تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

باختلاف الأحكام ـ «غاية الأمر أنّ تعلّق الحكم به تارةً بنحو يكون كلّ فردٍ موضوعاً على حدة للحكم ، واخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً ...» فإنّ هذا الكلام ظاهر في أنّ الاختلاف هو بسبب اختلاف الموضوعات.

فمع لحاظ كلماته الاخرى يندفع الإشكال.

الرابع (في مقتضى الأصل)

لو شكّ في عامٍ أنه استغراقي أو مجموعي أو بدلي ، حمل على الاستغراقية ، شموله للأفراد محرزاً ويشك في أنها لُحظت بنحوٍ يكون بعضها منضمّاً إلى البعض الآخر وهو العامّ المجموعي أوْ لا وهو العامّ الاستغراقي؟ لأنّ مقتضى أصالة الإطلاق في مثل أكرم كلّ عالمٍ هو الثاني ، ضرورة أن لحاظ الانضمام أمر زائد ثبوتاً وإثباتاً. وأمّا إن قلنا بأنْ العامّ الاستغراقي متقوّم بلحاظ الأفراد على نحو الاستقلال ، والمجموعي متقوّم بلحاظها على نحو الانضمام ، والبدلي متقوّم بلحاظها على البدل ، فلا أصل معيّن لأحد الأقسام ، لأنّها حينئذ متباينات ، والأصل إنما يرجع إليه عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

أمّا لو دار الأمر بين أن يكون العام مجموعياً أو بدليّاً ، فعدم وجود الأصل المعيّن أوضح ، لتباين لحاظ الأفراد فيهما ... ولا بدّ للمتكلّم من البيان الزائد ، بأنْ يقول إذا أراد الأول : أكرم العلماء مجموعاً ، وإذا أراد الثاني يقول : أكرم أيّ عالمٍ شئت ... وإلاّ بقي العلم الإجمالي على حاله.

الخامس (في الفرق بين العام ولفظ العشرة وأمثاله)

لا يخفى أن العام هو ما يكون مفهومه صالحاً للانطباق على جميع الأفراد التي يصدق عليها المفهوم مثل «العالم» ، فإذا جاءت كلمة «كلّ» وقال : «أكرم كلّ عالم» كان مفيداً لذلك في مقام الإثبات. أمّا لفظ «العشرة» ونحوه ، فليس صدقه

٢٤١

على الواحد والاثنين كذلك ، بل هو من قبيل شمول الكلّ لأجزائه ، وهذا هو الفرق.

وهذا أوان الشروع في بحوث العام والخاص.

هل للعموم لفظ بالوضع؟

فيه قولان ...

فقد نسب إلى الأكثر أن هناك ألفاظاً موضوعة للدلالة على العموم ، وعن جماعةٍ إنكار ذلك لوجهين :

الأول : لأن الخصوص هو القدر المتيقّن من المراد ، فإذا كان هو المقطوع به وكان العموم مشكوك الإرادة ، كان الخصوص أولى بأنْ يكون الموضوع له ، فلا وضع للعموم بل هو للخصوص مثل كلمة «الخاص» وكلمة «فقط».

وفيه : كون الخاص هو القدر المتيقن في مقام الإرادة الجديّة لا يقتضي أولويته بالوضع ، لأن غاية ذلك أن يكون اللفظ مثل «خصوص» صريحاً في الدلالة على معناه ، لكنّ الصراحة غير الوضع ، فقد يكون اللّفظ موضوعاً لمعنىً لكنه غير صريح بل هو ظاهر فيه. هذا أولاً. وثانياً : هذه الأولويّة ليست عقلية ولا عرفيّة ، بل هي استحسانية خطابيّة.

والثاني : ما اشتهر من أنه ما من عامٍ إلاّ وقد خصّ ، فلو كان هناك لفظ موضوع للعموم ، لزم أن تكون المجازات أكثر من الحقائق.

وفيه : أنه سيأتي أن معنى ورود التخصيص على العام عدم تعلّق الإرادة الجديّة به ، أمّا كونه مراداً في مرحلة الاستعمال فلا ريب فيه ؛ فلا يلزم المجاز أصلاً. هذا أولاً. وثانياً : إنه لو تنزّلنا عن ذلك ، وسلّمنا لزوم المجاز ، فإنّ كون المجاز بالقرينة أكثر من الحقيقة لا ضير فيه.

٢٤٢

فالحق هو القول الأول وفاقاً للأكثر.

وهذا هو البحث الكبروي.

اللفظ الموضوع للعموم

إنه لا شبهة في دلالة مثل «كلّ» على العموم ، لأنه المتبادر منه ، وكذا كلمة «تمام» و «جميع».

وقد وقع الكلام بينهم في ألفاظٍ اخرى مثل «من» ، كما لو قال : أكرم من في الدار ، و «ما» كما لو قال : احمل ما في الدار ... فإنّ مثل هذه الجُمل تفيد الشمول ، ولكنْ ويحتمل أن يكون بالوضع ، بل قيل بذلك للتبادر وجواز الاستثناء ، يحتمل أن يكون بمقدمات الحكمة ، فدعوى التبادر مخدوشة ، والاستثناء يمكن من المطلق كما يمكن من العام.

النكرة في سياق النفي

ووقع الكلام بينهم كذلك في النكرة في سياق النفي والنهي.

فعن الميرزا القمّي وغيره دعوى عدم الخلاف في دلالتها على ذلك بالوضع ، وقال المتأخّرون بالدلالة عقلاً ، وقيل : بل الدلالة هي بمقدمات الحكمة.

قال الأُستاذ : لا ريب في الدلالة على العموم ، لكنّ كونها من حاقّ اللّفظ غير واضح ، فدعوى التبادر من القائلين بالقول الأول غير مسلّم بها.

واستدلّ القائلون بالدلالة العقلية : بأنّ «لا» موضوعة للنفي ، و «رجل» موضوعة للطبيعة ، فإذا قال «لا رجل في الدار» لم يدل على العموم من ناحية الكلمتين ، وليس للتركيب بينهما وضع على حدة ، فلا تكون الدلالة وضعية ... فهذه مقدمة. ومقدمة اخرى هي : المنفي إذا اضيف إلى الطبيعة كان انتفاؤها بانتفاء جميع أفرادها ، كما أن اثباتها يكون بثبوت فردٍ منها.

٢٤٣

فإذا ضممنا المقدمتين ببعضهما أنتج أن الدلالة على العموم عقلية بمقدّمات الحكمة.

كلام الإيرواني

فأورد المحقق الإيرواني (١) على (الكفاية) : بأنّ دلالة النكرة في سياق النفي على العموم ، موقوفة على لحاظ الطبيعة بنحو السريان إلى الأفراد ، لكونه ذاتي الطبيعة ، ولا حاجة إلى لحاظها مطلقة ليثبت السريان حتى يشكل بعدم المثبت للّحاظ كذلك.

إشكال الأُستاذ

لكنّ الأُستاذ أشكل عليه : بأنّ الطبيعة والماهية ليست إلاّ هي ، وأمّا سريانها إلى أفرادها فشيء زائد عليها إذن ، يتوقّف على اللحاظ وليست الطبيعة في حدّ ذاتها ساريةً.

لكنّ التحقيق هو أن الإطلاق غير متقوّم بلحاظ الطبيعة ساريةً إلى الأفراد ، بل هو لحاظ القيود ورفضها ، فيكون السريان لازماً للإطلاق لا أنه نفسه كما قال الإيرواني ، فكان كلامه مخدوشاً بوجهين.

كلام الأصفهاني

وقال المحقق الأصفهاني (٢) مستشكلاً على قول (الكفاية) : «لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود وإلاّ كانت موجودة» ، بتوضيحٍ منا : بأن النفي يضاف إلى الطبيعة كالإثبات ، فيقال : عدم الإنسان كما يقال : وجود الإنسان ، فلا فرق بين الوجود المضاف إليها والعدم ، بل المهم هو لحاظ

__________________

(١) نهاية النهاية : ٢٧٦.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٤٤٨.

٢٤٤

المضاف إليه ، فإنْ كانت الطبيعة مهملة ، كان الوجود المضاف إليها قضيّة مهملة ، وهي في قوّة الجزئية ، والعدم المضاف إليها قضيّة سالبة وهي في قوّة الجزئيّة ، فإن كان المضاف إليه مهملاً كانت القضيّة مهملة ، موجبةً أو سالبة. وأمّا إن كانت الطبيعة المضاف إليها مقيدةً ، كانت الموجبة جزئية وكذا السالبة ، فإن كانت الطبيعة مطلقةً فهي موجبة كليّة أو سالبةً كليّة.

وعلى هذا ، فلا يصح القول : بأن وجود الطبيعة بوجودٍ فردٍ ما وعدمها يكون بعدم جميع الأفراد ، لأن المقابل لوجود الفرد ما هو عدم الفرد ما ، ولجميع الأفراد هو عدم جميعها.

وعليه ، فدلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم ليست عقليّة خلافاً لصاحب (الكفاية) إذ قال بأن دلالتها عليه عقلاً لا ينبغي أنه تنكر.

أقول :

وهذا الكلام وإنْ كان متيناً من الناحية العقليّة ، إلاّ أن الملاك في أمثال المقام هو الارتكاز العرفي لا الدقّة العقليّة ، ونحن لو راجعنا العرف لرأيناهم يفهمون العموم من قولنا : لا رجل في الدار ، ويرون اللفظ دالاًّ عليه من غير دخلٍ لمقدّمات الحكمة أصلاً ، ولذا لو قلنا بعد هذا الكلام : زيد في الدار ، لاحتجّوا علينا بالمناقضة ، من جهة إفادة النفي السابق للعموم ـ لا من جهة عدم تقييد الإطلاق في «رجل» ـ فإثبات وجود زيد وهو من أفراد العام يناقض النفي ، لأن معنى : لا رجل في الدار هو كلّ أفراد الرجل ليس في الدار ....

وقد تعرّض الأُستاذ لكلام المحقق الأصفهاني هذا في مباحث النواهي أيضاً.

٢٤٥

الجمع المحلّى بأل

ووقع الكلام بينهم أيضاً في الجمع المحلّى بأل ، فعن المحقق القمي (١) دعوى عدم الخلاف في الدلالة على العموم وضعاً ، للتبادر وجواز الاستثناء ، وأن اللاّم للاستغراق ـ إن لم يكن عهد ـ فيدلّ على العموم.

ولكنّ شيئاً من هذه الوجوه لا يقتضي ظهور هذا اللفظ في العموم ، بحيث لو استعمل «العلماء» مثلاً في غير العموم ـ كأن يستعمل للعهد الذهني أو الذكري ـ يكون مجازاً.

واستدلّ أيضاً : بأن «أل» إن لم تكن عهدية فهي معرِّفة لمدخولها ، والتعريف يساوق التعيين ، وعلى هذا تتم الدلالة على العموم ، لأنّ الجمع مثل العلماء معيَّن من طرف الأقل لأن أقلّه الثلاثة ، ومن طرف الأكثر لأنه كلّ الأفراد ، لكنَّ الدلالة على أقصى المراتب وهو «كلّ الأفراد» أوضح وأتمّ ، إذ قد يقال بعدم التعيّن في الثلاثة الذي هو طرف الأقل ... فتمّت الدلالة على العموم بهذا الوجه (٢).

وقد ناقشه الأُستاذ : بأن هذا المقدار من البيان لا يكفي لإثبات الدّلالة اللّفظية ، فالحاجة إلى مقدمات الحكمة موجودة لا محالة.

__________________

(١) قوانين الاصول : ٢١٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٢٩٧ الهامش.

٢٤٦

هل تخصيص العام يوجب التجوّز فيه؟

قال في (الكفاية):

لا شبهة في أنّ العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقي ، فيما علم عدم دخوله في المخصَّص مطلقاً ولو كان متصلاً ، وما احتمل دخوله فيه إذا كان منفصلاً ، كما هو المشهور بين الأصحاب ، بل لا ينسب الخلاف إلاّ إلى بعض أهل الخلاف.

وربما فصّل بين المخصص المتصل فقيل بحجيّته فيه وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته. واحتج النافي بالإجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات ، وتعيين الباقي من بينها بلا معيّن ترجيح بلا مرجّح. والتحقيق في الجواب أن يقال ... (١).

أقول : هل العام المخصص مجاز أو لا؟ وعلى الأول ، فهل يسقط عن الحجيّة؟ فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول

إنه لا يخفى أنّ المخصّص على قسمين ، متّصل ومنفصل ، لأن المتكلّم تارةً يقول : أكرم العلماء العدول. واخرى يقول : أكرم العلماء ، ثم في مجلس آخر يقول : لا تكرم الفساق من العلماء ... وقد يكون المخصّص المتصل قرينةً حاليّةً أو عقليّة أو غير ذلك مما ليس بلفظٍ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٨.

٢٤٧

ثم إنّ المخصّص ، قد يكون مبيّناً كما ذكر ، وقد يكون مجملاً مفهوماً أو مردّداً بين الأقل والأكثر.

ابتناء البحث على وجه دلالة العام على العموم

وقد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ العام يحتاج في دلالته على العموم إلى مقدّمات الحكمة أو لا؟ ذهب الميرزا إلى الأول ، وعليه يقع البحث في أن الإطلاق ـ أي : مفاد اللاّبشرط القسمي ـ هل هو مدلول المقدّمات واللّفظ غير موضوعٍ إلاّ للطبيعة ، وعليه سلطان العلماء وأتباعه ، أو أنه داخل في حريم المعنى الموضوع له وعليه المشهور؟ فعلى القول الثاني : لا ريب في المجازيّة ، لأن العموم محتاج إلى الإطلاق ، وهو داخل في مفهوم اللفظ ، فإذا جاء المخصّص ـ سواء كان متّصلاً أو منفصلاً ـ رفع الإطلاق ، فكان لفظ العامّ مستعملاً في جزء المعنى الموضوع له وهذا هو المجاز. أمّا على القول الأوّل ، فلا يلزم التجوّز ، لأن المفروض خروج الإطلاق عمّا وضع له لفظ العام ، فلم يستعمل في غير ما وضع له.

بيان القول بدلالته بمقدّمات الحكمة

وقد أوضح الميرزا ـ قوله باحتياج العام إلى المقدّمات ، وأن الإطلاق خارج عن حريم المعنى : قوله :

أمّا إذا كان المخصّص متصلاً ، فإنّ كلّ لفظٍ قد استعمل في معناه الموضوع له ، فإذا قال : أكرم كلّ عالم عادل ، فإنّ «كلّ» يدلّ على العموم و «عالم» مستعمل في معناه وهو الطبيعي ، و «عادل» كذلك وهو الطبيعي ، وحيثيّة التقييد مستعملة في معناها ... فلا موجب للتجوّز.

أمّا إذا كان منفصلاً ، فالتخصيص بالمنفصل تقييد ، لأنّ المفروض أنّ دلالة العام على السّعة والشمول هي بمقدّمات الحكمة ، فإذا ورد المخصص المنفصل

٢٤٨

تقيّد الإطلاق ، وتقييده لا يستلزم المجازية ، لكونه خارجاً عن مدلول اللّفظ ـ كما هو المفروض ـ ، فلم يستعمل اللفظ في جزء المعنى الموضوع له حتى يلزم المجاز.

فهذا دليل القول باحتياج العام إلى المقدّمات في دلالته على العموم.

بيان القول بدلالته بالوضع

خلافاً للمشهور القائلين بأن أداة العموم موضوعة لإسراء الموضوع وانطباقه على جميع الأفراد والأقسام بلا حاجة إلى المقدّمات ، وعليه ، فقد قال صاحب (الكفاية) : أمّا في المتصل ، فإن أداة العموم مثل «كلّ» موضوعة لاستيعاب جميع الأفراد والأقسام من المدخول ، فهي مستعملة في معناها ولا مجازيّة. وكذلك «العالم» و «العادل» كما في المثال المتقدّم.

وأمّا في المنفصل ، فأداة العموم وإنْ استعملت لجميع الأقسام والأفراد ، لكن التخصيص يكشف عن عدم إرادة ذلك المدلول ، فتقع شبهة استعمال اللّفظ وإرادة المعنى غير الموضوع له ، فأجاب عن ذلك بالتفكيك بين الإرادتين الاستعمالية والجديّة والتصرف في الظهور والحجيّة ، قال :

وبالجملة ، الفرق بين المتصل والمنفصل وإنْ كان بعدم انعقاد الظهور في الأول إلاّ في الخصوص ، وفي الثاني إلاّ في العموم ، إلاّ أنه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً في واحدٍ منهما أصلاً ، وإنما اللاّزم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأول وعدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجةً فيه في الثاني.

وبيان المطلب هو : إن الدلالة إمّا تصوّرية ـ وبتعبير (الكفاية) : انسية ـ أو تصديقية استعمالية ، أو تصديقية جديّة. والمراد من الاولى هو مجيء المعنى من اللفظ إلى الذهن على أثر الأنس الموجود بين اللّفظ والمعنى ، وهذه الدلالة غير

٢٤٩

تابعة لا للإرادة ولا للقصد ولا للاستعمال ، ولا هي تقع موضوعاً لحكمٍ من الأحكام.

والثانية : هي أنّه لمّا يريد التكلّم أن يفهم السامع معنىً ، فإنه يستعمل اللّفظ في ذاك المعنى ، أي يستخدمه من أجل إفهام معناه الموضوع له ، فيصدَّق بكونه مريداً لإفهامه وإحضاره إلى ذهن السامع باللفظ ، فهي دلالة تصديقيّة استعمالية ، وفيها يقع البحث عن كونها تابعةً للإرادة أو غير تابعة ، وفي هذا المقام تنعقد الظهورات ويكون اللّفظ قالباً لإفهام المعنى ... إلاّ إذا كان اللّفظ المستعمل مجملاً ، فلا اقتضاء له لأنْ يكون قالباً للمعنى ، أو احتمل وجود قرينةٍ مانعة من دلالة اللفظ على المعنى ، أو يُوجد ما يحتمل أن يكون قرينةً مانعةً ... فلو وجد واحد من هذه الأسباب لم ينعقد الظهور للّفظ.

والثالثة : هي أنّه بعد تماميّة ظهور اللفظ في المعنى ، يتحقّق الموضوع لأصالة المطابقة بين اللّفظ المستعمل ـ أي الكلام ـ والإرادة ، وهذا أصل عقلائي ، والمفروض كون التكلّم منهم فلا يتجاوزه ، وحاصله : أنّ الكلام متى كان ظاهراً في معنىً ، فإنّ ذاك المعنى هو المراد الجدّي للمتكلّم ، ويعبّر عن ذلك بالحجيّة ... لكنّ هذه الدلالة أيضاً لا تتمّ لو احتمل أن الإرادة الجديّة غير مطابقة لظهور اللّفظ ، لكنّ المتكلّم غفل عن إقامة القرينة ، أو احتمل وجود مانع ـ من تقيّة أو غيرها ـ عن إقامة القرينة على أن المراد غير ما يكون اللّفظ ظاهراً فيه ، أو احتمل ذكره للقرينة منفصلةً عن الكلام ... فإنّ كلّ واحدٍ من هذه الاحتمالات يكفي لسقوط الدلالة الجديّة ، فهي متوقفة على اندفاعها.

فقال المشهور ـ ومنهم صاحب (الكفاية) ـ بأنّ المخصّص المنفصل إنما يوجد الخلل في الدلالة التصديقية الجديّة دون التصديقية الاستعماليّة ، إذ

٢٥٠

لا موجب للخلل فيها هنا ، فلا وجه للزوم المجاز.

وعلى الجملة ، فإن ظهور «كلّ عالمٍ» في العموم منعقد ، غير أن المخصص المنفصل يوجب أن يكون حجيّة ظهوره في خصوص غير الفسّاق ، وأنّ الخصوص هو المراد الجدّي.

فإنْ قلت : إذا لم تكن الإرادة الجدّية على وفق الاستعمالية ، لكون الكلام ظاهراً في العموم الشامل للفساق أيضاً ، فلما ذا جاء باللفظ الظاهر فيه؟

أجاب في (الكفاية) : بأنّ مرجع هذا الإشكال إلى لزوم اللّغوية ، ولكن يكفي لاندفاعه مجرّد احتمال وجود الحكمة من ذلك الاستعمال ، وهي القصد إلى وضع قاعدةٍ مفادها مانعيّة المخصّص المنفصل عن حجيّة ظهور العام ، لكونه نصّاً أو أظهر منه فيتقدّم عليه ، وتكون هذه القاعدة هي المرجع كلّما شكّ في دخول الشيء تحت العام. فكان الداعي للإتيان باللّفظ الظاهر في العموم هو ضرب هذه القاعدة لا البعث نحو إكرام كلّ العلماء حتى الفسّاق منهم.

إشكال السيّد البروجردي

فقال السيد البروجردي : يمكن أن يورد عليه أيضاً : بأن الإرادة الاستعمالية على ما ذكرت إرادة تصوريّة ـ أعني بها إرادة إفناء اللفظ في المعنى المخصوص وجعله قالباً له موجباً لتصوّره عند تصوّره ـ وتمسّك العقلاء بالعام عند الشك ليس أثراً لصرف هذه الإرادة وإنْ انكشف عدم مطابقتها للإرادة الجديّة ، بل يكون أثراً لها بما هي كاشفة عن الإرادة الجديّة التصديقيّة.

(قال) وبالجملة : التمسّك بالعام عند الشك إنما هو من جهة استقرار بناء العقلاء على حمل كلام الغير ـ بما هو فعل اختياري صدر عنه ـ على كونه صادراً عنه لغايته الطبيعيّة العادية ، وحيث أن الغاية الطبيعية للتلفّظ بالكلام إرادة إفهام ما

٢٥١

هو ظاهر فيه ، فلأجل ذلك يحكمون في العام ـ مثلاً ـ بأن المراد الجدّي فيه هو العموم. وعلى هذا ، فبورود التخصيص على العام يستكشف عدم كون ظاهر اللّفظ مراداً جديّاً ، وينهدم أساس أصالة التطابق بين الارادتين ، فلا مجال حينئذٍ لأن يتمسّك بالعام بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها ، وإنْ ثبت كون العموم مراداً بحسب الاستعمال.

(قال) : هذا ، مضافاً إلى أن ما ذكره في المتّصل في الاستثناء ، فهو بحكم المنفصل كما لا يخفى ، وحيث لم يكن فيما ذكروه غنىً ، وجب علينا صرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المسألة ، مع الإشارة إلى إمكان أن يرجع كلام الشيخ وصاحب (الكفاية) أيضاً إلى ما نحقّقه. وتوضيح المطلب يتوقف على .... وعلى الجملة ، فإن الطريق الذي سلكه صاحب (الكفاية) وغيره غير مجدٍ لحلّ الإشكال ، وقولهم بعدم لزوم المجاز غير تام.

طريق السيّد البروجردي

فسلك السيد البروجردي طريقاً آخر واختار أن مثل هذا الاستعمال لا هو حقيقة ولا هو مجاز ، وهذا قسم ثالث من الاستعمالات ، وحاصل كلامه : تطبيق مذهب السكّاكي ـ في خصوص الاستعارة ـ في جميع الاستعمالات المجازيّة ، بدعوى أنّ اللّفظ مستعمل دائماً في معناه الموضوع له ، فإنْ كان الموضوع له هو الموضوع للحكم سمّي الاستعمال حقيقياً أي ثابتاً على معناه ، من حَقَّ بمعنى الثبوت ، وإنْ تجاوز المعنى الموضوع له إلى معنىً آخر سمّي مجازاً ، أي قد عَبَر المعنى إلى معنىً آخر ، لكنْ بعناية ادّعاء الاتحاد بين المعنيين ، فلفظ الأسد مستعمل في «الحيوان المفترس» ـ وهو الموضوع له ـ غير أنّ هذا المعنى معبر إلى «الرجل الشجاع» بملاك الاتحاد الادّعائي بينهما.

٢٥٢

وأمّا في العام المخصّص ، حيث يستعمل اللّفظ في الكلّ الموضوع له ويراد الجزء ، فليس الاستعمال حقيقيّاً ولا مجازيّاً ، لأنا قد استعملنا اللّفظ في معناه الموضوع له ، لكنْ لم نقصده فلم يثبت عليه ولم نقصد به العبور إلى معنىً آخر ليكون مجازاً ... اللهم إلاّ أن ندّعي في الفرد الواحد من العلماء أنّه كلّ العلماء ، فنقول : جاءني كلّ العلماء والمقصود هو وحده ، فيكون مجازاً ، لكنّ العمومات المخصّصة لا يوجد فيها مثل هذا القصد.

فهذا طريق هذا المحقق بعد الإشكال المذكور على صاحب (الكفاية) ، وهو موجود في حاشية الإيرواني أيضاً.

الإشكال عليه

لكنْ يرد عليه : أن الاستعمال الذي ليس بحقيقةٍ ولا مجاز غير معقول ، لا على مسلك المشهور ولا على مسلكه من أنّ المجاز عبور اللفظ عن المعنى الحقيقي وجعل المعنى الآخر من معناه أيضاً ادعاءً ... فإن الاستعمال ـ على كلّ تقدير ـ إمّا حقيقة وامّا مجاز ولا ثالث.

وأمّا الإشكال المشترك على (الكفاية) من أنه في كلّ موردٍ لا يُوجد فيه التطابق بين الإرادتين فليس بموردٍ لبناء العقلاء في استكشاف المراد من اللّفظ المستعمل ، ففيه :

إنه يمكن قلب الإشكال بأنْ يقال : إنه لمّا يخصّص العامّ بالمخصّص المنفصل ، لا يكون تطابق بين الإرادتين وإلاّ لم يكن التخصيص ، فإذن ، يكون بين الإرادتين مخالفة ، ومع المخالفة بينهما فلا بناء للعقلاء من أجل استكشاف المراد ، لأنّ هذا البناء ـ كما قال ـ إنما هو في المورد الذي يستعمل فيه اللّفظ للغاية الطبيعيّة ، ومع عدم التطابق كيف يحصل الكشف عن الحجيّة والمراد الجدّي للمتكلّم؟

٢٥٣

طريق المحقق الأصفهاني

وسلك المحقق الأصفهاني (١) طريقاً آخر لحلّ المشكل ، لأن الإنشاء لا يمكن أن يكون بداعيين ، بل كلّ إنشاء بداعٍ من الدواعي فهو مصداق لذاك الداعي ، وفيما نحن فيه ، عند ما يراد التمسّك بالعام لإثبات البعث الجدّي وترتيب الحكم ، يأتي الإشكال بأنّ هذا البعث إن كان جدّياً فلا يجتمع مع التخصيص ، وإن لم يكن فلا يصلح للتمسّك به للكشف عن الفرد المشكوك فيه. فقال المحقق الأصفهاني : إن كان المخصّص قبل العمل بالعامّ ، فالموضوع للحكم غير محدّد ولا مانع من التمسّك به ، ومن كان بناؤه على بيان مراداته بالمخصّصات المنفصلة ، فالمطابقة بين إرادته الاستعمالية والجديّة حاصلة.

وأمّا إن جاء المخصّص بعد حضور وقت العمل بالعام ، فالبعث الجدّي هو المدلول له ولا ينافيه التخصيص ، لأن البعث الجدّي نحوه واحد ، غير أنه بالنسبة إلى الأفراد المخصّصة ناشئ من المصالح الظاهرية من تقيّةٍ ونحوها ، وبالنسبة إلى الأفراد غير المخصّصة ناشئ من المصالح الواقعية ، فكان شمول كلّ العلماء للفسّاق لمصلحة ظاهريّة ، والبعث الشامل لهم وللعدول جدّي ، فالتطابق بين الإرادتين موجود.

الإشكال عليه

وقد تعرّض شيخنا لهذا الطريق في الدورة السّابقة ، فأورد عليه بعد غض النظر عمّا فيه : بأنّ كشف الخاص عن انتهاء أمد البعث إلى بعض الأفراد وأن البعث إليها كان ناشئاً من المصلحة الثانوية ، إنمّا يتم في الخاص المتأخّر ، أمّا المتقدّم فكيف يكون كاشفاً بل هو أقوى في المخصصيّة من المتأخر؟ هذا أولاً. وثانياً : إذا

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٥١.

٢٥٤

كان البعث واحداً ومتوجّهاً إلى الفسّاق وغيرهم على حدّ سواء ، فكيف ينشأ من داعيين؟ بل إنه لما تعدّد المبعوث إليه فلا بدّ وأن يكون متعدداً ، وإذا تعدّد أمكن أن يكون الانبعاث إلى بعض الأفراد ناشئاً من الإرادة الجدّية وإلى البعض الآخر ناشئاً من الارادة الاستعماليّة ، وهذا ما ذكره صاحب (الكفاية) ... فلا حاجة إلى طريق الأصفهاني ، وإشكال البروجردي على (الكفاية) مندفع ، فالحق مع صاحب (الكفاية) تبعاً للشّيخ قدس سرّهما.

وحاصل الكلام : إنه إن كان الكلام مبيّناً لا إجمال فيه ، فإن الظهور ينعقد للعام في العموم ولا يتوقّف العقلاء في دلالته على المراد ، فإنهم يفهمون ما ذا قال ، ثمّ مع مجيء المخصص المنفصل يفهمون ـ بعد الجمع بينه وبين العام ـ أنه ما ذا أراد.

وعلى الجملة ، فإن المخصص يكون محدّداً للمراد لا مبيّناً لما دلّ عليه لفظ العام ، وأمّا ما زاد عمّا جاء به المخصّص فباق على حجيّته ، لوجود المقتضي وهو دلالة اللّفظ على العموم ، وعدم المانع ، لأنه إنما قام بمقدار ما دلّ عليه المخصّص ... فلا مجاز حتى يحتمل إجمال العام في غير مورد التخصيص.

المقام الثاني

وعلى فرض تسليم مجازية الباقي ، فما هو الجواب؟

جواب الميرزا القمي وإشكال الكفاية

أجاب الميرزا القمي : بأنّ الباقي أقرب المجازات.

توضيحه : إنّه بناءً على المجازية وكشف المخصّص المنفصل عن أنّ المراد الاستعمالي ليس هو الشمول لجميع الأفراد ، لا يلزم الإجمال ، لأنّ سبب الإجمال هو كون المجازات على قدم المساواة ، وتعيّن بعضها دون بعض ترجيح

٢٥٥

بلا مرجّح ، لكنّ الحال ليس كذلك ، بل المراد منها هو أقربها إلى المعنى الحقيقي ، فالواجب إكرام من عدا الفسّاق من العلماء.

فأجاب في (الكفاية) (١) : بما توضيحه : إن المدار في الخروج عن الإجمال هو ظهور اللفظ وقالبيّته للمعنى ، وذلك يتحقّق بأقربيّة المعنى المجازي إلى الحقيقي بحسب زيادة أنس المعنى باللّفظ ، كما في قضية استعمال الأسد في الرجل الشجاع ، لا بحسب المقدار. وعلى هذا ، فإنّ الإجمال فيما نحن فيه باقٍ ، فما ذكره الميرزا القمي غير مجدٍ.

جواب الشيخ

وذكر الشّيخ قدس‌سره وجهاً آخر (٢) ، وأوضحه الميرزا النائيني (٣) فقال : بأنّ تحقق المجازيّة للكلام يكون تارةً : بإدخال معنىً تحت اللّفظ ، واخرى : بإخراج بعض المعنى من تحته. والفرق هو أنّه في الصورة الاولى : يكون للّفظ معنىً آخر غير المعنى الأوّل. فهما معنيان متباينان ، أمّا في الثانية : فالمعنى محفوظ غير أنه قد أخرج منه بعضه ، فكانت النسبة نسبة الأقل والأكثر.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإذا قال أكرم كلّ عالمٍ ، دلّ بالمطابقة على وجوب إكرام الكلّ ، وكان المدلول وجوب إكرام كلّ واحدٍ واحدٍ من العلماء ، وإكرام كلّ واحدٍ حكم مستقل عن غيره. فلما جاء : لا تكرم الفسّاق منهم ، وأخرج هذه الحصّة من العلماء من تحت العام ، سقطت دلالته عليها ، لكن دلالته على غيرها من الحصص فباقية ، وقد تقدّم أن كلّ دلالة فهي مستقلّة عن غيرها ، وسقوط بعضها لا يؤثّر شيئاً على البعض الآخر ... فكان دلالته على الباقي على

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٩.

(٢) مطارح الأنظار : ١٩٢.

(٣) أجود التقريرات ٢ / ٣٠٣.

٢٥٦

حالها ، لوجود المقتضي وعدم المانع.

وقد ذكر صاحب (الكفاية) (١) هذا الوجه عن الشيخ وأورد عليه بما حاصله :

إنه بعد أن كان اللّفظ مستعملاً في الخصوص مجازاً ، وكان إرادة كلّ واحدٍ من مراتب الخصوصات ممكناً ، كان تعيّن بعضها بلا معيّن ترجيحاً بلا مرجّح ، ولا مقتضي لظهور لفظ العام في ذلك البعض ، وقد تقدّم أن المدار في الخروج عن الإجمال على تحقق الظهور للّفظ ، وهو إمّا بالوضع أو بالقرينة ، والمفروض أنه ليس بموضوعٍ له ولا يوجد قرينة ، فلا مقتضي لظهوره وقالبيّته في العلماء غير الفسّاق ، لأنّ دلالة أكرم كلّ عالم على العلماء غير الفساق تضمنيّة ، لكونها في ضمن دلالة اللّفظ على العموم والشمول بالمطابقة ، فلمّا سقطت الدلالة المطابقية بمجيء المخصّص سقطت التضمنيّة بتبعها.

دفاع المحقق الأصفهاني عن الشيخ

ودافع المحقق الأصفهاني (٢) عن كلام الشيخ ، فأجاب عن الإشكال : بأنّ تبعية الدلالة التضمنيّة للمطابقية إنما هي في مقام الثبوت ، لوضوح أنه لو لا أكرم كلّ عالمٍ فلا دلالة على وجوب إكرام الفساق ، أما في مقام السقوط فبالعكس ، لأنّ قوله لا تكرم الفسّاق من العلماء ، رفع دلالة العام على الفسّاق فقط ، ولا يزاحم سائر دلالاته التضمنيّة ، فكان مجيء هذا المخصّص موجباً لسقوط العام عن الدلالة بالنسبة إلى الفسّاق.

فإنْ قلت : إنه بعد سقوط الدلالة المطابقية كما ذكرت ، فلا يبقى دلالة مطابقية أصلاً.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٩.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٤٥٢.

٢٥٧

أجاب : هناك عدّة دلالات مطابقية في عرضٍ واحدٍ ، مثل أكرم كلّ عالم ، أكرم كلّ عالم فقيه ، أكرم كلّ عالم عادل ... وهكذا ... ولكلٍّ منها دلالات تضمنيّة ، وهي في الطول ، فإذا ورد المخصص المنفصل على العام ، كشفنا عن الدلالة المطابقية في غير الأفراد الخارجة بالمخصص ، لأنّ اللّفظ الدالّ على العموم مستعملٌ قطعاً ، فإذا جمعنا الكلام الظاهر في العموم مع المخصص وكان المتكلّم بهما واحداً ـ أو بحكم الواحد كما في الأئمة عليهم‌السلام ـ انكشف لنا أن الخارج من تحت العام ليس إلاّ بقدر المخصّص ، وظهر لنا أنّ المراد الاستعمالي هو جميع المراتب المدلول عليها بالعام عدا المرتبة المخصّصة ، وكانت النتيجة عدم لزوم الإجمال حتى على القول بالمجاز.

هذا ما ذكره المحقق الأصفهاني في هذا المقام.

الإشكال عليه

أجاب شيخنا : بأنه لا ريب أنّ لكلّ دليلٍ حدّاً من الدلالة ويستحيل دلالته على الأكثر من ذلك ، وهنا : قد استعمل العام في العموم ثم جاء المخصّص يزاحمه في دلالته المطابقيّة ، ويدلّ على أن المراد الاستعمالي من «كلّ عالمٍ» ليس بحيث يشمل الفسّاق أيضاً بل هم خارجون. وهذا حدّ دلالة الدليلين. وأمّا الدلالة على أن المراد الاستعمالي هو سائر المراتب ـ بعد خروج مرتبة الفساق ـ فتحتاج إلى دليل آخر ، والدلالة على ذلك إمّا بمقدّمة هي : عدم القرينة على خروج مرتبةٍ اخرى ، أو أصالة عدم المخصّص الآخر. لكنّ هذا الأصل ، إن كان عملياً فهو مثبت ، فإن ثبت قيام السيرة العقلائية على إجراء مثل هذا الأصل أو نفي احتمال أيّ قرينةٍ اخرى تمّ ما ذكره ، وإلاّ فلا ، فنقول :

إنّ السيرة العقلائية قائمة على عدم المانع متى شكّ فيه مع وجود

٢٥٨

المقتضي ، أمّا وجود المقتضي فلا أصل عندهم له ، لأنّهم إنما يتمسّكون بأصالة عدم القرينة في موردين ، أحدهما : أن يكون اللّفظ ذا معنى حقيقي معيّن ثمّ يشكُّ في إرادة المتكلّم له ، فبأصالة عدم القرينة يحملون اللّفظ على معناه الحقيقي الوضعي. والآخر : ما لو استعمل اللّفظ في غير معناه الموضوع له مع قرينة صارفةٍ عنه ومعينةٍ للمراد كما في رأيت أسداً يرمي ، ثم احتمل وجود قرينة على عدم قرينيّة تلك القرينة الصّارفة ، فإنه يدفع هذا الاحتمال بالأصل ، ويتمّ المقتضي للدلالة على المراد الاستعمالي.

إنّ التمسّك بالأصل العقلائي المذكور إنما يكون في أحد الموردين المزبورين ، وما نحن فيه ليس منهما ، لأنّ المفروض كون الاستعمال هنا مجازيّاً لا حقيقيّاً ، ولأن : لا تكرم الفساق من العلماء ، ليس مثل «يرمي» في الصّارفيّة وتعيين المعنى المراد ... ولو شكّ في وجود السيرة في مثل المقام ، فإنّ القدر المتيقن منها قيامها في المعنى الحقيقي ....

فالحق لزوم الإجمال على القول بالمجاز وفاقاً للكفاية.

٢٥٩

التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية والمصداقية

والكلام الآن فيما لو كان المخصّص مجملاً ، فهل إجماله يوجب الإجمال في العام؟

إن إجمال الخاص تارةً : يكون من حيث الصّدق ، وتسمّى الشبهة مفهومية أو صدقيّة. واخرى : يكون من حيث المصداق ، وتسمّى بالشبهة المصداقية ، فيقع الكلام في جهتين.

الجهة الأولى (في الشبهة المفهومية)

إن المخصص تارةً متصل واخرى منفصل.

وعلى التقديرين ، فقد يؤثّر إجمال المخصص في العام بحيث لا يمكن التمسّك به أصلاً ، كما لو قال : أكرم العلماء إلاّ بعضهم ، وقد لا يكون كذلك بل يبقى مقدار من موارد العام على الحجيّة مثل : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق ، فمع تردّد الفسق بين الكبيرة والصغيرة يبحث عن بقاء مرتكب الصغيرة تحته أو خروجه كمرتكب الكبيرة؟ ثم القسم الأخير يكون تارةً : مردداً بين الأقل والأكثر كمثال الفسق ، واخرى : يكون مردداً بين المتباينين ، كما لو قال : أكرم العلماء إلاّ زيداً ، وتردّد زيد بين ابن عمرو وابن بكر.

ثم الإجمال منه حقيقي ومنه حكمي ، لأنّ المخصّص إنْ أثّر في الإرادة الاستعمالية سقط اللفظ عن الظهور فكان الإجمال حقيقةً ، وإنْ أثَّر في الإرادة الجديّة سقط الكلام عن الحجيّة فكان مجملاً من حيث الحكم والأثر مع بقاء

٢٦٠