تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

أدلّة القول بالامتناع

مقدّمات صاحب الكفاية

إنّ المشهور هو القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، قال في (الكفاية) وهو الحق ، وقد ذكر لتحقيق هذا القول وإثباته مقدّمات :

المقدمة الاولى (التضادّ بين الأحكام)

قال : لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مرتبة الفعليّة ومرتبة التنجّز ، أمّا التي قبل التنجّز والفعلية فلا تضاد ...

وهو ـ وإنْ لم يتعرّض هنا إلاّ لمرتبتين هما الإنشاء والفعلية ـ يرى أنّ لكلٍّ حكمٍ من الأحكام الخمسة أربع مراتب :

١ ـ مرتبة الملاك ، وهي مرتبة المقتضي للحكم.

٢ ـ مرتبة الإنشاء ، وهي مرتبة جعل الحكم بنحو القانون.

٣ ـ مرتبة التنجّز ، وهي مرتبة البعث والزجر.

٤ ـ مرتبة الفعلية ، وهي مرتبة وصول الحكم إلى المكلَّف وترتب الثواب أو العقاب.

وقد ذكرنا ذلك سابقاً.

فالمقصود من هذه المقدّمة بيانُ وجود التضادّ في المرتبتين : مرتبة التنجّز ، فهناك تضادّ بين الطلب الجدّي للفعل والطلب أو الزجر الجدّي للترك ، ومرتبة الفعلية ووصول الحكم إلى المكلَّف ، فإنه يستحيل فعليّة كلا الحكمين بالنسبة

٦١

إليه ... فالقول بالجواز يستلزم اجتماع الضدّين ... فيكون الحكم كذلك تكليفاً محالاً وليس من التكليف بالمحال ... ولذا يقول : بأن الاجتماع غير جائز حتّى عند من يقول بجواز التكليف بغير المقدور وهم الأشاعرة ، لأنّ الاستحالة ترجع إلى مرحلة التكليف وليست في مرحلة الامتثال ، وهذا هو الفرق بين التكليف المحال والتكليف بالمحال.

إشكال المحقق الأصفهاني على المقدمة الاولى

وقد أشكل عليه المحقق الأصفهاني فقال (١) : إن حديث تضادّ الأحكام التكليفية وإنْ كان مشهوراً لكنّه ممّا لا أصل له ، لما تقرّر في محلّه من أن التضادّ والتماثل من أوصاف الأحوال الخارجية للامور العينيّة ، وليس الحكم بالإضافة إلى متعلّقه كذلك ، سواء اريد به البعث والزجر الاعتباريّان العقلائيّان أو الإرادة والكراهة النفسيّان.

ثم أوضح ما ذكره على المسلكين المذكورين في حقيقة الأمر والنهي.

ومحصّل كلامه هو : إنّ حقيقة التضادّ عبارة عن التمانع بين الشيئين الموجودين المتعاقبين على الموضوع الواحد ، الواقعين تحت جنسٍ قريب وبينهما غاية الاختلاف ، كالسواد والبياض المتعاقبين على المحلّ الواحد ، فإنّهما أمران وجوديان يجتمعان تحت مقولة الكيف المحسوس لكنْ بينهما الاختلاف في الغاية.

وعلى هذا ، فالتضادّ من أوصاف الموجودات الخارجية ، وهي التي يتصوّر فيها التضادُّ ، دون الأحكام التكليفية :

أمّا على القول : بأن الأمر والنهي هما البعث والزجر الاعتباريّان ، فلأنّ البعث

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣٠٨.

٦٢

والزجر عبارة عن المعنى الاعتباري المنتزع من قول المولى «صلّ» وقوله «لا تغصب» ، ومن الواضح أن كلاًّ منهما إنشاء خاص مركّب من كيف مسموع ـ وهو لفظ «صلّ» ولفظ «لا تغصب» ، ومن كيف نفساني هو قصد ثبوت المعنى باللفظ ، وهما قائمان بالمولى المنشئ لا بالفعل الخارجي القائم بالغير ، والأمر الاعتباري المنتزع أيضاً قائم به لا بغيره ، ومقوّم هذا الأمر الاعتباري ـ وهو طرفه ـ لا يعقل أنْ يكون الهوية العينية القائمة بالمكلَّف ، لأن البعث الحقيقي يوجد سواء وجدت الهويّة العينيّة من المكلَّف أو لا ، ويستحيل أن يتقوَّم الموجود ويتشخّص بالمعدوم بل ما لا يوجد أصلاً كما في البعث إلى العصاة ، وحينئذٍ يكون المتعلَّق المقوِّم لهذا الأمر الاعتباري والمشخّص له هو الفعل بوجوده العنواني الفرضي الموافق لُافق الأمر الاعتباري والمسانخ له (قال) : فاتضح ممّا ذكرنا : أن البعث والزجر ليسا من الأحوال الخارجية ، بل من الامور الاعتبارية ، وأن متعلَّقهما ليس من الموجودات العينية بل العنوانية.

وأمّا على القول : بأنّ الحكم عبارة عن الإرادة في الوجوب والكراهة في الحرمة ، فقد ذكر وجوهاً لعدم التضادّ ، لأن الإرادة والكراهة ـ سواء التكوينية أو التشريعية ـ قائمتان بالنفس ، لكنهما من الامور ذات التعلّق ، والمتعلّق لهما عين وجود الإرادة والكراهة ، وعليه : فإنّ متعلَّقهما هو الوجود النفساني للمراد والمكروه ، لا الوجود الخارجي ، وإلاّ يلزم وجودهما بلا طرفٍ ، وحينئذٍ ، يكون متعلَّق الإرادة وطرفها موجوداً بوجود الإرادة ، وكذا الكراهة ، ولمّا كانت الإرادة غير الكراهة وبينهما تغاير ، فكذلك بين المتعلَّقين لهما ، فلا يجتمعان في واحدٍ ، فلا تضاد ، وهذا هو الوجه الأوّل.

الوجه الثاني : إن الإرادة أمر نفساني ـ وكذلك الكراهة ـ ولا يعقل تعلّقها بالموجود الخارجي وإلاّ يلزم انقلاب النفساني خارجيّاً والخارجي نفسانياً ، نعم ،

٦٣

الإرادة علّة لتحقّق الشيء في الخارج ، وهذا غير أنْ يكون الخارج متعلّقاً لها ، فلا ينبغي الخلط.

الوجه الثالث : إن طبيعة الشوق ـ بما هو شوق ـ لا تتعلَّق إلاّ بالحاصل من وجهٍ والمفقود من وجه ، إذ الحاصل من جميع الجهات لا جهة فقدان له كي يشتاق إليه النفس ، والمفقود من جميع الوجوه لا ثبوت له بوجهٍ كي يتعلَّق به الشوق ، فلا بدَّ من حصوله بوجوده العنواني الفرضي ليتقوم به الشوق ، ولا بدّ من فقدانه بحسب وجوده التحقيقي كي يكون للنفس توقان إلى إخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعلية ... وحاصل هذا : أن الموجود الخارجي يستحيل أن يكون هو المتعلَّق للإرادة والكراهة ، لكونه موجوداً من جميع الجهات.

وهذه الوجوه جارية في الإرادة التكوينية والتشريعية معاً ، غير أنّ التكوينية لا واسطة فيها بخلاف التشريعية ، إذ المراد صدور الفعل من المكلَّف ، والتكوينية لا تتعلَّق بالمعدوم كما تقدَّم ، بخلاف التشريعية ، فإنّها تتعلَّق بالفعل الذي يراد صدوره من المكلف.

رأي السيد الخوئي

ولما ذهب إليه المحقق الاصفهاني ، قال تلميذه في (المحاضرات) (١) بعدم وجود التضادّ بين الأحكام أنفسها ، بل هو في مبدأ الحكم وفي منتهاه. أمّا عدم وجوده بينها ، فلأن البعث والزجر أمران اعتباريان ولا تمانع بين الاعتباريين.

لكنه في مبدإ الحكم وهو المحبوبية والمبغوضية ، فإنهما لا يجتمعان في الشيء الواحد ، وكذا في منتهى الحكم وهو مقام الامتثال ، لأن الفعل والترك لا يجتمعان.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٤١٣.

٦٤

نظر الشيخ الأُستاذ

ثم إن الشيخ الأُستاذ بعد أنْ شرح كلام المحقق الاصفهاني رحمه‌الله ، أشكل عليه بعد بيان امور :

أولاً : إنه ليس المقصود من التضادّ في هذه المقدّمة هو التضادّ الفلسفي ، بل المراد التضادّ الاصولي ، أي : إن اجتماع الأمر والنهي في الواحد ذي العنوانين مستحيل من جهة أنه بنفسه محالٌ ، لا من جهة أنه من باب التكليف بالمحال ، وليس البحث في أن الوجوب والحرمة هل يمكن اجتماعهما في الموجود الخارجي أو لا يمكن.

وثانياً : إن الأقوال في حقيقة الحكم مختلفة ، فقيل : الإرادة والكراهة ، مع قيد الإبراز وعدمه. وقيل : الطلب الإنشائي بالفعل أو بالترك ، أو الطلب والنهي الإنشائي ، أو البعث والزجر الإنشائي ، أو البعث والزجر الاعتباري ، وقيل : الاعتبار المبرز لثبوت الفعل في الذمّة ولحرمان المكلّف من الشيء.

ومختار المحقق الأصفهاني : إن حقيقة الحكم عبارة عن الدّاعي والزّاجر الإمكاني ، فالمولى يحكم بداعي جعل الدّاعي الإمكاني للفعل وبداعي جعل الزّاجر الإمكاني عن الفعل ، بخلاف الإنشاءات الامتحانية والتعجيزية ونحوها ، فإنّ مثل (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئينَ) (١) ليس بداعي جعل الدّاعي بل هو تعجيز.

فهو يرى إن قوله «صلّ» دعوة العبد إلى الصّلاة وتحريك له نحوها ، وقوله «لا تغصب» زاجر له عن ذلك ، وهكذا إنشاء يسمّى بالحكم ، فالصّادر من المولى هو «الإنشاء» وهو في مرحلة الإمكان ، فإن كانت نفس العبد خالية من موانع العبودية ، وصل الحكم إلى مرحلة الفعلية بالامتثال ، وإلاّ بقي في مرحلة الإمكان والقوة.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٦٥.

٦٥

وثالثاً : إنه لا إهمال في الواقع في متعلَّقات التكاليف المولوية ، بل المتعلَّق إما مطلق وإما مقيَّد ، نعم ، يمكن الإهمال في مرحلة البيان والإثبات ، بأنْ لا يذكر المولى كلّ الخصوصيّات المقصودة في المتعلَّق.

وبعد المقدّمات نقول بناءً على مختاره في حقيقة الحكم :

إن متعلَّق الأمر في «صلّ» هو صرف وجود الصّلاة ، ومتعلَّق النهي في «لا تغصب» هو مطلق وجود الغصب ، فهل إنّ متعلَّق الأمر ـ بعد استحالة الإهمال ـ بالنسبة إلى الغصب مطلق أو مقيّد؟ لا ريب في عدم تقيّد الصّلاة بالغصب لا بوجوده ولا بعدمه ، أمّا عدم تقيّدها بوجوده فواضح ، وأمّا عدم تقيّدها بعدمه فلأنه لا بيان عن ذلك في مقام الإثبات ، إذ لم يقل صلّ في غير المكان المغصوب ... فالصّلاة بالضرورة مطلقة بالنسبة إلى الغصب ، وحينئذٍ ، لا بدّ وأن يكون لمثل هذا الأمر المطلق إمكان الداعوية في نفس المكلَّف ، لينبعث نحو الإطاعة والامتثال لصرف وجود طبيعة الصّلاة ، وإلاّ يلزم الخلف.

هذا في جهة الأمر.

وكذلك الكلام في جهة النهي وتحريم الغصب ، فلا بد وأنْ يكون مطلقاً وأن يكون لهذا الإطلاق الشمولي إمكان إيجاد الداعي في نفس المكلَّف للانزجار ، أي يكون له إمكان الزاجرية عن الغصب.

ثم إنه يقول : إنّ وحدة متعلَّق الأمر ومتعلَّق النهي ليست شخصية بل هي وحدة طبيعية ، فالصّلاة طبيعة واحدة لا شخص واحد ، وكذلك الغصب ... لكنّ السؤال هو : هل لهذه الطبيعة الواحدة ـ التي هي لا بشرط بالنسبة إلى الطبيعة الواحدة الاخرى ـ إمكان الداعويّة نحو جميع مصاديقها أو لا؟ إنه لا بدّ أنْ يكون للطبيعة المتعلَّق بها الحكم بنحو لا بشرط ، إمكان الداعويّة إلى كلّ واحدٍ من

٦٦

مصاديقها ، وإلاّ لم يعقل أن يجعل المطلق داعياً أو زاجراً ، لكنّ فعلية إمكان داعويته بالنسبة إلى هذا الفرد ـ أي الصّلاة في المكان المغصوب ـ مستحيلٌ ، وإذا استحالت فعليّته بسبب وحدة الوجود ، استحال جعله ، لأنّه في مثل هذه الحالة يستحيل تحقق الداعي للمولى للجعل ....

وعلى الجملة ، فإنه لا مجال للمحقّق الأصفهاني لإنكار الإطلاق ، واشكاله على (الكفاية) مندفع بناءً على مختاره في حقيقة الحكم ... وبهذا يظهر أنّ المورد من التكليف المحال لا التكليف بالمحال.

وهذا كلّه بناءً على مختاره ، وأمّا على سائر المباني فالأمر سهل.

أمّا على القول ، بأنَّ حقيقة الحكم هو الاعتبار المبرز وهو مختار (المحاضرات) ، فالسؤال هو : هل المراد من الاعتبار المبرز مطلق الاعتبار أو خصوص الاعتبار بداعي تحريك العبد نحو الفعل أو زجره؟ إن كان الأول ، تمّ ما ذكره في (المحاضرات) ، لا سيّما وأن الاعتبار حفيف المئونة ، لكنّ محلّ الكلام هو الحكم الوجوبي أو التحريمي ، والحكم ليس مطلق الاعتبار بل إنه الاعتبار المبرز بداعي تحريك المكلّف نحو الامتثال أو بداعي زجره ... وإذا كان كذلك توجّه عليه ما توجّه على المحقق الاصفهاني.

ثم لا يخفى أنه إذا كان متعلَّق التكليف صرف وجود الطبيعة ، ففي ترخيص المكلَّف في على الفرد قولان ، فقيل : إنه بحكم العقل ، وقيل : إنه بحكم الشرع ، فلمّا قال المولى «صلّ» فقد أفاد أن المطلوب من المكلّف صرف وجود الصّلاة وأنه مخيّر في الإتيان بأيّ فردٍ من أفرادها ... والسيد الخوئي من القائلين بهذا القول ، وعليه ، فإن الإشكال يكون آكد ... لأنه أصبح مرخّصاً في تطبيق الأمر بالصّلاة على الفرد المتّحد منها مع الغصب ، وكذا في تطبيق النهي عن الغصب ،

٦٧

لكنّ الترخيص في التطبيق مع النهي عن الغصب محال ... فاستحال أصل التكليف ، وأنّ التمانع موجود بين الحكمين.

وبما ذكرنا ظهر وجود التضادّ بين الحكمين ، وأنه ليس في المبدا والمنتهى فحسب.

إشكال السيد البروجردي على المقدمة الاولى

وقال المحقق البروجردي ما حاصله (١) : إنّه وإنْ تسالموا على التضاد بين الأحكام الخمسة لكنّ التحقيق خلافه ، لأنّ الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام ليست من العوارض لفعل المكلّف ، بل هي بحسب الحقيقة من عوارض المولى ، لقيامها به قياماً صدوريّاً.

نعم ، للأحكام ثلاث إضافات لا يعقل تحقّقها بدونها ، فإضافة إلى المولى ، بالآمر والناهي ، وإضافة إلى المكلَّف ، ويتّصف بها بعنوان المأمور والمنهي ، وإضافة إلى المتعلَّق ويتّصف بها بعنوان المكلَّف به ....

لكنّ الإضافة شيء والعروض شيء آخر ، إذ ليس كلّ إضافة مساوقاً للعروض ، فالحكم من عوارض المولى فقط ، لصدوره عنه وقيامه به قيام العرض بمعروضه ، أمّا إضافته إلى المكلَّف والمتعلَّق فليس من هذا القبيل ، لعدم كونه ممّا يعرض عليهما خارجاً وعدم كونهما موضوعين للأمر والنهي ، بداهة أن العرض الواحد ليس له إلاّ موضوع واحد ... كيف ، ولو كانا من عوارض المتعلَّق ـ وهو فعل المكلَّف ـ لم يعقل تحقق العصيان أبداً ، لأنه متوقف على ثبوت الأمر والنهي ، ولو كانا من عوارض الفعل الخارجي توقف تحقّقهما على ثبوت الفعل في الخارج ـ ولو في ظرفه لو سلّم كفاية ذلك في تحقق العروض ـ وحينئذٍ ، فكيف يعقل

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٢٨ ـ ٢٣٠.

٦٨

العصيان ، إذ وجود المأمور به امتثال للأمر لا عصيان ، فمن هنا يعلم أنهما ليسا من عوارض الفعل ، بل من عوارض المولى وقد صدرا عنه متوجّهين إلى الجميع حتى العصاة ، غاية الأمر أن لهما نحو إضافة إلى الفعل الخارجي أيضاً ، إضافة العلم إلى المعلوم بالعرض.

فتلخّص : إنه لا يكون الوجوب والحرمة عرضاً للمتعلَّق حتى يلزم بالنسبة إلى الجمع اجتماع الضدّين ، إذ التضاد إنما يكون بين الامور الحقيقيّة ، والعروض إنما يكون في ناحية المولى ، وحينئذٍ ، على القائل بالامتناع إثبات امتناع أن ينقدح في نفس المولى إرادة البعث بالنسبة إلى حيثيّةٍ حينئذٍ وإرادة الزجر بالنسبة إلى حيثيّة اخرى متصادقة مع الاولى في بعض الأفراد ، وأنّى له بإثبات ذلك.

نظر الشيخ الأُستاذ

وقد تعرّض شيخنا لهذا بعد النظر في كلام المحقق الأصفهاني وقال : إنه بما ذكرنا يظهر ما فيه ، لأن المقصود هو أن اجتماع الأمر والنهي من التكليف المحال لا التكليف بالمحال ، وإذا كان الحكم من عوارض المولى المكلِّف وأنه لا مانع من انقداح إرادة البعث والزجر في نفس المولى ، فإنّ «البعث» و «الزجر» من الامور ذات الإضافة ، فلا ينفكّان عن المبعوث والمبعوث إليه ، وعن المزجور عنه ، وحينئذٍ ، كيف يجتمع الأمر والنهي؟

مضافاً إلى ما في قوله من أن الحكم من عوارض المولى فقط ، لكنْ له ثلاث إضافات وأنه يجوز أن يكون طرف الإضافة معدوماً كما في تكليف العاصين.

وبيان الإشكال :

أولاً : إنه كما لا يمتنع كون الفعل المعدوم معروضاً للوجوب ، كذلك لا يمكن كونه طرفاً للإضافة ، ولو جاز وقوعه طرفاً لها جاز كونه معروضاً له.

٦٩

وثانياً : إن الإضافة متقوّمة بالطرفين ، فإن كان طرف الإضافة هو الفعل بوجوده العنواني الذي في الذهن ، ففيه : إنه غير صالح لأن يكون طرفاً لها ، لأنه موجود بعين وجود الحكم ومقوّم له. وإن كان الفعل الخارجي ـ كما صرّح به ـ ففيه : إنّ الخارج ظرف سقوط الحكم فيستحيل أن يكون طرفاً للحكم.

هذا تمام الكلام في المقدمة الاولى.

المقدمة الثانية (في تعيين متعلَّق الحكم)

قال : إنه لا شبهة في أنّ متعلّق الحكم هو فعل المكلّف وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه كما هو واضح ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه ، ضرورة أن البعث ليس نحوه والزجر لا يكون عنه.

وتوضيح ذلك :

إن العنوان عبارة عن المفهوم المنتزع من الشيء والمحمول عليه ، وهو على ثلاثة أقسام ، لأنّه ينتزع تارةً : من الذات كالإنسانية المنتزعة من ذات الإنسان ذي الجنس والفصل ، واخرى : ينتزع من خارج الذات ، وهذا على قسمين ، لأنّه تارةً : من الامور الخارجية كالبياض ، فإنه ينتزع منه الأبيض ويحمل على الشيء ، واخرى : من الامور التي لا خارجية لها ، كالزوجية المنتزعة من الزوج والرقيّة المنتزعة من الرق والمغصوبية المنتزعة من الغصب ....

يقول المحقق الخراساني : إنه لا شيء من هذه الأقسام بمتعلَّق للحكم ، لأنَّ موطنها هو الذهن فقط ، وليس له وجود خارجي حتى يكون حاملاً للغرض فيكون مطلوباً مبعوثاً إليه.

كما أنّ متعلَّق الحكم ليس اسم الصّلاة ، لعدم كونه المطلوب المبعوث إليه ، كما هو واضح.

إذن ... ليس المتعلَّق إلاّ الفعل الصادر من المكلَّف ، وهو الصّلاة الخارجية

٧٠

والغصب ، هما لا يجتمعان بعد ثبوت التضادّ بينهما.

فظهر أن كلامه يشتمل على جهة نفي وجهة إثبات.

إشكال المحقق الاصفهاني

فأشكل عليه المحقق الأصفهاني قائلاً (١) : قد مرّ في مبحث تعلّق الأمر بالطبيعة أن الموجود الخارجي لا يقوم به الطلب ، والإيجاد عين الوجود ذاتاً وغيره اعتباراً ، فلا فرق بينهما في استحالة تعلّق الطلب بهما.

يقول رحمه‌الله : إن الطلب أمر نفساني ، والأمر النفساني لا يتعلَّق بالخارج ، فما صدر خارجاً لا يتعلَّق به الطلب.

وأيضاً ، فإنّه إذا كان متعلَّق الطلب إيجاد الطبيعة ، فإن الإيجاد والوجود واحد حقيقةً ، فالموجود الخارجي لا يقوم به الطلب.

وحاصل كلامه : عدم صلاحيّة ما صدر لأنْ يكون متعلَّق الطلب.

ثم بيّن مختاره في المتعلَّق فقال :

إنّ القوّة العاقلة كما لها قوّة ملاحظة الشيء وتصوّره بالحمل الأوّلي ، بأنْ تدرك مفهوم الإنسان وهو الحيوان الناطق ، كذلك لها قوة ملاحظة الشيء بالحمل الشائع ، فتلاحظ الصّلاة الخارجية التي حيثية ذاتها حيثية طرد العدم وهي التي يترتب عليها الغرض ، فيطلبها ويبعث نحوها.

وحاصل كلامه : إن القوة العاقلة كما لها درك المفاهيم ، كذلك لها درك الوجودات قبل وجودها ، فالصّلاة الملحوظة قبل الوجود هي متعلَّق الأمر ، لا مفهومها ولا الوجود الخارجي لها.

وتلخّص : إن المتعلَّق هو الوجود التقديري للصّلاة ، وليس الوجود

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣١٣.

٧١

الخارجي كما ذكر في (الكفاية) ، بل هو معلول للطلب الذي تعلَّق بالوجود التقديري.

إشكال السيد الحكيم

وأشكل السيد الحكيم (١) فقال : قد تكرّر بيان أن الأفعال الخارجيّة ليست موضوعةً للأحكام ، فإن ظرف الفعل ظرف سقوط الحكم لا ثبوته ، بل موضوعها الصّور الذهنية الحاكية عن الخارج بنحو لا ترى إلاّ خارجية ، فلذا يسري إلى كلٍّ منهما ما للاخرى ، فترى الصّور الذهنية موضوعات للغرض مع أن موضوعه حقيقةً هو الخارجي ، ويرى الخارجي موضوعاً للحكم والإرادة والكراهة مع أنّ موضوعها حقيقةً هو نفس الصّورة.

دفاع الأُستاذ عن الكفاية

وقد دافع الأُستاذ عن كلام صاحب (الكفاية) : بأن محطّ الإشكال قوله : «فعل المكلَّف وما هو في الخارج يصدر عنه» حيث توهّم أن المتعلَّق هو الفعل الصّادر ، لكنّ كلامه في بحث متعلَّق الأوامر والنواهي يوضّح المراد ويرفع الإشكال ، إذ ذكر هناك أنّ المتعلّق ليس : الطبيعة بما هي هي ، لأنها ليست إلاّ هي ، فلا يعقل أن يتعلّق بها طلب لتوجد أو تترك ، وليس المتعلَّق : ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم تحصيل الحاصل كما توهّم ، بل إنه لا بدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم مع الطبيعة ، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه كي يكون ويصدر منه ....

فما ذكره هناك صريح في عدم إرادة أنّ المتعلَّق هو الفعل الخارجي الحاصل حتى يرد الإشكال ، بل المتعلَّق هو ما يلحظ قبل الطلب ، فيكون للفعل

__________________

(١) حقائق الاصول ١ / ٣٧٠.

٧٢

وجود لحاظي عند المولى ، ثم يطلب ويراد صدوره من المكلَّف وإيجاده منه خارجاً ... فلا مجال للإشكال المذكور بل مراده نفس مراد المحقق الأصفهاني.

أقول :

بل يمكن أن يقال باندفاع الإشكال بالتأمّل في نفس كلامه في المقام ، لأنّه يقول : «هو فعل المكلَّف وما هو في الخارج يصدر عنه ...» فإنّ تعبيره بالفعل المضارع ظاهر في عدم كون المتعلَّق هو الفعل الصّادر وأن المراد طلب صدوره منه فيما بعد ، وظهور الكلمة في هذا المعنى يكفي لعدم ورود الإشكال ، وهذا هو الذي نصّ عليه ـ في تلك المسألة ـ بقوله : «بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد».

فتحصّل تماميّة المقدمة الثانية كذلك.

المقدمة الثالثة (تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون)

قال : لا يوجب تعدّد الوجه والعنوان تعدّد المعنون ولا ينثلم به وحدته ....

توضيحه : هناك عنوان ومعنون لا يمكن اتّحادهما أبداً ، مثل العلّة والمعلول ، فلا يعقل الاتحاد بين النار والحرارة ، ولا يعقل صدقهما على الشيء الواحد ... وهناك تعدّد للعنوان لكن يمكن الاتحاد في المعنون لهما ، كما في المحبّ والمحبوب ، فإنّ الإنسان يحبّ نفسه ، فيقع الاتحاد بين العنوانين ، وهناك مورد تكون العناوين متعدّدة لكن المعنون واحد ... وهو الباري عزّ وجلّ ، حيث المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة تصدق عليه وتحكي عنه وهو بسيط من جميع الجهات ....

إذن ... لا يوجب تعدّد العنوان تعدّد المعنون ... فيمكن تعدّد العنوان مع وحدة المعنون.

وهذه المقدمة لا بحث فيها.

٧٣

المقدمة الرابعة (لكلّ موجود بوجود واحد ماهيّة واحدة)

قال : إنه لا يكاد يكون للوجود بوجود واحد إلاّ ماهيّة واحدة وحقيقة فاردة ، فالمجمع وإنْ تصادق عليه متعلَّقا الأمر والنهي إلاّ أنه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ذاتاً (قال) : ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهيّة. ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة كما توهّم في (الفصول).

قال : كما ظهر عدم الابتناء على تعدّد وجود الجنس والفصل في الخارج وعدم تعدّده ، ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له.

توضيح ذلك : لقد نسب المحقق الخراساني إلى صاحب (الفصول) القولَ بأنّ مقتضى مبنى أصالة الوجود هو الالتزام ، لأنه بناءً عليه يمكن أن توجد ماهيّة الصّلاة وماهيّة الغصب بوجود واحد ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون الشيء الواحد متعلَّقاً للوجوب والحرمة معاً ، وأمّا بناءً على أصالة الماهيّة ، فإنّ وجود كلّ ماهيّة في الخارج غير وجود الاخرى ، وإذا حصل ماهيّتان جاز أن تكون احداهما متعلَّق الوجوب والأخرى متعلَّق الحرمة ولا يلزم الاجتماع.

فأشكل عليه : بأنّ الوجود الواحد يستحيل أن يكون له ماهيّتان ، وكذا العكس ، فسواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهيّة ، فإنّ وحدة الوجود تقتضي وحدة الماهيّة وهكذا بالعكس ، ولا يتوهّم تنظير ما نحن فيه بوحدة وجود الجنس والفصل ، لأنّ نسبة الجنس إلى الفصل هو نسبة القوّة إلى الفعل والماهيّة التامة إلى الناقصة ، بخلاف ما نحن فيه ، حيث الماهيّتان تامّتان ويستحيل تحقّقهما بوجودٍ واحد.

٧٤

(قال) وليس الصّلاة والغصب ـ مثلاً ـ من قبيل الجنس والفصل حتى تبتني هذه المسألة على وحدة وجودهما في الخارج فيقال بالامتناع أو تعدّدهما فيقال بالجواز ، وذلك : لأنا نمنع القول بتعدّد وجودهما ، لأنهما في الحقيقة شيء واحد ، والفرق بينهما ليس إلاّ من حيث التحصّل وعدم التحصّل. هذا أوّلاً. وثانياً : لو سلّمنا التعدّد فيهما ، فإنّ نسبة الصّلاة إلى الغصب ليس نسبة الجنس إلى الفصل ، وإلاّ لزم أنْ لا توجد الصّلاة إلاّ مع الغصب كما لا يتحقق الجنس إلاّ مع الفصل.

نتيجة المقدمات

قال في (الكفاية) : إذا عرفت ما مهّدناه ، عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً ـ وجوداً وذاتاً ـ كان تعلّق الأمر والنهي به محالاً ولو كان تعلّقهما به بعنوانين ....

وحاصل كلامه بالنظر إلى المقدّمات المذكورة : إنّ المركب لكلٍّ من الحكمين هو المعنون لا العنوان ، وهو واحد مع تعدّد العنوان ، ووحدة المعنون هي في الوجود والماهيّة معاً ، هذا كلّه مع التضاد بين الأحكام ... فيكون الشيء الواحد ذو الوجود الواحد والماهية الواحدة متعلَّقاً للأمر والنهي معاً ، ويلزم اجتماع الضدّين ، وهو محال ، وما يلزم من المحال محال ، فالاجتماع محال ، والنتيجة هي الامتناع.

نظر الأُستاذ

لكنّ المهمّ في البحث هو قضية وحدة المعنون وتعدّده ، والنتيجة المطلوبة ـ أعني الامتناع ـ موقوفة على وجود الملازمة بين تعدّد العنوان والمعنون ، وقد تقدَّم في بيان المقدّمات أنْ لا ملازمة ، فقد يتعدّد العنوان ويستحيل تعدّد المعنون كما في ذات الباري عزّ وجل ، وكما في الجنس والفصل حيث أن الحيوان والناطق

٧٥

مثلاً عنوانان ذاتيّان لكنّ المعنون لهما واحد وهو الإنسان ... ولذا كان التركيب بين الجنس والفصل اتحادياً ـ على التحقيق ـ لا انضماميّاً ، وقد يكون أحدهما ذاتيّاً والآخر عرضيّاً ، مثل الأكل والإفطار ، لكنّ المعنون ـ وهو ازدراد الشيء ـ متّحد غير متعدّد ... وقد يكون العنوانان أمرين انتزاعيين قد انتزعا من أمرين ذاتيين ، كما إذا انطبق عنوان النور على العلم والظلمة على الجهل ... فالمعنون متعدّد ....

والحاصل : إن الموارد مختلفة ، فإنْ كان هناك ماهيّتان ووجودان بينهما تلازم اتفاقي لا دائمي وقلنا بعدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر ، كان القول بعدم الامتناع ضروريّاً.

هذا هو كبرى المطلب ، ويبقى الكلام في الغصب والصّلاة وأنهما من أيّ قسمٍ من الأقسام ، وسيأتي إن شاء الله ، بعد ذكر أدلّة الجواز ، تبعاً لشيخنا في الدورة اللاّحقة.

أدلّة القول بالجواز

وقد استدلّ القائلون بالجواز بوجوه منها :

الوجه الأوّل

قال المحقق القمي (١) والشيخ الأعظم (٢) ما حاصله :

إن متعلَّق الأمر هو طبيعي الصّلاة ومتعلَّق النهي هو طبيعي الغصب ،

__________________

(١) قوانين الاصول ١ / ١٤١.

(٢) مطارح الأنظار : ١٤٤.

٧٦

والطبائع متباينة ، ويكون أفرادها مقدمة لتحقّقها. أمّا على القول بعدم وجوب المقدّمة ، فالأمر واضح ، وأمّا على القول بوجوبها ، فإنّ وجوب الفرد غيري ولا محذور في اجتماع الواجب الغيري مع الحرمة الغيريّة.

وفيه :

أوّلاً : إنه سيأتي أن الغَصب عنوان انتزاعي من التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، فقد ينتزع من نفس الصّلاة حالكونها في ملك الغير ، فلم يغاير متعلَّق الأمر متعلَّق النهي.

وثانياً : إن نسبة الفرد إلى الطبيعة ليست نسبة المقدّمة إلى ذيها ، بل إن الطبيعي موجود بوجود الفرد.

وثالثاً : لو سلّمنا ، فإنّ محذور اجتماع الضدّين موجود في الواجب والحرام الغيريين كما هو في النفسيين.

الوجه الثاني

ذكره بعض المتقدمين ، ونقّحه في (المحاضرات) (١) ضمن أربع مقدمات : الاولى : إنّ الأمر ـ وكذا النهي ـ إذا تعلَّق بشيء فإنّه لا يتجاوز عن الشيء إلى ما يقارنه أو يلازمه ، لأن المتعلَّق هو الذي يقوم به الغرض من الأمر والنهي.

الثانية : إن المتعلَّق هو الطبيعي ، إلاّ أنْ مقتضى ذات الطبيعة هو سراية الحكم منها إلى الفرد ، ولا علاقة لهذه السراية بإرادة الآمر أو الناهي ، فلو تعلَّقت إرادته بذلك لزم عليه الإتيان بما يدلّ عليه في مقام الإثبات ، كأن يقول : أكرم كلّ عالمٍ ، فيأتي بلفظ «كلّ» الدالّ على عموم الأفراد ، لإفادة أن الحكم متوجّه إليهم لا إلى طبيعي العالم.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

٧٧

الثالثة : إن الطبيعة اللاّبشرط تتّحد مع البشرط ، إلاّ أنّ هذا الاتّحاد لا يوجب سراية الحكم من الطبيعة إلى الشرط وكاشفيّتها عنه ، فالرقبة وهي لا بشرط عن الإيمان والكفر تتّحد مع الإيمان ولا تكون كاشفةً وحاكيةً عنه ، كما أنّ الحكم المتعلَّق بالرقبة لا يسري إلى الإيمان ، فلا سراية ولا حكاية ، بل كلّ لفظٍ يكون حاكياً عن مفهومه فقط ....

الرابعة : إن متعلّق الحكم هو نفس الطبيعة ـ لا ما يصدر من المكلّف كما في (الكفاية) ـ فلا دخل للوجود الذهني ولا الخارجي في المتعلَّق ، والطبائع متباينة كما تقدّم.

ونتيجة هذه الامور :

إنّه لمّا كان المتعلَّق هو ما يقوم به الغرض ولا يتجاوزه إلى غيره ، فالصّلاة متعلَّق الأمر ولا يتجاوز الأمر إلى ما قارنها كالغصب ، وكذا العكس ، ولمّا كان المتعلَّق هو الطبيعي ولا يسري الحكم عنه إلى أفراده ، فإذا أمر بالصّلاة فلا لحاظ لأفرادها حتى يتوجّه إلى منها الواقع في الدار المغصوبة. نعم ، هذا السريان موجود بحكم العقل ، وذاك أمر آخر. ولمّا كان الاتّحاد غير موجب لسراية الحكم من طبيعةٍ إلى اخرى ، ولا للكشف عنها ، فلا حكاية للصّلاة المأمور بها عن الغصب المنهي عنه وبالعكس ... فأين يكون الاجتماع بين متعلَّق الأمر ومتعلَّق النهي

وفيه :

إنّه لا يخفى أنّ ملاك الامتناع هو التعارض بين الدليلين ، وإذا انتفى تحقّق ملاك الاجتماع ، لكنّ التعارض قد يكون بالدلالة المطابقيّة وبالدلالة الالتزامية ، واللازم قد يكون عقليّاً فلا يقبل الانفكاك عن الملزوم ، وإذا ثبتت هذه النقاط ، فإنّ

٧٨

الإطلاق ، ولو فرض عدم لحاظ خصوصيّات الأفراد ، لازمه ـ عقلاً ـ الترخيص في التطبيق على أيّ فردٍ يكون مصداقاً للطبيعة ، هذا في جانب الأمر. أمّا في جانب النهي ، فإنّه الزجر عن جميع الأفراد ... فالخصوصيّات موردٌ للتعرّض عقلاً وإنْ لم تكن مورداً لتعلَّق الأمر والنهي شرعاً ، وحينئذٍ ، يقع التمانع بين المدلولين العقليين الالتزاميين اللذين لا يمكن الانفكاك بينهما وبين الملزومين لهما ، فيمتنع الاجتماع.

وبعبارةٍ اخرى :

صحيح أنّ الإطلاق عبارة عن كون تمام الموضوع هو الطبيعة بلا لحاظٍ للأفراد والخصوصيّات وأنّه لا كاشفية لها عنها ، لكنّ جعل الإطلاق البدلي ـ وهو الذي في طرف الأمر ـ لا ينفك عقلاً عن لازمٍ هو الترخيص في التطبيق ، وجعل الإطلاقي الشمولي ، وهو في طرف النهي ، لا ينفكّ عقلاً عن لازم ، هو الزجر عن جميع مصاديق الغصب مثلاً ، وحينئذٍ ، يلزم التمانع بين اللاّزمين في محلّ الاجتماع بينهما ، وذلك يستلزم التمانع بين الملزومين ، وقد تقدّم استحالة الانفكاك بين اللّوازم والملزومات العقليّة ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين أو كليهما ، وهذا يساوق الامتناع.

وما ذكر (١) من أنّ الوجوب والحرمة عرضان قائمان بالنفس ، وأن الخارج ليس بمعروضٍ للإرادة والكراهة والوجوب والحرمة ، نظير تعلّق العلم والجهل معاً بالحيثيتين المتصادقين ، فإنه أيضاً ممكن ولا يلزم منه محذور اجتماع الضدّين. فإذا تعلّق العلم بمجيء عالم غداً والجهل بمجيء عادل ، فاتفق مجيء عالم عادل ، فوجود هذا المجيء من حيث أنه مجيء العالم معلوم ، ومن حيث أنه

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٣٢.

٧٩

مجيء العادل مجهول ، ومن المعلوم أنّ المعلومية والمجهوليّة ليستا إلاّ كالمحبوبيّة والمبغوضيّة والوجوب والحرمة ، فلو كان اجتماع عنواني الوجوب والحرام في مجمع الحيثيّتين موجباً لاجتماع الضدّين ، كان اجتماع عنواني المعلومية والمجهولية في مجيء العالم العادل أيضاً كذلك. والحاصل : إن الوجوب والحرمة لم يجتمعا في المتعلَّق كي يلزم المحذور ، بل محلّ اجتماعهما هو نفس المولى ، ولا محذور ، كما يجتمع فيها العلم والجهل ، وقد اضيف الحكمان إلى الخارج كلٌّ إلى جهةٍ كما في العلم والجهل ، ومع اختلاف الجهتين لا يلزم محذور اجتماع الضدّين.

فقد تقدّم الإشكال فيه. وأمّا التنظير بالعلم والجهل على ما ذكر ، فيرد عليه النقض : بأن لازمه أن يكون مثل : «أكرم العالم ولا تكرم الفاسق» من باب اجتماع الأمر والنهي ، فيما لو كان الرجل الواحد عالماً وفاسقاً معاً ، لاختلاف متعلّقي الأمر والنهي ، والحال أنه من باب التعارض.

وأمّا حلّ المطلب فهو : أن العلم والجهل وصفان لهما متعلَّقان متغايران ، إذْ تعلّق أحدهما بعنوان «العالم» والآخر بعنوان «العادل» ، أمّا في باب الأمر والنهي ، فإن المفروض أن السيد البروجردي يقول بوحدة المتعلّق ، وهو الوجود الذهني الحاكي عن الخارج والمرآة له ، فكيف يجتمع فيه الأمر والنّهي؟ وبعبارة اخرى : إن المفروض في الأمر والنهي وحدة المتعلَّق وهو الوجود ، بخلاف الحال في العلم والجهل ، فإنّ متعلَّق الأوّل حيثيّة علم زيد ومتعلَّق الثاني حيثيّة عدالته ، فقياس ما نحن فيه بالعلم والجهل مع الفارق.

وأمّا ما ذكره (١) من أنّ قضيّة الوجدان كون جواز الاجتماع من أبده

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٣٣.

٨٠