تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

١
٢

٣
٤

المقصد الثاني

النواهي

٥
٦

والكلام في جهات :

الجهة الاولى (في معنى مادّة النهي وصيغته)

كلام الكفاية

ذهب المحقق الخراساني (١) وتبعه الميرزا النائيني (٢) إلى أن النهي ـ بمادّته وصيغته ـ يدلّ على الطلب ، كالأمر بمادّته وصيغته ، غير أنّ متعلّق الطلب في الأمر هو الوجود ، ومتعلّقه في النهي هو العدم ....

قال : نعم هو : إنّ متعلّق الطلب فيه هل هو الكف أو مجرّد الترك وأن لا يفعل؟

قال : والظاهر هو الثاني.

قال : وتوهّم أن الترك ومجرّد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار ، فلا يصح أن يتعلّق به البعث والطلب ، فاسد. فإنّ الترك أيضاً يكون مقدوراً ، وإلاّ لما كان الفعل مقدوراً وصادراً بالإرادة والاختيار. وكون العدم الأزلي لا بالاختيار ، لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلاًّ للتكليف.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ١١٩.

٧

فالمختار عنده ما عليه المشهور ـ كما قيل ـ من أن مدلولهما نفس مدلول المادّة والصيغة في الأمر ، وهو الطّلب ، غير أنّ المتعلّق مختلف ، إذ النهي عبارة عن طلب ترك الشيء.

فإن قيل : إن الترك لا يتعلّق به الطلب ، لأنه أمر عدمي والعدم لا يتعلّق به غرض ، بل الصحيح هو القول بأن النهي طلب كفّ النفس.

فالجواب : أمّا على القول بأن عدم الملكة له حظ من الوجود فواضح ، لتعلّق الغرض به. وأمّا على القول بأنه لا حظّ له من الوجود عقلاً ، فالجواب : إن الأعدام المضافة إلى الوجود تتعلّق بها الأغراض عقلاءً.

فإن قيل : إنه إذا كان النهي طلب الترك والعدم ، فإنّ العدم غير مقدور ، ولا يعقل طلب غير المقدور ... ولذا يكون المتعلّق هو الكفّ لا الترك.

فأجاب : بأن العدم غير المقدور هو العدم الأزلي لا العدم بحسب البقاء والاستمرار فهو مقدور ، والتكاليف إنما هي بحسب البقاء والاستمرار لا بحسب الأزل.

فالإشكالان مندفعان.

ما يرد على مختار الكفاية

لكن يرد عليه :

أمّا ثبوتاً : فإن الطلب معلول للشوق ، ومعلول معلول للمصلحة ، وما لا تترتب عليه المصلحة لا يتعلّق به الشوق ، وأيّ مصلحة تترتب على العدم؟

والحاصل : إنه لا يعقل بالنسبة إلى الترك إلاّ الشوق بالعرض ، بمعنى أنّه لما يكون وجود الشيء غير مشتاقٍ إليه فعدمه يكون مطلوباً ، أمّا الترك أوّلاً وبالذات ، فلا يتعلّق به الشوق فلا يتعلّق به الطلب.

هذا أوّلاً.

٨

وثانياً : إنّ مدلول النهي عند هذا المحقق هو الطلب الإنشائي ، ولا بدّ من صدوره عن الإرادة الجديّة ، لكن تعلّقها حقيقةً بالعدم غير معقول ، لأنه ـ وإن كان مضافاً إلى الوجود ـ غير قابلٍ للوجود.

وأمّا إثباتاً : فإن «لا تفعل» الذي هو طلب الترك ، يشتمل على مادّةٍ وهيئة ، أمّا المادّة فمدلولها الفعل ، وأمّا الهيئة فمدلولها ـ على الفرض ـ هو الطلب ، فأين الدالّ على الترك؟ بخلاف الأمر ، فإنّ مدلول الهيئة في «صلّ» هو الطلب والمتعلّق هو مادّة الصّلاة ، فكان المدلول : طلب الصّلاة ، وهو يقتضي إيجادها.

فما ذهب إليه صاحب (الكفاية) مخدوش ثبوتاً وإثباتاً.

الأقوال الأُخرى

وقد خالف سائر الأعلام المحقق الخراساني في هذا المقام ، وذهبوا إلى أنّ مدلول النهي يغاير مدلول الأمر لكنّ المتعلّق واحد ، ثم اختلفوا على أقوال :

القول الأول

إن مدلول النهي هو الكراهة ومدلول الأمر هو الإرادة.

وفيه : إنّ الإرادة والكراهة هما المبدأ والعلّة للأمر والنهي ، وعلّة الشيء لا تكون مدلولاً له.

القول الثاني

إنّ مدلول النهي عبارة عن حرمان المكلّف من الفعل ، ومدلول الأمر عبارة عن ثبوت الشيء في ذمة المكلّف. والأساس في هذا القول هو : أن حقيقة الإنشاء عبارة عن الاعتبار والإبراز أو إبراز الاعتبار. (قال) ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الإنشاء والإخبار من أن العقود والإيقاعات كالبيع والإجارة والطلاق والنكاح أسام لمجموع المركب الاعتباري النفساني وإبراز ذلك في الخارج بمبرز ، فلا يصدق

٩

البيع ـ مثلاً ـ على مجرّد ذلك الأمر الاعتباري أو على مجرد ذلك الإبراز الخارجي.

وذكر : أن ما ذهب إليه جماعة من المحققين من أن حقيقة النهي هو الزجر ، من اشتباه المفهوم بالمصداق ، لأنّ «الحرمان» المبرز مصداق «الزجر» (١).

وفيه : لا إشكال في وجود «الحرمان» في موارد «النهي» ، وأنه يصحّ أن يقال بأنّ المكلّف قد حُرم من الفعل الكذائي ، لكنّ محطّ البحث هو تعيين مفاد النهي مجرّداً عن لوازمه ، فنحن نعلم بأن لازم طلوع الشمس هو وجود النهار ، لكنّه خارج عن مدلول لفظ الشمس ... وعليه ، فإن وجود الحرمان ـ عقلاءً ـ في مورد النهي شيء وكونه مدلول النهي شيء آخر ، وكذلك الكلام في طرف الأمر ، فثبوت الشيء في الذمّة لا ينكر ، لكنّ كونه هو المدلول أوّل الكلام.

هذا ، ولو لم يكن لهيئة «لا تفعل» مدلول إلاّ «الحرمان» الاعتباري ، كان اللاّزم أن ينسبق إلى الذهن منها عين ما ينسبق من مادّة «الحرمان» ، والحال أنه ليس كذلك كما هو واضح ، بل لا توجد بينهما المساوقة الموجودة بين لفظ «من» و «الابتداء» ونحوهما.

فظهر أن ما ذهب إليه المحقق الخوئي خلطٌ بين المعنى ولازم المعنى.

الرأي المختار

وقد اختار شيخنا ـ في كلتا الدورتين ـ ما ذهب إليه جماعة من المحققين ، كالأصفهاني والعراقي والبروجردي ، من أنّ النهي عبارة عن الزجر ، كما أن الأمر عبارة البعث.

وتوضيح ذلك : إنه كما في الإرادة التكوينيّة يلحظ الإنسان الشيء ـ كالصّلاة مثلاً ـ فيرى فيه المصلحة ويتعلّق به غرضه ، فيشتاق إليه ويتحرّك نحوه أو يأمر

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ٢٧٦.

١٠

الغير به فتكون إرادة تشريعيّة ، كذلك في طرف النهي ، فإنّه يتصوّر الشيء ويرى فيه المفسدة وما ينافي الغرض ، فينزجر عنه تكويناً ، ويزجر غيره عنه تشريعاً ... وهذا هو واقع الحال في الأمر والنهي ، فهو لمّا يرى وجود المفسدة في شرب الخمر لا يُقدم على ذلك ، وإذا أراد زجر الغير يقول له : «لا تشرب الخمر» أو يشير إلى هذا المعنى بيده إشارةً مفهمةً له ... فمعنى «النهي» هو «الزجر» عن الشيء المعبّر عنه بالفارسية «باز داشتن» ، فهيئة «لا تفعل» مدلولها والنسبة الزجريّة ، «النّسبة» معنى حرفي ، كما أنّ مدلول هيئة «افعل» هو «النسبة البعثيّة».

هذا تمام الكلام في ... وقد ظهر أن الخلاف يرجع إلى أنّه هل المدلول في الأمر والنهي واحد والمتعلّق متعدّد ، أو أن المعنى متعدّد والمتعلّق واحد؟

قال المشهور بالأوّل ، وعليه المحقق الخراساني والمحقق النائيني.

وقال الآخرون بالثاني.

واختلف المشهور على قولين ، فمنهم من جعل المتعلّق أمراً عدميّاً وهو الترك وعليه صاحب (الكفاية) والميرزا ، ومنهم من جعله وجوديّاً وهو الكفّ.

واختلف الآخرون على أقوال ، والمختار هو «الزجر» وفاقاً للمحقق الأصفهاني وغيره.

هذا ، وفي (منتقى الاصول) أنّ التحقيق موافقة صاحب (الكفاية) فيما ذهب إليه ، قال :

والتّحقيق : موافقة صاحب (الكفاية) في ما ذهب إليه من الرّأي.

والّذي ندّعيه : أنّ المنشأ في مورد النّهي ليس إلاّ البعث نحو التّرك مع الالتزام بأنّ مفهوم النّهي يساوق عرفاً مفهوم المنع والزّجر لا البعث والطّلب.

والوجه فيما ادّعيناه : هو أنّ التكليف أعم من الوجوب والتّحريم ـ على

١١

جميع المباني في حقيقته ـ إنّما هو لجعل الدّاعي وللتحريك نحو المتعلّق بحيث يصدر المتعلّق عن إرادة المكلّف ، ومن الواضح أنّ ما يقصد إعمال الارادة فيه في باب النّهي هو التّرك وعدم الفعل ، ولا نظر إلى إعمال الإرادة في الفعل كما لا يخفى جدّا ، وهذا يقتضي أن يكون المولى في مقام تحريك المكلّف نحو ما يَتعلّق به اختياره وهو التّرك ، ويكون في مقام جعل ما يكون سبباً لإعمال إرادة المكلّف في التّرك ، فواقع النّهي ليس إلاّ هذا المعنى وهو قصد المولى وإرادته تحريك المكلّف وإعمال إرادته في التّرك.

وهذا كما يمكن أن ينشأ بمدلوله المطابقي وهو طلب الترك ، كذلك يمكن أن ينشأ بمدلوله الالتزامي وهو الانزجار عن الفعل ، فإنّه لازم ارادة ترك العمل ، وهو في باب النّهي منشأ بمدلوله الالتزامي بعكسه في باب الأمر فإنّه منشأ بمدلوله المطابقي ، فالمنشأ في باب النّهي إرادة الترك بمفهوم المنع والنّهي ، وليس المنشأ هو نفس المنع عن الفعل ، لأنّه غير المقصود الأوّلي وأجنّبي عمّا عليه واقع المولى.

وأمّا دعوى : أنّه ليس في الواقع سوى كراهة الفعل تبعاً لوجود المفسدة فيه دون إرادة التّرك ، فهي باطلة ، فإنه كما هناك كراهة للفعل كذلك هناك إرادة ومحبوبيّة للتّرك ، ويشهد لذلك الأفعال المبغوضة بالبغض الشّديد ، فإنّ تعلّق المحبوبيّة بتركها ظاهر واضح لا إنكار فيه ، كمحبوبيّة الصحة التي هي في الحقيقة عدم المرض ونحو ذلك.

وأمّا تمييز الواجب عن الحرام ، فليس الضّابط فيه ما هو المنشأ وما هو متعلّق الإرادة أو الكراهة ، بل الضّابط فيه ملاحظة ما فيه المفسدة والمصلحة ، فإن كان الفعل ذا مفسدة كان حراماً وإن كان المنشأ طلب الترك ، وإن كانت المصلحة

١٢

في الفعل أو في الترك كان الفعل أو الترك واجباً ، ومثل الصّوم تكون المصلحة في نفس التّرك فيكون واجباً (١).

أقول :

إن موضوع البحث هو مفاد النهي ، وما ذهب إليه صاحب (الكفاية) هو دلالة النهي على طلب الترك ، وقد عرفت ما فيه. وأمّا ما ذهب إليه السيّد الأُستاذ من أنّ النهي كما يمكن أن ينشأ بمدلوله المطابقي وهو طلب الترك ، كذلك يمكن أنْ ينشأ بمدلوله الالتزامي وهو الانزجار عن الفعل ، فإنه لازم إرادة ترك العمل ، ففيه : إنّ الانزجار عن الفعل حالة تحدث للمكلَّف عند إرادته ترك العمل امتثالاً للنهي كما ذكر ، لا أنّه مدلولٌ للنهي ، فكون الشيء مدلولاً للنهي ـ كما هو موضوع البحث ـ أمرٌ ، وكونه ملازماً للمدلول ـ كما نصّ عليه في موضعٍ آخر (٢) ـ أمر آخر ، بل إنّ التعبير بالانزجار يناسب ما ذهب إليه الجماعة ـ وتبعهم شيخنا الأُستاذ ـ من أن المدلول هو الزّجر ، للتضايف بينهما كما لا يخفى.

فما أفاده ، إمّا يرجع إلى ما ذكروه وإما هو خلط بين المعنى ولازمه ، كما تقدَّم في الإشكال على (المحاضرات) لو تمّ رأي صاحب (الكفاية).

الجهة الثاني (في الفرق بين الأمر والنهي من جهة الاقتضاء)

إنَّ الأمر يقتضي الإتيان بصرف وجود الطبيعة ، فلو أمر بالصّلاة حصل الامتثال بصرف وجودها من قبل المكلّف ، بخلاف النهي ، فإنه يقتضي الانزجار عن جميع أفراد الطبيعة. فما هو المنشأ لهذا الفرق؟

__________________

(١) منتقى الاصول ٣ / ٦ ـ ٧.

(٢) منتقى الاصول ٣ / ١١.

١٣

رأي المحقق الخراساني

قال في (الكفاية) :

ثم إنه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار كما لا دلالة لصيغة الأمر ، وإن كان قضيّتهما عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلّقهما ، بأن تكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرةً والنهي أُخرى ، ضرورة أن وجودها يكون بوجود فردٍ واحدٍ ، وعدمها لا يكاد يكون إلاّ بعدم الجميع كما لا يخفى (١) ....

فمنشأ الفرق عند المحقق الخراساني هو حكم العقل ، ووافقه الميرزا ـ وإن كان هناك فرق بين كلاميهما ، وما ذكره صاحب (الكفاية) أتقن ـ وحاصل هذا الوجه هو : إنّ وجود الطبيعة يتحقق بوجود فردها ، لكنّ عدمها لا يتحقّق إلاّ بعدم جميع الأفراد ، وإن كان في نسبة التحقق والعدم إلى العدم مسامحة ....

بيان السيد الحكيم

وقد ذكر السيد الحكيم برهاناً لهذا الوجه فقال : بأنه لمّا يوجد الفرد من طبيعةٍ ما فبوجوده توجد الطبيعة

أيضاً ، فإذا كان المطلوب تتحقّق الطبيعة فإنّها تتحقّق بوجود الحصّة ويحصل الامتثال ، أمّا في النهي ، فلا يكفي في عدم الطبيعة عدم فردٍ بل لا بدّ من عدم جميع الأفراد ، إذ لو وجد بعض أفرادها وعدم البعض الآخر فصدق وجود الطبيعة وعدمها ، لزم اجتماع النقيضين ، فلا بدّ إمّا أن لا يصدق على وجود الفرد أنه وجود للطبيعة أو يصدق ولا يكون عدمها إلاّ بعدم جميع الأفراد ، وحيث أنه يصدق ضرورةً ، فلا يكون عدم الطبيعة إلاّ بعدم تمام أفرادها.

فيكفي في امتثال الأمر وجود واحد للطبيعة ، ولا يكفي في امتثال النهي إلاّ ترك جميع الأفراد ليتحقق عدمها (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٩.

(٢) حقائق الأُصول ١ / ٣٤٦.

١٤

إشكال الأُستاذ

وقد أورد عليه شيخنا : بأنّه يستلزم أن يكون أحد النقيضين أعمّ من النقيض الآخر ، وذلك : لأنّ وجود الطبيعة وعدمها متناقضان كما هو معلوم ، فإن قلنا بوجودها بوجود فردٍ ما من أفرادها أمّا عدمها فلا يصدق بعدمه بل بعدم تمام أفرادها ، لزم أن تكون دائرة العدم بالنسبة إلى هذه الطبيعة أوسع من دائرة الوجود ، ولازم ذلك ارتفاع النقيضين ، لأنه في حال وجود الفرد الواحد فقط ، لا يصدق العدم على الزائد عنه كما لا يصدق الوجود ، وهو محال.

وعلى الجملة ، فإنه إذا كان وجود الطبيعة بصرف وجود فردٍ ما ، فإنّ نقيض صرف الوجود هو صِرف العدم لا عدم جميع أفرادها ... ولو قيل : بأنّ الوجود المضاف إلى الطبيعة يقتضي صرف الوجود ، أما العدم المضاف إليها فهو عدم صرف الوجود ، وهذا يلازم عدم جميع الأفراد ، فهو توهم باطل ، لأنه يستلزم تحقّق المعصية بالفرد الأوّل ، وأنه لا معصية بارتكاب الأفراد الأُخرى ، وهذا خلاف الضرورة ....

وتلخّص : أن الفرق بين مقتضى الأمر والنهي ليس بحكم العقل.

رأي المحقق الأصفهاني

وذهب المحقق الأصفهاني : إلى أن الفرق ناشئ من الاختلاف في الإطلاق ، فإن مقتضاه في الأمر هو صرف الوجود ، أمّا في النهي فهو ترك جميع الوجودات ... وقد أوضح ذلك : بأنه لمّا كان الأمر ناشئاً عن المصلحة ، فإنّها تتحقّق بصرف وجود المتعلّق ، والنهي لمّا كان ناشئاً من المفسدة في المتعلّق ، فلا محالة يكون الإطلاق فيه مقتضياً للانزجار عن جميع وجودات المتعلّق ، لأن المصلحة تترتب تارةً : على صرف الوجود ، وأُخرى : على مجموع الوجودات

١٥

بنحو العام المجموعي ، وثالثة : على كلّ الوجود بنحو العام الاستغراقي ، ورابعة : على المسبب من الوجودات. هذا بحسب مقام الثبوت.

هذا في الأمر ... وكذلك الحال في النهي وتبعيّته للمفسدة.

وفي مرحلة الإثبات ، نرى في الأمر في الصورة الأُولى حيث المصلحة قائمة بصرف الوجود ، لا يحتاج المولى إلى بيانٍ زائد ، فلو قال «صلّ» كفى ، ويتحقق الامتثال بصرف وجود الصّلاة ، بخلاف الصور الباقية ، فيحتاج إلى بيان زائد ... أمّا في النهي ، فإن المورد الذي لا يحتاج فيه إلى بيان زائد هو صورة ما إذا كانت المفسدة قائمةً بجميع وجودات المتعلّق ، فإن مقتضى الإطلاق فيها هو الانزجار عن الجميع كما في «لا تشرب الخمر» ... بخلاف الصور الأُخرى فهي محتاجة إلى البيان (١).

إشكال المحاضرات

وأورد عليه في (المحاضرات) :

أولاً : إن هذا الوجه أخصّ من المدّعى ، فإنه مبني على مسلك العدلية ـ من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ فقط ، ولا يحلّ المشكل على جميع المباني.

وثانياً : إن هذا الوجه للفرق ـ وإن كان صحيحاً في نفسه ـ إلاّ أنه لا طريق لنا إلى إحراز كيفية المصلحة والمفسدة ، إذ لا يوجد عندنا إلاّ الأمر والنهي ، وهما لا يكشفان عن كيفية المصلحة والمفسدة اللتين هما تبع لهما (٢).

نظر الأُستاذ في الرأي والإشكال عليه

وأفاد الأُستاذ : بأن الأساس في رأي المحقق الأصفهاني هو الارتكاز ، فإن

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٩٠.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٢٨٥.

١٦

المرتكز في الأذهان كون المصلحة مترتبةً على صرف الوجود والمفسدة مترتّبة جميع الوجودات ، وهذا الارتكاز المستند إلى الغلبة هو السبب في انصراف الإطلاق في طرف الأمر إلى صرف الوجود وفي طرف النهي إلى مطلق الوجود ... فالإشكال مندفع وإن كان كلام المحقق المذكور غير وافٍ بما ذكرناه.

لكنّ الإشكال الوارد هو عدم ثبوت هذه الغلبة ... ويشهد بذلك أن الأوامر الواردة في المندوبات ليس المطلوب فيها صرف الوجود ، فلمّا يقول : اذكر الله ، فإنّ المطلوب ذكر الله بنحو الإطلاق ، وكذا : أكرم العالم ... ونحو ذلك.

رأي المحاضرات

وذهب المحقق الخوئي إلى أنه لا فرق في مقام الثبوت ، بل هو في مقام الإثبات ويتلخّص في أنه يستحيل تعلّق التكليف بجميع وجودات المتعلّق ، لأنّها غير مقدور عليها ، وإذ لا معيّن ومرجّح لعدد منها بعد ذلك ، فإن الأمر يتنزّل إلى صرف وجود الطبيعة ، ويتحقق الامتثال بالإتيان به.

أمّا في النهي ، فإن الحال بالعكس ، لأن صرف الترك حاصل بالضرورة ، لعدم القدرة على ارتكاب كلّ أفراد المتعلَّق وطلبه تحصيل للحاصل ، فلا يعقل الزجر عنه ، وإذ لا معيّن لمرتبةٍ من المراتب ، فإنّ النهي يترقّى إلى مطلق وجود المتعلّق.

الإشكال عليه

وأورد عليه شيخنا بوجوه :

الأول : إنّ كلّ تعيّن محتاجٌ إلى معيّن بلحاظ خصوصيّةٍ ، وعليه ، فما المعيّن لصرف الوجود عند العجز عن جميع الوجودات؟ وما الدليل عليه إثباتاً؟

إن مجرّد عدم القدرة على الجميع لا يوجب التعيين ، بل في هذه الحالة

١٧

يلزم إجمال الدليل والمرجع هو الأصل العملي.

والثاني : إن كلامه منقوض بما ذكره في الجهة الثانية من أنّ المصلحة قد تكون في الفعل والترك ، وهي في الترك تتصوّر على أربعة أنحاء : فتكون المصلحة في صرف الترك ، وفي تمام التروك بنحو الانحلال ، وفي مجموعها ، وفي المسبب عن جميعها.

فإذا كانت المصلحة قائمة بصرف الترك ، فهو المتعلّق للطلب ، والحال أنه ضروري الوجود وطلبه تحصيلٌ للحاصل.

والثالث : إن معنى القدرة هي أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، فهي القدرة على الفعل والترك ، وفي كلّ موردٍ يكون الفعل غير مقدور فالترك كذلك ... وعليه ، فلو لم تكن قدرة على جميع الوجودات ، فلا قدرة على ترك الجميع ، ولو كان صرف الترك تحصيلاً للحاصل ، كذلك صرف الفعل ....

والحاصل : إنه إن كان أحد النقيضين مقدوراً عليه فالآخر كذلك ، وإن لم يكن فالآخر كذلك ... وقد ذكر المحقق الأصفهاني هذا المطلب ، واعترف به في (المحاضرات) وعليه فلا يتم ما ذكره.

منشأ الفرق هو الارتكاز العرفي

وقد ذكر الأُستاذ في الدّورتين : إنّه لمّا كان وجود الفرق بين مقتضى الأمر والنهي من الأُمور المسلّمة عند العرف ، ولم يمكن إقامة البرهان العقلي الصحيح على ذلك بما تقدّم من الوجوه ، ولا بناءً على ما ذهب إليه المحقق الفشاركي ـ وتبعه المحقق الحائري (١) ـ من أن صرف الوجود ناقض للعدم الكلّي ، لأنّ كلّ وجودٍ فهو ناقضٌ لعدم نفسه ، فلا بدّ وأن يكون لفهم العرف منشأ غير ما ذكر ....

__________________

(١) درر الفوائد (١ ـ ٢) ٧٦.

١٨

وقد أفاد دام ظلّه ، بأن القضية في طرف الأمر وتحقق الامتثال بصرف وجود الطبيعة واضحة عقلاً وعقلاء ، وأمّا في طرف النهي ، فإنّ الارتكاز العقلائي منشؤه وجود الملازمة بين عدم صرف الوجود مع عدم الوجودات كلّها ، وهذا هو وجه الفرق.

ثم أجاب عمّا أورده المحقق الأصفهاني : من أنّ هذا من اللّوازم وليس مقتضى النهي نفسه ، بأن المشكلة كانت في وجه الفرق ، ولا أحدٌ يدّعي أنّ هذا الافتراق هو من ناحية نفس النهي ....

لكن يبقى الإشكال بأنّه : إذا كان النهي عن صرف الوجود فقط لا عن جميع الوجودات ، فإنه يستلزم أنّه إن خالف النهي وارتكب المنهيّ عنه ، تتحقق المعصية مرّةً واحدةً ولا يكون ارتكابه فيما بعده معصيةً.

وسيأتي الجواب عنه ـ في الجهة اللاّحقة ـ من كلام المحقق الخراساني.

الجهة الثالثة (هل يسقط النهي بالمعصية؟)

قال في الكفاية :

ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف أو عدم إرادته ، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة ، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات (١).

وتوضيح ذلك : إن النواهي في الشّريعة المقدّسة على قسمين : فقد ينهى الشارع عن شيء ، ولا يبقى النهي لو خولف بصرف الوجود ، كما في النهي عن التكلّم في الصّلاة مثلاً ، فإنّه ـ على مسلك صاحب (الكفاية) ـ طلب الترك ، فإذا تعلّق الغرض بعدم التكلّم في الصّلاة وجاء النهي عنه ، فإن صرف وجوده فيها

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٠.

١٩

يوجب عدم تحقق الغرض ، وحينئذٍ لا يبقى النهي ليكون التكلّم الثاني والثالث مضرّاً بالصّلاة ، بل إنها بالأول بطلت.

وقد ينهى الشارع عن شيء ويكون كلّ واحدٍ من أفراد التروك مطلوباً برأسه ، كالمنع عن شرب الخمر ، فإنه بارتكابه مرةً لا يسقط النهي بل يبقى متوجّهاً إلى الأفراد الأُخرى من هذا الفعل.

فهذا القسمان من النهي في عالم الثبوت متحقّقان.

فإن ورد وشك في أنه من أيّ القسمين فما هو مقتضى القاعدة؟

ذهب المحقق الخراساني إلى إنه يؤخذ بإطلاق الكلام من جهة المخالفة وعدمها ، فإنه لمّا لم يقيّد النهي بالمرّة وغيرها ، كان ظاهراً في بقائه بعد المعصية ، (ثم قال) : إنه لا بدّ من وجود الإطلاق من هذه الجهة ، ولا أثر لإطلاق الكلام من سائر الجهات ، من الزمان والمكان وغير ذلك.

تقريب الميرزا

وقد اختار الميرزا هذا المبنى بتقريبٍ آخر فقال ما حاصله :

إن المطلوب في النواهي تارةً : خلوّ صفحة الوجود عن الشيء ، وحينئذٍ يكون المتعلّق هو الطبيعة ، كالتكلّم في الصّلاة ، فإنه قد لوحظت الطبيعة وتعلّق بها النهي ، أمّا ترك هذا الفرد أو ذاك منها ، فهو من لوازم المطلوب.

وأُخرى : يكون على العكس ، إذ يتعلّق بالفرد ، وخلوّ صفحة الوجود عن الطبيعة لازم المتعلّق ، كالنهي عن شرب الخمر ، فإنه متعلّق بكلّ فردٍ فردٍ ، فلو اطيع لزم خلوّ صفحة الوجود من شرب الخمر.

وغالب النواهي في الشريعة من قبيل القسم الثاني ... أمّا موارد القسم الأوّل فقليلة ، ومثاله تروك الإحرام والنهي عن المفطرات في الصّوم.

٢٠