تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

فهذا كلامه ، ولذا ينقل عنه أن التخصيص كالموت ، فكما لا يتلوّن العام بلونٍ بموت عدّةٍ من العلماء ، كذلك لو خصص ... ومن هنا نراه يتمسّك بالإطلاق في الشبهة الموضوعية للمقيّد له ، كما لو قال أعتق رقبةً ثمّ أخرج الكافرة بدليل منفصل وشك في فردٍ منها ، فإنه يقول بالأصل الموضوعي من جهة أنّ التقييد يعطي لوناً للمطلق ، لأنه يقيّده ، بخلاف التخصيص فليس إلاّ إخراجاً لبعض الأفراد.

(ثم قال) : نعم لو كان مفاد الدليل الخاص نقيضاً لحكم العام ، كما لو كان مفاد العام وجوب إكرام العلماء ، وكان مفاد الخاص عدم وجوب إكرام الفساق منهم ، ففي مثله أمكن إثبات وجوب الإكرام ـ الذي هو حكم العام ـ بمقتضى استصحاب عدم الفسق ، من جهة أنه باستصحابه يترتب عليه نقيض اللاّوجوب الذي هو عبارة عن وجوب الإكرام ، وهذا بخلاف ما لو كان مفاد الخاصّ عبارة عن حرمة الإكرام التي هي ضدّ لحكم العام ، حيث أنه لا يمكن إثبات وجوب الإكرام باستصحاب العدالة أو عدم الفسق إلاّ على نحو الأصل المثبت.

ويتلخّص كلامه في نقاط :

١ ـ الفرق بين التخصيص والتقييد ، وأنَّ الثاني يعطي لوناً وعنواناً ، دون الأول فإنه يفيد الإخراج فقط.

٢ ـ التفصيل بين ما إذا كان التنافي بين موضوعي المخصّص والعام على نحو التناقض أو التضاد ، ففي الأول يتمسّك بالعام في الفرد المردد ، دون الثاني.

٣ ـ كلّما كان بيانه وظيفة المولى ففي مورد الشك يتمسّك بالعام ، وما كان الوصول إليه من وظيفة المكلّف فلا ... ففي مثل : «المؤمنون عند شروطهم» (١)

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ / ٢٧٦ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، رقم : ٤.

٢٨١

الذي خصّص بالشرط المخالف للكتاب والسنّة ، لو شك في شرط أنّه مخالف أو لا ، فوظيفة بيان ذلك على المولى ، ومع الشك يتمسّك بالعام ... وكذا الجلد المشكوك في تذكيته يصلّى فيه أولا ، فإنّه لو كان منشأ الشك هو قابلية هذا الحيوان للتذكية وعدم قابليّته له ، فإنّه يتمسّك بالعام ، لكون بيان القابلية وعدمها من وظيفة الشارع ، بخلاف ما لو كان منشأ الشك هو الشكُّ في كون الذابح مسلماً أو الذبح على القبلة ، فلا وظيفة للمولى بل على المكلّف ، فلا يجوز التمسّك بالعام حينئذٍ.

الإشكال عليه

وأورد عليه الأُستاذ ـ في الدورتين ـ بوجوه :

الأول : قد ذكر أنّ التخصيص مفاده قصر الحكم ، وأنه إذا قال لا تكرم الفسّاق من العلماء ، أفاد عدم شمول ملاك الإكرام للفسّاق. فنقول : لمّا كان أكرم كلّ عالمٍ ، يفيد وجود المقتضي لإكرام عموم العلماء ، فلا بدّ وأنْ يكون المخصّص الموجب لقصر الحكم دالاًّ على شرطٍ للمقتضي وهو العدالة أو على وجود مانع عن تأثيره وهو الفسق ، فيكون قصر الحكم راجعاً إلى فقد الشرط أو وجود المانع ، وحينئذٍ ، يستحيل عدم تعنون العام بعنوان الخاص. فالجمع بين القول بقصر الحكم والقول بعدم التعنون تهافت. أمّا في الموت فالاقتضاء منتفٍ فالقياس مع الفارق.

والثاني : إنه على جميع المسالك ، يكون الخاصّ مؤثراً في الإرادة الجدّية للعام ، فإنّه بعد ورود المخصص المنفصل لا يعقل كون الإرادة الجديّة فيه مطلقةً بالنسبة إلى الخاص ، كما لا يعقل الإهمال فيها ، فهي مقيّدة لا محالة ، وخاصةً على مسلكه من أن الحكم هو الإرادة المبرزة ، فإن الإهمال في الإرادة المبرزة غير معقول ، فيكون الحكم في العام مقيّداً.

٢٨٢

والثالث : قوله بجريان الأصل الحكمي ، يرد عليه : إنه إن كان المراد هو الاستصحاب ، فإجراؤه مع الشك في الموضوع تمسّك بدليله في الشبهة الموضوعيّة له ، لأنّ المعتبر في الاستصحاب إحراز أن رفع اليد عن اليقين السابق نقضٌ ، لكنّ إحراز النقض موقوفٌ على وحدة الموضوع في القضيّتين ، ومع تردّده لاحقاً ، فلا إحراز لوحدته فالاستصحاب ممنوع.

والرابع : إنه يرد على تفصيله بين التناقض والتضاد : إن رفع عدم الوجوب ليس هو عين الوجوب حتى يثبت حكم العام ويترتب على الفرد المردد ، لأنّ مفهوم نفي النفي ليس هو الإثبات بل الإثبات مصداقه ... فلو أُريد من استصحاب عدم الفسق إثبات العدالة فهو أصل مثبت. اللهم إلاّ أن يقال بالجريان مع خفاء الواسطة كما عليه الشيخ ، لكنّ التحقيق خلافه.

والخامس : إنه يرد على قوله بالتمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة حيث يكون البيان من وظيفة الشارع ، بأنْ المفروض إسقاط الشارع ظهور «المؤمنون عند شروطهم» وهي قضية حقيقيّة بحسب المراد الجدي ، بقوله : «كلّ شرط خالف الله فهو رد» (١) ، فكان ذاك العام مقيّداً ، والمفروض عدم البيان ، فكيف يتمسّك به في الفرد المردّد من الشرط؟

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ / ٢٦٧ ، الباب ١٥ من أبواب بيع الحيوان ، رقم : ١.

٢٨٣

استصحابُ العدم الأزلي

تمهيدٌ

المخصّص المنفصل تارةً : يكون مجملاً مفهوماً كما لو قال أكرم العلماء ، ثم قام الدليل على حرمة إكرام الفسّاق منهم ، وشكّ في حكم فردٍ من العلماء مرتكب للمعصية الصّغيرة ، من جهة تردّد مفهوم الفسق بين ارتكاب خصوص الكبيرة والأعمّ منها والصّغيرة ، وتسمى بالشبهة المفهومية. واخرى : يكون مبيّناً من حيث المفهوم ، فيقع الشكُّ في حكم الفرد من جهة امور خارجيّة ، كما لو جهلنا كونه مرتكباً للفسق حتّى يندرج تحت المخصّص أو غير مرتكب له فيشمله العام ، وتسمّى بالشبهة المصداقية.

أمّا في الاولى ، فالمشهور هو التمسّك بالعام.

وأمّا في الثانية ، فقد ذهب السيد صاحب (العروة) إلى التمسّك بالعام ، خلافاً للمشهور القائلين بالرجوع إلى الأصل ، فإنْ كانت الحالة السابقة للفرد هو الفسق أو عدمه ، جرى الأصل وخرج عن الشبهة ، أمّا لو جهلنا حالته السابقة أو كان مورداً لتوارد حالتي الفسق والعدالة وجهل المتقدّم والمتأخّر منهما ، فلا أصل ينقّح حاله ، ويسقط التمسّك بالعام وبالدليل المخصّص أيضاً ، فإنْ قلنا بجريان الاستصحاب الحكمي حينئذٍ فهو ، وإلاّ وصلت النوبة إلى البراءة أو الاشتغال.

وهذا كلّه قد تقدّم ، وحاصله تنقيح حال الموضوع باستصحاب عدم الفسق ويعبّر عن ذلك باستصحاب العدم النعتي.

٢٨٤

ويقابله استصحاب العدم الأزلي بأنْ نقول : هذا الفرد من العلماء لم يكن في الوجود ، فهل بعد ما وُجد وُجد فيه الفسق أو لا؟ فهل يمكن الخروج عن هذا الشكّ باستصحاب عدم الفسق أزلاً أو لا؟

وهذا في الأوصاف العارضة.

ومن الأوصاف ما هو ذاتي لا يزايل الموصوف منذ وجوده ، كقرشيّة المرأة ، وهو المثال المعروف في المسألة ، فإن المرأة تحيض إلى الخمسين إلاّ القرشية فإنّها ترى الحيض إلى الستين ، فلو شككنا في امرأةٍ هل هي قرشيّة فدمها بعد الخمسين حيض أو غير قرشيّة فاستحاضة؟ فهل يمكن التمسّك بالأصل الموضوعي بنحو العدم الأزلي أو لا؟

والبحث في هذه المسألة في مقامين :

المقام الأوّل (في الاقتضاء)

وللبحث فيه جهتان : جهة الثبوت وأنه هل ـ من الجهة العقليّة أو العرفية ـ لهذا الأصل اقتضاء؟ وجهة الإثبات وأنه بناء على تمامية المقتضي عقلاً وعرفاً ، هل للأدلّة اقتضاء في مقام الإثبات أو لا؟

الميرزا ، منكر للاقتضاء العقلي.

وجماعة ، ينكرون الاقتضاء العرفي.

والبروجردي ، لا يمنع من الاقتضاء الثبوتي بل يرى الأدلّة قاصرةً إثباتاً.

الأقوال في المسألة

وقد اختلفت أنظار الأعلام في جريان استصحاب العدم الأزلي ، بين قائل به مطلقاً ، وقائل بعدمه مطلقاً ، ومفصّل بين عوارض الوجود فالجريان وعوارض الماهيّة فالعدم.

٢٨٥

كلام الكفاية في تقريب الجريان

قال صاحب (الكفاية) : لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل ، لمّا كان غير معنونٍ بعنوان خاص بل بكلّ عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد ـ إلاّ ما شذّ ـ ممكناً ، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإنْ لم يجز التمسّك به بلا كلام. ضرورة أنه قلّما لم يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنه ممّا بقي تحته. مثلاً : إذا شك في امرأة ... (١).

فالمحقق الخراساني من القائلين بجريان استصحاب العدم الأزلي وتوضيح كلامه هو :

إنّ العام إذا أصبح موضوعاً للحكم ، فهو موضوع له بجميع العناوين والانقسامات ، فإذا قال : أكرم العلماء ، شمل «العالم» الفاسق والعادل وغير الفاسق وغير العادل ... وكلّ واحدٍ من هذه العناوين موضوع للحكم بوجوب الإكرام ، لأن «العالم» يشملها كلّها وهي مندرجة تحته ، ثم لمّا جاء المخصّص ، فإنْ كان منفصلاً أو كان متّصلاً لكنه من قبيل الاستثناء ب «الاّ» وشبهه ، لم يؤثّر إلاّ الإخراج فقط ، أمّا إنْ كان متّصلاً ولم يكن من قبيل «إلاّ وشبهه» كما لو قال : أكرم العلماء العدول ، فإنّه يفيد الإخراج من تحت العام وتعنون العام وتقيّده بغير الفسّاق.

قال : إلاّ ما شذ.

يعني : مورد توارد الحالتين من الفسق والعدالة.

إذن ، فهو يرى جريان استصحاب العدم الأزلي إلاّ في مورد توارد الحالتين.

ثم طبّق هذه الكبرى على المرأة القرشيّة ، لأن الدليل أفاد أنّ المرأة ترى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣.

٢٨٦

الحمرة إلى خمسين سنة ... و «المرأة» موضوعٌ يندرج تحته جميع أصناف المرأة وانقساماتها ، ومنها المرأة التي ليس بينها وبين قريش انتسابٌ. لكنْ قد ورد في خصوص القرشية أنها ترى الحمرة إلى الستّين ، فأخرج هذا القسم من تحت الدّليل السابق من غير أن يتقيّد الموضوع ـ أي المرأة ـ بقيدٍ ، لكون هذا المخصّص من قبيل الاستثناء ، فإذا شكّ في امرأةٍ معيّنةٍ بنحو الشبهة المصداقيّة : هل لمّا وجدت وجد معها الانتساب إلى قريشٍ أو لا؟ جرى استصحاب العدم وحكم بعدم وجود تلك النسبة ، فيكون الدم الذي تراه بعد الخمسين محكوماً بالاستحاضة لا الحيض ....

فظهر أنّ استصحاب العدم الأزلي جارٍ بناءً على الخصوصيّات المذكورة ، سواء في الأوصاف الذاتية كالقرشيّة والعرضيّة كالفسق ، إلاّ في مورد توارد الحالتين من الفسق والعدالة حيث تنتقض الحالة السابقة فلا يجري الاستصحاب.

هذا بيان مطلب (الكفاية).

الإشكالات

لكنْ هنا إشكالات :

الأول : إنه لا مقتضي لجريان هذا الأصل ، لما تقرّر من أنّ مجراه الحكم الشرعي أو الموضوع له ، وعليه ، فإن الموضوع في لسان الدليل هو «العالم» وهو الذي جاء الحكم بوجوب الإكرام عليه ، وأمّا أقسامه وأوصافه الطارئة عليه ، فلم يؤخذ منها شيء في لسان الدليل موضوعاً للحكم ، فليس «العالم الذي لم يتّصف بالفسق» هو الموضوع ، أو «المرأة التي لا تنتسب إلى قريش» ، بل الموضوع «المرأة» ، وهو محرز بالوجدان ولا شكّ فيه ليجري فيه الاستصحاب.

الثاني : إنه إذا ورد المخصّص ، أثّر في الظهور والدلالة الاستعماليّة ، ويكون

٢٨٧

الموضوع في الدليل مقيّداً بالمخصّص ، وأثّر أيضاً بحسب الحجيّة في الإرادة الجديّة ـ إن كان منفصلاً ـ كما هو واضح ... وعليه ، فإنّ الظهور ينقلب ويكون الموضوع مقيّداً ومعنوناً بالخاص ، فيتركّب الموضوع أو يتقيّد ـ على الخلاف ، كما سيأتي ـ ولا يبقى مجرّداً عن القيد ، بل يكون «العالم غير المتصف بالفسق» و «المرأة غير المنتسبة إلى قريش» هو الموضوع. ولا أصل ينقّح حاله.

وعلى الجملة ، فإنّ بيان (الكفاية) إنما يتمّ بناءً على عدم تلوّن العام بعنوان الخاص بعد التخصيص ، وهو خلاف التحقيق.

وقال الإيرواني معلّقاً على قول (الكفاية) : «لما كان غير معنونٍ بعنوان خاص» :

يعني : العنوان الخاصّ الوجودي المقابل لعنوان المخصّص. وأمّا العنوان العدمي ـ وهو عدم عنوان المخصص ـ فالباقي تحت العام معنون به البتة ، وقد صرّح به المصنف بقوله : بل بكلّ عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص ، «فإن قوله لم يكن ذلك بعنوان الخاص هو بعينه عنوان للعام ، لكن تعبيره بقوله : «بل بكلّ عنوان» مسامحة ، لأنه يوهم دخل تمام العناوين الوجودية التي ليست بعنوان الخاص لكن على سبيل البدل ، وهو باطل قطعاً وخلاف المقصود جزماً ... فما فرّعه المصنف على ما أصّله من جريان الأصل الموضوعي ... ليس على ما ينبغي ، فإنّ مجرد عدم تحقّق الانتساب الذي هو السلب الناقص لا أثر له بعد أنْ صار عنوان العام بعد خروج الخاص المرأة التي ليست امرأةً من قريش ، إذ ليست لهذا السلب الناقص في المرأة المشكوكة قرشيّتها حالة سابقة متيقّنة ... (١).

وحاصل كلامه : إن مراد (الكفاية) تعنون العام وتقيّده بالعدم بعد إخراج

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٢٨٤.

٢٨٨

العنوان الوجودي ، فالمرأة متّصفة بعدم القرشيّة بنحو ليس الناقصة ، وهذه لا حالة سابقة لها حتى تستصحب ، بل الموجود في الأزل هو المرأة غير المنتسبة إلى قريش بنحو ليس التامة ، واستصحاب عدمها بنحو ليس التامة لإثبات عدمها بنحو ليس الناقصة لا يتم إلاّ على الأصل المثبت.

لكنّ الأُستاذ استظهر من كلام (الكفاية) غير هذا ، لأنه نفى تعنون العام بعد التخصيص ، بل جعل المخصّص مخرجاً فقط ، ثمّ أكّد ذلك بقوله : بل بكلّ عنوان ... فأفاد أنّ الموضوع هو «المرأة» فقط ... فقول الإيرواني بأنّ العنوان العدمي مفاد ليس الناقصة والأصل مثبت ، إنما يتمُّ لو كان صاحب (الكفاية) يرى اتّصاف العام ـ بعد تخصيصه بعنوان وجودي ـ بعنوانٍ عدمي ، وهذا ما ينفيه كلامه.

الثالث : إنه لو سلّم جريان أصل العدم الأزلي والقول بعدم الاتّصاف في الزمان اللاّحق ، فإنّه لا يرفع حكم الخاصّ عن الفرد ، لأنا إذا استصحبنا عدم فسقه أزلاً اندرج تحت العام ، ولكنْ ما المخرج له من تحت الخاص مع احتمال كونه فاسقاً وقد قال : لا تكرم الفسّاق؟ ونفي حكم الخاص عنه بالأصل لا يتم إلاّ بالأصل المثبت كما لا يخفى.

وقد أجاب المحقق الأصفهاني (١) بما حاصله : لقد دلّ العام على وجوب إكرام العالم ، وهو يدلّ بالالتزام على أنّ شيئاً من العناوين لا ينافي «عنوان» العالم المجعول موضوعاً لوجوب الإكرام ، فهو واجب الإكرام سواء كان عدلاً أو لا ، غير متصف بالسفاهة أو لا ... وهكذا ... وإذا كان لا ينافي وجوب الإكرام فهو منافٍ لحرمته ، فكان الفرد خارجاً من تحت الخاص بالدلالة الالتزامية لدليل العام ، الدالّ

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٦١.

٢٨٩

بالمطابقة على وجوب إكرام ما أُخذ فيه موضوعاً وهو العالم.

قال الأُستاذ :

وهذا جواب دقيق عن الشبهة بل هو خير جوابٍ عنها. إلاّ أنّه إنما يتمُّ بناءً على مختاره من عدم تلوّن العام على أثر التخصيص ، وأمّا بناءً على ما هو مقتضى البرهان من تقيّد الموضوع أو تركّبه بعد التخصيص فلا يتم ، لكون الجزء مشكوكاً فيه ، فالإشكال باق.

الرابع : إشكال المعارضة ، ذكره المحقق المشكيني (١) ، لأنّ دليل الخاص قد دلّ بالمطابقة على حرمة إكرام الفاسق ، وبالالتزام على حرمة إكرام غير المتّصف بالعدالة ، وبذلك يخرج من لم يتّصف بالعدالة من تحت العام ، فلو استصحبنا عدم اتصافه بالفسق أزلاً حتى يندرج تحته ، عارضه استصحاب عدم اتّصافه بالعدالة المقتضي لخروجه عنه ، وتساقطا.

أجاب الأُستاذ :

إنّ الأصل في الإشكال هو استلزام الفسق لعدم الاتصاف بالعدالة ، وأنَّ من ليس متّصفاً بها يحرم إكرامه ، فإنْ قلنا ببقاء المدلول الالتزامي بعد سقوط المطابقي ، كان الإشكال وارداً ، وأمّا على القول بتبعيّته له في الثبوت والسقوط ، فإنّ عدم الاتصاف بالعدل الذي يلازم الفسق مخرج من تحت العام ، ومفروض الكلام أن جريان الأصل يفيد عدم العدالة ، أمّا بالنسبة إلى الفسق فلا أصل ولا وجدان ، فأين المعارضة؟

لكنْ لا يخفى أنّ الجواب مبنائي كالجواب عن الإشكال السابق.

__________________

(١) كفاية الاصول بحاشية المشكيني ١ / ٣٤٧.

٢٩٠

تقرير استصحاب العدم الأزلي ببيان آخر

إذن ، لا بدّ من سلوك طريقٍ آخر لتقرير استصحاب العدم الأزلي وهو يتمُّ بذكر امور:

الأمر الأول

من الواضح أنّ كلّ حادث ـ سواء كان حكماً أو موضوعاً لحكم ـ مسبوق بالعدم ، غير أنَّ للحكم عدمين ، عدم قبل الشرع وعدم بعده ، فحرمة شرب الخمر حكم مجعول من قبل الشارع وله وجودان أحدهما قبل وجود الخمر ، والآخر بعد وجوده ، وكلاهما مسبوق بالعدم ، ومن هنا يمكن للخروج عن عهدة التكليف التمسّك بالبراءة والتمسّك باستصحاب عدم الحكم أيضاً. أمّا الموضوع فليس له إلاّ عدم واحد.

ولا كلام في جريان استصحاب العدم الأزلي في الحكم.

ومورد البحث في جريانه في الموضوع.

والموضوع :

تارةً : هو عنوان ذاتي ، وهو عبارة عن العنوان المنتزع من الصّورة الجوهريّة ، كعنوان الكلبيّة المنتزع من نوع الكلب ، وكعنوان الزيديّة المنتزع من الشخص.

وتارةً : هو عنوان مفارق غير ذاتي. وهذا على قسمين :

(الأول) العنوان المفارق للذات الملازم لها ، مثل قرشية المرأة ، فإنّها عنوان غير منتزع من ذات المرأة ، بل ينتزع من الخارج إلاّ أنه ملازم للذات ولا ينفكُّ عنها.

(والثاني) العنوان المفارق للذات غير الملازم لها ، وهو العنوان العرضي

٢٩١

كالفسق مثلاً ، فقد تكون الحالة السابقة معلومة من حيث الفسق والعدالة واخرى مجهولة.

ثم إن العنوان المفارق الملازم للذات ، تارةً : يكون من لوازم وجودها ، واخرى : من لوازم الماهية. وهذا مورد تفصيل المحقق العراقي والحكيم تبعاً له في المستمسك ، كما سيأتي.

هذا ، وللبحث عن جريان استصحاب العدم الأزلي في العناوين الذاتية موارد وله آثار مهمّة ....

والمقصود من هذه المقدّمة ، جريان البحث في جميع الأقسام المذكورة للموضوع ، وإنّما يخرج من البحث صورة توارد الحالتين لانقطاع الحالة السابقة.

الأمر الثاني

إنّ لأهل الفنّ ، كالشيخ والميرزا والأصفهاني وغيرهم ، مصطلحات لها دخل في البحث في المقام ، فيلزم فهمها فنقول :

لقد قسّموا الوجود إلى قسمين هما : الوجود في نفسه ، والمراد منه الوجود المضاف إلى ماهيّةٍ ، سواء كانت جوهراً أو عرضاً ، كوجود الإنسان ، والعلم.

والوجود لا في نفسه ، والمراد منه الوجود غير المضاف إلى ماهيّةٍ بل يوجد في وجودٍ آخر ، لا بمعنى كونه من شئونه وأوصافه بل إنه مضمحلٌّ فيه ، كقولنا بوجود الربط بين الموضوع والمحمول ، فلمّا نقول : زيد قائم ، فإنّ هناك وجوداً يكون رابطاً بين زيد وقائم وهو وجود غير وجودهما ، يدلّ على وجوده الارتباط الموجود بينهما ، وهو غير الارتباط الموجود في عمرو قائم وزيد جالس ، ولذا نقول بأنّ المعنى الحرفي جزئي حقيقي.

فالوجود الرابط وجود لا في نفسه بل بين الموضوع والمحمول ، بخلاف

٢٩٢

بياض الجدار ، فإنّه وجود في نفسه غير أنه قائم بالجدار.

فظهر : إن الوجود الرابط يكون بين الوصف والموصوف فقط ، وهذا مفاد كان الناقصة ، أي مفاد ثبوت الأوصاف والأعراض للموضوعات ، كقولنا : كان زيد قائماً ، في مقابل مفاد كان التامة ، أي ثبوت الوجود للماهية مثل : كان زيد.

ثم إنّ الهليّة البسيطة مثل : هل زيد موجود؟ مفاد كان التامة ، وفي مقابلها الهليّة المركبة مثل : هل زيد عالم؟ مفاد كان الناقصة.

ومن هنا علم : أن الوجود الرّابط لا يكون في مفاد كان التامة والهليّة البسيطة ، فلا يقال : زيد هست است ، بل يقال : هست. لأنه يستحيل الربط بين الشيء ونفسه ... هذا أوّلاً. وثانياً : تارةً نقول : ثبوت البياض. واخرى نقول : ثبوت البياض للجدار. وإذا كان الوجود عين الثبوت فلا معنى لأنْ يثبت لشيء.

وأمّا في مثل : ليس زيدٌ ، وزيد معدوم وأمثالهما ، فلا وجود رابط ، لأنّه ـ كما تقدم ـ ربط بين شيئين ، والعدم ليس شيئاً حيت يربط بشيء. هذا أولاً. وثانياً : الوجود الرابط ثبوت شيء لشيء ، والعدم لا ثبوت له.

وأيضاً : ليس الوجود الرابط في مفاد ليس الناقصة مثل : ليس زيد بعالمٍ ، لأنه سلب الشيء عن الشيء ، فلا يكون في القضايا السالبة ربط السلب ولا ربط هو سلب ، بل مفادها سلب الربط ، فلا معنى لمجيء الوجود الرابط. وأمّا في مثل : ليس زيد بموجودٍ ، فإن المسلوب هو الوحدة بين الموضوع والمحمول لا الربط ، لما تقدّم من عدم الربط بين الشيء ونفسه.

وتلخّص : إن الوجود الرابط يكون في مفاد كان الناقصة فقط ، وهذا الوجود عين الربط ، وهو متقوّم بوجود الطرفين ، وهو غير موجود في مفاد كان التامة. وفي ليس التامّة ليس إلاّ النفي للربط.

٢٩٣

الأمر الثالث

الوجود الذي في نفسه ويمكن حمله على ماهيّته ، ينقسم إلى قسمين :

الأول : وجود في نفسه ولنفسه ، وهو وجود الجوهر ، وللماهية التي يحمل عليها وجود كذلك.

والثاني : وجود في نفسه ولغيره ، وهو وجود العرض ، كوجود العلم لزيد ووجود البياض للجدار.

ثم إنَّ وجود الجوهر كزيد رافع لعدمه ، أمّا وجود العلم له ، فإنه رافع لعدم العلم. وأيضاً هو شأن من شئون زيد وطور من أطواره وكمالٌ له ... فكان لوجود الجوهر حيثيّة واحدة ، ولوجود العرض حيثيّتان ... فهو وجود للغير فيكون وجوداً نعتيّاً وتعلّقياً ، ولذا قالوا بتعريفه : إنه ماهية إذا وجدت في الخارج وجدت في موضوعٍ ، في مقابل الجوهر إذ قالوا : يوجد لا في موضوع.

ومحلّ الحاجة من هذا البيان هو : إن رفع العرض يكون تارةً بسلب الوجود عنه بالنحو المحمولي ، واخرى بسلبه بنحو الوجود النعتي. وبعبارةٍ اخرى : إنه يمكن رفع العرض بسلب الحيث التعلّقي والإضافي ، ويمكن رفعه بسلب الحيث المحمولي بأن يقال : العلم ليس ، وهذا معنى قولهم : وجود العرض ووضعه يكون بالوجود النعتي وكونه لموضوع كوجود العلم لزيد ، ورفعه يكون برفع الوجود النعتي كسلب العلم عن زيد ، أو المحمولي كسلب العلم ونفيه ، وهذا مذهب القائلين باستصحاب العدم الأزلي. والمنكرون يقولون : رفعه ليس إلاّ برفع الوجود النعتي ، مثلاً :

القرشية وصف موجود للمرأة ، وهو متأخّر في الوجود عن وجودها ، لأنه وصف لها وطور من أطوارها ، لكنّ عدم القرشية ليس كذلك ، بل قد يكون معها

٢٩٤

وقد لا يكون ، فإذا اريد رفع القرشية أمكن بأنْ نقول : المرأة غير القرشية ، فكان عدم القرشية وصفاً وطوراً لها. والمنكر للاستصحاب يقول : بأنّ الرفع لا يكون إلاّ هكذا ، وإنّ عدم القرشية متأخر عن المرأة لكونه وصفاً لها. لكنّ المثبت للاستصحاب يقول : بإمكان الرفع أيضاً بأن نقول : المرأة غير المتّصفة بالقرشية.

فهناك مرأة وعدم الاتصاف ، فيرفع الاتصاف والانتساب إلى قريش كرفع الوجود المتحقّق لماهية العلم وهو الحيثية الاولى للعرض كما تقدّم.

الأمر الرابع

إن القضية إمّا موجبة معدولة المحمول كالمرأة غير القرشية ، وامّا موجبة سالبة المحمول كالمرأة التي ليست بقرشية ، وامّا سالبة محصّلة مثل : لم تكن المرأة بقرشيّة. وعليه ، فإنّ الحيث العدمي تارةً يكون وصفاً للموضوع واخرى لا يكون كذلك.

وبعبارة اخرى : تارةً : يربط السلب إلى الموضوع ، واخرى : يسلب الربط عنه ، فإنْ كان من قبيل الأوّل فالقضية موجبة ، تقول : المرأة غير القرشية ، وإنْ كان من قبيل الثاني فلا سلب مرتبط بالموضوع بل ربطٌ يسلب ، فالقضية سالبة محصّلة ، إنْ لم تكن المرأة قرشيةً ....

وإذا كان عدم القرشية وصفاً للموضوع كما في الأول ، لم يستصحب هذا العدم قبل وجود الموضوع ، لفرض كونه متأخّراً عنه تأخّر الصفة عن الموضوع ، إلاّ على القول بالأصل المثبت ، لأن عدم الوصف قبل الموضوع يغاير عدمه بعده.

أمّا في الثاني ، حيث تسلب القرشية عن الموضوع ولا يكون عدمها وصفاً له بل هو مسلوب عنها ، فالاستصحاب جارٍ ، لأنّ المرأة لم تكن قرشيةً أزلاً وهي الآن كذلك ، كما لو شكّ في شرطٍ أنه مخالف للكتاب والسنّة أو لا؟ وقد تقدّم أنه

٢٩٥

تارةً : نسلب النّسبة كما في زيد ليس بقائم ، واخرى : ننفي الربط كما في : زيد ليس في الدار ، وفي كليهما الرفع ، لكنْ في الأول رفع للنسبة وفي الثاني رفع للربط ، وقد عرفت أن النسبة عبارة عن الاتحاد بين الموضوع والمحمول وهي موجودة في جميع القضايا ، بخلاف الربط فليس في جميعها وهو مفاد حرف الجر. وأمّا في مفاد كان التامّة مثل زيد موجود ، فقد قالوا بوجود النسبة في عالم التحليل العقلي ، إذْ لا نسبة بين الشيء ونفسه كما تقدم.

فالقضايا التي هي مفاد كان الناقصة يوجد فيها الربط ، فزيد عالم معناه : زيد له العلم ، وأمّا السلب ، فليس إلاّ العدم ، وهو لا حكم له ، فلما نقول : زيد ليس بموجود ، نرفع الاتحاد بين زيد والوجود ، لكن في زيد ليس عالماً ، نرفع الارتباط بينهما ، ورفع الوصف عن الموضوع لا يفيد وضع وصف آخر فيه ، فرفع القرشية عن المرأة لا يفيد اتّصافها بعدم القرشية بل هو رفع للقرشية عنها.

ففي «المرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلاّ القرشية» عامٌّ وخاصٌّ ، فإنْ كان الخاص ـ وهو «إلاّ القرشية» ـ يفيض وصفاً عدميّاً على موضوع العام أي المرأة ، فيكون المعنى : «المرأة الموصوفة بعدم القرشية ترى الحمرة إلى خمسين» فلا يجري الاستصحاب ، لكون الوصف متأخراً عن الموضوع ، إلاّ على القول بالأصل المثبت. وإن كان الخاصّ رافعاً للقرشيّة وسالبها لها عن المرأة ، فذلك يكون على نحوين : أحدهما : المرأة غير القرشيّة ، والآخر : مورد عدم وجود المرأة من الأصل ... وعلى كلا النحوين ترتفع القرشيّة ، وهذا معنى قولهم : السّالبة المحصّلة ذات فردين : السالبة بانتفاء المحمول والسالبة بانتفاء الموضوع ... وعلى كلا الحالين ، لا مانع من الاستصحاب ، إذ المرأة لم تكن ولم تكن معها القرشية ، فهل وجدت القرشية بوجودها أوْ لا؟ الأصل هو العدم.

٢٩٦

الأمر الخامس

إن تخصيص العام بعنوانٍ وجودي وإخراجه من تحته ؛ يسقطه عن السّعة والشمول كما هو واضح ، ولكنْ تارةً يوجب صيرورة العام مركّباً واخرى مقيّداً موصوفاً ، ونتيجة ذلك ، أنه إنْ كان من قبيل الثاني لم يجر الاستصحاب إلا على الأصل المثبت ، لكون الوصف متأخّراً عن الموضوع. أمّا على الأول فيجري ، إذ يحرز أحد الجزءين بالأصل مع كون الآخر محرزاً بالوجدان.

فظهر أنّ استصحاب عدم القرشية يجري على تقدير القيديّة ولا يجري على تقدير الوصفيّة.

إذا عرفت المقدّمات

يتبيّن تماميّة الاستصحاب :

فبمقتضى المقدّمة الثانية ـ وهي أن الوجود الرابط ثبوت شيء لشيء وهو فرع وجود الشيء من قبل ، وفي رفع الثبوت لا حاجة إلى وجود الشيء ـ يمكن استصحاب عدم قرشية المرأة بنحو عدم الوجود الرابط. فالمرأة القرشية لها ارتباط بقريش ، ونحن نرفع هذا الارتباط والانتساب بقولنا : لم يكن قبل وجود المرأة قرشية ، والآن وبعد وجودها نستصحب ذاك العدم بنحو سلب الربط ، وليس رفع الوجود الرابط في رتبة متأخرةٍ عن الشيء كما لا يخفى.

وبمقتضى الثالثة : إن قرشيّة المرأة في مرتبة متأخرة عن المرأة ، لكنّ عدم قرشيّتها ليس كذلك ، لأن عدم العرض ليس عدماً لغيره. وعليه : فإنّ القرشية بحاجة إلى وجود المرأة ، أمّا عدمها فلا. والمفروض أنْ عدم القرشية ليس وصفاً للمرأة.

وبمقتضى الرابعة : فإنه بعد التخصيص ، سواء كان الموضوع من السّالبة

٢٩٧

المحصّلة بانتفاء المحمول ، أو كان بنحو المقسم الجامع بين القسمين ، الموضوع قابلٌ للجعل الوجودي.

وبمقتضى الخامسة : إنّ أثر الإخراج والتخصيص هو التركيب والتقييد ، وليس التوصيف ، وإذا كان كذلك جرى الاستصحاب لإحراز الجزء الثاني العدمي وهو عدم القرشية ، بعد إحراز الوجودي بالوجدان وهو المرأة.

المقام الثاني (في المانع)

وقد استدلّ المانعون بوجوهٍ لا بدّ من إيرادها والنظر فيها :

الوجه الأول :

صحيحٌ أنّ عدم العرض ليس وصفاً للموضوع ، لأنّ وجوده يحتاج إلى الموضوع ، وأمّا عدمه فغير محتاج إليه ، ولكنّ هناك خصوصية تقتضي أنْ يكون وصفاً ، وتوضيح ذلك :

إنّ للشيء انقساماً بالنظر إلى أحواله وأوصافه ، وانقساماً آخر بالنظر إلى مقارناته ، فنسبة الجدار إلى البياض من قبيل الأول ، ونسبته إلى وجود زيد وعدم وجوده من قبيل الثاني ... والنسبة بين الشيء ومقارناته في رتبة متأخرة عنها بينه وأوصافه ، لأن الوصف من شئون الشيء فهو يلحظ معه ، كلحاظ العلم مع لحاظ زيد ، وأمّا مقارنات الشيء فليست من شئونه كما لا يخفى.

وعليه ، فإنّ القرشية لمّا كانت من أوصاف المرأة ، فإن انقسامها إلى وجود القرشيّة وعدم وجودها فيها بنحو الوصفيّة مقدّم رتبةً على انقسامها إليهما بنحو المقارنة ، فالمرأة بالنسبة إلى غير القرشية بنحو التوصيف متقدّم رتبةً على المرأة بالنسبة إليها بنحو المقارنة ... فإذا أخرج المولى القرشيّة من تحت عموم المرأة لم تبقَ المرأة مهملة بالنسبة إلى عدم القرشية ولا هي مطلقة ، أمّا عدم الإطلاق

٢٩٨

فواضح. وأمّا عدم الإهمال ، فلأن الحكيم الملتفت إلى انقسامات موضوع حكمه ليس بمهملٍ لها ، فيكون «المرأة» وهي موضوع الحكم في العامّ مقيدةً بعدم القرشية ، وقد تقدّم أنّ هذا التقيّد بنحو الوصف مقدَّم على عدمها بنحو المقارنة. وإذا كانت المرأة مقيّدةً بعدم القرشيّة بنحو الوصف ، فلا فائدة لاستصحاب العدم الأزلي في عدم القرشية بنحو المقارنة. هذا ثبوتاً. وأمّا إثباتاً ، فإنّ أخذ الأحوال بنحو المقارنات يحتاج إلى مئونةٍ زائدة ، ومقتضى التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات هو أخذها بنحو الأوصاف.

وهذا ما أفاده الميرزا رحمه‌الله (١).

وما أفاده المحقق الأصفهاني في الجواب ـ من قبول تقدّم الانقسام بنحو الأوصاف على الانقسام بنحو المقارنات ، لكنّ المتَّبع هو الدليل وكيفية الأخذ في لسانه ـ غير رافع للشبهة بعد تقريبنا لها بما عرفت ، من أنّه لا مناص من أخذ الدليل للخصوصيّة بنحو الوصف ، لأنّ تقسيم المرأة بنحو الوصف مقدّم كما اعترف ، فإذا لحظ المرأة وهو ليس بمهملٍ ولا مطلق بل مقيِّد ، فلا محالة يكون قد أخذ عدم القرشية معها بنحو القيد ، ولا يبقى مجال لأنْ يأخذه بنحو المقارن في المرتبة المتأخرة مرةً اخرى.

فالحق أنّ الشبهة من حيث الكبرى تامة واردة.

لكنّ الجواب هو من حيث الصغرى ، لأنّا قد ذكرنا أنه وإنْ كانت القرشية وصفاً كما هو واضح ، لكنّ عدم القرشية ليس وصفاً بل هو مقارنٌ. فالشبهة مندفعة من هذه الجهة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٣٠.

٢٩٩

الوجه الثاني :

إن كلّ وصفٍ متأخّر وجوداً عن الموصوف ، لكون الموصوف في مرتبة العلّة للوصف والوصف قائم به قيام العرض بالمعروض. هذا من جهة. ومن جهةٍ اخرى : فإنّ عدم الوصف ووجوده في مرتبةٍ واحدة لأنهما متناقضان ، وكلّ متناقضين ففي مرتبةٍ واحدة.

والنتيجة : إن استصحاب عدم العرض والوصف قبل وجود الموضوع لما بعده أصل مثبت.

والجواب

أمّا المقدمة الأولى ، فلا كلام فيها ، كما هو واضح.

إنّما الكلام في المقدّمة الثّانية :

أمّا من حيث المبنى ، فبإنكار لزوم كون النقيضين في مرتبة واحدة ، لأنّ نقيض الشيء في كلّ وعاءٍ رفعه في ذلك الوعاء ، وهذه حقيقة التناقض ، وليس هو عدم الشيء في المرتبة ، إذ لا ضرورة لأنْ يكون الرفع في المرتبة بل المرتبة قيد المرفوع والمعدوم ، فهو ما يكون في المرتبة لا الرفع ، وعليه ، فإنّ نقيض القرشية في المرتبة بعد وجود المرأة هو رفع القرشيّة ، وليس هذا الرفع في المرتبة المتأخرة عن وجودها.

هذا هو الجواب الأوّل ، لكنّه مبنائي ، وتفصيل ذلك في بحث الترتب.

وأمّا من حيث البناء بعد تسليم ضرورة وحدة الرتبة بين النقيضين ، فيجاب عمّا ذكر : بأنّ الاختلاف في المرتبة يجتمع مع التقدّم في الزمان ، وذلك لأنّه ـ قبل أنْ توجد العلّة في الزّمان ـ كان الزمان ظرفاً لعدم العلّة والمعلول معاً ، مع أنّ عدم المعلول متأخّر رتبةً عن وجود العلّة ، فلا تلازم بين الاختلاف الرتبي والزماني ، بل المتأخّر رتبةً قد يتقدّم زماناً.

٣٠٠