تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

أمّا الأول ، فخارج عن البحث ، لعدم بقاء الموضوع إذا انتفى الوصف.

وكذلك الثاني ، لأنه مع انتفاء الإحساس لا يبقى الإنسان.

فالقسمان الثالث والرابع مورد البحث في المقام.

دليل القول بثبوت المفهوم

الأقوال في المسألة ثلاثة ، فالمشهور عدم المفهوم ، وقيل بثبوته ، وقيل بالتفصيل بين ما إذا كان الوصف علةً فالمفهوم ، وما إذا لم يكن فلا.

واستدلّ للقول بثبوت المفهوم بوجوهٍ ستة :

الوجه الأول :

إنه إن لم يكن للوصف دلالة على المفهوم كان أخذه في الكلام من الحكيم لغواً ، ولا لغوية في كلامه. وبهذا استدلّ بعضهم كالبروجردي في مفهوم الشرط.

وفيه : انه موقوف على عدم الفائدة في أخذ الوصف في الكلام ، والحال أنه قد يؤخذ للدلالة على مقاصد اخرى كما في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (١) ففي أخذه ـ خشية إملاق ـ حكمة دفع توهّم جواز قتل الأولاد في هذه الحالة.

الوجه الثاني

أصالة الاحترازية في القيود ، فإنّ مقتضى الأصل في القيود الزائدة على الموضوع المذكورة في الكلام ، هو الاحتراز عن فاقد القيد ، والأصل أصيلٌ ما لم تقم قرينة على الخلاف.

وقد أجاب السيد الخوئي (٢) : بأنها قاعدة جارية في موارد التعريفات وفي

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣١.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٧٥.

٢٢١

الحدود والتعزيرات ، أمّا في غيرها فلا.

وفيه : إنه أصلٌ عقلائي ولا يختص بموردٍ دون آخر.

والصحيح أن يقال في الجواب : إن الأصل في القيود هو الاحترازيّة بمعنى أنها ليست توضيحيّةً ، ولكنْ هل الاحتراز لنفي الحكم عن الفاقد أو لفائدةٍ اخرى؟ إنه لا مثبت لهذه الجهة ، ولا بدّ لإفادتها من دليلٍ آخر غير أخذ القيد.

الوجه الثالث

إن تقييد الموضوع بقيد زائد مشعر بالعليّة ، وحينئذٍ ، يلزم الانتفاء عند الانتفاء.

أشكل عليه الميرزا (١) وتبعه السيد الخوئي :

أولاً : هذه العليّة بحاجةٍ إلى قرينةٍ في مقام الإثبات.

وثانياً : سلّمنا ، لكن المفهوم يتوقف على كونها عليّة منحصرة ، ولا دليل عليه.

لكنّ المحقق الأصفهاني (٢) ذكر لأصل الإشعار بالعليّة : إنّ كلّ شرط أو قيد ، فهو إمّا متمّم لفاعليّة الفاعل وإما متمّم لقابلية القابل ، أمّا في المقام فهو من قبيل الثاني ، فإن وجود القيد أو الشرط يفيد ذلك ولا يحتاج إلى قرينةٍ زائدة ، لأن الشرط ليس إلاّ العلّة ، إذ العليّة المقصودة هنا أعمّ من المقتضي.

وذكر للدلالة على الانحصار : إن مجرّد أخذ خصوصيّة العنوان بعنوانه يدلّ عليه ، فإذا قال : جئني بماءٍ باردٍ ، كان لفظ «البارد» مقيداً لقابليّة الأمر للبعث ، فكانت الدلالة على الانحصار ، وبه يثبت المفهوم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢٧٨.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٤٣٦.

٢٢٢

قال الأُستاذ

وما ذكره تام وبه يندفع الإشكال. لكنّ من الواضح أن أخذ القيد الزائد يخرج الموضوع عن الإطلاق ، والمشكلة هي أن تحديد الموضوع كما يكون للعليّة فيفيد الانتفاء عند الانتفاء ، يكون للاهتمام بالقيد كما في (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١) وأن يكون لدفع التوهّم كما تقدم في («لاتَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (٢). إذن ، يمكن أن يكون أخذ القيد أو الشرط لحكمة اخرى.

الوجه الرابع

إنه إن لم يكن للوصف دلالة على المفهوم ، فما هو الملاك لحمل المطلق على المقيّد؟

وهذا الوجه للمحقق البهائي. وتقريبه : إنه إذا كان المطلق والمقيّد مثبتين ، فلا محالة يحمل المطلق على المقيد ، لكنّ الحمل هذا فرعٌ على التنافي ، ولو لا الدلالة على المفهوم لما تحقق التنافي حتى يكون الحمل والجمع العرفي.

والجواب : إن الملاك للحمل ليس الجهة النفيية بل هو الجهة الإثباتية ، لأنّ المطلوب بالخطاب الأوّل هو صرف الوجود ، والمطلوب بالخطاب الثاني هو الوجود المقيّد ، والمفروض وحدة التكليف في المطلق والمقيّد ، فيقع بلحاظها التنافي بينهما ، وتصل النوبة إلى الجمع.

الوجه الخامس

ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني الذي أوردناه جواباً على إشكال الميرزا

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٣٨.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٣١.

٢٢٣

والسيد الخوئي.

وقد تقدّم إشكال الأُستاذ على ذلك.

دليل عدم المفهوم

إنه وإنْ كفى عدم الدليل للعدم ، لكنهم مع ذلك يذكرون له وجهاً نقضيّاً وآخر حلّياً.

أمّا نقضاً ، فإن القول بالمفهوم هنا يستلزم القول بثبوته في اللّقب ، ولم يقل به أحد. وبيان الملازمة هو : أنه لا فرق بين الوصف واللقب إلاّ بالإجمال والتفصيل ، لأنّ معنى قولك : الفقير يجب إكرامه هو : الإنسان الفقير يجب إكرامه ، نعم ، فرق بين العنوان الوصفي حيث يقع التفكيك بين الوصف والذات والعنوان الذاتي ، لكنّ هذا الفرق لا أثر له في المقام.

وأمّا حلاًّ ، فقد ذكر الميرزا ما حاصله : إن المفهوم يتقوّم بأمرين أحدهما : أنْ يكون الحكم سنخاً لا شخصاً. والآخر : أن يكون التقييد مولويّاً حتى يكون الانتفاء عند الانتفاء مستنداً إليه وتكون العلة منحصرةً ، فلو كان الانتفاء عقلياً خرج عن البحث ، كما لو كان الحكم المنتفي شخصيّاً.

وهذا الأمران موجودان في الشرط كما تقدّم. أمّا في الوصف فلا ، لأنّ القيد قيدٌ للموضوع لا للحكم ، وتقييد الموضوع متقدم رتبةً على الحكم والنسبة ، فإذا انتفى القيد ينتفي الحكم عقلاً ، لأن انتفاء كلّ حكم بانتفاء موضوعه عقلي ولا ربط له بالمولى ....

لكنْ لقائل أن يقول : إنّ كلّ ما اقتضى دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم فهو موجود في الوصف كذلك ، إذ التقييد في كليهما مولوي ، غير أنّ القيد جاء في الشرط على الحكم أوّلاً وبالذات ، أمّا في الوصف فثانياً وبالعرض ، وهذا المقدار

٢٢٤

من الفرق لا يكون فارقاً ، لأنّ التقييد يرجع إلى المدلول وليس عقليّاً ، كما أنّ الانحصارية أيضاً موجودة في الوصف ـ من جهة ظهور أخذه دون غيره في الانحصار ـ كما أنها موجودة في الشرط ، فلما ذا يقال هناك بالمفهوم ولا يقال هنا؟

لقد ذكر المحقق العراقي فارقاً آخر وأفاد ما حاصله (١) : إن الحكم المعلَّق على الوصف ، يأتي بنحو الطبيعة المهملة ويستحيل الإطلاق فيه ، وما يكون كذلك فلا مفهوم له. بخلاف الشرط ، فإنه قابل للإطلاق فتجري فيه ثبوتاً أصالة الإطلاق ويخرج الحكم بذلك عن الإهمال ، وإذا كان مطلقاً وعلّق على الشرط فلا محالة ينتفي بانتفاء الشرط ، وهذا هو المفهوم.

مثلاً : إذا قال : أكرم زيداً العالم ، لا يكون للإكرام إطلاق بالنسبة إلى عمرو وبكر وخالد وغيرهم من الأفراد ، كما لا دلالة له على الإطلاق بالنسبة إلى أحوال زيد من القيام والقعود وغيرها. أمّا في إذا جاءك زيد فأكرمه ، فإنّ الحكم بوجوب الإكرام كان مطلقاً لا مهملاً لو لم يقيّد بالمجيء ، فلمّا قُيد ثبت له المفهوم.

والحاصل : إن الحكم في الشروط هو المطلق والسنخ ، وفي الوصف مهمل جزئي ، فلذا دلّ في الشرط على المفهوم ولم يدل عليه في الوصف.

يبقى أنه ربما يكون في بعض الروايات دلالة على ثبوت المفهوم للوصف ، من جهة استدلال الإمام عليه‌السلام به على الحكم ، كما في الخبر عن موسى بن بكر عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «وما خلا الكلب مما تصيد القيود والصقور وأشباه ذلك ، فلا تأكل من صيده إلاّ ما أدركت ذكاته ، لأن الله عزّ وجل يقول : (مُكَلِّبينَ) (٢) ، فما كان خلاف الكلب فليس صيده بالذي يؤكل الاّ إن

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٤٩٩.

(٢) سورة المائدة : الآية ٤.

٢٢٥

تدرك ذكاته» (١).

وسند الخبر عندنا معتبر لوثاقة موسى بن بكر. وأمّا دلالةً فإن الإمام عليه‌السلام تمسّك للحكم بكلمة (مُكَلِّبينَ)في الآية ، فدلّت على أن غير الكلب لا يؤكل صيده.

وقد جاء الخبر في تفسير العياشي مرسلاً.

لا يقال : لعلّ هذا التعليل من الإمام عليه‌السلام تعبّدي.

لأنه يقال : التعبّد خلاف الأصل ، بل الظاهر أن للوصف دخلاً في المعنى.

لكنّ التحقيق ما تقدم في أثناء البحث ، من أنّ تقييد الموضوع بقيد قد يكون لدفع التوهّم ، نظير الآية (لاتَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) (٢) ونظير قوله عليه‌السلام «إيّاك وظلم من لا يجد ناصراً عليك إلاّ الله» (٣) ... فليس للوصف مفهومٌ ، وإنّما يقيّد الكلام به لغرضٍ آخر غير المفهوم ، وفي رواية زرارة كذلك.

وهذا تمام الكلام في مفهوم الوصف.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ / ٣٣٩ ، الباب ٣ من أبواب الصيد ، رقم : ٣.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٣١.

(٣) وسائل الشيعة ١٦ / ٤٨ ، الباب ٧٧ من أبواب جهاد النفس ، رقم : ٦.

٢٢٦

مفهوم الغاية

الاستدلال لثبوت المفهوم

ذكروا لإثبات المفهوم وجوهاً :

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني (١) وحاصله :

إنّ الغاية إن كانت قيداً للحكم كما في «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»(٢) فمقتضى القاعدة ثبوت المفهوم ، وإنْ كانت قيداً للموضوع مثل (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (٣) فلا.

والدليل على ثبوته هناك ، هو التبادر وحكم العقل بانتفاء الحكم ، وإلاّ فلو كان ثابتاً بعد الغاية لزم لغوية التقييد بها.

وأمّا اعتبار أن يكون الحكم المغيّى سنخيّاً لا شخصيّاً ، فذلك يتمُّ على مبنى صاحب (الكفاية) ، من جهة أن الحكم المغيّا إن كان اسميّاً كما في الخبر المذكور فلا إشكال ، لأن مدلول «حلال» هو طبيعة الحليّة فليس شخصيّاً. وإن كان حرفيّاً ، فإنّ المعاني الحرفية عنده عامّة وليست بجزئية ، وإنما تتحقّق الجزئية لها بالاستعمال ... فالسنخيّة على كلّ تقديرٍ حاصله للحكم والإشكال مندفع.

هذا ، ولا يخفى أن التمثيل بالحديث المزبور مبنيٌّ على ما ذكره في مبحث الاستصحاب من أن «الحليّة» فيه حكم واقعي و «حتى تعرف» غايةٌ تدلّ على

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ / ١١٩ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، رقم : ٧ مع اختلافٍ في اللفظ.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٨٧.

٢٢٧

الاستصحاب ، وحاصل الحديث : إنّ الحليّة ـ التي هي حكم واقعي لا ظاهري ، ومجعول على الأشياء الخارجيّة ـ مستمرةٌ ثابتة حتى تعلم أنّ الشيء حرام ... خلافاً لمن يرى أنّ مدلول الحديث حكم ظاهري مثل «كلّ شيء لك طاهر» (١).

وأيضاً : لا يخفى أنّ تمثيله به لإفادة التحديد للحكم ، ولا نظر له إلى أن كون هذا التحديد مولوياً أو عقليّاً ، وإنْ كان هو عقليّاً.

هذا توضيح كلامه في الدلالة على المفهوم إن كان القيد قيداً للحكم.

وأمّا إن كان قيداً للموضوع ، فلا دلالة عليه ، بل هو ملحق بالوصف ، لأنه مع الانتفاء ينتفي الموضوع ، فتكون القضيّة سالبةً بانتفاء الموضوع.

نعم ، تفيد الغاية فائدة الوصف من الأهمية أو دفع التوهّم أو غير ذلك ، مما ذكر هناك.

والثاني : ما ذكره الميرزا رحمه‌الله : من أنه كلّما جاءت الغاية قيداً لمعنى أفرادي فلا يتحقق لها المفهوم ، ومتى ما كانت قيداً لمفاد جملة مركّبة فالمفهوم ثابت.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا الإثبات ، فهو يرى أن الغاية إنما يؤتى بها في الكلام قيداً لمدلول الجملة وبعد المادّة المنتسبة ـ حسب اصطلاحه ـ ، فلمّا يقال مثلاً : سر من البصرة إلى الكوفة ، تجعل (إلى) قيداً ل (سر) وهو جملة وليس بمفهومٍ إفرادي ، وبعبارته الاصطلاحية : هو مادّةٌ وقعت تحت النسبة وورد عليها الحكم الوجوبي ، فيكون القيد راجعاً إلى الحكم دون الموضوع ويتحقّق له المفهوم.

والثالث : ما ذكره المحقق العراقي : من أنّ الغاية إن كانت قيداً للحكم ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ / ٤٧٦ ، الباب ٢٥ ، الرقم : ٤. بلفظ «نظيف».

٢٢٨

فلا دلالة لها على المفهوم ، وكذا إن كانت قيداً للموضوع ، بل إنّها تدلّ على المفهوم إن كانت قيداً للنسبة الحكمية ، فإنّها حينئذٍ تصبح كالشرط ، ببيان : أن مقتضى الإطلاق الذي ذكر في مبحث الشرط هو انحصار سنخ الحكم بشخص الحكم المنشأ ، ثمّ حدّدت النسبة الحكمية بحدٍّ ، وهذا هو الدلالة على المفهوم. فلو قال : أكرم زيداً إلى الليل ، كان ظاهراً في الانحصار بشخص هذا الحكم ، ولما قيّدت هذه النسبة الحكمية «إلى الليل» دلّ الكلام على انتفاء وجوب الإكرام بانتفاء النهار ودخول الليل. فكلام المحقق العراقي ناظر إلى مقام الإثبات.

والرّابع : ما ذكره المحقق الخوئي في (المحاضرات) (١) من أن الغاية إن كانت قيداً للموضوع رجع دلالتها على المفهوم إلى دلالة الوصف عليه ، لأن المراد من الوصف هو الأعمّ من الوصف الاصطلاحي والحال والتمييز وما شاكل ذلك ، فيكون التقييد بالغاية من صغريات التقييد بالوصف.

وإن كانت قيداً للحكم ، فالكلام تارةً : في مقام الثبوت ، واخرى : في مقام الإثبات.

أمّا في المقام الأوّل : فلا شبهة في الدلالة على الانتفاء عند تحقق الغاية ، بل لا يبعد أن يقال بأن دلالتها على المفهوم أقوى من الشرط ، ضرورة أنه لو لا دلالته على ذلك يلزم أن لا يكون ما فرض غايةً غايةً. وهذا خلف.

وأمّا في المقام الثاني : فالظاهر أنّ الغاية قيد للفعل وهو المتعلّق دون الموضوع كسائر القيود. وأمّا رجوعه إلى الموضوع ، فيحتاج إلى قرينة كما في الآية (فَاغْسِلُوا ...) ، إذ أنّ (إِلَى الْمَرافِقِ) قيد للموضوع وهو اليد لا للمتعلّق وهو الغسل ، وكذا الأمر في (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٢) فإنه غاية لتحديد الممسوح. هذا كلّه

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٢) سورة المائدة : الآية ٦.

٢٢٩

فيما إذا كان الحكم في القضية مستفاداً من الهيئة. وأمّا إذا كان مستفاداً من مادّة الكلام ، فإن لم يكن المتعلّق مذكوراً فيه كقولنا : يحرم الخمر إلاّ أن يضطرّ المكلّف إليه ، فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم. وأمّا إنْ كان مذكوراً فيه كما في قولنا : يجب الصيام إلى الليل ، فلا يكون للقضية ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلّق ، فلا تكون لها دلالة على المفهوم ما لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.

والحاصل : إن الحكم في القضية إنْ كان مستفاداً من الهيئة ، فالظاهر من الغاية كونها قيداً للمتعلّق لا للموضوع ، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الأُستاذ من أن مفاد الهيئة معنى حرفي ، وهو غير قابل للتقييد ، وذلك لما حقّقناه في بحث الواجب المشروط من أنه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة ، بل الوجه فيه هو أن القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في رجوع القيد إلى المتعلّق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة.

وإنْ كان الحكم مستفاداً من مادّة الكلام ، فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم إن لم يكن مذكوراً ، وإلاّ فلا ظهور له في شيء منهما فلا دلالة ، إلاّ بمعونة القرينة.

رأي الأُستاذ :

وقد وافق الأُستاذ ـ في كلتا الدورتين ـ الميرزا النائيني ، فذكر ما حاصله : إنّ مقتضى القاعدة أن تكون الغاية قيداً للمعنى الحدثي ، وإنْ خالفه في قوله برجوع القيد إلى المادّة ـ في مبحث الواجب المشروط ـ لأن معنى الهيئة حرفي ، وقال هناك بقابليّة الهيئة للشرط. وحاصل كلامه هنا : إنّ الحق مع الميرزا في رجوع القيد إلى المادّة المنتسبة ، لأنّ ذلك هو الموافق لاستظهار الإمام عليه‌السلام ، فقد

٢٣٠

روى الكليني في الصحيح عن سماعة قال : «سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر ، فقال أحدهما : هو ذا ، وقال الآخر : ما أرى شيئاً. قال عليه‌السلام : فليأكل الذي لم يستبن له الفجر ، وقد حرم على الذي زعم أنه رأى الفجر. إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ اْلأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ اْلأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (١) (٢).

فقد استدلّ الإمام عليه‌السلام بالآية واستظهر منها المفهوم ، والحكم فيها ليس بمدلولٍ اسمي ، إذ ليس في الآية كلمة «يجب» أو «يحرم» ونحوهما ، بل الحكم مدلول للهيئة وهو (كُلُوا وَاشْرَبُوا). فالقول بأن الغاية إنْ كانت قيداً للمتعلّق فلا مفهوم ـ كما ذهب إليه في (الكفاية) ـ ينافي النص ، والقول بعدم المفهوم إنْ كان الحكم مفاد الهيئة ساقط.

فتلخص : إنّ الحق مع الميرزا في ما ادّعاه وإنْ لم يتم دليله.

إذن ، للغاية مفهومٌ سواء كانت غايةً للحكم أو للمادة التي وقع عليها الحكم ، وسواء كان الحكم مدلولاً للهيئة أو مستفاداً من المادّة التي هي مدلول اسمي كالوجوب والحرمة.

وهذا مقتضى القاعدة والارتكاز العرف أيضاً.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٧٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ / ١١٩ ، الباب ٤٨. رقم : ١.

٢٣١

مفهوم الحصر

وللحصر أدوات. منها كلمة (إلاّ) ، وهي تدلّ عليه إذا كانت بمعنى الاستثناء ، أما عند ما تكون بمعنى الصّفة فلا ، لما تقدّم من أن لا مفهوم للوصف.

وأمّا دلالتها على الحصر في صورة كونها بمعنى الاستثناء ، فلأن الاستثناء هو نفي الحكم الثابت في المستثنى منه أو إثبات الحكم المنفي ، فلما يقول : «أكرم العلماء إلاّ الفساق» يخرج الفسّاق ويعزلهم عن العلماء في الحكم الثابت لهم وهو الإكرام ، فينحصر الحكم بالعدول منهم ... وهذا هو المرتكز عند العرف ، ولذا يرون التناقض فيما لو قال ذلك ثم أمر بإكرام الفسّاق كذلك.

ولم يخالف في هذا إلاّ أبو حنيفة مستدلاًّ ب «لا صلاة إلاّ بطهور» (١).

وقد أجيب بوجوه ، أمتنها ما في حاشية (الكفاية) (٢) : من أن مثل هذا الكلام ظاهر عرفاً في الاشتراط ، أي إنّ الصّلاة مشروطة بالطّهارة.

والحاصل أن لا شبهة في دلالة الاستثناء على الانحصار.

إنما الكلام في أنها دلالة منطوقية أو مفهوميّة؟

اختار الأُستاذ وغيره الأول تبعاً للميرزا ، ثم قال : بأن البحث عن ذلك قليل الجدوى ، بعد ثبوت أصل المطلب.

ومن أدوات الاستثناء المفيدة للحصر كلمة «إنما» ، وقد نصّ علماء (٣) اللّغة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ٣١٥.

(٢) كفاية الاصول : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٣) قال الفيّومي : «قيل : تقتضي الحصر» ، قال الجوهري : «إذا زدت (ما) على (إنّ) صارت للتعيين ...» المصباح المنير : ٢٦.

٢٣٢

والنحو على دلالتها على ذلك ، وهو المتبادر منها ... وقد كابر الفخر الرازي (١) مدّعياً النقض بقوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) (٢) و (إِنَّمَا الحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...) (٣).

وقد أُجيب عن ذلك بالتفصيل في (المحاضرات) (٤).

ثم إن صاحب (الكفاية) تعرض لكلمة التوحيد وأنه هل الخبر هو «ممكن» أو «موجود». فإنْ كان الأول ، أفاد إمكان الذات وليس هو المقصود. وإن كان الثاني ، أفاد الوجود ولا ينفي الإمكان عن غير البارئ.

فذكر إمكان جعل «الممكن» هو الخبر ، ولا يقع أي إشكال ، لأن هذا الإمكان هو الإمكان العام ، وهو في الواجب مساوق لضرورة الوجود ، لا الإمكان الخاص ، لأنه يقابل وجوب الوجود ، إذ هو سلب الضرورة عن الوجود والعدم.

وأمّا ما في تقرير بحث السيّد البروجردي رحمه‌الله من أن هذه الكلمة تنفي العبادة عن غير الله ولا تنفي الالوهيّة عن الغير ، فلا ربط لها بالتوحيد (٥) ، مستدلاًّ بأنّ المشركين في ذلك الوقت كانوا مشركين في العبادة لأنهم كانوا يقولون (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللهِ زُلْفَى) (٦) ولم ينكروا صفات الله كالخالقيّة والرازقيّة.

فغفلة عن الآيات ، فإنهم كانوا ينكرون الالوهيّة لله كما في قوله تعالى

__________________

(١) التفسير الكبير ١٢ / ٣٠.

(٢) سورة يونس : الآية ٢٤.

(٣) سورة محمّد : الآية ٣٦.

(٤) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٨٨.

(٥) نهاية الاصول : ٢٨٣.

(٦) سورة الزمر : الآية ٣.

٢٣٣

(وَكَذلِكَ نُري إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ ...) (١) وفي قوله تعالى (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) (٢) ونحو ذلك.

فالكلمة مرتبطة بالتوحيد.

مفهوم العدد

لا بحث فيه إلاّ كلمة واحدة هي : إنْ كان العدد في مقام التحديد ، دلّ على المفهوم وإلاّ فلا.

وهذا تمام الكلام في المفاهيم. والحمد لله.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٧٥.

(٢) سورة المؤمنون : الآية ٩١.

٢٣٤

المقصد الرابع

العام والخاص

٢٣٥
٢٣٦

تعريف العام

قد عرّف العام بتعاريف ، كقول بعضهم ـ كما في (الفصول) (١) ـ : «هو اللفظ المستغرق لما يصلح له» وكقول (الفصول) (٢) : «ما استغرق جميع جزئيات مفهومه لفظاً». وكقول الشيخ البهائي ـ كما في القوانين (٣) ـ : «هو اللفظ الموضوع للدلالة محل استغراق أجزائه أو جزئياته» و (الكفاية) (٤) : «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه».

قال الأُستاذ ـ في الدّورة السّابقة ـ إن أحسن التعاريف هو : كون اللّفظ بحيث يشمل مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق مفهوم الواحد.

لكن يرد عليه : عدم شموله للعام البدلي ، لأنه عبارة عن الواحد على البدل ، والحال أنه ليس له «واحد» منطبق عليه.

قال في (الكفاية) ، إنها تعاريف لفظيّة ، والمعنى المركوز من العامّ في الأذهان أوضح ممّا عرف به مفهوماً ومصداقاً ... وهذا هو الصحيح.

__________________

(١ و ٢) الفصول الغرويّة : ١٥٧.

(٣) قوانين الاصول : ١٩٢.

(٤) كفاية الاصول : ٢١٧.

٢٣٧

وهنا مطالب :

الأول (في الفرق بين العام والمطلق).

إن العام والمطلق كليهما يفيدان شموليّة المفهوم ، إلاّ أن الأوّل يفيد ذلك بحسب وضع الأداة ، والمطلق يفيده ببركة مقدّمات الحكمة. هكذا قالوا.

والتحقيق هو : إن الحكم في المطلق يتوجّه إلى الطبيعة بما هي ، وأمّا الخصوصيّات ، فقد وقع الخلاف بينهم في أنها تُلحظ وترفض أو لا تلحظ أصلاً ، وقد اختار الأُستاذ ـ في الدورة السّابقة ـ الأول من القولين. هذا بحسب مقام الثبوت.

أمّا في مقام البيان ، فالموجود في هذا المقام هو البيان بالنسبة إلى الطبيعة وعدمه بالنسبة إلى الخصوصيّات ، فهو يلحظ الرقبة ويلحظ خصوصياتها بنحو الإجمال ويرفضها ، ولذا كان الإطلاق في مقام الإثبات عدميّاً ، فالمتكلّم مع كونه في مقام البيان لم يبيّن دخل الخصوصيّة في حكمه ، فكان عدم البيان دليلاً على عدم الدخل.

وأمّا في العام ، فإن الخصوصيّات تلحظ وتؤخذ ، فإذا قال : أكرم كلّ عالم ، دلّ بكلمة «كلّ» على أخذه جميع الخصوصيّات ونزول الحكم عليها ، ولذا قال المشهور بعدم الحاجة فيه إلى مقدّمات الحكمة خلافاً للميرزا كما سيأتي.

وبما ذكرنا يظهر : إن الشمول في طرف الإطلاق لازم له وليس الإطلاق ، بخلاف العام فإن اللفظ يدلّ عليه بالمطابقة.

هذا ، ولا يخفى الأثر على هذا الفارق الجوهري بين المطلق والعام ، كقولهم بعدم وقوع التعارض بينهما ، لكون العام حاكماً أو وارداً على المطلق لأنه بيان والمطلق عدم البيان ... وإنْ خالفناهم في هذا المبنى ، كما سيأتي في محلّه.

٢٣٨

الثاني (هل يحتاج إفادة العموم إلى مقدّمات الحكمة؟)

قال الميرزا : نعم ، لأن الدلالة على العموم بأداته وإنْ كانت وضعيّة إلاّ أنها لا تفيد إلاّ الاستيعاب بالنسبة إلى الأفراد ، فلما يقال : «أكرم كلّ عالم» شمل جميع أفراد العالم ، ولكنْ هل المراد خصوص العدول منهم أو الأعم؟ فلا دلالة لها عليه ، فنحتاج إلى مقدمات الحكمة لإفادة عدم تقيّد المتعلّق بالعدالة وغيرها من العناوين. وعلى الجملة : فإن «كلّ» تفيد الشمول والاستيعاب في الخصوصيّات المفرّدة ، وأمّا الخصوصيّات الصنفية والنوعية ، فلا دلالة إلاّ بمقدّمات الحكمة.

وقد اشكل عليه : بأن لازم هذا الكلام أنْ لا يكون عندنا لفظ صريحٌ في العموم ، ولكنّ التالي باطل ، للفرق الواضح بين العام والمطلق ، فالمقدّم مثله.

فأجاب عنه الأُستاذ ـ في الدورتين ـ بإمكان أن يفرّق بين الخصوصيّات الصنفية والنوعية وبين الأفراد ، فيقال بعدم كفاية الأداة في الدلالة على العموم في تلك الخصوصيّات وأنه لا صراحة لها فيها إلاّ أن يقال : أكرم كلّ عالم من كلّ صنف ، فحينئذ يكون الكلام صريحاً ... إذن ، يمكن اجتماع الصراحة مع مقدّمات الحكمة ، ولا تنافي بينهما.

(قال) فالحق في الإشكال أن يقال : بأنّ إجراء المقدّمات من أجل الدلالة العقليّة مع وجود الأداة الدالّة على العموم لغوٌ ، لأنّ إجرائها إنما يكون حيث لا دلالة لفظيّة ، والمفروض أنّ كلمة «كل» لها الظهور التام والدلالة الواضحة على إرادة جميع الأفراد بأصنافها وأنواعها ، فلا حاجة إلى المقدمات ، وإجراؤها لغو.

الثالث (في انقسام العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي)

فالاستغراقي ، عبارة عن لحاظ كلّ فردٍ فردٍ موضوعاً مستقلاًّ للحكم ، بحيث لو جاء الحكم لا نحلّ على عدد الأفراد ، وكان هناك إطاعات ومعاصٍ بعددها.

٢٣٩

والمجموعي ، عبارة عن الاستيعاب لجميع الأفراد مع لحاظ الجميع موضوعاً واحداً ، بحيث لو جاء الحكم فالامتثال أو المعصية واحد.

والبدلي ، عبارة عن الإتيان بالحكم على الفرد بنحو صرف الوجود ، ويكون الطاعة أو المعصية واحداً لا أكثر ... لكنّ السعة هي في مقام تطبيق الموضوع على الفرد.

هذا ، وقد استظهر من كلام صاحب (الكفاية) أن هذا الانقسام إنما هو بلحاظ تعلّق الحكم ، فاشكل عليه (١) بعدم توقّفه على ذلك ، لأن المولى عند ما يجعل الشيء موضوعاً لحكمه ، لا بدّ أن يلحظه في مرتبة الموضوع لاستحالة الإهمال ، فهو يلحظه إمّا بنحو الاستغراق أو الاجتماع أو البدليّة ، هذا في مقام اللّحاظ. وفي مقام البيان : لمّا يقول أكرم كلّ عالم أو : كلّ عالمٍ يجب إكرامه ، فلا توقف لدلالة الكلام على الشمول للموضوع على وجود الحكم وهو وجوب الإكرام ....

والظاهر ورود هذا الإشكال.

إلا أن الأُستاذ ـ في الدورة اللاّحقة ـ أفاد بأنّه وإنْ كان قوله بأن اختلاف أنحاء العموم باختلاف الأحكام ظاهراً فيما نسب إليه ، إلا أنه لا بدّ من الدقّة في سائر كلماته هنا وفي الفصل اللاّحق ليتّضح مراده تماماً ، وذلك لأنه في الفصل اللاّحق يصرّح بوجود اللّفظ الموضوع للعموم مثل «كلّ». فمن يقول بوضع هذه الكلمة للدلالة على العموم الاستغراقي ، كيف يعقل أن يقول بأنّ الدلالة عليه ناشئة من الحكم؟ هذا أولاً.

وثانياً : إنه في نفس هذا الفصل يقول ـ بعد ذكر اختلاف أنحاء العموم

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٢٤٠