تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

تعليقي وليس بتنجيزي ، لأن أصالة العموم معلقة ذاتاً على عدم القرينة ، وأصالة عدم الاستخدام ـ وهو الظهور السياقيّ للكلام ـ معلّقة على عدم القرينة ، فكما يمكن أن يكون الظهور السياقي قرينة على سقوط أصالة العموم ، كذلك يمكن أن تكون أصالة العموم قرينة على سقوط الظهور السياقي.

وأمّا دعوى قيام القرينة من جهة المرتكز العرفي لتقدم أصالة عدم الاستخدام ، فعهدتها على مدّعيها ، بل إنّ طبع المطلب كون الظهور السياقي أضعف من الظهور اللّفظي الوضعي ، نعم ، قد يتقدّم الظهور السياقي كما في مثاله المذكور ، لكنْ ليس الأمر كذلك في جميع الموارد ، بل المقدَّم هو ما ذكرناه ، وفرقٌ بين الآية والمثال ، إذ لو جعل المراد فيه الحيوان المفترس لزم أجنبية الضمير ، بخلاف الآية ، فإنّ الضمير راجع إلى حصّةٍ من العام ... فالأصلان في الآية متعارضان.

والحق سقوط كليهما والرجوع إلى الأصل العملي.

ثم إنّه قد ذكروا أنْ الآية المباركة ليست بمثالٍ للمسألة ، لأنّا نعلم بدليلٍ من الخارج أنّ المراد من المطلّقات حصّة منهنّ ، فأصالة التطابق بين الإرادتين في الضمير ساقطة ، بخلاف العام «المطلّقات» فهي فيه تامّة.

قال الأُستاذ

إن صاحب (الكفاية) قد استدرك في آخر كلامه ما لو صدق احتفاف الكلام بالقرينة ، ففي هذه الصورة قال بسقوط الأصلين. وهذا بالتالي تفصيل منه في المسألة ، ففي الآية تتقدّم أصالة العموم من حيث أنّ الجملة المشتملة على الضمير لا تصلح للقرينيّة ، لوجود جملةٍ بينهما في الآية المباركة.

٣٤١

تعارض المفهوم مع العموم

لو ورد عامٌّ مثل أكرم العلماء ، ثم وردت جملةٌ شرطية يعارض مفهومها ذلك العام ، كما لو قال : أكرم العلماء إن كانوا عدولاً ، ففيه وجوه :

تقديم العام على المفهوم.

وتقديم المفهوم على العام.

والتعارض والتساقط والرجوع إلى الاصول العمليّة.

والتفصيل.

وقبل الورود في الأدلّة نتعرّض لكلام الميرزا ودفع ما أورد عليه.

فقد ذكروا أن المفهوم إمّا مخالفٌ للمنطوق بالسلب والإيجاب كما في الخبر : «إذا كان الماء قدر كرٍّ لم ينجّسه شيء» (١). وامّا موافق ، وهو ما لم يكن بينهما تخالف كذلك مثل (فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ) (٢). والموافق ينقسم إلى : الموافقة بالأولوية والموافقة بالمساواة ، والاولى تارةً عرفية واخرى عقليّة ، والثانية ، تارةً : تكون المساواة عن طريق تحصيل المناط القطعي للحكم ، واخرى : تكون لا عن الطريق المذكور مثل لا تشرب الخمر لإسكاره.

فقال الميرزا (٣) : إن كان المفهوم موافقاً ، فتارةً يقال : لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، واخرى يقال : لا تشرب الخمر لإسكاره ... وبين التعبيرين فرق ، ففي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، رقم : ١.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٢٣.

(٣) أجود التقريرات ٢ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

٣٤٢

الأول ، يكون مقتضى القاعدة تعميم الحكم ـ وهو الحرمة ـ لكلّ مسكر ، لأن الموضوع في الكلام عبارة عن «المسكر» ، وفي الثاني : مقتضى القاعدة تخصيص الحكم بالخمر ، لاحتمال وجود الخصوصيّة في إسكار الخمر دون غيره من المسكرات ، لأن موضوع الحكم هو خصوص الخمر.

وقد أشكل المحقق الأصفهاني (١) على هذا التفريق بما ملخّصه : إنه إذا قال : لا تشرب الخمر إذا أسكر ، كان الإسكار شرطاً ، وليس لهذا الشرط أثر إلاّ تتميم قابليّة الخمر لترتّب الحكم ، ومع الشك في تحقّق القابليّة لذلك لغير الخمر ، فمقتضى القاعدة تخصيص الحكم به دون غيره. وأمّا إذا قال : لا تشرب الخمر لإسكاره ، فظاهر الكلام كون الإسكار علّةً غائيةً ، ومن المعلوم استحالة تخلّف المعلول عن العلّة ، فيكون الحرمة معلولةً للإسكار ويدور الحكم مداره أينما وجد ، فلا يختص الحرمة حينئذٍ بالخمر. وكذلك لو قال : لا تشرب الخمر لأنه مسكر ... ولو كانت الإضافة توجب الخصوصيّة ـ فيما لو قال : لإسكاره ـ فهي موجبة لها لو قال : لأنه مسكر ، لكون المسكر والإسكار كليهما مضافين إلى الخمر.

هذا ، وقد تبعه السيد الخوئي (٢) وأضاف : بأنّ عدم الفرق بين «لأنه مسكر» و «لإسكاره» في أنّ تمام الموضوع للحكم هو الإسكار ولا موضوعيّة للخمر ، هو المتفاهم عند أهل العرف ، فمقتضى القاعدة هو التعميم في كلا الموردين.

دفاع الأُستاذ عن الميرزا

وأجاب الأُستاذ عن إشكال المحقق الأصفهاني : بوجود الفرق بين «لإسكاره» و «لأنه مسكر» ، إذ الإضافة موجودة في كليهما ، لكنّها في الثاني

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩. الهامش.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٣٨٠. الهامش.

٣٤٣

تطبيقيّة حيث يُطَّبق فيه العنوان الكلّي على الفرد ، فكان الموضوع للحكم هو عنوان «المسكر» ولا مقيّد له ، وحينئذٍ يعم الحكم غير الخمر أيضاً. أمّا في الأوّل ، فالموضوع هو الخمر وكون «الإسكار» علّةً غائية والتخلّف محال ، لا ينافي موضوعية الخمر ، لأن الغاية عبارة عن «إسكاره» لا «الإسكار» ، فكانت الإضافة مقيَّدة ، ومقتضى أصالة التطابق بين الثبوت والإثبات أن يكون لإسكار الخمر خصوصيّة ، اللهم إلاّ إذا قامت القرينة على إلغائها ، والمفروض انتفاؤها هنا ، ومن الواضح أنّ هذه الخصوصية توجد الضيق في ناحية العلّة وتحدّد المضاف بالمضاف إليه ، بخلاف قوله : «لأنه مسكر» فإنه تطبيق لا تحديد.

وبما ذكرناه يظهر ما في الاستدلال في هامش الأجود برواية : «إن الله لم يحرّم الخمر لاسمها» (١) ... فإنّ ظاهرها بل صريحها هو الدلالة على التعميم ، وكلامنا هو فيما لا توجد قرينة على التخصيص أو التعميم.

بل إنّ المتعارف عند العرف هو ما ذكرناه ، فلو قيل : لا تجالس زيداً الجاهل لسوء خلقه ، فإنّ هذا الكلام لا يدلّ على المنع عندهم من مجالسة عمرو العالم السيّئ الخلق ، لوجود احتمال أن سوء خلقه هو من جهة الجهل ، فلا يسري الحكم إلى كلّ من ساء خُلُقه.

فظهر أن الحق مع الميرزا في هذه المقدّمة ، فلندخل في صلب البحث :

دليل القول بتقدّم العام ونقده

وقد استدلّ لتقدّم العام على المفهوم : بأنّ دلالة العام ذاتية لكونها مطابقية ، ودلالة المفهوم هي بالعرض لكونها بالالتزام ، والدلالة الالتزامية أضعف ولا تقبل المعارضة مع المدلول المطابقي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، الباب ١٩ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الرقم : ٢.

٣٤٤

وفيه :

إنه لا تفاوت بين الدلالتين في مقام الدلالة والموضوعية ، وكلاهما في مرتبةٍ واحدة في الكشف عن المراد الجدّي والمراد الاستعمالي.

وبعبارة اخرى : إن دلالة الكلام على المفهوم مستندةٌ إمّا إلى الوضع وامّا إلى مقدّمات الحكمة ، وكذلك دلالة العام على العموم ، فهي إمّا من جهة اللّفظ وامّا من جهة مقدّمات الحكمة ، فكلاهما في مرتبة واحدة ، فالتقديم بما ذكر بلا وجه.

دليل الوقل بتقدّم المفهوم ونقده

واستدلّ للقول بتقدم المفهوم : بأنّ التعارض الموجود هو بين العموم والمفهوم ، وهنا مورد إعمال قواعد التعارض. هذا من جهةٍ. ومن جهةٍ اخرى : فإنّ المنطوق والمفهوم متلازمان بالتلازم العقلي أو العرفي ، وهما في هذه الملازمة متساويان ، ومع التلازم بينهما لا يعقل انفكاك أحدهما عن الآخر ، بل سقوط أحدهما يوجب سقوط الآخر.

وبعد ذلك : فإنّه مع تقدّم العموم وسقوط المفهوم ، هل يبقى المنطوق على حاله أو يسقط؟ أمّا بقاؤه بعد سقوط المفهوم ، فيستلزم الانفكاك ، وأمّا سقوطه أيضاً فيستلزم إجراء أحكام التعارض في غير مورد التعارض ، لأنّ المنطوق لم يكن طرفاً للمعارضة ، بل طرفها هو المفهوم ، فهذا المحذور يوجب تقديمه على العموم (١).

التحقيق

هو إنّ القول بأنّ عدم تقدّم المفهوم يستلزم إجراء قواعد التعارض فيما ليس طرفاً للمعارضة غير تام ، لاستحالة وقوع المفهوم طرفاً لها وعدم وقوع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٨٣.

٣٤٥

المنطوق ، بل المنطوق يكون كذلك وتجري قواعد التعارض. فلو قال : أكرم خدّام العلماء ، دلَّ بالأولوية على إكرام العلماء ، فإنْ قال : أكرم فسّاق خدّام العلماء ، دلّ بالأولويّة على وجوب إكرام العلماء الفساق. لكنّ العام يقول : لا تكرم الفسّاق ، وله دلالتان أحدهما هو النهي عن إكرام العالم الفاسق ، والآخر النهي عن إكرام الخادم الفاسق الجاهل ، فإنّه المدلول له بالأولوية. فكما كان للمفهوم حكمان إثباتي وبالأولويّة ، كذلك للعام ، وعليه ، ففي جميع الموارد يوجد التعارض بين العام من جهةٍ والمفهوم والمنطوق من جهة اخرى ، ويكون المرجع قواعد التعارض.

فإنْ كان المنطوق أخص ، جرت قواعد العام والخاص ، وإنْ كان أعمّ جرت قواعد العام من وجه.

وهنا ، النسبة بين المنطوق والعموم عموم وخصوص من وجه ، ومقتضى القاعدة تقدّم الخاص ، لكونه أظهر من العام أو قرينةً للعام ، وإذا تقدّم المنطوق تقدَّم المفهوم لكونه اللاّزم المساوي له ، وإلاّ لزم التفكيك المحال كما تقدّم.

فالمفهوم مقدَّم على العموم بهذا البرهان لا بما ذكر فإنه غير صحيح.

وبعبارة اخرى : إنّ تقدّم المنطوق على العموم تنجيزي ، وأمّا معارضة العموم للمفهوم ، فهي معلَّقة على عدم قرينيّة المنطوق للعموم أو عدم أظهريته منه ، ومن المعلوم أنْ لا تعارض بين التنجيزي والتعليقي.

هذا ، ولو فرض عدم القرينية أو الأظهرية واستقر التعارض ـ والمفروض كون النسبة هي العموم والخصوص من وجه ـ فقولان : أحدهما : الرجوع إلى المرجّحات كما في المتباينين فإنْ فقدت فالتساقط أو التخيير ، والآخر : التساقط أو التخيير ، لكون الرجوع إليها خاصٌ بالمتباينين.

وهذا كلّه في المفهوم الموافق.

٣٤٦

وأمّا المخالف ، كقوله : «خلق الله الماء طهوراً» (١) وقوله : «إذا كان الماء قدر كرٍّ لم ينجّسه شيء» (٢) فوقع التعارض بين العام وبين المفهوم ـ والمفروض أنْ لا حكومة للمفهوم على العموم وإلاّ لتقدّم عليه ، لكنّ مورد الحكومة خارج عن البحث ـ فههنا صورٌ ذكرها المحقق العراقي (٣) :

تارةً : العموم والمفهوم في كلامٍ واحدٍ ، واخرى : يكونان في كلامين ، وعلى كلّ تقدير : تارةً تكون الدلالة في كليهما بالوضع ، واخرى : بالإطلاق ، وثالثة : في أحدهما بالوضع وفي الآخر بالإطلاق.

قال : إنْ كانا في كلامٍ واحدٍ ، فإنْ كانت الدلالة بالوضع ، لم ينعقد ظهورٌ أصلاً ، إذ لا موضوع لأصالة الظهور بل الكلام مجمل. وإنْ كانت بالإطلاق ، لم تتحقّق مقدّمات الحكمة فيهما ، لأن منها عدم البيان ، وكلّ واحدٍ منهما يصلح لرفع الموضوع في الآخر ، فلا موضوع لأصالة الإطلاق.

وإنْ كانا في كلامين ، فإنْ كانت الدلالة بالوضع لم يتم محمول أصالة الظهور وإنْ تمّ الموضوع ، لأنه وإنْ تمّ لهما الظهور الوضعي ، إلاّ أنّه يسقط على أثر المعارضة ويكونان مجملين حكماً ، وإنْ كانت بالإطلاق ، فإنّه وإنْ تحقّق موضوع أصالة الإطلاق لكنّ محمولها وهو الحجية غير متحقّق.

وإنْ كانت الدلالة في أحدهما بالوضع وفي الآخر بالإطلاق ، فإنْ كانا في كلامٍ واحدٍ ، تقدّم ما كان بالوضع ، لأنّ الظهور الوضعي يمنع من انعقاد الإطلاق في الطرف المقابل ، لعدم كونه متوقّفاً على شيء ، بخلاف الإطلاق فمن مقدّماته عدم البيان ، والظهور الوضعي بيان في الكلام المتصل. وإنْ كانا في كلامين ، بني

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ١٣٥ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، رقم : ٩.

(٢) وسائل الشيعة ١ / ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، رقم : ١.

(٣) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٤٦.

٣٤٧

على المختار في باب الإطلاق وأن تماميّته موقوفة على عدم البيان إلى الأبد أو في مجلس الخطاب ، فعلى الأول : لا يبقي ما كان بالوضع مجالاً لانعقاد الإطلاق في الطرف الآخر ، وعلى الثاني ـ والمفروض هو الانفصال بين الكلامين ـ تتم مقدّمات الإطلاق ويقع التعارض بين أصالة الظهور وأصالة الإطلاق والمرجع قواعد باب التعارض.

أورد عليه الأُستاذ

أوّلاً : إنّ الخاص ـ سواء كان ظهوره وضعيّاً أو إطلاقيّاً ـ مقدّم على العام ـ وإنْ وقع الكلام في وجه تقدّمه أنّه من باب الأظهرية أو القرينيّة ـ فإنْ كانا في كلامٍ واحدٍ سقط ظهور العام وإن كانا في كلامين سقط حجيّة العام ... وهذا ممّا لا خلاف فيه. وعليه ، فمفهوم «إذا بلغ ...» مقدّم على «خلق الله الماء طهوراً» والظهور في كليهما إطلاقي ، لكن المفهوم خاصٌ ، فهو مقدّم لكونه قرينة. وإنْ كان ظهوره وضعيّاً فتقدّمه يكون بالأولوية ، فلما ذا جعل الخبرين مثالاً لهذا البحث؟

وثانياً : إن ما ذكره من عدم استقرار الظهور فيما لو كانت الدلالة فيهما معاً بالوضع أو بالإطلاق أو كانا متّصلين ، غير صحيح ، لأنه في حال كون ظهورهما وضعيّاً ، فإنّ الثاني يمنع من انعقاد الظهور في الأول ، لكنّ الثاني لا ينعقد له ظهور أصلاً ، لكونه مسبوقاً بالأول ، فالقول بعدم استقرار الظهور إنما يتمّ في حال كونهما بالوضع وفي الثاني منهما خاصّةً. أمّا إذا كان ظهورهما بالإطلاق فلا ينعقد في أحدهما أصلاً ولا يصحّ التعبير بعدم الاستقرار ، لوضوح صلاحية كلٍّ منهما لأن يكون بياناً للآخر ، فلا تتم مقدّمات الحكمة في شيء منهما.

وثالثاً : إنّ الكلام في أصل كون الظهور الوضعي بياناً ، فيمتنع انعقاد

٣٤٨

الإطلاق في الطرف الآخر ، وهذا ما ذكره المحقق العراقي هنا ، والمحقق الخراساني في بحث التعارض من (الكفاية) (١) فيما لو وقع العام والمطلق في كلامٍ واحد ... والأصل فيه هو الشيخ الأعظم قدس‌سره ، من جهة أنّ الظهور الوضعي تنجيزي والإطلاقي تعليقي ولا يكون بينهما التمانع بل الأول يتقدّم. وبعبارة اخرى : الظهور الوضعي ذو اقتضاء بخلاف الإطلاقي ، وما لا اقتضاء له يستحيل أن يعارض الاقتضاء.

(قال) ولنا في ذلك نظر نقضاً وحلاًّ.

أمّا نقضاً ، فقد ذكروا أنّ العام لو حفّ بمجملٍ سرى الإجمال إليه وسقط عن الظهور ، كما لو قال : أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم ، وتردد الفسق بين الكبيرة والصغيرة ... فكيف أثّر ما لا اقتضاء له فيما له الاقتضاء؟

وأمّا حلاًّ ، فإنْ كلّ ظهور وضعي فهو معلَّق على أنْ لا يكون محفوفاً بقرينةٍ أو بما يصلح للقرينية أو بمجملٍ ، وهذا هو السرُّ في سراية الإجمال في المثال المتقدّم ، لأنّ المجمل ـ وإنْ كان لا اقتضاء ـ يصلح لإسقاط الظهور الوضعي ، ولذا لو احتفّ العام بمطلقٍ لا ينعقد للكلام ظهور ، والدليل على ما ذكرناه هو السيرة العقلائية ، لأن حجيّة هذه الظهورات مستندة إليها ، وفي موارد الاحتفاف كما ذكرنا لا تنعقد على الظهور بل هم يتوقّفون في مثل ما لو قال المولى : أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفساق ، حيث النسبة العموم من وجهٍ ، فهم في العالم الفاسق ـ المجمع بين العام الوضعي والإطلاقي ـ يتوقّفون ويعاملون الكلام معاملة المجمل.

فالتحقيق أنه في مورد احتفاف العموم بالمطلق ، لا بدّ من القول بالإجمال ، خلافاً للشيخ وصاحب (الكفاية) والعراقي وغيرهم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥٠.

٣٤٩

وعلى ما ذكر ، فالتحقيق هو إعمال قواعد التعارض في جميع موارد التعارض بين العموم والمفهوم ، إلاّ إذا كان للمفهوم حكومة على العموم كما في مفهوم آية النبأ (١) ، فإنّه ليس العمل بخبر العادل من السفاهة والجهالة ، فخبره خارج عن الحكم بالتبيّن تخصّصاً ، ولذا نصّ صاحب (الكفاية) في بحث التعارض (٢) على أنْ لا تعارض بين الحاكم والمحكوم ... وإلاّ إذا لزمت لغويّة العام لو تقدّم المفهوم عليه ، كما لو قدم مفهوم «إذا بلغ الماء ...» على عموم «الماء الجاري لا ينفعل بالملاقاة» فإنه يلزم لغوية أخذ «الجاري» في العموم ... ولذا يتقدّم العموم على المفهوم في مثله ....

وأمّا مقتضى القاعدة بصورةٍ عامّة ، فهو القول بالإجمال في المتّصلين وإعمال قواعد التعارض في المنفصلين ، فبناءً على القول بالترجيح ـ لا التخيير ـ فالمرجّحات وإلاّ فالتساقط والأصل العملي.

__________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٦.

(٢) كفاية الاصول : ٤٣٧.

٣٥٠

تعقّب الاستثناء للجمل

لو ورد مثلاً : أكرم العلماء وتواضع للسّادة وأطعم الفقراء إلاّ الفساق منهم ، فهل يرجع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة فقط ، أو إلى جميع الجمل المذكورة؟

تحرير محلّ البحث :

إن أداة الاستثناء تارة اسمٌ واخرى حرف ، فإن كانت اسماً ، فلا إشكال في إمكان رجوع الاستثناء إلى الكلّ ، لكون الموضوع له الاسم عامّاً ، كما يجوز أن يكون المراد طبيعة الإخراج. وإنْ كان حرفاً من حروف الاستثناء ، بني البحث على المختار في الموضوع له الحرف ، لأنه بناءً على كون الموضوع له عامّاً يجوز رجوعه إلى الكلّ كما لو كان اسماً ، أمّا بناءً على كونه خاصّاً أو أن المستعمل فيه خاص ، فيقع الإشكال في جواز رجوع الاستثناء إلى الكلّ ، لأن الإخراجات المتعدّدة من الجمل المتعدّدة نسب متعدّدة ، والحال أن مدلول الحرف هو الجزئي الحقيقي من الإخراج ، فلا يمكن رجوعه إلى كلّ الجمل.

وبعد ظهور محلّ الكلام ، فلا بدّ من البحث أولاً في جهة الثبوت ، فلولا تماميّة الإمكان لم تصل النوبة إلى جهة الإثبات ... فنقول :

الكلام في جهة الثبوت

قد يستظهر من بعض العامّة صحّة رجوع الاستثناء إلى الكلّ.

وقال صاحب (الكفاية) ما حاصله : أنّ الاستثناء مفهوم واحد يتحقّق في

٣٥١

مورد الإخراج من المتعدّد والإخراج من الواحد ، فالإخراج ب «إلاّ» سواء كان من الأخيرة أو من الكلّ على وزانٍ واحد (١).

وأوضح المحقق الإيرواني في (التعليقة) (٢) : بأن إخراج «الفساق» من الجملة الأخيرة أو من الجمل كلّها ، مصداقٌ لمفهوم الإخراج ، ومع المصداقية في كلا الموردين بلا فرقٍ ، لا يفرَّق بين وحدة المستثنى منه وتعدّده.

لكنّ الأُستاذ تنظّر في هذا الكلام : بأنّه مع وحدة المصداق كيف يعقل وحدة الخروج وتعدّد الخارج والمخرج منه؟ إنّه بعد إخراج الفسّاق ، فإنّ فسّاق العلماء غير فسّاق السّادة وفسّاق الفقراء ، كما أنّ العلماء غير السّادة والفقراء ، فالإخراج والخروج ـ وإنْ كانا واحداً ، لأنّ المصدر واسم المصدر واحدٌ حقيقةً ـ ولكن الخارج في المثال متعدّد وكذا المخرج منه ، فالخروج أيضاً متعدّد لا محالة.

وما ذكره المحقق العراقي (٣) : من أنّ هذا الإشكال إنما يتوجّه إذا كان المخرج ـ في مورد الاستثناء من الجمل ـ بنحو العام الاستغراقي مع تعدّد الإخراج ، وأمّا إذا لوحظ بنحو العام المجموعي ، كان المخرج منه واحداً والإخراج واحد ، فالإشكال مندفع.

لا يجدي ، لأنّه لا وجود خارجاً للمجموع ، بل الموجود هو الأفراد وتعدّدها ذاتي ، نعم ، هو من اختراعات الذهن ، لكنّ الاستثناء يكون من الوجود الخارجي لا الاعتباري الذهني.

وكذا ما ذكره السيد الحكيم (٤) من تجويز قيام النسبة الشخصيّة بالمتعدّد ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٤.

(٢) نهاية النهاية ١ / ٣٠١.

(٣) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٤١.

(٤) حقائق الاصول ١ / ٥٣٢.

٣٥٢

بأنْ تكون النسبة الشخصيّة منحلّة ضمناً إلى نسبٍ متعددة ، كتعلّق الوجوب بالصّلاة المركّبة من أجزاء ، فإنّه ينحلّ إلى وجوبات بعدد الأجزاء.

فإنّه لا يمكن المساعدة عليه ، لأن الذات التي هي عين التشخّص والجزئية كيف تكون متعدّدة ، والتعدّد يقابل التشخّص ، فكيف يجتمعان؟ وقياس ما نحن فيه بتعلّق الوجوب بالمتعدّد مع الفارق.

لكنّ الحلّ هو بالقول بعموم الموضوع له الحرف ، كما تقدّم في محلّه.

الكلام في جهة الإثبات

وقد اختلفت كلماتهم في هذه الجهة :

تفصيل المحقق الخراساني

فقال صاحب (الكفاية) (١) ما ملخّصه : إن القدر المتيقن من المراد هو الاستثناء من الجملة الأخيرة ، أمّا أن يكون الكلام ظاهراً في الاستثناء من الكلّ فلا ، بل هو مجمل ، ولا بدّ من الرجوع إلى مقتضى الأصل العملي في غير الجملة الأخيرة. إلاّ أن يقال بحجيّة أصالة العموم تعبّداً ، وعليه ، فإنْ كان عموم المستثنى منه بالوضع فهو على قوّته ، وإن كان بالإطلاق لمقدّمات الحكمة فالأصل يسقط ، لأنّ كلّ واحدة من الجمل محفوف بما يحتمل القرينيّة وهو المستثنى.

ثم أمر بالتأمّل.

وقد ذكر وجهه في الحاشية : بأنّ المناط صلاحيّة أداة الاستثناء للقرينيّة ، ومع إجمال الكلام لا تسقط أصالة الإطلاق بالنسبة إلى غير الجملة الأخيرة.

ثم قال في الحاشية : فافهم.

وكأنه يريد الإشارة إلى عدم انعقاد الإطلاق في هذه الحالة من جهةٍ اخرى ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٥.

٣٥٣

وهي وجود القدر المتيقَّن في مقام التخاطب ، فإنّ مبناه في الإطلاق مانعيّة ذلك عن انعقاده.

وعلى الجملة ، فإنّ صاحب (الكفاية) يفصّل في المتن ، بين ما إذا كانت أصالة الحقيقة من باب الظهور أو من باب التعبّد ، فعلى الأول ، يكون الكلام مجملاً والمرجع هو الاصول العمليّة. أمّا على الثاني ، فالتفصيل بين ما إذا كان عموم المستثنى منه وضعيّاً أو إطلاقياً ، وقد عرفت كلامه في الحاشية.

وقد أورد عليه الأُستاذ بما يرجع إلى الإشكال المبنائي ، فإنّ عدم وجود القدر المتيقَّن في مقام التخاطب ليس من مقدّمات الحكمة ، وأنّ كلّ ما يصلح للبيانيّة عرفاً يمنع من انعقاد الإطلاق حتى الكلام المجمل ، فيكون الحاصل ـ بناءً على حجيّة أصالة الإطلاق من باب التعبد ـ أنّ عموم المستثنى منه إنْ كان وضعيّاً فهو على قوّته ، وإنْ كان إطلاقيّاً فإنْ احتفاف الكلام بالمجمل يمنع من انعقاد الإطلاق ، والمرجع هو الاصول العملية في هذه الصورة في غير الجملة الأخيرة.

تفصيل المحقق العراقي

وللمحقق العراقي (١) تفصيلٌ على أساس مختاره في مسألة تعارض العموم والمفهوم ، فهو ـ وإنْ وافق صاحب (الكفاية) في ابتناء البحث على كون حجيّة أصالة الحقيقة من باب التعبد أو الظهور ـ ذكر أنه تارةً : تكون الدلالة على العموم وعلى الاستثناء وضعيّة ، واخرى : هي في كليهما إطلاقية ، وثالثةً : هي على العموم بالوضع وعلى الاستثناء بالإطلاق ، ورابعة : بالعكس.

فإنْ كانت الدلالة في كليهما بالوضع أو بالإطلاق أصبح الكلام مجملاً ، لأنّ الظهورات تتصادم وتسقط ، والمرجع الاصول العملية في غير الجملة الأخيرة

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٤٣.

٣٥٤

فإنّها القدر المتيقَّن.

وإنْ كانت الدلالة على العموم بالوضع وعلى الاستثناء بالإطلاق ، كانت أصالة العموم بياناً بالنسبة إلى الاستثناء ، ويسقط الإطلاق في الاستثناء وتتحكّم أصالة العموم في كلّ الجمل عدا الأخيرة.

وإنْ كانت بالعكس ، فإنّ الجهة الوضعية في الاستثناء لا تبقي مجالاً لانعقاد الشمولي الإطلاقي في الجمل ، فتسقط أصالة الإطلاق في الكلّ.

وقد أورد عليه الأُستاذ بما يرجع إلى الإشكال المبنائي كذلك ، وحاصله : أنه كما أنّ العموم الوضعي يصلح لأنْ يكون بياناً فيمنع من انعقاد الإطلاق في الطرف المقابل ، كذلك الإطلاق إذا حفّ بالعموم الوضعي ، فإنه يمنع من انعقاد الظهور فيه.

ثم أضاف : بأنّ كلام المحقق العراقي هنا ينافي ما ذهب إليه في مبحث تعارض العموم والمفهوم على أساس قاعدة أنّ التعليقي لا يعارض التنجيزي ، والظهور الوضعي تنجيزي والإطلاقي تعليقي ، فسواء كان الوضعيٌّ هو المستثنى منه أو المستثنى ، فإنّه مقدَّم على الإطلاقي ، والقول بأنّ المستثنى الوضعي لا يكون بياناً للمستثنى منه الإطلاقي ، تخصيص للقاعدة العقلية المذكورة. فالقول بتصادم الظهورات فيما لو كان كلاهما إطلاقياً باطل ، لأنه لا مقتضي للظهور في هذه الصورة حتى يقع التصادم.

تفصيل الميرزا

وفصّل الميرزا النائيني (١) بما حاصله ، إنّ الجملة تتعدّد بتعدّد النسبة ، وهي تتعدّد بتعدّد الموضوع أو المحمول أو كليهما. وكذلك الحال في الجمل المتعقّبة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

٣٥٥

بالاستثناء ، فقد يقال : أكرم العلماء واحترمهم وأحسن إليهم إلاّ الفسّاق ، فالموضوع واحد والمحمول متعدّد ، وقد يقال : أكرم العلماء والشيوخ والسادات إلاّ الفسّاق منهم ، فالموضوع متعدّد ، وقد يقال : أكرم العلماء وأحسن إلى السادات وأطعم الفقراء إلاّ الفساق منهم ، فكلاهما متعدّد.

ثم إنّ التعدّد بتعدّد الموضوع على نحوين ، فقد يذكر الموضوع في صدر الكلام ويكون التعدّد بالضمير العائد إليه ، كأن يقال : أكرم العلماء وأضفهم واحترمهم إلاّ الفساق منهم ، وقد يتكرر الموضوع نفسه مثل : أكرم العلماء وأضف العلماء واحترم العلماء إلاّ الفساق منهم. فإنْ كان من قبيل الأول ، فالاستثناء يتعلَّق بالكلّ ، لأنّ الموضوع هو المستثنى منه ، وقد جاء الاستثناء ليخصّصه والضمير ليس له مرجع سواه ، فينعقد ظهور الكلام في الكلّ. وإن كان من قبيل الثاني ، فإنّ الاستثناء من الجملة الأخيرة فقط.

أمّا إنْ كان الموضوع واحداً والحكم متعدّد ، فالاستثناء يرجع إلى الكلّ كالصّورة الاولى من الصورتين المذكورتين.

وأمّا إنْ تعدّد الموضوع والمحمول كلاهما ، فالاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط ، لأنه مقتضى تعدّدهما.

نظر الأُستاذ

قال الأُستاذ : لا شك أن الملاك في ظهور الكلام هو قالبيّته العرفية للمعنى ، بأنْ يكون عند ما يلقى إلى العرف كاشفاً عن معناه عندهم بلا تردّد لديهم ، وعليه ، فهل يكون تكرّر الموضوع موجباً للظهور عندهم؟ هذا أوّل الكلام ، وعلى مدّعي انعقاد الظهور إقامة البرهان.

نعم ، الجملة الأخيرة هي القدر المتيقن في جميع الموارد ، وهذا لا كلام فيه.

٣٥٦

نعم في صورة تعدّدهما يستقر الظهور العرفي في الرجوع إلى الجملة الأخيرة فقط كما ذكر. وأمّا في الصورة السابقة فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى الاصول العملية لتردّد أهل العرف وتحيّرهم.

٣٥٧

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

لا خلاف بين الأصحاب في تخصيص خبر الواحد لعموم الكتاب ، وقد نقل الخلاف عن بعض العامّة (١) ، فاقيم الدليل على الجواز في كتب الخاصّة.

كلام الكفاية

فقد ذكر المحقق الخراساني (٢) : بأنّ الحق هو الجواز ، ثم استدلّ بسيرة الأصحاب إلى زمن الأئمة الأطياب عليهم‌السلام ، وأبطل احتمال كون كلّ تلك الأخبار محفوفة بالقرينة. ثم ذكر أنه لولاه لزم إلغاء خبر الواحد بالمرّة أو ما بحكمه ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلّم وجود ما لم يكن كذلك.

نقد ما استدل به للعدم

ثم تعرّض لما يستدلّ به للقول بعدم الجواز ، وهي وجوه أربعة :

الأول : إنه إذا جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، جاز نسخه به كذلك. والتالي باطلٌ بالإجماع فالمقدَّم مثله. ووجه الملازمة : هو أن النسخ أيضاً تخصيصٌ لكنّه يرجع إلى الأزمان والتخصيص يرجع إلى الأفراد.

والجواب : بالفرق من جهة الإجماع ، فإنّه قائم في النسخ على العدم ، أمّا في التخصيص فهو قائم على الجواز بين القائلين بحجية خبر الواحد.

__________________

(١) انظر : المستصفى في علم الاصول للغزالي ٢ / ١١٤.

(٢) كفاية الاصول : ٢٣٥.

٣٥٨

الثاني : إن الدليل على حجيّة خبر الواحد هو الإجماع ، وهو دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقن منه ، وهو غير المخالف لعموم الكتابي ، ولو بالعموم والخصوص المطلق.

والجواب : لا إجماع على حجيّة خبر الواحد.

وعلى فرضه ، فالدليل على حجيّته غير منحصر به.

وإن الأخذ بالقدر المتيقن ، إنما يكون من الإجماع التعبدي ، والإجماع على حجيّة خبر الواحد إنْ كان ، فهو مستند إلى الأخبار والسّيرة.

ثم إنّ الإجماع قائم على تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فأين القدر المتيقن من الإجماع على حجيّة خبر الواحد؟

الثالث : الأخبار الكثيرة الآمرة بطرح كلّ خبر خالف الكتاب (١) ، أو أنه زخرف (٢) ، أو أنه مما لم يقل به الأئمة عليهم‌السلام (٣).

والجواب : إنّ المخالفة بالعموم والخصوص المطلق ليست مخالفةً عرفاً ، بل الخاص عند أهل العرف قرينة على العام ، وليس بين القرينة وذيها مخالفة ، فالأخبار المذكورة مختصة بالمخالفة على وجه التباين. قاله صاحب (الكفاية) وغيره (٤).

إلاّ أن الأُستاذ تنظّر في هذا الجواب ـ في الدورة اللاّحقة ـ بما حاصله : أن المخالفة بالعموم والخصوص المطلق هو بالسلب والإيجاب ، فإمّا يكون الكتاب دالاًّ على العموم موجبة كليّة فيأتي الخبر على خلافه بصورة السالبة الجزئية ، وامّا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ / ١١٠ ، الباب ٩ من كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، رقم ١٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ / ١١١ ، الباب ٩ من كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، رقم ١٤.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ / ١١١ ، الباب ٩ أبواب صفات القاضي ، رقم ١٥.

(٤) كفاية الاصول : ٢٣٧.

٣٥٩

يكون بالعكس ، ومن الواضح أن السّلب والإيجاب متناقضان بحكم العقل والمتناقضان لا يجتمعان ، فكيف يكون الجمع بين العام والخاصّ عرفيّاً؟ وكيف يدّعى عدم المخالفة عرفاً بين العام والخاص المطلق؟

هذا أوّلاً.

وثانياً : إنه قد أطلق عنوان المخالفة على موارد العموم والخصوص المطلق في أخبار باب التعارض ، كصحيحة القطب الراوندي «ما وافق الكتاب فخذوه وما خالف فدعوه» (١) وكمقبولة عمر بن حنظلة (٢) ، إذ ليس المراد من المخالفة هذه التباين ، وإلاّ لم تصل النوبة إلى التعارض والترجيح ... وحمل هذا الاستعمال على المجاز غير صحيح لعدم العناية.

فالأولى : أن يقال بشمول «المخالف» للخاصّ المطلق بالنسبة إلى العام الكتابي ، لكنّ علمنا بصدور الأخبار المخالفة بالعموم والخصوص المطلق عنهم عليهم‌السلام يوجب حمل كلمة المخالف في مثل «ما خالف كتاب الله فهو زخرف» على المخالفة بالتباين. وأيضاً ، فإنّ الأخبار الواردة في باب التعادل والتراجيح دليل على أن المخالف للكتاب حجة ، غير أنّ الموافق له لدى التعارض بينهما هو المقدَّم ، فالمخالفة هذه بالعموم والخصوص المطلق لا التباين ، لأن المباين ليس بحجة مطلقاً.

الرابع : إنّ العام الكتابيّ قطعيّ الصدور وخبر الواحد ظنّي ، وتخصيص الكتاب به رفع اليد عن العلم بالظن وهو غير جائز.

والجواب : إنّه من حيث السند ، لا كلام في قطعيّة الكتاب وظنيّة خبر

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٦٤ ، الباب ٢٠ من أبواب يحرم بالمصاهرة ونحوها ، رقم ٣ و ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ / ١٣٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، رقم ١.

٣٦٠