طلوع سعد السّعود - ج ١

الآغا بن عودة المزاري

طلوع سعد السّعود - ج ١

المؤلف:

الآغا بن عودة المزاري


المحقق: الدكتور يحيى بوعزيز
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

الضرر ، فأتاه جماعة الحضرية ، وأصلح بينهم وبين القرغلية ، وألّف بينهما تأليف المودّة الدائمة ، والصحبة والمحبة اللازمة وأوصاهما أن يكونا إخوانا ، وعلى الطاعة والدين أعوانا ، ودخل البلد وأقام بها أياما ، والناس في فرح وبطاعته قياما.

ثم ارتحل راجعا إلى وهران ، ومعه صهره قائد تلمسان ، وهو أبو الحسن علي قارة باغلي متنقلا بأهله انتقال من لا يولي ، وصار يجدّ السير وأعلام النصر تخفق على رأسه وتحيات البشرى توضع على رأسه رائما محل أنسه ، إلى أن دخل وهران مبرورا ، وسالما مأجورا وفارحا مسرورا ، ولسان حاله ينشد شعرا مأثورا :

فتح الفتوح وءاب أوبة ظافر

بالله كان رحيله وإيابه

يلقي العداة ولا يملّ لقاءها

فكأنما أهواؤه أحبّاؤه

قال فدخل وهران وأقام بها نحو الشهر إلى أن استراح ، واطمينت (كذا) نفسه وضحك ولعب وارتاح ، ثم صار مهمى (كذا) سمع بالدرقاوي بجموعه ، إلّا قصده وفضّ جمعه وصيره في قموعه ، وشتت شمله وأجلاه ، ومن المحل أطرده وأخلاه فأذلّ الأعراب ودوخهم ومقتهم ووبّخهم ، وأخلا بعض البلدان حتى من المسافر / وأجلا (كذا) عنها أهلها كبني عامر فإنهم ذهبوا وتركوا بلادهم خاوية (ص ٢٦٦) قفرا ، وزهرهم غبرا ، وللطيور وكرا ، لا يلقي فيها سالكها أنسا ولا أنيسا ولا يجد بها حسا ولا حسيسا ، إلّا البوم والذئاب ، تعوي فيها ليلا ونهارا. وهي خراب. وأكثر ما يلبي بها في كل حين نعق الغراب ، وغراب البين ينادي في كل حين بكثرة الذهاب ، وافترقوا على أماكن المغرب ، ما بين فاس وغيره من المبعد والمقرّب. ولم يرجعوا إلّا في تولية أبي كابوس محمد بن عثمان. وبه حصلت لهم الراحة والأمان. ولما استراح الباي وقلبه قد اطمأن ، وفاز بالسعادة فلم يكن من أهل الوهن والجبن ، جمع جيشا عظيما وجندا عرمرما جسيما ، وبادر به لغزو مجاهر ، لأنهم في السابق أخذوا محلة الخليفة حسن وقتلوا رؤساءها وأعيانها المشاهر. فضلا عن غيرهم من الجيش والأتراك ، الذين يكون بهم الدفع ويقع الإدراك ، وهي واقعة مشهورة ، وقصة كبيرة مذكورة ، محررة في كتاب درء

٣٢١

الشقاوة ، في حروب الترك مع درقاوة ، لأديب عصره وفريد وقته ودره ، الشبيه في أدبه بالبارع أبي نواس ، المؤلف العلامة الحافظ محمد أبي راس ، فلا نأتي بها لطولها وشهرتها وتحقيقها في رسوم جفرتها ، ومن أرادها فعليه بالكتاب المذكور ، للحافظ القدوة المزبور. فخرج لهم من وهران بالأمم الكثيرة ، والجيوش العديدة الغزيرة وقد بلغ لهم الخبر ، بأن الباي غازيا عليهم ليقطع الدابر والأثر ، فبعثوا للدرقاوي على المدد بأنواع الشدائد ، فبعث لهم خليفته الفارس بن المجاهد ، وكان بطلا شجاعا شديد الرأي والقساوة ، قلّ مثله في طائفة درقاوة لكونه تربى في المخزن وأخذ ببعض قوته ، وصبره وشجاعته ، وشدته ، وزاد الباي في سيره إلى أن دخل بلدهم الذي هم فيه ، وقد انحاز مجاهر بأسرهم لواد الرمال واجتمعوا فيه ، فطلبهم الباقي فيه وحملت عساكره عليهم حملة واحدة ففرّوا منها ولقيهم البحر وأثخن فيهم المخزن بالقتل إلى أن رجعت دماؤهم سائلة بعد أن كانت جامدة ، واشتد بهم القتل من ورائهم وأثخن فيهم إثخانا شديدا لا طاقة لأحد على إحصائه ، (ص ٢٦٧) ودام عليهم إلى أن وصل دم قتلاهم للبحر فعلا عليه / واختلط بمائه ، وأفناهم إفناء عظيما أذعنوا به للطاعة ولا ملجأ لهم من أمامهم ، فكان هذا اليوم من أنحس الأيام عليهم ومن شرور أيامهم ، فأفناهم ورجع سالما ومسرورا بجنوده سرورا دائما ، ولمال عدوّه غانما.

ظهور بالحرش مع الدرقاوي في غريس

ثم استقر بوهران أياما قلائل ، وقد جمع الله له الأحوال والشمائل وجمع جيشا عظيما وخرج به لتدويخ المشرق فأتته الناس طائعة مذعنين له ولأوامره ونواهيه سامعة ، ولا زال سائرا إلى أن نزل بأبي خرشفة أسفل مليانة فأتاه هنالك الطائع والداوي ، فبينما هو كذلك إذا بالخبر بلغه بقدوم الدرقاوي ، وأنه حلّ من غريس بأرض عين السدرة ، ومعه درقاوة بنجوعها ونسائها وأولادها وجميع مالها ظاعنة معه بالقوة والقدرة ، وقد جالوا غريسا وجاسوا خلاله فأفسدوا زرعه واحتطبوا جنّته وبساتنه ، وغيروا مرونقه ومواطنه وهم كالجراد المنتشر ، ولم يبق لهم إلا القليل لدخول المعسكر ، وجاءه أهل غريس بذلك الخبر ، وترددوا عليه المرّة بعد المرة بعد الأخرى على ما للراوي ، محرضين له على القدوم إليهم

٣٢٢

ليخلصهم بجيشه المنصور من الظالم الدرقاوي فركب عند ذلك عجلا وسار حثيثا ، وسأل من مولاه جل جلاله أن يكون له ناصرا ومغيثا ، إلى أن وصل لذلك الموضع الذي به الدرقاوي على التحقيق. وكان السيد أحمد بن الأحرش قدم في ذلك اليوم من المشرق على درقاوة فحصل لهم به الفرح والسرور وعلموا أنه هو المعين الرفيق. فقسّم الباي جيشه ثلاثا بلا مين ، وجعله قلبا وجناحين ، فالجناح الأيمن جعل فيه باختراعه أعيان الزمالة وأتباعهم والحشم بأحكام الأوامر ، وأمرهم أن يكونوا في مقابلة جيش بني عامر ، والجناح الأيسر جعل فيه الخليفة بجيشه والبرجية الدارئين (كذا) للمساوي وأمرهم أن يكونوا في مقابلة الدرقاوي ، والقلب استقر فيه هو وأعيان الدوائر وأتباعهم وعساكر الأتراك وأصحاب المدافع ، فكانوا في مقابلة عامة العامة من غير منازع ، ولما تراء الجمعان وجاء الوطيس تزاحفت لبعضها بعضا الصفوف وكان الدرقاوي في ألوف الألوف ، فاشتد القتال وحام الوطيس ، وفقد المألوف والأنيس ، وكثر الصياح / (ص ٢٦٨) والحسّ والحسيس ، وأظلم الجو بالغبار ، وعظمت فيه المصيبة وكبر النهار. فبينما الناس في تلك الشدائد ، وإذا بالجناح الأيسر قام على ساق واحد ، وصبر رجال البرجية صبر الكرام ، واشتدّ ضربهم بالبنادق والحسام ، وتذكروا صبر أسلافهم وما كانوا عليه من ضرب الحسام ، وقالوا : في مثل هذا اليوم تظهر الشجاع من اللئام (كذا) ، إلى أن ذاق أربعة من كبرائهم كأس الحمام ، أحدهم الصنديد مصطفى بن المخفي ، والد الشجاعءاغة قدور بالمخفي ، والثلاثة أبناء عمه الأماجد ، وداموا على ذلك إلى أن قام درقاوة على ساق واحد ، فانهزموا هزيمة كبيرة ، تقشعوا فيها تقشع الغمام إذا طلعت فيه شمس منيرة ، وركب المخزن عند ذلك ظهورهم وغنمهم ونال دخورهم ، ولا زال يقتل ويأسّر (كذا) ويسبي إلى وقت الظهر ودرقاوة قلّوا ، بعد ما كلت الناس من قتلهم وملوا ، فبقيت نجوعهم على حالها بيد المخزن فأخذ أموالهم وسبا (كذا) نساءهم وأولادهم وقتل رجالهم ، فاضمحلوا من ذلك اليوم وفشل ريحهم ، وتلاشوا وبطل ريحهم وخاب سعيهم ونجيحهم. قال ولولا فرسان البرجية ورجالهم الكرام في تلك الواقعة لكانت الدائرة على المخزن بالجمع والتمام ، ولمّا رءا (كذا) الدوائر (كذا) صبر البرجية وموت كبرائهم ، وقد ذهبت الناس فارّة إلى ورائهم ، تقدموا

٣٢٣

للقتال وقالوا للباي لا يحلّ لنا البقاء من ورائهم ، إذ لا طاقة لنا بعد موت الإخوان ، ولا صبر لنا على مفارقة الأقران ، وقاتلوا شديدا ، وطعنوا العدو طعنا عتيدا ، فسبحان من يجعل الخذلان في العدد الكثير العرمرام والنصر بالأقل فهو المالك العلّام. فرجع الباي بجيشه منصورا ، وأعلامه تخفق عزا وسرورا ، ودخل لوهران وجمعه موقر محترم ، وأيامه مقبلة وشمله منتظم ، ومكث بها أياما يسيرة ، في راحة ونعمة كثيرة.

عودة الدرقاوي للظهور

ثم سمع بالدرقاوي قد جيّش جيوشا قوية ، وأنه نازل بجديوية فجمع عساكره المنصورة ، وجيوشه المؤيدة المبرورة وخرج له من إيوانه بالبحور الزواخر ، وبالرجال السادات الكرام الزواجر ، الذين يقدمون الموت ويؤخرون (ص ٢٦٩) الحياة ، وعند الشدة والضيق / يحصل بهم الفرج والاتساع وتكون النجاة وأسرع لقتاله ، طالبا لمحاربته ونزاله إلى أن وصل للموضع المسمى بأجديوية ، وقاتله وحاصره إلى أن أتى المخزن على عامة درقاوة في الأقاويل المروية وقد أفنى مخزنه عامة درقاوة ، وصيرهم للضّلالة والشّقاوة ، وخمدت شوكة باقيهم وفاز بالغنيمة لاقيهم قتل في ذلك اليوم نحو ألف درقاوي ، وبقيت المحلة بما فيها في يد الباي ومخزنه وغنم مال أهل المساوي ورجع لوهران فارحا بالغنيمة العظيمة ، وقتله للعدو المقتلة الجسيمة فاستقرّ بها واستراح ، وحصل له الانطراب والانشراح ، وبقي على ذلك أياما عديدة ، وليالي مديدة في سرور ونخو ، ولعب ولهو ، فبينما هو في إيوانه مع أرباب دولته جالس ، ومستيقظ لأموره وليس عنها غافل ولا ناعس ، إذ جاءه الخبر بأن الدرقاوي بتافنة في جيش جديد ، كأنه البحر المديد والجراد المنتشر ، مغطيا السهل والوعر ، وهو الرجل المنفش المسمى بأحمد بن الأحرش ، ومعه أمة من الطلبة ، سالكين معه اقتحام العقبة ، لما شاهدوا عنده علوم الخنقطرة ، والشعوذة المنفطرة ، ظنا منهم أن ذلك من الأسرار الإلهية ، ولم يعلموا أنها من الأمور السحرية الواهية ، فخرج له فورا بعساكره ومخزنه المبرور ، الفائزين بالسعي المشكور ، وأسرع في سيره وأردف المراحل ، سائلا من مولاه الإعانة في المقاصد والسوائل ، إلى أن بلغه بوادي تافنة ، وأطلق

٣٢٤

عليه سرعة بجنوده الظاهدة والكامنة وأثخن فيه بالقتل ، والنهب والأسر والنكل ، إلى أن مات من الطلبة أمة ، وذهب الدرقاوي مفلولا في أشدّ غمّة ، مذمورا مدحوضا ، مدحورا مفضوضا ، وقد أتى المخزن على جلّ محلته الجسيمة ، فغنمها ورجع الباي لوهران فارحا مسرورا بتلك الغنيمة فجلس بها أياما للراحة طالبا من مولاه امتداد المساحة. قال فبينما هو جالس بإيوانه في المنادمة مع أرباب دولته أهل الفخر والاستقامة ، والأخذ من العدو الثأر والجلب للسلامة ، إذ بادره الخبر بأن الدرقاوي بجيوشه نازلا بالتّوتة من واد العبد ، فخرج / له عجلا (ص ٢٧٠) في جيشه بالأزواج والفرد ، واجتمع به في تلك الناحية ، وقاتله قتالا شديدا في تلك الضاحية إلى أن بدّد شمله ومزّقه ، ودمّره تدميرا شديدا وفرّقه ، وقتل منه أمة كثيرة ، وغنم له أموالا عظيمة في عدّها عسيرة.

نهاية الباي المقلش المحزنة

ولهذا الباي مع درقاوة أيام أخرى غير مشهورة ، وهي مبسوطة في الكتب وعلى الألسنة مذكورة ، أعرضنا عن ذكرها صفحا ، وطوينا لها كشحا. قال ولما دوّخ المغرب الأوسط بأسره ومهّده وأمّن سبله وضواحيه وسدّده ، ونشر فيه العدل والعافية وأيّده ، وقطع منه العدو وبدّده ، عزله أهل الجزائر بالقوة والشد ، وأمروا بقتله بوهران فقتل شرّ قتلة بعد أن ذاق أنواعا من العذاب خارجة عن الحد ، حتى كانوا يحمون سبائك الحديد ، ويضعونها على رأسه وهو في العذاب الشديد. وسببه أنه سرّح المحلة للجزائر كما هي العادة القديمة فيما حكي من الخبر ، ولما عدم الدواب أمر بحمل الأثقال على البقر ، فبلغ خبره الباشا فأنف من فعله وأمر فورا بعزله وقتله ، مع ما تقدم له من شكاية المخزن ومرة أحمد التركي بالفعل القبيح ، الذي لا ينبغي أن يذكر ولا يكون به التلويح فضلا عن التصريح. وكانت أيامه كلها حوادث ، ولا حادثه أشد من الغلاء المفرط بوقته وفناء الناس وكثرة الفساد والعوابث. والأمر لله الواحد القهار العليم ، بالظواهر والأسرار. وكانءاغته بالدوائر الفارس النبيل الخارج عن القال والقيل ، السيد قدور بن إسماعيل ، الصنديد البحثاوي ، والحاج قدور بن الشريف الكرطي التلاوي ، وبالزمالة السيد محمد الوهراني الحنين وعدة ولد محي الدين.

٣٢٥

الباي مصطفى العجمي وحروبه

مع الدرقاوي

ثم مصطفى بن عبد الله العجمي تولى مرة ثانية ، بعد المرة الأولى الماضية ، في آخر السنة الثانية والعشرين والمائتين والألف (١) ، من هجرة من له العز والفخر والشرف وكمال الوصف ، وبقي في الملك تسعة أشهر. وارتقى خزناجيا بالجزائر. وجاء بموضعه الباي الفائز بالمزائر. ولما تولى قام وعليه ابن الشريف الدرقاوي ، فقال يا عجبا منه كيف سلّط عليّ بالثوران الداوي ، مهمى تولّيت إلّا عليّ يقوم ، قد عرف اسمي واعتقد أني جبان وأني لعكروم ، فو الله لأذوقنّه (كذا) كأس الرّدا ولأجعلن شمله مبدّدا ، وقد قام عليه الدرقاوي في (ص ٢٧١) التولية الثانية / مرتين ، وكر عليه للمقاتلة كرتين. ولما سمع بالدرقاوي أنه قد جيّش الجيوش ، وهو بالثعالبة من بلاد فليتة ، قال سأخرج له ورأيه الفشوش ، فعند ذلك خرج في جيشه العزيز ، الذي هو كاللجين والعسجد الأبريز ، وتلاقى معه بالثعالب ، فكان الدرقاوي مغلوبا والباي هو الغالب وقدمه عالية بالمغالب ، فهزمه هزيمة شنيعة ، وعادت جيوشه للباي من وقتها مطيعة ، ورجع لوهران في عزّ وسرور ، بغنيمة وحبور ، فاستراح بها وأقام ، فبينما هو بها إذ جاءه الخبر في بعض الأيام ، أن الدرقاوي بجيوشه في مدغوسة من بلد خلافة ، فخرج له فورا بجيوشه من غير جزع ولا مخافة ، وجدّ السير نحوه وكاده كيدا وترك المسير نحوه رويدا رويدا ، إلى أن وصل للمحل المذكور ، وحمل عليه حملة منكرة بجيشه المنصور ، فلم يك (كذا) غير ساعة إلا والدرقاوي مهزوما ومخذولا مفلولا مذموما ، وقتل المخزن من أتباعه كثيرا وأفنا (كذا) منهم جما (كذا) غفيرا ، وغنم الأموال العظيمة فرجع الباي لوهران مسرورا بتلك الغنيمة ، فمكث بها أياما كثيرة ، وانقطع عنه خبر الدرقاوي مدة شهيرة.

ثم سمع بأن مجاهرا قد سعوا في الفساد ، وحملوا أنفسهم على اتباع الدرقاوي وراموا العناد ، فخرج لهم بجيشه الأفخم حاركا ، وللمقام بوهران من ساعته تاركا ، ونزل بوادي الخير أحد أودية شلف ، فبينما هو به إذ جاء الخبر بأن

__________________

(١) الموافق فيفري ١٨٠٨ م.

٣٢٦

الباشا ولّاه خزناجيا بالجزائر ففرح بعد ما تأسف وبمجرد وصول الخبر له ذهب للجزائر ، وترك من حينه وهران بمخزنها المنصور للباي الآخر. وهو الذي بنا (كذا) للعالم العلامة القدوة الدرّاكة الفهّامة ، شيخ الراشدية وغيرها على الإطلاق ومجدد القرن الثالث عشر بالاتفاق ، من هو بعين العناية ملحوظ ومخلص من الضرائر ، والحاصر ، الحافظ محمد أبو راس بن الناصر ، المصريّة ذات العلو الأرفع ، وبيت الكتب والمذاهب الأربع ، فقال فيه الحافظ المذكور في رحلته التي اسمها : «فتح الإلاه (كذا) ومنّته ، في التحدّث بفضل ربي ونعمته» ، وهذه المصرية بناها لنا الملك الأضفى ، والخليل الأوفى ، والمحب الأصفى ، السيد الباي مصطفى ، برّد الله ضريحه ، وأسكنه من الجنان فسيحه ، وأني بعثت إلى ضريحه بالمديّة مع بعض تلامذتنا بما نصه : عليك أتم السلام ، أيها المولى الهمام ، الذي عرف فضله الإسلام / وخفقت بنصر عزّه الأعلام ، وتنافت في (ص ٢٧٢) إنفاذ أمره السيوف والأقلام ، قسّمت زمانك ما بين حكم فصل ، وإمضاء نصل ، وإحراز خصل وعبادة قامت من اليقين على أصل ، السلام عليك يا مقرر الصدقات الجارية ، وكاسي الظهور العارية ، وقادح زناد العزائم الوارية ، ومكتب الكتائب والسّرايا السارية ، السلام عليك يا حجّة الصّبر والتسليم ، والقلب السليم ، وسامع الحديث والذكر الحكيم ، كرم الله تربتك وقدّسها وطيّب روحك وأنسها ، فلقد كنت للمستجير مجيرا ، وللمظلوم وليا ونصيرا ، ولقد كنت في المواكب بدرا ، وللمواهب بحرا ، وعلى البلاد والعباد ظلا ظليلا وسترا ، بنا (كذا) الله لك بيتا في الجنّة كما بنيت لنا بيت الكتب بلا أذى ولا منّة ، نفّعك الله بصدق اليقين ، وأعلا درجتك في علّيين وحشرك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ه. وكانءاغته حبيبه بالغاية ، وصديقه في البداية والأثناء والنهاية ، واسع العطا ومفصل الدعاوي السيد قدور الصغير ابن إسماعيل البحثاوي. ومن الزمالة السيد محمد الوهراني ولد قدور ، الفقيه الباس المشكور. وكان لهذا الباي ولدان بزماننا من أعيان الناس أحدهما كان كاتبا لدى نوّاب الدولة ، وهو السيد محمد ، والآخر السيد مصطفى الصادق في القولة.

٣٢٧

الباي محمد بن عثمان الرقيق والمسلوخ أبو كابوس

وحروبه مع الدرقاوي

ثم الباي محمد بن عثمان الشديد في الأمر العابوس الملقّب بالرقيق ، والمسلوخ ، والمشتمل ، والمكنّى بأبي كابوس ، أما لقبه بالرقيق فلأنه كان رقيق الجسم ، وأما لقبه بالمسلوخ فإنه لقب به بعد موته الحسم ، لكونءاغة الجزائر عمر سلخ رأسه وهو حي وأحشاه قطنا كما يأتي في صحيح الروايات ، وأما لقبه بالمشتمل فلأنه متشبها بالعرب في الاشتمال بالكساء كالمخزن ولا يلبس لباس الأتراك في غالب أحواله كغيره من البايات ، وأما كنيته بأبي كابوس فلأنه كان يحمل الكابوس وهو البشطول ولا يفارقه أصلا سفرا وحضرا ، واشتهر بذلك لما قتل به السايح بن حضرا. وكان يقال له الباي محمد الصغير فرقا بينه وبين أخيه الباي محمد المجاهد فاتح وهران ، فإنه كان يقال له الباي محمد الكبير ، تولى في آخر السنة الثانية والعشرين والمائتين والألف (١) ، وبقي في الملك خمسة أعوام غير شيء بغير الخلق. ولما تولى اشتغل بقطع الدرقاوي وفصم محالمه ، (ص ٢٧٣) وقطع آثاره ومعالمه. وبغاته ومظالمه / مدّة أيامه ، وطلوع نجمه وأعلامه ، حتى أنّ من حسد أحدا ووشى به عنده وادعى عليه محبة الدرقاوي جورا ينتقم منه فورا ، وإذا ظفر بدرقاوي انتقم منه مبادرة ، بأي نوع شاء من أنواع الانتقام ولا يراعي مشاورة ، ولا يقبل فيه شفاعة شفيع ، واخترع قتلا لم يصدر من البايات قبله وهو فعل شنيع ونوّع عذاب من يظفر به إلى أنواع ، فمنهم من يأمر بدقّ أعضائه حيا بالمعاول في السوق إلى أن يموت بانفضاع ، ومنهم من يقلع عينيه ويتركه أعمى ، ومنهم من يأمر بقطع أعضائه إلى أن يموت أو يجهز عليه وهو أظمى ، ومنهم من يأمر بذبحه ، ومنهم من يقطع رأسه بعد فضحه ، ومنهم من يقتله خنقا ، ومنهم من يبقره ومنهم من يقتله شنقا ، إلى غير ذلك من الأنواع المختلفة المعاطب المؤتلفة وقد نجا الدرقاوي بنفسه ، وفشل ريحه. وتراكمت عليه الهموم والغموم وضاق به فسيحه ، وافترقت عليه أتباعه وتبرأت من عمله ، ولم يبق من ينضمّ إليه لما نالهم من العطب لأجله ، فإذا جاء عند أحد فرّ منه ولم يصل

__________________

(١) الموافق فيفري ١٨٠٨ م.

٣٢٨

لمصحبه! وخاصمه وشتمه واستخف بجاهه ومنصبه ما عدا مرة واحدة جاء لليعقوبية واستقرّ فاجتمعوا عليه يرومون وقعه ، فقصده الباي فورا وشتّت شمله وبدّد جمعه ، فانتقل للأحرار فأطردوه ، ثم ذهب لعين ماضي ، وعنهم أبعدوه ثم قصد لبني الأغواط فأبعدوه لمّا علموا مقصده عندهم ، ثم انتقل لبني يزناسن وهو في مذلة ومسكنة فأقروه عندهم ، وترك ما سوّلت له نفسه ، ودام ذلّه وبخسه ، ولم يتحرك لشيء لعدم طاقته ، وفقد مساعده وشدة فاقته. وصار لفظ الدرقاوي يقال لكل عاص مخالف ، فتبرأت الناس من ذلك ولم يبق بينهم إلا اللفظ متعارف. يحكى أن قوما من درقاوة كانوا بالقلعة يأكلون في الطعام الممتزج بالزبيب ، فظفر بهم قائد القلعة فقتلهم على تلك الحالة فألفيت أمريتهم مملوءة بالطعام والزبيب ، وأن رجلا أوتي به إلى قائد المعسكر على أنه درقاوي ، فقال للقائد وحق سيدي دح بن زرفة منذ عقلت لم أقل لا إله إلا الله على ما قال الراوي ، وغرضه النجاة / لنفسه خشية حلوله فورا برمسه ، فضحك القائد ومن حضر من (ص ٢٧٤) قوله وتركه بلا مهلكة وقال له لا تعد لهذه القولة الكفرية فقال له يا سيدي قد جعلها الله لي مسلكة.

ثم غزى هذا الباي في السنة الثانية من توليته الحشم الغرابة بغريس فقتل أجوادهم وكبراءهم وقوادهم ، وفتك بهم كثيرا جسيما ، وأوقع بهم موقعا عظيما ، وسببه أن الحشم بدت من بعض أعيانهم أمور مخالفة للسياسة وقد هرب الفاعل لذلك عند سيدي محي الدين بقصد الاحترام بالصناعة والكياسة ، فبعث له الباي من يأتي به فعصى وساعده الحشم ، واتفقوا على المعاندة التي كانت لهم هي عين السم ، فاستغاظ الباي بذلك ، واعتراه الغضب الشديد من ذلك ، وأمرءاغته رئيس الدوائر وقائده رايس الزمالة بالغزو على سيدي محي الدين ، فقالا له اصبر فإن الله مع الصابرين الحامدين.

ثم إنءاغة السيد قدور الصغير بن إسماعيل انتخب مائة فارس مقاتل من مخزنه الصبار ، وبعثهم رفقة الحاج بن داوود بن المختار ، كما انتخب قائد الزمالة السيد محمد ولد قدور خمسين فارسا مقاتلا بالتبيين وبعثهم في رفقة الحاج المرسلي ولد محي الدّين ، ولما وصل الجميع لقيطنة سيدي محي الدين ، وراموا أخذ الهاربين بالتمكين امتنعت الحشم من تسليمهم للبعوث ، وبدأتهم

٣٢٩

بإرسال البنادق التي تصب كالفراش المبثوث فحصل الضرب من الجانبين ، آل فيه الأمر إلى أن قتل الحاج بن داوود وجرح الحاج المرسلي بغيرمين ، وذهب الحشم بالمظلومين لغريس ، وعولوا على القتال الذي حلّ بهم به كل شيء نحيس ، ولما رجعت البعوث لوهران وسمع الباي ما حلّ بقومه ازداد غضبه ومنه استبان ، وجمع جيشه من المخزن والأتراك ، وغزى أجواد غريس بطيّ وإدراك ، وقاتلهم إلى أن أثخن فيهم بالقتل الشديد ، ومكر بهم بالمكر العتيد ، فقتل من أعيانهم أربعة عشر فارسا كل منهم بقتل ذريع راكبا وجالسا ، بحيث قتل عشرة في دفعة واحدة ، واثنين منفردين في القتل بعناية جاهدة ولم يبق من هؤلاء الأربعة عشر إلا اثنان وهما قدور وعدة ولدا أبا نقاب ، فكان منهما من القتال ما لا يحيط به جواب ، ولا زالا في جولان الميدان إلى أن قتلا معا بإرسال العنان ، وقد مات الصحراوي والحاج ، فضلا عن غير الأعيان من الضعيف والوضيع والمحتاج ، (ص ٢٧٤) ولما قتل كبراءهم نزل عوّاجة ورهّب عليهم ورام صغراءهم / فبعثوا له على عتيد ، وجعل عليهم عقوبة بالمال خطيّة عظيمة ، وأذعنوا للطاعة ، الإذعان الذي ليس قيمة ، وقصتهم مشهورة ، وعلى الألسنة وكلام الفصحاء مذكورة.

حملة الباي على عريب

ثم أنه لما تمهد له الملك غزى بأمر الباشا عريبا (١) فصيّر رايسهم (كذا) ثريبا ، وهم قبيل عظيم بادية ولهم شوكة قوية ، وهم رعيةءاغة الجزائر وطنهم ما بين حمزة والدهوص في الحدّ بين باي قسنطينة وباي المدية. وسبب ذلك أن شيخ عريب خالف برأيهءاغة الجزائر لما أراد الله به أن يتلاشا فبلغ خبره ، ءاغة فأعلم بذلك الباشا فلم ير الباشا من ينتقم منهم ويهتكهم هتكا ، ويصيرهم هباء منثورا ويفتك بهم فتكا ، ويرجّعهم كالأرض إذا دكت دكا دكا ، إلّا باي الغرب لخبرة جنده بالطعن والضرب فإن مخزنه أشداء على العدو في الحروب ، وشدة

__________________

(١) عريب قبيلة ومشهورة مواطنها السفوح الجنوبية لجبال جرجرة حول برج حمزة الذي يدعى اليوم البويرة شرق مدينة الجزائر.

٣٣٠

بأسهم عند تلاقي الصفوف فلا يعرفون الحيرة وإنما دأبهم الموت وليس من شيمهم الهروب ، فالقاضي عندهم قريب والعاصي لهم طائع منيب ، والصّعب عندهم سهل وكل واحد منهم ظريف لبيب.

أعراش المخزن الوهراني الخمسة

والمخزن مهمى قيل له في دائرة وهران فهو خمسة أعراش جالية : الدوائر ، والزمالة ، والغرابة ، والبرجية ، والمكاحلية ، فهم نجوع شداد في الحرب ، ولبعضهم بعضا متوالية وكلمتهم تحت كلمة واحد بلا مخالية غير أن النجوع الأربعة هم مخزن الباي ، والخامس وما انضم إليه هم مخزن الخليفة سديد التدبير والرأي. وغير هؤلاء كالحشم وبني شقران وبني عامر ومجاهر ، فهم أعراب رعية نائبة ليس لهم جرأة في الحروب وظفر الظافر ، وإن كان عددهم كثير ، فالمخزن أهل جراءة (كذا) ورأي وتدبير ، فأمره الباشا بالغزو على عريب ، وكان ذلك لا يتعقل لعدم تصرف باي الغرب في غير رعيته بكل وجه بعيد أو قريب ، وبعد مكانهم عنه بالأحوال السوية ، إذا حال بينه وبينهم باي المدية ، فنهض الباي من ساعته وهو في أحوال خرجت عن إرادته وكان ذام حزم وجزم وعزم وكياسة ، ووزراءه ذوي تدبير ورأي وشجاعة وبسالة وسياسة ، فجمعهم وعرفهم بالخبر ، فأشاروا عليه بأنه لا بدّ من فعل هذا الأمر ، لأنها مزية عظيمة أن بلغوا منها مناهم وفرحة شديدة أن وصلوا لمنتهاهم ، فاتفق رأيهم على ذلك وتحققوا بأن الأمر هو ذلك ، وتواصوا / بعدم إفشاء هذا السر بل يجعل ذخرا ، (ص ٢٧٦) وخرج الباي بجيشه من وهران بجر الأمم فتعمر به أرض وتخلا به أخرا ، إلى أن وصل وادي دردر وما به من خشفة ، أمر برد أثقال المحلة وضعيفها إلى أبي خرشفة ، وركب أول نهاره وسار في الفيافي طول نهاره ، لا يلقي إلا النعام والغزلان وطائر الجو من الحداء والغربان ، وبات يسير سيرا شديدا ، ومخزنه بالظفر طامعا وفارحا بالواقعة إلى أن طلع النهار وعيونه ما بين الذاهبة والراجعة ، إلى أن بلغ لحيهم ونجعهم ، فأرسل عليهم مخزنه بجمعهم ، وأوقع فيهم جيشه أسرا وقتلا ونهبا ، وزادهم طعنا وضربا ولا عرفت عريب من أين أقبلت تلك الجنود الداهية عليهم ولا من هي لاختلاف ملابسها وأشكالها ،

٣٣١

وشجاعة فرسانها وقوة أحوالها ، فأخذوهم أخذة رابية ، وصارت أموالهم لهم غنيمة مجابية ، ثم تحققوا بأنه باي الغرب ، لما رأوا في فرسانه من زيادة الطعن والضرب ، لا تكل لهم السواعد وليس لهم في الحرب إلّا الطعن والضرب للقائم والقاعد ، فكان من جملة ما سباه الباي بحيشه نساء شيخ عريب وأولاده ، وأقام ببلدهم يومه والسرور زاده.

ثم كر راجعا للمدية في طرب وابتسام ، فنزلها بعد مسيره ثلاثة أيام ، وقد تعرضت له في طريقه قبائل الطّمع ، الذي يفضي بصاحبه إلى النجع ، وهو سائر بين جبلين لأناس يقال لهم أولاد إعلان ، وإذا بهم ابتدؤا الجيش بالضرب في السر والإعلان ، فلما سمع الباي ضرب البارود. ورأى جيوشه حشودا بعد الحشود ، لا تفعل شيئا إلّا بأمره ليكون ذلك من فخره ، سأل عن ذلك تبليغا لمرادهم ، فأخبروه بأنهم يريدون منه الزطاطة لمروره ببلادهم وكانت تلك عادة الأعراب ، إذا لم يكونوا تحت القاهر الغلّاب ، فقال عليكم بهم لا عنهم ، وأيتوني بمن ظفرتم به منهم ، فلم يك غير ساعة إلّا والمخزن يجرّ في رؤوسهم ويقتل لمسعودهم ومنحوسهم ، وأتوه بعدة رجال فأمر بقطع أيديهم وقال لهم تلك الأجرة التي سألتمونيها ، فانصرفوا وهو يزيد بمزيدهم. ولما وصل إلى المدية أقام بها أياما للراحة وبعث السّبي والمال للجزائر صاحب الإحسان ، فرفعت مكانته عند الباشا رفعة عظيمة وكرّ راجعا لوهران. قال فلما وصلها مكث بها سائلا من مولاه الإعانة والسلامة والعافية ، وهو في فرح شديد بمخزنه سيما الأعيان السادات (ص ٢٧٧) الأسود / الضارية ، فصار لا يقدم ناره زناد ، وإنما تأجّجها على الدوام في ازدياد ، بجنده العزيز ، ومخزنه الأبريز. ثم أنه تحرك لأهل يبدر من أهل الساحل ، لقطع ما سمعه من جموع الدرقاوي الذي ببني يزناسن نازل ، فغزى صهره الشيخ أبا ترفاس ، لما سمع بالدرقاوي عنده على غفلة من الناس ، ولما سمع الدرقاوي بنهوض الباي إليه فرّ هاربا متذللا وأخلا الأرض بين يديه وافترقت من حينها جموعه وجاءته عجلة قواطعه وقموعه فزاد الباي للساحل وأخلا منه ما أخلا ، وقتل ما قتل وأجلا ما أجلا ، وخرّب قرية أبي ترفاس واحتطب أجنتها ، وسلط عليها أذاها ومنّتها ، ولما فعل بقرية الشيخ أبي ترفاس أفعال الشرور والإفلاس ، قال له أيها الباي لماذا فعلت بنا هذا ونحن من جملة ضعفاء الناس ، فقال له

٣٣٢

لأن صهرك درقاوي يأوي إليك فأنت مثله وأحوالك ببداية ، فقال له إني شيخ طلبة لا غير وعايرتني بالتدرقي ولست من أهله وخرّبت مكاني خرب الله ملكك عن قريب وألبس لك التدرقي عباية. وهذا أبو ترفاس ولد الشيخ أبي ترفاس الذي غزاه الباي خليل ، فأهلكه الله لرجوعه لتلمسان في السبيل ثم كر الباي لأهله راجعا وهو في هلاك غير أبي ترفاس من درقاوة طامعا ولما وصل لوادي تافنة ، حل به البلاء وانحط ، وأصابه الثلج العظيم الذي لم يمطر مثله قط. فمات به كثير الخيل وتعيّب كثير الجند ودخل الباي اضطرارا تلمسان ، وافترقت محلته افتراقا مختلفا هامت به في البلدان ، فمنهم من مات جواده والآخر تمزّق خباؤه ، ومنهم من تلفت سرجه والآخر انكسرت بندقته (كذا) والبعض تورّمت أعضاؤه ، وانهدمت بسببه الديار ، وانكسرت منه الأشجار ، فسبحان الله الواحد الأحد المالك القهار. واشتهرت تلك الواقعة بحركة الثلج ، وعرف عند الناس بقصة عام الدّلج. وبقي الباي بتلمسان إلى أن صفا الحال ، وأمن على نفسه فضلا عن جيشه من الضرر والنكال ، رجع لوهران واستقامت له الأحوال واقتدت به الناس في الأفعال والأقوال.

نهاية الباي بوكابوس المحزنة

قال فبينما هو بإيوانه في فرح وانبساط ، وسرور واغتباط ، وإذا بالباشا بعث له بالحركة لتونس التي كانت عليه منحوسة ، وأصل هلاكه وصارت أموره منكوسة ، فهي سيئته وخطيئته ، وبها كان هلاكه وسخيطته ، وعذابه / وزوال (ص ٢٧٨) الملك عنه ، وإهانته والانتقام منه. وسبب الحركة أن الجزائريين وقعت بينهم وبين التونسيين مقاتلة ومشاجرة ومواقفة ومحاصرة ، ودامت زمانا طويلا سرا وجهرا ، فتهيأ الجزائريون لهم بالحركة برا وبحرا وبعث الباشا لباي الغرب أن يتهيأ للحركة بالمحلة الجليلة من أنجاد مخزنه ذوي الجلالة لاتصافهم في كل موطن بالشجاعة والحزم والبسالة ومآثرهم في الحروب مشهورة ، وعند الناس في كل مكان مذكورة ليس لها خفاء بالشدة والجلدة ، وكان يضرب بمخزنه المثل في كل بلدة ، فالواحد منهم بمنزلة العشرة فاعلا في الثبات والشدة ، والشجاعة والفراسة والمعرفة والكياسة والأدب والظرافة والفطانة واللطافة والتقدم لإزالة

٣٣٣

الجماجم عند الطيش والوحشة ، والثبات للزحف وقمع العدوّ عند الذهول والدهشة. فهم رجال الوفاء والخجل ، وهم السادات الذين لا يعتريهم الطمع والوجل ، بل شأنهم التقدم للنزال بين الصفوف ، والجولان في الحرب بالبنادق والسيوف ، ولهم معرفة بمكايد الحرب ، وتخلقوا بأخلاق الطعن والضرب ، فلا يخشون من قتل يوم ترحف الراجفة ولا يفرون من موت حين تتبعها الرادفة ، فإن ذهل غيرهم فهم ثابتون ، وإن انهزم غيرهم فهم نابتون ، فهم الذين صدق في وصفهم قول الشاعر ، الواصف لقومه ونفسه بالأمر الصائر :

إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل

تعايرنا أنّا قليل عديدنا

فقلت لها أن الكرام قليل

وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا

قدم تسامى للعلا وكهيل

وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

لنا جبل يحتلّه من يجوره

منيع يؤدي الطرف وهو كليل

وإنّا القوم لا نرى القتل سبّة

إذا ما رامته عامر وسلول

وما مات منّا سيد حتف أنفه

ولا ضلّ منا حيث كان قتيل

تسيل على حدّ الظبات نفوسنا

وليس على غير الظبات تسيل

علونا على غير الظهور وإنّنا

لوقت إلى خبر البطون نزول

ونحن كماء المزن ما في نصابنا

كهام ولا فينا من يعدّ بخيل

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

إذا مات منا سيد قام سيد

يدل بما يهوى الكمال يقول

ولا أخمدت نار لنا دون طارق

ولا ذمّنا في النازلين نزيل

وأيامنا مشهورة في عدوّنا

لها غرر معلومة وحجول

وأسيافنا في كل شرق ومغرب

لها من قراع الدارعين فلول

معودة إذا تسلّ نصالها

فتغمد حين يستباح قتيل

سلي إن جهلت النّاس عنا وعنهم

وليس سواء عالم وجهول (١)

__________________

(١) هذه القصيدة للشاعر السموأل ، وقد أحدث فيها المؤلف عدة تصحيفات.

٣٣٤

خروج الباي من وهران في طريقه إلى تونس وعصيانه

قال فامتثل الباي لذلك وتزود زادا كثيرا ، وجمع من مخزنه جيشا عرمرما غزيرا ، وخرج من وهران يروم تونس وفقا لما أمر به وصاحب الغيب أعلم بما في غيبه ، ولما نزل وادي يلّل ، الذي بان به فساده والخبل ، حدثته نفسه برفض الترك والخروج عن طاعتهم في سرّه وعلاه ، والدخول في سلك سلطان المغرب مولاي سليمان بن عبد الله (١) فأصبح معلنا بقتل الأتراك يا للعجب ، جازما بالدخول في طاعة سلطان الغرب ، فقتل كلّ من كان بقربه من الأتراك ولو أصهاره ، وأمر بني عامر بقتل محلة الترك التي عندهم فقتلوهم خديعة بالتفرقة على الخيام ولم ينج إلّا من نجّاه الله واختاره ، وتمادى على ذلك ولا حصل له في رأيه وهن ، ولما سمع الباشا غضب وعلى جيشه حزن ، ودخل على قارة باغلي صهره خليفة الكرسي بمن معه من الأتراك لمازونة وسكن ، وكر الباي راجعا لوهران ، بمشاورة أعيان مخزنه خديعة منهم له حيث فعل ما لا يليق ، وغرضهم القبض عليه وصيرورته في الكبل الوثيق ، فبينما هم لوهران داخلون ، وإذا بالسفن المشحونة بعسكر الأتراك في البحر وهم بالمرسى نازلون أتوا ليتطلعوا على حقيقة الأمر وما سبب ذلك ، كما جاء عمر آغا في البر بمحلة عظيمة قاصدا لوهران على ذلك ، فدخل الباي محله وقد سمع بذلك ، فجزم بإلقاء النار / في خزنة البارود ، لتصير المدينة عاليها سافلها ولم ينج منحوس ولا (ص ٢٨٠) مسعود ، وأنه ميت معهم ما فيها المحالة ، فصعب ذلك على المخزن وأهل البلد واشتد بهم القلق والوجالة ، فصعد له المخزن للدخول عليه ومعهم كبراء البلد للقبض عليه ونهيه على فعله ، فلم يدع أحدا يدخل عليه وزاد في قوله وفعله ، فصرخت الناس بالاستغاثة وهرب من يطيق الهروب وأيقنوا بالهلاك بغتة دون الحروب ، فعند ذلك صعد له العلماء وبأيديهم المصاحف وصحيحا البخاري ومسلم ، وناجوه من بعيد وأروه ذلك ووعظوه بليغا فأذن لهم في الدخول وأمنهم وقال من شاء تأخر ومن شاء تقدم ، فدخلوا عليه وصبروه ووعظوه ، وبقضاء الله لزموه وللموت لحّظوه ، فثبت يقينه وزال ما به من الغضب ، وعلم أن ذلك حيلة

__________________

(١) حكم السلطان سليمان عبد الله من سنة ١٧٩٢ م إلى ١٨٢٢ م.

٣٣٥

من مخزنه فعلوها لنجاة أنفسهم من العطب ، فاطمأن قلبه ورضي بالموت وزال عنه النصب ، وأذن للعلماء في قبضه فأبوا ذلك ، وقالوا له هذا شأن المخزن لا شأننا فهم أولى بذلك ، ثم أذن للمخزن ورؤوساء البلد فدخلوا عليه وكبّلوه وشددوا عليه ووحّلوه ، حتى أن الوجيهءاغة علي ولد عدة قال له لما اجتمع به بخروف قادما لوهران! أيها الباي فعلت الذميم مع مخزنك سابقا وأهلكت نفسك لاحقا فلست من آل عثمان ، وقاله ثانيا لما شرعوا في تكبيله ، وتوثيقه وتنكيله وأخبروا العساكر التي في السفن وأدخلوهم المدينة ، وكتبوا لعمر آغا بذلك ، ليدخل كمن كان في السفينة. وقد أتى عمر معه بالقفطان المعد للملوك وبايات لار ، فألبسه بمازونة لخليفة الكرسي على قارة باغلي باشتهار ، وولّاه من حينه بايا للإيالة الغربية ، بدلا من صهره أبي كابوس ذى الأحوال الحربية ، فظهرت فيه دعوة الشيخ أبي ترفاس المارة في الرواية عايرتني بالتدرقي ألبسه الله لك عباية. ثم قدم عمر وعلي قاصدين بجنودهما وهران ، فدخلاها وألفياه مكبولا في سجنه نادما على فعله الذي حسنته له نفسه وشياطين الإنس والجان ، وهو صابر لما ساقته له المقادير ، فحق فيه ما قاله الشاعر الماهر :

قالت أراك مع الأرذال تصحبهم

ومن يصاحبهم في دهره يهن

لا يصحب المرء إلّا من يشاكله

ما رأيت الظّبا والأسد في قرن

(ص ٢٨١) / أجبتها مظهرا عذري ومنشدها

بيتا به تضرب الأمثال في الزمن

يغمى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

عمر آغا يقتل الباي بوكابوس وينصب الباي

علي قارة باغلي

ولما رآه عمر آغا تركه على تلك الحالة بالاعتماد ، وخرج معه الباي علي بجيوشهما يجوسان البلاد ، ويتفقدان أحوال الرعية وما عملت وأخّرت وقدّمت ، فوصلا لجبل ترارة وكانت بها دار ابن الأحرش الدرقاوي فأمرا بهدمها فتهدمت وصعدا مع الجبل إلى تاجرة ثم رجعا لتلمسان بعد خلوها وفرار أهلها عنها ، ثم رحلا لناحية الحشم ونزلا بالمعسكر بالخارج منها ، وهناك أمر عمر آغا بقتل

٣٣٦

العثمانية فقتلوا عن آخرهم ولم ينج إلّا من فر بنفس وعصمه الله من مكرهم. قال ثم رجعا لوهران ودخلاها وبها قتل عمرءاغة الباي الرقيق بأشر القتل ، ونكل به بأشد النكل ، فسلخ رأسه وهو حيّ وفعل به فعلا شديدا وملّاه بعد السلخ بالقطن وبعثه للجزائر فعلّقوه على عمود طويل وتركوه به زمانا مديدا ، وقتل أولادهم وهم صغار ولم يتق فيهم رب العالمين ، وقتل بعض خدامه وصار بهم ما صار بالبرامكة مع الملوك العباسيين. وقال فيه كل من السيد حسن خوجة والسيد مسلم بن عبد القادر أبياتا ، فأما التي قالها السيد حسن ذهبت عن حفظي ، وأما التي قالها السيد مسلم خذها إثباتا :

ظننت برأيك أنه صلاح

كلا والله ذلك الفساد

من يستقل بالرأي ليس عاقل

لا خير في رأي يعقبه الفساد

وفعلك ذا يؤدي إلى النكال

وفيه حتف لمن غرّه الرقاد

/ غررت بنفسك والآل كلا

ما لهم ذنب لا ولا المراد

(ص ٢٨٢) حتى بقوا نساؤهم يهمن

في كل وطن وأتلفت الأولاد

أبو راس يرثي الباي بوكابوس

قال وطلع في أيامه نجم غير معهود الطلوع قبل ذلك ، من الشمال ذا ذنب طويل شعاعي وأدام أياما ثم أفل ولم ير بعد ذلك. ولما مات هذا الباي قال فيه الحافظ أبو راس ما ذكره في رحلته التي اسمها : فتح الإلاه ومنته ، في التحدث بفضل ربّي ونعمته ، من المدح والثناء الجزيل ، والترحم له بالترحم الجميل ، ما نصّه : ولمّا افتقرت مصريتنا بيت المذاهب الأربع للترفيع وأردت تجديد تبييضها وبعض ترميمها وتقييضها ، ذكرت ذلك للباي الأسعد الأقعد الأمجد ، الأنجد الأوحد ، عزيز النصر ، ونخبة العصر ، وريحانة الدهر السادل على الرعية الأمن والأمان ، الباي السيد محمد بن عثمان ، اتحفه الله بالرضى والرضوان وألحفه مطاريف التكريم والحنان ، فبعث لي مع ساقه مائة ريال بوجهها ، قامت أوفى إقامة بترميمها وتبييضها وذلك قبل أن أحجّ عنه رحمه‌الله فوفّرني أحسن وفارة ، جعل الله ذلك القتل له كفارة ، ولما أوبت من الحج سنة سبع وعشرين ومائتين

٣٣٧

وألف (١) أعطاني مائة محبوب جعله الله يوم القيامة مقربا ومحبوبا ، أنّس الله غربته ، وأزكى ذريته وتربته ، وجعل ذلك الحج المبرور في ميزانه وراجح أوزانه ، وتقبل الله دعاءنا في تلك المشاهد ، التي ينتفع بها الغائب والشاهد ، وما أنفقنا من نفقة هنا كبيرة أو صغيرة ، إلّا عوّضه الله عنده ، حسنات كثيرة أثيرة. ولما قبر (ص ٢٨٣) قمت وذهبت إلى ضريحه وترحمت وبكيت / ، وقلت السلام عليك أيها الإمام ، الثاوي في دار السلام ، كأنك لم تعرض الجنود ، ولم تنتشر على رأسك البنود ، ولم تبسط العدل الممدود ، ولم تعامل بفضلك الركّع السجود ، توسدت الثرى وأطلت الكرى ، وشربت الكأس الذي يشربها الورى ، وأصبحت ضارع الخد ، كليل الجد ، سالكا سنن الأب والجد ، ولم تجد بعد انصرام الملك إلا صالح عملك ، ولا صحبت لقبرك ، إلّا رابح تجرك فنسأل الله أن يؤنس اغترابك ، ويصلح في الآخرة ما في الدنيا أرابك ، أعطاك الله الوسيلة وتمم مقاصدك الجميلة ، ومنحك الزلفى الجزيلة ، ولم أجد مكافآت لك إلّا التقرّب بدعاءي الله برحمتك ، وتعفير الوجنات في تربتك ، والإشادة بعد الممات بمجدك وكرمك ، منحك الله المغفرة الطيبة ، والتحيات الطيبة ، مد الدهر وأباديه ، وتراويحه وتغاديه ، وأسكنك من الجنان بحبوحه ، وأعطاك فيها فسوحه ، آمين يا رب العالمين ، ولا أرضى بواحدة حتى أقول ألف ألف آمين. وكانءاغته الفارس المشهور ، البطل الذي في الموارد والمصادر مذكور أبو مدين قدور الصغير ابن إسماعيل البحثاوي ، أبلغه الله المراد وأنقذه من المساوي ومن الزمالة المرسلي والسيد محمد الوهراني ولد قدور ، السالكين النهج المسرور.

الباي علي قارة باغلي

ثم الباي علي ، المعروف بقارة باغلي ، نسبة إلى بلدة ببلاد الأتراك ، يقال لها باغل بلا اشتراك. كان أتى إلى هذا الوطن بالمقامنة في وقت الباي محمد الكبير بن عثمان ثاني ملوك العثامنة. وكان موصوفا بالعقل والرياسة ، والمعرفة (ص ٢٨٤) والكياسة فزوّجه الباي محمد الرّقيّق ابنته / وأدناه منه وصيره يتعمل بالأعمال

__________________

(١) الموافق ١٨١٢ ـ ١٨١٣ م.

٣٣٨

المخزنية ، ويتوظف بالرتب السياسية إلى أن ارتقى للمملكة بغير الخلف ، فتولى بايا بالإيالة الغربية في نصف السنة الثامنة والعشرين والماتين (كذا) والألف (١) فهو سابع بايات وهران واستقر بحول الله تعالى على الكرسي في ذلك الإيوان. فألفى بالمخزن تخليطا كثيرا بسبب أمر الباي محمد أبي كابوس الذي كان قبله اتّهم فيه الكثير من الناس بتهمة الناكوس ، ولشدة عقله ورياسته ودينه وما كان منه ، وميثاقه غفر جميع ذلك لمن اتّهم به وعفا عنه ، وتلك التهمة والخلاط اختص به الزمالة ، دون غيرهم من المخزن فكانوا به حثالة الحثالة. وكان لا يقبل الوشاة ولا يصغي للموهن ، فإذا وشى أحد بغيره عنده لا يقبل ولا يسمع منه ما يؤذي به أخاه المؤمن ، وهو قليل الخطية للناس ، فلا يخطي إلّا القليل من الناس ، لا سيما المخزن وأهل البلد وذويه ، عكس ما كان من قبله عليه. وانقطع في أيامه ذكر الدرقاوي حتى صار لا يذكر إلّا على وجه الحكاية كما قال الراوي. قال وحدث في وقته الجراد المنتشر غير المعهود الذي أفسد الزروع والثمار ، وعمّ بالشرق والغرب سائر النواحي والأقطار ، ولم يخل منه مكان ، إلّا مدينة وهران ، وكان من لطف الله تعالى الواقع بهذا الباي جيد السيرة سديد الرأي ، الذي زاد للناس أمنا متسعا وهدّن روعة الوطن ، وسكّن من الأمر ما تحرّك وأحرى ما سكن ، فأسعدت به البلاد. واطمأنت به قلوب العباد ، أنّ عمر آغا لما فعل بأبي كابوس ما مر أخذ في نهب ما في بيت المال من الأموال ، ولما رءا (كذا) إبراهيم خزندار / الكبير ذلك علم أن الباي الآتي لا بد أن يكون من عدم المال ، (ص ٢٨٥) مع الجيش وغيره في ضرر ونكال ، بادر إلى الخزنة وأخذ منها غفلة جملة من المال ، وصعد به إلى أعلا (كذا) سطح المحكمة وجعله هنالك ، ولم يطلع على فعله إلّا الخالق المالك ، وحين تولّى الباي علي واستقر بالإيوان نظر لبيت المال فوجدها خاوية على العروش ، فتحيّر من ذلك وتألّم كثيرا وقال كيف أفعل مع هؤلاء الجيوش فدخل عليه إبراهيم خزندار فوجده مع نفسه في هم وحزن ، وتأسف صاعد وهابط ومحن ، فقال له يا سيدنا ما طرقك حتى صرت في هذا التأسف ، والضرر الشديد والتقشف ، وأنت البايلار باي وأنت الذي تزيل عن

__________________

(١) الموافق ١٨١٣ م.

٣٣٩

عيرك بفضل الله الأغيار ، فقال يا إبراهيم وكيف لا أتأسف وبيت المال خاوية فما أصنع مع هؤلاء ، الجيوش الضاوية فإن عمر ذهب فارحا أمينا بأخذه المال لنفسه وتركني أسيرا مع الجيش حزينا ، فقال له إبراهيم يا سيدنا لا تجزع ، ولا تتأسف ولا تفزع فأنفسنا لك وقاية ، ومالنا لك حماية ، ومخزنك كثير الجود والشجاعة ، والزعامة والبراعة لا يدعوك تتألم بسبب ذهاب المال ، فلا ريب أنهم يجمعون لك فورا ما يكون به التطريب للبال ، وأني قد دخرت لك شيئا من الذخائر والأموال ، لتستعين بها على ما أنت فيه من الأحوال فقال له أحضرها وبادر ، فأحضر ما كان تحت يديه من الذخائر ، ففرح الباي وظهر عليه السرور واستبشر ولاح على جبينه النور ، ولما سمع المخزن أتوه. بما فيه الكفاية وفوق الكفاية وقالوا له طب نفسا فأنفسنا ومالنا لك هي الوقاية ، فشكر فعلهم الجميل ، وأثنا (كذا) عليهم (ص ٢٨٦) الثناء الجزيل. / ، قال وفي ثامن جمادى الثانية سنة توليته (١) غزى ترارة ومعه عمر آغا كما مرّ فقتل منهم أربعة وثلاثين رجلا من الشجعان ، وسبا (كذا) تسعين امرأة بالبيان.

ثم غزى بني مناد لما ظهر منهم الفساد ، فأوقع بهم إيقاعا عظيما ، وهتكهم هتكا جسيما ، أفنا (كذا) منهم عددا من الأبطال وسبا (كذا) الأموال والنساء والصبيان وأسّر الرجال. ومات بتلك الواقعة من أعيان مخزنه القائد الأنجد ، الفاضل الأمجد الشهم الشجاع الجواد المطاع ، الصنديد الباسل ، الحليم الكامل ، من هو لليتامى والآرامل كافل. ذو اليد الواسعة والمآثر الساطعة ، رئيس الدوائر ، محي الدين بالنواهي والأوامر ، صاحب المحاسن والمعارف ، وجائز المعالي والعوارف جالب الإحسان ، ودافع المساوي مفتخر النسب المخزومي البحثاوي ، السيد قدور الصغير بن إسماعيل آغا ، واصل الله روحه إلى الجنة وأحكم بلاغه ، كما مات الطالب الأديب الحاذق اللبيب ، كامل الإحسان والأجور ، قائد الزمالة السيد محمد الوهراني ولد قدور رحمهما‌الله بمنّه وفضله وكرمه آمين وجعل في الفردوس آخر دعواهما أن الحمد لله رب العالمين. وهما ركائز المخزن في الأمور النفّاعة ، وعمدته رأيا وشجاعة. وقد قال السيد مسلم

__________________

(١) ١٢٢٨ ه‍ الموافق ٨ جوان ١٨١٣ م.

٣٤٠