تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

القول بالامتناع ، لأن مدار البحث وحدة الوجود خارجاً وتعدّده ... وكذا الحال بناءً على الثاني ، لأن المراد من الفرد هو الحصّة من الماهيّة ، وعلى هذا ، فإن الفرد من ماهيّة الصّلاة غير الفرد من ماهيّة الغصب ، فإذا حصل وجود الحصّتين من الماهيتين المختلفتين بوجودٍ واحدٍ جاء البحث عن الجواز والامتناع ، لأنّ التركّب بينهما إن كان اتحاديّاً فالامتناع وإن كان انضماميّاً فالجواز.

نعم ، لو قلنا بتعلّق الأمر بالفرد بضميمة أمارات التشخّص ـ من الزمان والمكان وسائر الخصوصيّات ـ لزم القول بالامتناع ، للتباين بين الأفراد حينئذٍ بالضرورة. لكنّ المبنى باطل كما تقرّر في محلّه.

فظهر : أنه لا ارتباط بين هذه المسألة والمختار في تلك المسألة أصلاً.

الأمر الثامن (هل المسألة من باب التعارض بناءً على الامتناع؟)

ربما يتوهّم أنه على القول بالجواز تصحّ الصّلاة ، لانطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد ، فالإجزاء عقلي وإنْ كان عاصياً من جهة الغصب ، وأمّا على القول بالامتناع ، فالبحث من صغريات باب التعارض لا التزاحم ، ويلزم الرجوع إلى قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير أو التساقط ثم الرجوع إلى مقتضى الاصول.

فالمقصود هو الجواب عن توهّم كون المسألة ـ بناءً على الامتناع ـ من صغريات التعارض.

وتوضيح منشأ التوهّم هو : إن التعارض ـ كما لا يخفى ـ يكون تارةً بالتباين كما في : أكرم العالم ولا تكرم العالم ، واخرى بالعموم من وجهٍ كما في : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ... فمورد العموم من وجهٍ يعامل معه معاملة التعارض ، والنسبة بين «صلّ» و «لا تغصب» من هذا القبيل ، فلما ذا يرجع فيه إلى التزاحم؟

٤١

أجاب المحقق الخراساني بما حاصله :

أمّا في مقام الثبوت : بأنّ هذه الصّلاة يمكن أن تكون فاقدةً للملاك ، فلا يوجد فيها لا ملاك الصّلاتية ولا ملاك الغصبيّة ، ويمكن أن تكون واجدةً لملاك الصّلاتية فقط ، أو لملاك الغصبية فقط ، أو للملاكين معاً.

فالوجوه الثبوتية أربعة :

فإنْ كان كلاهما بلا ملاك ، فلا تعارض ولا تزاحم.

وإنْ كان أحدهما ذا ملاك والآخر بلا ملاك ، فكذلك ، بل يؤخذ بماله ملاك.

وإن كان كلاهما ذا ملاك ، فإنْ قلنا بجواز الاجتماع أخذنا بكلا الملاكين ، وإن قلنا بالامتناع أخذنا بالأقوى منهما ، وإنْ لم يوجد الأقوى في البين رجعنا إلى دليلٍ آخر أو إلى مقتضى الأصل.

وأمّا بحسب مقام الإثبات ، فإنّ مورد التعارض عدم وجود الملاك لأحد الدليلين ، ومورد اجتماع الأمر والنهي وجوده في كليهما ، فالقول بجريان قاعدة التعارض بناءً على الامتناع غير صحيح ، بل إن مجرّد احتمال أن يكون كلّ من الدليلين ذا ملاك يوجب الأخذ بكلا الدليلين ، فإن كانا في مقام بيان الحكم الاقتضائي طبّق قاعدة التزاحم ، وإن كانا في مقام بيان الحكم الفعلي ، فعلى الجواز يؤخذ بهما وعلى الامتناع تطبّق قاعدة الامتناع.

فظهر اندفاع التوهّم.

الإشكال على الكفاية

إنه لمّا جعل صاحب (الكفاية) مورد البحث ما إذا كان المجمع واجداً لملاك كلا الحكمين ، كالصّلاة في الدار المغصوبة ، فقد أورد عليه : بأن بحث الاجتماع مسألة يطرحها الاصوليون العدليّة القائلون بتبعيّة الأحكام للملاكات ،

٤٢

والأشاعرة المنكرون لذلك ، فجعل النزاع في المقام مبتنياً على كون المجمع واجداً لملاك الأمر والنهي في غير محلّه.

هذا أوّلاً (١).

وثانياً : إن ما ذكره من أن مورد التعارض هو أن يكون لأحد الحكمين ملاك دون الآخر ، غير صحيح ، لأنّ الأشاعرة المنكرين لتبعيّة الأحكام للملاكات قائلون بالتعارض بين الدليلين ، لأنّ حقيقته امتناع ثبوتهما في مقام الجعل وأن ثبوت كلّ منهما فيه ينفي الآخر ويكذّبه ، وحقيقة التزاحم كون المحذور في مقام الامتثال ، والحاصل : إنه إن كان المحذور في مقام الجعل فهو التعارض وإن كان في مقام الامتثال فهو التزاحم ، على مسلك العدلية والأشاعرة معاً.

وثالثاً : قوله بأنّه لو كان كلٌّ من الدليلين متكفّلاً للحكم الفعلي لوقع التعارض بينهما ، فعندئذٍ لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة ، إلاّ إذا جمع بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بمرجّحات باب المزاحمة.

فيه : إن موارد التوفيق العرفي غير موارد التعارض ، فإذا فرض التعارض بين الدليلين كان معناه عدم إمكان الجمع العرفي بينهما ، وفيما إذا أمكن ذلك فلا تعارض. ففرض التعارض مع فرض إمكان الجمع العرفي لا يجتمعان. بل يجمع بينهما جمعاً عرفيّاً. أمّا في مسألة الاجتماع ، فإنّ التنافي عقلي وليس بعرفي ، وهذا هو الفارق بين المسألتين (٢).

النظر في الإشكالات

فأمّا الإشكال الأوّل فوارد.

وأمّا الثاني ، فإنّه غير واردٍ على المحقق الخراساني ، لأنّه يرى ـ كما في باب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٤٦ ، محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٤٠٢.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٠٥ و ٢٠٦.

٤٣

التعادل والتراجيح من (الكفاية) (١) ـ أن التعارض عبارة عن تنافي الدليلين بالتناقض أو بالتضاد ، إمّا بالذات وامّا بالعرض.

ي فانتلاو بالذات بالتناقض ، كأن يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على عدم الوجوب.

ي فانتلاو بالتضادّ ، كأن يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة.

ي فانتلاو بالعرض ، كأن لا يكون بين الدليلين أي تنافٍ بالذات ، لكنْ يحصل بينهما من جهة دليلٍ من خارج ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة والآخر على وجوب الجمعة ، فلا تنافي والجمع ممكن ، لكنّ الإجماع على عدم الفريضتين ظهر يوم الجمعة يوجب التنافي بينهما.

والحاصل : إنه إذا كان هذا رأي صاحب (الكفاية) في حقيقة التعارض ، فالإشكال المذكور في المبنى ... لأنّه لا يرى أن قوام مسألة الاجتماع هو وجود الملاك للحكمين في المجمع ، فلو كان أحدهما فاقداً له دخل في باب التعارض ، وليس مقصوده من هذا الكلام عدم وجود الملاك لأحدهما في جميع موارد التعارض حتى يرد عليه الإشكال.

وأمّا الثالث : فمندفع كذلك ، لعدم الدليل على حصر التعارض بمورد التعارض العرفي ، بل الملاك تنافي الدليلين ، سواء كان بنظر العرف العام أو بحسب الدقّة العقلية.

وتلخص : انحصار الإشكال على (الكفاية) بالإشكال الأوّل.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٤٠٤ و ٤٠٥.

٤٤

الأمر التاسع (في الكاشف عن الملاك)

قال في الكفاية (١) : إنه قد عرفت أن المعتبر في هذا الباب : أنْ يكون كلّ واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها مشتملةً على مناط الحكم مطلقاً حتى في حال الاجتماع.

فلو كان هناك ما دلّ على ذلك من إجماع أو غيره فلا إشكال ، ولو لم يكن إلاّ إطلاق دليلي الحكمين ففيه تفصيل ، وهو :

إن الإطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي ، لكان دليلاً على ثبوت المقتضي والمناط في مورد الاجتماع فيكون من هذا الباب. ولو كان بصدد الحكم الفعلي فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز ـ إلاّ إذا علم إجمالاً بكذب أحد الدليلين ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين ـ وأمّا على القول بالامتناع ، فالإطلاقان متنافيان ، من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلاً ....

وتوضيح كلامه : إنّ الكاشف عن وجود الملاك تارةً : هو دليل خارجي من إجماعٍ أو غيره ، واخرى : لا دليل إلاّ إطلاق دليل وجوب الصّلاة وحرمة الغصب ، فإنهما بإطلاقهما يشملان مورد الاجتماع ويكشفان عن وجود الملاك لهما فيه.

فإن كان الأول ، فلا إشكال في ثبوت الملاك ، وكون البحث من هذا الباب.

وإن كان الثاني ففيه تفصيل.

وقبل أن نبيّن ذلك ، نذكر رأي المحقق الخراساني في مراتب الحكم ، فإنّه يرى أن للحكم أربع مراتب :

الاولى : مرتبة المقتضي ، وهي مرتبة وجود الملاك للحكم ، وأنّ الحكم

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٥.

٤٥

موجود في مرتبة ملاكه ، لأنّ كلّ مقتضى فهو موجود في مرتبة المقتضي له.

الثانية : مرتبة الإنشاء ، فإنّه لمّا كان الملاك موجوداً ، فإنّ الحاكم ينشئ الحكم ـ على طبق الملاك ـ بالنسبة إلى موضوعه المقدَّر الوجود ، فهذه مرتبة جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقيّة.

الثالثة : مرتبة الفعليّة ، أي مرتبة وجود الموضوع بجميع قيوده ، فإنه حينئذٍ تتحقّق الفعليّة للحكم ويحصل البعث أو الزجر من قبل المولى على المكلَّف.

الرابعة : مرتبة التنجّز ووصول الحكم إلى المكلّف.

فيقول المحقق الخراساني : إنه إن كان الإطلاق في مقام بيان الحكم الاقتضائي ، بأنْ كان كاشفاً عن المرتبة الاولى يعني وجود الملاك لهذا الحكم في مورد الاجتماع ، فإذا كشف الإطلاق عن ذلك فلا حالة منتظرة.

وأمّا إنْ كان الإطلاق في مقام بيان وجود الحكم الفعلي ، يعني وصول الحكم إلى مرتبة الفعليّة ، فإنْ قلنا بجواز الاجتماع بين الأمر والنهي ، فلا إشكال في استكشاف ثبوت الملاك في الحكمين ، والصّلاة صحيحة ، لوجود الملاك وقيام الدليل على جواز الاجتماع ـ كما هو المفروض ـ اللهم إلاّ إذا علم بكذب أحد الدليلين ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين. وإنْ قلنا بالامتناع فالإطلاقان متنافيان ـ لامتناع صدقهما معاً على المورد ـ من غير دلالةٍ لهما على ثبوت الملاكين للحكمين ، لأنّ انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له ، كذلك يمكن أن يكون لأجل انتفاء المقتضي ، فلا كاشف عن وجود الملاك حتى يكون من هذا الباب. اللهم إلاّ أن يقال : إن مقتضى التوفيق العرفي بين الدليلين هو حملهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر في الدلالة على الفعلية ، وإلاّ فخصوص الظاهر منهما ، فتتم الكاشفية كذلك.

كان هذا توضيح مطلب المحقق الخراساني في الأمر التاسع.

٤٦

الإشكال على المحقق الخراساني

فأشكل عليه في الميرزا (١) : بأنّ كون الحكم في محلّ الاجتماع فعليّاً تارةً واقتضائياً اخرى ، غير معقول ، لأنّ الحكم قبل وجود موضوعه خارجاً يكون إنشائياً ثابتاً لموضوعه المقدّر الوجود ، وبعد وجود موضوعه يستحيل أنْ لا يكون فعليّاً. وتبعه المحقق الخوئي وشيخنا الأُستاذ في هذا الإشكال.

وحاصل الكلام هو : إن بلوغ الحكم إلى مرتبة الفعليّة ـ وهي المرتبة الثالثة بناءً على نظريّة المحقق الخراساني ـ يتوقف على وجود موضوعه خارجاً بجميع قيوده وشروطه ، وعليه ، فلا يلازم أن يكون فعليّاً حين الجعل والإنشاء الحقيقيّة لما تقرّر من أن الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة ... فما في (الكفاية) من أن إطلاق كلٍّ من الدليلين قد يكون لبيان الحكم الفعلي ، غير صحيح.

هذا بالنسبة إلى الدلالة على الحكم الفعلي.

وأمّا بالنسبة إلى دلالة الدليل على الحكم الاقتضائي ، ففيه : إن الحكم الاقتضائي غير معقول ، لأنّ الحكم ـ سواء كان مجعولاً اعتباريّاً من الحاكم كما هو التحقيق ، أو كان الإرادة أو الكراهة المبرزة ـ لا يمكن أن يتكفّل الملاك في هذه المرتبة ، لأنّ مرتبة الاقتضاء هي مبدأ الحكم ، ومبدأ الشيء ليس من مراتبه ، إلاّ في الامور التكوينية النار ـ مثلاً ـ مبدأ للحرارة وهي موجودة بوجود النار.

والسبب في ذلك : أن تأثير الملاك وكون الحكم تابعاً له هو بمعنى أن الصّورة العلمية للملاك تكون علّةً فاعليةً للحكم ، فالحاكم عند ما يرى أن لهذا الفعل مصلحةً لزومية ، فالصّورة العلميّة لها تصير علّةً للحكم فينشئ الحكم على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٤٦ ـ ١٤٧.

٤٧

طبقها ، لا أنّ الحكم يترشح من الملاك حتّى يكون من قبيل المقتضي والمقتضى ليقال بوجود المقتضى مع المقتضي في مرتبته.

هذا هو الإشكال الثبوتي.

وأمّا إثباتاً ، فلأنه لا دليل على كون «صلّ» و «لا تغصب» في مقام بيان الملاك ، حتى يؤخذ بإطلاق الدليل. نعم الدليل الدالّ على الحكم الفعلي يكشف إنّاً ـ على مسلك العدليّة ـ عن وجود الملاك ...

فتلخَّص : عدم تماميّة كلام (الكفاية) في كلا طرفيه.

الأمر العاشر (في ثمرة البحث)

وقد ذكر في هذا الأمر الصور المختلفة للبحث وثمرته في كلّ منها.

فقال ما ملخّصه :

أمّا على القول بالجواز : فلا إشكال في حصول الامتثال وسقوط الأمر بالإتيان بالمجمع بداعي الأمر المتعلّق بالطبيعة ، سواءً في العبادات والتوصليات ، أمّا في التوصليّات فواضح ، لتحقّق الغرض من الأمر التوصّلي بمجرّد تحقق المأمور به خارجاً ، وأمّا في التعبديّات ، فلأن انطباق الطبيعة على هذا الفرد قهري ، فيكون الإجزاء عقليّاً ....

فلا إشكال حينئذٍ في الصّلاة في المكان المغصوب ، كما لا إشكال في ارتكاب الحرام ، لمعصية النهي عن التصرف في مال الغير بدون إذنٍ منه.

وأمّا على القول بالامتناع :

تارةً يقال : بتقدّم جانب الوجوب. فلا إشكال في حصول الامتثال وسقوط الأمر وعدم تحقق المعصية ، لكون العمل مصداقاً للمأمور به دون المنهيّ عنه.

وتارةً يقال : بتقدّم جانب الحرمة ، وهنا صور :

٤٨

١ ـ أن يكون ملتفتاً إلى الحرمة ، وفي هذه الصورة لا يمتنع قصد القربة ، ولا يكون العمل مصداقاً للمأمور به ، فلا يحصل الامتثال به.

٢ ـ أن يكون جاهلاً عن تقصير ، وفي هذه الصورة يكون العمل باطلاً ، لأنّه ـ وإنْ كان المكلَّف يتقرَّب به ، لجهله بالحرمة ـ عملٌ مبغوضٌ للمولى ، وهو لا يصلح لأن يقع حسناً ويحكم بصحته.

٣ ـ أن يكون جاهلاً عن قصور ، وفي هذه الصّورة يحكم بصحّة الصّلاة ، لكونها واجدةً للملاك ، فتصلح للتقرب ، وهو متمكن من القصد لأن جهله بالحرمة عن قصور لا تقصير ، فلا يقع الفعل منه قبيحاً ، بل يكون مشتملاً على المصلحة ومحصّلاً لغرض المولى وإنْ لم يكن امتثالاً.

هذا كلّه إن كان العمل عباديّاً كالصّلاة.

وأمّا إن كان توصليّاً ، فإن الأمر يسقط بمجرّد حصول المأمور به في الخارج.

ثم قال رحمه‌الله : مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك ، فإن العقل لا يرى تفاوتاً ....

ويقصد من ذلك استدراك ما تقدَّم منه من أنّ هذا العمل صحيح من جهة اشتماله على المصلحة وإنْ لم يكن امتثالاً للأمر ، بناءً على تبعيّة الأحكام لِما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً ، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح ، لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محلّه ... فيقول :

إنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال ـ في فرض الجهل بالحرمة قصوراً ـ حتى على القول بتبعيّة الأحكام لجهات المصالح والمفاسد واقعاً ، لأن العقل لا يرى تفاوتاً بين هذا الفرد من الفعل وبين سائر الأفراد في الوفاء بالغرض من

٤٩

الطبيعة المأمور بها (قال) : ومن هنا انقدح أنه يجزي ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحّة العبادة وعدم كفاية الإتيان بها بمجرَّد المحبوبيّة (قال) : وبالجملة ، مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حكماً ، يكون الإتيان بالمجمع امتثالاً وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة.

ثم قال :

غاية الأمر ، أنّه لا يكون ممّا تسعه بما هي مأمور بها لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعيّة. وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلاّ في مقام فعليّة الأحكام لكان ممّا تسعه وامتثالاً لأمرها بلا كلام.

وهذا منه استدراك آخر. يعني : إنّ تصحيح العمل بالإتيان به بداعي الأمر بالطبيعة ، إنما هو على القول بتزاحم الملاكات في مقام تأثيرها في الأحكام ووقوع الكسر والانكسار فيما بينها ، فإنه بناءً عليه يكون المجمع مورداً للنهي ، لأن المفروض تقدّمه من جهة كون مناطه أقوى من مناط الأمر. وأمّا لو قيل بعدم التزاحم فيما بينهما إلاّ في مقام فعليّة الأحكام ، لكان ممّا تسعه الطبيعة بما هي مأمور بها ، ولكان الإتيان بالمجمع امتثالاً للأمر المتعلَّق بالطبيعة بلا كلام ، إذ بناءً عليه ، لا تزاحم في مقام الإنشاء بل هو في مقام الفعليّة ، والمفروض عدم فعلية النهي ، لأنه مع الجهل به قصوراً لا داعوية له ، بل يكون الفعلي هو الأمر.

(قال) : وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين وقُدّم دليل الحرمة تخييراً أو ترجيحاً حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلاً ، وما إذا كانا من باب الاجتماع وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة ، حيث يقع صحيحاً في غير موردٍ من موارد الجهل والنسيان ، لموافقته للغرض بل للأمر.

وقد أشار بقوله : «للغرض» إلى الوجه الأول. وبقوله : «بل للأمر» إلى الثاني.

٥٠

(قال) : ومن هنا علم أن الثواب عليه من قبيل الثواب على الإطاعة لا الانقياد ومجرّد اعتقاد الطاعة.

والضّمير عليه يعود إلى الإتيان بالمجمع.

(قال) : وقد ظهر ممّا ذكرناه وجه حكم الأصحاب بصحّة الصّلاة في الدّار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالموضوع بل أو الحكم ، إذا كان عن قصور. مع أن الجلّ لو لا الكلّ قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة ، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر. فلتكن من ذلك على ذكر».

إشكال السيد صاحب العروة على القائلين بالجواز

وذهب صاحب (العروة) في رسالته في (اجتماع الأمر والنهي) إلى أنّ بتصحيح العمل بناءً على الجواز ـ من باب أن انطباق الكلّي على الفرد قهري والإجزاء عقلي ـ يرتفع التعارض في مثال البحث بين «صلّ» و «لا تغصب» عقلاً ، لكنه موجود بينهما عرفاً ولا يرتفع بما ذكر.

ولعلّ الوجه في هذا الإشكال هو : إن إطلاق النهي شمولي وإطلاق الأمر بدلي ، والبدلي مقدَّم في مورد الاجتماع على الشمولي ، فالصّلاة منهيٌّ عنها ...

وقد عبَّر في موضعٍ آخر : بأنْ النهي في «لا تغصب» تعييني ، والأمر في «صلّ» تخييري ، فيجب الاجتناب في مورد النهي عن جميع الأفراد والمصاديق ، أمّا الأمر ، فلا يجب عليه إلاّ الإتيان بأحد أفراد المتعلَّق ، وعند العرف يتقدّم الحكم التعييني على التخييري.

وهذا مقتضى عدّةٍ من النصوص من قبيل : «لا يطاع الله من حيث يعصى» وقوله عليه‌السلام : «لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم الله به فأنفقوه فيما نهاهم عنه ما قبله منهم ، ولو أنهم أخذوا ما نهاهم الله عنه وأنفذوه فيما أمرهم الله به ما قبله

٥١

حتى يأخذوه من حق وينفذوه في حق» (١) وقال : «يا كميل ، انظر فيمَ تصلّي وعلى مَ تصلّي إنْ لم يكن مِن وَجهه وحلِّه فلا قبول» (٢).

جواب الأُستاذ

وقد تنظر الأُستاذ في هذا الإشكال ، بأنه إن كان مراده : تقدّم الإطلاق الشمولي على البدلي في مورد التعارض ، ففيه : إنّه أوّل الكلام ، فمن العلماء من يقول في مثله بعدم الترجيح بل التساقط ... وهذا على فرض تحقق التعارض كما هو واضح ، ولكنْ لا تعارض هنا ، لأنه إنّما يكون مع وحدة الموضوع ، كما في المجمع بين «أكرم عالماً» و «لا تكرم الفاسق» ، أمّا في هذا المقام ، فإن الموضوع ـ على القول بالجواز ـ متعدّد ، إذ «الصّلاة» غير «الغصب» ، فلم يرد الإطلاقان على الموضوع حتى يتحقق التعارض العرفي بينهما.

وإن كان مراده : كون أحدهما تعيينيّاً والآخر تخييرياً ، والأوّل هو المقدّم عرفاً. ففيه : إن التخيير في متعلَّق الأمر أي «الصّلاة» عقلي لا شرعي ، فإنها واجبة بالوجوب التعييني ، غير أنّ العقل يرى كون المكلَّف مخيّراً في إيقاع هذا الفرد من الصلاة أو ذاك ، في المسجد أو في الدار ، لكون المتعلَّق للأمر هو الطبيعي ، وكلّ واحدٍ من أفراده مصداق له ومحقّقٌ للامتثال ... فكبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير وتقدّم الأوّل غير منطبقة على محلّ البحث ....

هذا ، مضافاً إلى ما تقدَّم من تعدّد الموضوع بناءً على الجواز ، والتعارض إنّما يكون مع وحدة الموضوع والمتعلّق لا تعدّده ... لأن المفروض أن التركيب بين «الصّلاة» و «الغصبية» انضمامي وليس اتحاديّاً ... وكون المجمع بنظر العرف

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ٥ / ١١٩ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢ من أبواب حكم الصّلاة في المكان والثوب المغصوب ، رقم ١ و ٢.

٥٢

شيئاً واحداً مسامحة منه ، وقد تقرّر في محلّه أنْ لا تسامح في تطبيق موضوعات الأحكام الشرعية وأنه لا مرجعيّة للعرف إلاّ في مفاهيم الألفاظ.

وعلى الجملة ، فإن التعارض هو تنافي الدليلين بالتضاد أو التناقض ، وهو فرع وحدة الموضوع ، فإذا تعدّد استحال التنافي.

وبما ذكرنا يظهر ما في الاستدلال بمثل «لا يطاع الله من حيث يعصى» ، لأنّ مورده صورة اتّحاد الموضوع لا تعدّده ، وقد عرفت التعدّد بناءً على القول بالجواز. وأمّا رواية خطاب كميل فمن أخبار كتاب تحف العقول ، وهي في كتاب بشارة المصطفى مسندة لكنها ضعيفة السند جدّاً ....

ورواية الإنفاق مرسلة ، أمّا من حيث الدلالة ، فهي دالّة على مدّعى السيّد لو كان «القبول» بمعنى «الإجزاء» ، أمّا بناءً على المغايرة بينهما والقول بسقوط الإعادة والقضاء رغم عدم قبول العمل ، فلا يتم استدلاله بها ... ومقتضى التتبّع والدقة هو هذا الوجه ، لأنّ قوله تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقينَ) (١) ـ مثلاً ـ لا ينافي صحّة العمل من غير المتّقي إنْ وقع على وجه الصحّة ... وكذا في الأخبار الواردة في أبواب قواطع الصلاة ، كالخبر الدالّ على عدم قبول صلاة المرأة الناشزة والعبد الآبق (٢) ... مع أن الصّلاة الواجدة للأجزاء والشرائط منهما صحيحة بلا كلام.

وتلخّص : أن الحقّ عدم ورود الإشكال بناءً على الجواز كما في (الكفاية).

إشكال المحاضرات على الكفاية

وقد أورد في (المحاضرات) على (الكفاية) بعدم صحّة قوله بالصحّة على

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٢٧.

(٢) وسائل الشيعة ٨ / ٣٤٨ ، الباب ٢٧ باب استحباب تقديم من يرضى به المأمومون ، الرقم : ١.

٥٣

القول بالجواز ، لعدم خلوّ الأمر من حالين ، فإمّا توجد مندوحة وامّا لا ، فإنْ وجدت صحّت الصّلاة بلا إشكال على الجواز ، وإنْ فقدت وقع التزاحم ، فإنْ رجّح جانب الأمر فالصحّة ، وإنْ رجّح جانب النهي فالفساد إلاّ بناءً على الترتب ، لكن صاحب (الكفاية) لا يرى الترتّب ، أو بناءً على قصد الملاك ، وتصحيح العمل عن هذا الطريق يتوقف على وجود الأمر ليكشف عن الملاك ، ومع تقدّم النهي لا يوجد أمر فلا كاشف عنه ، فكيف يقصد؟

إذن ، لا وجه لقول (الكفاية) بالصحة بناءً على الجواز ، بصورةٍ مطلقة ، بل لا بدّ من التفصيل (١).

جواب الأُستاذ

وقد دفع الأُستاذ الإشكال على كلا التقديرين فقال :

لقد أوضح المحقق الخراساني في الأمر الخامس ـ من هذه المقدّمات ـ أن مبنى البحث في مسألة الاجتماع هو لزوم التكليف المحال وعدم لزومه ، لا لزوم التكليف بالمحال وعدم لزومه ... واعتبار وجود المندوحة وعدم اعتبارها إنما يكون فيما لو كان المبنى هو الثاني.

وبعبارة اخرى ، تارةً : يبحث عن جواز أصل التكليف وعدم جوازه ، واخرى : يبحث عن فعلية التكليف وعدم فعليّته ، وقضية وجود المندوحة وعدم وجودها تطرح في البحث عن الفعليّة ، لأنّه مع عدم وجودها يكون تكليفاً بالمحال ، لعدم القدرة على الامتثال ... لكنّ موضوع البحث في مسألة الاجتماع هو أصل التكليف لا فعليّته ....

فهذا ما صرَّح به وغفل عنه المستشكل.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٤٣١.

٥٤

كما أنّه قد غفل عن كلامه في لزوم وجود الملاك لكلا الحكمين حتى يندرج البحث في مسألة الاجتماع ، وأنه لو لا ذلك كان من التعارض ... فهو يؤكّد على ضرورة وجوده لكليهما وتطبيق قاعدة التزاحم عليهما ، وحينئذٍ ، فلو قدّم النهي على الأمر لسقط الأمر على أثر التزاحم ، لكنَّ مزاحمته للنهي ثم سقوطه لأقوائية ملاك النهي فرع لوجود الملاك له ـ أي للأمر ـ ، فيكون الأمر كاشفاً عن وجود الملاك له ، وهذا لا ينافي سقوطه على أثر التزاحم.

وعلى الجملة ، فقد وقع الخلط على المستشكل بين السقوط لعدم المقتضي ولوجود المانع ، وكلّما يكون السقوط لوجود المانع فإنه يكشف عن وجود الملاك له ، وإلاّ لم تصل النوبة إلى التزاحم والسقوط على أثر أقوائية الملاك في الطرف الآخر.

فظهر سقوط الإشكال على المحقق الخراساني.

وجه الفتوى بصحة الصّلاة مع القول بالامتناع

ثم إنّ المحقق الخراساني ، بعد أنْ بيّن الحكم على القول بالجواز ، قسّم المكلّف ـ بناء على الامتناع ـ إلى أقسامٍ ، وحاول توجيه فتوى المشهور بصحّة الصّلاة في المكان المغصوب من الجاهل عن قصورٍ إذ قال : وقد ظهر بما ذكرناه وجه حكم الأصحاب بصحّة الصّلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالموضوع بل أو الحكم ، إذا كان عن قصور ، مع أنّ الجلّ ـ لو لا الكلّ ـ قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة ....

وقد صحّحها بثلاثة وجوه :

أحدها : عن طريق قصد الملاك ، لأن المفروض واجديّتها ، بناءً على كفاية قصده في عبادية العمل.

٥٥

والثاني : عن طريق قصد الامتثال والطاعة ، فإنّه يكفي لعباديّة العمل وإنْ قيل بعدم كفاية قصد الملاك ، فكلّ عبادةٍ جامعةٍ للأجزاء والشرائط المعتبرة فيها ، يصحّ التقرّب بها بقصد إطاعة الأمر المتعلّق بها ، وهذا القصد يتمشّى من الجاهل عن قصورٍ بالموضوع والحكم.

والثالث : عن طريق القول بأن لوصول الملاك إلى المكلّف دخلاً في حسن الفعل أو قبحه ، فالمؤثر هو الملاك بوجوده العلمي لا الواقعي ، وعلى هذا ، فلمّا كانت مصلحة الصّلاة واصلةً فهي مأمور بها ، أمّا مفسدة الغصب ، فالمفروض عدم وصولها ـ للجهل القصوري ـ فلا أثر لها وإنْ قدّم النهي ، لأنّ تقديمه إنما هو بحسب الواقع ، وهو بلا أثر كما تقدم.

إشكال السيد البروجردي على الكفاية

وقد أشكل السيد البروجردي (١) : بأنّ مقتضى التحقيق هو القول بدوران الأمر مدار الجهل والنسيان عن قصور ، فإنه إن كان كذلك حكم بصحة الصّلاة ، على القول بالجواز والامتناع معاً ، وإن كان عامداً أو جاهلاً مقصّراً حكم ببطلانها على القولين معاً ... وذلك : لأنّ الصّلاة في المكان المغصوب قد ابتلي ملاكها بالمبغوضيّة ، وكلّ عملٍ مبغوض فهو غير قابلٍ للمقربيّة ، إلاّ إذا كان جاهلاً عن قصورٍ لكون صلاته صالحة للمقرّبية ، سواء قلنا بالجواز أو بالامتناع ... (قال) ويشهد بذلك ذهاب القائلين بالجواز إلى بطلان العمل العبادي إلاّ من الجاهل القاصر لأنه معذور.

مناقشة الأُستاذ

إنه لا بدَّ من تعيين الأساس في وجه القول بالجواز ، فإنْ كان مجرّد تعدّد

__________________

(١) الحاشية على الكفاية ١ / ٤٠١.

٥٦

العنوان والوجه مع وحدة الوجود والواقع ، صحّ ما ذكره من الابتلاء بالمبغوضيّة ، أمّا إن كان الأساس في ذلك تعدّد الوجود ، بمعنى أنّ متعلَّق الأمر غير متعلّق النهي ـ كما هو التحقيق ـ فلا مبغوضية لمتعلَّق الأمر ، بل يبقى على محبوبيّته وصلاحيّته للمقربيّة ، غير أنّه جاء مقارناً للمبغوض وتوأماً له ، كما لو وقع النظر إلى الأجنبية في أثناء الصّلاة ، وكما لو وقعت الصّلاة ملازمةً لترك الأهم ـ وهو إنقاذ الغريق مثلاً ـ فإنّها بناءً على الترتّب صحيحة وصالحة للمقرّبية. والوجه في جميع هذه الموارد هو تعدّد الوجود.

هذا بناءً على الجواز.

وأمّا على الامتناع ، فإنّ القائلين به ينكرون التعدّد ، فمع تقديم جانب النهي لا يكون العمل صالحاً للمقرّبيّة ، نعم ، الجاهل عن قصورٍ معذور ، إلاّ أن معذوريّته أمر وصلاحيّة العمل للمقربيّة أمر آخر ، وقد تقرّر في محلّه اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين ، والجهل غير رافع للمبغوضية واقعاً بل ظاهراً ـ بخلاف النسيان ، فإن رفع الحكم معه واقعي ، إلاّ أن الكلام ليس في النسيان ـ فالمبغوضيّة موجودة ، فكيف يحكم بالصحّة؟

وأمّا دعوى أنّ القائلين بالجواز أيضاً يقولون بالبطلان هنا ، فمردودة : بأنها خلاف صريح كلمات الفقهاء ... فلاحظ منها كلام الشهيد الثاني في روض الجنان في هذه المسألة(١).

هذا ، والفرق بين الصّلاة في المكان والساتر المغصوب ، هو أنّ من شرائط صحة الصّلاة إباحة اللّباس ، فهي في اللّباس المغصوب فاقدة للشرط ، أمّا في المكان المغصوب ، فالتفصيل بين القول بالجواز والقول بالامتناع.

__________________

(١) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان ٢ / ٥٨٧.

٥٧

إشكال السيد الخوئي على الكفاية

وأشكل في (المحاضرات) بعد الإشكال على ما ذكر في (الكفاية) بناءً على الجواز ، بعدم تمامية كلامه بناءً على الامتناع أيضاً ، لأنه على القول بذلك وتقديم جانب النهي ، تدخل المسألة في كبرى باب التعارض وتجري عليه أحكامه ولا تكون من صغريات التزاحم كما ذهب إليه. (قال) : ويمكن المناقشة على وجهة نظره أيضاً ، لأنه يريد تصحيح العمل بقصد الملاك ، لكنّ قصد الملاك إنّما يكون مقرّباً فيما إذا لم يكن مزاحماً بشيء ، ولا سيّما إذا كان أقوى منه كما هو المفروض في المقام ، وأمّا الملاك المزاحم فلا يترتب عليه أيّ أثر ولا يكون قصده مقرباً بناءً على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام للجهات الواقعية لا الجهات الواصلة ، والمفروض أن ملاك الوجوب مزاحم بملاك الحرمة في مورد الاجتماع ، فلا يصلح للمقربية ... فلا يمكن الحكم بصحة العبادة على القول بالامتناع ، لا من ناحية الأمر وانطباق المأمور به على الفرد المأتي به ، ولا من ناحية الملاك (١).

جواب الأُستاذ

وأجاب الأُستاذ : بأنْ دخول المسألة على الفرض المذكور في كبرى التعارض هو الصحيح وفاقاً للشيخ الأعظم ، كما سيأتي بالتفصيل. لكنّ الإيراد على صاحب (الكفاية) بناءً على مسلكه من كونها من باب التزاحم ، غير وارد ، لأنه قد جعل قوام اجتماع الأمر والنهي وجود الملاك لكلٍّ من الدليلين ، وقوام باب التعارض عدم وجوده في أحدهما ، وعلى هذا لا يتوجّه عليه الإشكال إلا من حيث المبنى.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧.

٥٨

إشكال آخر

وأشكل في (المحاضرات) ايضاً : بأنّه لمّا كان تصحيح العبادة ـ على القول بالامتناع ـ من طريق قصد الأمر أو الملاك ، فإنّه مع تقديم جانب النهي يسقط الأمر ، وإذا سقط فلا طريق لإحراز الملاك ، لوضوح أنّ عدم انطباق الطبيعة على هذا الفرد كما يمكن أنْ يكون من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له ، يمكن أن يكون من ناحية عدم المقتضي له ، فالعقل لا يحكم ـ حينئذٍ ـ بحصول الامتثال بالإتيان بالمجمع.

والجواب

لقد تعرّض صاحب (الكفاية) في المقدمة التاسعة لهذا المطلب وأوضحه ، بما حاصله : إنّ باب اجتماع الأمر والنهي متقوّم بوجود الملاك لكلا الدّليلين ، فإن لم يحرز وجوده لأحدهما كانت المسألة من باب التعارض ، والكاشف عن الملاك تارة دليل من خارج واخرى هو الإطلاق ، فإن كان الإطلاقان في مقام بيان الحكم الاقتضائي احرز الملاك ، وإن كانا في مقام بيان الحكم الفعلي خرجت المسألة إلى باب التعارض ـ لعدم إمكان توجّه الحكمين الفعليين إلى الشيء الواحد ـ وإذا رجّح طرف النهي وسقط الأمر ، أمكن أن يكون سقوطه من جهة عدم الملاك ، كما أمكن أن يكون من جهة الابتلاء بالمعارض.

فما جاء في الإشكال مذكور في (الكفاية) ، وليس بشيء جديد.

إشكال الأُستاذ على الكفاية

ثم قال الأُستاذ : بأن الصحيح في الإشكال على (الكفاية) هو أن يقال : إنّه مع تسليم كون المسألة من باب الاجتماع ، فإنّ ملاك الوجوب ـ بناءً على الامتناع وتقديم النهي على الأمر ـ يكون مغلوباً لملاك النهي ، وإذا تغلّب ملاك النهي كان

٥٩

العمل مبغوضاً ، وقد تقدّم أن العمل ما لم يكن محبوباً للمولى لا يصلح للمقربيّة ، وبما ذكرنا يظهر عدم إمكان تصحيحه بالإتيان به بقصد الملاك ، لأنّ مجرّد وجود المصلحة في الصلاة لا يكفي للمقربيّة ، بل المقرّب هو العمل المأتي به بما هو محقق لغرض المولى ، ومع غلبة جانب الغصبيّة لا يكون ملاك الصّلاتية المغلوب غرضاً ، لأن الغرض يتبع الملاك الغالب ، وإذا انعدم الغرض فلا ملاك للمقربيّة. ومع التنزّل عمّا ذكرنا ، تصل النوبة إلى الشك ، فهل مثل هذا الملاك الذي أصبح مغلوباً للمفسدة صالحٌ للمقربيّة أو لا؟

وأمّا تصحيحه بقصد الأمر ، فهو على أساس أنّ التزاحم بين الملاكات إنما هو بحسب وصولها إلى المكلَّف وعلمه بها والتفاته إليها ، والمفروض هنا جهل المكلَّف بالنهي عن قصورٍ لا تقصير ، فيتمشى منه قصد الأمر المتعلِّق بطبيعة الصّلاة ... لكن هذا الأساس باطل ، لأن الأحكام تابعة للملاكات الواقعية ، ولا دخل لعلم المكلَّف وجهله في تمامية الملاك وعدمها ، تماميّته وإلاّ يلزم التصويب ، لأنه لو كانت الفعلية تابعةً للوصول ، فعلى القول بالامتناع وتقديم جانب النهي ، غير واصلٍ إلى الجاهل ، بل الأمر هو الواصل إليه ، فالمجمع مأمور به ، وهذا هو التصويب.

والحاصل : إن الملاكات الواقعية مؤثرة ، ومع تقديم جانب النهي ـ وإنْ لم يكن واصلاً ـ ينتفي الملاك عن الصّلاة ، وبه ينتفي الأمر ، فلا يمكن تصحيحها بقصد الأمر ... ويكون العمل باطلاً.

٦٠