تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

في معرض التخصيص ، فلا تطابق عند العقلاء بين الإرادتين فيها.

وعلى هذا ، فلا مقتضي لأصالة العموم ولا موضوع لدليل الحجيّة ، بل لا بدّ من الفحص عن المخصص حتى يتحقق موضوع أصالة التطابق.

وقد وافقه المحقق العراقي (١) ... وقال شيخنا بتمامية هذا الوجه صدراً وذيلاً.

(ثمّ قال) : ولو شكّ في تمسّك العقلاء بمثل هذه العمومات التي هي في معرض التخصيص ، كفى الشكُّ في عدم الجواز.

ثم ذكر الإجماع على عدم جواز التمسّك بالعام من باب التأييد ، من جهة أنه يوجب الشكّ في قيام السّيرة العقلائية على الأخذ به قبل الفحص ، لأنّ الفقهاء والأصوليين هم القدر المتيقّن من العقلاء ، فسواء كان مستند الإجماع هو العلم الإجمالي كما تقدم في الوجه السابق أو كون العمومات في معرض التخصيص كما في هذا الوجه ، فإنّه يُوجد الشك في السّيرة ، وهو كاف لعدم جواز التمسّك في هذه الحالة.

وبما ذكرنا يظهر : ما في إيراد السيّد الحكيم من دعوى قيام السيرة مع الظنّ بالتخصيص على الأخذ بالعام ... وكأن منشأ السهو في كلامه هو الخلط بين المقام ومسألة حجية الظواهر ، حيث يبحث هناك عن حجية الظواهر مع الظن بالخلاف ، وأنه هل الظن بالخلاف مانع عن الظهور وحجيته أو لا؟ وقد تقرر هناك أن حجيّة الظاهر غير مشروطة ، لا بكون الظن موافقاً ولا بعدم كونه مخالفاً ، لأنّ بناء العقلاء في مقام العبوديّة والمولويّة هو التنجيز والتعذير ، فيأخذون بالظاهر لكونه حجّةً ويؤاخذون به حتى مع الظن بالخلاف ... بخلاف مسألتنا هذه ، فإن العام الذي هو

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٢٩.

٣٢١

في معرض التخصيص لا يجوز الاحتجاج به عقلاءً ، وهذا مقصود المحقق الخراساني ، فلا يرد عليه الإشكال.

وبما ذكرنا يظهر أيضاً : ما في كلامه من أنّ عمل العقلاء مبني على أساس العلم الإجمالي وهو ملاك وجوب الفحص ... لأنّ ذلك يرجع إلى مرحلة المانع ، وكلام (الكفاية) في أصل المقتضي.

كما لا يرد عليه أن الإجماع المذكور يحتمل استناده إلى العلم الإجمالي. ففيه : ما أشرنا إليه من أنّ صاحب (الكفاية) يقصد بيان كيفية وقوع الشك في السيرة.

الوجه النقلي

قال المحقق العراقي (١) وتبعه السيد الخوئي (٢) بكفاية إطلاق أخبار وجوب التعلّم ، وأنه يقال للمكلّف يوم القيامة «أفلا تعلّمت» (٣) لعدم جواز التمسّك بالعام ووجوب الفحص عن المخصص ، فإنّ إطلاقها يعمُّ المورد.

أشكل الأُستاذ

بأنّ تلك الأخبار إنما يتمسّك بها في الشبهات الحكمية قبل الفحص ، لا لعدم حجيّة العام قبل الفحص ، والاستدلال بها لما نحن فيه مستلزم للدور. لأن الخطاب المذكور إنما يتوجّه إلى من لا حجّة لديه ، فموضوعه عدم الحجّة ، فكيف يكون حجّةً على وجوب الفحص عن المخصص وعدم حجية العام قبله؟

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى.

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٣٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٣٦٠ ، محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٤٢٧.

(٣) بحار الأنوار ١ / ١٧٨.

٣٢٢

الثانية (في أثر الفحص في الموارد المختلفة والفرق بينها)

تارةً : الموضوع غير مشكوك فيه ، وإنما الفحص يكون عمّا ينافي المحمول له ، كأنْ يكون خبر الثقة حجة ، ثم يفحص عمّا إذا كان له معارض ، فهذا فحصٌ في موارد التعارض. واخرى : لا يتحقق الموضوع إلاّ بعد الفحص ، وهذا في الاصول العقلية ، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ الموضوع فيها ـ وهو عدم البيان ـ لا يتحقق إلاّ بالفحص.

وقد وقع الكلام بينهم في أثر الفحص في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد ، والفرق بينهما وبين موارد الاصول العملية الشّرعية. فقد قال في (الكفاية) : بأنْ الفحص عن المخصص ـ مثلاً ـ فحصٌ عن مزاحم الحجّة وهو العام ، أمّا في الاصول الشرعيّة ، فهو فحص عن أصل الحجيّة ، لأنّ دليل الاستصحاب مثل «لا تنقض اليقين بالشك» (١) ودليل البراءة مثل «رفع ما لا يعلمون» (٢) مطلق ، يعمّ حالي قبل الفحص وبعده ؛ لكنّ الإطلاق فيهما مقيّد بالإجماع بما بعد الفحص ، فكان الموضوع غير محقَّق قبله ، فيكون الفحص عن أصل الحجّة. ثم أمر بالفهم.

ولعلّه إشارة إلى أنْ الإجماع المذكور مدركي ، والمدرك إمّا العلم الإجمالي الذي ذكره الشيخ أو الروايات مثل «هلاّ تعلَّمت».

تحقيق الأُستاذ

إنّ حجيّة كلّ خبرٍ ـ كما هو معلومٌ ـ متوقفة على تمامية ثلاث جهات هي جهة السند والدلالة والصدور. ولا بدّ للتمامية من الفحص وإلاّ فلا حجيّة ...

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ / ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، رقم : ١.

٣٢٣

والفحص فيها راجع إلى أصل الاقتضاء للحجيّة ، وبعد الفراغ عن ذلك تصل النوبة إلى البحث عن المزاحم.

وأمّا في الاصول العمليّة الشرعيّة ، فإنّ مبنى ما ذكره صاحب (الكفاية) هو إطلاق دليل الأصل الذي قال بتقيّده بالإجماع ، إلاّ أنه قد تقدّم أنّ المستند لحجيّة العامّ هو بناء العقلاء ، وبناؤهم على حجّيته محدودٌ ـ من أوّل الأمر ـ بما بعد الفحص عن المخصّص ، فيرجع الأمر إلى أصل الحجيّة ، ولا يبقى فرق بين مورد العمومات والأصول.

نعم ، لو كان المستند لحجيّة العام هو العلم الإجمالي ، فالحجيّة تامة والعلم الإجمالي مزاحم لها ، إلاّ أنه ذهب إلى ما ذكرناه من أن المستند هو بناء العقلاء ....

والحاصل : عدم تماميّة تفريقه بين العمومات والأصول.

(قال) : والتحقيق هو منع الإطلاق في أدلّة الاصول الشرعيّة ، من جهة مسلك الشارع بالنظر إلى الآيات مثل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعْلَمُونَ) (١) والأحاديث مثل «طلب العلم فريضة» (٢) فمسلكه طلب العلم والخروج عن الجهل ، فلو كان دليل الأصل ـ مثل «رفع ما لا يعلمون» ـ مطلقاً ، لزم أن يكون الشارع مشجّعاً على الجهل. فبهذه القرينة نرفع اليد عن الإطلاق في أدلّة الاصول الشرعيّة.

أمّا في العمومات ، فإنّ الأصل الأوّلي هو التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات وكون الإرادة الجدّية على طبق الإرادة الاستعمالية ، ومقتضى ذلك هو اقتضاء الحجيّة في العمومات ، لكنّ هذا الاقتضاء ليس على إطلاقه ، بل السيرة

__________________

(١) سورة الزمر : الآية ٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ / ٢٥ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، رقم : ١٥.

٣٢٤

العقلائية في حجيّة العام قائمةٌ على تماميّة العموم بعد الفحص ، فلذا يكون الفحص فحصاً عن المزاحم.

وعلى الجملة ، فإنّه بعد تماميّة جهات الحجيّة في العام صدوراً ودلالةً وجهةً ، يكون المخصّص المنفصل مزاحماً للحجيّة ، والفحص عنه فحصٌ عن المزاحم ، لأنّ السّيرة العقلائيّة التي تستند إليها حجيّة العام إنّما هي بعد الفحص عن المخصص ....

فالأُستاذ موافق للكفاية في المدّعى وما ذكرناه هو الوجه الصحيح عنده للفرق بين العمومات ـ والإطلاقات ـ وبين الاصول العملية الشرعيّة.

الثالثة (في مقدار الفحص)

وهنا وجوه : لزوم الفحص حتى العلم بعدم المخصص. أو لزوم الفحص حتى الاطمينان بعدمه. أو كفاية حصول الظنّ بعدمه.

أمّا الأوّل ، فغير ممكن ، لبقاء الاحتمال العقلي حتى بعد الفحص التام.

وأمّا الثالث ، فمردود بعمومات النهي عن اتّباع الظن.

فيتعيّن الثاني ، بدليل السيرة العقلائية ...

وهذا هو الصحيح كبرويّاً.

إنما الكلام في الصغرى ، فإنّ الاطمئنان بعدم المخصّص مع ضياع كثيرٍ من الكتب والروايات كيف يحصل؟

٣٢٥

هل تعمُّ الخطابات غير المشافهين؟

كلام الكفاية

ذكر المحقق الخراساني أنه تارةً : يبحث عن أصل تكليف الغائب والمعدوم ، واخرى : عن المخاطبة معهما ، وثالثة : عن عموم أدوات الخطاب لهما.

والبحث من الجهتين الاولى والثانية عقلي ، ومن الجهة الثالثة لغوي.

أمّا في الجهة الاولى

فإنْ كان التكليف مقيّداً بالوجود ، فهذا خارج عن البحث ، لأن توجيه التكليف إلى الموجودين ـ سواء كان بعثاً أو زجراً ـ لا مانع عنه ولا إشكال فيه ، إنّما الكلام في التكليف المطلق.

وفي التكليف المطلق تارةً : يكون الطلب إنشائياً ، وهذا أيضاً لا مانع عنه ، إذْ لا إشكال في صحّة تكليف المعدوم بالطلب الإنشائي ، لكون الإنشاء خفيف المئونة وليس مقيّداً بالوجود ، وفائدة مثل هذا الطلب هو فعليّته في ظرفه ، فلا يكون محتاجاً حينذاك إلى إنشاءٍ جديد ، كإنشاء الوقف بالنسبة إلى البطون الآتية ، لأنّه يعتبر الملكيّة للبطون ، والملكية الاعتبارية تشمل المعدوم كشمولها للموجود ، فالبطن اللاّحق ـ المعدوم فعلاً ـ يتلقّى الملك من الموجود قبله ولا إشكال فيه. فظهر إمكان مثل هذا الطلب وأنّ له فائدة الاستغناء عن الإنشاء عند وجود المعدوم. واخرى : هو البعث والزجر ، والمعدوم غير قابل للانزجار والانبعاث.

٣٢٦

وأمّا في الجهة الثانية

فإنّ الخطاب على قسمين ، فإنْ كان حقيقيّاً ، فإنّ خطاب المعدوم على نحو الحقيقة غير معقول ، إذ يحتاج إلى المخاطب الحاضر الملتفت. وإنْ كان خطاباً إيقاعيّاً فهذا ممكن بالنسبة إلى المعدوم ، لأنه مجرّد الإنشاء وليس شيء آخر وراءه ، ولذا قد يخاطب الجمادات بشيء كما لا يخفى.

وأمّا في الجهة الثالثة

فالمهمُّ هو التحقيق عن وضع أدوات الخطاب ، لأنّها إنْ كانت موضوعةً للخطاب الحقيقي ، كانت الخطابات الشرعية مختصّةً بالحاضرين ، فلا تشمل الغائبين فضلاً عن المعدومين ، وإن كانت موضوعةً للخطاب الإنشائي شملت المعدومين والغائبين كالحاضرين المشافهين.

وقد ذهب صاحب (الكفاية) (١) في هذه الجهة إلى أنّ الموضوع له الأدوات هو الخطاب الإنشائي ، فتعمّ الغائب والمعدوم ، بدليل استعمالها في خطاب المعدوم بل غير العاقل بلا أيّة عنايةٍ ، (قال) : ولا يتوهّم وجود العناية ، لأنّه لو كان هناك علاقة وعناية لعلم بها المتكلّم ، لأن الخطاب فعلٌ من أفعاله ولا يعقل عدم التفاته إلى العناية ، فهو يخاطب الدار والجدار والكواكب والأشجار مثلاً بنفس كلمة «يا» التي يستعملها مع ذوي العقول ... فهذا برهان على عموم الوضع ... نعم ، المنصرف إليه هذه الأدوات مع عدم القرينة هو الخطاب الحقيقي ... وعلى الجملة ، فإنّ جميع الخطابات الموجودة في الكتاب والسنّة محمولة على الخطاب الإيقاعي الإنشائي ، لوجود القرائن ، فهي عامّة للحاضرين والغائبين والمعدومين.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٣٢٧

إشكال العراقي وجوابه

وبما ذكرنا ظهر الجواب عمّا أشكل به المحقق العراقي (١) من أنّ الانصراف الذي ذكره صاحب (الكفاية) في الجهة الثالثة يزاحم ظهور الأدوات في الخطاب الإنشائي ، فلا تحصل النتيجة المقصودة من البحث وهو عموم خطاب الكتاب والسنّة.

وذلك لأن صاحب (الكفاية) أفاد بوجود قرائن مع خطابات الكتاب والسنّة توجب اليقين بعدم اختصاصها بالحاضرين ، فلا مزاحم للظهور ، وإنّما يكون الانصراف إلى الخطاب الحقيقي حيث لا قرينة قطعيّة.

إشكال البروجردي وجوابه

وأشكل السيد البروجردي (٢) على الجهة الثانية بعدم إمكان توجّه الطلب إلى المعدوم ، لأنه في ظرف العدم «لا شيء» وتعلّق الطلب ب «لا شيء» غير معقول ... ففي ظرف خطاب «يا أيها الناس» لا يوجد «ناسٌ» حتى يعمّهم. فالصحيح هو أنْ متعلّق الطلب دائماً يكون مفروض الوجود ، وأنّ الخطابات الشرعية كلّها بنحو القضيّة الحقيقية.

وقد أجاب شيخنا عن الإشكال بالنقض بمثل الإجارة ، حيث أنّ المنفعة في حين الإجارة معدومة ، فلا يملكها المستأجر ، وفي ظرف وجودها تكون متصرّمة الوجود ، فلا تصلح للإجارة ، فلا بدّ من القول ببطلان كتاب الإجارة.

فإن قيل : الإجارة تسليط المستأجر على العين لاستيفاء المنافع ، فلا نقض.

قلنا : فما تقولون في تمليك الانتفاع في كتاب العارية؟ على أنّه في الإجارة

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٣٣.

(٢) نهاية الاصول : ٣١٥.

٣٢٨

تدخل المنافع تحت الملك ، ويشهد بذلك قاعدة الضمان ، إذ اليد على العين يدٌ على منافعها ، وأنتم تقولون بأن المنافع المعدومة لا تقبل الملكيّة.

وأمّا حلاًّ ، فصحيح أنّ المعدوم في حال العدم «لا شيء» إلاّ أن «لا شيء» يقبل الاعتبار إذا كان له مصحّحٌ يخرجه عن اللّغوية ، ولا يلزم وجود العنوان في القضايا الاعتباريّة ، ويشهد بذلك تعلّق الاعتبار حتى بالمحالات ، كاعتبار الجمع بين النقيضين ، وهذا مراد صاحب (الكفاية) من قوله : إن الاعتبار خفيف المئونة ....

وفيما نحن فيه : المصحّح للاعتبار هو القابليّة للوجود ، ليكون مصداقاً لعنوان «الناس» أو «المؤمنون» ونحو ذلك ، وفائدة ذلك عدم الحاجة إلى الإنشاء الجديد لمّا يوجد فيما بعد ، كما ذكرنا سابقاً.

إشكال الأصفهاني وجوابه

وأشكل المحقق الأصفهاني (١) على ما ذكره صاحب (الكفاية) في الجهة الاولى ـ من استحالة التكليف بمعنى البعث الفعلي بالنسبة إلى المعدوم ، وأمّا الطلب الإنشائي منه فمعقول ـ بأنّه يناقض ما ذهب إليه من إمكان الواجب المعلّق ، حيث أنّ الإرادة والطلب والبعث فعلي ، والمراد والمطلوب المبعوث إليه استقبالي ومعدوم ، فإذا كان تكليف المعدوم ـ والمراد منه العمل ـ محالاً ، فكذلك يكون البعث نحو العمل المعدوم محالاً ولا يعقل الواجب المعلَّق ، وإنْ جاز تعلّق البعث بالفعل المراد المعدوم فعلاً ، فليجز تعلّقه بالمكلّف المعدوم فعلاً كذلك ، لعدم الفرق ....

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٧٠.

٣٢٩

والجواب

فأجاب الأُستاذ : بأنْ مقتضى الدقّة في كلام (الكفاية) في بحث الواجب المعلّق هو ورود الإشكال عليه بالنظر إلى احدى بياناته فقط ، وذلك أنّه قد قرَّب قوله بإمكان الواجب المعلَّق تارةً : بأنّ الإرادة محقّقةٌ الآن والمراد معدوم ، وأثر هذه الإرادة هو الانبعاث نحو مقدّمات المراد. فعلى هذا البيان لا يرد الإشكال ، لخروج هذه الإرادة عن اللّغويّة بتأثيرها بالنسبة إلى مقدّمات متعلّق الإرادة. واخرى : إنّ البعث دائماً مقدَّم على الانبعاث ، فلو لا وجود البعث حتى يتصوَّره المكلّف ويصدّق به ، لا يتحقق الانبعاث منه ، وإذا ثبت هذا التقدّم ، فإنّه لا يفرَّق في القضيّة العقلية بين قصر الزمان وطوله للبعث والانبعاث ، وهذا المعنى إنّما يصدق في المراد المعدوم كالحج ، دون المراد منه المعدوم وهو المكلّف. فظهر الفرق بين ما نحن فيه ومسألة الواجب المعلّق.

فعلى هذين البيانين لا مجال للإشكال المزبور.

نعم ، يرد بالنظر إلى ظاهر بيانٍ ثالث له وهو : إنّ المراد من الإرادة هو الشوق البالغ حدّ النصاب وإنْ لم تكن هناك محركيّة للعبد ، فلا تكون المحركيّة الفعلية معتبرة. فيرد عليه النقض من الأصفهاني : بأنّ هذه المرتبة من الشوق كما يمكن تعلّقها بالموجود الاستقبالي في الواجب المعلَّق ، كذلك يمكن تعلّقها بالمكلّف الذي يوجد في المستقبل. فكما يتعلّق بالمراد المعدوم كذلك يتعلّق بالمراد منه المعدوم.

ومع ذلك يمكن دفع الإشكال : بأنّ البعث عند صاحب (الكفاية) إنما هو لإحداث الداعي للامتثال ، وإحداث الدّاعي بالنسبة إلى فعلٍ معدوم فعلاً معقول ، بخلاف إحداثه في نفس الشخص المعدوم فعلاً.

٣٣٠

وتلخّص : تماميّة الوجه المذكور في (الكفاية) لشمول الخطابات لغير المشافهين.

وجوه اخرى

وقد تذكر للتعميم وجوه اخرى :

منها : التمسّك بقاعدة الاشتراك ، فإنه حتّى لو كانت أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي ، فإنّ مقتضى هذه القاعدة هو اشتراك المعدومين مع المشافهين في الخطابات.

لكن فيه : إنّ هذه القاعدة إنما تفيد لإلغاء الخصوصيّات الذاتيّة ، كاحتمال دخل خصوصيّة زيد أو عمرو في الحكم ، أمّا احتمال دخل خصوصيّة كون المكلَّف حاضراً فلا يندفع بها.

اللهم إلاّ أن يتمسّك بالقرائن الموجودة في نفس الخطابات ، ففي الكتاب المجيد قد توجّه الخطاب إلى «الناس» وهو في مقام التشريع والتقنين ، ففي مثل ذلك يتلقّى المستمع الخطابَ من باب كونه بعض المصاديق لهذا العنوان ، فهو بمقتضى ارتكازه يلغي خصوصية الحضور ، وفي مثل ذلك ـ حيث يُقدم العقلاء على إلغاء الخصوصية ـ لو كان للحضور دخل لكان على المولى البيان الزائد ، وإلاّ يلزم نقض الغرض.

وأمّا النقض بصلاة العيدين والجمعة ونحو ذلك ، ففيه : أنّ هناك قرائن وجهات زائدة توجب احتمال مدخلية الحضور ، ففي الجمعة ـ مثلاً ـ نصوص تدلُّ على أنها لا تنعقد إلاّ بالإمام فاشترطت حضوره ... وهكذا في صلاة العيد وإجراء الحدّ ... فلا يرد النقض.

٣٣١

ومنها : ما ذكره المحقق العراقي (١) من التمسّك بعموم العنوان مثل «المؤمن» في (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا) (٢) وبذلك يثبت إطلاق الحكم.

تفصيل الميرزا

وفصّل الميرزا بين القضية الخارجيّة والحقيقية (٣). أمّا في الاولى فقال : بأنّ مقتضى ظهور الخطاب هو التخصيص بالمشافهين ، لأنّ الموضوع فيها محقَّق الوجود في أحد الأزمنة الثلاثة ، وهذا قوام القضية الخارجية ـ لا فرض كونه موجوداً ـ فيكون الخطاب ظاهراً في الحقيقيّة ويحتاج إلى المخاطب الحاضر الموجود. وأمّا الثانية : فإنّها متقوّمة بفرض وجود الموضوع ، وعليه ، فإنّ ملاك الخطاب الإنشائي ـ وهو كون المخاطب مفروض الوجود ـ موجود في هذا القسم من القضايا ويعمُّ الحاضرين والغائبين والمعدومين.

إشكال المحقق الأصفهاني وجوابه

وأشكل عليه المحقق الأصفهاني (٤) ـ وتبعه السيد الخوئي ـ بأن ما هو المقوّم للقضية الحقيقية هو فرض الوجود لا فرض الحضور ، والمقوّم للخطاب فرض الوجود والحضور كليهما ، فلو فقد أحدهما لم يصح الخطاب ، فإن كان موجوداً وحاضراً فالخطاب حقيقي ، وإنْ كان مفروض الوجود والحضور ، فالخطاب إنشائي.

قال الأُستاذ

يمكن تقريب كلام الميرزا بحيث يندفع الإشكال بأنْ يقال : إن محلّ النزاع

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٣٥.

(٢) سورة المائدة : الآية ٦.

(٣) أجود التقريرات ٢ / ٣٦٧.

(٤) نهاية الدراية ٤ / ٤٧٢.

٣٣٢

عبارة عن أنَّ الخطابات الشرعية تخصُّ المشافهين أو تعمّهم والمعدومين ، فإن كانت القضية خارجيّة ، فإنّ المقتضي للاختصاص بالمشافهين موجود ولا مانع عنه ، لأنّ ظهور الخطاب هو للمخاطب الموجود الحاضر ، وبهذا اللحاظ يكون الخطاب حقيقيّاً ، إذ لا فرض وجودٍ في القضية الخارجيّة حتى يزاحم اقتضاء الخطاب ....

أمّا إن كانت القضية حقيقيّةً ، فالأمر بالعكس ، بمعنى أن المقتضي للتعميم موجود ولا مانع ، لأنّ أدوات الخطاب ترد في هذه القضيّة بلا عنايةٍ ، وبذلك يتمُّ المقتضي للعموم ، وهو كون المخاطب مفروض الوجود ، وهذا قوام القضيّة الحقيقيّة ، ثمّ إنه لا يوجد مانع عن هذا المقتضي ، لأنّه لو كانت الأدوات مخرجةً للموضوع عن فرض الوجود إلى الوجود الحقيقي ، لانقلبت القضيّة الحقيقيّة خارجيةً وهو خلف ، فكان فرض الوجود للموضوع ـ وهو المقوّم للقضيّة ـ كافياً للتعميم.

وبعبارة اخرى : إنّ فرض الوجود مستلزمٌ لكون الموضوع أعمّ من المعدوم ، لأن فرض الوجود في الموجود لغو ، وإذا كان أعمّ ، زال اقتضاء الأداة للخطاب الحقيقي لابتلائه بمانعٍ هو ذاتيٌ للقضية الحقيقية ، ومع انعدام اقتضاء الخطاب كذلك ، يكون المستعمل فيه الأداة غير الخطاب الحقيقي ، وهو الخطاب الإنشائي الذي يشمل بذاته المعدوم كشموله للموجود ، من غير حاجةٍ لتنزيل المعدوم بمنزلة الموجود.

فالحق : ما ذهب إليه صاحب (الكفاية) بضميمة بيان الميرزا بالتقريب الذي ذكرناه.

٣٣٣

ثمرة البحث

قالوا : وتظهر ثمرة هذا البحث في حجيّة الخطاب ، وفي انعقاد الإطلاق ، فتعرضوا لثمرتين :

الثمرة الاولى

إنّه بناءً على عموم الخطابات للمشافهين والغائبين والمعدومين ، فلا ريب في حجيّتها للجميع ، حتّى لو احتملنا وجود قرينةٍ على الخلاف دفعناه بالظهور أو الأصل ، لكون الخطاب عامّاً ، والمفروض كون المقصود بالتفهيم أعم. وأمّا بناءً على كونها مختصّةً بالمشافهين ، فكيف تكون حجةً بالنّسبة إلى غيرهم؟ وهذه هي الثمرة.

لكنّ القول باختصاص الخطابات بالمشافهين موقوف على أمرين : أحدهما : أنْ تكون حجيّة الكلام مختصّةً بهم ، والآخر : أن يكونوا هم المقصودين بالتفهيم دون غيرهم ، فإنْ ثبت هذان الأمران ترتبت الثمرة على البحث ، لكن ثبوتهما أوّل الكلام.

أمّا بالنسبة إلى الأمر الأوّل ، فلقد تقدّم أنّ أساس حجيّة الظهورات هو السيرة العقلائية ، ولا شك في أنّها قائمة على عدم اختصاص الحجيّة بالحاضرين ، ولذا يأخذون بالأقارير والوصايا حتّى لو مرّت عليها السّنون الطوال.

وأمّا بالنسبة إلى الأمر الثاني ، فعلى فرض تماميّة الأمر الأوّل ، فإنّه لا كلام في أنّ خطابات الكتاب والسنّة عامّة للمشافهين وغيرهم ، وأنّ الكلّ مقصودون بالتفهيم ....

وتلخّص : إن هذه الثمرة منتفية ، فسواء قلنا باختصاص الخطابات أو عمومها ، فإنْ خطابات الكتاب والسنّة تعمُّ المشافهين والغائبين والمعدومين ، وحجيّتها بالنسبة إلى الجميع على السواء.

٣٣٤

الثمرة الثانية

إنه بناءً على عموم الخطابات ، يسقط احتمال دخل خصوصيّة الحضور ، لأنّ المفروض كون الخطاب عامّاً ، وأنّه لا يوجد في الكلام قيدٌ دالّ على اعتبار الحضور ، فيؤخذ بإطلاق الخطاب. وأمّا بناءً على القول بالاختصاص بالمشافهين ، فإنّ دفع الاحتمال المذكور يحتاج إلى دليلٍ ، ففي وجوب صلاة الجمعة بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١) على غير الحاضرين ، لا بدّ من التمسّك بمثل قاعدة الاشتراك ليعمّ الخطاب غير المشافهين ، لكنّ القاعدة هنا غير جارية ، لأنه دليلها هو الإجماع ، وهو دليل لبّي والقدر المتيقن منه الحجة وهو الخصوصيات الصنفيّة ، فالصّلاة الرباعية مشتركة لكنْ في صنف الحاضرين ، والثنائية مشتركة لكنْ للمسافرين لا الأعم منهم والحاضرين ، فلو اريد تعميم الخطاب بقاعدة الاشتراك اعتبر إحراز الاتّحاد في الصنف مع الحاضرين ، وهذا أوّل الكلام ... وعليه ، فإنّ المرجع في شمول الأحكام لغير المشافهين بناءً على القول بالاختصاص ، بعد عدم تمامية قاعدة الاشتراك ، هو الأصل. وهذه هي الثمرة.

وقد وافق الأُستاذ السيَّد الخوئي في ثبوت هذه الثمرة ، خلافاً لصاحب (الكفاية) وذلك : لأنّ الخصوصيّة المحتمل دخلها في الحكم تارةً ذاتيّة واخرى عرضية ، فلو كان المشافَهون للخطاب متّصفين بالعدالة ونحوها من الصفات العرضيّة المفارقة ، أمكن التمسّك بإطلاق الخطاب لإلغاء الخصوصيّة فيعمُّ غيرهم ، لأنّ العدالة من الأوصاف القابلة للزوال ، فلو توجّه الخطاب للمشافهين وهم عدول ولم يقيَّد بالعدالة أمكن التمسّك بإطلاقه ، لأنّ المفروض إطلاقه وعدم

__________________

(١) سورة الجمعة : الآية ٩.

٣٣٥

تقيّده بالعدالة ، وأنَّ العدالة من الأوصاف المفارقة ، فلو أراد المتكلّم الملتفت هذه الخصوصية لقيَّد خطابه بها وإلاّ لزم نقض الغرض ، وحينئذٍ تتحكّم قاعدة الاشتراك. وأمّا إن كانت الخصوصية الموجودة في المشافهين ذاتيّة ككونهم هاشميين ، فخاطبهم المولى بخطابٍ ونحن نحتمل دخل هذه الخصوصية في غرضه ، فإنّه وإنْ لم يقيِّد الخطاب لكن لا يمكن التمسّك بإطلاقه ، لكون الخصوصية غير مفارقة ، وعدم تقييده الخطاب بها لا يستلزم نقض الغرض.

ومن الواضح أنّ خصوصية «الحضور» من قبيل الخصوصيات المفارقة والقابلة للزوال ، فلو أراد المولى هذه الخصوصيّة كان عليه تقييد خطابه بها ، وإذْ لم يقيّد أمكن التمسّك بإطلاقه ، وإلاّ لزم نقض الغرض.

فالثمرة مترتبة. لأنه بناءً على القول بالعموم جاز التمسّك بالإطلاق ، أمّا بناءً على القول بالاختصاص بالمشافهين ، توقّف العموم لغيرهم على تمامية قاعدة الاشتراك ، وهي إنما تتمُّ في الأوصاف المفارقة ، أمّا في الأوصاف اللاّزمة فلا ، وهذه هي مورد ظهور ثمرة البحث.

أقول

ولا يخفى أنّ تماميّة الإطلاق موقوفة على عدم لزوم نقض الغرض ، بأن يكون ذلك من مقدّمات الحكمة ، وهذا ما يلزم إثباته في محلّه.

٣٣٦

تعقّب العام بضمير

لو تعقّب العامّ ضمير يرجع إلى بعض أفراده ، فهل يبقى العام على عمومه ويتصرَّف في الضمير ويلتزم فيه بالاستخدام ، أو يتصرّف في العام ويلتزم بتخصيصه ، أو يقال ببقاء العام على عمومه تحفّظاً على أصالة العموم ، وأنّ الأصل في الضمير عدم الاستخدام ، ويتعارض الأصلان ويتساقطان ويرجع إلى الأصل العملي؟ وجوه أو أقوال.

المستفاد من كلام (الكفاية) في أوّل البحث هو القول الأوّل ، لكنْ في (المحاضرات) نسبة القول الثالث إلى صاحب (الكفاية).

والمختار عند الميرزا هو القول الأوّل.

واختار السيد الخوئي ـ في هامش الأجود و (المحاضرات) ـ الثاني.

والثالث هو المختار عند الأُستاذ.

وقد مثّلوا للبحث قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ في أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ اْلآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنّ) (١) حيث أنّ «المطلقات» أعمّ من الرجعيّة والبائنة ، وظاهر الآية عموم الحكم بالتربّص للقسمين ، والضمير في «بعولتهنّ» يعود بحسب أصالة عدم الاستخدام إلى «المطلّقات» ، فيكون المراد منه نفس المراد من مرجعه وهو العموم ، لكنّ الدليل الخارجي قائم على أنْ ليس للزوج حق الرجوع إلاّ في

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٢٨.

٣٣٧

المطلقة الرجعيّة ، فيدور الأمر في الآية بين أنْ نرفع اليد عن أصالة العموم ويكون المراد من «المطلقات» خصوص «الرجعيّات» ، أو عن أصالة عدم الاستخدام ، فيكون الضمير راجعاً إلى بعض المطلقات وهي الرجعيّات خاصة. أو لا هذا ولا ذاك ، بل يبقى الأصلان على حالهما فيتعارضان ويتساقطان والمرجع هو الأصل العملي؟

دليل القول الأول

هو أنّه لا مقتضي للتعارض في المقام بين أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام ، لتماميّة أركان أصالة العموم ، فالمقتضي لجريان هذا الأصل موجود ، إذ اللّفظ ظاهر في العموم بلا كلام ، غير أنّ المشكوك فيه هو أنّ هذا الظهور الاستعمالي هو المراد الجدّي أو لا؟ ومقتضى القاعدة هو التطابق بين الإرادتين ... إنّما الكلام في وجود المانع عن هذا الاقتضاء ، ومع العلم بأنّ حق الرجوع إنما هو في الرجعيّة دون البائن ، يسقط أصالة عدم الاستخدام ويتعيَّن إرجاع الضمير إلى بعض «المطلَّقات».

وعلى الجملة ، فإنّ موضوع أصالة العموم تام في المقام ، أمّا أصالة عدم الاستخدام فلا موضوع لها.

لا يقال (١) : إن أصل عدم الاستخدام يجري بلحاظٍ آخر ، أعني لحاظ اللاّزم ، وهو أن نثبت به عدم وقوع التخصيص في العام ، فيجري الأصلان كلاهما ، كما لو خرج الثوب مثلاً عن طرف الابتلاء ، فإن أصالة الطهارة غير جارية فيه ، لكن تجري فيه بلحاظ الملاقي له الذي هو مورد للإبتلاء حتى يترتب الأثر في الملاقي.

__________________

(١) هذا الإشكال طرحه الميرزا وأجاب عنه.

٣٣٨

لأنّا نقول : هذا صحيح في الاصول الشرعيّة ، فنجاسة الملاقي من آثار الثوب شرعاً وإنْ خرج عن محلّ الابتلاء ، لكنْ لمّا كان مثبتات الاصول اللّفظية حجة ، فلا حاجة إلى ترتيب الأثر من ناحية الشارع ، لأنه بمجرّد جريان الأصل اللّفظي ـ لوجود المقتضي لجريانه ـ يترتّب الأثر.

وأشكل السيد البروجردي (١) : بأنه لا يوجد هنا احتمال التعارض بين الأصلين ، لأن المشكوك فيه هو كيفية استعمال الضمير ، وهو مسبّب عن الشك في أصالة العموم ، فإذا جرى في طرف المسبب ، لم يبق موضوع للأصل السببي ، فلا مجال لتوهم التعارض.

أجاب الأُستاذ : بأن المورد ليس من قبيل الشك السببي والمسببي ، فإنّ أحد الشكّين هو في كيفية استعمال الضمير والآخر في ناحية العام ، والمنشأ لكليهما هو العلم بإرادة خصوص الرجعيّات من «المطلقات» ، فليس الشك في الضمير مسبّباً عن الشك في العام حتى تجري قاعدة الشك السببي والمسببي.

هذا ، وقد قرّب السيد القول الأول ببيانٍ آخر (٢) هو : إنّ العام قد استعمل في العموم وأصالة العموم فيه محكّمة ، وكذا الضمير ، فإنّه يرجع إلى العام بلا كلام ، إلاّ أنّ المشكلة في المراد الجدّي وتطابقه مع الاستعمالي ، أمّا في الضمير ، فلا ريب في عدم التطابق ، لعلمنا بعدم إرادة جميع المطلقات ، بخلاف العام فإنّه لا وجه للشك في التطابق فيه ، فتجري أصالة العموم فيه ، ولا تجري أصالة عدم الاستخدام في الضمير ، ولا تعارض.

وفيه : إنّ أساس هذا التقريب هو دعوى تماميّة المقتضي لأصالة العموم ،

__________________

(١) نهاية الاصول : ٣٢٣.

(٢) نهاية الاصول : ٣٢٣.

٣٣٩

وهي أوّل الكلام ، لوجود الضمير المقطوع بالمراد منه ، فإنه بظهوره السياقي يحتمل المانعيّة عن انعقاد الظهور للعامّ في العموم ، فتقوى المعارضة بين الأصلين.

دليل القول الثاني

وذهب السيد الخوئي (١) إلى جريان أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم ، وملخّص كلامه هو : أنا لا نجري أصالة عدم الاستخدام من جهة الشكّ في المراد من الضمير ، حتى يقال بأنه لا شك في المراد منه فلا موضوع للأصل ، بل نجريه من حيث أنّ للكلام ظهورين لا يمكن التحفّظ على كليهما ولا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، وذلك لأن «المطلقات» ظاهر في العموم ، وأنّ الظاهر هو الاتّحاد بين الضمير في «بعولتهن» ومرجعه وهو «المطلقات» ، لكنّ أصالة عدم الاستخدام محفوفة بقرينةٍ تقتضي تقدّمها على أصالة العموم ، وتلك القرينة هي الارتكاز العرفي في أمثال المقام ، فإنهم يقدّمون أصالة عدم الاستخدام ويرفعون اليد عن أصالة العموم ، بل الأمر كذلك بنظرهم حتى فيما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ورفعها عن ظهور اللّفظ في كون المراد منه هو المعنى الحقيقي ، فيرفع اليد عن المعنى الحقيقي ويحمل اللّفظ على معناه المجازي كما في مثل : رأيت أسداً وضربته ، فإنه يتعين حمله على إرادة المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع إذا علم أنه المراد بالضمير الراجع إليه.

إشكال الأُستاذ

فقال الأُستاذ : صحيحٌ أنّ الموضوع لكلٍّ من أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام متحقّق يقتضي جريانه في المقام ، إلاّ أن كلاًّ من الأصلين المذكورين

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٤٤٦.

٣٤٠