تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

البديهيات ، فإذا أمرت عبدك بخياطة ثوبك ونهيته عن التصرّف في فضاء دار الغير ، فخاط العبد ثوبك في فضاء الغير ، فهل يكون لك أن تقول له : أنت لا تستحق الاجرة لعدم إتيانك بما أمرتك؟ ولو قلت هذا ، فهل لا تكون مذموماً عند العقلاء؟ لا والله ، بل تراه ممتثلاً من جهة الخياطة وعاصياً من جهة التصرّف في فضاء الغير ....

فقد نقله صاحب (الكفاية) عن الحاجبي والعضدي (١) في وجوه الاستدلال للقول بالجواز ، وأجاب عنه ـ بعد المناقشة بأنه ليس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متّحد مع الخياطة وجوداً أصلاً ـ بأنّه لا يصدق إلاّ أحد العنوانين ، إمّا الإطاعة وامّا العصيان ، ودعوى قيام السيرة من العقلاء على استحقاق الاجرة مع تحقق المعصية ، أوّل الكلام.

الوجه الثالث

وذهب الميرزا إلى الجواز (٢) ، قائلاً بأن التركيب بين المتعلّقين انضمامي ـ خلافاً لِما تقدَّم من أنه تركيب اتحادي ، إذ أنه يلزم الاجتماع بينهما في الوجود ـ فهو يرى أنّ متعلَّق الأمر يختلف ماهيّة ووجوداً عن متعلَّق النهي ، غير أنّ أحدهما منضمّ إلى الآخر في الوجود.

وقد عقد لمسلكه مقدماتٍ ، نتعرّض لما له دخل في المطلب مع رعاية الاختصار :

الاولى :

إن المعاني التي تفهم من الألفاظ ـ وبهذا الاعتبار تسمّى بالمفاهيم ـ تارةً

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٦ عن شرح المختصر في الاصول ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ١٥٧ ـ ١٦٠.

٨١

تلحظ بما أنها مدركات عقليّة ، واخرى : تلحظ بما أنها منطبقة على مصاديقها في الخارج ، فاللّحاظ الأوّل موضوعي والثاني طريقي ، وهي باعتبار الثاني معروضة لاحدى النسب الأربع.

والمفاهيم على أربعة أقسام ، لأن منها ما له بإزاء ومنها ما يكون انتزاعيّاً ، والأول : إمّا يكون ما بإزائه في الخارج كالسّماء والأرض ، وامّا يكون في عالم الاعتبار كالملكيّة والزوجيّة ، والثاني : إمّا يكون منشأ انتزاعه في الخارج كسببيّة النار للحرارة ، وامّا يكون في عالم الاعتبار ، كسببيّة الحيازة للملكيّة.

فإن لوحظت هذه المفاهيم باللّحاظ الموضوعي ، كانت النسبة فيما بينهما نسبة التباين ، وإنْ لوحظت باللحاظ الطريقي وبما هي فانية في الخارج ، عرضت عليها النسب الأربع.

والمقصود من هذه المقدّمة هو : التعريض بنظريّة المحقق شريف العلماء ، إذ قال بجواز الاجتماع بين الأمر بالصّلاة والنهي عن الغصب اجتماعاً آمريّاً ، لأنَّ الآمر يوجّه الأمر إلى الصّلاة والنهي إلى الغصب ، فلا يلزم أيّ محذور في مرحلة الأمر ، وإنما الاجتماع يأتي في عمل المأمور وهناك يحصل المحذور ... فيقول الميرزا : بأنّ الاجتماع الآمري إنما لا يلزم حيث ينظر إلى «الصّلاة» و «الغصب» بالنظر الموضوعي ، أمّا إذا لوحظا باللّحاظ الطريقي ، تحقّق بينهما العموم من وجهٍ في مرحلة الجعل وكان المحذور آمريّاً.

الثانية :

إنّ التركيب بين المبادئ انضمامي وبين المشتقات اتّحادي ، وذلك لأن مبادئ المشتقات مأخوذة بشرط لا ، ولذلك لا يصح الحمل بينها ، مثلاً : العلم والعدالة لا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا على الذات المعروضة لهما ،

٨٢

فلا يقال زيد علم ، بخلاف عنوان العالم والعادل ... إذن ... المشتقات قابلة للحمل والاتحاد بخلاف المبادئ.

وبعبارة اخرى : إنه يشترط في التركيب الاتحادي وجود جهة اشتراكٍ وجهة افتراق ، وهذه الخصوصيّة موجودة في المشتقات دون المبادئ ، وذلك لوجود العالم غير الفاسق ، والفاسق غير العالم ، والعالم الفاسق ... هذا في المشتقات ، أمّا في المبادي فلا ، لكونها مقولات ، والمقولات بسائط ولا يعقل التركيب فيها حتى يكون فيما بينها جهة اشتراك وجهة افتراق ... بل إنّ العلم مباينٌ بتمام ذاته للعدالة وبالعكس ... ولذا لا يقال : العلم عدل ، لكنْ يقال : العالم عادلٌ ... إذن : لا يصحّ حمل «الصّلاة» على «الغصب» وبالعكس ، فلا يصح الاتحاد بينهما.

وبعبارةٍ ثالثة : إن ماهيّة كلّ مبدإٍ من المبادي يمكن تحقّقها بتمام ماهيّتها معزولةً عن غيرها ، فماهيّة الصّلاة في المكان المغصوب نفس الماهيّة في المكان المباح ، والغصب في غير مورد الصّلاة هو الغصب في موردها ، فلو كان الاتحاد بين «الصّلاة» و «الغصب» ـ في حال الاتيان بها في المكان المغصوب ـ اتحاديّاً لما كان للصّلاة تحقّق في غير المكان المغصوب ، كما هو الحال في الحيوان الناطق ، فإنه مع الاتحاد بينهما لا يعقل وجود أحدهما بمعزلٍ عن وجود الآخر ... فإذن ... ليس التركيب بين «الصّلاة» و «الغصب» اتحاديّاً بل هو في الدار المغصوبة انضمامي.

وحاصل الكلام هو أنْ لا اتّحاد بين الصّلاة والغصب ، بل التركيب بينهما انضمامي ، وعلى هذا ، تخرج المسألة من باب التعارض ، فإنْ عجز عن امتثال كلا الحكمين ، كانت من صغريات باب التزاحم ولزم الرجوع إلى قواعد ذلك الباب.

٨٣

موافقة الأُستاذ في الكبرى

أمّا ما ذكره أوّلاً من أنّ المبدا مأخوذ بشرط لا والمشتق مأخوذ لا بشرط ، فموضع التحقيق فيه هو مبحث المشتق ... ونحن نتكلَّم هنا على سائر كلماته في المقام.

فأمّا أن المبادئ ليس فيما بينها جهة اشتراك وامتياز ، فالكلام تارةً في الكبرى واخرى في الصغرى.

أما من الناحية الكبرويّة فلا إشكال ، لأنّه إذا كان هذا المبدا من مقولةٍ وذاك من مقولةٍ اخرى ، فالاتحاد بينهما محال ، لأن المقولات متباينات بتمام الذات ، فإذا حصلتا ، كان لكلٍّ منهما وجود غير وجود الاخرى ، والتركيب بينهما انضمامي. بخلاف المشتقّات ، لأن المشتق إن كان هو المبدا لا بشرط ـ كما عليه الميرزا ـ فهو قابل للاتّحاد ، وإن كان الذات والمبدأ ، فمن الجائز قيام المبدءين بذاتٍ واحدةٍ ، كقيام العدل والعلم بزيد.

اشكال السيد الخوئي

وقد اشكل على هذه الكبرى : بأن التركيب بين المبادئ قد يكون اتحاديّاً ، لأنَّ المقصود بالبحث في اجتماع الأمر والنهي هو الأفعال الخارجية ، لا الأوصاف كالعلم والعدل ونحوهما ، فإن كان الفعل الخارجي من العناوين المنتزعة من ذات خارجية وكان العنوان ذا معنونٍ هو من المقولات ، مثل الركوع ، ممّا هو من مقولة الوضع ، والتكلّم ، ممّا هو من مقولة الكيف المحسوس ، فلا يقبل الاتحاد. وأمّا إنْ كان فعلاً لا واقعيّة له خارجاً ، مثل التصرّف في مال الغير ونحوه ممّا ليس من المقولات بل هو عنوان منتزعٌ منها ، فلا يتم ما ذكره ، فلو أمر بالتكلّم ونهى عن التصرف في مال الغير لكون التكلّم أمراً واقعيّاً والتصرف المنهي عنه منتزع من

٨٤

نفس التكلّم الواقع في فضاء ملك الغير ، تحقّق الاتّحاد.

والحاصل : إن ما ذهب إليه الميرزا إنما يتمُّ في ما إذا كان المبدءان مقولتين موجودتين في الخارج بوجودين. أمّا فيما لو كان أحدهما منتزعاً من الآخر كالمثال المذكور ، فلا يتم ما ذكره ... بل لا بدَّ من التفصيل بين المبادئ.

نظر الأُستاذ

فقال الأُستاذ : بأنْ هذا الإيراد المتّخذ من كلمات المحقق الاصفهاني ـ على دقّته ـ يندفع بالتأمّل في كلمات الميرزا ، فإنه لمّا قسَّم المفاهيم (١) ـ في المقدّمة الثانية ـ إلى الأقسام التي ذكرناها عنه ، جَعَلَ المفاهيم الانتزاعية ممّا ليس له ما بإزاء خارجاً ، ومعنى ذلك : قيام الأمر الانتزاعي بمنشإ انتزاعه ، وهذا هو الاتحاد وجوداً.

وأيضاً ، فإنّه قد أخرج (٢) من بحث الاجتماع موارد العموم من وجه ، وموارد العنوانين التوليديين الموجودين بوجودٍ واحد ، كما لو وقف تعظيماً للعادل والفاسق ، وموارد ما إذا وجد متعلَّق الأمر والنهي بوجود واحد ، كما لو قال اشرب ولا تغصب ، فشرب الماء المغصوب ....

فالميرزا غير قائل بأن مبادئ الأفعال على الإطلاق لا تقبل التركيب الاتحادي حتى يرد عليه الإشكال المزبور.

الكلام في الصغرى

أما من ناحية الصغرويّة ، فلا يمكن المساعدة مع الميرزا ، فإنّ ظاهر كلامه أن التركيب بين الصّلاة والغصب انضمامي لكونهما من مقولتين ، وأنّ القول ببطلان تلك الصّلاة مستند إلى كونها مقرونةً بالقبح الفاعلي ، فلا تصلح للتقرّب ، لا إلى المبنى في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

__________________

(١) فوائد الاصول (١ ـ ٢) ٤٠١.

(٢) فوائد الاصول (١ ـ ٢) ٤١٢.

٨٥

لكنّ التحقيق هو : أنّ الصّلاة من مقولاتٍ مختلفة ، لأنها مركّبة من أجزاء بعضها من الكيف النفساني كالنيّة ، وبعضها من الكيف المحسوس كالتكبير والقراءة ، وبعضها كالقيام والركوع والسجود هيئة حاصلة من نسبة بعض أجزاء البدن إلى البعض الآخر ... وأمّا الهويّ إلى الركوع والسجود ، فقد وقع الكلام في كونه من أجزاء الصّلاة أو لا ... هذا بالنسبة إلى الصّلاة.

وأمّا الغصب ، فهو الاستيلاء العدواني على ملك الغير ، وهل «الغصب» و «التصرف في مال الغير بلا إذن» ـ وهما العنوانان الواردان في الأدلّة ـ واحد مفهوماً كما هو ظاهر الفقهاء أو لا؟ فيه بحث ليس هذا محلّه.

وعلى هذا ، فإن كان كلّ من «الصّلاة» و «الغصب» مبدأً غير الآخر ، والتركيب بينهما انضمامي ، وقلنا بعدم سراية كلٍّ من الأمر والنهي إلى متعلَّق الآخر ، كانت الصّلاة في ملك الغير صحيحةً ، غير أنه قد عصى من جهة التصرف في ملك الغير بدون إذنه ، وهذا هو المقصود من الجواز ... وهو مدّعى الميرزا.

لكن التحقيق خلافه ، لأنّ «الغصب» مفهوم انتزاعي ينشأ من التصرّف في مال الغير ، فليس له ما بإزاء في الخارج ، والتصرف تارةً يكون بالأكل واخرى بالشرب وثالثةً بالمشي ، فهو ينتزع من امور مختلفة ، ومن المعلوم أنّ المعنى الانتزاعي قائم بمنشإ انتزاعه ومتّحد معه ، فإنْ انتزع عنوان «التصرف» من أجزاء «الصّلاة» حصل الاتحاد وكان الحق هو الامتناع ... وقد عرفنا أن الصّلاة مركّبة من أجزاء هي من مقولات مختلفة.

فأمّا «النية» في ملك الغير ، فلا يصدق عليها عنوان «التصرف» بلا كلام.

وأمّا التكبير والقراءة ونحوهما في فضاء ملك الغير ، فلا ريب في أنها تصرّف عقلاً ، إنما الكلام في الصّدق العرفي ، ومع الشك فيه يكون التمسّك بقوله

٨٦

«لا يحلّ لأحدٍ أن يتصرّف ...» تمسّكاً بالدليل في الشبهة الموضوعية لنفس الدليل ... ومع وصول النوبة إلى الأصل العملي فالمرجع هو البراءة.

وأمّا الركوع والسجود ، فإنّ التصرّف لا يصدق على نفس الهيئة ، وصدقه على «الهوي» إليهما واضحٌ ، لكنّ كون «الهوي» جزءاً من أجزاء «الصّلاة» أو أنّه مقدّمة لتحقق الركوع والسجود وهما الجزءان؟ فيه خلاف.

وبعد ، فإنّ القدر المتيقن من أجزاء الصّلاة الحاصل في ملك الغير والصادق عليه عنوان الغصب هو : الاعتماد على ملك الغير في حال القيام ، فإنّه لولاه لم يتحقق القيام شرعاً ، والاعتماد على ملك الغير في حال السجود ـ بناءً على اعتباره فيه وعدم كفاية مماسّة الجبهة للأرض ـ فإنّ هذين الاعتمادين تصرّف عرفاً ، ولمّا كان التصرّف عنوان انتزاعيّاً ، فإنّه يتحقق الاتّحاد بينه وبينهما ، وإذا حصل ثبت الامتناع ، وكانت الصّلاة باطلة.

فالنتيجة هي بطلان الصّلاة ... إلاّ أنْ يخدش في شيء من مقدّماتها.

هذا هو التحقيق من الناحية الصغرويّة ... وبذلك يتبيّن صحّة صلاة الميّت في ملك الغير بدون إذنه ، لأنّها ليست إلاّ التكبيرات والأذكار والأدعية ... وكذا صلاة من لا يقدر على القيام ، إلاّ أن يقال بكونه معتمداً على الأرض في جلوسه.

وبعد ذلك كلّه ... يرد على الميرزا النقض بما ذكره (١) من خروج مثل «اشرب الماء ولا تغصب» عن محلّ الكلام ، لوقوع الشرب مصداقاً للغصب ، لعدم الفرق بينه وبين «صلّ ولا تغصب» لوجود الملاك الذي ذكره ـ وهو استحالة اتّحاد المبادئ ـ في «الصلاة» و «الشرب» معاً بلا فرق.

وأيضاً ، فإنّه في الفقه ـ في مسألة الصّلاة في المغصوب ـ قال ببطلانها في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٤١ ، فوائد الاصول (١ ـ ٢) ٤١٢.

٨٧

اللّباس أو المكان المغصوب ، لتحقّق الاتّحاد في الحركة الصّلاتية فيه بين الصّلاة والغصب ؛ فكان دليله على البطلان مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي ، لا الإجماع وغيره من وجوه الاستدلال ... هذه عبارته هناك :

«السابع ممّا يشترط في اللّباس : أن لا يكون مغصوباً ... والذي يدل على ذلك ـ مضافاً إلى الإجماع في الجملة ـ هو كون المسألة من صغريات باب اجتماع الأمر والنهي ... بمعنى كون الحركة الخاصة مأموراً بها لكونها من أفعال الصّلاة ومنهيّاً عنها لكونها تصرّفاً في الغصب ...» (١).

وتلخّص :

إن التركيب بين المشتقات اتحادي بلا ريب ، والتعارض في محلّ الاجتماع بين «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» موجود بلا إشكال. وأمّا بين المبادئ ، فمتى كان لمبدءين وجود واحد في الخارج ، فلا مناص من التركيب الاتحادي والقول بالامتناع.

تنبيه (في حقيقة الغصب)

قد اختلفت أنظار الأكابر في بيان حقيقة الغصب وأنه بأيّ جزءٍ من أجزاء الصّلاة يتحقق؟

فالميرزا على أن الركوع والسجود من مقولة الوضع ، والغصب من مقولة الأين ، وإذا اختلفت المقولات كان التركيب انضمامياً لا اتحادياً.

والمحقق العراقي (٢) على أن الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحلّ الغير في حال عدم رضاه لا أنه إشغال ملك الغير ، وهذا العنوان ينطبق على الأجزاء

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ / ٢٨٥ ، ٣١٨ ـ ٣٢٠.

(٢) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٤١٧.

٨٨

الصّلاتية لكونها أفعالاً ، فيكون الركوع فعلاً شاغلاً للمكان وهكذا غيره من الأفعال.

والمحقق الأصفهاني (١) ذهب إلى أن الأجزاء الصّلاتية من مقولات متعدّدة ، لأنّ الركوع من مقولة الوضع ولا يصدق عليه التصرف في ملك الغير ، لكن السجود وضع الجبهة على أرض الغير وبوضعها عليها يصدق عنوان التصرف ويلزم الامتناع ، وكذلك القيام ، لتحقق التصرّف في أرض الغير فيه بالاعتماد عليها.

والمحقق الخوئي (٢) ، ذهب إلى أنّ مفهوم السّجود لا يتحقق إلاّ بالاعتماد وهو تصرّف ، أمّا وضع الجبهة بدون الاعتماد على الأرض ، فليس بسجود ولا يصدق عليه التصرف في ملك الغير.

وأفاد شيخنا دام ظلّه : بأن هذا القول مخالفٌ لتصريحات أهل اللّغة ، ـ إذ السجود عندهم وضع الجبهة على الأرض (٣) ـ وللنصوص ، ففي صحيحة زرارة :

«قلت : الرجل يسجد وعليه قلنسوة أو عمامة؟

فقال : إذ مسّ جبهته الأرض فيما بين حاجبه وقصاص شعره فقد أجزأ عنه» (٤).

وكذلك غيرها.

فالصحيح ما ذهب إليه المحقق الاصفهاني في مفهوم السجود ، لكنّ صدق التصرّف على مجرّد وضع الجبهة على الأرض مشكل ، فالشبهة مفهومية لو لم

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣١٦.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٤٩١.

(٣) انظر : تاج العروس في شرح القاموس ٢ / ٣٧١.

(٤) وسائل الشيعة ٥ / ١٣٧ ، الباب ١٢ ، باب استحباب جعل المصلّى بين يديه ....

٨٩

نقل بانصراف دليل «لا يحلّ لامرئ أن يتصرّف ...» عنه.

وتلخّص : إن مفهوم السجود غير متقوّم بالاعتماد خلافاً للسيّد الخوئي بل هو مجرّد وضع الجبهة وفاقاً للمحقق الاصفهاني ، لكنّ الكلام في صدق التصرف على ذلك ....

إلاّ أن الشارع اعتبر في السجود «التمكّن من الأرض» ولا ريب في صدق التصرّف عليه ، ومن هنا اختار الأُستاذ الامتناع ، فوافق القائلين به في القول وخالفهم في الدليل ، والدليل عنده هو النصّ :

«عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : «سألته عن الرجل يسجد على الحصى فلا يمكّن جبهته من الأرض. قال : يحرّك جبهته حتى يتمكّن فينحّي الحصى عن جبهته ولا يرفع رأسه» (١).

وأمّا ما ذهب إليه المحقق العراقي من أن الركوع والسجود نفس الفعل ، ففيه : إنهما عبارة عن الهيئة الحاصلة من نسبة أجزاء البدن بعضها إلى بعضٍ ، ولا يصدق «التصرف» على «الهيئة».

وبقي القيام ، والمستفاد من النصوص كصحيحة ابن سنان (٢) أن يكون المصلّي في حال القيام معتمداً على رجليه ، فلا يستند إلى الجدار ونحوه ، ومن الواضح أنّ الاعتماد على الرجل اعتماد على الأرض ، فيلزم الاجتماع والامتناع.

الوجه الرابع

من أدلّة القائلين بالجواز : وقوع الاجتماع في الشريعة بين الحكمين من الوجوب والكراهة ، والاستحباب والكراهة ، والوجوب والإباحة ، والاستحباب

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ / ٣٥٣ ، الباب ٨ من أبواب السجود ، الرقم ٣.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٥٠٠ ، الباب ١٠ من أبواب القيام ، الرقم ٢.

٩٠

والإباحة ... وأدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه.

وقد قدّم صاحب (الكفاية) (١) هذا الوجه على غيره في الذكر ، إذ قال في تقريره : إنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي لما وقع نظيره ، وقد وقع ، كما في العبادات المكروهة ، كالصّلاة في مواضع التهمة وفي الحمام والصيام في السفر وفي بعض الأحكام. بيان الملازمة : إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجدياً في إمكان اجتماعهما ، لما جاز اجتماع حكمين آخرين في موردٍ مع تعدّدهما ، لعدم اختصاصهما من بين الأحكام بما يوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادّها بأسرها. والتالي باطل ، لوقوع اجتماع الكراهة والإيجاب أو الاستحباب في مثل الصّلاة في الحمام والصيام في السفر وفي عاشوراء ولو في الحضر ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة أو الاستحباب في مثل الصّلاة في المسجد أو الدار.

الجواب الإجمالي

وقد اجيب في (الكفاية) وغيرها عن هذا الاستدلال بالإجمال ، بوجوه :

الأول : إنه لمّا قام البرهان العقلي على امتناع شيء ، فلا بدّ من ارتكاب التأويل فيما ظاهره جواز ذلك الشيء ، ضرورة أن الظهور لا يصادم البرهان ، وهنا كذلك ، فإنّ البرهان قام على امتناع الاجتماع بين الضدّين ، والأحكام الخمسة متضادّة.

والثاني : إنّ اجتماع الحكمين في الموارد المذكورة كما يتوجّه على الامتناعي كذلك يتوجّه على الجوازي ، لأن القائل بجواز الاجتماع إنما يقول به حيث يكون الشيء الواحد ذا عنوانين ، أمّا ما يكون بعنوانٍ واحدٍ كالصّلاة في

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦١.

٩١

الحمّام مثلاً فلا يقول الجوازي أيضاً بالاجتماع فيه.

وثالثاً : إنّ الموارد المذكورة لا مندوحة فيها ، بخلاف محلّ البحث كالصّلاة في المكان المغصوب فله مندوحة.

الكلام في العبادات المكروهة

وأجاب المحقق الخراساني بالتفصيل فقال : إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام :

الأول : ما تعلَّق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له ، كصوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدئة في بعض الأوقات.

والثاني : ما تعلَّق به النهي كذلك ويكون له البدل ، كالنهي عن الصلاة في الحمام.

والثالث : ما تعلَّق النهي به لا بذاته بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً ، كالصلاة في مواضع التهمة ، بناءً على كون النهي عنها لأجل اتّحادها مع الكون في مواضعها.

القسم الأوّل كصوم عاشوراء :

رأي صاحب الكفاية

ثم أجاب عن الاستدلال في القسم الأوّل ـ الذي هو أهمّ الأقسام ـ بما حاصله :

لقد قام الإجماع على وقوع صوم يوم عاشوراء صحيحاً ، ومع ذلك يكون

٩٢

تركه أرجح كما يظهر من مداومة الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ على الترك ، فيكون صوم عاشوراء من قبيل المستحبّين المتزاحمين ، لا من قبيل تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد ، وذلك ، لأن الأمر قد تعلَّق بفعل هذا الصوم ، لكونه عبادةً ، وتعلّق بتركه ، لكونه عملاً قد التزم به بنو اميّة بعد قتل سيد الشهداء الحسين عليه‌السلام ، وإذا كان من صغريات باب التزاحم ، فإنه يحكم بالتخيير بين الفعل والترك لو لم يكن أهم في البين ، وإلاّ فيتعيّن الأهم وإنْ كان الآخر يقع صحيحاً ، حيث أنه كان راجحاً وواجداً للملاك وموافقاً للغرض.

إذن ، ليس هذا المورد من قبيل اجتماع الاستحباب والكراهة ليتمّ الاستدلال به للقول بالجواز ، بل من قبيل التزاحم بين المستحبين ، وهما فعل الصوم وتركه.

هذا ما أفاده صاحب (الكفاية) تبعاً للشيخ الأعظم (١).

إشكال الميرزا

فأشكل عليه الميرزا قائلاً : إن الفعل والترك إذا كان كلّ منهما مشتملاً على مقدارٍ من المصلحة ، فبما أنه يستحيل تعلّق الأمر بكلٍّ من النقيضين في زمانٍ واحدٍ ، يكون المؤثّر في نظر الآمر احدى المصلحتين على تقدير كونها أقوى من الاخرى ، ويسقط كلتاهما عن التأثير على تقدير التساوي ، لاستحالة تعلّق الطلب التخييري بالنقيضين ، لأنه من طلب الحاصل ، وعليه ، يستحيل كون كلّ من الفعل والترك مطلوباً بالفعل.

وبالجملة ، اشتمال كلّ من الفعل والترك على المصلحة ، يوجب تزاحم الملاكين في تأثيرها في جعل الحكم على طبق كلٍّ منهما ، لاستحالة تأثيرهما في

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٣٠ ، كفاية الاصول : ١٦٣.

٩٣

زمانٍ واحدٍ في طلب النقيضين تعييناً أو تخييراً ، وعليه يتفرّع وقوع التزاحم في التأثير فيما كان كلّ من الضدين اللذين لا ثالث لهما مشتملاً على المصلحة أو المفسدة الداعية إلى جعل الحكم على طبقها ، وفيما إذا كان أحد المتلازمين دائماً مشتملاً على مصلحة والآخر مشتملاً على مفسدة ، فإنه في جميع ذلك يستحيل جعل الحكم على طبق كلٍّ من الملاكين تعييناً أو تخييراً ، لرجوعه إلى طلب النقيضين المفروض استحالته ، فلا بدّ من جعل الحكم على طبق أحد الملاكين إنْ كان أحدهما أقوى من الآخر ، وإلاّ فلا يؤثّر شيء منهما في حمل الحكم على طبقه (١).

وحاصل كلامه : إنه لا يعقل التزاحم ، لأنه إن كان في مرحلة الامتثال ـ الراجع إلى عدم قدرة المكلّف على امتثال كلا التكليفين ـ فالفعل والترك متناقضان ، فجعل الاستحباب لكليهما تعييناً طلب للنقيضين ، وتخييراً تحصيل للحاصل. وإن كان في مرحلة الجعل ، فإنه يقع الكسر والانكسار بين الملاكين ويصدر الحكم طبق الملاك الغالب منهما ، فإنْ لم يكن فالإباحة ... فأين التزاحم بين استحباب الفعل واستحباب الترك؟

دفاع السيد الخوئي

وقد أجاب السيد الخوئي ـ في هامش الأجود ـ بما حاصله : أنه لو كان متعلَّق الأمر حصّة من الطبيعة ، وكان لنقيض تلك الحصّة فردان ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالحصّة وبأحد النقيضين لها. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنَّ الأمر بصوم عاشوراء قد تعلَّق بالإمساك فيه بقصد القربة ـ لا بمطلق الإمساك ـ ولنقيض هذا المتعلَّق فردان ، أحدهما : ترك الإمساك رأساً ، والآخر الإمساك لا بقصد القربة ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٧٣.

٩٤

لكنّ ترك الصوم هو المأمور به لمصلحة مخالفة بني اميّة ، وأمّا الإمساك بلا قصدٍ فليس بمأمورٍ به ، فما ذكره الميرزا من استحالة تعلّق الأمر بكلا الطرفين لكونه طلباً للنقيضين ، غير صحيح ... بل المورد من باب التزاحم ـ كما هو الحال في كلّ موردٍ يكون للضدّين ثالث ـ وحينئذٍ ، يكون المرجع قاعدة باب التزاحم.

جواب الأُستاذ عن هذا الدفاع

وقد أجاب الشيخ الأُستاذ عمّا ذكر بوجهين :

أحدهما : إنه كان بنو اميّة يصومون في يوم عاشوراء بقصد القربة ، والمخالفة معهم تتحقّق بتركه بقصد القربة وبتركه رأساً ، نعم ، الإفطار إعلانٌ للمخالفة ، وهذا أمر آخر.

وثانياً : إنّه ـ بعد التنزّل عمّا ذكرناه ـ غير متناسب مع مقام الإثبات ، لأنّ في الأخبار ما هو صريحٌ في استحباب صوم يوم عاشوراء بحيث لا يلائم مداومة أهل البيت عليهم‌السلام على الترك ، ففيها : «صام رسول الله يوم عاشوراء» (١) وفيها أيضاً ما لا يتناسب مع القول بأرجحيّة الترك من الفعل ، كقوله عليهم‌السلام «فَإنَّه يكفّر ذنوب سنة» (٢).

فما ذكره الميرزا وارد.

هذا تمام الكلام في جواب الشيخ والمحقق الخراساني.

رأي الميرزا

ثم إن الميرزا بعد أن أورد على كلام (الكفاية) ـ تبعاً للشيخ ـ بما تقدَّم قال : والتحقيق في الجواب عن هذا القسم يتّضح برسم مقدّمةٍ نافعة في جملةٍ من الموارد ، وهي : إنه لا شبهة في أنّ النذر إذا تعلَّق بعبادةٍ مستحبّة ، فالأمر الناشئ

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٠ / ٤٥٧ ، الباب ٢٠ ، رقم ١ و ٢.

٩٥

من النذر يتعلّق بذات العبادة التي كانت متعلّقة للأمر الاستحبابي في نفسها ، فيندكّ الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي ويتّحد به ، فيكتسب الأمر الوجوبي جهة التعبّد من الأمر الاستحبابي ، كما أنّ الأمر الاستحبابي يكتسب جهة اللّزوم من الأمر الوجوبي ، فيتولّد من اندكاك أحد الأمرين في الآخر أمر واحد وجوبي عبادة ، والسرّ في ذلك : أنه إذا كان متعلّق كلٍّ من الأمرين عين ما تعلَّق به الآخر ، فلا بدّ من اندكاك أحدهما في الآخر وإلاّ لزم اجتماع الضدّين في شيء واحد.

وأمّا إذا كانت العبادة المستحبة متعلَّقة للإجارة في موارد النيابة عن الغير ، كان متعلَّق الأمر الاستحبابي مغايراً لما تعلَّق به الأمر الوجوبي ، لأن الأمر الاستحبابي على الفرض تعلَّق بذات العبادة ، وأمّا الأمر الناشئ من الإجارة فهو لم يتعلّق بها بل تعلَّق بإتيان العبادة بداعي الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه ، وعلى ذلك يستحيل تداخل الأمرين باندكاك أحدهما في الآخر في موارد الإجارة على العبادة ، إذ التداخل فرع وحدة المتعلَّق ، والمفروض عدم وحدته في تلك الموارد ، فلا يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد.

(ثم قال) ما حاصله : إن ما نحن فيه من قبيل الإجارة لا من قبيل النذر ، فالأمر بصوم عاشوراء متعلِّق بذات العبادة ، لكنّ النهي متعلِّق بالتعبّد بهذه العبادة لِما فيه من المشابهة للأعداء ، فاختلف المتعلَّق ، لكنّ النهي لمّا كان تنزيهيّاً ، فإنّه لا يكون مانعاً من التعبّد بمتعلّقه ، بل يجوز الإتيان بتلك العبادة بداعي الأمر المتعلّق بذاتها ... فارتفع إشكال اجتماع الضدّين في هذا القسم من العبادات المكروهة (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٧٤ ـ ١٧٧.

٩٦

الإشكال على الميرزا

ويرد على الجواب المذكور وجوه :

أوّلاً : إنه لا يعقل الاندكاك في مورد البحث ، لأن الاندكاك يكون في الحقيقة ذات المرتبة ، فإذا حصلت المرتبة الشديدة للشيء اندكّت فيها المرتبة الضعيفة منه ، كما في النور مثلاً ... فما ذكره يتم في الملاكات والأغراض حيث المناط الضعيف يندكّ في القوي ، أمّا في الأمر أو النهي التابع للملاك فلا يعقل الاندكاك ، لأن الأمر عبارة الإنشاء ، سواء كان حقيقته الإيجاد أو إبراز الاعتبار. والنهي كذلك ، سواء كان طلب الترك كما عليه صاحب (الكفاية) والميرزا أو هو الزجر كما عليه غيرهما ـ واندكاك الإنشاء في إنشاءٍ آخر غير معقول.

وثانياً : لو سلّمنا الاندكاك ، فلا وجه لكون المرتبة الشديدة عبادةً وواجبة ، لأنّ دليل الوجوب هو الأمر بالوفاء بالنذر ، وهو وجوب توصّلي لا ينقلب إلى عبادي ، كما أن الاستحباب التعبّدي لا ينقلب إلى التوصّلي ، فمن أين ما ذكره الميرزا؟

وثالثاً : إن قياسه ما نحن فيه على باب الإجارة ، مخدوش بأنّ متعلّق الأمر في صوم عاشوراء ليس مطلق الإمساك ، بل هو الإمساك قربةً إلى الله ، ومتعلّق النهي إن كان نفس الصوم كذلك ، فالاجتماع حاصل ، وإن كان هو التعبّد بهذا الصّوم كما ذكر الميرزا ، فإنّ التعبّد يعني الإتيان به قربة إلى الله ، فيكون نفس متعلَّق الأمر ، ويلزم الاجتماع.

ورابعاً : إن طريق الحلّ الذي ذكره غير مناسب لمقام الإثبات ، لأن محصّل كلامه هو تعدّد المتعلّق ، وأنّ متعلّق الأمر هو نفس الصوم ومتعلَّق النهي هو التعبّد بهذا الصّوم ، لكنّ الروايات الواردة في صوم يوم عاشوراء تدلّ على مبغوضيّة الصوم نفسه :

٩٧

«عن عبد الله بن سنان قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام يوم عاشوراء ودموعه تنحدر على عينيه كاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : ممّ بكاؤك؟ فقال : أفي غفلةٍ أنت! أما علمت أن الحسين ـ عليه‌السلام ـ أصيب في مثل هذا اليوم؟ فقلت : ما قولك في صومه؟ فقال لي : صمه من غير تبييت وأفطره من غير تشميت ، ولا تجعله يوم صوم كملاً ، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربة من ماء ، فإنه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله. الحديث» (١).

لقد أمر عليه‌السلام بالإمساك بلا نيّةٍ ، إذنْ ، لا عباديّة لصوم عاشوراء.

وعن عبد الملك : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صوم تاسوعا وعاشوراء من شهر المحرم ... ثم قال :

وأمّا يوم عاشورا ، فيوم اصيب فيه الحسين صريعاً بين أصحابه وأصحابه صرعى حوله ، أفصوم يكون في ذلك اليوم؟ كلاّ وربّ البيت الحرام ، ما هو يوم صوم ، وما هو إلاّ يوم حزن ومصيبة دخلت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين ، ويوم فرح وسرور لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام ... فمن صام أو تبرّك به حشره الله مع آل زياد ...»(٢).

وعن جعفر بن عيسى قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن صوم يوم عاشوراء وما يقول الناس فيه. فقال : عن صوم ابن مرجانة تسألني؟ ذلك يوم صامه الأدعياء من آل زياد لقتل الحسين ، وهو يوم يتشاءم به آل محمّد ويتشاءم به أهل الاسلام ، واليوم الذي يتشاءم به أهل الاسلام لا يصام ولا يتبرّك به ...» (٣).

وعن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله : «من صامه كان حظّه من صيام ذلك

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٤٥٨ ، الباب ٢٠ من أبواب الصوم المندوب ، الرقم : ٧.

(٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٠ / ٤٥٩ ، الباب ٢١ ، رقم ٢ و ٣.

٩٨

اليوم حظّ ابن مرجانة وآل زياد. قال قلت : وما كان حظّهم من ذلك اليوم؟ قال : النار. أعاذنا الله من النار ومن عمل يقرّب من النار ...» (١).

فالأخبار صريحةٌ بمبغوضية صوم عاشوراء. فلا وجه لما ذكره الميرزا.

رأي المحقق العراقي

وأجاب المحقق العراقي عن الاستدلال بالعبادات المكروهة بوجهين :

الأول : إن صوم يوم عاشوراء مستحب ، والنهي عنه يدل على أقليّة الثواب.

والثاني : إن الأمر قد تعلَّق بالصوم ، والنهي متعلَّق بإيقاعه في هذا الظرف الخاص.

وهذا نصّ كلامه في العبادات المكروهة : نعم ، فيما لا بدل لها من العبادات ... فلا بدّ فيها إمّا من الحمل على أقلية الثواب والرجحان أو صرف النهي عن ظاهره إلى إيقاع العبادة في الأوقات المخصوصة ، نظير النهي عن إيقاع جوهر نفيس في مكان قذر ، بجعل المبغوض كينونة العبادة في وقت كذا لا نفسها حتى لا ينافي المبغوضية مع محبوبية العمل ورجحانه المقوّم لعباديته (٢).

وفيه :

أما الأول ، فقد عرفت منافاته للنصوص.

وأمّا الثاني ، فإنّ الأمر والنهي كليهما واردان على هذه الحصّة من الصّوم أي الصّوم المقيّد بيوم عاشوراء ، فلا وجه لما ذكره. نعم ، لو كان متعلَّق الأمر طبيعي الصّوم ومتعلَّق النهي هو الحصّة لتمّ ما ذكره ، لكنّ الرواية جاءت آمرةً بصوم يوم عاشوراء ، وناهيةً عن صوم يوم عاشوراء.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٤٦١ ، الباب ٢١ ، رقم ٤.

(٢) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٤٢٨.

٩٩

رأي السيد الفشاركي كما في الدرر

وأجاب السيد المحقق الفشاركي ـ على ما نقل عنه تلميذه الشيخ الحائري ـ : بأن يقال برجحان الفعل من جهة أنه عبادة ، ورجحان الترك من حيث انطباق عنوان راجح عليه ، ولكون رجحان الترك أشدّ من رجحان الفعل ، غلب جانب الكراهة وزال وصف الاستحباب ، ولكنّ الفعل لمّا كان مشتملاً على الجهة الراجحة لو أتى به يكون عبادة ، إذْ لا يشترط في صيرورة الفعل عبادةً وجود الأمر بل يكفي تحقق الجهة فيه على ما هو التحقيق ، فهذا الفعل مكروه فعلاً لكون تركه أرجح من فعله ، وإذا أتى به يقع عبادةً لاشتماله على الجهة.

إشكال الشيخ اليزدي

ثم أشكل عليه تلميذه المحقق فقال : ويشكل بأنّ العنوان الوجودي لا يمكن أن ينطبق عليه العدم ، لأنّ معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي ، والعدم ليس له وجود (١).

نظر الأُستاذ

فقال شيخنا الأُستاذ : بأنّ كبرى كلام المستشكل تامّة ، إذ الانطباق لا يتحقق إلاّ مع الاتّحاد ، والاتحاد بين الوجود والعدم محال ـ والمسألة عقليّة لا ينفع فيها النقض بالأمثلة العرفية كما في كلام البعض ـ فما ذكره حق. لكنّ الإشكال في الصغرى ، فإن المجعول عنواناً في النصوص أمر عدمي مثل «عدم موافقة بني اميّة» ولا محذور في اتّحاده مع ترك الصوم. وعلى الجملة ، فإن صوم عاشوراء مبغوض لموافقته لآل اميّة ، فيكون تركه مطلوباً من جهة انطباق عنوان عدم الموافقة معهم له. فالإشكال مندفع.

__________________

(١) درر الفوائد (١ ـ ٢) ١٦٩.

١٠٠