تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

الظهور على حاله ... وهذا المطلب متفرّع على ما تقدّم من أنّ التخصيص بالمنفصل يوجب المجازيّة للعام أو لا ، فعلى الأوّل فالإجمال حقيقي ، وعلى الثاني حكمي ؛ أمّا على مسلك الشيخ ـ من عدم سقوط العام عن الحجية حتى بناءً على المجازيّة ـ فلا إجمال أصلاً.

ويبقى بيان اصطلاحٍ لهم في خصوص المخصص المتّصل وهو قولهم ، إنه يعطي عنواناً للعام ، فإنّ مرادهم من ذلك : إن المخصص المتّصل يؤثّر في انعقاد ظهور العام في غير ما دلّ عليه المخصص ، فلمّا يقول : أكرم كلّ عالمٍ عادل ، ينعقد له ظهورٌ في كلّ عالمٍ غير فاسق ، أمّا إذا كان المخصص منفصلاً ، فإنّ لا تكرم الفسّاق من العلماء يؤثر في أكرم كلّ عالمٍ من حيث الحجيّة ، ويتعنون المراد الجدّي بغير الخاص.

وعلى ما تقدّم نقول :

إن كان المخصص متّصلاً مردّداً بين المتباينين ، كما لو قال : أكرم العلماء إلاّ زيداً ، وتردّد بين ابن عمرو وابن بكر ، فإنّ العام يصير مجملاً وتسقط الإرادة الاستعمالية ، لأن المخصص المتّصل يمنع من انعقاد الظهور في العام ، كما تقدّم ، إذ الظّهور يأتي بالتدريج بحسب الدلالة التصورية ، أمّا بحسب الدلالة التصديقيّة فلا ينعقد إلاّ بعد تمام الكلام ، فكانت الإرادة الاستعمالية معلّقة على عدم القرينة المتصلة ، فإذا كانت مجملةً فلا ينعقد الظهور أصلاً ... وهذا الإجمال حقيقي ، إذ لا ندري ما ذا قال.

وإن كان المخصص متصلاً مردداً بين الأقل والأكثر ، كمثال الفسق المزبور سابقاً فكذلك ....

وتلخص : إن المخصص المتّصل المجمل مطلقاً يوجب الإجمال الحقيقي في العام.

٢٦١

وإنْ كان المخصص المجمل منفصلاً مردّداً بين المتباينين ، فإنّ الخاص يؤثّر في الدلالة التصديقية الجديّة للعام ، وهي مرتبة حجيّة الكلام ، فتسقط الحجيّة بالنسبة إلى مورد الترديد ، ويُعنون العام بغير الخاص من حيث الحجيّة ، ويصبح العام مجملاً إجمالاً حكمياً ... وبيان ذلك :

إن كلّ كلام يصدر من المتكلّم ، فإنه ما دام متكلّماً فله أن يلحق بكلامه ما شاء ، فإذا فرغ منه انعقد الظهور وكان حجةً يؤاخذ به ، وحينئذٍ ، لا يرفع اليد عن هذا الظهور ولا يسقط الكلام عن الحجيّة إلاّ بدليلٍ ، وقد تقرّر عندهم رفع اليد عن العامّ بالخاص ، فيكون مسقطاً للعام عن الحجيّة وإن كان ـ أي الخاص ـ مردداً ... إلاّ أنهم قد اختلفوا في وجه ذلك على قولين : فمنهم من قال : بأنّ الوجه هو أقوائية الخاص في الحجيّة من العام ، فيقدّم الأقوى. ومنهم من قال : بأنّ حجيّة العام في العموم كانت معلَّقةً على عدم قيام قرينةٍ معيّنةٍ للمراد الجدّي منه ، فحجيّة أصالة العموم بالنسبة إلى الإرادة الجدّية معلّقة على عدم المخصّص ، والقرينة المعلَّق عليها مقدّمة دائماً على المعلَّق.

نعم ، هنا بحث آخر ، وهو أنه لمّا كان الخاص مردّداً بين المتباينين ، فإنّ العام يسقط عن الحجية بالنسبة إلى طرفي الاستعمال ، فلا يمكن التمسّك به لا لزيد بن عمرو ولا لزيد بن بكر ، للعلم الإجمالي بسقوطه بالنسبة إلى أحدهما ، ومقتضاه خروج كليهما من تحته حكماً ، ولكنْ هل خروجهما عنه بسبب قصور أصالة العموم لهما اقتضاءً ، أو أن العام يشملهما لكنّ العلم الإجمالي يوجب سقوط الاصول العمليّة بالنسبة إليهما على أثر المعارضة؟

وعلى كلّ حالٍ ، فإنه مع وجود العلم الإجمالي يسقط العام عن الحجيّة ، ولا يمكن التمسّك بالاستصحاب لإبقاء وجوب إكرام هذا أو ذاك ... للزوم

٢٦٢

المخالفة العملية للدليل المخصّص الناهي بالفرض عن إكرام زيد ، فلا بدّ ـ في فرض تردّده بين اثنين ـ من ترك إكرامهما معاً ... وهذا ما عليه المشهور وإنْ مال المحقّق اليزدي (١) إلى جواز التمسّك بالاستصحاب في أحد الطّرفين وعدم سقوط. أصالة العموم عن الحجيّة إلاّ بقدر الضرورة ، ولزوم المخالفة الاحتمالية غير مضرّ ، فيكون الواجب إكرام أحد الزيدين والمكلّف مخيّر في إكرام أيّهما شاء ....

ولعلّ السرّ فيما ذهب إليه المشهور هو : إن الحجّة في المقام عبارة عن أصالة العموم ، ومن الواضح أن الحجيّة هي الكاشفيّة عن المراد الجدّي نوعاً عند العقلاء ، ولذا كان مبنى الحجيّة والكاشفيّة عن الإرادة الجدّية بناء العقلاء ـ بخلاف الإرادة الاستعمالية ، فإن الكاشفيّة فيها عن طريق الوضع ـ والأصل في هذا البناء هو التطابق بين الإرادتين ، لكنّ هذه الكاشفية في العام ماداميّة ، وبمجرّد وصول المخصّص المنفصل المردّد بين المتباينين تسقط الكاشفيّة بالنسبة إلى كلا الزيدين معاً ـ وإن كان أحدهما باقياً تحت العام واقعاً ـ لكونها معلّقة من أوّل الأمر على عدم مجيء ما يزاحمها ، فإذا جاء المخصص سقط الكشف والحجة عن الإرادة الجديّة وأصبح الكلام مجملاً ، فلا يجوز التمسّك بالعام ، وإذا سقط عن الحجيّة جاء دور جريان الأصل العملي ، وقد تقرّر سقوط الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي ، إمّا لعدم المقتضي وامّا للتعارض.

وتبقى شبهة السيّد البروجردي (٢) من أن العامّ بالنسبة إلى الأحد المردّد حجّة.

__________________

(١) درر الفوائد (١ ـ ٢) ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٢) نهاية الاصول : ٢٩٢.

٢٦٣

لكنْ يدفعها : أن الأحد المردّد لا ماهيّة له ولا وجود ، فيستحيل أن يكون موضوعاً للحجيّة ... وكأنه قد أخذ ذلك من صاحب (الكفاية) في حجيّة أدلّة اعتبار خبر الثقة بالنسبة إلى أحد الخبرين المتعارضين ... لكن صاحب (الكفاية) أيضاً يقول في المقام بإجمال العام.

وإن كان المخصّص المجمل المنفصل مردّداً بين الأقل والأكثر كما في مثال أكرم كلّ عالم ثم قوله : لا تكرم الفساق من العلماء ، وتردّد الفسق ، فقد ذكروا أنّه لا يسري الإجمال من المخصّص إلى العام ، فلا يكون مجملاً لا حقيقةً ولا حكماً ، بل القدر المتيقن ـ وهو مرتكب الكبيرة ـ يخرج ويبقى الزائد عنه وهو مرتكب الصغيرة تحت العام. وتوضيح المقام هو أنه :

تارةً : نقول بأنْ شمول العام للانقسامات يتمّ بالوضع لا بمقدّمات الحكمة ، واخرى : نقول باحتياجه إلى إجراء المقدّمات في مدخول «كل». وعلى الثاني ـ فإنّه لمّا كان عدم القرينة من المقدّمات ـ فهل يلزم عدم مجيء القرينة إلى الأبد أو يكفي عدمها في مجلس التخاطب؟ قولان.

فإنْ قلنا : بأن الشمول يحتاج إلى المقدّمات وأنّ انعقاد الإطلاق موقوف على عدم القرينة إلى الأبد ، ففي المسألة إشكال ، لأنّ الخاصّ المجمل قرينة ، وانعقاد الإطلاق يتوقف على عدمها إلى الأبد كما هو الفرض ، فمقتضى القاعدة إجمال العام.

وإنْ قلنا ـ كما هو الصحيح ـ بأنّه يتوقف على عدمها في مجلس التخاطب ، فإنه إذا فقد تمّ الظهور الإطلاقي ، ويكون المخصّص مزاحماً لحجيّة المطلق لا ظهوره ، فلو تردّد بين الأقل والأكثر ـ كما هو الفرض ـ زاحمه في القدر المتيقن ، وأمّا الزائد عنه ، فشموله له مشكوك فيه ـ ولا يقاس بصورة المتباينين ، لوجود

٢٦٤

العلم الإجمالي هناك ـ وهو شك بدوي ، أمّا العام فشامل له ظهوراً وحجيةً ، فكان الواجب إكرام مرتكب الصغيرة تمسّكاً بالعام.

وإنْ قلنا : إن شمول العام بالوضع ، فالمخصص المجمل المردّد بين الأقل والأكثر غير مزاحم لظهور دلالته الوضعيّة ... كما هو واضح.

وهذا هو الوجه الأول للتمسّك بالعام في هذه الصّورة.

الوجه الثاني : لا ريب أن الأصل اللّفظي أقوى من الأصل العملي ـ لأنّ اللّفظ يكشف عن المراد الجدّي وهو حجة على الواقع ، وليس للأصل العملي جهة الكشف بل هو معذّر ومنجّز فحسب ، وأيضاً ، فإنْ الأصل العملي قد أخذ في موضوعه الشكّ ، بخلاف الأصل اللّفظي فإنه يرفض الشك ويرفعه ـ ولا ريب أيضاً في جريان الأصل العملي وهو الاستصحاب في مرتكب الصغيرة عند تردّد المخصّص بين الأقل والأكثر ، فيكون الأصل اللّفظي جارياً فيه بالأولويّة لما تقدم.

الكلام حول الوجه الأول

هذا ، وقد أورد على الوجه الأول : قولكم : المخصّص مجمل لا يقبل المزاحمة مع العام. نقول : المزاحمة حاصلة ، لأن الخاص وإنْ لم يزاحم العام في الدلالة الاستعمالية إلاّ أنه يقيّد المراد الجدّي منه ، لأنه ليس بمهملٍ ولا مطلق ، وإذا تقيّد العام بغير الفاسق ـ بأي معنىً كان الفاسق ـ احتمل أن يكون مرتكب الصغيرة أيضاً فاسقاً ، فكان انطباق الخاصّ والعام كليهما عليه على حدٍّ سواء ، وهذا هو الإجمال.

وأتقن ما اجيب به عنه هو ما ذكره الميرزا من : أنّ العام قد تقيّد وتعنون بغير الفاسق ، فإنْ كان المراد تقيّده بمفهوم «غير الفاسق» بما هو مفهوم فالإشكال وارد ، لكون مفهوم الفاسق مجملاً ، لكنّ العام تقيّد بمفهوم غير الفاسق بما هو فانٍ

٢٦٥

في المعنون وحاكٍ عن المصداق ، ولمّا كان المفروض هو الشك في مِصداقية مرتكب الصغيرة لعنوان غير الفاسق ، فالخاص غير منطبق عليه ، فيكون تقيّد العام مشكوكاً فيه ، فهو باق بالنسبة إليه على حجيّته.

وقد أورد الأُستاذ ـ في الدورتين ـ على الميرزا بالنقض بما ذهب إليه فقهاً واصولاً من ترتيب الأثر على العنوان ، كما في مسألة الفحص عن المخصّص ، فلو علم إجمالاً بورود المخصّصات على العام ، فعثر على تسعةٍ منها ، قال بانحلال العلم وإنْ احتمل وجود العاشر ، لكنّه لا يقول بهذا في الأخبار المخرجة في الكتب الأربعة ، إذا كان موضوع العلم الإجمالي متعنوناً بعنوان «ما في الكتب الأربعة» بل عليه الفحص ... وكما في مسألة ما لو كان مديناً لزيدٍ وشك في أنه تسعة دنانير أو عشرة ، فلا يجب عليه العشرة إلاّ إذا كان الموضوع «ما هو مكتوبٌ في الدفتر» ، فإنّه لو تردّد بين الأقل والأكثر وجب أن يدفع الأكثر المسجّل في الدفتر.

وعلى الجملة ، فإنه قد رتّب الأثر على العنوان ، مع كونه فانياً في المعنون حاكياً عن المصداق ، فلم يأخذ في تلك الموارد بالقدر المتيقن بل تعامل معها معاملة المتباينين ... ومن الواضح منافاة ذلك لما ذهب إليه في بحثنا في مفهوم الفسق ....

وتلخّص : إنه بناءً على ما ذهب إليه الميرزا في الموارد الاخرى ، يكون المجمل مؤثراً في العام ، فهذا النقض وارد عليه.

لكنّ التحقيق في الحلّ هو ما تقدّم : من أنّ العناوين المأخوذة في الأدلّة تنظر بما هي فانية في الخارج لا بما هي مفاهيم ذهنية ، فصحيحٌ أن الخارج لا يرى إلاّ بالصّورة الذهنية وأنّه ظرف سقوط الحكم لا ثبوته ، وهاتان النكتتان توجبان توجّه الحكم إلى العنوان ، لكنّ قوله : «لا تكرم الفساق من العلماء» ناظرٌ إلى

٢٦٦

الوجود الخارجي ، وليس هنا إلاّ القسمان ، فأمّا مرتكب الكبيرة فخارج من تحت العام يقيناً ، لكن مرآتية عنوان «الفاسق» لمرتكب الصغيرة مشكوك فيها ، فكان العام بالنظر إلى الواقع الخارجي مقيّداً بغير مرتكب الكبيرة فقط وباقياً على حجيّته بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة.

وبعبارة اخرى : إن المخصّص إنما يمانع العام في الحجيّة فيما إذا كان في نفسه حجةً ، وإلاّ فلا اقتضاء فيه ، فكيف يكون في مرحلة المانعية عن انعقاد ظهور العام في الحجيّة؟

إن المفروض هو الشكُّ في حجية المخصص بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، فكيف يكون مسقطاً للعام في دلالته على وجوب إكرامه بالعموم؟

فالإشكال في الوجه الأول مندفع.

لكنْ تبقى شبهة ـ طرحها الأُستاذ في الدورتين ـ وحاصلها : إن الكاشف عن الإرادة الجديّة هي السيرة العقلائيّة ، وكأنّ العقلاء في مثل المقام يتوقّفون! نظير ما لو قال : اشتر لي قطعةً من السجّاد ، ثم قال : لا تشتر السجّاد من صنائع كرمان ، فشكّ في أنه يمنع من خصوص السجّاد المصنوع في داخل البلد أو الأعمّ منه ومن المصنوع في حواليه من القرى والأرياف؟ فالظاهر : أنه يتوقّف عن الشراء مطلقاً حتى يستوضحه عن المراد؟

إذن ، فإن مقتضى القاعدة هو الاحتياط والتوقّف ، لا الأخذ بالعام في الزائد على القدر المتيقن ... خلافاً للمشهور.

الجهة الثانية (في الشبهة المصداقية)

إذا ورد عام مثل أكرم العلماء ثم قال لا تكرم الفساق من العلماء ، ووقع الشكّ في كون زيد العالم عادلاً أو لا ، فهل يجوز التمسّك بالعام للقول بوجوب

٢٦٧

إكرام زيد؟ قولان ، وهناك قول بالتفصيل بين الدليل اللّفظي واللبّي.

أمّا إذا كان المخصّص متّصلاً ، فلا خلاف بينهم في عدم جواز التمسّك ، فالخلاف في خصوص المنفصل.

فإن كان المخصّص لفظياً والقضيّة حقيقيّة ، فالحق عدم جواز التمسّك وذلك :

دليل عدم الجواز

لأنّ القضايا مطلقاً ـ سواء كانت خارجية أو حقيقية ـ متكفّلة لثبوت المحمول للموضوع لا أكثر ، لأن مرتبة المحمول متأخرة عن مرتبة الموضوع ، وما يتكفّل المتأخر لا يتكفّل المتقدّم في الرتبة ، فقوله : الخمر حرام متكفّل لحرمة الخمر فقط ، وكذا : الصّلاة واجبة ، والبيع حلال وهكذا. فهذه مقدمة.

ومقدّمة اخرى : إنّ شأن المخصص إخراج العام عن العموم ، فإذا جاء لا يبقى العام على عمومه ، وإنْ وقع الخلاف بينهم في تعنون العام بنقيض الخاص وعدمه ـ كما تقدّم ـ إذ يكون العام على القول الأول محدوداً بمن ليس بفاسق ، وعلى القول الثاني بالأفراد التي هي ضد الخاص.

وبعد المقدّمتين ، فإنّه مع مجيء الخاص ، يكون الموضوع للعام هو العالم غير الفاسق أو العالم الذي هو ضد الفاسق ، فإذا تحدّد الموضوع وأصبح عنوان الخاص جزءاً عقلياً لموضوع العام ، بمقتضى المقدمة الثانية ، فإنّ هذه القضية وهي أكرم العالم غير الفاسق لا يمكن أنْ تثبت الموضوع وتحرزه ، كما تقدم في المقدمة الأولى ؛ فلو أردنا التمسّك بالعام لرفع الشك في حال زيد العالم ووجوب إكرامه ، كان من التمسّك بالدليل في موضوع نفس الدليل بحسب حجيّته ، وقد عرفت أنّه محال.

٢٦٨

دليل الجواز

وقد اقيمت وجوه لجواز التمسّك :

الوجه الأول : قاعدة المقتضي والمانع ، والأصل فيها هو المحقّق الشيخ هادي الطهراني وملخّص ذلك : إنه كلّما علم بالمقتضي وشك في المانع فالأصل عدمه ، والعام وزانه وزان المقتضي ووزان الخاص وزان المانع ، فمن علم بكونه من العلماء وشك في عدالته وفسقه فهو من أفراد العام وحكمه وجوب الإكرام ، ولا يصلح المخصص للمانعيّة للشك في كونه فاسقاً.

وفيه :

أمّا من الناحية الكبروية ، فسيأتي البحث عن هذه القاعدة في مباحث الاستصحاب ، وملخّص المقال هو : إنّ المفروض وجود احتمال الفسق والعصيان أي المانع عن المقتضي ، فإنْ كان الرافع له هو الأصل وليس إلاّ استصحاب العدم فهو أصل مثبت ، نظير ما إذا صبّ الماء على اليد وشك في وجود الحائل المانع ، فإن أصالة عدم الحائل بالنسبة إلى تحقق الغسل أصل مثبت. وإنْ كان الرافع له هو الدليل ، فلا دليل لا شرعي ولا عقلي ، وإنْ كان الرافع هو السيرة العقلائية ، فلا ريب في أنه ليس من سيرتهم البناء على عدم المانع مع العلم بثبوت المقتضي وشموله للمورد.

وتلخّص : عدم تمامية القاعدة المزبورة.

وأمّا من الناحية الصغرويّة ، فقد أشكل الميرزا (١) بأن عنوان المخصص لا ينحصر في كونه من قبيل المانع ، بل ربما يكون من قبيل الشرط أو الجزء كما في قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلاّ بطهور» (٢) أو «بفاتحة الكتاب» (٣). فلا تكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٢٢.

(٢) وسائل الشيعة ١ / ٣١٥ ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، رقم : ١.

(٣) مستدرك الوسائل ٤ / ١٥٨ ، الباب ١ وجوب قراءة الفاتحة ، رقم : ٥.

٢٦٩

القاعدة دليلاً على جواز التمسّك في جميع الموارد ، فالدليل أخصّ من المدّعى.

واجيب في التعليقة : بأنّ مثل هذا التركيب خارج عمّا نحن فيه ، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو ما إذا ورد حكم تكليفي أو وضعي على عام قد خرج عنه بعض مصاديقه ، ومن الواضح أنه ليس الأمر في التراكيب المزبورة كذلك ، لأنّ ظاهر «لا صلاة إلاّ بطهور» عرفاً هو عدم تحقّق الصّلاة شرعاً أو عقلاً إلاّ عند اقترانها بالطهارة ... فالنقض به غير وارد.

وفيه : إنه ليس محلّ الكلام خصوص ما ذكره ، بل يمكن أن يكون المخصّص عنواناً وجودياً وليس من قبيل «لا صلاة إلا بطهور» ، كما لو قال : أكرم كلّ عالم ثم قال : يجب إكرام العلماء العدول ... فما ذكره الميرزا من أخصيّة الدليل من المدّعى تام.

وتلخص : سقوط الدليل من حيث الكبرى والصغرى.

الوجه الثاني : إن تماميّة الحجة من قبل المولى موقوفة على إحراز الكبرى والصغرى معاً ، فما لم يحرزا لم تتم ، وفي المقام وإنْ كانت الحجيّة تامة من ناحية العام من حيث الكبرى والصغرى ، إلاّ أنها غير تامة من ناحية الخاص من حيث الصغرى ، ولذا يكون العام حجةً بالنسبة إلى الصغرى المردّدة ولا يزاحمه الخاص فيها ... ففي المثال المعروف نرى انطباق «أكرم كلّ عالم» على زيد العالم المشكوك في عدالته ، لأنّ المفروض إحراز العالميّة فيه ، فالعام بعمومه شاملٌ له ، فالحجة على وجوب إكرامه تامّة ، لكنّ انطباق الخاص : «لا تكرم العالم الفاسق» عليه غير تامٍّ لعدم إحراز كونه فاسقاً ، فلا حجيّة له بالنسبة إليه ، وما ليس بحجّةٍ لا يزاحم الحجّة وهو العام المفروض شموله له.

أجاب في (الكفاية): بأنّه في غاية الفساد. (قال) : فإنّ الخاص وإنْ لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً ، إلاّ أنه يوجب اختصاص حجيّة العام في غير

٢٧٠

عنوانه من الأفراد ، فيكون أكرم العلماء دليلاً وحجةً في العالم غير الفاسق ، فالمصداق المشتبه وإنْ كان مصداقاً للعام بلا كلام ، إلاّ أنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة ، لاختصاص حجيته بغير الفاسق (١).

وتوضيح ذلك هو : أنّ للعام ظهوراً وحجيّةً ـ أي كاشفيّةً عن المراد الجدّي ـ فالفرد المشتبه وإنْ أحرز كونه عالماً وأنّ العام يشمله بظهوره ، لكنّ إحراز حجيّته بالنسبة إلى هذا الفرد أوّل الكلام ، ومن الواضح ترتب الأثر على الحجيّة لا الظهور. فما أحرز ليس بموضوعٍ للأثر ، وما هو موضوع الأثر فلم يحرز ، فكيف يتمسّك بالعام؟

وأمّا الخاصّ ، فإنّه لا يمكنه تعيين الفرد ، لما تقدّم من أنّ الدّليل لا يتكفّل الموضوع.

ثم إنه قد يقوّى الاستدلال بما ذكره الشيخ رحمه‌الله من إجراء البراءة في الشبهات الموضوعيّة حيث قال : إن قوله «لا تشرب الخمر» لا يكون حجةً إلاّ على من ثبت عنده الكبرى والصغرى معاً وضمّ إحداهما إلى الاخرى ، ومع الشك في أنّ هذا المائع خمرٌ أو لا؟ فالصغرى غير محرزة ، فهي مجرى البراءة دون قاعدة الاشتغال.

فقال السيد البروجردي : بأنَّ الكبرى حجّة بنفسها في مقام تشخيص الحكم الشرعيّ الكلّي ، ولا نحتاج في ذلك إلى وجود الموضوع خارجاً. نعم ، حجّيتها بالنسبة إلى الخارجيات لا تتصوّر إلاّ بعد تشخيص الصغرى ، فههنا مقامان : مقام حجيّة العام بنفسه ومقام حجيّته بالنسبة إلى الخارجيات ، والمحتاج إلى الصغرى هو الثاني دون الأوّل ، فقول المولى أكرم العلماء ـ مثلاً ـ حجّة على

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢١.

٢٧١

العبد ويجب عليه الفحص عن الموضوع أو عن حاله (قال) ولذلك بعينه نستشكل على ما ذكره الشيخ لإجراء البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية ، فإن الظاهر عدم جريانها فيها ، نعم ، يجري فيها البراءة الشرعية (١).

فأورد عليه الشيخ الأُستاذ : بأنه إذا كانت العقليّة غير جارية ، فكذلك الشرعيّة ، لأن موضوعها الحكم الذي لا يعلم ، إذ القابل للوضع والرفع إنما هو الحكم ، فإذا لم يعلم به ، فكيف يصحُّ القول بتماميّة البيان بالنسبة إليه؟ فالتفكيك بين البراءة العقلية والشرعية غير صحيح.

لكنّ مراد الشيخ قدس‌سره هو : إن الأحكام جميعاً بنحو القضايا الحقيقيّة ، فهي تنحلُّ إلى أحكامٍ بعدد الموضوعات ، وتَتعدَّد الإطاعات والمعاصي ، فالحكم في كلّ شبهةٍ موضوعية مجهول ، ولا يدلّ عليه الحكم الكلّي ، ومع الجهل به تجري البراءة العقلية والشرعية كلاهما.

الوجه الثالث : إن العام ظاهرٌ في الشمول بالنسبة إلى أفراده ، وله ظهورٌ إطلاقي بالنسبة أحوال تلك الأفراد ، فلما قال «أكرم كلّ عالم» أفاد وجوب إكرام جميع مصاديق العالم ، وعلى جميع أحوالهم من الفسق والعدالة وغيرهما ... فإذا جاء : «لا تكرم الفساق من العلماء» كان دليلاً على خروج من علم بفسقه ، فيكون من شك في ذلك منهم باقياً تحت العام.

وقد اجيب عن ذلك : بأنّ الحكم في المطلق يختلف عنه في العام ، ففي العام يجيء الحكم على كلّ أفراده ، أمّا في المطلق فإنه يجيء على الطبيعة ولا نظر له إلى أفرادها ، فلو شك في انطباق الحكم المطلق على فردٍ لم يجز التمسّك فيه بالإطلاق.

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٩٤.

٢٧٢

فقال الأُستاذ : هذا صحيحٌ ، لأن حقيقة الإطلاق رفض القيود لا جمعها ، لكنّ الفرق المذكور لا أثر له في النتيجة ، فلا فرق ـ في الدلالة على خروج الحصّة ـ بين المخصّص والمقيِّد ، فكما يخرج المخصص الفسّاق كذلك يخرج المقيِّد الرقبة الكافرة ... فلو شك في التقييد الزائد كان كالشك في التخصيص الزائد ، وكما يتمسّك بالعام في الفرد المشكوك في خروجه ، يتمسّك بالمطلق في الحال المشكوك في خروجه.

بل الحق في الجواب أنْ يقال : إن الإطلاق الأحوالي فرعٌ للعموم الأفرادي ، فما لم يحرز فرديّة الفرد للعام لم تصل النوبة إلى الأخذ بإطلاقه الأحوالي ، وإذا سقط العموم الأفرادي بالنسبة إلى الفرد المشكوك في فرديّته ، فلا يعقل بقاء الإطلاق الأحوالي فيه ، لعدم الموضوع.

وهذا تمام الكلام في التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية إنْ كان المخصص لفظياً.

التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيّاً

تفصيل الشيخ والكفاية

وذهب الشيخ ـ وتبعه صاحب (الكفاية) (١) ـ إلى جواز التمسّك به إن كان المخصص لبيّاً ، مثلاً : إذا قال المولى «أكرم جيراني» وقام الإجماع أو حكم العقل مثلاً على عدم جواز إكرام عدوّه ، ثم شك في كون زيد عدوّاً له فلا يجوز إكرامه أو لا فيجب ، ففي هذه الحالة لا بدّ من إكرامه. ويتلخّص كلامه قدس‌سره واستدلاله في نقاط :

(١) إن المفروض قيام الحجة من قبل المولى على وجوب إكرام جيرانه

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٤ ، كفاية الاصول : ٢٢٢.

٢٧٣

على وجه العموم ، وهذه الحجة واحدة ولم يصدر عنه أيّ كلامٍ آخر ، ولا يجوز رفع اليد عن الحجة إلاّ بالمقدار المقطوع بخروجه ، وأمّا في المشكوك فيه فهو باق على حجيّته ....

(٢) جواز مؤاخذته على ترك إكرام من شك في عداوته من الجيران.

(٣) قيام السيرة العقلائية في أمثال المقام على التمسّك بالعام.

ثم أضاف رحمه‌الله : أن من الممكن أن يقال : بأنّ التمسّك بالعام مع المخصّص اللّبي يوجب ارتفاع الشك عن الفرد المشكوك فيه للخاص ، ولذا جاز لعن بني امية قاطبةً ـ مع احتمال أن يكون فيهم مؤمن ، والمؤمن لا يجوز لعنه ـ لأنّ هذا العام الوارد يدفع احتمال وجود المؤمن فيهم ، فلو اشتبه حال واحدٍ منهم من حيث الإيمان وعدمه حكم بعدم إيمانه بمقتضى العام.

النظر في كلام الكفاية

وقد نوقشت النقاط المذكورة. أمّا الأولى : فبأنّه صحيح أنْ لم يرد خطاب آخر من المولى ، لكنَّ المهم هو قيام الحجّة ، فكما أنّ الصّادر منه حجّة كذلك الإجماع حجّة ـ كما هو المفروض ـ وحكم العقل حجّة ، والسّيرة العقلائيّة الممضاة حجّة. فما ذكره من أن العام حجّة واحدة ولم يصدر من المولى شيء آخر ، غير صحيح.

وأمّا الثانية : فدعوى صحة المؤاخذة أوّل الكلام ، بل بالعكس ، لأنّه قد انكشف بحكم العقل أو الإجماع كون العام مقيداً بغير العدوّ ، فلم تقم الحجّة على الفرد المردّد حتى يصحّ المؤاخذة على الترك ، لأن صحّة المؤاخذة فرع قيام الحجّة ، كما هو واضح.

وأمّا الثالثة فكذلك ... بل الصّحيح أنّ السّيرة العقلائيّة قائمة على التوقّف في مثل المقام.

٢٧٤

تفصيل الميرزا

وقال الميرزا رحمه‌الله (١) : بأنّ الدليل اللّبي المخصّص للعام تارةً : يفيد ثبوت قيدٍ للموضوع. واخرى : يفيد الملاك في العام. وثالثة : يشكُّ في أنّ المستكشف بالمخصص اللّبي هو قيد الموضوع في العام أو الملاك للحكم فيه.

فإن كان من قبيل الأوّل ، كما لو قام الإجماع على تقيّد «الرجل» وهو الموضوع في «انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونَظَر في حلالنا وحرامنا» (٢) وعَرَفَ أحكامنا بالعدالة ، ففي الفرد المردّد منه يسقط العام عن الحجيّة ، لأنّ حجيّته موقوفة على إحراز الكبرى والصغرى معاً ، والمفروض عدم إحراز الصغرى في المثال.

وإنْ كان من قبيل الثاني ، كما في «اللهم العن بني اميّة قاطبةً» ، فإنّه قد علم بالأدلّة أنّ الملاك لهذا اللّعن هو بغضهم للنبي وآله ، لا أنّ هذه الصفة قيدٌ للموضوع ، لأنّه وإنْ كان الحكم يدور مدار الملاك ، إلاّ أنه لا يقيّد الحكم في مقام التشريع ، فالصّلاة واجبةٌ ـ لا بقيد النّاهية عن الفحشاء والمنكر ، وإنْ كانت هذه الحيثية ملاكاً لها وهي تدور مدارها قبل صدور الحكم ـ ففي الفرد المردّد في هذه الصورة يتمسّك بالعام ، لما تقدّم من أن تلك الصفة ليست قيداً للموضوع حتى تكون شبهةً مصداقيةً أو مفهوميّة ، وليس من وظيفة المكلّف الفحص عن وجود الملاك وعدم وجوده ، بل عليه الرجوع إلى الحكم الصادر من المولى ، والمفروض شموله للفرد المردّد بعمومه.

وإنْ كان من قبيل الثالث ، أي : وقع الشك في أن المستكشف بالمخصّص اللّبي قيد للموضوع حتى لا يتمسّك بالعام ، أو أنه ملاك لجعل الحكم فيتمسّك به ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٤٣.

(٢) غوالي اللئالي ٣ / ١٩٢ ، باب الجهاد.

٢٧٥

ففيه تفصيل ... لأنّ ذلك المخصص اللّبي قد يكون كالمخصّص اللّفظي المتّصل ، كما لو كان حكماً عقلياً ضروريّاً ، وحينئذٍ يكون العام بالنسبة إلى الفرد المردّد مجملاً ، إذ يحتمل فيه الوجهان ، لاحتفافه بما يحتمل القرينيّة. وقد يكون كالمخصّص اللّفظي المنفصل ، كما لو كان حكماً عقليّاً نظريّاً ، فالظهور للعام منعقد ويصحُّ التمسّك به ، ووجه انعقاد الظهور هو الشك في تقيّده ـ على أثر الشكّ في أنّ الخصوصيّة المستكشفة قيد أو ملاك ـ وكلّما شك في تقيّد العام فالأصل هو العدم ، فالظهور منعقد ويجوز التمسّك به.

إشكال الأُستاذ

قال الأُستاذ : بأنّ البيان المذكور لتفصيل الميرزا سالمٌ من أيّ إشكالٍ ، والكبرى التي ذكرها في التفصيل بين ما إذا كانت الخصوصيّة قيداً للموضوع أو ملاكاً للحكم في غاية المتانة ....

لكنّ الإشكال في التطبيق في الصورة الثانية ، لأنه قد ذكر أنّ بغض النبيّ وآله هو الملاك للعن بني اميّة قاطبة ، والحال أنّ البغض هذا من انقسامات الموضوع ، فكما أن الإيمان والكفر من انقسامات الرقبة ، كذلك البغض وعدمه من انقسامات بني امية ، فيكون من قبيل قيد الموضوع لا من قبيل الملاك للحكم ، وكذلك الحال في «العداوة» المخصَّصة بالدليل اللّبي من «أكرم كلّ جيراني» ، فإنّ الجيران ينقسم إلى العدوّ وغير العدو.

وأيضاً : يرد على الميرزا وقوع الخلط في كلامه بين العلّة في مقام الثبوت وفي مقام الإثبات. لأنّ البغض أصبح هو العلّة للّعن ، فهو الموضوع ، ويكون بنو اميّة أحد المصاديق ... كما في لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، حيث الحكم مجعولٌ للمسكر وهو الموضوع ، وقد ذكر الخمر بياناً للصغرى ... وهذا مقتضى مقام الإثبات. أمّا في مقام الثبوت ، فالحكم المذكور تابعٌ للمصالح والمفاسد كما

٢٧٦

هو واضح ... وبهذا البيان يظهر أنّ البغض في المثال قيدٌ للموضوع وليس بملاكٍ ... والمعنى : اللهم العن بني امية قاطبةً لأنهم مبغضون للنبي وآله عليهم الصلاة والسّلام ، فكان ذلك هو الموضوع للحكم ، لأنّ كلّ علّةٍ فهي موضوع أو جزء للموضوع.

وعلى الجملة ، فالإشكال على الميرزا صغروي فقط.

تفصيل المحاضرات

وهو التفصيل بين القضية الحقيقيّة والخارجية.

وبيان ذلك هو : إن الميرزا رحمه‌الله قال بعدم جواز التمسّك بالعام عند الشك من جهة الشبهة الخارجيّة ، سواء في ذلك القضيّة الحقيقية والخارجيّة ، فقال : أمّا الحقيقية ، فلما عرفت من أن شأن أداة العموم فيها إنما هو تسرية الحكم إلى كلّ قسمٍ من الأقسام التي يمكن انقسام مدخول الأداة بالإضافة إليها ... وأمّا القضية الخارجية ، فلأنّ غاية ما يمكن أن يتمسّك به لجواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية فيها ، هو أنّ المتكلّم في موارد القضايا الخارجية هو الذي تكفّل بإحراز انطباق عنوان العام على المصاديق الخارجيّة ، فيكون ظهور كلامه متّبعاً في غير ما علم خروجه من حكم العام بالعلم بدخوله في عنوان الخاص. لكنه يندفع : بأنّا لا نشك في أنّ نحو استعمال العام في القضايا الخارجيّة لا يباين نحوه في القضايا الحقيقيّة في أن عنوان العام إنما يؤخذ في موضوع الحكم في مقام الإثبات مرآةً إلى أفراده الخارجيّة أو المقدّرة ... (١).

لكنّ السيد الخوئي في (المحاضرات) (٢) ذهب إلى التفصيل فقال : إذا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣١٩ ـ ٣٢١.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٣٥٨.

٢٧٧

كانت القضايا من قبيل القضايا الخارجية ، فإنْ كان المخصّص لفظيّاً ، لم يجز التمسّك بالعام في موارد الشبهات المصداقية ، حيث أن المخصص اللّفظي يكون قرينةً على أنّ المولى أوكل إحراز موضوع حكمه في الخارج إلى نفس المكلّف ، وبما أن موضوعه صار مقيّداً بقيدٍ بمقتضى التخصيص ، فبطبيعة الحال إذا شك في تحقّق قيده في الخارج لم يمكن التمسّك بالعموم ، لفرض عدم كونه ناظراً إلى وجوده أو عدم وجوده. وأمّا إذا كان المخصّص لبيّاً :

فإنْ علم من الخارج أن المولى أوكل إحراز موضوع العام إلى نفس المكلّف ، فحاله حال المخصّص اللّفظي ، كما إذا ورد في دليلٍ «أعط لكلّ طالب علم في النجف الأشرف كذا وكذا ديناراً» وعلم من الخارج أن مراده هو المعيل دون المجرّد ، ولازم ذلك بطبيعة الحال هو العلم بتقيّد موضوع العام بعدم كونه مجرّداً ، فإذا شك في طالب علمٍ أنه معيل أو مجرّد لم يتمسّك بالعام.

وإنْ لم يعلم من الخارج ذلك ، صحّ التمسّك بالعموم في موارد الشبهة المصداقيّة ، لأن ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن أنه بنفسه أحرز انطباق موضوع حكمه على جميع أفراده ولم يكل ذلك إلى المكلّف ، وهذا الظهور حجة على المكلف في موارد الشك ... ومن هذا القبيل «لعن الله بني اميّة قاطبة». فإن هذه القضية بما أنها قضية خارجية صادرة من الإمام من دون قرينة على إيكال إحراز الموضوع فيها في الخارج إلى نظر المكلّف ، فبطبيعة الحال تدلّ على أنّ المتكلّم لاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز أنه لا مؤمن بينهم ، وعليه ، فإنْ علمنا من الخارج أن فيهم مؤمناً فهو خارج عن عمومه ، ومع الشك فلا مانع من التمسّك بعمومه لإثبات جواز لعنه ، ويستكشف منه بدليل الإنّ أنه ليس بمؤمن.

٢٧٨

موافقة الأُستاذ مع تكميلٍ له

وأفاد الأُستاذ دام بقاه : أنّ مجرّد الفرق بين القضيتين ـ بأنّه في الحقيقيّة جُعل إحراز الموضوع إلى نظر المكلّف ، بخلاف الخارجية حيث أن المولى قد أحرز وجوده ـ غير كافٍ ، بل الظاهر ضرورة وجود قرينة حاليّة أو مقاليّة ـ علاوةً على كون القضيّة خارجيّة ـ للدلالة على عدم إيكال إحراز الموضوع إلى نظر المكلّف ، مثلاً : إذا قال المولى : «أكرم من في المدرسة» كان الموضوع هو «من في المدرسة» لكنّه لا يتكفَّل وجود زيدٍ فيها ، بل الفحص عن هذا بعهدة المكلّف ... فإذا علمنا بدليلٍ لبّي عدم إكرام من كان عدوّاً له ، تقيّد الموضوع بعدمها ، ولكنّ إحراز هذا الموضوع يرجع إلى المكلّف ، لأنّ غاية ما يقال هو : إن المفروض كون القضيّة خارجية ، فلا بدّ وأن المولى قد أحرز أنْ ليس بين في المدرسة عدوٌّ له ، فلذا أمر بإكرام من فيها ... لكنّ المشكلة هي أنّ العداوة من انقسامات هذا الموضوع بالضرورة ، وأنّه قد تقيّد لا محالة بالدليل اللبّي ، ومع الشك فالقيد غير محرز ، فالتمسّك بالعام حينئذٍ مشكل.

إذنْ ، لا بدّ من قيام قرينةٍ على إحراز المولى الموضوع وتطبيقه بكلّ قيوده ، ولا يكفي مجرّد كون القضية خارجيةً وعدم قيام القرينة على إيكال الإحراز إلى نظر المكلّف.

ولا أقل من الشك في قيام السيرة العقلائية بالتمسّك بالعام في مثل المورد الذي ذكره المفصّل ... إذن ، لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن وهو ما ذكرناه.

الكلام في مقتضى الأصل العملي

وبعد سقوط العام عن الحجيّة فيما شك كونه من مصاديق الخاص ، تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وقد ذهب أكثر المحققين إلى أنّ المرجع هو الأصل

٢٧٩

الموضوعي ، بأنْ يجري استصحاب عدم الفسق في الفرد المردّد فيندرج في العام ويجب إكرامه. وخالف المحقق العراقي وذهب إلى جريان الأصل الحكمي ، بأنْ يستصحب حكمه السابق من وجوب الإكرام أو عدم وجوبه.

رأي المحقق العراقي

وملخص كلامه كما في (تقرير بحثه) (١) هو : إنه لو كان هناك أصل حكمي من استصحاب وجوب أو حرمةٍ ونحوه فلا إشكال. وأمّا الأصل الموضوعي فيبتني جريانه على ما تقدَّم من المسلكين في التخصيصات ، من أن قضيّة التخصيص هل هي كالتقييد في اقتضائه لإحداث عنوانٍ إيجابي أو سلبي في الأفراد الباقية بعد التخصيص الموجب لتقييد موضوع الحكم في نحو قوله : أكرم كلّ عالم ، بالعالم العادل أو العالم غير الفاسق أم لا ، بل إنّ قضيّته مجرّد إخراج بعض الأفراد من تحت حكم العام الموجب لقصر الحكم ببقيّة الأفراد.

فعلى المسلك الأول : لا بأس بجريان الأصل الموضوعي ، فيحكم عليه بحكمه بعد إحراز العالمية بالوجدان ، ويكون الموضوع هو العالم العادل أو العالم الذي لم يكن فاسقاً.

وأمّا على المسلك الثاني ـ وهو المختار عنده ـ فلا مجال لجريان الأصل الموضوعي المزبور ، من جهة عدم ترتب أثر شرعي عليه حينئذٍ ، لأنه لا يكون لمثل هذه العناوين دخل في موضوع الحكم والأثر ـ ولو على نحو القيديّة ـ حتى يجري فيها استصحابها إلا على القول بالأصل المثبت ، لأن الأثر إنما هو للأفراد الباقية تحت العام ، نعم هم يلازمون عدم الفسق ، لكنّ استصحاب عدم الفسق لا أثر له لإثبات الملازم.

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٥٢٧.

٢٨٠