طلوع سعد السّعود - ج ١

الآغا بن عودة المزاري

طلوع سعد السّعود - ج ١

المؤلف:

الآغا بن عودة المزاري


المحقق: الدكتور يحيى بوعزيز
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

سبعة سرد ، وواحد فرد ، تولى سنة خمسة عشر ومائتين وألف (١) ، وكان رجلا عاقلا لكنه جبانا أدته جبانته للشقاوة حتى هاجت في أيامه هيجانا عظيما عامة درقاوة. وقد أشار عليه بعض الأولياء بقوله (كذا) سيأتي مصطفى عصي ، هو فوق الكرسي والناس تعصي. وفي السنة الثانية من ولايته وهي سنة ستة عشر ومائتين وألف (٢) غزى (كذا) أهل انقاد غزوته الذميمة فهزموه الهزيمة العظيمة ، مات فيها جملة من رؤساء مخزنه الأعيان منهمءاغته بن عودة بن خدة وللجنان ذهبوا ، واشتدت الهزيمة حتى أسّروا وسلبوا ، وهي أول واقعة وقعت بهذا الوجه في المخزن ، فدخله بها الرعب والوهن بعد أن كان في أحواله بالقلب هو المطمئن ، وكثر طمع الرعية في شبه ذلك وقد مسّ المخزن بعض الجبن والكسل من ذلك ، لا سيما إذا كان الأمير جبانا خوالا ، فلم يزدهم ذلك إلا جبنا وكسالا (كذا) لأن الرعية تابعة للراعي في الصلاح والفساد وأحوال المراعي ، والجيش إذا كان رايسه (كذا) أسدا فهو بذلك جدير ، وإن كان بعكس ذلك فهو بحسب الأمير ، قال الشاعر :

المرء في ميزانه أتباعه

فاقدر إذا قدر النبيّ محمّد

أسباب ثورة درقاوة

وسبب قيام درقاوة ، أهل الحالة الدالة على ذمّ وشقاوة ، أنهم عامة ينتحلون العبادات ، ويتلبسون على الناس ببعض الخيالات. ـ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف وهم في أحوالهم في غاية التلطف لإنالة مالهم به التوصّف ، يجتمعون في الأسواق والطرق والفنادق ومراح الدواوير والمقابر والمواسم والزوايا حلقا حلقا ويذكرون لا إله إلا الله جهرا مناوبة / ثم يذكرون الاسم المفرد بالأصوات (ص ٢٤١) المتجاوبة ، ثم يقومون للشطح والرقص بعد الأكل الكثير ، إلى أن يغمرهم العرق والتشرير ، ويركبون على القصب والكلخ وما هو كالعهن المنفوش ، ويعلقون القرون وقلائد الببوش ، ويتسابقون على تلك الحالة ، ويعتقدون أنهم على أكمل

__________________

(١) الموافق ١٨٠٠ ـ ١٨٠١ م.

(٢) الموافق ١٨٠١ ـ ١٨٠٢ م.

٣٠١

الحالة ، ويلبسون الثياب المرقعة ، ويرومون المسائل الموقعة ، وربما أخذوا جديد الثياب! فيقطعونها ثم يرقعونها بالاستعاب ، ويظهرون الزهد في الدنيا إظهارا كليا ، ويجلبون الناس للأخذ عنهم والدخول في طريقتهم تحليا ، ويذمون الدنيا وتابعها ، ويعظمون طريقتهم وجامعها ، ويطالعون كتب التصوّف فيأخذون منها الألفاظ الدالة على ذمّ الدنيا ومدح الآخرة. وفي الحقيقة أنهم ليسوا من أبناء الدنيا ولا من أبناء الآخرة. وإن هم إلّا كالأنعام بل هم أظل سبيلا ، وأقدم حالة وأكذب مقيلا ، ويكرهون الأولياء والعلماء ويقدحون في أمواتهم سيما شيخ المشايخ الشيخ عبد القادر الجيلاني ذا السر الباهر ، وينفون عنه التصوّف بالكلية وينسبونه لأنفسهم بالإخفاء والظاهر ، وينتسبون إلى رجل مغربي من بني زروال بوادي أبي بريح من فرقة يقال لها درقاوة ، يقال له الشيخ مولاي محمد العربي بن أحمد وينسبون له السرّ والنقاوة. أخذ عنه جملة من أشياخهم وأصولهم وأفراخهم ، منهم السيد عبد القادر بن الشريف القائم بالغوغاء والعامة على أهل الملك والتصريف ، وهو من أولاد سيدي أبي اليل (كذا) المرابطين بقبيل الكسانة النقد ، حي من أحياء العرب البادية المتوطن بواد العبد. وكان هذا القائم في أول حاله عالما متفننا في (ص ٢٤٢) سائر العلوم ، محققا لها بقيودها والمنطوق والمفهوم / ورعا زاهدا ، متعبدا راكعا ساجدا ، صائما قائما ، حنينا راحما ، أستاذا يقري (كذا) القرآن ويعزّ أهله ويزيل بتعلمه لكل جاهل جهله ، والناس يشيرون إليه بالصلاح. والنّسك والنجاح ، فذهب للمغرب وأخذ عن مولاي العربي تلميذ مولاي علي الجمل. فقدمه على إعطاء الذكر لمن بهذا المحل ، ثم رجع من المغرب وترك ما كان عليه من التعليم ، واشتغل في زعمه بالتربية والتكليم ، ولم يدر أنها انقطعت في القرن التاسع باتفاق من الأئمة وليس في هذا مدافع ، ولبس الخرقة المرقعة وعلّق الببوش وركب الكلخ وعلّق القرون المرقّعة ، وابتدع أمورا يمجّها الطبع ، وينكرها الشرع ، واقتدى به في ذلك الجلّ من الناس ، وأخذ عنه كل من هو في عقله في غاية الإخساس ، خصوصا أهل الصحراء فأذعنوا له إلى أن قهرهم قهرا ، وزاغت به نفسه الأمارة بالسوء وباع آخرته بدنياه ، ثم أصبح بلا بهما معايا ويلاه ، وصارت عامة درقاوة تجتمع إليه ، فيخرج بهم إلى الصحراء فيجتمعون عليه ، وتتلقاه الأعراب بالفرح والسرور ، حتى أخذت عنه جميعها الورد وهو في

٣٠٢

سرور ، وصارت كل شيعة تهدي إليه الهدايا ، ويأتون إليه من كل فج بالعطايا ، ويشتكون إليه ضرر المخزن وما هم فيه من أداء المغارم ، ولم يعلموا أنهم سيرجعوا إلى انتهاك المحارم ، فكان يعدهم بالفرج القريب المشكور ، ويجمع تلك الزيارة والهدايا فيذهب بها إلى شيخه المذكور ويدفعها إليه ويقص عليه ما هم فيه خدّامه من إهانة المخزن إليهم ، فيقول له انصرهم والله ينصرك عليهم ، فحصل له بشيخه الطمع الكثير مع ما نظره من اجتماع الغوغاء عليه بالأمير العسير ، وهم الأحرار وغيرهم من أهل العناد ، الذين يشبّهون بصغار الجراد في الفساد ، فدعا أهل الصحراء كالأحرار وغيرهم لمبايعته فأجابوه فورا لذلك ولكل ما يشتهي وأقام بالأحرار / يأمر وينهي. وفي هؤلاء درقاوة وقع السؤال والجواب (ص ٢٤٣) من العلماء أولي الألباب ونصّه :

أيا أهل تطوان فما الحكم عندكم

في أصحاب درقاو إلى الجمل ينسب

بنصّ يزيل المشكلات بأسرها

أيتبع مطلقا أم التّرك أصوب

ومن أين ذاك الأخذ بالسند الجلب

كما قرّروا للشاذلي الجاه يحسب

إذ ذّا المحدثات شاع في الناس حكمها

يا ذا الأمن بالأوطان بلدنا مغرب

وما أحدثوا من جلد ذيب ونحوه

في لبسهم والحبل والعود يركب

إذا نصبوا للاقتداء فهل لنا

ثواب صلاتنا أم الأمر أصعب

وهل غيبة تجري وينصق عادل

جوابكم نبغي من الحوض نشرب

جوابه

عليك سلام الله يا سائليّ فخذ

نقولا من المعيار بالسوط يضرب

وابن هلال شدّد جدا محررا

ومن يتّبع ذا الأمر إبليس يصحب

ومن يعتقد الرقص والشطح باليد

عبادة ربّه فزنديق يحسب

وقد خالفوا سبل الرسول محمّد

ومن خالف سنّ النبيّ يعذّب

إمامتهم مع الشهادة باطلة

لبدعتهم حقّا وصدقا مركّب

فلا غيبة تجري في سبعة طبّقوا

في مثلهم الأخيار للعلم ينسب

فهذا هو المشهور عند جميعهم

فجنّب طريق اللهو للحقّ تقرب

وأيقن بأن الله أنزل حكمه

في تنزيله القرآن شرعا مهذّب

٣٠٣

معركة فرطاسة ونتائجها

قال فبينما الناس على غفلة إذا بابن الشريف أصبح قائما بأقوالهم ، معلنا (ص ٢٤٤) بجهاد / الترك والمخزت محللا لدمائهم وأموالهم فاجتمعت عليه الغوغاء من كل جانب ومكان للحرك ، وهبط مع وادي مينا قاصدا نحو المخزن وأذن لأتباعه في النهب لأموال أتباع الترك. وكان الباي في بعض حركاته راجعا بعد فراغه منها إلى وهران. ولما سمع بالدرقاوي جمع له الجيوش وخرج للقائه فبلغه الخبر المحقق وهو نازل بالموضع المعروف بالبطحاء الآن ، بأن ابن الشريف بمينا بقرب تاقدمت بجيشه حائطا ، فصار الباي صاعدا نحوه ، وابن الشريف له هابطا ، إلى أن تلقيا بفرطاسة في غاية الحزم والشدة ، وكان ذلك المحل ما بين مينا وواد العبد ، فاشتدّ القتال بينهما على الماء وصارت نار الحرب بينهما دائرة بالحتوف ، وتزاحفت لبعضها بعضا الصفوف وتراكم الأمر وحام الوطيس المعروف ، فانهزم الباي وقام مخزنه على ساق واحد وركب العدّو بظهره في تزايد ، وصار يقتل ويسبي ويأسر إلى قرب أم العساكر ، وبقيت محلة الباي بما فيها بيد الدرقاوي المتجاسر ، فأمسى الباي بمخزنة في نكد ، وأصبح الدرقاوي بأتباعه في رغد ، فسبحان المعز المذل الإله بوحدانية المنفرد ، ودخل الباي للمعسكر على غير الحالة المعهودة ، وعساكره خلفه مطرودة ، ومات من مخزنه خلق كثير ، وعدد حصره عسير ، من جملتهم كاتبا الباي وهما : العلامة السيد الحاج أحمد ابن هطال التلمساني الراوي ، والعلامة الأديب أبو عبد الله السيد محمد الغزلاوي إلى غير ذلك من الأعيان ، الذين انتقلوا إلى جنّة الرضوان. وفيها قال السيد حسن خوجة في در الأعيان هذه الأبيات :

فرطاسة يومها ترى الجنود به

ما بين قتلى وأسرى غير ناجينا

فالباي جاء بجيش لا نفاذ له

به يريد لقاء العدو باغينا

فلم يحقّق له سعي ولا أمل

بل جاء جنده صفر الكف باكينا

(ص ٢٤٥) / فاليوم لابن الشريف عزّ فيه على

باي الأعاجم لولا الدين لا دينا

وقال السيد مسلم الحميري :

فيوم فرطاسة يوم كبير

ذلّ فيه العزيز عزّ الحقير

٣٠٤

لقد هيّا مصطفى جيشا كبيرا

تركا ومخزنا الملك الجدير

فلم تك ساعة إلّا وانهزموا

من جيش قليل هيّأه الفقير

قال : ثم خرج من المعسكر عشية يومه وقيل عشية اليوم الثاني ، وكان يوم الأحد ثالث أو ثامن من ربيع الأول بالبياني ، سنة تسعة عشر ومائتين وألف (١) ، من هجرة من حاز الكمال والشرف والوصف. ورجع لوهران فدخلها في فلّه ، وهو في وجل ببعضه وكله ، فاجتمع عليه أعيان مخزنه وسهّلوا عليه الأمر وهوّنوا عليه المصيبة ، وأزالوا عنه ما بنفسه من الوجل والريبة وقالوا له لا تجزع من الدرقاوي وأعرابه ، وجيوشه وأصحابه فنحن سيوفك الماضية. ورماحك النافذة القاضية ، وشجعانك الداهية وفرسانك الضارية الدامية ، والأمر كذلك وفوق ذلك ، ولا يكون إلّا ما تراه من الدفع عنك بأنفسنا وأكثر من ذلك ، فإن كان الأمر من الله فلا يليق إلا التسليم ، والرضى؟ بما قدره وقضاه الحكيم العليم وإن كان غير ذلك فلا ترى إن شاء الله إلا ما يسرّنا ويسرّك بغير خلف ، ألم تعلم أننا فحول هذه الأوطان وأبطالها موروث ذلك عندنا خلفا عن سلف ، ومن يناقمنا يحلّ به الويل ، ويصده النكل والخبل. وقد صدق فينا قول الشاعر الماهر ، الذي قوله ذائع عند البادي والحاضر :

إذا قالت قريش في أمر شيئا

فذاك القول مصداق المرام

/ فصدقوها في المقال حقا

ولا يكن تكذيب في الكلام

(ص ٢٤٦) وقول الآخر :

إذا قالت حذام فصدقوها

فإنّ القول ما قالت حذام

وقول آخر :

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

وقد نصبنا أنفسنا للموت والتزمناها ، بحيث من لم يمت منّا بالسيف مات بغيره فيتمناها فصدق فينا قول الشاعر :

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعدّدت الأسباب والدّاء واحد

__________________

(١) الموافق ١٢ أو ١٧ جوان ١٨٠٤ م.

٣٠٥

ولا خير في خلف إذا لم يتبع السلف ، ولا في الرجل إذا لم يتبع أباه ولخصاله يقتف ، والورقة من الشجرة ، والنار من الزناد والحجارة. وقال فعند ذلك اتفق رأيهم على تحصين البلاد بكل الأدوار ، وإقامة آلة الحرب وما يئول (كذا) إليه الحصار ، وأتقنوا أمرهم غاية ، واستعدوا للعدو بدءا ونهاية. ولما استولى الدرقاوي على المحلة وعزّ جانبه في كل قرية وحلّة ، واتصف بالمزية ، كتب بالبشائر والتهاني لجميع الرعية ، قائلا لهم بقوله الذي بان لهم فيه النصيحة والمعونة ، أننا نزعنا عنكم ما كنتم فيه من الحقر والذلة والمسكنة ، وأداء المغارم والجزية الثقيلة ، والمؤن الكثيرة الجليلة ، الذي جميع ذلك هو حرام ، على من انتظم بالدخول في سلك الإسلام ، وقد قطعنا دابر الترك الظلام ، وأتباعهم الشّرار اللئام. فالواجب عليكم مبايعتنا والإذعان لنا وطاعتنا ، فوافقه على ذلك (ص ٢٤٧) جمّ غفير ، وعدد كثير / فاجتمع عند ضحى يوم الجمعة ، ثالث عشر ربيع الأول تلك السنة (١) ذات القصعة ، ما لا يحصى عده ، ولا يستطاع دفعه ورده ، من رعايا الباي ، من ذوي العقول الفاسدة الرأي ، فمرّ بغريس الشرقي والألوية على رأسه في غاية الخفقى ، إذا به سمع امرأة تنادي على أخرى تركية ، وكان ذلك اسمها في المحكية ، فأنف من ذلك وأبدل اسمها فورا بعربية ، وقال ما عدونا إلّا الترك بأتباعهم وحشومهم وأشياعهم. ثم دخل المعسكر فأطاعوه ، ما بين طوع وإكراه بايعوه وما داعوه فصيرها دار ملكه وسكناه ، وجمع بها أهله وأولاده وجعلها مثواه. وقد ألفى بها وقتئذ الفارس القائد أبا محمد بالحضري بن إسماعيل البحثاوي نسبا ، الدايري (كذا) مرتبا ، قد كان الباي بعثه لها لبعض شئونه ، وقضاء مطالبه ومؤنه ، فتقبّض عليه كغيره من القواد وسجنه ، وكبّله ومهنه. وهزم جيشه خليفة الباي مصطفى ببلاد مجاهر في ربيع الثاني من تلك السنة (١) هزيمة شنيعة ، وقتلوا العسكر ونهبوا المحلة ذريعة. ثم خرج من المعسكر بجيوش كالجرذ أن تملأ الخراب والعمران ، قاصدا بها فتح وهران. ولما حلّ بسيق بأرض الغرابة ، فرّ منه أهلها بعضهم للجبال وبعضهم للغيب والأماكن المتوعرة الشعابة ، ومن دخل منهم لغابة الجيرة التي هي طريقه أوقع بهم عظيما ما بين القتل والأسر

__________________

(١) ١٢١٩ ه‍ الموافق ٢٢ جوان ١٨٠٤ م.

(١) ١٢١٩ ه‍ الموافق ٢٢ جوان ١٨٠٤ م.

٣٠٦

والسبي وحلّ بهم تطريقه ، حتى عرف بالموضع الذي وقع به ذلك للآن بشعبة النواح ، لكثرة نوح الناس بالبكاء على أنفسهم وأهلهم وما بهم من الفراح. وكان الولي أبا عمامة الغربي تلميذ أبي دية قبل الواقعة يقول وهو في خلوته : مزينكم يا حواض السماء لو كان فيكم الماء لأن كل من فرّ لأحواض السماء وهو الجبل المطل على طلقة العلوج وسيق نجا ، وكل من / ذهب لغيره حلّ به ما يرتجا (ص ٢٤٨) (كذا) ، وصارت جنوده المفسدة الذميمة الوافرة العدد الجسيمة ، ما تمرّ بموضع إلا تركته وحشا ، مهانا ووجهه وخشا ، وكان قدومه لوهران في الصيف في أبّان الحصاد ، فسارت إليه وأطاعته جميع العباد لا عربي ولا مخزني ، ولا شريف القدر ولا دني ، خشية منه على زرعهم ومالهم وضرعهم ، لكون الجنود مضنة الفساد ، والضلال والنكاد ، لا سيما عادة الجنود السلطانية المتوّجة بالتّيجان الشيطانية ، فلم ينفع ذلك من دخل في طاعته ، ولا من أتاه للخلاص ببضاعته ، بل سلّط من شدة ظلمه أتباعه ، على من انتسب للمخزن فأكثر إيقاعه ، فأخذوا ماله ونهبوه وسبوا أولاده ، وتركوا حيارى زوجه وأفراده ، فحرقوا ونهبوا وقتلوا وأسروا وسبوا ، وصار المستغيث بهم كالمستغيث في الرمضاء بالنار ، أو السفيه في القفار. فكانوا أهلا بقول الشاعر ، الحاذق الماهر :

فالمستغيث بالسفيه عند كربته

كالمستغيث في الرمضاء بالنار

ولم ينج من وقائعهم الرذيلة إلّا من نجاه الله منهم أو لجأ إلى بعض المواضيع الممتنعة عنهم. قال : ثم ارتحل ونزل ضواحي وهران بقربها في المشتهر ، وصبحها بجنوده كأنها الجراد المنتشر ، طامعا في دخولها وأخذ ذخائرها ، وتزوج نساء أكابرها ، كطمع جنوده بذلك لضعف أهلها في زعمه عن دفع ذلك ، مستحلّين ذلك لضعف مذاهب الأعراب ذات الفعل القبيح الخائضة مع كل ريح ، وما ذلك إلا لضعف عقولهم وقساوة قلوبهم ، وشدة جهلهم وكثرة لعوبهم وزلّة أقدامهم ورؤوسهم ، واتباعهم هواهم وما سوّلته لهم أنفسهم في قيامهم وجلوسهم ، وشدة حسن ظنهم بأميرهم ، ولا فرق بين كبيرهم وصغيرهم جازمين أن كلمته لا تردّ ، وأن دعاءه مستجاب في كل واحد ، فاستعدّ / للقائه (ص ٢٤٩) أهل البلد ، وتهيّوا (كذا) لقتاله بكل مرصد وخرجوا لمبارزته ومكافحته ومنابزته ، ومحاربته وقتاله ، ومناطحته ونزاله ، فقاتلوا شديدا مددا وهم مع ذلك أقل منه

٣٠٧

عددا وعددا ، فكان من أمرهم الظهور عليه بحشوده ، وحصل النصر لهم فهزموه مع كثرة جنوده ومكر الله بالقوم الظالمين الفاجرين ، قال تعالى (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(١) ، واشتد المخزن في القتال مع قلّته ، وانهزم العدو من حينه مع كثرته وجلّته ، وصار ذلك اليوم هو باكورة سعدهم ونجحهم وعلامة ظفرهم بالعدو وربحهم وظهور قوتهم وبأسهم ، ومسرة بشارتهم وأنسهم ، فما من يوم بعده حاربوه إلا كان لهم فيه النصر والظفر ، والمهابة والنصرة تجري على القضاء والقدر ، ولا زالت بينهم وبينه الحروب الشديدة ، والمكايد المديدة العديدة ، وانسدّت السّبل البريّة بين وهران والجزائر أياما.

فبينما الناس كذلك وإذا بالسفن في البحر تخفق فيها أعلاما مشحونة بعساكر الأتراك الشداد ، تحت حكم باي آخر وهو محمد بن محمد بن عثمان على حسب المراد. وكانءاغته البطل الشجاع الفارس الباسل المطاع ، كافل الأراميل (كذا) ، البحثاوي عثمان بن إسماعيل ، ثم كثير الشدة ، بن عودة بن خدة ، ثم الطّود الشّامخ ، الإكليل الباذح البحثاوي علي ولد عدة ، المزيل لكل غمرة وشدة ، ثم الفارس الجواد الباسل ، الخرير الكامل الواصل ، الضرغام الجميل ، البحثاوي قدور الصغير بن إسماعيل. ومن الزمالة مدير الأمور الوهراني السيد محمد ولد قدور.

الباي محمد بن عثمان المقلش وحروبه مع الدرقاوي

ثم محمد بن محمد بن عثمان ، الملقب بالمقلش وهو خامس بايات وهران ، الذين نار بهم الوقت وطاب الزمان ، كان انتقل مع أخيه عثمان إلى مدينة البليدة كما سبق البيان ، وأقام بها إلى أن قام ابن الشريف الدرقاوي على (ص ٢٥٠) مصطفى بن عبد الله المارّ وحاصره بوهران / ولما رءا (كذا) أهل الجزائر عجزه عن دفاع العدو وخانه ، عزلوه وخليفته حسن وولّوه في مكانه لرياسته وشجاعته بالميامنية ، وسعادة الوطن بولاية العثمانية. تولى سنة عشرين ومائتين وألف (٢) وهو

__________________

(١) الآية رقم ٢٤٩ من سورة البقرة.

(٢) الموافق ١٨٠٥ م.

٣٠٨

ابن ثمانية عشر سنة على ما قد قيل ، وقيل غير ذلك من الأقاويل وبقي في الملك ثلاثة أعوام غير كسر بالبيان. ولما أمره الباشا بالإتيان مع البرّ قال له أن ما بين الجزائر ووهران لا يسلكه حتى الذّبان ، وكيف تأمرني بالذهاب معه أيها الباشا ، فالسالك معه لا شك أن أمره يتلاشا (كذا) فأرسله في السفن في البحر ، وهو في غاية الحزم والعزم والصبر.

قال : وكان من خبره أنه لما قدم لوهران ، وجد الدرقاوي محاصرا لها من كل جهة ومكان ، والناس في ضيق شديد من طول الحصار ، وانقطاع الأقوات البرية باستلاء العدو على ضواحيها بالاشتهار ، فكان طلوعه على أهل البلد طلوع نجم سعيد ، يراصده رجل حكيم مفيد ، وقدومه عليهم صعدا ، وملاقاتهم إياه فوزا ومجدا ، يشمله قول الشاعر الحكيم الحاذق الماهر :

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وكوكب المجد في أفق السّما صعدا

وكان للبلد وقت ذلك خمسة أبواب ألفاها كلها مغلوقة ، لا من يدخلها من أهل الضواحي ولا من يخرج منها من أهل البلد إلا بإذن وخلوقة ، فأمر بفتحها وحاله في عزم وشد ونادى المنادي من قبله أيها الناس من أراد الدخول والخروج فليدخل وليخرج ولا حرج في ذلك على أحد ، فتفسح الناس وانفرج المضيق وأمنت من حينه البراري والطريق ، وصار المسافر لا يحتاج إلى الرفيق ، وهبت رياح النصر وخفقت أعلامه وضاق متسع العدو وأظلمت عليه لياله (كذا) وأيامه ، وسئم مكثه بالمحل الذي هو فيه ومقامه ، وصار الحرب معه عند أهل البلد عيدا ، / وعدوهم بين أيديهم صيدا متعددا وفريدا ، والدّرقاوي يعد جنوده (ص ٢٥١) كل يوم بفتح وهران ، وهو مستحوذ عليه الشيطان ، ويمنيهم بالأماني الكاذبة ، ويطمعهم بأقواله الجالبة ، ويعدهم المواعيد العرقوبية ، ويقاولهم بالأقاويل الكذوبية ، إلى أن جاءه شيخه من المغرب وحضر لمقاتلة وشدة الحرب ، مع جيش تلميذه فرءا (كذا) بالعيان ، ما لا يقدر عليه بكلمة البهتان ، وأزعجه قتال المخزن وما فيه من الأعيان ، بعد أن أمرهم بحمل الشواقير والفيسان وأنهم في يومهم يدخلون وهران ، ويصيرونها بالهدم والتخريب مغارات للفيران ، فباء وشرذمته بغضب من الله ، ولحقهم الضرر من المخزن ما لم يلحقهم من أحد

٣٠٩

بإذن الله ، إلا أن الجاهل كل الجهل من يريد أن يحدث في الوقت ما لم يحدثه الله ، عالم الغيب والشهادة ومقدر الشقاوة والسعادة ، المعطي المانع ، المعز المذل ، الخافض الرافع. قال ، وكان مع الدرقاوي من أعيان المخزن أبو القاسم ابن ونّان قائد الغرابة مطيعا له راكبا ، فرءاه يوما ورجله ترتعد في الركاب ارتعادا شديدا قد ارتعد لها جميع جسده والمخزن عليه كالبا ، وكان رجلا جسيما غليظ القوائم طويل القامة بالطول الحايم ، متسع الوجه مدوّره شديد البياض كثيف اللحية طويلها سريع الانقاض. فقرب منه وقال له ما هذا الخوف والجزع ، الذي اعتراك حتى حل بك الارتعاد والفزع ، وأنت في هم وحيرة ، وغم وسكرة ، فقال له يا خالي أبا القاسم والله لقد ذهب جميع ما كان عندي من السر الذي جئت وأنا لمن أرذل الناس كالنايم ، فقال له أن شيخك عما قريب يكون عندك ، فتنتصر على غيرك وحدك ، فأجابه بأن الشيء إذا ذهب ليس له رجوع ، ولا يفيد (ص ٢٥٢) فيه الشيخ ولا غيره / في المسموع ، فأيقن درقاوة من أنفسهم بالعجز والخذلان ، وأيسوا بحمد الله تعالى من فتح وهران. قال في در الأعيان أولئك الطائفة حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ، وهؤلاء الدافعة هم حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون الناصرون. قال فاتفق رأيهم على الارتحال عنها برجف وخفق ، لحصنها وشدة مخزنها والذهاب عنها لغيرها من مدن الشرق ، فأصبحوا ظاعنين وللعود لوهران ليسوا بطاعنين ، وكان بالغرابة ولي من أولياء الله الكاملين الواصلين الذين للسر حاملين ، يقال له السيد عبد القادر أبي عمامة ، تلميذ الضرير سيدي محمد أبي دية كثير الكرامة ، وكان مأذونا له بالكلام في أمور الكشف كشيخه الجليل ، وكان يسكن في عبادته بغابة مولاي إسماعيل. ولما تحرك الدرقاوي مشرقا ، وأحواله باطلة وقلبه مخفقا ، صار يقول هذا الولي بكلامه المشجع يا سيدي داوود ، غير هذه المرة ولا تعاود ، يا سيدي مبارك ، نوّض الجمل المبارك. ولما وصل الدرقاوي لمزارع سيق قرب سيدي داوود قامت عليه الغرابة مجتمعة للميدان ، ورايسهم (كذا) قايدهم أبو القاسم بن ونان يرومون منه أخذ الثار بما فعله بهم من قتل الرجال والنساء والصبيان فتعرضوا له بالضرب والنهب ، والقتل والسبي والعطب فنالوا منه بعض الإنالة وابتدا (كذا) في النقص بتلك الحالة. ثم لما وصل لسيدي مبارك قرب وادي هبرة ، لقيته فرسان البرجية

٣١٠

مع ما انضم إليهم من بني شقران وصيروه غبرة ، وقد تعرضوا له وهو سائر ، وتكلم المدفع الرّباني فيه من سيدي مبارك في الدرقاوي الثائر ، سمعه الغائب وشاهده الحاضر ، فبصر الله البرجية على درقاوة ، وهزموهم هزيمة شنيعة وأبدلوا سعادتهم بالشقاوة وأخذوا بظهورهم وأدبارهم / ووضعوا البارود والسيف في (ص ٢٥٣) خيارهم وأشرارهم فكان يوما عظيما على درقاوة ، وغنم وقتل فيه من قتل وأسر من أسر وسبي من سبي وجرح ، وحلت بهم الشقاوة وغنم منهم الحاضرون لهم من البرجية وبني شقران ، غنائم كثيرة ليس لها حصران ، لم يفتقر بعضهم بعدها قط ولا يرى الخسران ، فلله درّ فرسان البرجية ومن انضم إليهم ، حيث قاتلوهم وهزموهم وغنموهم وسلطوا عليهم ، لقد أشفوا العليل ، وأبردوا الغليل ، ولم يقنعوا منهم بأخذ القليل ، بل تركوهم حصيدا لكل لاقط من الكثير والقليل. قال وفرّ الدرقاوي مفلولا فلة جليلة في شرذمة قليلة ، قاصدا لأهله وخاصته بالمعسكر فمنعه أهلها من الدخول ، وتقبّضوا بأهله وأولاده وسائر الذين بها من درقاوة ، ومكنوهم من القائد السيد الحاج بالحضري بن إسماعيل البحثاوي فجعلهم فورا في الكبول. وذلك أن الدرقاوي كان سجنه كما مرّ مع سائر القواد ، وتركهم في أرذل حالة على رؤوس الأشهاد. ولمّا حلّ بالدرقاوي من البرجية ما حل بسيدي مبارك ، أخرج المعسكريون الحاج بالحضري من السجن بمن معه وحكّموه عليهم ومكنوه من أهل الدرقاوي وأولاده وسائر طائفته عند ذلك ، وأعطوه السلاح فصار حكيما أميرا ، بعد أن كان مسجونا أسيرا ، وفتك بدرقاوة ما بين القتل والجرح والسّبي والكبل ، فتكا شديدا ، لا يكون له مثل ، والمرء بما دان يدان ، والأيام متداولة بأحوالها من الخير والشر على كل إنسان. قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوم لك ويوم عليك». وقالت العرب : يوم سمين ويوم هزيل. وقال الشاعر من بحر الطويل :

/ ثمانية تجري على المرء كلّها

وكل امرء لا بدّ يلقى الثمانية

(ص ٢٥٤) سرور وحزن واجتماع وفرقة

ويسر وعسر ثم سقم وعافية

ثم أن الدرقاوي لما منع من الدخول للمعسكر فات على وجهه مع جموع الأحرار وسلّم في أهله وأولاده وأصحابه وفرّ. قال ولما أتى الخبر للباي بتشتيت درقاوة قام من ساعته ، وجمع أرباب دولته وأمرهم بالخروج لطلب الدرقاوي ،

٣١١

وفتح ما يتيسّر له من البلاد بالفتح الحاوي فقال له من معه من الوزراء والسادات والكبراء ، أمهل بالخروج المعلوم ، واكتب لأهل الضواحي من المخزن بالقدوم ، ولا تعاقب أحدا بما فعل ولا تكن منك له لائمة لأنهم لم يروا ذلك فارطا فظنوا عند الرؤية أن لا تقوم لنا قائمة ، فأساء الله ظنّهم ، وخالفهم الدرقاوي بما منّهم فقال لهم رأيكم هو عين الصواب ، وهو الذي يقع به الكتاب وأمر كتابه بمكاتبة ما أشار به أعيان المخزن ، وقلبه مسرور ليس بمتحزن ، ثم بعث للمعسكريين رسله ليأتوه بنساء الدرقاوي وأهله وذخائره ، فبمجرد الوصول بعثوهم له صحبة القائد الحاج بالحضري وأعيانهم ببشائره ، فقدموا بهم على الباي بوهران بإظهار السرائر ، فأركبهم في الفلك وبعثهم إلى الجزائر وطارت إلى كل مكان صحف البشائر.

ظهور الدرقاوي من جديد

ثم خرج نحو المعسكر فنزل بلد البرجية ومعه أخوه أحمد المغيار ، وأقام بها أياما ينتظر من كل جهة ورود الأخبار ، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر الطائر ، بأنّ الدرقاوي جمع جيشا جليلا من الصحرا (كذا) بموافقة مجاهر وبني عامر ، وأن مجاهرا عزموا على الغارة عليك وصمموا بالمجيء إليك ، فتحيّر وضاق به (ص ٢٥٥) المتسع / واشتد به القلق والجزع ، والاضطراب والفزع ، وخشي أن الخرق على الراقع يتسع ، ونادى لنديمه الأديب ورفيقه الحبيب ، ومؤنسه وصاحب سره ، المطلع في جميع الأحوال على سعده ونحسه وخيره وشره ، شبيه الحكيم اليوناني ، اللبيب الخروبي القلعي السيد محمد بن الجيلاني فلمّا أن حضر مجلسه أخبره بما سمعه واقتبسه ، فقال له أيها الأمير المالك ، اجمع أعيان مخزنك واستشرهم في ذلك ، لأن الرأي هم أهله ، والحرب هم صدره وأصله ، فأحضرهم وأخبرهم بالخبر وكرّر لهم ذلك وحرّر ، فاختلف أمرهم في الرأي بالجواب ، فبعضهم قال بالرجوع لوهران وغلق الأبواب وأهل الجزائر يدفعون عن أوطانهم لعدم الطاقة عن دفع العدو وأقرانهم ، وبعضهم قال غير ذلك ، إلى أن سمع الباي رأي الجميع بما هنالك. وكان الفارس الهمام ، والأسد الضرغام والبطل الشجاع ، والصنديد المطاع ، الذي للغيظ كظّام ، النّافع لمن انضم إليه

٣١٢

من الأنام كافل اليتامى والرامل ، وقامع الشجعان البواسل من أسعده الله وأسعد به البلاد ، وأقامه لنفود مصالح العباد ، القائد الأنجد ، الفاضل الأمجد ، الجواد الأسعد ، المخزومي الأوكد سمط عقدة أبو مدين السيد قدور الصغير بن إسماعيل البحثاويءاغة ، مكّن الله من الجنّة إن شاء الله وصله وبلاغه ، حاضرا ساكتا ، وعارفا بالرأي وصامتا ، فلما رءا (كذا) الاختلاف وعدم ما يحصل به الإتلاف قال له يا سيدي الذي أشير به عليك لا بدّ لنا من لقاء العدو لا محالة ولا تضرنا كثرته فإنهم حثالة الحثالة ، بمنزلة الضباب أو النخالة ، فلا يهوّلنك هذا الأمر ، ولا تكن منه في قلق وعسر ، فما خرجنا إلّا لنلقوا مالا / نحبّه ، وعدونا إن شاء الله على أم (ص ٢٥٦) رأسه نكبّه ، والصبر مفتاح الفرج ، ومزيل للجزع والهرج ولا يدرك المجد إلا بالصبر ولا يحصل الظفر بالعدو إلّا بعد أكل الصّبر ، لقول الشاعر ، المفيد بالوعظ الماهر :

لا تحسب المجد تمرا أنتءاكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا

والحكماء يقولون فاز بالّلذات الجسور ، وبالصبر يتميز الأمر من المأمور ، ومن يريد العسل ، يصبر لجني النحل ، ومن طلب المعالي سهر الليالي. وأنت أيها الملك إنما بعثك أهل الجزائر لتفتح لهم الوطن ، فلا تخيّب لهم فيك الظن وتمهّد لهم البلاد ، وتدوخ لهم الأبطال الشداد ، فلا تخيّب لهم رأيا أصابوه فيك ، ولا تكسّر لهم قلبا يسرّ حين يوافيك فإنهم على غيرك اختاروك ، وأنت أولى بذلك لمّا اختاروك ، وإياك أن تكون كمن في أول غزاته (كذا) انكسرت قناته وانفصمت أوثق عراته ، حتى تكالبت عليه العدا ، وطمعت في أكله الرخام والحدا ، وأنّ هؤلاء الأعراب لا يخفى علينا حالهم وما لديهم كما لا يخفى حالنا عليهم ، فلا رجوع لنا عن تدويخهم إلّا إذا متنا عنءاخرنا ، ويكون النصر لنا عليهم بانتصارءامرنا (كذا) وقد جمع الله شملنا بعد ما فرّقه الدرقاوي ، فصار المخزن كحاله المضاوي. والرأي المتين الرجيح (كذا) أن تبعث من أعيان المخزن من يكشف لنا عن حال بني عامر وما هم عليه ويأتوك بالخبر الصحيح ، كما تبعث لكبراء الحشم والبرجية الجبلية بغير تراوي. يجتمعون بكلهم ويلقون الدرقاوي ، ونحن نكونوا (كذا) في مقابلة مجاهر بقوة وشدة ووحدة ، ونحاربوا (كذا) بحول الله وقوته لكل واحد وحده ، ويكون النصر لنا لا علينا بانتقاد ، لأننا

٣١٣

(ص ٢٥٧) نريدوا (كذا) الصلاح وهم يريدون / الفساد ، فهم فرقة باغية زاحفة في هذا الأمر ، فوقع الاتفاق على هذا الأمر. قال فظهر أمر بني عامر كذبا ، واجتمع الحشم والبرجية كما أمرهم فورا وقربا ، ولقوا الدرقاوي فهزموه بعد الحروب الكثيرة الصحاحي ، واطردوه عن سائر تلك النواحي ، وقدم مجاهر إلى بلد البرجية فأثخنوا فيها بالنهبية واشتغلوا بحوص الحب ونقله من المطامير ، وهم في حالهم بغير ناه ولا أوامير (كذا). ولما سمع الباي بما لديهم أمر مخزنه بالركوب إليهم ، فامتثلوا أمره وشنّوا الغارة عليهم ، فلم يك (كذا) إلّا قليل في قتلهم ، وإذا بالمخزن قطع نحو التسعين رأسا منهم وفرّ الباقون لمحلهم.

ثم رحل الباي في صبيحة الغد ، ونزل بطرف البرجية بينهم وبين مجاهر في الحدّ ، ثم رحل من الغد بقصد بلد مجاهر فلقوه بالضريوية وحاربوه ساعة ، فهزمهم بعد ما مات من الفريقين كثير ونجوا سراعة ، ونزل بماسرة ، وأقام بها أياما ، يدبر أمورهم جلوسا وقياما ، فبينما هو في تلك الحالة ، إذا بمجاهر اجتمعوا وجاؤه رجّالة وخيّالة ، وغاروا على محلته وقت الصباح غفلة ودارت جنودهم بالمحلة وجالت جولة فخرج المخزن إليهم خروج اليقين ، وتزاحفت الصفوف لبعضها بعضا واشتدّ الطنين ، فلم يكن غير ساعة إلا ومجاهر ولوا الأدبار بحالة المنهزمين ، ومات من الفريقين خلق كثير ، وعدد حصره عسير ، وكان من جملة من مات من المخزن القائد المشهور ، الفارس الذي عند الناس مذكور ، الصنديد المكين ، الزمالي السيد عدة بن محي الدين. ثم ارتحل الباي صبيحة غدا ونزل ببلاد مجاهر ، أهل الضلالة والمناكر ، وزاد في الغد لوادي مينا وبه نزل (ص ٢٥٨) وراغ ، فأتته به جموع مخزن الشرق بالمسيرة ومن الرعايا / جماعة بني أوراغ ، ثم ارتحل وصعد مع وادي مينا إلى أن نزل بالواد المالح وأقام بها أياما وقلبه مطمئن فارح. فبينما هو هنالك بين اليقظة والنعاس ، إذا بالدرقاوي بجمعه قصد المحلة على غفلة من الناس ، فنادى المنادي بأفصح الخطاب ، عليكم بالركاب إلى كاب ، ففزع الناس لذلك وحكى كل لصاحبه بما هنالك وركبوا خيولهم وخرجوا من المحلة ينظرون غيولهم وخرجت عساكر الأتراك كأنها الليوث العوابس ، فهم أسود بني آدم بزماننا ، وجالت الفوارس ، وحصل الحرب خارج المحلة ، وكثر العياط بين الناس بغير القلّة وتزاحفت لبعضها بعضا الصفوف ،

٣١٤

والعدوّ في العدد ألوف الألوف. قال فلم يكن غير ساعة وإذا بالدرقاوي بجيوشه قائم شارد ، وللنجات (كذا) سائل ونائد وأظلم الجو الغبار ، وتكادر الأمر وكبر النهار ، وغضبت فرسان المخزن وصارت حائمة كأنها الطيور ، تخوض بين أسراب الزرزور ، فلا ترى في جيش الدرقاوي إلّا القتيل والمأسور ، والمسلوب من الباس ، والمقطوع الأعضاء والراس ، وزادوا في الحملة إلى قرب قرية الولي الكبير الغوث القطب الشهير ، ذي المناقب المعدودة ، سيدي محمد بن عودة ، فرجع المخزن بعد ذلك عنهم ، وقلوبهم شائقة إلى الظفر بهم والغنيمة منهم. ثم رحل الباي في صبيحة غد متوجها للقرية المذكورة ذات المسالك في طلب الدرقاوي ونزل بموضع هناك ، ثم زحف للقرية بجنود لا قبل لهم في حالة القتال ، وكان بالقرية أمم لا تحصى فلم تغن شيئا حالة النّزال ، ودخلتها العساكر وجالوا فيها وجاسوا ما لها من الحلال ، وأخذوا في السبي والقتل وأخذ الأموال. قال / صاحب در الأعيان وإني رأيت امرأة مقطوعا رأسها كسائر الرجال ، ولم ينج (ص ٢٥٩) إلّا من فرّ ولجأ لضريح سيدي محمد المشار إليه بالإجلال ، لكون الباي أوصى باحترامه وعدم التعرض لمن لجأ إليه بحال من الأحوال. ثم ركزت الأتراك سناجقها لدى الضريح ، وشرعت في القتل والنهب والسبي والجريح ، إلى أن فرغت من ذلك في المأثور ، فرجعت لزيارة الولي المذكور ، قال ولقد أخبرني من أثق به أنهم قدّموا قبل الزيارة صدقة تنيّف على المائتي ريال دراهم ، وبعد ذلك على الزيارة حصل التداهم ، قال وأما المخزن فإنهم لقوا جموع درقاوة خارجا من القرية وهم في عددهم ألفية ، فقاتلوهم قتالا شديدا إلى أن جرح الأكثر من الكبراء والرؤساء في القول الأشهر ، وكان النصر لهم على درقاوة كوقوع الدائرة عليهم ، فهزموهم عظيما واطرحهم من تلك الناحية من غير ملتفت إليهم. ولما افترق الحرب أمر الباي بجمع الرؤوس فجمعت ، وبين يديه وضعت. قال في در الأعيان ولقد رأيت الجندي يأتي بالثلاثة والأربعة رؤوس بالعيانة فيضعها بين يدي الباي كما يضع البصل بالإهانة. ومنهم من يأتي بالواحد والاثنين ، كل على حسب ما رزق من القطع بدون مين ، ولما جمعت الرؤوس بعثها الباي لمدينة المعسكر مع بشائر الظفر والنصر.

٣١٥

ظهور الدرقاوي مرة أخرى

ثم ارتحل في أثر ذلك وألوية النصر تلوح عليه التزاما ، قاصدا المعسكر إلى أن دخلها ومكث بها أياما. ثم أتاه الخبر المتفانن ، بأن خليفة الدرقاوي بجموعه نزل بلد بني مريانن ، فذهب لطلبه وحصل بينه وبينه القتال الذريع ، (ص ٢٦٠) والحرب المترادف الشّنيع ، فكان / ذلك اليوم من مشاهير الأيام ، سعد فيه الشجاع وخسر اللئام (كذا) قد أتي فيه للباي المنصور ، بسلاح ولباس وفرس الخليفة المذكور ، وانجرح فيه من أعيان المخزن وكبرائه وأهل مشورة الملك ووزرائه ، قطب رحاه ، وشمس ضحاه ، وأساس مبناه ، وإتمام معناه وأكمل جوائزه ، وأشد ركائزه ، الفارس الباسل ، الصنديد الفاضل ، الشجاع الرايق الكامل في الخصال الفايق ، ءاغته وكثير جولته ، وقائده ، وسيف دولته ، العري من جميع المساويءاغة السيد قدور الصغير بن إسماعيل البحثاوي ، فلم يزده جرحه إلّا تقدّما ، ولعدوّه إلّا تعبّسا ولصديقه إلّا تبسّما ، فلقد صال على العدو كالكاسد وفعله كالرايح ، ومدحه صاحب درّ الأعيان ، وصاحب أنيس الغريب والمسافر بأبيات. فما قاله صاحب درّ الأعيان ذهب عن حفظي. وما في الأنيس خذه ، بإثبات :

جزى الله جلّ الناصر بالبواتر

قدور بن إسماعيل رايس الدواير

لحزب الأتراك في جميع المعارك

فإنّه ليث الحرب ليس بغادر

تراه إذا حام الوطيس مقدّما

لقتل العدوّ الوارد ثم الصادر

ولا يولّي الأدبار ولو تراكمت

عليه العدا ولا يخاف من ضاير

كمي شجاع شهم الحرب يوم الوغا

وكم له من حزم على العدا ظاهر

وكم له من كرّ وليس له فرّ

وكم له من طعن وقطع الحناجر

وكم له من وصل على العدا دايم

وكم له من فخر على كل فاخر

وكم له من دفع لكل مزاجف

يردّه أعقابا مولى للأدابر

(ص ٢٦١) / وفي بني مزيانن زادت شجاعته

فكرّ على الأعدا بغيظ مواتر

وزاد اندفاعا لمّا رأى رأس العدا

خليفة ابن الشريف بالقرب حاير

يحاول قبضه وهو في شهامة

فحلت به الجراح ذا العزّ الباهر

فلم يلتفت لها وزاد في حمله

إلى أن نجا العدو بين الحوافر

٣١٦

وخلّ فرسه سلاحه لبسه

فأتى به الليث لباي الأكابر

ودمه مهطل وهو غير جازع

فغمّ له الباي وصار كالحاير

فقال له الفهد على رؤس الملا

إنني لفي خير من كلّ المضائر

فسرّ به الباي وعزّ جنابه

وأدناه منزلا في كل الأوامر

فلا غرو أنّ الله زاده رفعة

وخيرا وإحسانا وكل البشائر

فلا تلد الليوث إلّا الضراغم

ولا تلد الفهود سوى القساور

ولا تأتي الصقور إلّا بمثلها

ولا تلد البزات سوى الأصاعر

فبيت هذا الليث الزعيم بقوة

فإنّها أعلا من بيوت الأكابر

قال ، ثم إنّ الباي رحل من مكانه للعمائر ، ونزل بلد أولاد سليمان أحد بطون بني عامر. ورحل من الغد ونزل بالمبطوح ربضا ، ثم ارتحل ونزل بثنية مأخوخ بلد أولاد علي أحد بطون بني عامر أيضا. وقد اجتمع بنو عامر بجمعهم الغاوي ، وجيشوا ببلد أولاد الزاير مع الدرقاوي ، يرومون لقاء الباي ، وما ذاك إلّا من تلف الرأي ، والباي في قلبه شيء كبير وغم عسير ، مما هم فيه القرغلان ، المستقرون بتلمسان ، حيث ضاق عليهم الحال ، حتى عدموا القوت والمال ، وطاش لهم اللّبّ والبال ، بمنازلة العدو عليهم ولا يفارقهم بالغدوّ والآصال ، ورسلهم تتعاقب على الباي بأنهم في النكال ، ونزل بهم السخط والوبال ولا لهم طاقة لما هم فيه على القتال ، وافترق التلمسانيون على فرقتين : قرغلية ، وحضر ، بغير مين ، وشعلت بينهما نار الحرب في البلد ، وطالت واتصلت على الوالد والولد ، وهم في أشدّ عذاب ونكول ، ولسان حالهم ينشد ويقول ، ما هو في الأنيس منقول ، أبياتا من المتقارب دالة على الإضاعة والتعاطب :

/ إن لم تدركونا عزما عاجلا

فاقطعوا لا ريب منّا الإياس

(ص ٢٦٢) فالزّاد جميعه قد انقضا

ومات كثير من جملة النّاس

والحرب تدور في كل يوم

والجوع قد ضرّ بأكثر الناس

فلا صديق ومعين لنا

سوى الله جلّ علا ربّ الناس

ولا تحويل وفرار لنا

يقينا عن جانبكم يا أناس

ألا فادركونا فورا عاجلا

من قبل دخولنا إلى الأرماس

فالحرب علينا وليس لنا

ونحن بها في أشدّ نقاس

٣١٧

والجوع جرى علينا وطغا

وجاز بنا حدّا فوق القياس

وما هو في درّ الأعيان مذكور ، ومحرر ومشهور :

ألّا فادركونا وإلّا فلم

تجدوا منّا بحياة فتى

فقوتنا قد نفدت ضررا

خزاينه مذ عدوّ أتى

وحرب عظيم يرى أبدا

إلى أين تبدو لنا أو متى

قال ولما بلغه خبر بني عامر والدرقاوي ، وأنه يقول لهم أنه هو طبيبهم من علة الترك ولها مداوي ، أقام بموضعه أياما إلى أن جمع آلات حربه وسادات حزبه ، واعتمد على طعنه للعدو وضربه ، بباروده ومدافعه الشعالة ، فرحل نحوهم ونزل تاسّالة ، ثم رحل من الغد وفرسه ثائر ، يريد واد الحد ببلد أولاد الزائر ، وعيونه ذاهبة وراجعة بأخبار الدرقاوي الزعلوك ، كما هو شأن أولي الحزم والعزم من الملوك ، إلى أن تحقق بأن بالوادي المذكور الأعراب ، يريدون لقاءه ، بزياداتهم أمامهم للانتخاب ، وهي هوادج توضع على بوازل الجمال ، وبداخلها نساء يولولن بين صفوف الحرب حال القتال ، تزعم العرب أن ذلك يشجع الجبان ، ويزيد في زعامة الشجعان ، وذلك دأب العرب مع بعضها بعضا لا مع المخزن في القتال أيضا ، لأن عادة المخزن المعهودة ، والقاعدة المحررة الموجودة أنّ الزعامة والشجاعة لا تبطل على الرجال مدة الزمان ، وأنه بمجرد (ص ٢٦٣) درايته للعدوّ ويصدمه كائنا ما كان ، فوقف الباي بعد / الخبر ساعة يحرض عساكره ومخزنه ، ويثني عليهم ويشكرهم وما همه ذلك ولا أوهنه ، ويقول لهم لم يبق لنا إلّا هذا اليوم الكبير الذي نحن متقدمون له ، فعليكم بالصبر والثبات ولا يصيب الإنسان إلا ما كتب له. قال ثم زحف للعدو أيضا وانضمت الناس لبعضها بعضا ، وانحاز كل حزب لحزبه ، وتزايدت جيوشه لقتل من بعد عنه ومن بقربه ، وأشرف المخزن على العدو من ثنية هناك ، فألفى مقدمة بني عامر راجلة معسكرة مشبهة بعساكر الأتراك ، بمثابة من شبه البطة بالطير ، وساقطة اللبن بذات الضير ، ولما تراء الجمعان وانتهت الأمال ، وبعدت الحيرة وقربت الموت وحضرت الأجال ، أنشد المنشد بلسان الحال ، هذه الأبيات ، وقالها على التوال :

أيا عسكر الأعراب غركم جمعكم

فسوف تروا ماذا بكم قد يصير

٣١٨

فالموت ها هي أتت إليكم بالعجل

من قوم عادت منها الروس تطير

فتبّا لكم أنتم وذل عليكم

برأي خسيس خاب رأي عسير

وهذا يوم الفراق حان مجيئه (كذا)

والبين غرابه نادى أنت كبير

ولكن أمر الله ليس له ردّ

وحين القضا يأتي فيعمي البصير

هذا قول صاحب الأنيس ، وقال صاحب در الأعيان بالتأسيس :

أيا عسكر الأعراب تب جميعكم

وسوف تروا ماذا بكم سيصير

فلا تعجلوا للموت ها هي دونكم

غدات اللقا منها الرؤس تطير

فتبّ أمرؤ أغرّ افتراؤه جمعكم

وبيس فصوب الرأي منه عسير

فيوم الفراق الآن حان مجيئه

ونادى غراب البين يوم كبير

ولكن أمر الله لا مردّ له

فيعمى المرء فيه وهو بصير

قال ولما تلاقى المخزن والأعراب صال عليهم صولة جامدة ، ومال عليهم ميلة واحدة وحمل عليهم حملة قوية ، وزاد عليهم فيها بقوّته الكلية ، وصار شعاره الموت الموت ، أدركوهم أدركوهم قبل الفوت ، فأول المخزن نال بعض الضرب وآخره لم يجد محلا للضرب ، وترادفت على الأعراب الأمكار ، وأظلم / الجو (ص ٢٦٤) بالغبار ، وحل بهم العمى وكبر النهار ، ودخلوا في شبكة الهلاك ، ولم يجدوا سبيلا إلى السلاك ، فما لبثوا غير ساعة من النهار ، إلا وعسكرهم فرّ وولّى الأدبار ، وأخذ عسكر الباي ظهورهم بالقتل والنهب والأسر والغصب ، ولم ينج منهم إلّا من نجاه الله ، وأطال له العمر وعافاه ، وغرّتهم المواعد العرقوبية ، فتشتتوا (كذا) على ولهاصة وغيرها ، وفرّ الدرقاوي في شرذمة قليلة لليعقوبية ، ولم يطق على حمل خيمته منه إلّا الشجاع ، ومع ذلك قلبه واجل مفزاع ، ونزل الباي في الوادي المذكور ولاح عليه الفرح والسرور بتشتيت تلك الأمم ، وشدة ثبات مخزنه الأفخم ، وجمعت لديه الرؤس المقطوعة في ذلك اليوم من درقاوة وبني عامر فكانت ستمائة وبعثها كلها للجزائر. قال ويحكي من حضر لذلك أن الجندي الواحد يتقبّض على الخمسة والستة رجال ، ويأمرهم بقتل بعضهم بعضا إلى الآخر منهم فيقتله ويأتي برؤوسهم للباي المفضال وربما قال الجندي لأسيره اصبر للموت أو ما مت قط وأحوالهم كثيرة.

٣١٩

وقصة ذلك اليوم مشهورة كبيرة ، نسئل (كذا) الله السلامة والعافية المطاعة ، والانقياد بالأتباع إلى ما اتفق عليه أمر الجماعة.

ثم ارتحل الباي في صبيحة الغد متوجها لتلمسان ، وهو في فرح وسرور بمخزنه وبه صار في أمن وأمان ، وجدّ السير إلى أن نزل بساحتها المتغلية ، فأتاه قائدها مع كبراء القرغلية ، وقصوا عليه مكابدة الأهوال ، وإساءة الحال ، وغلب الرجال ، وسطوة الأغوال ، والكل على باله ، ومطرق بمسمعه وحاله ، فأجابهم بكلام السياسة وخاطبهم بخطاب الرياسة ، قائلا لا يضركم الأمر العسير ، فإن الله تعالى قال في كتابه العزيز ، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ، وأن الله تعالى هو الفاعل المختار ، وكل شيء يجري على العبد فهو مقدّر عليه في سابق علم الله ويبرز بالمقدار ، وهذا أمر مقدّر لا محيد عنه من عاص أو مطيع ؛ وسيفرج الله تعالى بمنّه على الجميع ، وأنشد لسان حاله ، أبيات الشعراء التي تغنيهم عن مقاله :

إذا كان عون الله للمرء خادما

تهيّأ له من كل صعب مراده

وإن لم يكن عون من الله للفتى

فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

(ص ٢٦٥) / وقول الآخر :

إذا لم يعنك الله فيما تريده

فليس لمخلوق عليه سبيل

وإن هو لم يرشدك في كل مسلك

ضللت ولو أنّ السماك دليل

وقول الآخر :

إذا أعانتك الأيام فارقد لها

واشعل إذا شئت في الماء نارا

وإذا خانتك الأيام فلا تتعب

فتعبك في الدنيا إلّا خسارا

وقول الآخر :

إذا أعطيت السعادة لم تبل

ولو نظرت شزرا إليك القبائل

لقتك على أكتاف أبطالها القنا

وهابتك في أغمادهن المناصل

وإن شدت الأعداء نحوك أسهما

نص على أعقابهن المحافل

ثم أنه أعطى الأمان لكبراء الحضر ، وأرسل إليهم ليأتوه ولا يخشوا من

٣٢٠