تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

ولكونها بياناً وقرينةً تتقدَّم.

وتلخَّص : أنّه مع وجود أصالة الظهور في القرينة ، لا يبقى موضوع لأصالة الظهور في ذي القرينة.

ثم إنّ الملاك للقرينيّة هو الظهور العرفي ، فإنَّ نسبة القرينيّة موجودة بكلّ وضوح بين الصّفة والموصوف ، والحال وذي الحال ، وكلّ تابع ومتبوع ، ومتى ما وقع الشك عند العرف العام في القرينيّة يكون الكلام مجملاً.

وبعد تماميّة القرينيّة من الناحية الصغرويّة ، فقد تكون القرينة متّصلة وقد تكون منفصلةً.

فإن كانت متّصلةً ، فهي قرينة على المراد في مرحلة الدلالة التصديقيّة ، وهي المرحلة التي يستعمل فيها اللّفظ في معناه الموضوع له وينعقد للكلام الظهور وينسب إليه المدلول ، كما لو قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، وذلك يتحقّق بفراغه من الكلام بقيوده.

وهذه هي الدلالة التصديقيّة الاولى.

والدلالة التصديقية الثانية هي مرحلة الإرادة الجديّة ، فإنه بعد انعقاد الظّهور لا بدَّ من ثبوت أنّ هذا الظاهر هو المراد للمتكلّم وأنه لم يقصد المزاح أو الامتحان مثلاً ، وذلك يتمّ في حال عدم إتيان المتكلّم بالقرينة المنفصلة الصارفة للّفظ عن المعنى الظاهر فيه ، فإنْ جاء القيد المنفصل فهو ، وإلاّ فالأصل في الكلام عقلاءً هو الجدّ لا الهزل والامتحان وما شابه.

وبعبارة اخرى ، فإنّه بمجرّد انقطاع الكلام يستقرُّ له الظهور في معناه ، فإنْ أقام قرينةً منفصلةً على خلاف الظاهر ، فإنّها لا تضرّ بالظهور وإنّما تحول دون حجيّته.

وهذا تمام التوضيح لكلام الميرزا في المقام.

٤٢١

الإشكال عليه

هذا ، وقد أفاد الأُستاذ أنه لا يمكن المساعدة على ما ذكره الميرزا ، لوجوه : الأول : إنّ ما ذكره قدس سرّه إنما يتمُّ في القرينة المتصلة ـ ولا يرد عليه أيّ إشكال ـ لأنّ كلمة «مؤمنة» صالحةٌ لتقييد مفاد «أعتق رقبةً» ليخرج عن الإطلاق ، لكونها بياناً وقرينةً ، ولكنه لو جاء بقيد الإيمان في كلامٍ آخر ، فإنّ قرينيّة المنفصل ليس لها وجه عقلي أو عقلائي ، لأنّ العقلاء يرون كلامين منفصل أحدهما عن الآخر ، ويقولون : قد تكلَّم بكلامين ، ولكلّ كلامٍ حكمه ، ولا يتعدّى حكم أحدهما إلى الآخر ، ولا يجعلونه قرينةً له.

الثاني : إن مقتضى القاعدة بناءً على تقديم المقيَّد على المطلق من باب القرينيّة ، هو أنْ لا يكون فرقٌ عند العرف بين تقدّم القرينة على ذيها أو تأخّرها عنه ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فلو قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، ثم قال : أعتق رقبةً ، يحتمل العرف أنّ كلامه الثاني جاء توسعةً على المكلَّف ، ولا يبادرون بالجمع بين الكلامين ، ولا أقل من التوقّف والاستفسار من المولى.

الثالث : قد ذكر الميرزا أنّ التنافي بين «أعتق رقبةً» و «أعتق رقبةً مؤمنةً» قد حصل من جهة «المؤمنة» ، فهذا القيد إنْ فرض متّصلاً كان قرينةً على المراد الاستعمالي ، فلما جاء منفصلاً فهو قرينة على المراد الجدّي ، فهو على التقديرين قرينة.

لكنّ الإشكال ليس من جهة «المؤمنة» مع قطع النظر عن كونها قيداً ، بل هو من جهة قيديّة هذه الكلمة ، وقيديّتها بدون إضافتها إلى الرقبة غير معقول ، فهي موجودة في أعتق رقبةً مؤمنةً ، أي في صورة الاتصال ، وأمّا في صورة الانفصال ، بأنْ تستفاد القيديّة من الجملة المذكورة ثم تحكّم على «أعتق رقبة» فمحال ، لأن

٤٢٢

القيدية نسبةٌ ، وكلّ نسبة فهي قائمة بين منتسبين.

الرابع : إنّه لا دليل من العرف وغيره على أنّ كلّ ما يكون قرينة في حال الاتصال فهو قرينة كذلك في حال الانفصال ، بل الأمر بالعكس ، فإنّ أهل العرف يرون الكلام الثاني ناسخاً وعدولاً عن الكلام الأول ... وعلى الجملة ، فإنّ المرجع في القرينية والبيانيّة هو العرف والسيرة العقلائية ، وهي في صورة الانفصال مفقودة إن لم يكن العكس كما ذكرنا.

وهذا تمام الكلام على طريق القرينيّة.

طريقُ الحائري

وذكر المحقق الحائري (١) لحمل المطلق على المقيد وجهاً آخر ومحصّل كلامه هو :

إن الدليلين المثبتين تارة يحرز وحدة الحكم فيهما ، واخرى لا يحرز وحدته ، ولو احرز ، فتارةً يحرز وحدة السبب واخرى لا يحرز.

فإنْ لم يحرز وحدة الحكم فيهما ، فهما خطابان مستقلاّن ، ولا يحمل المطلق منهما على المقيّد ، بل يكون كلّ منهما ظاهراً في مدلوله ، ولا ترفع اليد عن الظهور إلاّ بدليلٍ.

وإنْ احرز وحدة الحكم ، لكن لم يحرز وحدة السبب ، كما لو قال : أعتق رقبةً ، ثم قال : أعتق رقبةً مؤمنة ، والحكم واحد غير متعدّد ، فوجوه : أحدها الحمل على المقيّد ، والآخر حمل الأمر في المقيد على الاستحباب ، والثالث : التحفّظ على ظهور الأمر في المقيّد في الوجوب ورفع اليد عن ظهور قيد المؤمنة وحمله على الاستحباب. ولمّا كان كلٌّ من هذه الوجوه مستلزماً لرفع اليد عن الظهور

__________________

(١) درر الفوائد (١ ـ ٢) ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٤٢٣

ولا مرجّح ، فالكلام مجمل.

وإنْ أُحرز وحدة الحكم ووحدة السبب أيضاً ، كما إذا قال : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، ثم قال : إنْ ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فلا مناص في هذه الصورة من حمل المطلق على المقيَّد ، لأن السبب ـ وهو الظّهار ـ واحدٌ ، والحكم وهو وجوب العتق واحد ، فإذا كان السبب لعتق مطلق الرقبة ، فلا يكون سبباً لعتق رقبة مؤمنة ، ولا يمكن أن يكون سبباً لاستحباب عتق المؤمنة مع كونه السبب في وجوب عتق مطلق الرقبة ، وإلاّ يلزم أن يكون الشيء الواحد سبباً لمتباينين.

إشكال الأُستاذ

وقد أشكل الأُستاذ على ما ذكره في الصّورة الاولى من إبقاء كلٍّ من الكلامين على ظهوره في التكليف المستقل ، فيلزم امتثال كلٍّ منهما على حده بأن : مقتضى الإطلاق في طرفٍ والخصوصية في الطرف الآخر كفاية الامتثال الواحد ، لأن المطلق منطبق على الخصوصيّة بالدلالة المطابقيّة ، والدلالة الالتزامية لذلك هي كفاية الامتثال وحصوله بعتق الرقبة المؤمنة.

وأورد على كلامه في الصّورة الثانية بأن : الإجمال ملاكه تكافؤ الاحتمالات ، وذلك يتوقّف على بطلان المسلكين المتقدّمين في حمل المطلق على المقيَّد والجواب عما استدلّ به لكلٍّ منهما (١) ... لكن الحائري لم يرد على شيء ممّا استدلّ به لهما.

وأمّا كلامه في الصّورة الثالثة ففيه :

إن نسبة الظهار إلى العتق نسبة الموضوع إلى الحكم ، ولذا تقرّر أنّ كلّ شرط

__________________

(١) يعني : مسلك صاحب (الكفاية) وهو التقدّم من باب الأظهرية ، ومسلك الميرزا وهو التقدّم من باب القرينيّة.

٤٢٤

موضوع وكلّ موضوع شرط ، وحينئذٍ ، لا بدّ من إقامة البرهان على استحالة أنْ يكون للظهار حكمان ، وهذا أول الكلام ، إذ لا مانع من أن يقال : إذا زالت الشمس وجبت صلاة الظهر. وإذا زالت الشمس استحبّ الصّلاة الفلانية ... وهنا لا مانع من أن يكون الظهار سبباً لوجوب العتق المطلق ، وسبباً لاستحباب عتق خصوص المؤمنة ... هذا بالنسبة إلى الحكم. وأمّا بالنسبة إلى الملاك ، فصحيح أن الأسباب والشرائط لا دخل لها في الملاكات ، وأنّ البرهان على أن الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ، أي الواحد البسيط من جميع الجهات ، لا يكون مصدراً لصدور الأمرين المختلفين ، لكن المشكلة هي أنْ لا طريق لاستكشاف كون السبب الشرعي كالظهار مثلاً هو بالنسبة إلى الملاك واحدٌ شخصي ، بل المحرز خلاف ذلك ، لقيام الحجة الشرعيّة على تعدّد الأثر ، فتكون كاشفةً إنّاً عن أن السبب ليس له وحدة شخصيّةٌ بسيطة ، فالظّهار سببٌ لوجوب العتق في حال إمكانه ، وإلاّ فهو سببٌ لصيام ستّين يوماً ، وعند تعذّره فإطعام ستين مسكيناً ، وكلّ واحدٍ من هذه الآثار والأحكام مباين لغيره.

طريق الأُستاذ

والأُستاذ بعد أنْ ذكر طرق الأكابر لحمل المطلق على المقيَّد ، أفاد في الدورتين ما حاصله :

إنّه إذا كان الحكم واحداً كما في : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، وإن ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فإنّ منشأ الإشكال هو وجود التنافي بين الخطابين ، من حيث أن الثاني يقتضي تعيّن المؤمنة فلا تجزي الكافرة بخلاف الأول ، فهل يوجد التمانع بين إطلاق المتعلّق في الثاني وظهور صيغة الأمر في وجوب الحصّة المؤمنة أوْ لا؟

٤٢٥

إنّ التنافي بين كلّ دليلين يتوقف على وجود المقتضي لهما على نحو التنجز وفي عرضٍ واحد ، حتى يقع التمانع بينهما في المبدا أو المنتهى أو المدلول لهما. أمّا لو كان أحدهما معلَّقاً غير منجّز والآخر تامُّ الاقتضاء ، فلا تمانع بل يتقدَّم ما هو تامّ الاقتضاء ... وفيما نحن فيه : ظهور صيغة الأمر في الوجوب ـ من باب الدلالة الوضعية كما عليه صاحب (الكفاية) ، أو بحكم العقل كما عليه الميرزا ـ تامٌّ ، فيصلح لأنْ يكون مانعاً عن انعقاد الظهور في طرف المطلق ، لكنَّ المبنى المحقَّق ـ تبعاً لسلطان المحققين ـ خروج الإطلاق عن المعنى الموضوع له لفظ الرّقبة ، فلا دلالة له عليه إلاّ بمقدّمات الحكمة ، وقد كان منها عدم التقييد ، فكان ظهور «الرقبة» في الإطلاق معلَّقاً على عدم المانع ، فلا تمانع بينه وبين الدليل المقيَّد ... بل يتقدَّم لتتنجّز ظهوره وتماميّته.

وعلى الجملة ، فإنّ المقام من صغريات دوران الأمر بين ما له الاقتضاء وما لا اقتضاء له ، ومن الواضح تقدّم الأول وتعيّنه.

ولا يخفى أنّ هذا الطريق يختلف عن طريق (الكفاية) من تقدّم إطلاق الوجوب التعييني ، لأنّ أصالة الإطلاق بالنسبة إلى الوجوب التعييني إنّما تجري فيما لو احتمل التخيير الشرعي ، فيتمسّك بها لدفع هذا الاحتمال ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، للقطع بعدم احتمال التخيير الشرعي بين وجوب الطبيعة المطلقة ووجوب حصّة خاصّةٍ منها.

وتلخص : إنّ الوجه في تقدّم المقيَّد على المطلق ليس الأظهريّة ولا القرينيّة ولا غيرهما ، بل هو التنجيزيّة في طرف المقيَّد ، أي ظهور صيغة الأمر في الوجوب بلا تعليقٍ على شيءٍ ، وقد ذكرنا أنّ ذلك ثابت إمّا بالوضع من جهة التبادر على رأي وامّا بحكم العقل على الرأي الآخر. بل إنّه مستفادٌ من ظواهر

٤٢٦

النصوص أيضاً ، كما في المعتبرة : «العمرة واجبة كالحج لأنَّ الله تعالى يقول (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (١) (٢) حيث احتجّ الامام عليه‌السلام بظهور صيغة «افعل». وكذلك ما ورد في الاستدلال بقوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلىًّ) (٣) على وجوب صلاة الطواف خلف المقام (٤). وما ورد من تمسّكهم بظاهر الأمر في (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) (٥) على أنّ إذن المولى شرط في نكاح الأمة (٦).

وهذا تمام الكلام في الدليل المقيّد المتّصل.

دليل القول بالحمل في المقيّد المنفصل

وأمّا في المقيّد المنفصل ، فعلى القول بتوقف الإطلاق على عدم البيان إلى الأبد ، لا ينعقد لقوله : «أعتق رقبةً» إطلاقٌ ، وحينئذٍ يؤخذ بقوله : «أعتق رقبةً مؤمنةً» لتمامية ظهوره بلا مانع. وكذا الكلام في خطابات من علم من سيرته وديدنه الاعتماد على القرائن المنفصلة ، كما في خطابات الشارع المقدّس. وأمّا على القول بتمامية الإطلاق وانعقاد الظهور للكلام بفراغ المتكلّم منه في مجلس التخاطب ، فإنّ التمانع يتحقّق بين هذا الظهور وظاهر قوله : «أعتق رقبةً مؤمنةً» في المجلس الآخر ، فما هو الوجه لحمل المطلق على المقيَّد؟

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٩٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٤ / ٢٩٥ ، الباب ١ من أبواب العمرة ، رقم : ٢.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٢٥.

(٤) وسائل الشيعة ١٣ / ٤٢٥ ، الباب ٧٢ من أبواب الطواف ، رقم : ١ و ٢.

(٥) سورة النساء : الآية ٢٥.

(٦) وسائل الشيعة ٢١ / ١١٩ ، الباب ٢٩ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الرقم : ١.

٤٢٧

طريق الشيخ والكلام حوله

أمّا طريق الشيخ رحمه‌الله حيث قدّم المقيَّد على المطلق ، أمّا على قول المشهور ، فإنّ رفع اليد عن الإطلاق ارتكاب للمجاز كما هو الحال في رفع اليد عن دلالة المقيَّد ، إلاّ أن المجاز في طرف المطلق مقدَّم ، ومع التنزّل وفرض التساوي ، تصل النوبة إلى التعارض بين الظهورين ، ويكون المرجع هو البراءة أو الاشتغال على النزاع المعروف في الأجزاء التحليليّة ، لأنّ التقيّد بالإيمان جزء تحليلي عقلي.

وأمّا على قول السّلطان ، وأنّ الدلالة على الإطلاق ليست وضعيةً بل بمقدّمات الحكمة ، فرفع اليد عنه متعيَّن ، لأنه تصرّف في وجه المعنى ، بخلاف ظهور المقيَّد فرفع اليد عنه تصرّف في المعنى ، ولا ريب في تقدّم الأول عند دوران الأمر ، بل إنَّ تمامية المقدّمات كانت ببركة الأصل ، أي أصالة كون المتكلّم في مقام البيان ، لكنّ هذا الأصل يسقط بمجرّد العثور على المقيَّد ، وبسقوطه يسقط الإطلاق ، فلا معارض للظهور في المقيَّد. وهذا معنى قولهم أنّ التعارض بين المطلق والمقيد غير مستقر.

نظر الأُستاذ

وقد تنظر الأُستاذ فيه : أمّا من جهة مسلك المشهور ، فإنّ الشيخ قد استند في رفع اليد عن ظهور الإطلاق وحمله على المجاز إلى غلبة هذا المجاز على أقرانه ، لكنّ الغلبة ليست منشأً للتقديم على التحقيق ، نعم ، لو كان قد ادّعى أنّ رفع اليد عن دلالة الكلام على الإطلاق من المجاز المشهور الموجب لحصول القالبيّة العرفية ، لكان له وجه ، أمّا الغلبة ، فمستندها إلحاق الشيء بالأعمّ الأغلب ، وهذا لا يوجب القالبيّة. نعم ، القالبيّة في العام والخاص موجودة ، ولذا قالوا : ما من عام إلاّ وقد خص.

٤٢٨

وأمّا من جهة مسلك السّلطان ، فما ذكره أوّل الكلام ، لأنّ كون المقيَّد المنفصل بياناً عرفاً للمطلق مصادرة ، بل العرف إنْ لم يحمل الكلام الثاني على النسخ يتوقّف ولا يحمل المطلق على المقيَّد.

طريق الميرزا

وأمّا طريق الميرزا ، فقد تقدّم أنّه لا يحلّ المشكلة في القرينة المنفصلة ، لا سيّما في خطابات من علم بأنّه يعطي أحكامه بالتدريج كالشارع المقدّس.

طريق السيد الخوئي

وأمّا طريق السيد الخوئي (١) وحاصله : أنه في مثل كلام الشارع يدور الأمر بين النسخ والتقييد ، لكنّ احتمال النسخ يسقط من جهة أنّ هذه الكثرة من الروايات لو حملت على النسخ لزم تبدّل المذهب ، بل موارد النسخ محدودة جدّاً ، فيتعيّن الحمل على التخصيص والتقييد.

ففيه : إنه ليس الأمر دائراً بين الأمرين ، بل هناك احتمال ثالثٌ هو حمل المقيَّد على الأفضلية والاستحباب.

طريق الأُستاذ

قال الأُستاذ : والذي ينبغي أنْ يقال وإنْ كان خلاف المشهور هو :

إنّ الروايات الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام على ثلاثة أقسام :

الأول : ما ورد عنهم عليهم‌السلام في مقام تعليم الأحكام لأصحابهم ، خاصّةً الذين أرجعوا الناس إليهم منهم كمحمد بن مسلم وزرارة وأبي بصير ...

وفي هذا القسم ، نقول بحمل المطلق على المقيَّد ، فإن المطالب تلقى على التلامذة بالتدريج ، فيذكر الحكم بإطلاقه في مجلسٍ ، ثمّ يبيّن في المجالس اللاّحقة بمقيّداته ، وهكذا جرت العادة في مجالس الدروس.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٤١.

٤٢٩

والثاني : ما ورد عنهم في مقام الإفتاء ، حيث يدخل الرجل على الإمام عليه‌السلام فيسأله عن الحكم الشرعي في قضيّة ثم يخرج ويتوجّه إلى أهله وبلده ولا يرجع إلى الامام إلاّ في قضيةٍ اخرى ، فهو يستفتي من أجل العمل ، أو يكون قد أرسلوه إلى الإمام حتى يأتيهم بالجواب منه ، فيعملوا على طبق ما أجاب.

وفي هذا القسم من الروايات ، لا نقول بحمل المطلق على المقيَّد ، بل لو قال بعد ذلك كلاماً على خلافه لكان ناسخاً له ، لأن من كان في مقام الإفتاء يبيّن الحكم بكامله ولا مصلحة لتأخير البيان ... فكونه عليه‌السلام في مقام الافتاء وبيان الحكم للمسألة المبتلى بها والمسئول عنها من أجل العمل ، قرينةٌ تجعل المطلق نصّاً أو تعطيه الأظهريّة من المقيَّد ، فلا يتقدَّم المقيد على المطلق.

وهذا الذي ذكرناه في القسم الثاني من الروايات وإن كان على خلاف المشهور ، لكن غير واحدٍ من الأكابر مشوا عليه ، فلاحظ كتاب الصّلاة للشيخ الحائري في صلاة العاري وأنه هل يصلّي قائماً أو قاعداً أو عليه القيام مع الأمن من الناظر والقعود مع عدم الأمن ...(١).

وكذا في مكان المصلّي في مسألة محاذاة المرأة للرجل (٢).

وكذا في مسألة التخيير في الأماكن الأربعة (٣).

وقال المحقق العراقي في (شرح التبصرة) في صلاة الآيات في مسألة القنوت فيها هل هو واجبٌ أو مستحب بحمل المقيّد على الاستحباب.

وكذا في بحث التشهّد ، حيث أخذ بالمطلقات لقوّتها وحمل الزائد على الاستحباب.

__________________

(١) كتاب الصّلاة : ٦٨.

(٢) المصدر : ٨٥.

(٣) المصدر : ٦٥٠.

٤٣٠

وكذا في (كتاب الطهارة) ، في أنّه يجب الوضوء بعد الغسل أوْ لا؟ وفي التيمّم بمطلق وجه الأرض أو خصوص التراب؟ فإنه أخذ بالمطلقات وحمل ما دلّ على خصوص التراب على الاستحباب ، وفي الوضوء في كيفية مسح الرأس ، في أنه يكفي مقدّم الرأس أو يشترط الناصية؟

والحاصل : إن الشيخ الحائري والشيخ العراقي في هذه الموارد وغيرها يصرّحان بكون المطلقات في مقام بيان الوظيفة الفعليّة ، فلا يجوز رفع اليد عن ظهورها ، ولذا يحملان ما ينافيها على الاستحباب.

وعلى الجملة ، فكلّ مطلق من هذا القبيل يؤخذ به ، إلاّ إذا علم بوجود خصوصيةٍ دعت الإمام إلى تأخير بيان المقيَّد ... وإلاّ فمقتضى المقام أن يعطي كلّ ما يحتاج إليه المكلَّف ممّا له دخل في الحكم ، كحال الطبيب في مقام علاج المريض الذي راجعه ويطلب منه الدواء لمرضه.

الثالث : ما ورد عنهم ولم يحرز كونه في مقام التعليم أو في مقام الإفتاء للعمل.

وقد يقال هنا : بأنّ التقييد تكليف زائد فهو مجرى البراءة ، إذنْ يؤخذ بالمطلق.

لكنّ الصحيح ـ عند الأُستاذ ـ هو الحمل ، لأنَّ أركان الحجية في المقيَّد تامّة ولا مرخّص من قبل المولى ، فالعقل حاكم بلزوم الامتثال ، وبه ترفع اليد عن الإطلاق.

وهذا تمام الكلام في صورة وحدة الحكم ووحدة السبب.

في وحدة الحكم واختلاف السبب

أمّا لو اتّحد الحكم واختلف السبب ، كما لو قال «إن ظاهرت فأعتق رقبةً»

٤٣١

و «إنْ أفطرت فأعتق رقبةً مؤمنة». فالظاهر عدم الخلاف في عدم الحمل ، لأنّه قد اختلف السبب والشرط ، ومعلوم أنْ كلّ شرط موضوع ، وإذا اختلف الموضوع اختلف الحكم ، فكان كلٌّ منهما خطاباً مستقلاًّ عن الآخر ، ولا تنافي بينهما حتى يحتاج إلى الجمع.

لو كان المطلق بلا سبب والمقيَّد مسبّب

أمّا لو جاء الدليل المطلق بلا شرطٍ وسبب ، والمقيَّد مشروطاً ، كما لو قال :

أعتق رقبةً. ثم قال : إن ظاهرت أعتق رقبةً مؤمنةً. فهل يحمل المطلق على المقيَّد؟

قولان :

القول الأول

ذهب الميرزا النائيني وغيره إلى استحالة الحمل ، لاستلزامه الدور ، وبيان ذلك هو : إنّ الحمل فرع وجود المنافاة ، وهي متوقفة على وحدة الحكم ، ومعلوم أنّ وحدة الحكم متوقفة على وحدة الموضوع والمتعلَّق ، لكنّ وحدة المتعلَّق موقوفة على التنافي.

والحاصل : إن وحدة المتعلَّق متوقفة على التنافي ، وهو متوقف على وحدة الحكم ، ووحدة الحكم متوقفة على وحدة المتعلَّق. وهذا دور.

القول الثاني

وذهب آخرون إلى وجوب التقييد ، لأنّ إطلاق الحكم في أحد الدليلين وإنْ كان كاشفاً عن عدم اشتراط الحكم المجعول من المولى بما هو شرط للحكم في الدليل الآخر ، إلاّ أن تقييده به في ذلك الدليل كاشف عن اشتراطه به ، وبما أن دليل التقييد أظهر من دليل الإطلاق ، فإنه يتقدّم عليه ، وترفع اليد عنه ، والنتيجة أن يكون الحكم المجعول مشروطاً بالشرط المزبور ، وبما أنّ متعلَّق ذلك الحكم

٤٣٢

مطلق في أحد الدليلين ومقيَّد في الآخر ، فلا بدّ من حمل المطلق على المقيد.

ذكره الميرزا نفسه بعنوان «إن قيل». ثم أجاب بما حاصله :

إنه لمّا كان الحكم من الامور ذات التعلّق ـ لأنه إما بعثٌ وامّا زجر ـ فوجوده متقوّم بالموضوع والمتعلَّق ، وإذا تعدّد الموضوع والمتعلَّق تعدّد الحكم ، وعلى هذا ، فلمّا كان الحكم في أحد الدليلين مشروطاً بشرطٍ ، فإن الشرط يوجب تقيّد الحكم المشروط به ، ولا يتعدّى عنه إلى الحكم الموجود في الدليل الآخر ، وحينئذٍ ، لا يحمل المطلق على المقيَّد ، نعم لو احرز من الخارج وحدة المتعلَّقين ، لزم حمل المطلق من الحكمين على مقيّدهما ، كما إنه إذا ثبتت وحدة الحكمين لزم حمل المطلق من المتعلّقين على المقيّد منهما. وأمّا مع عدم إحراز ذلك ، فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد في شيء منهما.

لو كان الحكمان مطلقين ونسبة الإطلاق والتقييد بين المتعلَّقين

وهذه هي الصورة الأخيرة ، فلو قال : أعتق رقبةً ثم قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، حيث أن الحكمين في الدليلين مرسلان ، لكنّ المتعلَّق للحكم في الدليل الأول مطلق ، وفي الدليل الثاني مقيَّد ، مع عدم إحراز وحدة الحكم ، أما مع إحرازها فقد تقدَّم.

ذهب الميرزا (١) ـ وتبعه في (المحاضرات) ـ إلى حمل المطلق على المقيَّد ، لأن المفروض عدم تقيّد الحكمين في الدليلين ، وهما إلزاميّان ، وبالنظر إلى هاتين الجهتين تثبت وحدة الحكمين ، ولا حاجة إلى قرينةٍ خارجية من حالٍ أو مقالٍ كما ذكر صاحب (الكفاية).

وعلى الجملة ، فإنّ مقتضى «أعتق رقبةً» حصول الامتثال بأحد مصاديق

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٤٤٧.

٤٣٣

الطبيعة ، لكنّ مقتضى «أعتق رقبة مؤمنة» هو عدم حصوله كذلك ، وإذا وجد هذا التنافي ، كان مقتضى القاعدة هو الحمل.

إشكال الأُستاذ

لكنّ الأُستاذ ـ وإنْ وافق الميرزا في الصّورة المتقدّمة ـ خالفه في هذه الصورة ، وأفاد ما حاصله : إن الحمل موقوف على وجود التنافي بين الدليلين كما تقدم ، ي فانتلاو إمّا في مرحلة الجعل وامّا في مرحلة الامتثال. أمّا في مرحلة الجعل ، فهو إمّا بكون أحد الحكمين وجوبيّاً والآخر تحريميّاً ، أو بكون أحدهما إلزامياً والآخر ترخيصياً ، أو يكونان من سنخ واحدٍ والمتعلَّق واحد. وفي مورد البحث لا يوجد التنافي أصلاً ، لكونهما مثبتين ، وقد تعلَّق الحكم في كلٍّ منهما بشيءٍ ، والحكم لا يتجاوز عن متعلَّقه إلى غيره ... إذنْ ، لا تنافي في مرحلة الجعل.

أمّا مرحلة الامتثال ، فالحاكم فيها هو العقل ، وإنما يرى العقل التنافي بين الدليلين ـ حتى يتم حمل المطلق على المقيَّد ـ فيما لو احرز وحدة الحكم.

بيان المحاضرات

وفي (المحاضرات) بيانٌ لحمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة قال (١) :

إن المحتملات في مقام الثبوت أربع :

الأول : أن يحمل المطلق على المقيّد. والثاني : أن يحمل المطلق على أفضل الأفراد. والثالث : لا هذا وذاك ، فيبنى على تعدد التكليف لكن من قبيل واجب في واجب آخر ، نظير ما لو نذر المكلَّف الإتيان بالصّلاة الفريضة في المسجد. والرابع : أن يكون كلّ من المطلق والمقيَّد واجباً مستقلاًّ ، نظير ما إذا أمر

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٤٥.

٤٣٤

بالماء على نحو الإطلاق ، والغرض غسل الثوب ، ثم أمر بالماء البارد لأجل الشرب.

(قال) : وأمّا في مقام الإثبات :

فالاحتمال الثاني خلاف الظاهر جدّاً ، لأن حمل الأمر الظاهر في الوجوب على الندب يحتاج إلى دليل ، وإذْ لا يوجد دليلٌ يفيد الترخيص ، فلا بدّ من الأخذ بظاهره وهو الوجوب.

والاحتمال الثالث كذلك ، لعدم كون المقام من هذا القبيل ، والوجه في ذلك هو : إن الأوامر المتعلّقة بالقيودات والخصوصات في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة ، وليست ظاهرة في المولويّة ، كما أن النواهي المتعلّقة بها ظاهرة في الإرشاد إلى المانعيّة من جهة تلك الخصوصيّة كما في : «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» ، و «نهى النبي عن بيع الغرر». هذا ، مضافاً إلى أن الأمر في أمثال هذه الموارد قد تعلَّق بالتقيُّد لا بالقيد ، فصرف الأمر عنه إليه خلاف الظاهر جدّاً.

والاحتمال الرابع ، يتصوّر على نحوين : أحدهما : أن يسقط كلا التكليفين معاً بالإتيان بالمقيد. وثانيهما : عدم سقوط التكليف بالمطلق بالإتيان بالمقيّد ، بل لا بدّ من الإتيان به أيضاً.

أمّا الأوّل : فإنه ـ وإنْ كان ممكناً ثبوتاً ـ لا يمكن القول به إثباتاً ، للزوم لغويّة الدليل المطلق ، لأن الإتيان بالمقيَّد إذا كان موجباً لسقوط الأمر بالمطلق أيضاً ، فلا محالة يكون الأمر بالمطلق لغواً وعبثاً.

وأمّا الثاني ففيه : إنه لا بدّ حينئذٍ من تقييد الأمر بالمطلق بحصّةٍ غير الحصّة المأخوذة في المقيَّد ، وإلاّ فلا موجب لعدم سقوط الأمر بالمطلق بالإتيان بالمقيَّد

٤٣٥

مع كونه حصّةً من المطلق ، والتقييد خلاف الظاهر ، ولا بدَّ له من دليل ، والمفروض عدمه.

فالاحتمال الرابع أيضاً ساقط.

وإذا سقطت الاحتمالات الثاني والثالث والرابع ، تعيَّن الأوّل وهو حمل المطلق على المقيد.

نظر الأُستاذ

وقد تنظّر الأُستاذ في الإشكالات على الاحتمالات في مقام الإثبات.

أمّا ما ذكر في الاحتمال الثاني ، ففيه : إنه أخصّ من المدّعى ، لأنه إنّما يتمُّ لو لم يكن صدور الخطاب المطلق في مقام بيان الوظيفة الفعليّة ، وإلاّ وجب الأخذ بالمطلق ولا يتقدّم عليه المقيَّد الظاهر في الوجوب.

وأمّا ما ذكر في الاحتمال الثالث ، ففيه : إن قاعدة الحمل على الإرشاديّة غير جارية في المقيَّد ، إذ ليس «أعتق رقبةً مؤمنة» مسبوقاً بأمرٍ متوجّه إلى مركبٍ حتى يكون الأمر بالمقيَّد إرشاداً إلى شرطيّة الإيمان أو جزئيّته في المركّب ، ففرقٌ بين قوله : (أقيموا الصلاة) ثم قوله (اركعوا) و (اسجدوا) حيث أنّ الأمر بالصلاة أمر بمركّب ، والأمر بالركوع والسجود ونحوها يحمل على الجزئيّة للصّلاة المأمور بها من قبل ، لعِلمنا بأنّ الصّلاة فعلٌ مركَّب من أجزاء مترابطة ، وباب الإطلاق والتقييد ، فليس الأمر فيه كذلك ، بل الأصل الأوّلي ـ وهو الحمل على المولويّة والمطلوبيّة النفسيّة ـ محكَّم فيه.

فما ذكر في (المحاضرات) غير دافع للاحتمال الثالث.

نعم ، يندفع بما ذكره الميرزا من الفرق بين ما نحن فيه ومسألة الواجب في الواجب ـ كأنْ ينذر واجباً من الواجبات ـ لأن متعلَّق الأمر في أعتق رقبةً مؤمنةً ، هو

٤٣٦

تقيُّد الرقبة بالإيمان ، أمّا في مثل نذر الصّلاة وغيرها من الواجب في الواجب ، فإنّ متعلَّق الأمر هو القيد ، أي خصوصيّة الإتيان بالصّلاة في أول الوقت مثلاً.

وقد ذكر هذا الجواب في (المحاضرات) في آخر كلامه قائلاً : «هذا مضافاً ...» وهذا هو الجواب الصحيح.

وأمّا الاحتمال الرابع ، فإنّ الميرزا قال : إنّ استقلال كلّ من الدليلين عن الآخر ينافي كون المتعلّق فيهما صرف الوجود وكون الأمر بالمقيد إلزامياً ، فالتنافي بين الدليلين مستقرٌّ ، وهذا باطل. وإذا سقط هذا الاحتمال تعيّن الأول وهو حمل المطلق على المقيد.

وفيه : إنه إذا كان الدليلان مستقلّين وكلّ منهما حكم إلزامي ، مفاد المطلق إجزاء عتق الكافرة ، ومفاد المقيَّد تعيّن المؤمنة ، فهما متنافيان ولا طريق للجمع بينهما ، فلما ذا يحمل أحدهما على الآخر؟ ولما ذا يتعيّن حمل المطلق على المقيد؟ إنه لا بدّ لتقديم أحد المتنافيين على الآخر من ملاكٍ ، وإلاّ فهو خلاف الظاهر جدّاً ، والميرزا لم يذكر الملاك.

وأمّا ما جاء في (المحاضرات) من لزوم تقييد المطلق بحصّة غير الحصّة المأخوذة في المقيَّد ، وهو خلاف الظاهر لعدم الدليل عليه ، فهو إرجاعٌ للدليلين إلى التخيير بين الأقل والأكثر ، لكنّه يحتاج إلى دليلٍ زائد وهو مفقود كما ذكر.

لكنْ يرد عليه ـ مضافاً إلى ما تقدَّم من عدم الدليل حينئذٍ على ترجيح المقيَّد على المطلق ـ أنّ هنا احتمالاً آخر وهو : أنْ يكون الخطابان على نحو تعدّد المطلوب ، بأن يكون هناك غرض مترتّب على الطبيعة اللاّبشرط ، وغرض آخر مترتّب على الطبيعة البشرط ، كما ذكر هو في مثال الماء ، ومثاله في الشريعة ترتّب الغرض على الصّلاة وترتب غرض آخر على وقوعها في الوقت ، فلو فات الوقت

٤٣٧

وجب الإتيان بها قضاءً ، تحصيلاً للغرض المترتب على الطبيعة. فليكنْ الحال في المقام من هذا القبيل. وهذا الاحتمال الثبوتي قد قام عليه الدليل في مقام الإثبات ، لأنّ المفروض وجود الدليل على الغرضين ، إلاّ أنْ كلاًّ منهما مزاحمٌ للآخر ، وهذا هو الإشكال ، لأنّ رفع اليد عن المطلق دون المقيَّد يحتاج إلى دليل.

وتلخّص : إنه لا دليل على حمل المطلق على المقيَّد في الصّورة الرابعة ، على ما ذكر الميرزا وتلميذه المحقق.

وذكر المحقق العراقي طريقاً لحلّ المشكل ، وهو أنّه لمّا كان المتعلَّق في كلٍّ من الدليلين صرف الوجود ، وهو لا يقبل التعدّد بأنْ يؤتى بصرف وجود كلٍّ من المتعلَّقين ، لاستلزامه اجتماع المثلين وهو محال كاجتماع الضدّين ، إذاً لا مناص من الالتزام بأحد التصرّفات :

إما رفع اليد عن ظهور المطلق وحمله على المقيّد ، حتّى يتّحد المراد والحكم.

وامّا رفع اليد عن صِرف الوجود ، بأنْ يحمل المتعلّق في كلٍّ منهما على وجودٍ مستقل عن الآخر ، فهناك إرادتان وحكمان مستقلاّن.

وامّا رفع اليد عن الظهور في الاستقلال والتأسيس ، وحمل المقيّد على التأكيد.

(قال) وأردأ التصرّفات هو الثاني ، أي حمل المتعلّق على الوجودين.

ولعلّ وجه الأردئيّة انطباق «الرقبة» على الرقبة المؤمنة ، لأنَّ كلّ لا بشرط يجتمع مع البشرط ، فإبقاء كلٍّ منهما على ظاهره أردأ الوجوه ، وعند دوران الأمر بين الوجهين الآخرين يتعيَّن الحمل على تأكّد الطلب في خصوص المؤمنة التي هي متعلَّق الأمر بالمقيّد.

٤٣٨

وقد أورد عليه الأُستاذ :

أولاً : لا ريب في استحالة اجتماع الحكمين على المتعلَّق الواحد ـ وإنْ اختلفوا فقيل بالاستحالة الذاتية كما عليه صاحب (الكفاية) وهو ظاهر المحقق العراقي ، وقيل هي عرضية كما عليه المحقق الأصفهاني ـ لأنهما إمّا ضدّان وامّا مثلان ، فاجتماعهما محال ، لكنّ الحكمين في محلّ الكلام غير واردين في مرحلة الجعل على المتعلَّق الواحد ، لأنّ صِرف الوجود في «أعتق رقبةً» غير صرف الوجود في «أعتق رقبة مؤمنة». نعم ، في مرحلة الامتثال ينطبق الخطابان على الرقبة المؤمنة ، وإذا تعدّد المتعلَّق ، فلا حاجة إلى تصرّفٍ أصلاً. وعليه فأصل الطريق غير صحيح.

وثانياً : إنه على فرض دوران الأمر بين التصرّفين الأوّل والثالث ، قال بتعيّن الحمل على تأكّد الطلب في المجمع أي الرقبة المؤمنة ، لكنه لم يذكر لهذا الحمل دليلاً ، وإنّما ادّعى أولويّته من الحمل الآخر ، ومن المعلوم أنّ الأولويّة لا تفيد ظهوراً للكلام ، بل المرجع في رفع التنافي بين الكلامين هو العرف ، وهو إنما يكون على أساس استقرار الظهور في طرفٍ فيرفعون اليد عن الطرف الآخر ، وأمّا أنْ يكون الحمل على أساس الأولوية وأنه أخفّ مئونةً ، فهذا ليس بحملٍ عرفي.

(قال) فالصحيح أنْ يقال : إنه إنْ احرز كون الحكم المطلق صادراً في بيان الوظيفة العملية ، أي من قبيل الفتوى ، فإنّ ظهوره في الإطلاق منعقدٌ ولا بدّ من رفع اليد عن ظهور المقيَّد في الوجوب. أمّا إنْ لم يحرز ذلك ، فإنّ ظهور المقيَّد في الوجوب تامٌّ بحكم العقل ما لم يأتِ المرخّص ، ولا وجه عند العقل لرفع اليد عن هذا الظهور.

هذا كلّه فيما لو كان الحكمان مثبتين.

٤٣٩

لو كان المتعلَّق صرف الوجود والحكمان غير مثبتين

أمّا لو كان المتعلَّق في الخطابين صرف الوجود ، غير أن الحكم في المقيّد مخالف ، كما لو قال : أعتق رقبةً. ثم قال : لا تعتق رقبةً كافرة ، فالخلاف المذكور ـ من حمل المطلق على المقيَّد كما عليه المشهور ، أو حمل المقيَّد على المرجوحيّة كما هو القول الآخر ـ يأتي هنا ... وقد قال الميرزا بالحمل هنا أيضاً على أساس القرينيّة ، لكنّها غير ثابتة خاصّةً في المنفصلين كما تقدّم بالتفصيل.

فالتحقيق أن يقال :

إن النهي عن عتق الكافرة يدلّ على المبغوضية ، فعلى القول بظهوره في الحرمة ظهوراً وضعيّاً ، فالأمر واضح ، وأمّا على القول بعدمه ، فلا ريب في حكم العقل بالانزجار عن عتق الكافرة ما لم يرد ترخيص من قبل المولى ، وحينئذٍ ، فإنْ احرز كون المطلق في مقام بيان الوظيفة الفعليّة ، تقدّم ظهوره وكان قرينةً على الترخيص ، ويحمل النهي على المرجوحية ، وإلاّ فمقتضى القاعدة الأخذ بظهور النهي وعدم كفاية عتق الكافرة.

وهذا تمام الكلام في الإطلاق البدلي.

المقام الثاني (في الإطلاق الشمولي)

إن كان الإطلاق شموليّاً كما لو قال : أكرم العالم ولا تكرم العالم الفاسق ، وفي الشريعة (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) و «نهى النبي عن بيع الغرر» ، فلا خلاف في حمل المطلق على المقيَّد.

أمّا لو كان مثبتين كما لو قال : أكرم العالم وأكرم العالم العادل ، فقولان :

الأول : عدم الحمل. وهو المشهور.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

٤٤٠