تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

وعلى الجملة : فإنّ أساس مبنى تأخّر عدم العرض رتبةً عن وجود المعروض هو : إن وجود العرض وعدمه في مرتبةٍ واحدة ، ووجود المعروض كالعلّة بالنسبة إلى وجود العرض لتخلّل الفاء بينهما ، فيلزم أن يكون وجود العرض وعدمه متأخراً عن وجود المعروض ، ولكنّ هذا كلّه لا يمنع من التقدّم زماناً ، فإنّ ظرف عدم النار هو نفس ظرف عدم الحرارة أيضاً ، مع أن بين النار والحرارة اختلافاً في المرتبة ، للعلّية والمعلوليّة كما هو واضح.

وعليه ، فإنّ عدم القرشية متقدّم زماناً على المرأة والقرشيّة ـ وإنْ كانت القرشية وعدمها في رتبةٍ متأخرة عن المرأة ـ فيستصحب ذاك العدم المتقدّم زماناً إلى الزمان المتأخّر عن وجودها ، وليس بالأصل المثبت.

وهذا هو الحقيق في الجواب على فرض تسليم المبنى.

الوجه الثالث :

إن استصحاب العدم الأزلي لا عرفيّة له ، وأدلّة الاستصحاب منصرفة عنه ، لأنّ المفروض تردّد المرأة الموجودة بين القرشية وعدمها ، فيستصحب حالتها السابقة لإفادة عدم القرشية. لكنّ هذه المرأة لا «هذيّة» لها قبل وجودها ، فكيف يجري في حالها استصحاب العدم؟ قاله جماعة منهم السيد البروجردي (١).

تحقيق المطلب :

إنّ الانصراف لا بدّ له من منشأ ، والمنشأ إمّا ندرة وجود بعض حصص الماهية ، كأنْ يقال بانصراف جئني بماءٍ عن ماء زمزم في مدينة قم ، وامّا كثرة استعمال اللفظ في احدى الحصص دون الاخرى ، وامّا التشكيك في صدق المفهوم عرفاً ، كانصراف الحيوان عن الإنسان ، فإن صدقه عليه خفي ، وكانصراف

__________________

(١) نهاية الاصول : ٣٠٢.

٣٠١

ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان.

والمرأة إنْ لم يكن لها قبل الوجود «هذيّة» فليس هناك قضية متيقّنة بل هي مشكوكة من أول الأمر ، وعليه ، فلا موضوع عقلاً للاستصحاب ، لا أنّ أدلّة الاستصحاب كصحيحة زرارة (١) منصرفة ، إذ الانصراف إنما يكون حيث يوجد الموضوع والصّدق العرفي.

وعليه ، فإنّ الاستدلال على بطلان الاستصحاب في هذا الوجه مختلف ، فتارةً الدليل على المنع هو الحكم العقلي من جهة عدم الموضوع. واخرى هو الانصراف من جهة عدم شمول أدلّة الاستصحاب لمثل المرأة هذه.

ولذا نقول : إنه إن كان وجه المنع هو : عدم الموضوع وانتفاء القضية المتيقّنة من جهة أنه لا ماهيّة للمرأة قبل وجودها ، لكون الماهيّة منتزعة من الوجود ، فلا هذيّة للمرأة المعيّنة قبل وجودها ، فكيف يجري الاستصحاب؟

فالجواب : إنا نريد بعد وجود المرأة إثبات المرأة بلا قرشية ، فنقول :

هذه المرأة المعيَّنة مسبوقة بالعدم ذاتاً وصفةً ، وقد انتقض ذاك العدم بالنسبة إلى نفس المرأة إذ وجدت ، فهل عدم قرشيّتها قد انتقض إلى القرشية أو لا؟ هذا مشكوك فيه ، ويستصحب اليقين السابق.

وإنْ كان وجه المنع هو : عدم العرفية لهذا الاستصحاب فتكون أدلّته منصرفة عنه.

فنقول : لا وجه لهذا الانصراف ، لأنّ المرجع في تطبيق مفاهيم الألفاظ هو حكم العقل ، وأمّا العرف فنرجع إليه في أصل المفهوم ، فلما قال الشارع : لا تنقض اليقين بالشك ، احتجنا إلى قضيةٍ متيقنة سابقة وقضية مشكوكة لاحقة ، مع اتّحاد

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : ١.

٣٠٢

الموضوع في القضيّتين ، والفقيه يطبّق النصّ على مورده حسب الأدلّة العقلية ، وهو لا يتوقّف في التمسّك بهذا النص في مورد العدم الأزلي ، فليس المرجع فيه هو العرف حتى يقال بعدم عرفيّة هذا الاستصحاب.

على أنه قد تقرّر في محلّه : أن المنشأ للانصراف هو التشكيك في الصّدق ، وهذا الملاك بالنسبة إلى العدم الأزلي غير موجود ، فلو كان تشكيك في الصدق لزم عدم القول بالاستصحاب في الأحكام الشرعية ، والحال أن المشهور يتمسّكون عند الشك في الحكم باستصحاب عدم الجعل كما يتمسّكون بالبراءة ... وعلى أساس استصحاب العدم الأزلي ذهب بعضهم ـ كالسيد الخوئي ـ إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية إذ قال بأنّ عدم الجعل معارض باستصحاب بقاء المجعول ....

وتلخص اندفاع هذا الوجه حلاًّ ونقضاً.

الوجه الرابع :

إنّ العدم في الأزل غير العدم بعد الوجود ... ومن أجل هذه المغايرة يكون استصحاب العدم الأزلي من الأصل المثبت ... مثلاً : عدم البياض على الجدار الذي كان قبل وجود الجدار يغاير عدمه بعد وجود الجدار ... لأنّ العدم الأوّل كان مستنداً إلى عدم الموضوع ، وإذْ لا موضوع فلا عرض ، بخلاف العدم الثاني ، فإنّ الموضوع ـ وهو الجدار ـ موجود وليس بأبيض.

وبعبارة اخرى : لا يعقل بقاء المعلول مع تغيّر العلّة ، فإنْ علّة العدم قبل وجود الموضوع شيء ، وعلّته بعد وجود الموضوع شيء آخر ، وإذا تعدّدت العلّة وتغيّرت ، فالمعلول كذلك ، فكان المتيقّن السابق غير المشكوك فيه لاحقاً ... فلا يجري الاستصحاب ، وهذا التقريب أقوى من تقريب المثبتين.

٣٠٣

والجواب :

هو : أنّه لا معنى لأنْ يكون عدم العلّة علةً لعدم المعلول ، فلو قيل هكذا فهو مسامحة في التعبير ، بل الحقيقة : أن منشأ عدم المعلول هو عدم العلّة لوجوده ، فالشيء لا يوجد لعدم الموجد له لا لأنّ لعدمه علةً ، فإسناد العليّة إلى العدم مسامحة.

هذا حلّ المطلب وبه يندفع الإشكال.

ولو تنزّلنا وسلّمنا التغاير بين العدمين ـ السابق واللاحق لوجود الموضوع ـ فإنّ هذه المغايرة العقلية لا تضرّ بالتمسّك بأدلّة الاستصحاب ، لأن المرجع في وحدة الموضوع في القضيّتين في باب الاستصحاب هو نظر العرف لا الدقّة العقليّة ، والعرف لا يرى التغاير بين عدم البياض قبل وجود الجدار وبعد وجوده.

وعلى الجملة ، فقد علم ممّا تقدّم : أنّ استصحاب العدم الأزلي أساسه هو التركيب في الموضوع ، فهو ـ بعد التخصيص ـ المرأة بانضمام عدم القرشيّة ، والشرط بانضمام عدم المخالفة للكتاب والسنّة ، والعالم بانضمام عدم الفسق ... وهكذا ... وفي الزمان اللاّحق ، لمّا يشك في الموضوع بقاءً ، يكون أحد الجزءين ثابتاً بالوجدان وهو وجود المرأة ، أمّا الآخر فمشكوك في بقائه ، فيجري الاستصحاب فيه ... وسيأتي بقية الكلام في تطبيق البحث على مسألة الكرّ.

الوجه الخامس :

إنّ استصحاب العدم الأزلي في بعض الحالات مثبت كما تقدّم. وهو في بعض الحالات محال وإنْ لم يكن بأصل مثبت ... أمّا كونه أصلاً مثبتاً ، فحيث يؤخذ عدم القرشية في طرف الموضوع بنحو العدول في المحمول ، بأنْ يكون الموضوع «المرأة غير القرشية» ، أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول بأنْ يكون

٣٠٤

«المرأة التي ليس بقرشيّة». ففي هاتين الحالتين يكون الاستصحاب أصلاً مثبتاً ... كما تقدّم.

لكنّ هناك حالةً ثالثةً وهي : أنْ تكون القضيّة بعد إخراج القرشيّة بالتخصيص بنحو السّالبة المحصّلة بأنْ يقال : «المرأة إذا لم تكن بقرشية» ، فإنّ هذا الفرض محال ، لأنّ السّالبة المحصّلة وإنْ كانت صادقةً حتى مع عدم الموضوع فلا يكون أصلاً مثبتاً ، لكنّ لازم صدقها كذلك هو كون المعدوم محكوماً بحكمٍ وجودي ، وهذا محال ....

والحاصل : إنّ للقائلين بجريان استصحاب العدم الأزلي أن يأخذوا القضية بنحو السّالبة المحصّلة ، فراراً من الوقوع في الأصل المثبت ، لكنّهم يقعون في إشكالٍ آخر ، وهو لزوم الحكم على المعدوم بحكمٍ وجودي وهو محال ، لأنّ «المرأة إذا لم تكن بقرشيّةٍ» يجتمع مع وجود المرأة وعدم وجودها ـ فليس الأصل مثبتاً ـ لكنّ حمل «ترى الدم» على هذه المرأة ، معناه جواز حمل الحكم الوجودي على المرأة المعدومة وهذا محال.

والجواب

وقد أجاب الأُستاذ عن هذا الإشكال المتعلّق بعلم المعقول بالنقض والحلّ.

أمّا نقضاً ، فقد ذكر وجود قضايا شرعيّة وعقليّة بنحو السّلب المحصَّل والمحمول أمر وجودي ، ففي القرآن الكريم في حكم من لم يجد الهدي : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) (١) حيث أن الموضوع عدم وجدان الهدي بنحو السلب المحصّل والحكم (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أمر وجودي. وفي القضايا العقلية تقول :

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٩٦.

٣٠٥

إذا لم تكن الشمس طالعةً تكون تحت الافق ، فهذا سلب محصّل ـ مثل إذا لم تكن المرأة قرشية ـ وقد حمل عليه حكم وجودي وهو «تكون تحت الافق».

وأمّا حلاًّ ، فقد قسّموا القضيّة إلى المعدولة والمحصّلة ، والمحصّلة تأتي موجبةً وسالبةً ، وإنما سمّيت محصّلةً لأنّ الموضوع والمحمول فيها فعليّان محصَّلان ، إلاّ أنه قد ورد السَّلب في القضيّة على الربط (١). فإنْ كان العدم جزءاً للموضوع كقولهم «اللاّمتناهي معقول» أو للمحمول مثل «الحوادث غير متناهية» أو لكليهما مثل «غير المتناهي غير موهوم» سمّيت القضية معدولة ، فتارة معدولة الموضوع كالأول ، واخرى معدولة المحمول كالثاني ، وثالثة معدولة الطرفين كالثالث ، وهي قضايا موجبة قد حمل فيها شيء على شيء ، ولذا يعتبر فيها الثبوت إما ذهناً وإما خارجاً.

أمّا في السّالبة ، فليس المعتَبر هو السلب عن الموضوع الموجود أو المعدوم ، بل هو قابلية صدق القضية في مورد وجود الموضوع ومورد عدم وجوده ، فلذا قالوا بصدق القضية السّالبة المحصّلة مع وجوده ومع عدمه ، لا أنّه يعتبر في صدقها وجوده أو عدمه.

وعلى الجملة ، فإنّ تقيّد موضوع القضيّة المشتملة على حكم وجودي بعدم الوصف بنحو السّالبة المحصّلة ، لا ينافي وجود الموضوع ، ولا يلزم ثبوت ذلك الحكم في حال عدم الموضوع حتى يشكل بلزوم حمل الوجودي على العدمي ، لأنه لا مُلزم به ، بل ما قام عليه البرهان هو عدم اشتراط وجود الموضوع في السّالبة المحصّلة ، أمّا أن يكون لعدم الموضوع موضوعية في وجود الحكم ،

__________________

(١) قال الأُستاذ : هذا رأي الخواجة وغيره ، وعندنا أن السلب يرد على المحمول ولازم ذلك سلب الربط لا أنه يرد على الربط.

٣٠٦

فلا برهان عليه. فالإشكال مندفع.

وإلى هنا انتهى الكلام على أدلّة استصحاب العدم الأزلي ، وظهر أنّ القول بجريانه هو الحق.

تطبيق البحث على مسألة الشكّ في كريّة الماء

وإنّ من جملة المسائل المتفرّعة على بحث استصحاب العدم الأزلي مسألة ما لو شك في كريّة ماءٍ من جهة الشك في صدق عنوان الكرّ عليه ، بعد تحديد الكرّ بكذا عددٍ من الأشبار ، فهل هذا الماء كرٌّ أو لا؟ فلو لاقى نجساً ينفعل أو لا؟ قولان.

ذهب الشيخ إلى الانفعال (١) ، وصاحب (الجواهر) إلى عدم الانفعال (٢) وتبعه صاحب (العروة) (٣) ، بخلاف مسألة ما لو شك في أنّ لهذا الماء مادّة أو لا؟ فقال هناك بالانفعال ... ومن المحشين ـ كالسيّد الشاهرودي ـ من قال بالطّهارة في كليهما ، ومنهم : قال بالنجاسة في كليهما وهو المختار عند الأُستاذ. وقد استدلّ لهذا القول بوجوه :

الأول : قاعدة المقتضي والمانع. فالماء المشكوك الكريّة بنحو الشبهة المصداقية مع عدم العلم بالحالة السابقة نجس ، من حيث أنّ الملاقاة مع النجس تقتضي النجاسة وأمّا المانع وهو الكريّة فمشكوك فيها ... فالماء محكوم بالنجاسة. وهذا مبنى الشيخ هادي الطهراني وتلامذته.

إلاّ أن الإشكال في تمامية أصل القاعدة المذكورة كما ذكر الشيخ وغيره.

الثاني : التمسّك بعموم العام في الشبهة المصداقية ، لأن مقتضى العمومات

__________________

(١) كتاب الطّهارة ١ / ١٥٩.

(٢) جواهر الكلام ١ / ١٧١.

(٣) العروة الوثقى ، أحكام المياه ، فصل : الرّاكد بلا مادّة ، المسألة ٧.

٣٠٧

تنجّس الماء بالملاقاة ، والقدر الخارج هو الكرّ ، فمتى شكّ في كريّة الماء تمسّك بعموم العام وحكم بنجاسة الماء بالملاقاة.

وهذا الوجه يبتني على جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

الثالث : الأخذ بقاعدة أسسها الميرزا هي : كلّما ثبت حكم إلزامي لموضوع ثمّ ورد عليه المخصّص ، فلا بدّ من العمل بالحكم الإلزامي حتى يحرز المخصّص. مثلاً : يحرم التصرّف في مال الغير ، وهذا حكم إلزامي ، إلاّ أنه خصّص بمورد رضا المالك ، لكنْ لا يجوز التصرف إلا بعد إحراز الرضا. وكذلك ما نحن فيه ، فإنّه يجب الاجتناب إلزاماً عن الماء إذا لاقى النجس إلاّ إذا كان كرّاً ، فإنّ الحكم بوجوب الاجتناب محكّم إلاّ إذا احرز كريّة الماء.

قال الأُستاذ : وقد بُحث في محلّه عن هذه القاعدة وظهر عدم تماميّتها.

الرابع : استصحاب عدم وجود الكرّ في هذا الحوض مثلاً ، تعرّض له الشيخ في (كتاب الطهارة) ولا يأخذ به ، لكونه أصلاً مثبتاً ، لأنّ لازم عدم وجود الكرّ في هذا الحوض عقلاً عدم كريّة هذا الماء.

الخامس : استصحاب العدم الأزلي لكريّة هذا الماء ، فإنّه لمّا لم يكن لم يكن كرّاً ، وبعد الوجود نشكّ في كريّته ، فنستصحب عدمها.

وهذا هو الوجه العمدة في الفتوى بنجاسة الماء المشكوك الكريّة.

الإشكال عليه

وقد اشكل عليه أولاً بعدم الفرق بين هذا الوجه والوجه السابق ، فكما كان ذاك أصلاً مثبتاً كذلك هذا الوجه ، لأنّ استصحاب العدم المحمول للكريّة بالنسبة إلى وصف الكريّة أصل مثبت.

٣٠٨

أجاب الأُستاذ :

بأن الوجه الرابع متقوّم بالشك في وجود الموضوع ، وهذا الخامس أساسه الشك في وصف الموجود ، فهناك كان الشك في وجود الكرّ ، فكان استصحاب عدم وجوده بالنسبة إلى عدم وصف الكريّة أصلاً مثبتاً. أمّا هنا ، فإنّ المستصحب عدم كريّة الماء الموجود في الحوض ، فليس بأصل مثبت. نعم ، ذهب السيّد الحكيم إلى أنه ليس من استصحاب العدم الأزلي لعدم جريانه في عوارض الماهيّة ، وهو الإشكال الثاني على هذا الوجه.

التفصيل في المسألة

فقد فصّل السيد الحكيم (١) في بين عوارض الوجود فقال بجريان استصحاب العدم الأزلي فيها ، وعوارض الماهية فقال بعدم الجريان. ومورد الشكّ في كريّة الماء من قبيل الثاني ، وعليه بنى في (المستمسك) (٢) ، لأنّ الكريّة هي السّعة في طبيعة الماء وذاته ... ولذا يفرَّق بين كريّة الماء ولون الماء ، فاللّون من عوارض وجود الماء ، أمّا الكريّة فمن عوارض ذاته سواء كان موجوداً أو لا.

وعلى الجملة ، فإنه إنْ كان المراد استصحاب عارض الماهيّة ، فإنّ لحاظ الذات والماهيّة في مرتبة الذات يكفي لانتزاع العارض منها ، كما ينتزع الإمكان من ملاحظة حدّ ذات الإنسان ، فيقال بقابليّة هذه الذات للوجود وللعدم ، فإنّ هذا المعنى لا ينفكُّ عن الذات وليس له حالة سابقة حتى تستصحب ، فلا وجه للتفصيل المذكور. وإنْ كان المراد عوارض الوجود الذهني والخارجي كليهما كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، أو الذهني فقط كالنوعيّة للإنسان ، أو الخارجي فقط كالبياض بالنسبة للجدار ... فإن الاستصحاب في عوارض الوجود جارٍ بلا إشكال.

__________________

(١) حقائق الاصول ١ / ٥٠٦.

(٢) المستمسك في شرح العروة الوثقى ١ / ١٥٣.

٣٠٩

وعلى الجملة ، فقد دفع الأُستاذ ما أورد عليه في (التنقيح) (١) وأفاد بأنّ الإشكال الوارد على السيد الحكيم هو الإشكال الصغروي وذلك :

لأنّ الشك في كريّة هذا الماء الموجود ليس من قبيل عوارض الماهيّة ، بل إنّ الكرية من مقولة الكم ، فهي من عوارض الوجود ، والاستصحاب جارٍ بلا كلام.

هذا ، والظاهر أنّ السيد الحكيم قد تأثّر بنظر استاذه المحقق العراقي في المقام ، فإنّ له تفصيلاً يتوقف فهم كلامه فيه على ذكر مقدّمات :

١ ـ إنّ مجرى الاستصحاب هو الحكم الشرعي أو موضوعه أو نقيض الحكم الشرعي.

٢ ـ إن نقيض كلّ شيء في مرتبة الشيء ، فلو لم يكونا في مرتبةٍ واحدة فلا تناقض.

٣ ـ إن استصحاب العدم الأزلي يكون دائماً في مورد السالبة بانتفاء الموضوع ، مثلاً : إنا نريد أن نجرّ بالاستصحاب عدم قرشية المرأة الثابت قبل وجودها حتى بعد وجودها ، فهذا الاستصحاب يجري ، لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع ، فلو لم يكن من هذا القبيل لما جرى.

وبعد المقدمات :

إن التقييد عملية ذهنية ، فالشيء يكون منفصلاً عن الشيء ، إلاّ أنه يحصل بينهما الارتباط في عالم الذهن كالارتباط بين زيد والعلم ، ثم يقال : زيد عالم ، لكنّ هذا التقييد : تارةً : يكون في حدّ الذات قبل الوجود مثل زيد العالم والمرأة القرشية والماء الكر ، فإنّها تقييدات في صقع الذات ، ولذا صحّ حمل الوجود والعدم كأن يقال : زيد العالم موجود ، وزيد العالم معدوم. واخرى : يكون بعد

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى ٢ / ١٧٧.

٣١٠

الوجود كأن نقول : إن وجد زيد وكان عالماً ، إنْ وجدت المرأة وكانت قرشيةً.

فإنْ كان التقييد من قبيل الأول ، فهو غير دائر مدار وجود الموضوع ، بل التقييد موجود مع عدم الموضوع ، كما أن الملازمة بين الفساد وتعدّد الآلهة موجودة وهي غير دائرة مدار وجود الآلهة ، وإنْ كان من قبيل الثاني ، فيدور مدار الموضوع ، فلا تقييد للمرأة بالقرشية قبل وجودها ....

وعلى هذا ، فإنّ الاستصحاب إنما يجري في الأول دون الثاني ، لكونه بعد الوجود ، وإذا كان بعده فنقيضه أيضاً بعده ـ بحكم المقدمة الثانية ـ وقد عرفت في المقدمة الثالثة أن المستصحب إما حكم الموضوع وإما نقيضه ، ولا وجود لأحدهما بعد الوجود (١).

أجاب الأُستاذ

بأنّ في كلامه مواقع للنظر. منها :

إن المقصود هو إجراء استصحاب العدم الأزلي في الزمان لا في المرتبة ، لأن الأحكام الشرعية تدور مدار الزمان ، والتقييد بين المرأة والقرشية هو في ظرف وجود المرأة وإلاّ فليس في عالم العدم شيء ، فلا معنى لقوله بالتقييد قبل الوجود.

هذا أولاً.

وثانياً : قد تقدم أنْ لا برهان على كون النقيضين في مرتبةٍ واحدة.

فظهر : إنّ التقييد في قضيّة : إذا وجدت المرأة وكانت قرشية ، هو بعد وجود المرأة ، لكنّ عدم التقييد وعدم القرشية ليس بعد وجودها ، فكما يجري الاستصحاب في الصورة الاولى ، كذلك هو جارٍ في الثانية أيضاً. فلا وجه للتفصيل المذكور.

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٢٨.

٣١١

وهل يجري استصحاب العدم الأزلي في الذاتيّات كالكلبيّة للشيء المطروح على الأرض الآن كما يجري في الأوصاف والأعراض كالقرشيّة للمرأة الموجودة؟

قال الأُستاذ في الدورة السابقة : بأن جريانه في الذاتيّات مشكل. أمّا في الدورة اللاّحقة فقد أرجأ البحث إلى الاستصحاب.

وانتهى البحث عن استصحاب العدم الأزلي والحمد لله أوّلاً وآخراً.

٣١٢

دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص

لو جهلنا بفرديّة الفرد للعام مع العلم بحكم الفرد ، فهل يمكن إحراز عدم الفرديّة بالتمسّك بالعام؟ ويعبَّر عن ذلك بدوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.

ويقع البحث عن ذلك تارةً : فيما لو كان حكم الفرد على خلاف حكم العام ، واخرى : فيما لو كان العنوان الخارج من تحت العام مردّداً بين فردين. فالبحث في مقامين :

المقام الأول (لو كان حكم الفرد على خلاف حكم العام)

لو ورد «يجب إكرام العلماء» ثم قال : «يحرم إكرام زيد» فشك في أن حرمة إكرام زيدٍ هي بسبب كونه جاهلاً فهو خارج تخصّصاً ، أو بسبب آخر مع كونه من العلماء فيكون خروجه تخصيصاً ... فقيل : بجريان أصالة العموم وعدم التخصيص ، فيكون العام باقياً على عمومه ، ولازم جريان هذا الأصل خروج زيد تخصّصاً وأنه ليس بعالمٍ ، وقد تقرّر حجيّة مثبتات الاصول اللّفظيّة.

وذهب صاحب (الكفاية) وجماعة إلى عدم جواز التمسّك بالعام ، لأنّ لفظ «العلماء» في الدليل مستعملٌ في مدلوله وهو العموم ، والمتكلّم مريدٌ لهذا الاستعمال فالإرادة الاستعمالية ثابتة ، وهذه هي الدلالة التصديقية الاولى ... ثم إنّ للمتكلّم إرادة جديّة على طبق تلك الإرادة الاستعمالية ، فظهور كلامه في وجوب إكرام جميع العلماء مرادٌ له جدّاً ، وهذه هي الدلالة التصديقية الثانية ، إلاّ أنّه لا وجه

٣١٣

للتمسّك بالعام لإدخال «زيد» تحته ، لا من حيث الإرادة الاستعمالية ، لأن مقتضى أصالة العموم في يجب إكرام العلماء هو وجوب إكرام كلّ من كان متّصفاً بالعلم ، لكنّ العام لا يتكفّل بيان حال موضوعه ولا يعيّن من هو العالم. ولا من حيث الإرادة الجديّة ، لأنّ مقتضى هذا الأصل أنّ من كان عالماً فهو المراد الجدّي في وجوب إكرامه ، ولا يعيّن الفرد ....

فظهر أن لا طريق من ناحية العام لبيان حال الفرد المشكوك فيه ... وحينئذٍ ، لا موضوع للاّزم العقلي ، لأن لوازم الاصول اللّفظيّة حجّة ما دام يكون هناك ملزوم ، وإذْ لا جريان لأصالة العموم فلا لازم.

وبتقريب آخر :

إنّ أساس الاصول اللّفظية ـ كأصالة العموم ـ هي السيرة العقلائية ، ومركزها ما إذا كان المراد مشكوكاً فيه ، فإنه مع هذا الشك يتمسّك بالأصل ، وأمّا حيث يكون المراد معلوماً فلا ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ المفروض عدم الشك في مراد المولى ، فإنه قد حرّم إكرام زيد ، بل المشكوك فيه كون زيد من قبل داخلاً تحت العام ثمّ اخرج ، أو أنه لم يكن داخلاً ، وهذا أمر آخر ، وليس يجري الأصل اللّفظي فيه.

وبتقريب ثالث :

إنّ مجرى أصالة العموم هو الشك ، في أصل التخصيص أو في التخصيص الزائد ، ومورد البحث ليس منهما.

المقام الثاني (لو تردّد بين فردين)

لو قال : «يجب إكرام العلماء» ثم قال : «يحرم إكرام زيد» ثم تردّد المراد بين زيد العالم وزيد الجاهل ، إن أراد الأول فهو تخصيصٌ ، وإن أراد الثاني فهو

٣١٤

تخصّص ، فهل يمكن تعيين (زيد) بالتمسّك بالعام؟ وهل عن طريق العام ينحلّ العلم الإجمالي؟

قال الميرزا (١) ـ وتبعه في (المحاضرات) (٢) ـ بجواز التمسّك بالعام وحصول الانحلال : بأنّ أصالة العموم في دليل العام حجة في مورد الشك في التخصيص ، ومعنى الحجية هو وضوح جهة الحكم ، وأنّ كلّ عالم فهو واجب الإكرام ، وحيث أن زيداً عالم ، فيشمله العموم ويجب إكرامه لكون خروجه تخصيصاً مشكوك فيه ، ويدلّ ذلك بالالتزام على عدم حرمة إكرامه ، للتضادّ بين الوجوب والحرمة ... وبذلك ينطبق النّهي عن الإكرام على زيد الجاهل ، فانحلّ العلم الإجمالي ... فلم يؤثر إجمال الخاص على العام بل بالعكس فقد رفعت أصالة العموم الإجمال عن الخاص. وبهذا التقريب يندفع اشكال السيّد البروجردي.

قال الأُستاذ :

قد تقدّم أن مبنى أصالة العموم هي السيرة العقلائية ، ولا ريب في قيام السيرة على الأخذ بالعام في مورد الشك البدوي ، وكذا مورد العلم الإجمالي المردّد بين الأقل والأكثر في الشبهة المفهومية ، كتردّد الفسق بين مرتكب الكبيرة أو الأعم ، لرجوع الأمر إلى الشبهة البدويّة في طرف الأكثر ، وأمّا لو كان بين طرفي الترديد التباين ـ كما نحن فيه ـ حيث أنّ الشك في التخصيص مقرون بالعلم الإجمالي المنجّز في حدّ نفسه ـ بقطع النظر عن العام ـ ولا ينتهي الأمر إلى الشبهة البدوية ، فإنّ قيام السيرة العقلائية على الأخذ بعموم العام غير واضح. مثلاً : لو أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣١٨.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٣٩١.

٣١٥

رجلاً له تجاراتٌ متعدّدة ، منها تجارةٌ في الكتب وتجارةٌ في الذهب والمجوهرات ، فكتب إلى أحد وكلائه في البلاد بشراء كلّ كتابٍ ، ثم أرسل إليه رسالةً في أنْ لا يشتري «الجواهر» فشكّ الوكيل في أنّ مراده كتاب «جواهر الكلام» أو «المجوهرات» ، فهل يتوقّف حتى يستوضح المراد من المخصّص أو يتمسّك بالعام؟ الظاهر هو الأوّل ، وقيام السّيرة على التمسّك بالعام في مثله غير ثابت ، ومع الشك في ثبوتها ، فالقدر المتيقّن هو مورد الشبهة البدوية والأقل والأكثر الذي يؤول إليها.

بقي النظر في رأي السيد البروجردي على ضوء المقدّمات التالية :

١ ـ إن العلم الإجمالي متقوّم دائماً بقضية منفصلة مانعة الخلو ، ففيما نحن فيه : يحرم الإكرام إمّا إكرام زيد العالم وإما إكرام زيد الجاهل ، فلا بدّ من احتمال حرمة إكرام العالم أيضاً وإلاّ لم يتحقق العلم الإجمالي.

٢ ـ إن احتمال اجتماع الضدّين محال كاجتماعهما واقعاً.

٣ ـ إنّ الأحكام الخمسة متضادّة ، وإن وقع البحث في أنه تضادٌ فلسفي أو اصولي.

فقوله رحمه‌الله : بأنْ دليل العام حجةٌ بالنسبة إلى زيد العالم ، لكنَّ العلم الإجمالي باقٍ على حاله ، لأنا نحتمل حرمة إكرامه أيضاً (١) فيه : إنّ حجية العام في الوجوب توجب انحلال العلم ، وإلاّ يلزم احتمال اجتماع الضدّين وهو محال كما تقدّم.

__________________

(١) نهاية الاصول : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٣١٦

هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص؟

وهذا البحث أحد المطالب المهمّة في فصل العام والخاص وثمرته العملية في سائر الأبواب واضحة.

وقد وقع الاتّفاق على أنْ ليس للفقيه أن يفتي ما لم يفحص ... كما أن على المقلِّد أن يفحص عن فتوى المجتهد في الشبهات الحكميّة ، والمجتهد مكلّف بالفحص في الروايات ، فلا يفتي على طبق روايةٍ إلاّ بعد الفحص عن المعارض لها ، وكذا في الاصول العملية ، فلا يجري الأصل إلاّ بعد الفحص عن الدليل ، وكذا في بابي الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص ....

والكلام في هذا المقام في ثلاثة جهات :

الجهة الأولى (في دليل عدم جواز التمسّك بالعام قبل الفحص)

فالمشهور بل كاد يكون متَّفقاً عليه ذلك ، إلاّ أنّ الاختلاف في كيفية إقامة الدليل.

فقد ذهب جماعة إلى أنه لمّا كان مناط الأخذ بالاصول اللّفظيّة هو الظن الشخصي بالمراد ، فإنه ما لم يفحص عن المخصّص أو المقيّد أو القرينة ، لا يحصل الظنّ الشخصي حتى يأخذ بأصالة العموم أو الإطلاق أو الحقيقة.

وهذا الوجه يبتني ـ كما عرفت ـ على القول بدوران حجيّة الاصول مدار الظن الشخصي ، لكن التحقيق دورانه مدار الظن النوعي.

٣١٧

وذهب الميرزا القمي (١) إلى وجهٍ آخر وهو : إنّه لمّا كانت الخطابات الشرعيّة مختصّةً بالمشافهين ، وسائر الناس مكلّفون بها من باب الظن المطلق ، فالقدر المتيقّن من دليل اعتبار الظن المطلق هو حالة بعد الفحص عن المخصّص.

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ مبني على اختصاص الخطابات الشرعيّة بالمشافهين وقانون الانسداد ، ومع القول بعدم انسداد باب العلمي ، وأيضاً عدم اختصاص الخطابات ... يسقط.

فالعمدة هو الأدلة المقامة من الشيخ وصاحب (الكفاية) والميرزا ، وهي ثلاثة.

الدليل العقلي

قال الشيخ ما حاصله : إنا نعلم إجمالاً بورود المخصّصات على عمومات الكتاب والسنّة وأنّ بعضها مخصَّص يقيناً ، وهذا العلم يقتضي الفحص عن الأحكام الإلزامية الموجودة في المخصّصات ، وهو منجّزٌ من جهة احتمال العقاب على العمل بالعمومات قبل المخصص عن المخصّصات لها ما لم ينحلّ العلم.

وقد اشكل على هذا الاستدلال ، بكونه أخصّ من المدّعى ، فإنّه يجري في موارد الأقل والأكثر ، والمدّعى أعمُّ من ذلك ....

على أن العلم في مورد الأقل والأكثر منحلٌّ بعد الفحص بالمقدار المتيقّن.

فالبيان المذكور مخدوش.

وقد قرّبه الميرزا ببيانٍ آخر (٢) وحاصله : أن العلم الإجمالي يكون في ثلاث موارد :

__________________

(١) قوانين الاصول ١ / ٢٣٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٣٥٥.

٣١٨

١ ـ العلم الإجمالي المردّد بين المتباينين ، وهي القضيّة المنفصلة المانعة للخلوّ ، فإمّا هذا الإناء نجس وامّا ذاك ، وهنا لا ريب في تنجيز العلم الإجمالي ما لم ينحلّ.

٢ ـ العلم الإجمالي المردّد بين الأقل والأكثر ، كأن يشكّ المدين بين الألف والألفين. لكنّ هذا العلم منحلٌّ بل في الحقيقة لا علم إجمالي ، بل هي قضيّة متيقّنة واخرى مشكوكة ، كما هو الحال في التعارض بين الخبرين بدواً.

٣ ـ العلم الإجمالي المردّد بين الأقل والأكثر من جهةٍ وبين المتباينين من جهةٍ اخرى ، كما لو علمنا بوجوب الاجتناب إمّا عن هذا الإناء وامّا عن إناءين ، وقال المولى ـ في نفس الوقت ـ بوجوب الاجتناب عن إناءِ زيد ، ففي هذه الصورة لا بدّ من تعيّن إناء زيد عن طريقٍ من الطرق لوجوب الاجتناب عنه منجّزاً بعنوان إناء زيد ، ولا يكفي الاجتناب عنه من جهة كونه طرفاً للعلم الإجمالي المردّد بين الأقل والأكثر ، لأنّ هذا العلم ينحلّ بالاجتناب عن الأقلّ ، وأمّا إناء زيد فالتكليف به منجَّز ، ولا بدّ من العثور عليه حتى يجتنب عنه.

وتطبيق هذا على ما نحن فيه هو : إنا نعلم إجمالاً بوجود المخصّصات في الكتب ، فهي معنونة بعنوان الكون في الكتب ، ونعلم ـ من جهةٍ اخرى ـ بوجود مخصّصات مرددة بين الأقل والأكثر لو عثر على المقدار الأقل منها انحلّ العلم ... إلاّ أنّ العثور على الأقل لا يوجب انحلال العلم الإجمالي بوجود المخصّصات بعنوان ما في الكتب.

الإشكال عليه

ويرد عليه أوّلاً : عدم انطباق ما ذكره على ما نحن فيه ، لأن عنوان «ما في الكتب» أيضاً مردّد بين الأقل والأكثر ، ومع العثور على الأقل تجري البراءة عن الأكثر والانحلال حاصل.

٣١٩

وثانياً : إن ما ذكره لا يتمّ على مسلكه ـ تبعاً للشيخ ـ في أساس تنجيز العلم الإجمالي ، وهو المختار عندنا أيضاً ، وهو القول بالاقتضاء ـ في مقابل مسلك المحقق العراقي ، وهو القول بالعليّة ـ وحاصله : رجوع التنجّز إلى تعارض الاصول في الأطراف وتساقطها ، ففيما نحن فيه ، لمّا عثرنا على الإناء النجس ـ وإنْ لم يكن بعنوان إناء زيد ـ وجب الاجتناب عنه ، وكان الأصل ـ الطهارة مثلاً ـ جارياً في الطرف بلا معارض ، فلا يبقى تنجيز ....

وعلى الجملة ، فإنّ مقتضى القول بالاقتضاء مع عدم جريان الأصل في طرفٍ للعلم بنجاسته مثلاً هو جريانه في غيره ، سواءً كان ذو العنوان مردّداً بين الأقل والأكثر مثل عنوان ما في الكتب أو لم يكن مردّداً بينهما مثل عنوان إناء زيد ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي. نعم ، إنما يتم ما ذكره على مسلك العليّة.

وثالثاً : إن مانعيّة العلم الإجمالي فرع لتماميّة المقتضي للتمسّك بأصالة العموم ، لكنّ الحق ـ تبعاً للمحقق الخراساني ـ أنّ عمومات الكتاب والسنّة في معرض التخصيص ، فليست بمجرى لأصالة العموم.

ورابعاً : إنّ البحث في حكم التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصّص جارٍ سواء كان حكم الخاص إلزاميّاً أو ترخيصيّاً ، فالبحث أعمّ من مورد العلم الإجمالي وتنجّزه لوجوب الاحتياط.

الدليل العقلائي

قال في (الكفاية) (١) ما حاصله : إنّ أصالة العموم أصلٌ عقلائي ، وملاكه هو أصالة التطابق بين الإرادة الاستعمالية والجدية ، ولكنّ العقلاء إنما يتمسّكون بهذا الأصل حيث لا يكون العام في معرض التخصيص ، لكنّ عمومات الكتاب والسنّة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٦.

٣٢٠