تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

المشهور المعروف بين الأصحاب.

وقد أشكل عليه في (المحاضرات) بما حاصله : بأنّه ينفع في ما لو شك في أصل كون المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال. أمّا لو شك في حدّ المراد كما هو الحال في مثل قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (١) في أنّه يريد الحليّة أو هي والطّهارة معاً ، فلا سيرة من العقلاء على جعل الكلام في مقام البيان من جهة الطّهارة أيضاً.

وأشكل الأُستاذ من ناحيةٍ اخرى ، فاعترف بتمامية السّيرة إلاّ أنها إنما تجري في كلام من دأبه بيان الخصوصيات في مجلسٍ واحدٍ ، وليس دأب الشارع هكذا ، فإنّ الخصوصيّات الدخيلة في الأحكام الشرعية قد ذكرت على لسان أحد الأئمة بعد أن جاءت المطلقات في القرآن أو في كلام النبي ... والحاصل : إنّ العقلاء إذا عملوا بأن دأب المتكلّم هكذا ، لا يتمسّكون بإطلاق كلامه ، بل سيرتهم في كلامه قائمة على على التوقف.

فالتحقيق هو التفصيل بين كلام غير الشارع ممن دأبه إعطاء الخصوصيّات في المجلس الواحد ، فالسيرة العقلائية جارية على الأخذ بإطلاق كلامه ، وبين كلام الشارع ، ففي كلامه يكون المستند للإطلاق هو سيرة المتشرعة ، فإنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام وغيرهم لمّا كانوا يرجعون إليهم ويأخذون الحكم الشرعي منهم ، ما كانوا ينتظرون شيئاً ، بل كانوا يذهبون ويعملون بما أخذوه ، بل كان بعضهم ربما لا يرى الإمام بعد تلك الجلسة ... فهذه السيرة غير المردوعة من الأئمة هي المستند لأصالة البيان والأخذ بإطلاق الكلام بلا توقف.

وهذا تمام الكلام في المقدمة الاولى.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٤.

٤٠١

المقدمة الثانية

كون المتكلّم متمكّناً من البيان ، فإنْ لم يكن أو شك في تمكّنه ، لم يمكن القول بإطلاق كلامه.

وقد جعل الميرزا ـ وتبعه في (المحاضرات) ـ هذه المقدمة هي الاولى ، وأفاد أنّ بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فإنما يمكن التمسّك بالإطلاق حيث يمكن فيه التقييد ، واستحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق.

ولا يخفى ما لهذا المبنى من الأثر ، وذلك ، لأنّ لموضوع الحكم وكذا للمتعلَّق انقسامات هي متأخرة عن الحكم ، ولا يمكن تقييد الموضوع أو المتعلَّق بشيء منها ، إذنْ ، لا يمكن حمل الكلام على الإطلاق بالنسبة إليها.

مثلاً : وجوب قصد القربة في الصّلاة مثلاً متأخر عن الحكم بوجوبها ، وهو متأخر عنها. فكان قصد القربة في الصّلاة متأخراً عنها بمرتبتين ، وحينئذٍ ، يستحيل تقييدها بقصد القربة ، فيستحيل الإطلاق في الصّلاة من جهة اعتبار قصد القربة. هذا في المتعلَّق.

وكذلك في الموضوع ، لأنّه متقدّم رتبةً على الحكم ، والمكلَّف ينقسم إلى العالم بالحكم والجاهل به ، لكنّ هذا الانقسام متأخّر عن الحكم المتأخّر عن الموضوع ، فيستحيل تقييد الموضوع بالعالِم بالحكم ، وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، وحينئذٍ ، لا يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة التكاليف لإثبات الاشتراك في التكليف بين العالمين والجاهلين به.

وقد خالف الميرزا مسلك الشيخ ، لأنّ الشيخ يذهب إلى أنه إذا استحال التقييد وجب الإطلاق ، ومن هنا يتمسّك بإطلاقات أدلّة التكاليف لإثبات الاشتراك ، وبإطلاق دليل وجوب المتعلّق على عدم وجوب قصد القربة ... فالشيخ

٤٠٢

قائل بأن التقابل من قبيل التضاد.

وتوضيح المطلب هو : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات يختلف عنه في مقام الثبوت. أمّا في مقام الإثبات ، فإنه تارةً يقول : أعتق رقبةً ، واخرى يقول : أعتق رقبةً مؤمنة ، فهنا يكون التقابل من قبيل العدم والملكة ، لأن التقييد أمر وجودي والإطلاق عدم هذا التقييد ، وحيث أنّ موضوع الإطلاق والتقييد في هذا المقام هو ما يكون المتكلّم فيه متمكّناً من التقييد ، فتارةً يأخذ القيد فيه واخرى لا يأخذه ، فهو وجود وعدم في موضوع خاص ، فيكون من قبيل العدم والملكة ، وله شق ثالث وهو حيث لا يكون المتكلّم متمكّناً من التقييد ، فليس هناك إطلاق ولا تقييد.

وأمّا في مقام الثبوت فهناك مراحل ، تبدأ من الغرض ثم الإرادة ثم الحكم ... وهو فعل اختياري ناشئ من تصوّر الموضوع ولحاظه ، فتارةً يلحظه مع الخصوصيّة الدخيلة في الغرض فيكون مقيداً ، واخرى يرى أن لا دخل لوجود الخصوصيّة وعدمها في الغرض ، فلا يأخذها في الموضوع ، فيكون بشرط تارةً واخرى لا بشرط ، وكلاهما أمر وجودي ، فالحق مع الشيخ.

فالنسبة بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت نسبة التضاد ، وفي مقام الإثبات نسبة العدم والملكة.

المقدّمة الثالثة

وقد اتّضح مما تقدَّم : أنّ المقدّمة الثالثة هي أنْ لا يأتي المتكلّم في مقام الإثبات ومرحلة إبراز الحكم بقيدٍ ، بل يعتبر في الإطلاق أن لا يكون الكلام محفوفاً بقرينة حاليّة أو مقامية ....

٤٠٣

الدليل على انعقاد الإطلاق مع المقدّمات

وبعد الفراغ من المقدّمات ، فما الدليل على انعقاد الإطلاق للكلام مع حصول المقدّمات؟

هنا وجوه :

الأوّل : إنّ المفروض كون المتكلّم عاقلاً حكيماً ذا إرادة جديّة بالنسبة إلى متعلَّق حكمه الذي أصدره ، وفي هذه الحالة ، لو كان غرضه متعلّقاً بالموضوع المقيَّد بالقيد لقيّده به ، وإلاّ لزم الإغراء بالجهل ، وهو مناف للحكمة.

الثاني : إنّه مع فرض ما تقدَّم ، وأنّ غرضه متقوّم بالرقبة المؤمنة مثلاً ، فإنّه لو أطلق الكلام عن هذا القيد ، لزم نقض الغرض وهو إمّا محال أو قبيح من الحكيم.

الثالث : إن الأصل هو التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات ، ومقتضى المقدّمات المذكورة هو التطابق وإلاّ لانهدم هذا الأصل وبقي بلا موضوع.

وتلخّص : أنه مع المقدّمات المذكورة يتمُّ ظهور الكلام في الإطلاق ، وتتمُّ الحجيّة العقلائية له لما تقدّم من الوجوه.

تنبيهات

الأوّل

هل يعتبر عدم وجود القدر المتيقَّن؟

قال في الكفاية في مقدمات الإطلاق :

ثالثتها : انتفاء القدر المتيقَّن في مقام التخاطب ، ولو كان المتيقَّن بملاحظة

٤٠٤

الخارج عن ذاك المقام في البين ، فإنه غير مؤثر في رفع الإخلال بالغرض لو كان بصدد البيان كما هو الفرض ... (١).

وتوضيحه : إن القدر المتيقَّن من الطبيعي الذي يرد عليه الحكم ، تارةً خارجي ، كالفقيه الذي يفرض كونه القدر المتيقن خارجاً من قوله : «أكرم العالم» كما أنّ القدر المتيقن من الفقيه هو الجامع للشرائط ... وهذا القسم من القدر المتيقن موجود سواء كان هناك أمرٌ أو تخاطب أو لم يكن ... ووجوده غير مانع من انعقاد الإطلاق للكلام ، وإلاّ لما تحقّق إطلاقٌ لكلامٍ.

واخرى : يكون القدر المتيقَّن في مقام التخاطب ، بأنْ يكون هناك مكالمة ومحاورة فيسأل عن شيء ويعطي الجواب عنه ، فيكون مورد السؤال والجواب هو القدر المتيقن من الكلام المطلق. وقد مثَّل له في (المحاضرات) (٢) بموثقة ابن بكير : سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصّلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتاباً زعم أنه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الصّلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصّلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسدة ، لا تقبل تلك الصّلاة حتى يصلّي في غيره ممّا أحل الله أكله» (٣) فالقدر المتيقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال ، ضرورة أن إرادة الإمام عليه‌السلام غيره غير محتمل جزماً ، وأمّا العكس بأنْ لا يريد غيره ، فهو محتمل ... فوجود هذا المتيقَّن يمنع من انعقاد الإطلاق للكلام.

وقد أورد الأُستاذ على هذا المثال : بأنّه ليس من صغريات القدر المتيقَّن في مقام التخاطب على مبنى السيد الخوئي ، لأنه يذهب إلى أنه لا حاجة إلى مقدّمات

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٧.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٣٨.

(٣) وسائل الشيعة ٤ / ٣٤٥ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، رقم ١.

٤٠٥

الحكمة في موارد العموم الوضعي ، بل اللّفظ بنفسه دالّ على العموم وضعاً ، وجواب الإمام في الموثقة عام وليس بمطلق ، والمحقق الخراساني لا يرى مانعيّة القدر المتيقن في مقام التخاطب عن انعقاد العموم.

لكن الصحيح هو التمثيل بصحيحة زرارة الواردة في قاعدة التجاوز ، إذ سأل الإمام عن الشك في الأذان وقد دخل في الإقامة ، فأجاب بعدم الاعتناء بالشك. ثم سأل عن الشك فيهما وقد كبّر ، فأجاب بعدم الاعتناء به ، وهكذا جعل يسأل عن الشك في أجزاء الصّلاة بعد تجاوزها ، فقال الإمام عليه‌السلام : «يا زرارة ، إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» (١). فالموارد التي سأل عنها زرارة هي القدر المتيقَّن من هذا المطلب الكلّي الذي ذكره الإمام عليه‌السلام ، وبناءً على مسلك (الكفاية) لا يمكن التمسك بإطلاق الكلام المذكور مع وجود القدر المتيقن ، بل يجب الاعتناء بالشك فيما عداه ، أمّا إذا لم يتم مسلكه ، فإنْ إطلاق الكلام يشمل الحج وغيره من الواجبات ذوات الأجزاء أيضاً ، ولا يعتنى بالشك في الجزء السابق بعد الدخول في اللاّحق.

الإشكال على الكفاية

وقد أشكل على (الكفاية) نقضاً وحلاًّ.

أمّا نقضاً ، فقد تمسّك المحقق الخراساني ـ خلافاً للشيخ ـ بإطلاق نصوص الاستصحاب ، كقوله عليه‌السلام «إنّ الشكَّ لا ينقضُ اليقين» (٢) لحجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي ، مع وجود القدر المتيقَّن لهذا الكلام ، وهو مسألة الوضوء وبقاء الطهارة مع الخفقة والخفقتين في السؤال والجواب بين الإمام وزرارة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ / ٢٣٧ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، رقم ١.

(٢) وسائل الشيعة ١ / ٢٤٧ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، رقم ٦.

٤٠٦

ولا يخفى الأثر الفقهي الكبير المترتّب على هذه المسألة. فلو وقع عقد وتردّد بين كونه منقطعاً ومدّته سنة أو دائمياً لا يرتفع إلاّ بالطلاق ، فإنّ الشيخ لا يرى جريان استصحاب بقاء الزوجيّة بعد السنة ـ لأن الشك حينئذٍ في اقتضاء الزوجيّة للبقاء ـ أمّا صاحب (الكفاية) فيرى جريانه ، أخذاً بإطلاق أدلة الاستصحاب ، مع وجود القدر المتيقَّن في مقام التخاطب.

على أنّه لا يشترط في القدر المتيقّن في مقام التخاطب أنْ يكون هناك سؤال وجواب ، بل مجرّد ورود الدليل في موردٍ خاص يكفي لأنْ يكون ذاك المورد هو القدر المتيقن من المراد ، فلا يجوز التعدّي عنه إلى غيره أخذاً بإطلاق الكلام على مبنى (الكفاية) ، والحال أنّه يأخذ بذلك كما هو واضح. وهذا نقض آخر.

هذا ، وأمّا نقض الميرزا : بأنه لو كان القدر المتيقن في مقام التخاطب مانعاً عن انعقاد الإطلاق ، فالقدر المتيقن الخارجي كذلك. فواضح الاندفاع.

وأمّا حلاًّ :

فإنّ المفروض كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده ، ومقتضى ذلك أن يكون الإثبات موافقاً للثبوت ، فلو كان المراد الواقعي على حدّ القدر المتيقن لَما كان الذي قاله مطابقاً لمراده الذي كان بصدد بيانه ، فلو سئل : هل يجب إكرام زيد العالم ، فأجاب بوجوب إكرام العالم ، وكان مراده وجوب إكرام زيد ، لزم أن لا يكون كلامه موافقاً لِما هو في مقام بيانه ، لأنه قد جاء بالحكم على طبيعي العالم ، الشامل لزيد العالم وغيره من العلماء ، ولكنّ الأصل العقلائي ـ وهو التطابق بين الثبوت والإثبات ـ يقتضي عدم انحصار الإكرام بزيد.

والحاصل : إن ما ذهب إليه صاحب (الكفاية) ينافي أصالة التطابق.

٤٠٧

الثاني

توقّف الإطلاق على عدم الانصراف

قال في الكفاية :

ثم إنه قد انقدح بما عرفت ... أنه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف ، لظهوره فيه أو كونه متيقّناً منه ... (١).

ولا يخفى أن مرادهم عدم انعقاد الإطلاق ، لا أنّ الانصراف أو وجود القدر المتيقن ـ على القول به ـ مانعٌ عنه ، لوضوح أن مرتبة المانع متأخرة عن المقتضي ... بل مرادهم عدم تحقق الإطلاق ، فلا يشكل عليهم من هذه الجهة ، لمعلوميّة مرادهم من عباراتهم ، وإنْ كان ظاهر كلام الأُستاذ الإيراد عليهم بذلك.

وأمّا الانصراف ـ وهو عبارة عن رجوع اللّفظ من الدلالة على معنىً إلى الدلالة على معنى آخر ـ فلا يكون بلا منشأ ، وقد وقع الكلام بينهم فيه.

لقد قال المتقدّمون بالانصراف على أثر ندرة الوجود لحصّةٍ من حصص الطبيعة ، وأنّ الظهور ينعقد في الحصّة الغالبة ... إلاّ أن المتأخرين يقولون بأنّ ندرة الوجود لا تكون منشأً لانصراف اللّفظ عن النادر ، ولا غلبة الوجود تكون منشأً لانصرافه نحو الغالب ... لأنّ اللفظ صادق على النادر حقيقةً كصدقه على الغالب في الوجود ، ويحصرون الانصراف بصورة التشكيك في الصدق ، بأنْ يكون صدق اللفظ على حصّةٍ جليّاً وعلى الاخرى خفيّاً ، فيقولون بانصرافه إلى ما هو فيه جليٌّ ، ويمثّلون لذلك بعنوان «ما لا يؤكل لحمه» حيث أنّ الإنسان من مصاديقه حقيقةً ، لكنّ صدقه عليه خفي وعلى غيره مما لا يؤكل لحمه من الحيوانات جليّ ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٩.

٤٠٨

ولذا ، فإنّ الدليل الدالّ على عدم جواز الصّلاة فيما لا يؤكل لحمه منصرف عن الإنسان إلى غيره ، فتجوز الصّلاة في شعر الإنسان ولا تجوز في شعر الهرّة مثلاً.

والحاصل : إنهم يقولون بأنّ التشكيك في الصّدق هو المنشأ الوحيد المقبول لقالبيّة اللّفظ في المنصرف إليه من المصاديق ، وأمّا مع التواطؤ في الصدق ، كلفظ الرقبة الصادق على المؤمنة والكافرة على حدٍّ سواء ، فلا ينافي الإطلاق ، بل حتى لو كان الصّدق في حصّةٍ أظهر منه في حصّةٍ اخرى لم يناف الإطلاق ... فالملاك هو التشكيك إلى حدّ الجلاء والخفاء.

ثم إنّ الانصراف تارةً يكون مطلقاً واخرى يكون في حالٍ دون حالٍ ، فمثلاً لفظ «الكف» في : «امسح بكفّك قدميك» له ظاهر وباطنٌ ، واللّفظ وإنْ كان ظاهراً في الإطلاق ، بأنْ يمسح بالظاهر أو بالباطن ، لكن بعض الفقهاء كالهمداني (١) رحمه‌الله يرى بأن مثل هذا الدليل ناظر إلى أحوال المكلَّفين ، أي إنه ينصرف إلى المسح بباطن الكف للمكلَّف المختار ، وإلى المسح بظاهره للمكلّف المضطر.

هذا ، واللّفظ تارةً منصرفٌ كما في انصراف «ما لا يؤكل لحمه» عن الإنسان. واخرى له صارفٌ ، كما لو كان محفوفاً بقرينة حالية أو مقالية ، وقد يقع الشك في وجود الصارف وعدم وجوده. مثلاً يقول الإمام عليه‌السلام «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو» (٢) وهذه قاعدة الفراغ ... فظاهر الرواية هو عدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ من العمل ، سواء كان حين العمل ملتفتاً أو غافلاً ، فهذا هو الظاهر ولا قيد في الرواية ، وقد أخذ بعض الفقهاء بهذا الإطلاق ، لكنّ هنا قرينةً خارجيّة لها دخلٌ في المطلب ، وهي السيرة العقلائية

__________________

(١) مصباح الفقيه ١ / ١٥٠.

(٢) وسائل الشيعة ١ / ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، رقم ٦.

٤٠٩

القائمة على إناطة عدم الاعتناء بالشكّ بأصلين هما : أصالة عدم تعمّد المكلّف للإخلال بالعمل ، وأصالة عدم غفلة المكلَّف عن العمل حين الإتيان به ... فيكون عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ منوطاً بالأصلين ، والرواية ملقاة إلى العرف ومنزلة على ما في السيرة العقلائية ، وعليه ، يثبت احتفاف الرواية بهذه السّيرة الصالحة لأنْ تكون قرينة صارفةً لإطلاقها ، ونتيجة ذلك : أنه لو شكّ في جريان أحد الأصلين في موردٍ انتفت السّيرة ، فلا يؤخذ بإطلاق الرواية ... وهذا معنى قولهم : إنه يعتبر في الإطلاق عدم وجود ما يحتمل الصارفيّة.

الثالث

لو كان بين الجهة المراد بيانها وجهة اخرى ملازمة

قد تقدَّم أنّه يعتبر في انعقاد الإطلاق كون المتكلّم في مقام بيان المراد ، وأنّه إذا كان للموضوع أو المتعلَّق جهات ، فإن الإطلاق لا ينعقد إلاّ في الجهة التي سبق الكلام لبيانها ... ومثّلنا لذلك بقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) (١).

لكنْ عن الشيخ قدس سرّه وتبعه في (الكفاية) (٢) أنه يستثنى من ذلك ما لو كان بين الجهة التي يراد بيانها وغيرها ملازمة شرعية أو عقليّة أو عادية ، فالإطلاق يعمُّ تلك الجهة أيضاً ، ففي الآية مثلاً لو كان بين حليّة الأكل والطّهارة ملازمةٌ ، فإنّ الإطلاق ينعقد في طرف الطهارة أيضاً وإنْ لم تكن الآية في مقام بيان الحكم إلاّ من جهة حليّة الأكل ... وقد مُثّل للمطلب بالملازمة العقليّة بين صحّة الصّلاة نسياناً في مطلق أجزاء ما لا يؤكل لحمه. وما دلَّ على صحّتها كذلك في عذرة ما لا يؤكل لحمه مع كون العذرة جزءاً له.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٤.

(٢) كفاية الاصول : ٢٤٩ تنبيه.

٤١٠

الرابع

لو ظفر بمقيّد الكلام فيما بعد

قد عرفت أنه لا بدّ من إحراز كون المتكلّم في مقام البيان.

فوقع الكلام فيما لو ظفر بالقيد فيما بعد ، فهل يكشف ذلك عن عدم كونه في مقام بيان تمام المراد ويسقط الإطلاق فلو عثرنا على المقيِّد للرقبة بالإيمان ، فهل يبقى لقوله : أعتق رقبةً إطلاق بالنسبة إلى العلم والجهل مثلاً؟

قال في الكفاية :

ثم لا يخفى عليك أن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده : مجرّد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه ، ولو لم يكن عن جد بل قاعدةً وقانوناً ، لتكون حجةً فيما لم تكن حجة أقوى على خلافه ، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا يكون الظفر بالمقيَّد ـ ولو كان مخالفاً ـ كاشفاً عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان ، ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحّة التمسّك به أصلاً. فتأمّل جيداً (١).

وحاصل كلامه : أن «البيان» الذي يعتبر في مقدّمات الإطلاق يختلف عن «البيان» الذي في قاعدة «تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح» أي عن وقت حاجة المخاطب ، لأنه مناف للحكمة ، وإلاّ فإنه عن وقت حاجة المتكلّم محالٌ ، لأنه نقض للغرض ـ وذلك ، لأنّ المفروض كون التكلّم في مقام بيان وإظهار مراده للمخاطب وإفهامه إيّاه ، وإنْ لم يكن ذلك مراده الجدّي الواقعي ، فلو ظفر فيما بعدُ على مقيَّد لم يضر بإطلاق كلامه ، نعم ، لو كان في مقام بيان الحكم الواقعي ، ثم ظهر المقيِّد لكلامه ، لوقع التنافي ، لأنّه لم يبيّن المراد الواقعي مع كونه في مقام

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٨.

٤١١

بيانه كما هو الفرض.

وعلى الجملة ، فإنه إن كان في مقام بيان الوظيفة العملية في ظرف الشك حتى لا يبقى متحيّراً ، ففي هذه الحالة ينعقد الإطلاق ولا يضرّ مجيء المقيّد لاحقاً إذا احرز كونه في هذا المقام ، وأمّا إن كان في مقام بيان المراد الجدّي والحكم الواقعي ، فالمقيّد اللاّحق يضرّ ... والمقصود في مقدّمات الإطلاق هو الأول ، لأنّ الغرض تأسيس أصالة الإطلاق ليكون مرجعاً لدى الشك في مراد التكلّم من كلامه.

وتلخّص عدم إضرار المقيّد الذي ظفر به فيما بعد.

وللشّيخ قدس سرّه هنا بيانٌ آخر وهو : إنّه لما كان المتكلّم في مقام بيان مراده الجدّي الواقعي ، وكان لموضوع الحكم أو متعلّقه جهاتٌ عديدة كما في الرقبة مثلاً ، والمفروض إحراز تلك الجهات بالوجدان أو بأصالة البيان ، فلو وصل فيما بعد قيدٌ يضرّ بجهةٍ منها ، فإنّ الإطلاق من تلك الجهة يزول ، ولا يضرُّ زواله به من الجهات الاخرى ، فلو عثر على دليلٍ يعتبر الإيمان ، فإنه تخرج الرقبة عن الإطلاق من تلك الجهة لحصول المزاحم لانعقاده ، وتبقى عليه من جهة العلم والجهل والذكورة والأنوثة إلى غير ذلك ، لعدم تحقق المزاحم له من جهتها.

الخامس

هل تقييد الإطلاق يستلزم المجازيّة؟

قد تقدَّم الخلاف بين المشهور والسلطان والمتأخرين. فعلى هذا المبنى حيث أنّ الإطلاق والتقييد خارجان عن المعنى الموضوع له اللّفظ ، فإنّ كلاًّ منهما مستفادٌ من القرينة ، أمّا الإطلاق فقرينته مقدمات الحكمة ، وأمّا التقييد فالقرينة

٤١٢

الخاصة القائمة عليه من قولٍ أو حال ... لوضوح أن اللّفظ ـ على هذا المسلك ـ موضوعٌ للماهيّة من حيث هي أو للطبيعة المهملة ... والمجاز استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

فلا مجازية على مسلك المتأخرين.

أمّا على مسلك الجمهور من دخول الإطلاق في المعنى ، أمّا في المقيّد المتّصل فالمجازيّة حاصلة ، لأن اللّفظ قد استعمل في غير الموضوع له وهو المطلق. وأمّا في المنفصل : فالميرزا على المجازية كذلك ، وخالفه تلميذه في (المحاضرات) ، وتبعه الأُستاذ : بأنّ المنفصل إنما يصادم الحجّية دون الظهور ، لوجود المقتضي له وعدم المانع ، فلا بدّ ـ على مسلكهم ـ من التفصيل بين المتصل والمنفصل.

وهذا تمام الكلام في التنبيهات.

٤١٣

الكلام في حمل المطلق على المقيّد

إذا ورد مطلق ومقيّد ، فهل يحمل المطلق على المقيَّد؟

إن الإطلاق تارةً بدلي واخرى شمولي ، فالكلام في مقامين.

المقام الأول (في الإطلاق البدلي)

وهو ما يتحقّق فيه الامتثال بالإتيان بصرف الوجود من المأمور به ، كما لو قال : أعتق رقبةً. فتارةً يكون المطلق والمقيَّد متوافقين في الحكم ، بأنْ يكون كلاهما إيجابيّين أو يكونا سلبيين ، واخرى : يكونان متخالفين ، كأنْ يقول : أعتق رقبة ولا تعتق رقبةً كافرة.

أمّا إذا كانا متخالفين ، فلا خلاف في حمل المطلق على المقيّد ، كما في المثال.

وأمّا إذا كانا متوافقين ـ مع العلم بوحدة الحكم ـ كما لو قال : أعتق رقبةً ، وأعتق رقبةً مؤمنة ، ففي حمل المطلق على المقيَّد قولان ، فالمشهور على الأول. وقيل لا ، بل يحمل القيد على أفضل الأفراد. وتفصيل الكلام هو :

إنّ الحمل فرعٌ لوجود التنافي في المدلول بين الكلامين ، ولمّا كان المفروض وحدة الحكم ، أي لا يجب إلاّ عتقٌ واحدٌ ، فهل المعتق مشروطٌ بالإيمان أو أنه غير مشروط ، ولا يخفى التنافي بين الاشتراط وعدم الاشتراط؟ فقال المشهور برفع التنافي بحمل المطلق على المقيد ، فيكون الإيمان شرطاً وقيداً في العتق ، وقال الآخرون بالحمل على أفضل الأفراد وبه يرتفع التنافي.

٤١٤

دليل القول بالحمل في المقيّد المتّصل

وقد استدلّ للمشهور بوجوه :

الأوّل : أنا إذا حملنا المطلق على المقيَّد فقد عملنا بكلا الدليلين ، وهو واجب كما لا يخفى لأن كلاًّ منهما دليل.

وفيه : إنْ كان المراد من العمل بالدليلين هو الامتثال لهما ، بمعنى أنّ بالإتيان بالرقبة المؤمنة جمعٌ في الامتثال ، فهذا غير الجمع بين الدليلين الرافع للتعارض بينهما لا بالتبرّع بل بشاهدٍ. وإنْ كان المراد أنّ الإتيان بالرقبة المؤمنة هو مقتضى الجمع الدلالي بين الدليلين ، فهو أوّل الكلام ، لأن القائلين بالقول الثاني يقولون بالجمع الدلالي بينهما بالحمل على أفضلية عتق المؤمنة من غير المؤمنة مع سقوط التكليف بكلٍّ منهما.

والثاني : ما ذكره صاحب (الكفاية) (١) ، من أنّ المفروض كون الإطلاق بدلياً ، ومعنى ذلك لا بشرطيّة الرقبة بالنسبة إلى الإيمان والكفر ، فيكون المكلّف في مقام الامتثال مخيَّراً عقلاً بين أن يأتي بالمؤمنة أو الكافرة ، ولكنّه قال بعد ذلك : أعتق رقبةً مؤمنةً ، وهذا أمر ظاهر في الوجوب التعييني ، وبما أنه أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، فإنّه يتقدّم ويحمل عليه المطلق لا محالة.

الإشكال على الكفاية

وقد أشكل عليه الإيرواني (٢) :

بأنّ من مقدّمات الإطلاق إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، فإنْ احرز ذلك في أحدهما بالوجدان وفي الآخر بالأصل ، فلا ريب في عدم التعارض بل

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٠.

(٢) نهاية النهاية : ٣١٦.

٤١٥

يتقدّم ما كان بالوجدان على ما كان بالأصل ، لأنّه مع الوجدان لا مجال للأصل. وإنْ كان المستند في كلا الكلامين هو الأصل ، فلا تقدّم لأحدهما على الآخر. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن الظهور في الدليلين على حدٍّ سواء ، لأن دلالة الدليل المقيَّد على وجوب عتق المؤمنة بالخصوص هي من جهة الظهور الإطلاقي في الوجوب التعييني ، ودلالة المطلق على كفاية صرف وجود عتق الرقبة هي من جهة الظهور الإطلاقي كذلك ، فكلاهما ظهور إطلاقي ، ولا وجه لتقدّم أحدهما على الآخر.

وفي (المحاضرات) (١) الإشكال على (الكفاية) : بأنه لا يتم على مسلك صاحب (الكفاية) ، حيث أنه قد صرَّح في بحث الأوامر بأنْ صيغة الأمر لم توضع للدلالة على الوجوب التعييني ، بل هو مستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وعليه ، فلا فرق بين الظهورين ، وليس ظهور الأمر في الوجوب التعييني بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

دفاع الأُستاذ

وقد ذكر الأُستاذ : أن وجه الأظهرية قد خفي على هذين المحققين فأشكلا بما ذكر ، وذلك أن صاحب (الكفاية) قد صرّح في المبحث الثاني (٢) من مباحث صيغة الأمر بأنّها تدلُّ على الوجوب ، والدليل هو التبادر عند استعمالها بلا قرينةٍ (قال) : ويؤيّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب.

ثم ذكر في المبحث السادس (٣) : «قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيّاً تعيينيّاً عينيّاً ، لكون كلّ واحدٍ مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته ، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً عليه ، فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً ،

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٤٤.

(٢) كفاية الاصول : ٧٠.

(٣) كفاية الاصول : ٧٦.

٤١٦

وجب هناك شيء آخر أوْ لا ، أتى بشيء آخر أوْ لا ، أتى به آخر أوْ لا».

وبالدقة في كلامه في المبحثين يظهر وجه الأظهريّة ، لأنّ «أعتق رقبةً» مطلقٌ وليس معه شيء آخر ، وإطلاقه بدلي ، لكنّ «أعتق رقبةً مؤمنةً» مشتمل ـ بالاضافة إلى الدلالة الإطلاقيّة من جهة الوجوب التعييني ـ على دلالةٍ وضعيّةٍ من جهة الدلالة على وجوب خصوص المؤمنة ، فكان المقيَّد أظهر دلالةً ، وتقديم المطلق عليه يستلزم سقوط الإطلاق والوضع معاً.

فظهر اندفاع الإشكال عن كلامه في المقام ، وإنْ كان لنا فيه نظر من ناحيةٍ اخرى ، كما سيأتي.

ويمكن دفع الإشكال بعبارة اخرى ، بأن يقال : إنّ ظاهر «أعتق رقبةً» ينفي دخل الإيمان عن طريق عدم التقييد واللابشرطيّة ، أمّا في «أعتق رقبةً مؤمنةً» فإنه وإنْ كان الإطلاق يقتضي الوجوب التعييني ، لكن اعتبار خصوصيّة «الإيمان» قد أوجد التضييق في دائرة الموضوع ، وهذه الدلالة على التضييق وضعيّة لا إطلاقيّة.

والحاصل : إنه في «أعتق رقبةً» توجد التوسعة بالنسبة إلى الإيمان عن طريق الإطلاق ـ أي بمقدّمات الحكمة ـ لا بالدلالة اللّفظية ، أمّا في «أعتق رقبةً مؤمنةً» تضييق بالنسبة إلى الإيمان بالدلالة اللّفظية الوضعيّة ، فكان الإطلاق فيه مقترناً بدلالةٍ وضعيّة ، فيكون ظهوره أقوى من ظهور «أعتق رقبةً» ويتقدّم عليه بملاك الأظهريّة.

والثالث : ما ذكره الشيخ وحاصله : أنّ الأمر يدور بين الجمع بين المطلق والمقيَّد بالتخيير ، أو حمل المقيَّد على الأفضلية والاستحباب ، أو حمل المطلق على المقيَّد.

أمّا الجمع بالتخيير ، فغير معقول ، لأن النسبة بين «الرقبة» و «الرقبة المؤمنة»

٤١٧

نسبة الكلّي إلى الفرد ، والتخيير بين الكلّي والفرد محال ، لوضوح أنّه يكون ب «أو» وهي تقتضي المباينة بين الفردين ، ولا مباينة بين الكلّي والفرد.

وأمّا حمل المقيّد على الأفضليّة ، فمردود بأنّه خلاف الظاهر ، لأن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب ، وحملها على الاستحباب رفع لليد عن مقتضى الظاهر بلا موجب.

وأمّا حمل المطلق على المقيّد ، فلا يستلزم تصرّفاً في المعنى ولا تجوّزاً في اللّفظ ، لأنّه قد استعمل في الماهيّة ، ثم لمّا جاء المقيَّد علمنا أنّه لم يكن في مقام بيان مراده الجدّي ، فنحمل كلامه المطلق على هذا المقيَّد ، ولا يستلزم أيّ محذور فيتعيّن هذا الاحتمال.

إشكال الكفاية

وقد أشكل عليه المحقق الخراساني (١) أوّلاً : بأنّ مقتضى استعمال اللّفظ في الطبيعة ، مع كون المتكلّم في مقام البيان وعدم التقييد ، هو ظهور الكلام في الإطلاق ، فإذا جاء المقيّد له سقط الظهور ، وهذا تصرّف في اللّفظ ، فقول الشيخ أنّه لا يستلزم تصرّفاً غير تام.

وثانياً : إن استلزام حمل المقيَّد على الأفضليّة للمجاز أوّل الكلام ، بل إنّه مع الحمل عليها واجدٌ لملاك الوجوب والأمر مستعملٌ فيه.

كلام الأُستاذ

فأورد الأُستاذ على الإشكال الثاني : بأنّ ملاك الوجوب يكون دائماً في الطبيعة وتحقّقه في الفرد محال ، فإذا كان عتق الرقبة المؤمنة مستحبّاً كان ملاك الوجوب قائماً بالرقبة ، وليس في المؤمنة إلاّ ملاك الاستحباب ، ومن هذا الباب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٠.

٤١٨

نقول باستحالة الإتيان بفردٍ من الصلاة بقصد الوجوب ، لأن الأمر بها متعلّق بالطبيعة ، والفرد المأتي به محقق للامتثال ومسقط للأمر.

وأمّا الإشكال الأول فمبنائي ، إذ الشيخ لا يرى أن التقييد تصرّفٌ في المعنى وصاحب (الكفاية) يراه تصرّفاً ، والتحقيق أنْ يقال :

إنه يدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور الأمر بالمقيَّد في الوجوب وحمله على الأفضلية أو رفع اليد عن الإطلاق ، لأنّه لا يمكن الجمع بينهما مع وحدة التكليف ، وفي هذه الحالة ما المانع من رفع اليد عن أصالة الحقيقة وارتكاب المجاز حتّى يتعيَّن التقييد؟

وبعبارة اخرى : ما الدليل على ترجيح ما لا يستلزم المجاز على ما يستلزمه عند دوران الأمر؟

على أنَّ استلزام الحمل على الأفضلية للمجاز ، يبتني على ظهور صيغة الأمر في الوجوب ظهوراً وضعيّاً ، ولا يتمّ على مبنى من يقول بأنّ الدلالة على الوجوب هي مقتضى الإطلاق.

طريق الميرزا

وذهب الميرزا إلى فإنّ الملاك الصحيح لحمل المطلق على المقيَّد هو القرينية ، لأنّ غاية ما ذكر في الدفاع عن وجه (الكفاية) هو وجود الدلالة الوضعيّة ـ إلى جنب الدلالة الإطلاقية ـ في المقيَّد ، لكنّ هذا القدر لا يكفي لأنْ يتقدّم على المطلق ، إلاّ أنْ يكون بياناً له ، وحينئذٍ ينتفي الإطلاق في طرف أعتق رقبةً ، وهذا خلاف الفرض.

كما أنّ وجه الشيخ يتوقّف على أنْ يكون المقيَّد بياناً ، فيقع الإشكال المذكور ، وأمّا لو لم يكن بياناً لم يكن صالحاً للتقدّم.

٤١٩

أمّا مبنى الميرزا فمفاده : أنّ المقيَّد قرينةٌ بالنسبة إلى المطلق ، ومعها تسقط أصالة البيان في ناحيته ، وملخّص الاستدلال هو :

إنّ مقتضى القاعدة تقدّم الأصل في السبب على الأصل في المسبب ، وهذا التقدّم من باب الحكومة ، وقد قرّرت هذه القاعدة في تنبيهات الاستصحاب ، ومثالها المعروف هو غسل الثوب النجس بالماء المشكوك الطهارة ... غير أنّ الأصل في الماء والثوب هو الاستصحاب وهو أصل عملي ، والأصل فيما نحن فيه لفظي ، ولا فرق في القاعدة من هذه الجهة.

إنَّ كلّ دليل حاكم نسبته إلى الدليل المحكوم نسبة السبب إلى المسبّب ، فأصالة الظهور في طرف المطلق وكذا في طرف المقيَّد تامّة ، لكنَّ المقيَّد قرينةٌ والمطلق ذو القرينة ، وفي ذات القرينة حيثيّة البيانية كما أنْ في ذات ذي القرينة حيثية المبيَّنة ، فتكون أصالة الظهور في ذي القرينة مسبَّبةً لأصالة الظّهور في القرينة. وإنْ شئت فقل : إنّ أصالة الظهور في طرف ذي القرينة معلَّقة ، لكنها في طرف القرينة غير معلَّقة ، فلا محالة يتقدَّم القرينة على ذيها ، بمقتضى القاعدة المذكورة.

ومن هذا الباب تقدُّم ظهور «يرمي» على ظهور «الأسد» ورفع اليد عن مقتضى أصالة الحقيقة فيه ، وحمله على المعنى المجازي وهو «الرجل الشجاع» ، لأنَّ حمل لفظ الأسد على معناه الحقيقي «الحيوان المفترس» موقوفٌ على جريان أصالة الحقيقة فيه ، وجريانها معلَّق على عدم وجود القرينة المانعة ، إذ الإهمال في الواقعيات محال ، وجريانها حتى مع وجود القرينة غير صحيح ، وإلاّ يلزم أنْ لا يكون عندنا استعمال مجازي أصلاً ، والمفروض وجود «يرمي» الظاهر في رمي النبل ، والذي ظهوره فيه غير معلَّق على شيء ، فكانت أصالة الحقيقة في «الأسد» معلَّقة على عدم وجود القرينة المانعة ، و «يرمي» تمنع عن انعقادها ،

٤٢٠