ، حتى أن وزيره الأكبر الآن وهو غرتشقوف له في الوزارة سبع وعشرون سنة مع كبر سنه الذي يبلغ الثمانين ولم يغيره بل أنه مرض مرضا شديدا في هاته السنة وهي سنة ١٢٩٧ ه‍ واضطر للإستعفاء فلم يعفه وجعل له نائبا عنه لمباشرة الأشغال إلى أن تيسر له مباشرة الأحوال وعاده بنفسه في مرضه كما أنه استعفى مرارا ولم يجبه إلى ذلك ، وهو أي القيصر منقاد لتدابير وزرائه والناصحين العارفين وهكذا أسلافه ، فإن الوزير نسل رود الذي كان قبل غرتشقوف مكث في الوزارة ثلاثين سنة.

وبذلك حصل التقدّم للدولة وصارت مدنها الكبيرة لا يفرق بينها وبين مدن أوروبا القانونية لا في الإدارة الحكمية ولا السياسية ولا التحسين التشخيصي ، أما غيرها من بقية المملكة فكأنما الناس عبيد مستعملون للرعاة حتى حكى لي أحد السواح الثقات : «أن مشايخ القرى يضربون الرعية بالسياط وهم مارون بالطريق ولا يأمر الشيخ أحدا بشيء إلا ويتبعه السوط ضربا لأجل ضيافة السائح» فتعجب السائح من ذلك وقال له : «يا أيها الشيخ لا لزوم لهذا الإكرام» ، حيث أن الواقعة هي أن السائح لما قدم للقرية وبيده توصيات من الحكومة في الإلتفات إليه من الرعاة وإكرامه عمل شيخ القرية بذلك وأمر في الحال أحد الأهالي بالإتيان بعلف الدواب من عنده وأمر آخر بالإتيان بالأكل الطيب من عنده أيضا وأتبع الأمر بالضرب والشتم ، فقال له السائح المقالة المار ذكرها ، فأجابه : «بدع عنك هذا الكلام إن هؤلاء الكلاب لا يصلح فيهم إلا هذا العمل فلو أني طلبت منهم ما طلبت بأعلى ما يكون من الثمن عن طيب نفس لما أجابوا لشيء» ، وكلام هذا الشيخ وإن أمكن أن يكون فيه مبالغة لكنه لا يخلوا عن الصحة لأن الأهالي أعني أغلبهم تربوا على السذاجة الحيوانية ولم تتهذب أخلاقهم مع النشأة على الذل والهوان والتحكم الشديد ، فلو طلب منهم الحاكم شيئا اعتادوا على إعطائه مجانا بالوعد بالثمن لما صدقوا بذلك ، ورأوا أن رزقهم يؤخذ منهم قهرا وحب المال مجبولة عليه الطباع ، فيتكاسلون عند إعطائه إلا بالغضب ، فيصنع الحكام معهم ذلك الصنيع ، ولو أنهم عودوهم من الصغر والنشأة على مكارم الأخلاق وإكرام

١١٣

الضيف ورأوا منهم مرارا إعطاء الحقوق والثمن لما خالفوا طبع سائر البشر.

واعلم أن في أقسام هاته المملكة أقواما كثيرين من المسلمين منهم أهالي ولاية قازان الذين أسلموا منذ العصر الأول ، إذ قيل : إنهم أسلموا في عصر بني مروان في كبد القرن الأول من الهجرة ، وقيل : في خلافة المأمون (١). وقيل : في خلافة الواثق ابن أخيه ، وانتشر فيهم الإسلام بإسلام ملك بلغار الماس خان بن سلكي خان في خلافة المقتدر (٢) ، فتسمى بالأمير جعفر ، وقاعدة هاته الولاية مدينة بلغار المذكورة في كتب الفقه للإختلاف في وجوب العشاء على أهلها في مدّة الصيف حيث لا يغرب فيها الشفق ، وإنما أفردت بالذكر مع شمول الحكم لكل ما قرب إلى أحد القطبين لأنها هي التي كانت إذ ذاك معروفة بإسلام أهلها ، ولم يحدث الخلاف في الوجوب إلا في المائة السادسة ، إذ لا نص عن المتقدّمين. وقد أفرد المسألة بتأليف بديع أحد علماء هاته البلدة في هذا العصر وهو العلامة هارون ابن بهاء الدين المرجاني ابن شهاب الدين البلغاري (٣) أيد القول بالوجوب ، وله نفس بديع وقول مصيب اختصره ملك بهوبال السيد محمد صديق خان في لقطة العجلان. فلله الحمد على وجود أمثالهم في هذا العصر الذي تغرب فيه الدين فضلا عن العلم ، وتلك المدينة واقعة على عرض خمس وخمسين درجة شمالا ونحو سبع وأربعين درجة طولا شرقيا من باريس ، وهي على نهر الفلكي الشهير.

الفصل التاسع والثلاثون

وخلاصة الكلام على جميع قسم أوروباهو ، أن يقال : «إن جميع الممالك المار ذكرها إلا ما استثنى كلها ممالك قانونية ، يعني أن إدارتها منضبطة في السياسات بأمور محدودة مكتوبة يعلمها الخاص والعام ولا يجوز للمتصرف مجاوزتها ، والمباشر لإجرائها هم الوزراء بإذن رئيس الدولة على اختلاف لقبه من أمبراطور أو ملك أو رئيس جمهورية وعدد هؤلاء الوزراء يختلف بحسب كبر الممالك وصغرها ، حتى تحتاج الإدارة إلى زيادة الفروع أو لا. وأصول الإدارات التي لا بد منها في كل مملكة هي إدارة الداخلية ثم الخارجية ثم المالية ثم الحربية ، وقد يتفرّع عن هاته فروع على حسب الحاجة ، ولأهميتها

__________________

(١) هو عبد الله بن هارون الرشيد أبو العباس (١٧٠ ـ ٢١٨ ه‍) سابع الخلفاء العباسيين في العراق. توفي في بزندون ودفن في طرسوس. الاعلام ٤ / ١٤٢ تاريخ بغداد ١٠ / ١٨٣ مروج الذهب ٢ / ٢٤٧ فوات الوفيات ٢ / ٢٣٥ رقم الترجمة (٢٣٨).

(٢) هو جعفر بن أحمد بن طلحة أبو الفضل المقتدر العباسي (٢٨٢ ـ ٣٢٠ ه‍). خليفة عباسي. الاعلام ٢ / ١٢١ النجوم الزاهرة ٣ / ٢٣٣ تاريخ بغداد ٧ / ٢١٣.

(٣) هو هارون بن بهاء الدين المرجاني القازاني ، شهاب الدين (١٢٣٣ ـ ١٣٠٦ ه‍) فقيه حنفي من أهل قازان في روسيا. الاعلام ٨ / ٥٩ معجم المطبوعات (١٧٢٨). وتأليفه إسمه : «الناظورة الحق في فرضية العشاء إن لم يغب الشفق» مطبوع.

١١٤

تنفرد بوزارة مثل غيرها من الأحوال ، فمن هاته وزارة الأحكام والبحر والمعارف والأشغال العامّة والديانة ، ويجعل لهؤلاء رئيس في الأغلب يكون هو أحدهم وتارة يكون منفردا ليرأسهم عند الاجتماع وينفذ ما يتوقف على جمعهم ، ورئيس المملكة ينتخب هذا الرئيس وهو يعين لصاحب المملكة بقية أقرانه فيوظفهم وليس له بعد ذلك إلا إمضاء تصرفاتهم أو تبديلهم إن وافقه القانون ، وما يراه من التصرف إنما يتصرف فيه بواسطتهم ثم يحتسب على الوزراء مجلسان.

أحدهما : مجلس الأعيان من الأمّة واختيار أعضائه بيد صاحب المملكة أو بواسطة وراثة تتوارثها بعض العائلات ، وقد تنتخب الأهالي بعض الأعضاء من بعض المملكة.

والثاني : مجلس النوّاب ، أي نوّاب الأمّة تنتخبهم الأهالي لمدة معلومة بغاية الحرّية في الإختيار على شروط في المنتخب والمنتخب تؤل إلى صفات تثبت حق الغيرة على الوطن ومعرفة مصالحه والأهلية لنصحه ، ومجموع المجلسين يصح أن يسمى مجلس الأمّة أو المملكة ، فإذا رأى هذا المجلس فسادا في تصرف أحد الوزراء أو مجموعهم وأصر المعترض عليه على رأيه لزمه الإستعفاء لأنه يتصرف على خلاف إرادة الأمّة ، وهنا يكون لصاحب المملكة الحق في قبول اعتراض المجلس وإبدال المعترض عليه أو يأذن الأمّة بانتخاب مجلس آخر بعد حله للأول ، فإن وقع إنتخاب الأمّة على أناس موافقين للمعترض عليه بقي الأمر على ما هو ، وإن انتخبوا أهل المجلس الأول أنفسهم أو غيرهم ممن يوافقهم في الرأي لم يبق لصاحب المملكة حينئذ إلا إبدال الوزراء المعترض عليهم وتوظيف غيرهم ممن يوافق رأي الأمّة ، هذا زيادة عما لهذا المجلس من حفظ جميع القوانين ومراعاة مصالح المملكة في المال والسياسة والأحكام وعقاب المذنبين من المتوظفين ولو من الوزراء ، غير أن مباشرة العمل ليست بيده وإنما هي لمن تعود إليه من وزير أو مجلس حكم أو صاحب المملكة فهذا هو أصل إدارتهم السياسية.

وأما أصل الإدارة الحكمية الشخصية فهي منفردة عن السياسة ولا تسلط للسياسة على الحكام الشخصيين ، وهم يوظفون لمدّة حياتهم أو انتقال لدرجة أعلى ، وتصرفهم مناط بمجالس متعددة الأعضاء ووراءها مجالس أخر لرفع المحكوم عليه لشكواه من المجلس الحاكم إليها ، ووراء ذلك احتساب مجلس الأمّة.

والأحكام يستندون فيها القوانين مرتبة برضاء مجلس الأمّة وتكون الأحكام علنية إلى غير ذلك من الأوجه المقرّبة لبحت الانصاف ودفع الظلم ، فهاته هي الأصول المعمول بها ، وتختلف فروعها بحسب الممالك وعادتها فليس قانون الأحكام متحدا في جميع الممالك بل إنما يتحد الجميع على أصل الجنايات كالقتل مثلا هو ممنوع في الجميع ومرتكبه يعاقب في الجميع وإن اختلف عقابه بحسب العادات ، كما أن من الأحوال المتفق عليها أن يكون قسما مما تدفعه الأهالي إلى دولتهم يصرف في تحسين المملكة ورونقها وإصلاحها كمد

١١٥

الجسور والطرق الحديدية وتنظيف الطرق زيادة على إنشائها ، وكذلك كل ما يؤول لتوسيع التجارة والمعارف والفلاحة وغير ذلك مما يعود على المملكة بالتحسين والتحصين.

القسم الثالث من الأرض

هو قارة أفريقيا ، هاته القارة صارت الآن جزيرة عظيمة جدّا يحيط بها البحر من جميع جهاتها ، فيحدها شرقا المحيط الشرقي والبحر الأحمر وخليج السويس والبحر الأبيض ، ويحدها شمالا البحر الأبيض وبوغاز طارق والمحيط الغربي ، ويحدها غربا المحيط الغربي ، ويحدها جنوبا المحيط الجنوبي ، وقد عرفت جميع شطوطها وما قاربها على التحقيق وبقيت دواخلها غير مسبورة على التحقيق إلى الآن لشدّة حرها ، حيث كان خط الإستواء قاسما لها ، ولصعوبة السفر من توحش أهلها وقلة الماء والطرق ، وتشتمل هاته القارة على ستة وأربعين مملكة ما بين مستقل وتابع لغيره ، فأما الجهة الشمالية من القارة فإنها لها الشهرة التامّة ، وناكبت بتقدمها غيرها من القارات في العصور السابقة ، ولا زالت إلى الآن مرعية الإعتبار.

الفصل الأربعون

فأول دولها : سلطنة مراكش ، ويحدها غربا المحيط الغربي ، وجنوبا الصحراء الكبيرة ، وشرقا ولاية الجزائر ، والصحراء المذكورة ، وشمالا البحر الأبيض وبوغاز طارق ، وهي مملكة متسعة اختلف الجغرافيون في عدد سكانها من خمسة ملايين إلى ثلاثة عشر مليونا والأقرب للصحة على حسب ما يسمع من أهلها الذين لهم خبرة بأحوالها أن السكان المطيعين للحكم نحو سبعة ملايين ، ومبتدأ الحكم النافذ من الشطوط الشمالية إلى بلدة رودانة في الجنوب ، وهي تبعد عن مراكش من جنوبها نحو مسيرة ستة أيام وموقعها جهة السوس الأقصى ، وهناك أمم تابعون بالإسم وهم أكثر من الخاضعين للحكم وليس فيهم من أمارات الخضوع إلا الخطبة بإسم سلطان المغرب ، وهم على نوع من الهمجية وتناصر الجاهلية ، وجميع السكان مسلمون إلا نحو ثلاثمائة ألف من اليهود وبعض الغرباء من الإفرنج في المراسي ، وحكمهم استبدادي في السياسة ، وأغلب الأحكام الشخصية يحكم فيها بالشرع والمباشر للحكم هو قاض يختار من أعلم الموجودين ، والمذهب العام هو المذهب المالكي ولهم مفتون يوليهم القاضي وبعضهم يوليه السلطان ، وهؤلاء المولون من السلطان يستشيرهم القاضي عند طلب الخصم للشورى في حكمه أو عند توقف القاضي في وجه الحكم وهكذا في كل مدينة أو قبيلة قاض ، وجميع ما يرجع إلى تلك المدينة من الإيالة يرجع إلى ذلك القاضي وله نواب في القرى الصغيرة ، وفوق الكل قاضي فاس وهو قاضي القضاة ، وفي فاس قاضيان بهاته الصفة كل منهما مستبد بجهة من المدينة وما يتبعها لأنها تنقسم إلى فاس القديمة وفاس الجديدة ، ثم في هاته المدة زيد قاض ثالث دون الآخرين في الرتبة وإنما هو بصفة نائب عن قاضي فاس القديمة ، لأن هذا مع كبر علمه

١١٦

ومزيد فضله استعفى مرارا معتذرا بكبر السنّ وضعف البدن فلم يساعفه السلطان لذلك ووظف له ذلك النائب ، وهذا القاضي هو الذي يولي جميع القضاة إلا قضاة مراكش فلا دخل له فيهم اللهم إلا إذا أراد السلطان أن يولي أحد علماء فاس قاضيا بمراكش فحينئذ يستشير قاضي فاس في تعيين القاضي.

وكل مكان يشتمل على قاض له وال يسمى في عرفهم قائدا ، له فصل النوازل العادية والسياسية وبعض الشخصيات.

والدولة مركبة من السلطان والوزير والحاجب ووزير القضايا وكتبة ورؤوساء للجند ولجهات سياسية ، فأما السلطان فإن له عائلة شريفة ثابتة النسب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أرسل إليها بعض أهل المملكة وأتوا بجدّهم من ينبع النخل من المدينة المنوّرة منذ نحو ستمائة سنة للتبرك بهم في صلاح ثمار نخلهم حيث بانت بركة آل البيت في جهات أخرى من المملكة ، ثم عند وقوع حروب أهلية وانقسام المملكة إلى طوائف نادى بجدهم مولاي محمد قسم من المملكة وبايعوه في الثلاثين بعد الألف ، ثم اجتمعت بقية المملكة على ولده من بعده ولم يزل الملك فيهم ، لكن المتولي لا يعهد إلى معين من عائلته وإنما له أن يوظف منهم من رآه أهلا في كبار الأعمال ، وعند فقد السلطان تجتمع أعيان المتوظفين والعلماء وأعيان الأهالي وينتخبون أحد أعضاء العائلة ويبايعونه بالسلطنة ، وبقية أعضاء العائلة يجب عليهم قراءة العلم ومن يوظفه منهم السلطان يشتغل بوظيفته ومن لا وظيفة له يشتغل بصناعة يتمعش منها وهي لا تكون إلا عالية كالتجارة والتدريس والفلاحة ، ومع ذلك يجعل لهم من بيت المال شيء لا يكاد يسدّ من عوز ، وأما الوزير فينتخبه السلطان ولا يكون إلا عالما ذا وجاهة من الأهالي وهو وزير القلم على الطريقة القديمة في دول العرب من أن يكون الوزير هو وزير الإنشاء ولذلك يجب أن يكون ماهرا في فنون الأدب مع مشاركة حسنة في غيرها ، ولعمري أن صناعة الإنشاء في الدول باللغة العربية كادت الآن أن تكون مقصورة على دولة مراكش وأما غيرها من الدول العربية فقد تذبذبوا وكادت كتابتهم أن تخرج عن الأسلوب العربي ، بل صاروا لا يتحاشون عن اللحن والكلمات البربرية بخلاف كتاب المغرب وهذا ديدنهم من قديم ، ومما يحسن ذكره هنا :

إن حموده باشا رحمه‌الله الرجل الشهير من أمراء العائلة الحسينية بتونس المتولى في أوائل هذا القرن ، كان وقع في أثناء ولايته قحط شديد اضطر بسببه لطلب الميرة والحبوب من سلطنة المغرب لأن أرضها كانت خصبة في ذلك العام ، ولم تكن المواصلة في أوروبا وغيرها من الأقطار سهلة في ذلك الوقت ، وكان من عادة سلطنة المغرب أن تمنع خروج الحبوب من مملكتها. فأرسل حموده باشا العالم المقدّس سيدي إبراهيم الرياحي (١) لطلب

__________________

(١) هو إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد الرياحي التونسي أبو إسحاق (١١٨٠ ـ ١٢٦٦ ه‍) فقيه مالكي ولد في «تستور» ونشأ وتوفي بتونس. الاعلام ١ / ٤٨ معجم المطبوعات (١٣٨١).

١١٧

ذلك المهم ووجه معه مكتوبا كان من جملة عباراته : «تبق تأذن بخروج القمح الخ». فقوله : «تبق» عبارة بربرية اعتادها كتاب التونسيين في الأوامر الرسمية ، ولما قرأ ذلك الكتاب تعجب وزير القلم بدولة المغرب من تلك العبارة واشتد حنقه منها ، كيف يخاطب السلطان بها ولو لا تبحر سيدي إبراهيم في العلوم لخاب المسعى ، فقال لهم : إنها عبارة عربية وهي جملة دعائية في صورة الخبر إيذانا بتحقيق الإجابة ببقاء السلطان ، وما بعدها جملة حالية إيذانا بأن بقاءه يكون دائما مشمولا بعلو الكعب الذي تحتاج إليه المسلمون من الأقطار وهو دايم الإذن بما ينفعهم ، ثم قال لهم : وعلى فرض لحن العبارة هل يسوغ لسلطان من المسلمين أن لا يرحم عصابة إسلامية ويتركهم يهلكون جوعا لسوء عبارة من جهل الكاتب ، وقرائن الحال حافة بحسن المقصد على أنها لها محل وجيه الخ ، فنجح سعيه رحمه‌الله.

وأما بقية المتوظفين فينتخبهم السلطان أيضا على حسب إرادته ، والسلطان يجلس يوميا صباحا ومساء لقبول المشتكين كيفما كانت الدعوى ، ويكون قبل جلوسه قد هيأ له وزير القضايا تقريرا في جميع من ورد ذلك الوقت مع بيان دعوى كل واحد ، ثم ينتظم مجلس السلطان بوقوف وزيره والحاجب وكبار الأعوان ويمكن وزير القضايا التقرير من السلطان فيقرأه ويأذن بإدخال المشتكين على حسب ترتيبهم في كتاب التقرير ويسمع من المشتكي دعواه ويطابقها على التقرير وعند ذلك لهم طريقتان.

الغالبة : هي أن السلطان يجيب المشتكي بما يراه في فصل نازلته أو تحويلها إلى الشرع ، ثم ينفذ وزير القضايا ما أمر السلطان به.

والطريقة الثانية : هي أنه بعد فراغ جميع المشتكين وتطبيق شكواهم على التقرير يوقع السلطان على التقرير في كل نازلة بما يراه ويدفع التقرير إلى ذلك الوزير وهو يخرج من بين يديه وينفذ ما أمر به السلطان ، وسيرة عموم الدولة على السنن القديم في الأمم التي لم يتسع نطاقها في التمدن وفي الأغلب محافظون على الشعائر الدينية وسوق العلوم الدينية رائجة جدّا بحيث لا تخلو المملكة من فحول في كل وقت ، ومن أهم صفات سلاطينهم العلم وأما العلوم الرياضية فإما أن يقال أنها منقطعة عندهم بالمرة أو أن بعض فروعها لم يزول فيه رمق على النمط القديم ، وذلك مثل علم الأسطرلاب والهندسة.

كما أن لبعضهم ولوع ودعوى في علم الطلسمات وسر الحرف ، وكذلك علم الكيمياء بمعنى قلب بعض المعادن إلى الذهب الذي ضاعت في البحث عنه رجال وأموال من غير طائل ، وأغلب السكان غليظوا الطباع على السذاجة البربرية ، أهالي شجاعة واقتحام للمشاق ورضاء بشظف العيش.

ولأهل المدن أخلاق حميدة وصفات جيدة متمسكين بالديانة ومتحاشين عن المعاصي وكل قادح في العدالة ، ولهم اليد الطولى في التجارة بحيث أن تجارة داخل المملكة أعني

١١٨

غير المراسي التي على البحر هي بيد الأهالي ، ويرسلون منهم إلى أقاصي الممالك لمعاطاة الأشغال التجارية ووصلها بمملكتهم ، حتى لا تكاد تجد مدينة شهيرة للتجارة في إحدى قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا إلا وفيها من تجارهم من له مزيد الرواج والثروة ، ولهم براعة في إدارة التجارة يناكبون بها الأوروباويين ولا زالوا يحترسون من تداخل الأجانب في أحوال مملكتهم حتى أنهم يمنعونهم من السكنى في غير المراسي التي على البحر ، وسفراء الدول يسكنون في مرسى طانجه ، ومن أراد منهم مواجهة السلطان يرسل إليه بطلب ذلك فيرسل له السلطان خفراء مخصوصين ويقدمون به من هناك إلى تخت المملكة ، فينزل في إحدى القصور الملكية ويعين له يوما للمواجهة فيخرج فيه ويقف في ساحة أو طريق رحيبة معلومة وتقف العساكر والمتوظفون يمينا وشمالا ، ثم يأتي السلطان راكبا في خاصته وحاشيته وهم مشاة إلى أن يقرب من السفير فيتعرض له وعند الوصول إليه يوقف السلطان سير جواده ويسلم على السفير ويلقي إليه السفير الكلام الرسمي المعهود للإقتبال فيجيبه السلطان بمثل ذلك ويعلمه أنه أذن وزيره باقتباله والتفاوض معه في مأموريته ويستمر في سيره وينفصل الموكب وبعد ذلك يقع التفاوض بين الوزير والسفير إلى أن يستقر القرار على شيء ، فيعود السفير إلى البلد المستقر به محفوفا بالخفر.

ومن عوائدهم في أمن الطرق أن كل قبيلة حول إحدى الطرق تكون كفيلة بمن يمر في ذلك الطريق على حدود معلومة ثم يدخل المسافر في كفالة غيرها وهكذا على شرط أن لا يسافر ليلا وأن يعطي على كل دابة أجرا مخصوصا لتلك القبيلة وهذا الأجر لا يحجف بالمارين فإذا حصلت مضرة لأحد المسافرين تغرمها القبيلة التي وقع في حدودها ذلك الحادث ، وإذا دخل وقت الغروب فيجب على المسافر المبادرة إلى أحد المنازل الواقعة على الطريق لتلك القبائل وهم يرحبون به ولهم منازل كثيرة حول الطريق ، وكذلك البريد له في كل بلدة شيخ وله أتباع يحملهم المكاتيب ويأخذ عليها أجرا زهيدا ويسافر به الحامل ومعه رفيق لكي لا يقع التعطيل بمرض أو غيره ، ويمشون راجلين ويمكنون المكاتيب في كل بلدة بيد شيخ بريدها وهو يوزعها ما لم يعرض أمر خاص فلصاحبه إرسال بريد خاص بأجر وافر على حسب بعد المكان ولأصحاب البريد سرعة في السير. أما بريد الدولة فهو في عهدة القياد يرسلونه من واحد إلى آخر إلى أن يصل لمقره وأصحابه ركاب ولا يسمح لأجنبي مطلقا أن يقيم بداخل المملكة.

واليهود يسكنون في المدن وغيرها على صفة أهل الذمة غير أن عوائدهم القديمة معهم تجاوزوا فيها حد الشرع في إهانتهم وإذايتهم حتى فتحوا عليهم بابا لمداخلة الدول بواسطة الجمعيات اليهودية في ممالك أوروبا وكانت أرسلت في أواسط هذا القرن دولة الإنكلتيرة طالبة من السلطان تغيير تلك العوائد فأجابهم لطلبهم قائلا أن الحكومة تسلك معهم هذا المسلك وأما الأهالي فحيث كانوا غير منقادين لجميع الأوامر فعلى الحكومة مراقبتهم بقدر الإستطاعة.

١١٩

ولما علم اليهود بذلك امتنعوا من قبول تلك المنح وأرسلوا إلى أوروبا قائلين : دعونا على عادتنا المألوفة ولا تتداخلوا فينا وأعلنوا للحكومة والأهالي بذلك طالبين التألف بهم والأمان على أنفسهم فأمنوهم واستقروا على ما كانوا عليه ، ووجه سلوكهم ذلك المسلك أمران :

أحدهما : ظاهري ، وهو أن ديانتهم قاضية عليهم يتحمل الهوان والمشاق إلى خروج المسيح لكي ينقذهم على دعواهم.

وثانيهما : وهو الباطني أنهم يعلمون تسلط الأهالي عليهم وعدم معارضة الحكومة لهم إما عجزا أو تعاجزا فيقعون في الهلاك ، وعلى فرض أخذ الدول لثأرهم فما فائدتهم بعد انقراضهم ، وصرح بذلك بعض رؤوسائهم لأنهم أحرص الناس على حياة. وفي هاته السنة وهي سنة ١٢٩٧ ه‍ أحرق الأهالي يهوديا فعادت

الكرة من الجمعيات المذكورة آنفا ووجدت دولة إسبانيا الفرصة للتداخل تعاميا عما فعلته هي مع اليهود مما هو من ذلك القبيل أو أشد ، وما بالعهد من قدم كانت تمنع دخولهم إلى مملكتها ولم يزل ذلك إلا عند إعطاء الحرية العامة في إسبانيا منذ عهد قريب ، ولكن مريد التداخل يفتش على ما يوافق قصده ، فلذلك دعت دولة إسبانيا جميع دول أوروبا لعقد مؤتمر للنظر في أحوال اليهود ورعايا الأجانب في مملكة المغرب لأن اليهود أكثروا بالرحيل إلى بعض الممالك الإفرنجية ويحصلون منها على الحماية ثم يعودون إلى المملكة المغربية ويسكنون بأماكنهم الأصلية وعند إجراء الأحكام والعادات عليهم يتجاسرون بإظهار الحماية الأجنبية فلم تعترف لهم الدولة المغربية بذلك وتقول : إما أن تكون أجنبيا فلا تدخل للمملكة وإما أن تكون أهليا فتجري عليك الأحكام هذا على تسليم الحماية ، ودولة إسبانيا تريد الإنتصار للمحتمين وأن يكون لهم السكنى في دواخل المملكة بدعوة تعميم التجارة ، وبعض الدول يوافقها لكي يتسع باب التداخل في المملكة حتى يتسلط عليها. والدولة المغربية مصرة على الامتناع والتمسك بالمعاهدات والعادات المألوفة فعقدوا لذلك مؤتمرا في مدريد في شهر جمادى الثانية سنة ١٢٩٧ ه‍ وكانت كل من دولتي فرنسا وانكلترا مساعدة لدولة المغرب ، أما فرنسا فلمجاورتها لها في الجزائر وهي قد رأت من أهالي الجزائر متاعب شديدة فإنها استولت عليهم منذ خمسين سنة وهم لا زالوا يحدثون الثورة عليها مهما سنحت لهم الفرصة مع قلة الفائدة بالنسبة للخسارة ، فتريد توكيد المودة مع دولة المغرب لكي لا يحدث لها بمشاحنتها هيجان في الجزائر سيما وهي تعلم أن الاستيلاء على المغرب غير متيسر لمعارضة دول أوروباوية قوية في ذلك ، وأما إنكلترا فتريد استجلاب دولة المغرب وبقاؤها لكي لا يتسلط على خليج طارق دولة قوية يمكن أن تمنع الإنكليز من المرور به إلى البحر الأبيض ، كما تخشى أيضا من أنها إذا أظهرت لها التشدّد عليها ربما تميل إلى دولة أخرى ذات اقتدار وتحالفها ويصير الجميع ضدا للإنكليز في وقت الحاجة.

ومثل هاتين دولة ألمانيا ، فكثيرا ما تظهر المودة لدولة المغرب رجاء أن تمكنها

١٢٠