تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

المعبَّر عنها ب «مقدّمات الحكمة».

قال المشهور بالأول ، وقال سلطان العلماء بالثاني وتبعه من تأخّر عنه.

كلام الكفاية

ذكر في (الكفاية) ما حاصله (١) : إن اسم الجنس ـ سواء كان جوهراً أو عرضاً أو عرضيّاً ـ موضوع للماهيّة المهملة.

وبيان ذلك : إنّ اللفظ الموضوع للماهيّة ـ سواءً كانت جوهراً من الجواهر كالإنسان ، أو عرضاً من الأعراض كالبياض ، أو عرضيّاً ـ كالفوقيّة والتحتية ونحوهما من المعاني الانتزاعية القائمة بمنشإ انتزاعها ، وكالمعاني الاعتبارية كالزوجيّة والملكيّة ونحوهما ـ لا يفيد سوى المعنى الموضوع له ، فالموضوع له اسم الجنس في الموارد المذكورة هو نفس المفهوم من اللّفظ ولا شيء آخر معه ، وهذا هو المقصود بالماهيّة المهملة.

قال : فهذه الماهيّة ، قد تلحظ بشرطٍ ، كأنْ تلحظ بشرط وجود شيء كالإرسال مثلاً ، أو بشرط عدم شيءٍ ، وقد تلحظ لا بشرطٍ من وجود شيء أو عدمه ... وكلّ ذلك خارج عن ذات الماهيّة الموضوع لها اللّفظ ، لأنّه لو كان موضوعاً للماهيّة بشرط ، لزم أنْ يكون إطلاق اللفظ عليه مجرّدةً من الشرط إطلاقاً مجازيّاً. هذا أولاً. وثانياً : فإنّ اللفظ لو كان موضوعاً للماهيّة بشرط الإرسال ـ مثلاً ـ لم ينطبق على الفرد ، نعم ، يشمل الفرد لكن الشمول له غير الإطلاق عليه ، لأنّ قولنا : «أكرم كلّ عالم» يشمل «زيداً» لكنّ معنى «كلّ عالم» ليس «زيداً» ، فيلزم أنْ يكون مثل هذا الإطلاق مجازيّاً.

وكذا الكلام فيما لو كان اللّفظ موضوعاً للماهيّة اللاّبشرط ، أي الماهيّة التي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٣.

٣٨١

لم يلحظ معها أيّ شيء آخر ، فإنّها ليست المفهوم الموضوع له اللّفظ ، لأنّ مثل هذه الماهيّة كلّي عقليّ ، والكلّي العقلي موطنه الذهن ، ولا يقبل الانطباق على الخارج ، فلو اريد استعماله في الخارج لزم المجاز كذلك.

هذا خلاصة كلامه قدس سرّه. ولا يخفى أن إطلاق «العرضي» في كلامه على ما ذكر خلاف الاصطلاح المعروف ، وهو المتّصف بالعرض ، كالأبيض المتّفق بالبياض. كما أن إطلاق «الكلّي العقلي» على الوجود الذهني اصطلاح خاصٌّ ب (الكفاية) ، لأن المصطلح المعروف فيه هو الماهيّة للكلّي كالإنسان مثلاً.

لكنّ المهمّ في كلامه ما ذهب إليه من أن الموضوع له اسم الجنس إنّما هو عبارة عن الماهيّة المهملة ، في مقابل الماهية بشرطٍ ـ ولو كان الشرط هو العموم والإرسال ـ والماهيّة لا بشرط ، أي التي لم يلحظها معها أيّ شيء آخر ، وقد جعل هذه الماهيّة اللاّبشرط القسمي.

كلام الميرزا

وقال الميرزا في اعتبارات الماهية ما ملخّصه (١) : إن الماهيّة :

قد تلحظ بشرط لا عن جميع الأوصاف والأعراض ، مجرّدةً عن كلّها ، فتكون كليّاً عقليّاً لا يقبل الانطباق على الخارج ، لأنّ كلّ ما في الخارج فهو مقترن بشيء من الأعراض والأوصاف.

وقد تلحظ مقترنةً بشيء من الأعراض والأوصاف الموجودة في الخارج ، سواء كان الوصف وجوديّاً أو عدميّاً ، فتكون ماهيّةً بشرط شيء.

وقد تلحظ لا بشرط عن البشرط والبشرطشيء ، أي عن التجرّد عن الأوصاف والاتّصاف بوصفٍ وجوديّ أو عدميّ ، وهذا هو اللاّبشرط القسميّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٤٢١.

٣٨٢

وهذا هو المراد من (المطلق) في بحث الإطلاق والتقييد في علم الاصول ... وهو الكلّي الطبيعي ، لأنّ الكلّي الطبيعي ما يصحّ صدقه على ما في الخارج ، وإمكان الصّدق عليه إنما يكون ما لم تلحظ الماهية مجرّدةً عن الخصوصيّات ، وما لم تلحظ مقترنةً بشيء منها.

فحاصل كلام الميرزا :

أوّلاً : إن «المطلق» عبارة عن «اللاّبشرط القسمي» وهو المقابل للماهيّة بشرط لا وبشرط شيء ، فهو قسيمٌ لهما.

وثانياً : إنّ هذه الماهية يمكن أن تصدق على ما في الخارج ، فهي «الكلّي الطبيعي».

وبذلك ظهر أنّ القول بأنّ الكلّي الطبيعي لا بشرط مقسمي ، باطلٌ ، لأنَّ اللاّبشرط المقسمي ما يكون مقسماً بين الماهية بشرط لا ـ أي الكلّي العقلي ـ والبشرطشيء ، واللابشرط القسمي ـ أي الكلّي الطبيعي ـ ومعنى كونه مقسماً أن يصحّ اتّحاده مع كلّ قسمٍ من أقسامه ، وكيف يتّحد ما يقبل الصّدق على ما في الخارج وهو الكلّي الطبيعي مع ما لا يقبل الصّدق عليه وهو الكلّي العقلي؟

كلام الأصفهاني

وقال المحقق الأصفهاني ما حاصله (١) : إنّ الماهيّة المهملة هي الماهيّة التي تلحظ بذاتها وذاتيّاتها ، ولا يتجاوز اللّحاظ عن ذلك إلى شيء آخر حتى عدم لحاظ الشيء الآخر ، بأنّ يلحظ في ماهيّة الإنسان «الحيوان الناطق» دون غيره ، بحيث أنّ «دون غيره» أيضاً غير داخل في الذات الملحوظة ، فهذه هي «الماهيّة المهملة» وهي التي «ليست إلاّ هي من حيث هي».

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٩٠.

٣٨٣

وإذا لوحظت الماهية بهذا اللّحاظ ، كانت مجرّدةً من الوجود ـ الذهني والخارجي ـ ومن العدم ، إذ ليس مورد اللّحاظ إلاّ الذات ، ولا مانع من ارتفاع النقيضين في مرتبة الذات ... فالإنسان في مرتبة الذات لا موجود ولا معدوم.

فإنْ لوحظت ماهيّة الإنسان ـ مثلاً ـ بالقياس إلى خارج الذات ، انقسمت إلى الاعتبارات الثلاثة ، وهي البشرط واللابشرط والبشرطلا ، لأنّ تلك الخصوصيّة التي لوحظت الماهيّة بالإضافة إليها ، قد تقترن بالماهيّة فيكون بشرط شيء ، وقد يعتبر عدم اقترانها بها فيكون بشرط لا ، وثالثة لا يعتبر الاقتران ولا عدم الاقتران فيكون لا بشرط. وهذه الماهيّة الملحوظة بالقياس إلى خارج ذاتها والمنقسمة إلى الأقسام الثلاثة ، هي الماهيّة اللاّبشرط المقسمي.

فماهيّة الإنسانية إنْ لوحظت في حدّ ذاتها وذاتياتها مجرّدةً عن أيّ شيء آخر ، سمّيت بالماهيّة المهملة ، وإنْ لوحظت بالقياس إلى خارج الذات وانقسمت إلى الاعتبارات الثلاثة ، سميت باللاّبشرط المقسمي ....

فظهر افتراق «الماهيّة المهملة» عن «اللاّبشرط المقسمي».

واللابشرط المقسمي له ثلاثة أقسام كما ذكر ، لأنّ الماهيّة إن لوحظت مشروطةً بالتجرّد عن أيّ خصوصية ، فهي «بشرط لا» ، وإنْ لوحظت مع شرطٍ ـ وإنْ كان الشرط هو الإرسال ـ فهي «بشرط شيء» وإنْ لوحظت لا بشرط عن وجود وعدم شيء من الخصوصيات فهي «لا بشرط القسمي».

ثم إنّ الموضوع له لفظ «الإنسان» هو «الماهيّة المهملة» ، لكنّ موضوع البحث في باب المطلق والمقيَّد هو «اللاّبشرط المقسمي» حيث يلحظ ماهيّة «الإنسان» لا بشرط عن شيء حتى من نفس اللاّبشرطيّة.

فظهر افتراق الموضوع له اللّفظ عن موضوع البحث.

٣٨٤

هذا ، وسيأتي بيان افتراق «اللاّبشرط القسمي» عن «الكلّي الطبيعي».

تحقيق الأُستاذ

وذلك يتّضح ضمن بيان امور :

الأمر الأوّل

إن الاعتبارات الثلاثة التي ذكروها كلّها وجودات ذهنيّة للماهيّة ؛ ولذا عند ما نريد أنْ نحكم على الموضوع بحكمٍ خارجي ، نجعل الصورة الذهنية مرآةً للخارج ، وإلاّ ، فإن الوجود الذهني قسيمٌ للوجود الخارجي ، وعليه ، فإذا أردنا حمل «جنس» على «الإنسان» وقلنا : «الإنسان جنسٌ» ، فلا بدّ من لحاظ «الحيوان» لا بشرط عن خصوصية البقرية والغنميّة وغيرهما من الخصوصيّات ، حتى يكون اعتبار الماهية لا بشرط طريقاً إلى الموضوع في تلك القضية ، وكذا إذا لوحظت الماهية مع خصوصيةٍ ، كلحاظ «الإنسان» مع خصوصية «الزنجيّة» مثلاً ، فإنّ هذا اللّحاظ «البشرطشيء» طريق لرؤية الموضوع خارجاً.

فالاعتبارات الثلاثة وجودات ذهنيّة وتصوّراتٌ للماهيّة في الذهن ، هي طريقٌ لتشخّص الموضوع وتعيّنه في القضايا الخارجيّة.

الأمر الثاني

إنه قد ظهر مما تقدّم : امتياز «اللاّبشرط المقسمي» عن «اللاّبشرط القسمي» ، فكلاهما (لا بشرط) لكنّ الافتراق في المتعلَّق ، إذ هو في (الأوّل) الاعتبارات الثلاثة. فهو لا بشرط عن تلك الاعتبارات واللحاظات ، أمّا في (الثاني) فهو ما وراء الذات ، بأنْ لا يلحظ مع الذات شيء ، لا الوجود ولا العدم ، في مقابل (البشرطشيء) و (البشرطلا).

إنما الكلام في :

٣٨٥

الأمر الثالث

هل (الماهيّة المهملة) نفس (اللاّبشرط المقسمي) أو غيره؟

قد تقدّم أنّ المحقق الأصفهاني يرى أن «الماهيّة المهملة» غير «اللاّبشرط المقسمي» خلافاً للمشهور ، وخلاصة دليله هو : أنّ الماهيّة عند ما تلحظ بذاتها مجرّدةً عن أيّ شيء آخر ـ حتّى عن عدم لحاظ أيّ شيء آخر معها ـ فهي التي ليست هي إلاّ هي ، ولا تصلح لأنْ تكون مقسماً ، لأنّ المقسميّة عنوان إضافي يتحقّق بلحاظ ما وراء الذات.

وقد تبعه على ذلك السيّد الخوئي (١).

وأمّا دليل القول المشهور فملخّصه هو : إنّ حقيقة التقسيم تخصّص الذات بخصوصيّتين متباينتين أو أكثر ، حيث الخصوصيّة متباينة والذات هي الجهة المشتركة بين الجميع ... ولحاظ ماهيّة الإنسان ـ مثلاً ـ وانقسامها بالاعتبارات الثلاثة من هذا القبيل ، فتكون ماهيّة الإنسان مقسماً لها ، حيث يكون الإنسان (بشرط لا) ماهيّة مجرّدة ، و (بشرط شيء) ماهيّة مخلوطة ، و (لا بشرط) ماهيّة مطلقة ... فالإنسان الذي لحظ بنحو اللاّبشرط هو الإنسان المجرَّد من كلّ شيء ، فهو الماهيّة المهملة ، وهو اللاّبشرط المقسمي ، فالذي يطرأ عليه التقسيم ويكون مقسماً هو الماهيّة من حيث هي هي.

وقد أوضح الأُستاذ رأي المشهور : بأنّ القسم والمقسم والتقسيم ، كلّها امور تتعلّق بالماهيّة ـ وأمّا الوجود فهو عين التشخّص ، ولا يقبل الاتّصاف بالقسمية أو المقسميّة ، ولحاظ الماهيّة هو وجودها بالوجود الذهني ، وهو أيضاً غير قابل للاتّصاف بذلك ، لكونه جزئيّاً ـ لكنْ الماهية المجرّدة من جميع الخصوصيات

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٤٢٢. الهامش.

٣٨٦

حتى من اللّحاظ ... فهي القابلة للاتّصاف والانقسام ، لأنَّ حقيقة التقسيم عبارة عن ضمّ ما به الامتياز إلى ما به الاشتراك ، فما به الاشتراك هو الماهيّة المجرّدة ، وما به الامتياز هو الاعتبارات الثلاثة ، فكان (المقسم) هو (الماهيّة المجرّدة المهملة) ، وهي المركب لهذه الخصوصيّات ، ولذا نقول : الماهيّة بشرط شيء ، والماهيّة بشرط لا ، والماهية لا بشرط ... فكانت الحيثيّات واردة على الذات ، وبورود كلّ واحدةٍ يحصل للذات قسمٌ ، ومتى ما جرّدناها من الأوصاف كانت لا بشرط ... فالذي يصير لا بشرط عن العلم والجهل و... هو (الإنسان) وعن الإيمان والكفر ... هو (الرقبة) وهكذا ....

فهذا هو البرهان لقول المشهور ، وعليه الوجدان ، فإنّ البشرط هو الرقبة المؤمنة ، والبشرطلا هو الرقبة وعدم الإيمان ، واللابشرط هو الرقبة المجرّدة عن الإيمان وعدم الإيمان ....

فحاصل كلام المشهور هو : إن الماهيّة بنفسها هي التي تتّصف بالاعتبارات الثلاثة ، لا أن اللاّبشرط المقسمي الذي تلحظ فيه الماهيّة مضافةً إلى الخارج هو المعروض للحيثيّات ... فظهر عدم الخلاف بين المشهور والمحقق الأصفهاني ، وأن كلام الجميع يرجع إلى شيء واحدٍ هو : أنّ المقسم عبارة عن الذات غير الملحوظ معها شيء آخر ، وأنها عند ما تلحظ مضافةً إلى شيء آخر تكون قسماً.

وعلى الجملة ، فإنّ اللاّبشرط المقسمي هو الماهيّة المقسم بين الاعتبارات الثلاثة ، واللابشرط القسمي فهو اللاّبشرطية بالنسبة إلى الخارج عن الذات ، فالإنسان الملحظ بالنسبة إلى الخارج عن الذات كالعلم مثلاً ، عند ما يؤخذ مجرّداً عن العلم والجهل ، يكون الماهية اللاّبشرط القسمي ، وإنْ لحظ لا بشرط عن كلّ الاعتبارات الثلاثة ، فهو اللاّبشرط المقسمي ... فكان اللاّبشرط القسمي من أقسام اللاّبشرط المقسمي.

٣٨٧

الأمر الرابع

هل (الكلّي الطبيعي) هو (اللاّبشرط القسمي) أو (اللاّبشرط المقسمي)؟ قال جماعة من الفلاسفة ـ وتبعهم الميرزا ـ بالأول. وقال آخرون ومنهم الحاجي السبزواري بالثاني. ومن العلماء من قال : بأنّ الكلّي الطبيعي هو الماهيّة المهملة ـ لا اللاّبشرط القسمي ولا اللاّبشرط المقسمي ـ وهذا مختار شيخنا الأُستاذ.

خلاصة ما تقدَّم

أن الموضوع له الطبيعة ـ وهو اسم الجنس الذي جعل موضوعاً للحكم في مثل أعتق رقبةً ـ هو الطبيعة والماهيّة فقط بنحو اللاّبشرط القسمي بالنسبة إلى الخصوصيات من الإيمان والكفر وغيرهما ، وأن الموضوع له اللّفظ هو نفس الذات ، واللابشرطيّة خارجة عن حدّ مفهوم اللّفظ ، فالحق مع سلطان المحققين ومن تبعه ، خلافاً للمشهور.

ولا يخفى أنّ المراد من اسم الجنس في هذا البحث هو الأعمّ من اسم الجنس الفلسفي ، فيعمّ النوع والصّنف أيضاً ، فالمراد هو الاسم للطّبيعة سواء كانت جنساً أو نوعاً أو صنفاً.

الأدلّة اللّفظيّة على مذهب السّلطان

وقد استدلّ له ـ بالإضافة إلى البحث العقلي المتقدّم ـ بوجوه لفظيّة :

الأوّل : التبادر. فإنّ المتبادر من لفظ الرقبة مثلاً والمنسبق إلى الذهن منه ليس إلاّ ذات الماهيّة ، كما أنّ المنسبق من لفظ الإنسان هو الحيوان الناطق فقط ، وأمّا الخصوصيات فلا تأتي إلى الذهن عند إطلاق اللّفظ.

الثاني : صحّة التقسيم. فإنّ لفظ الرقبة يصحُّ تقسيمه بماله من المعنى إلى

٣٨٨

الذات المجرّدة من أيّ خصوصية ، وإلى الذات المنضمّ إليها الخصوصيّة من الإيمان أو الكفر. وكذلك لفظ الإنسان وغيره.

الثالث : حكمة الوضع. فإنّ حكمة الوضع في الألفاظ إحضار معانيها إلى الذهن ، وأمّا المعنى المنضمُّ إليه شيء من الخصوصيّات فليس الموضوع له اللّفظ ، وليس المقصود من وضع اللّفظ له ، وإلاّ لكانت الذات المجرّدة عن الخصوصية بلا دالّ.

الرابع : إنه لو كانت اللاّبشرطيّة داخلةً في المعنى الموضوع له اللّفظ ، لكان اللاّزم تجريد اللفظ عن معناه الموضوع له متى اريد إطلاقه على المعنى الخارجي ، لأن اللاّبشرطيّة أمر ذهني لا خارجية له ، والمفروض دخولها في المعنى الموضوع له اللّفظ ، وحينئذٍ يبطل الوضع.

توضيحه : إنّ وجوب العتق حكم تعلّق بالرقبة بقول المولى أعتق رقبةً ، لكنّه يترتّب على الرقبة الخارجية ، ولا بدّ من إيجاد العتق في الخارج حتى يتحقق الامتثال كما هو واضح ، والمفروض كون الرقبة مطلقةً من حيث الإيمان والكفر ، لكن الإطلاق ـ أي اللاّبشرطيّة عنهما ـ أمر ذهني ، فيكون موطن الرقبة اللاّبشرط هو الذهن فقط ... وحينئذٍ ، يلزم تجريد معنى «الرقبة» من خصوصيّة اللاّبشرطيّة حتى يصح إطلاق هذه اللفظة على الوجود الخارجي ويترتّب العتق ... وهذا يبطل وضع اللّفظة للماهيّة اللاّبشرط.

إذنْ ، ليس اللّفظ موضوعاً للمعنى متحيّثاً بحيثيّة اللاّبشرطيّة ، وليست داخلةً في الموضوع له لفظ الرقبة والإنسان والبقر وغيرها من أسماء الأجناس.

فتلخَّص : إن الإطلاق خارج عن المعنى الموضوع له اسم الجنس ، فيحتاج للدلالة عليه إلى قرينةٍ ، وهو ما يعبّر عنه بمقدّمات الحكمة.

٣٨٩

إشكال ودفع

إلاّ أنه قد وقع الكلام بينهم في أنّ الإطلاق واللابشرطيّة والسّريان ، بعد أنْ كان خارجاً عن المعنى الموضوع له اللّفظ ، هل هو ذاتيٌّ للمعنى ، بأنْ يكون لماهيّة الرقبة ـ مثلاً ـ سريان ذاتي في أفرادها ، كالتعجّب بالنسبة إلى الإنسان ، فإنّ لفظ الإنسان موضوع للحيوان الناطق ، وليس التعجّب داخلاً في المعنى ، إلاّ أنه لازم ذاتي له ، أو أنْ ذلك محتاجٌ إلى اللّحاظ ، بأنْ تلحظ ماهية الرّقبة بنحو اللاّبشرط؟

قال جماعةٌ بالأوّل ، وقد أقام الإيرواني (١) البرهان عليه بما حاصله : أنّ وضع اللّفظ للمعنى حكمٌ من قبل الواضع ، ومن الواضح أنّ الحاكم لا يحكم بثبوت المحمول لموضوعٍ مهمل ، لأنّ كلّ قضيّة مهملة فهي في قوّة الجزئية ، فلا يكون اللّفظ موضوعاً للماهيّة المجرّدة ذاتها عن الإطلاق ، وإلاّ لزم في كلّ موردٍ يستعمل فيه اللّفظ أنْ يكون الاستعمال بلا وضع ، وهذا باطل ... فالوضع للماهيّة المهملة غير ممكن.

(قال) : وهذا أشدّ ما يرد على القائلين بخروج الإطلاق عن حريم المعنى.

وقد أجاب الأُستاذ عن هذا البرهان :

بأنّ ذاتيّة الإطلاق بالنسبة إلى الماهيّة لا تخلو ، إمّا أن تكون من ذاتيّ باب الكليّات الخمس ، أو من ذاتيّ باب البرهان ، ولا ثالث.

أمّا كونه من الأوّل فباطلٌ ، لأن ذاتيّ باب الكليّات الخمس هو الجنس والفصل والنوع ، والإطلاق للماهيّة التي هي موضوعٌ للقضيّة ليس الجهة الجنسيّة للماهيّة ولا الفصليّة لها ، كما لا يعقل كونه مركّباً من جهتي الجنس والفصل.

__________________

(١) نهاية النهاية : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٣٩٠

فلا بدّ من أن يكون ذاتي باب البرهان ، كالإمكان في الممكنات ، فإنّه ينتزع من ذات الماهيّة الممكنة استواء الوجود والعدم فيقال : هذا ممكنٌ ، في قبال الماهيّة الآبية عن الوجود أي الممتنع الذاتي ، والآبية عن العدم أي الواجب بالذات.

فنقول : إن كان الإطلاق ذاتيّاً من باب البرهان ، بأنْ يكون الإطلاق منتزعاً من حاق ذات الماهية بلا حيثيّة ، فإنّ دلالة الرقبة على الإطلاق من هذا الباب باطل بالضرورة.

فظهر أنّ الإطلاق ليس ذاتيَّ الماهية مطلقاً.

هذا أوّلاً.

وثانياً : إنه لا كلام في التقابل بين الإطلاق والتقييد وعدم إمكان اجتماعهما ، فلو كان الإطلاق ذاتيّ الماهيّة كان التقييد محالاً وإلاّ يلزم اجتماع المتقابلين ، بأنْ تكون الرقبة مع كونها لا بشرط عن الإيمان والكفر مقيَّدةً بالإيمان ، وهذا غير معقول.

فإن قيل :

المراد من ذاتية الإطلاق هو : إن الماهيّة بحسب ذاتها ـ أي لو خلّيت وطبعها ـ تقتضي الإطلاق ، والتقييد بمثابة المانع ، فكلّما لم يوجد المقيّد كانت الماهيّة مطلقة ، فهي مطلقة لو لا التقييد.

قلنا :

لا خلاف في التقابل بين الإطلاق والتقييد ، فقيل : إنه من قبيل العدم والملكة ، وقيل : من قبيل التضاد ، وقيل : من قبيل التناقض ، وما ذكر مردود على جميع التقادير ، لأنّ عدم كلّ مانعٍ شرط لوجود الممنوع ، فلو كان التقييد مانعاً عن

٣٩١

مقتضى ذات الماهية ـ وهو الإطلاق كما ذكر ـ لزم أنْ يكون عدم أحد الضدّين مقدمةً لوجود الضدّ الآخر ، وهو باطل. هذا بناءً على كون التقابل من قبيل التضاد أو التناقض. وعلى القول بأنه من قبيل العدم والملكة ، يلزم مقدميّة الشيء لنفسه ، لأنّ المفروض كون التقييد ملكة والإطلاق عدمها ، فلو كان التقييد مانعاً عن الإطلاق كان عدمه مقدمةً للإطلاق ، لكنّ الإطلاق هو عدم التقييد.

فظهر أنّ الحق هو القول الثاني ، وهو كون الإطلاق لحاظيّاً ، بمعنى أنَّ الحاكم لمّا لحظ ماهيّة الرقبة وخصوصية الإيمان ، فإنْ أخذ الخصوصية فيها كان التقييد وإنْ لم يأخذها كان الإطلاق ، فالإطلاق عدم أخذ الخصوصية ، والتقييد هو أخذها ، فكان الإطلاق والتقييد أمران زائدان على الماهية عارضان عليها ، غير أنّه في مقام الإثبات يتمُّ التقييد ببيان القيد والإطلاق بعدم بيانه ....

وأمّا ما ذكره الإيرواني من لزوم الإهمال. ففيه : إن المحال هو أنْ يضع الواضع ويكون المعنى الموضوع له مهملاً ، وأمّا قبل الوضع فهو مطلقٌ ، لكنّ كون هذا الإطلاق ذاتيّاً للماهية ـ لا باللّحاظ ـ فأوّل الكلام.

وهذا تمام الكلام في (اسم الجنس) الذي هو الموضوع غالباً في باب الإطلاق والتقييد.

الكلام في علم الجنس

وقد تعرّض الأكابر للموضوع له علم الجنس ، فالمشهور أنه موضوعٌ للماهيّة المعيَّنة ، بأنْ يكون التعيّن داخلاً في المفهوم ، لأنّ العلم من المعارف والمعرفة لا تكون بلا تعيّن. ثم إنّ هذا التعيّن ليس بخارجي فهو ذهني ، فظهر بذلك الفرق بين اسم الجنس مثل (الأسد) فإنه نكرة ، وعلم الجنس مثل (اسامة) فإنه معرفة.

٣٩٢

رأي صاحب الكفاية في قبال المشهور

وخالف صاحب (الكفاية) ، فذهب إلى عدم الفرق بين أسماء الأجناس وأعلام الأجناس ، فكلاهما موضوع للطبيعة بلا لحاظ شيء من خصوصية الذهنيّة والخارجية. وأورد على المشهور : بأنّ علم الجنس لو كان موضوعاً للماهيّة المتعيّنة في الذهن ، لزم تجريدها من هذه الخصوصيّة كلّما اريد حملها على الخارج ، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في الخارج ، لكنّ الانطباق حاصل بلا تجريد. وهذا يكشف عن عدم أخذ خصوصيّة الذهنيّة في علم الجنس. على أنّ لزوم التجريد يستلزم اللّغوية في أخذ الخصوصية.

(قال) : وأمّا المعاملة مع علم الجنس معاملة المعرفة بخلاف اسم الجنس ، فالظاهر أنّ التعريف هذا لفظي كالتأنيث اللّفظي للفظ اليد والرجل والعين وما شابهها ، لعدم الفرق بين (اسامة) و (أسد) إلاّ أن (لام التعريف) تدخل على الثاني دون الأول ... وهذا ليس بفارقٍ حقيقي (١).

مناقشة المحاضرات

ووافقه السيد الخوئي في (المحاضرات) إلاّ أنه قال (٢) : يمكن المناقشة في البرهان الذي ذكره على عدم أخذ التعيّن الذهني في المعنى الموضوع له علم الجنس ، لأنّ أخذه فيه تارةً يكون على نحو الجزئية وأخرى على نحو الشرطية وثالثةً على نحو المرآتية والمعرّفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية. وما أفاده إنما يتمّ لو أخذ على النحوين الأوّلين ، وأمّا إذا كان أخذه على النحو الثالث ، فهو غير مانع عن انطباقه على الخارجيات ، ولا يلزم التجريد ولا لغوية الوضع.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٤.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٢١.

٣٩٣

إشكال الأُستاذ

وقد أورد عليه الأُستاذ أوّلاً : بأن «الأخذ» و «المرآتية» متمانعان ، لأنه إن كان مأخوذاً فهو دخيل في المعنى ، فلا يكون مجرّد المرآتية والمعرفيّة. وثانياً : إن المرآتيّة أي : رؤية المعنى في الذهن لا بشرط من الخصوصيّات ، موجودة في اسم الجنس أيضاً ، فيلزم أن يكون معرفةً مثل علم الجنس.

فالحق مع صاحب (الكفاية). والمعرفيّة في علم الجنس نظير التأنيث اللفظي للألفاظ المذكورة ونحوها.

المفرد المعرّف باللاّم

قال المشهور : بأن المفرد المعرّف باللاّم مثل «الرجل» له تعيّن ، لكون اللاّم للتعريف ، ولا يكون التعريف بلا تعيّن.

قالوا : واللام على أقسام ، كالجنس والاستغراق والعهد ـ الحضوري والذهني والذكري.

رأي صاحب الكفاية

وأنكر صاحب (الكفاية) (١) التعيّن الذهني للمفرد المعرّف باللاّم وكون اللاّم للتعريف ، لِما ذكره في علم الجنس من امتناع حمل الوجود الذهني على الخارج إلاّ بالتجريد ، وأنه يلزم حينئذٍ لغوية الوضع ....

ومن هنا قال بأنْ اللاّم هذه للتزيين كما في الحسن والحسين ... ولا توجد لام التعريف ، ولام الاستغراق والعهد ... بل كلّ ذلك يفهم من القرائن الخارجية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٥.

٣٩٤

المناقشة مع الكفاية

وقد أورد عليه في (المحاضرات) (١) بما ملخّصه : إن اللاّم تدلّ على التعريف والتعيين ، بلا استلزامٍ لكون التعيّن جزء معنى مدخولها أو قيده ، فهي تدلُّ على معنىً وليست للتزيين فقط ، لكنّ المعنى ليس جزءاً لمدخولها حتى يلزم التجريد واللّغويّة ... اللهم إلاّ في العهد الذهني ، إذ الظاهر أنّ وجود اللاّم وعدمها على السواء بل هي فيه للتزيين.

وقد وافقه الأُستاذ.

الجمع المحلّى باللاّم

وقد وقع الخلاف بينهم في دلالته على العموم ، فمنهم من أنكر ذلك وقال بأنها مستفادة من القرينة الخارجية كمقدّمات الحكمة ، ومنهم من قال بدلالته على العموم وأنه لا حاجة إلى القرينة ، فقال بعضهم : بأن الدلالة من اللاّم ، وقال آخرون : بأنّها من مجموع اللاّم ومدخولها. وهذا مختار المحقق القمي و (الكفاية). وقيل بأنّ اللاّم تدل على التعيين في الخارج ، وذلك لا يكون إلاّ بالدلالة على العموم.

وعلى الجملة ، فقد وقع الخلاف بينهم في دلالة الجمع المحلّى باللاّم على العموم أنه بالإطلاق أو بالوضع.

وقد اختار الأُستاذ القول الأوّل ، فهي متوقفة على تمامية مقدّمات الحكمة.

وقد ناقش أدلّة القائلين بالقول الثاني ، فقال ما حاصله :

إنّ اللاّم غير موضوعة للعموم والاستغراق ، ولذا ترد على غير الجمع كما ترد عليه ، ولذا أيضاً قسّمت إلى الجنس والاستغراق والعهد ... ودعوى أنّ خصوص الداخلة على الجمع دالّة على العموم ، فباطلة ، إذ ليس لهذه اللاّم وضع

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٢٤.

٣٩٥

على حدة. وكذلك القول بدلالة المركّب منها ومن مدخولها على العموم ـ كما عن الميرزا القمي (١) ـ لعدم وجود وضع للمركّبات غير وضع المفردات ... على أنّه لو كان كذلك لزم أن يكون استعمال الجمع المحلّى باللاّم في غير العموم ـ كالعهد مثلاً ـ مجازاً ، والحال أنّه لا توجد أيّة عنايةٍ في هكذا استعمال.

وأمّا القول بدلالة اللاّم على العموم ـ من جهة كونها موضوعةً للتعريف والإشارة ، فلمّا دخلت على الجمع ولا تعيّن لمرتبةٍ من مراتبه ، فلا بدّ وأنْ يكون المراد هو المرتبة الأخيرة وهو جميع أفراد المدخول ـ فقد نقض عليه في (الكفاية) بأنّه كما لتلك المرتبة تعيّن في الواقع ، كذلك للمرتبة الاولى وهي أقل مراتب الجمع أي الثلاثة.

واختار بعض الأصحاب ـ وتبعه في (المحاضرات) (٢) ـ الدلالة على المرتبة الأخيرة : بأنّ تعيّن المرتبة الاولى ـ وهي أقل الجمع ـ إنما هو في مقام الإرادة ، فإنّا لمّا نقول : أكرم العلماء ، فالثلاثة مرادة قطعاً ، وإنْ لم يكن لها تعيّن في الخارج وأنّه هل المراد هذه الثلاثة أو تلك؟ بخلاف المجموع ، فإنه لا يعقل أن يكون بلا تعيّن في الخارج ، إذ العلماء كلّهم متعيّنون في الخارج ، فيكون هو المدلول للجمع المحلّى باللاّم.

فأشكل الأُستاذ : بأنّ العمدة في هذا الاستدلال كون اللاّم دالّةً على التعريف والتعيين ، وإليه أشار في (المحاضرات) بقوله في آخر كلامه : فإذاً يتعيّن إرادة هذه المرتبة من الجمع ، يعني المرتبة الأخيرة دون غيرها ، بمقتضى دلالة كلمة اللاّم على التعريف والتعيين ، لكنّ القدر المتيقَّن من مقتضى دلالتها هو إفادة التعريف

__________________

(١) قوانين الاصول : ٢١٦.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٢٦.

٣٩٦

والتعيين للمدخول ، أمّا كون التّعيين لمجموع الأفراد أي المرتبة الأخيرة ، فلا برهان عليه.

النكرة

قال في الكفاية :

ومنها : النكرة مثل رجل في (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدينَةِ) (١) أو في جئني برجل. ولا إشكال في أن المفهوم منها في الأول ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، هو الفرد المعيّن في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحدٍ من أفراد الرجل ، كما أنه في الثاني ، هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة ، فيكون حصّةً من الرجل وكليّاً ينطبق على كثيرين لا فرداً مردداً بين الأفراد. وبالجملة : النكرة أي ما بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم ، إمّا هو فرد معيّن في الواقع غير معيّن للمخاطب أو حصّة كليةً ، لا الفرد المردد بين الأفراد ... فلا بدّ أنْ تكون النكرة الواقعة في متعلّق الأمر هو الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة ، فيكون كلّياً قابلاً للانطباق.

أقول :

إن لفظ «المردّد» و «المبهم» موضوعٌ في لغة العرب وليس بمهملٍ ، فله معناه ومفهومه ، غير أنه مفهوم لا مصداق له في الخارج ، لأن الخارج ظرف التشخّص والتعيّن ، وأمّا معناه الموضوع له فليس بنكرةٍ ، إذ لا يعقل التردّد في ذات المفهوم. فما في كلام بعض الاصوليين من أنّ مدلول النكرة هو الفرد المردّد ، غير صحيح ، لأنه إنْ كان فرداً فلا يعقل أن يكون مردداً أيضاً ، بل التردّد في الوجود هو المحال.

__________________

(١) سورة القصص : الآية ٢٠.

٣٩٧

وأمّا ما ذكره في (الكفاية) : من أنه الفرد المعيَّن في الواقع المجهول عند المخاطب ، ففيه : إنّ المعنى المستعمل فيه كلمة «الرجل» هو الجنس ، وقيد الوحدة فيه أتى من ناحية التنوين ، فكان فرقٌ بين «النكرة» و «اسم الجنس» ، لأنّ الجنس لا تقيّد فيه بالوحدة ولذا يصدق على القليل والكثير ، بخلاف النكرة ، فمدلولها الجنس بقيد الوحدة ، وعليه ، فلا فرق في كلمة «رجل» بين الآية والمثال ، إذ المعنى في كليهما هو الطبيعة المقيَّدة بقيد الوحدة ، غير أنّ الأول معيّن خارجاً ، وكونه مجهولاً عند المخاطب قد استفيد من قرينةٍ خارجية. فليس معنى الكلمة والمستعمل فيه في الآية هو المعيَّن في الخارج المجهول عند المخاطب.

والحاصل : إن المستعمل فيه الكلمة في كلا المثالين هو نفس الطبيعة والجنس ، غير أن قيد الوحدة استفيد من التنوين ، وأمّا كونه في الأول معيناً خارجاً ومجهولاً عند المخاطب فتدلّ عليه القرينة الخارجية ... وإذا كان الموضوع له والمستعمل فيه هو الطبيعة المقيّدة بالوحدة فهو في حد ذاته قابل للانطباق على أيّ فرد.

٣٩٨

الكلام في مقدّمات الحكمة

وبعد الفراغ عن بيان مداليل الألفاظ الواقعة في الأدلّة ، يقع البحث عن مقدّمات الحكمة ، بناءً على ما تقرّر من خروج الإطلاق عن مفاهيم تلك الألفاظ.

قالوا : والمقدمات ثلاثة :

المقدمة الاولى

كون المتكلّم في مقام البيان ، بأنْ لا يكون في مقام الإهمال والإجمال.

ولا يخفى أن كونه في مقام البيان له صور ، فتارةً : هو في مقام بيان تمام المراد ، واخرى : في مقام بيان أصل المراد ، والأول : تارةً في مقام بيان تمام المراد من جميع الجهات ، واخرى في مقام بيانه من بعض الجهات.

ثم إنه قد يُعلم من حال المتكلّم في أنه في مقام البيان أوْ لا ، وقد يشك. فما هو مقتضى القاعدة عند الشك؟

قالوا : إن لم تكن هناك قرينة خاصّة أو عامّة ، فالأصل كونه في مقام البيان ... لكنْ لا بدَّ من إثبات هذا الأصل بذكر المستند له ، وهل هذا الأصل ـ أي أصالة البيان ـ مختصٌّ بباب الإطلاق أوْ جارٍ في غيره أيضاً؟ ظاهر المحقق الأصفهاني هو الأول ، لكن التحقيق عند الأُستاذ جريانه في العمومات أيضاً ، من أجل إثبات ظهور العام في العموم متى ما شك في كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده الواقعي إذا قال : أكرم كلّ عالمٍ ، فإنه مع عدم القرينة يتمسّك به ويحكم بالعموم.

٣٩٩

مستند أصالة البيان

وأمّا المستند للأصل المذكور ، فقد ذكر له وجوه :

الأول : إنه مقتضى الطبع. لأنّ مقتضى الحال وطبع الطلب أنْ يكون المتكلّم في مقام بيان مقصده باللّفظ ، نظير قول الفقهاء : بأنّ الأصل في المبيع هو السّلامة من العيب ، لكونه مقتضى الطبع الأولي.

وفيه : إنّ هذا الوجه لا يكفي لأنْ يؤخذ بإطلاق الكلام ، لأنّ المفروض أنّ المتكلّم قد استعمل اللّفظ ـ اسم الجنس مثلاً ـ في معناه الموضوع له ، وأنّ الإطلاق غير داخل فيه ، فمع الشك في كونه في مقام بيان تمام مراده أيّ معنى لمقتضى الطبع الأوّلي ليحمل الكلام على الإطلاق؟

الثاني : أصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات. فالإطلاق في مقام الثبوت أن يكون فرد المتكلّم هو الطبيعة. ولمّا لم يأتِ في مقام الإثبات بقيدٍ وكان الكلام ظاهراً في الإطلاق حصل التطابق ، ولو كان مهملاً في مقام الثبوت لما حصل.

وفيه : إنه مع احتمال كون المتكلّم مهملاً في مقام الإثبات ، لا يحصل الكشف عن مقام الثبوت والتطابق بين المقامين ، والمفروض هو الشك في مقام الإثبات.

الثالث : السيرة العقلائية. فقد جرت سيرة أهل المحاورات على التمسّك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف الكلام إلى جهةٍ خاصّة.

هكذا استدلّ في (الكفاية) (١) ، بل في (المحاضرات) (٢) نسبته إلى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٨.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٥٣٥.

٤٠٠