تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

الواحد ، لكنّ الكلام ليس في جهة السند ، بل في الدلالة ، وليست دلالة الآية العامّة في معناها بقطعية ، فإن أصالة الظهور في العام ظنيّة كما هي في طرف الخبر ، فلا يقع التعارض بين القطعي والظنّي ... وحينئذ نقول : بأنّ انعقاد الظهور في طرف العام الكتابي معلّق على عدم وجود القرينة على الخلاف ، وقد تقدَّم أن الخبر قرينة ، فلا ينعقد الظهور في العام بل يتقدّم الخبر عليه.

وعلى الجملة ، فإنه لا تنافي بين المدلولين ، ودليل حجيّة الخبر يتقدَّم بالحكومة على أصالة العموم في طرف الكتاب ، لكونه أصلاً معلّقاً على عدم وجوب الخاصّ وجداناً أو تعبّداً ، ولو قيل بالتعارض بين عموم الكتاب وما ورد في الكتب المعتبرة من المخصّصات ، لزم سقوط عمدة الأخبار كما قال الميرزا (١).

وأمّا ما أفاده تلميذه المحقق في الهامش من أن العمومات الكتابيّة في مقام التشريع لا البيان ، فلا يقع التعارض بينها وبين الأخبار.

ففيه : إن عدّةً منها في مقام البيان يقيناً ، ويشهد بذلك استدلال الأئمة عليهم‌السلام بظواهرها في كثير من الموارد ، كاستدلاله عليه‌السلام بظاهر قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) كما في معتبرة عبيد بن زرارة (٣).

وأيضاً ، فلولا كون (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٤) في مقام البيان ، لكان البحث عن تخصيصه بمثل «نهى النبي عن بيع الغرر» (٥) لغواً ، وكذلك يلزم لغويّة البحث عن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٠ / ١٧٦ ، الباب ١ من أبواب وجوب الإفطار في السفر في شهر رمضان ، رقم : ٨.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٥) وسائل الشيعة ١٧ / ٤٤٨ ، الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، رقم ٣.

٣٦١

تخصيص (حَرَّمَ الرِّبا) (١) بما ورد في الأخبار من (٢) حليّته ، وكذا الكلام في (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣) و (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (٤) ونحو ذلك.

على أنّ المحقق المذكور ، قد تمسّك في غير موضع من بحوثه الفقهية بظواهر تلك العمومات والإطلاقات ، كما في مسائل الحج والجهاد والخمس وغيرها.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ / ١٣٥ ، الباب ٧ من أبواب الربا ، رقم ١ و ٢.

(٣) سورة المائدة : الآية ١.

(٤) سورة النساء : الآية ٢٩.

٣٦٢

دوران الأمر

بين التخصيص والنسخ

لو ورد دليل عام ، ثم جاء دليل آخر ، ووقع الشك والتردّد في أنه مخصّص للعام أو ناسخ لحكمه ، فما هو مقتضى القاعدة؟ وما هو مقتضى الأصل العملي؟

مورد البحث المخصص المنفصل

وفائدة هذا البحث وأثره العملي معلوم ، لوضوح الفرق بين النسخ والتخصيص.

ثم إنّ من الأخبار عن الصادق عليه‌السلام ـ مثلاً ـ ما هو عام ونجد فيها عن الإمام من بعده نصّاً في نفس الموضوع يخالفه في الحكم ، فإنْ كان مخصّصاً له لزم القول بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإنْ جعلناه ناسخاً ، لزم القول بجواز النسخ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبما ذكرنا ظهر : أنّ مورد البحث هو ما إذا كان الدليل الثاني منفصلاً ، لأنّه إن كان متّصلاً بالعام منع من انعقاد الظهور إلاّ في المتأخر فهو مخصص له ، ولا حكم آخر حتى يكون ناسخاً له.

ويقع البحث في مقامين :

المقام الأول (في مقتضى الأدلّة)

وللمنفصل صور :

الصورة الاولى ما إذا كان العام سابقاً ، وقد جاء الدليل الآخر قبل وقت

٣٦٣

العمل بالعام ، فهنا قولان :

أحدهما : بطلان النسخ ، لأنّ النسخ قبل حضور وقت العمل بالعام وفعليّة الحكم ، يستلزم لغويّة جعل الحكم المنسوخ ، فالنسخ قبل حضور وقت العمل باطل.

والثاني : الجواز ، وبه قال المحققان النائيني والعراقي.

أمّا الميرزا (١) ، ففصّل بين القضيّة الحقيقية والخارجيّة ، فأجازه في الحقيقيّة ببيان أن قوام الحكم فيها هو بفرض وجود الموضوع والشرط لا بخارجيّته ، والفرض كاف لتحقق الحكم ، فهو موجود ويقبل النسخ.

وأمّا العراقي ، فأفاد بأنّه إن كان حقيقة الحكم في القضايا الشرعيّة ، هو الملازمة بين الموضوع والحكم ـ كما عليه المشهور ـ فالمجعول في (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً) (٢) هو الملازمة بين الحج والاستطاعة ـ فإنّ رفع الملازمة قبل تحقّق ما يتوقّف عليه الحكم جائز ، بناءً على رجوع الواجب المشروط إلى الواجب المعلَّق ، بأنْ يكون الوجوب فعليّاً وظرف الامتثال بعدُ ، فيجوز النسخ لارتفاع الحكم بعد وجوده.

وإنْ كان حقيقة الحكم ، هو الإرادة المبرزة ـ كما هو المختار عند المحقق العراقي ـ وأنّ الإرادة عند ما تبرَز ينتزع منها الحكم أي الوجوب ـ كما أنّ الكراهة المبرزة ينتزع منها الحرمة ـ فالمفروض وجودها حتى مع عدم وجود الشرط لها المنوطة به.

فسواء قلنا بمسلك المشهور في حقيقة الحكم أو بمسلك المحقق العراقي ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٩٧.

٣٦٤

فإنّه من الجائز رفع حكم العام قبل وقت العمل به ... فالنسخ جائز ، لأنه بناءً على مسلك المشهور الملازمة موجودة وإنْ لم يتحقق طرفاها كما في (لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا) (١) ، وبناءً على مسلكه ، فالإرادة أو الكراهة موجودة كما هو الفرض.

فتلخّص : جواز النسخ عند الميرزا والعراقي في الصّورة المذكورة.

وعلى هذا ، فلا يرد الإشكال (٢) بلزوم اللغويّة في جعل العام ، لأنّ الحكم إنْ كان الإرادة ، فإنّها قبل وجود الموضوع وشرطه موجودة قهراً ، فلا يتوجّه الإشكال بأن رفع الحكم لغو ، نعم ، يمكن الإشكال في كون حقيقة الحكم هو الإرادة ، لكنه مبنائي.

لكنّ التحقيق هو عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، سواء في القضية الحقيقيّة أو الخارجيّة ، لأنّ الإنشاء فعل اختياري للمولى ، هو لا يكون بلا داعي ، فإنْ أنشأ الحكم بداعي البعث ، فإن إنشائه في ظرف عدم إمكان الانبعاث من الباعث الملتفت محال عقلاً ، والمفروض هنا كذلك ، لفرض عدم تحقق الموضوع والشرط له ... فما ذكره المحقّقان مردود بهذا الوجه لا بإشكال لزوم اللغويّة ... فالنسخ باطل ويتعيَّن التخصيص.

الصّورة الثانية ما إذا كان العام سابقاً ثم جاء الدليل الآخر بعد حضور وقت العمل.

وقد فصّل المحقق الخراساني ـ تبعاً للشيخ ـ بين ما كان صادراً لبيان الحكم الواقعي ، فالمتأخر ناسخ لا مخصّص ، لأنه يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٢٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٣٩٥. الهامش.

٣٦٥

وما كان صادراً لا من أجل بيان ذلك بل هو حكم ظاهري يكون مرجعاً عند الشك ، فالمتأخّر مخصّص له ، لعدم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

فهذا تفصيل الشيخ و (الكفاية) ، وعليه العراقي والحائري والبروجردي.

إلاّ أنّ الكلام في قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأنّه بنحو الاقتضاء أو العلّة التامّة ... والظاهر أنه بنحو الاقتضاء ، فقد يتأخّر البيان عن وقت الحاجة لمصلحة فينتفي القبح حينئذٍ ... كما هو الحال في الكذب ، فإنّ قبحه اقتضائي وليس علّةً تامّة له ، بل قد يكون حسناً.

وإذا كان قبح التأخير اقتضائياً ارتفع المانع عن أن يكون الدليل المتأخّر مخصّصاً للعام فيما إذا كان لبيان الحكم الواقعي ... في كلّ موردٍ احتمل كون التأخّر لمصلحةٍ ... لكن هذا بوحده لا يكفي لتعيّن التخصيص.

ولذا قالوا بتعيّن التخصيص من جهة أن نسبة الخاص إلى العام نسبة القرينة إلى ذيها ، فالمتقضي لأنْ يكون الدليل الآتي بعد العام مخصّصاً له موجود ، وقد عرفت انتفاء المانع ـ وهو لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ باحتمال وجود مصلحةٍ للتأخير من تقيّة ونحوها ....

إلاّ أن الأُستاذ تنظّر ـ في الدورة اللاّحقة ـ في قرينيّة الخاصّ للعامّ إن لم يكن متّصلاً ، لأن العرف لا يرى المنفصل قرينةً ، بل يجعله ناسخاً ، ولا أقل من التوقّف ، فهذا الوجه لا يجدي لتعيّن التخصيص.

وكذا ما ذهب إليه الميرزا من أنّ أصالة العموم في العام لا تتمّ إلاّ بتوفّر مقدّمات الحكمة في المتعلّق ، ووجود الدليل بعده مانع من تماميّتها لاحتمال القرينيّة ، فالنسخ متوقف على تمامية أصالة العموم في العام ، وهذا أوّل الكلام ، فيتعين التخصيص.

٣٦٦

لأنّ توقّف أصالة العموم ـ كأصالة الإطلاق ـ على مقدّمات الحكمة ، غير تام ، بل إنّ ألفاظ العموم بذاتها تدلّ على الشمول والاستيعاب.

فالوجه الصحيح لتعيّن التخصيص هو ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من أنّ كلام الأئمّة عليهم‌السلام واحد ، فكأن ما صدر من الإمام الباقر وما صدر من الإمام الرضا ـ عليهما‌السلام ـ صادران في مجلسٍ واحد ... فإذا كان الأئمة بحكم الواحد وكلامهم بحكم الكلام الواحد ، جرى في كلماتهم حكم المخصّص المتّصل ... ويشهد بذلك ما ورد عنهم من جواز نسبة ما سمع من أحدهم إلى غيره (١).

الصورة الثالثة أنْ يرد الدليل الخاص ثم يرد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص. وفي هذه الصورة قالوا بتعيّن تخصيص الخاصّ للعام بلا إشكال ، إمّا للزوم اللغويّة وامّا لاستحالة البعث مع عدم إمكان الانبعاث.

الصورة الرابعة أن يرد الخاص ثم العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فهل يتخصّص العام بالدليل المتقدم عليه أو يكون ناسخاً لذاك الدليل؟ والثمرة واضحة ، لأنّه بناءً على الأوّل لا بدّ من العمل على طبق الخاص ، وبناءً على الثاني يكون العمل على طبقه ثم على العام من حين وروده.

ذهب في (الكفاية) إلى تقدَّم التخصيص لكثرته في الشريعة حتى اشتهر أنه ما من عامٍّ إلاّ وقد خص ، ولندرة النسخ قبل انقطاع الوحي وأمّا بعده فلا نسخ.

وأمّا ما ورد في الصحيح من أن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن ، ولذا يؤخذ بالخبر الوارد عن الإمام المتأخر ، وعليه مشى مثل الشيخ الصّدوق في الخبرين المتنافيين ، مرجّحاً المتأخّر على المتقدم زماناً ، فقد أوضح الأُستاذ : بأنّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٧.

٣٦٧

معنى «النسخ» فيه يختلف عن النسخ الاصطلاحي ، ولذا لم يجعل التأخّر من المرجّحات في باب التعادل والتراجيح. والتفصيل موكول إلى هناك.

وعلى كلّ حالٍ ، فإنّ دعوى (الكفاية) مستندة إلى ندرة النسخ في زمان الوحي وأنه بعد انقطاعه لا نسخ.

وقد أورد عليه الميرزا بوجهين (١) :

الأول : إنه لما وقع الشك في أنّ حرمة إكرام الفاسق باقية إلى زمان ما بعد العامّ المتأخر عنه ، أو أن الحكم المذكور ينقطع بمجيء العام ، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء حكم الخاص ، وإنّما يحتاج إلى التمسّك بالاستصحاب لإبقائه ، لأنَّ استمرار الحكم في الزمان وإنْ كان من الامور المتفرّعة على الحكم ، ولكنّ ذلك موقوف على وجوده ، والمفروض دوران الأمر بين وجوده مخصّصاً للعام أو زواله بنسخ العام له ، فكان الموجب للبقاء هو الأصل العملي ، أي الاستصحاب. لكنّ هذا الاستصحاب محكوم بالدليل وهو أصالة العموم ؛ فما ذهب إليه صاحب (الكفاية) من التخصيص مردود.

إشكال الأُستاذ

وقد أشكل عليه الأُستاذ بوجهين : الأول : إنّ بقاء واستمرار الحكم ليس من متفرّعات الحكم بل من خصوصيّات وجوده ، فالحكم إمّا موجودٌ وامّا زائل ، لا أنّه موجود فهو مستمرٌّ وباق. والثاني : إنّه لو لم يكن دليل الحكم متكفّلاً البقاء والاستمرار له للزم الإهمال المحال ... لأنّ الحاكم عند ما يجعل الحكم ، فإمّا يجعله على وجه البقاء والاستمرار وامّا يجعله لا على هذا الوجه ، وأمّا أنْ لا يدري أن حكمه على أيّ وجهٍ فهذا محال ... هذا ، ومقتضى الإطلاق في الجعل أنْ يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٩٩.

٣٦٨

على وجه الاستمرار والبقاء إلى أن يقوم الدليل على الانتفاء والزوال ... وإذا كان كذلك ، فالإطلاق هو المقتضي للبقاء ، وهو أصلٌ لفظي ـ ولا تصل النوبة إلى التمسّك بالاستصحاب ـ لكن الأصل اللّفظي في البقاء مقدّم على أصالة العموم ، لندرة النسخ وشيوع التخصيص ، فيتقدم الأصل اللّفظي الإطلاقي على الأصل اللّفظي الوضعي. وهذا ما أشار إليه المحقق الخراساني في كلامه.

الثاني : إن الشك في بقاء حكم الخاص المتقدّم ، مسبّب عن الشكّ في عموم العام المتأخّر ، وبجريان أصالة العموم في العام يرتفع الشك في بقاء حكم الخاص ولا يحكم باستمراره ، بل هو منقطع بالعام.

إشكال الأُستاذ

إنه كما يكون ملاك السببيّة والمسببيّة في الامور التكوينية هو العليّة والمعلوليّة ، فإنّه في الامور التشريعية هو الموضوعية والحكميّة ، بأنْ يكون الأصل في الموضوع سببيّاً وفي الحكم مسبّبياً ، وليس بين العام والخاص هذه النسبة ، بل هما دليلان مستقلاّن ، يقول أحدهما بوجوب إكرام كلّ عالم ، والآخر يقول بحرمة إكرام الفسّاق من العلماء ، فذاك عام وهذا مطلق مقيَّد بزمانٍ من الأزمنة ، ولا بدَّ من رفع اليد عن أحدهما لعدم إمكان الجمع بينهما ... فلا سببيّة ومسببيّة أصلاً ... بل مقتضى القاعدة ـ كما في (الكفاية) ـ تقديم دليل الخاص ، والنتيجة هي التخصيص لما ذكره.

اللهم إلاّ أنْ يشكل عليه : بأنّ ندرة النسخ غير كافية للترجيح ، لأنّ غاية الأمر ـ بناءً على أنّ الشيء يلحق بالأعم الأغلب ـ هو الظن بتعيّن التخصيص ، ولا دليل على اعتبار هذا الظن.

كما أنّ جعل ندرة النسخ وشيوع التخصيص قرينةً عرفيّة لتقدّم التخصيص

٣٦٩

ـ كما أفاد في (الكفاية) ـ غير تام ، لعدم عرفيّة هذه القرينيّة.

ويبقى الوجه الذي اعتمده المحقّق الأصفهاني لتقديم الخاص ، وقد أوردناه سابقاً ، وأمّا النسخ فلا يثبت إلاّ بالخبر المتواتر ، وكلامنا في خبر الواحد ، فيتعيّن التخصيص.

بل بناءً على عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد ، ينتفي موضوع البحث رأساً ، لأنه حينئذٍ لا يقع الدوران بين النسخ والتخصيص حتى نبحث عن وجه التقديم.

وفي (المحاضرات) (١) : التفريق بين نظر العرف ونظر الشرع ، بأنّ أهل العرف يرون العام المتأخّر ناسخاً ، أمّا في الشّرع ، فإنّ الخاص يتقدَّم ويكون بياناً للحكم من الأوّل.

وأورد عليه الأُستاذ : بأنّ كون العام ناسخاً يتوقّف على عدم القرينيّة العرفيّة للخاص بالنسبة إلى العام ، والسيّد الخوئي من القائلين بالقرينيّة كما في كتاب (المحاضرات) نفسه.

وهذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني (في مقتضى الأصل العملي)

فلو وصل الأمر إلى الأصل العملي فما هو مقتضاه؟

أمّا إذا كان الخاص مقدّماً ووصل الحال إلى الشك لعدم المرجّح ، فالأصل هو الاستصحاب ، لأنّا مع مجيء العام نشكّ في بقاء حكم الخاص ، فنستصحب بقائه ويتقدّم على العام ، والنتيجة التخصيص ... ولا يخفى أنه مبني على جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة الالهيّة كما هو المختار.

وأمّا إذا تقدَّم العام ، فتارةً : يكون حكم الخاص مناقضاً لحكم العام ، كما لو

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٤٩٠.

٣٧٠

قال يجب إكرام كلّ عالم ، ثم قال : لا يجب إكرام العالم الفاسق. وأخرى : يكون ضدّاً له ، كأن يقول : يجب إكرام كلّ عالم ، ثم يقول : يحرم إكرام العالم الفاسق.

فإنْ كان نقيضاً له ، حكم بالتخصيص بمقتضى استصحاب عدم وجوب إكرام العلماء الفسّاق أزلاً ، لعدم وجوب إكرامهم قبل ورود العام ، فلمّا ورد وجب إكرامهم إلى حين ورود الخاص ، فإذا ورد الخاص بعده ودار الأمر بين النسخ والتخصيص ، وشككنا في تبدّل حكم إكرام العلماء الفسّاق من عدم الوجوب إلى الوجوب ، نستصحب عدم الوجوب الثابت أزلاً ، وتكون النتيجة التخصيص.

وإنْ كان ضدّاً له ، فإنْ كان التضادّ بالوجوب والحرمة ، بأنْ يفيد العام وجوب إكرام العلماء ، والخاص حرمة إكرام الفسّاق منهم ، فلا مجرى لاستصحاب إكرام الفسّاق ، لعدم الشك في عدم جواز إكرامهم ، سواء كان الخاص المتأخّر ناسخاً أو مخصّصاً ، كما لا يخفى. نعم ، إن كان مخصّصاً فالحرمة من أوّل الأمر وإنْ كان ناسخاً فمن حين وروده.

وإنْ كان التضادّ لا بالوجوب والحرمة ، كأنْ يفيد العام الوجوب أو الحرمة ، ويفيد الخاص الكراهة أو الاستحباب ، فذهب المحقق العراقي إلى إمكان جريان الاستصحاب (قال) : لو كان مفاد العام هو وجوب الإكرام أو حرمته ، وكان مفاد الخاص المتأخر استحباب الإكرام أو كراهته ، أمكن دعوى جريان حكم التخصيص بمقتضى استصحاب عدم المنع السابق ، حيث أنه بالأصل المزبور مع ضميمة رجحانه الفعلي أو المرجوحية الفعلية ، أمكن إثبات الكراهة أو الاستحباب. فتأمّل (١).

وعلى الجملة ، فإنّ العام إن كان ظاهراً في الوجوب ، فبعد ورود الخاص

__________________

(١) نهاية الافكار (١ ـ ٢) ٥٥٣.

٣٧١

بعده ، نشكُّ في بقاء الوجوب ـ لأن الخاص إن كان ناسخاً فالعام دالّ على الوجوب وإن كان مخصّصاً فلا ، بل الاستحباب ـ فيمكن استصحاب عدم الوجوب. وكذا الكلام فيما لو كان العام ظاهراً في الحرمة وكان مفاد الخاص هو الكراهة.

وفيه :

لكن الإشكال هو : إنّه بعد ورود الخاصّ لا شك في الاستحباب ، سواء كان ناسخاً أو كان مخصّصاً ، نعم ، إن كان ناسخاً فمن الآن وإنْ كان مخصّصاً فمن الأوّل ، ومع عدم الشكّ كيف يستصحب عدم الوجوب؟ ولعلّ هذا وجه الأمر بالتأمّل.

وقد يقصد هذا المحقّق بيان الحكم في الزمان الفاصل بين العام والدليل المتأخر ، بأنه إنْ كان مخصّصاً كان إكرام الفاسق من العلماء في الزمان الفاصل مستحبّاً ، وإن كان ناسخاً لحكم العام ، دلّ العام على وجوب الإكرام في الزمان المزبور ، فالرجحان على كلّ حالٍ ثابت.

بقي الكلام فيما لو جهل التاريخ

وإنما نحتاج إلى معرفة تاريخ ورود العام والخاص ، وأنه قبل حضور وقت العمل أو بعده ، من جهة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأمّا بناءً على عدم قبحه إن كان لمصلحةٍ ، فلا حاجة. كما تقدّم.

قال في الكفاية : وأمّا لو جهل وتردد بين أنْ يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الاصول العملية (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٨.

٣٧٢

وقد اشكل عليه (١) : بأنّ في فرض ورود الخاص متأخّراً ، لا يبقى شكٌّ ـ سواء كان ناسخاً أو مخصّصاً ـ حتى يرجع إلى الأصل العملي ، وأمّا في الفاصل الزماني ـ إن كان للأصل أثر ـ فالمرجع هو أصالة العموم ، للشك في التخصيص. فأين مورد الأصل العملي؟

وأجاب الأُستاذ :

بأنّ مجرى الأصل هو الفاصل بين العام والدليل المتأخّر ، لكنْ ليس المرجع هو العام ، لأنّ أصالة العموم في الحقيقة هي أصالة عدم التخصيص ، فالمرجع هو الأصل العملي ....

وقياسه ما نحن فيه على مورد المجمل المردد بين الأقل والأكثر مفهوماً ، وأنه يؤخذ بالقدر المتيقَّن من الخاص ويتمسّك بعموم العام في الزائد عليه.

في غير محلّه ، لدوران الأمر هناك بين الأقل والأكثر ، أما هنا فالأمر دائر بين المتباينين ، لأنا نعلم إجمالاً بأحد الأمرين إمّا النسخ وامّا التخصيص ، فلو اريد التمسّك بأصالة العموم لحلّ العلم الإجمالي هذا ، كان معناه انحلال العلم الإجمالي بأصالة عدم التخصيص ، لكن أصالة عدم النسخ تعارض أصالة عدم التخصيص.

وهذا تمام الكلام في الخاص والعام.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٣٠٥.

٣٧٣
٣٧٤

المقصد الخامس

المطلق والمقيد

٣٧٥
٣٧٦

تعريف المطلق

قال في (الكفاية) (١) :

عرّف المطلق بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه.

وقد أشكل عليه بعض الأعلام بعدم الإطراد أو الانعكاس ، وأطال في النقض والإبرام.

وقد نبّهنا في غير مقام على أنّ مثله شرح الاسم ....

أقول :

إن ما ذكره رحمه‌الله هو الصحيح ، فالأولى الإعراض عن التعاريف المذكورة للإطلاق والتقييد ، لكنّ المهمّ الذي لم ينبّه عليه صاحب (الكفاية) هو : إنّ هذا البحث بحثٌ معنويٌ وليس بلفظي ، لأنّ موضوع البحث في باب الإطلاق والتقييد هو شموليّة مفهوم المطلق وأنه هل هو بالوضع أو بمقدّمات الحكمة؟ هذا هو الموضوع ، فلا علاقة له بمفهوم لفظ «المطلق» ولفظ «المقيَّد».

هذا ، وعمدة ما يقع موضوعاً لبحث المطلق والمقيد هو «اسم الجنس» ، فالبحث يدور عن أنّ اسم الجنس لمّا يقع موضوعاً لحكمٍ من الأحكام الشّرعية هل يُقصد منه الإرسال والشمول والسّريان أو لا؟ وإذا كان كذلك ، فهل هو

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٣.

٣٧٧

بالوضع أو بمقدّمات الحكمة؟

ومن ذلك يظهر أنّ المراد من لفظي الإطلاق والتقييد ـ في البحث ـ هو المعنى اللّغوي فيهما.

مقدّمات

ولا بدّ من بيان امورٍ قبل الورود في البحث :

الأمر الأول : إنّ المعنى المبحوث عنه في الباب له أقسام ، فهو إمّا حرفي وامّا اسمي.

أمّا المعنى الحرفي ، فإنه إنما يدخل في البحث ، بناءً على كون الوضع فيه عامّاً والموضوع له عام ، وأمّا بناءً على كون الموضوع له خاصّاً وأنه جزئي حقيقي ، فإنّ الجزء الحقيقي لا يقبل التوسعة والتضييق ، نعم ، هو قابل لبحث الإطلاق والتقييد بمعنى آخر مطروح في بحث الواجب المشروط.

وأمّا المعني الاسمي ، فهو تركيبي وأفرادي.

أمّا التركيبي ، كما في الجُمل ، حيث يبحث عن أنّ إطلاق صيغة الأمر هل يقتضي العينيّة والنفسيّة والتعيينيّة أو لا؟ والجملة الشرطية هل يقتضي إطلاقها الانتفاء عند الانتفاء أو لا؟

وهذا القسم خارج عن البحث ، لأنّ الدلالة على الإطلاق والتقييد فيه إنما يكون على أثر الخصوصيّات المأخوذة في الكلام ، كما يقال : الإطلاق في مقابل «أو» والإطلاق في مقابل «الواو».

وأمّا الأفرادي ، فهو إمّا علم للشّخص وامّا علم للجنس.

لكنّ الإطلاق والتقييد في علم الشخص أحوالي ، فإنّ ل «زيد» مثلاً أحوالاً كثيرة ، من القيام والقعود والصحّة والمرض والغنى والفقر ... لكنّ الخلاف

٣٧٨

المشهور في حقيقة الإطلاق بين سلطان العلماء (١) وغيره ـ كما سيأتي ـ غير آتٍ في الإطلاق الأحوالي ، نعم ، يكون هو المرجع في المسائل الفقهية ، وهذا أمر آخر.

فتبيَّن : أن موضوع البحث ومورد النقض والإبرام هو علم الجنس كالإنسان ونحوه.

فالحاصل : إن موضوع البحث هو المعنى الاسمي الأفرادي لا الأحوالي.

الأمر الثاني : إنه لمّا كان دخول اللاّبشرطيّة وعدمه في حيّز المعنى مورد البحث بين الأعلام كما سيأتي ، فلا بدَّ من فهم معنى البشرط واللابشرط في موارد استعمال هذين الاصطلاحين وغيرهما في كلماتهم ، فنقول :

لقد استعمل هذه الاصطلاحات في ثلاثة موارد :

الأول : الوجود

فقد قسّموا الوجود إلى : «بشرط لا» و «لا بشرط» و «بشرط».

فقالوا : بأنّ الأوّل هو وجود الباري عزّ وجل ، فهو وجود بشرط لا عن جميع الحدود ، لأنه وجود مجرَّد عنها ، لأن الحدود تنشأ من الماهية ولا ماهيّة هناك.

والثاني هو : الوجود المنبسط والإضافة الإشراقية والرحمة الواسعة الحسينية وكنْ البسيطة ، وهذا الوجود فعل الباري ، ويعبَّر عنه في العرفان بالاسم الأعظم.

والثالث : هو الوجود المضاف إلى الماهيّات ، كوجود الإنسان.

الثاني : الجنس والفصل.

أي : اللاّبشرط والبشرطلا في باب الحمل ، وذاك أنّ الموجودات الخارجيّة

__________________

(١) هو : السيد الأجل الحسين بن رفيع الدين محمّد الحسيني الآملي الأصبهاني المتوفى سنة ١٠٦٤.

٣٧٩

ذات الآثار ، كالإنسان والبقر وغيرهما ، لها جهة اشتراك تصدق على أنواع مختلفة وجهة اختصاص كالحيوانية والناطقية. فالحيوان ـ مثلاً ـ إنْ لوحظ لا بشرط عن قابليّة الحمل كان «جنساً» وقابلاً للحمل فتقول : الإنسان حيوان ، والبقر حيوان وهكذا. وكذلك الجهة الاختصاصيّة ، فإنّها إذا لوحظت لا بشرط عن قابليّة الحمل والاتّحاد مع الجنس كانت «فصلاً».

ولو لوحظ الجنس والفصل بلحاظ البشرطلا عن الحمل ، لم يقبل الفصل لأنْ يحمل على الجنس ، وفي هذه الحالة يعبّرون عن الجنس بالمادّة وعن الفصل بالصّورة.

الثالث : الأوصاف والضمائم الخارجة عن الذات.

أي : إنّ الماهيّة قد تلحظ بالنسبة إلى الوصف الخارج عن الذات لا بشرط ، وقد تلحظ بشرط لا ، وقد تلحظ بشرط.

فالرقبة عند ما تلحظ بالقياس إلى الإيمان ، فتارة تلحظ بشرطه فتكون مقيَّدة به ، وقد تلحظ بشرط لا عنه فتكون مقيَّدة بعدمه ، وقد تلحظ لا بشرط ، فهي ماهيّة غير مقيَّدة لا بهذا ولا ذاك. وكذلك الإنسان بالنسبة إلى العلم.

فهذه ثلاثة اعتبارات بالنسبة إلى ما هو خارج عن الذات.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم بأنَّ :

مدار البحث في علم الاصول ـ في باب المطلق والمقيَّد ـ هو هذا المورد الثالث ، وهو اللاّبشرطية في الماهيّات ... فوقع الكلام بينهم في أنّ هذه اللاّبشرطيّة داخلة في حريم المعنى الموضوع له لفظ «الرقبة» مثلاً ، وأنّ معناه هو الذات اللاّبشرط عن وجود الإيمان وعدمه ، أو أنْ هذا اللّفظ موضوع للذات ، وحيثيّة اللاّبشرطية المذكورة خارجة عن المعنى الموضوع له ، ومستفادة من القرينة

٣٨٠