تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

حقيقيّة ، والواحد السنخي يمكن صدوره من المتعدّد. هذا أولاً : وثانياً : إن مورد البحث هو الأحكام الشرعية ، ومنشأ الصدور فيها هو الاعتبار الشرعي ، ومن الواضح أنّ نسبة الموضوعات والشروط إلى الأحكام ليست نسبة العلّة إلى المعلول.

رأي الميرزا

وتلخّص البحث في أنه لا بدّ من علاج للتنافي ، إن لم نقل بالتساقط والرجوع إلى دليلٍ آخر أو أصل عملي ... والعلاج هو الجمع ب «الواو» أو ب «أو» ، وقد اختار الميرزا الطريق الأول ، وحاصل كلامه :

إن كلّ قضية شرطية فلها إطلاقان ، أحدهما هو الإطلاق بالنسبة إلى أيّ ضميمةٍ ، فلمّا قال : إن خفي الأذان فقصّر ، كان ظاهراً في استقلال خفاء الأذان في الشرطيّة للقصر ، وأنه ليس لهذا الشرط جزء ، بل هو تمام الشرط. والثاني هو الإطلاق بالنسبة إلى أي شيء يكون شرطاً غير هذا المشروط ، فلمّا قال : إن خفي الأذان فقصّر ، كان ظاهراً في انحصار العليّة للقصر في خفاء الأذان.

أمّا الإطلاق الأول ، فيعبّر عنه بالإطلاق في قبال «الواو».

وأمّا الثاني ، فيعبّر عنه بالإطلاق في قبال «أو».

هذا كلّه في حال وحدة الشرط والجزاء.

فإنْ تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، وقع التنافي بين الجملتين ، كما هو واضح ، فلا بدّ من طريقٍ للعلاج ، وهو أن يقال بأن الإطلاق الثاني في طول الأوّل ، وأنّ الأوّل مقدّم رتبةً على الثاني ، لأنه ما لم يتم الأوّل فيعيّن به شخص الشرط وحدّه ، لا تصل النوبة إلى البحث عن انحصار العليّة وعدم انحصارها فيه ، فلو تعدّد الشرط فإنّه بمجرّد انعقاد الإطلاق الأول يمتنع انعقاد الثاني ، لأن انعقاده موقوف

٢٠١

على تماميّة المقتضي وعدم المانع ، ومن الواضح مانعيّة الإطلاق الأول بالنسبة إليه.

قال الميرزا : لكنّ تقدّم أحد الإطلاقين على الآخر في الرتبة لا يوجب صرف التقييد إلى المتأخر ، لأن الموجب لرفع اليد عن الإطلاقين إنما هو وجود العلم الإجمالي بعدم إرادة أحدهما ، ومن الواضح أن نسبة العلم الإجمالي إلى كليهما على حدٍّ سواء ، فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما بخصوصه دون الآخر ، فيسقط كلاهما عن الحجيّة ، لكنّ ثبوت الجزاء ـ كوجوب القصر في المثال ـ يعلم بتحقّقه عند تحقق مجموع الشرطين على كلّ تقدير ، وأمّا في فرض انفراد كلّ من الشرطين بالوجود ، فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه ، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض ـ لسقوط الإطلاقين بالتعارض ـ فتصل النوبة إلى الأصل العملي ، فتكون النتيجة موافقةً لتقييد الإطلاق المقابل بالعطف بالواو.

رأي السيد الخوئي

وذهب السيد الخوئي إلى الجمع ب «أو» ، فقال (١) بعد ذكر مختار الميرزا ما ملخّصه :

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده صغراً وكبراً.

أما بحسب الصغرى ، فلأنّ مورد الكلام ليس من صغريات ما أفاده من كبرى الرجوع إلى الأصل العملي ، بل هو من صغريات الرجوع إلى الأصل اللّفظي ، وتوضيح ذلك :

إن وجوب القصر على المسافر ثابت بالإطلاقات الواردة بالكتاب والسنّة ، والمقصود هو السفر العرفي ، وهو يصدق عند العرف على من خرج من بلده

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٤٦.

٢٠٢

بقصد السفر ، غير أن الشارع قيّد ذلك بالوصول إلى حدّ الترخّص بالأدلّة ، فما لم يصل المكلّف إلى الحدّ المذكور فلا تقصير ، فلو خفيت إحدى الأمارتين ـ من الأذان والجدران ـ وشكّ في وجوب القصر عليه ، كان المرجع الإطلاقات ـ لا الأصل العملي من البراءة عن القصر أو استصحاب بقاء التمام ـ ومقتضى الإطلاق وجوب القصر ... لأن القدر الثابت من تقييدها هو ما إذا لم يخف الأذان والجدران ، أما مع خفاء أحدهما فلا نعلم بتقييدها ، ومعه لا مناص من الرجوع إليها لإثبات وجوب القصر ، لفرض عدم الدليل على التقييد بعد سقوط كلا الإطلاقين بالمعارضة ، فتكون النتيجة هي نتيجة العطف ب «أو» ... فالكبرى التي ذكرها الميرزا غير منطبقة على المقام.

(قال) : وأمّا بحسب الكبرى ، فالصحيح أن القاعدة تقتضي تقييد الإطلاق المقابل للعطف ب «أو» دون «الواو» كما اختاره شيخنا الأُستاذ ، والسّبب في ذلك هو : إنه لا منافاة بين منطوقي القضيتين الشرطيتين المتقدّمتين ، ضرورة أن وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ينافي وجوبه عند خفاء الجدران أيضاً ، لفرض أن ثبوت حكمٍ لشيء لا يدلّ على نفيه عن غيره ، وكذا لا منافاة بين مفهوميهما ، لوضوح أنّ عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ينافي عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران ، إذ عدم ثبوت حكم عند عدم شيء لا يقتضي ثبوته عند عدم شيء آخر ، ليكون بينهما تنافي.

بل المنافاة إنما هي بين إطلاق مفهوم احداهما ومنطوق الاخرى ، مع قطع النظر عن دلالتها على المفهوم. وما تقدّم من شيخنا الأُستاذ ـ وهو رفع اليد عن كلا الإطلاقين معاً والرجوع إلى الأصل العملي ـ وإنْ أمكن رفع المعارضة به ، إلاّ أن الأخذ به بلا موجب بعد إمكان الجمع العرفي بين الدليلين ....

٢٠٣

(قال) ما حاصله : إنه يمكن الجمع بين الدليلين على أنحاء ، كأن يحمل أحدهما على الاستحباب أو على التقيّة أو ما شاكل ذلك ، لكنّ المطلوب ليس هو الجمع كيفما اتفق بل الذي يساعد عليه العرف ... والجمع العرفي في محلّ الكلام ممكن ـ فلا موجب للرجوع إلى الأصل العملي ـ وهو تخصيص مفهوم كلّ من القضيّتين بمنطوق الاخرى ، ونتيجة ذلك هو التقييد والجمع ب «أو» ، فإنّه الجمع الدلالي المطابق للارتكاز العرفي في المقام وأمثاله.

رأي الأُستاذ

وقد أفاد الشيخ الأُستاذ دام ظلّه : بأن ما أورد على الميرزا في كيفية الجمع هو الحق ، وعليه أكثر المتقدّمين خلافاً لأكثر المتأخرين ، فإنّه مقتضى الصناعة العلميّة والذوق العرفي والارتكاز العقلائي ... وعلى الجملة ، فإنّ منشأ التنافي هو الدّلالة في كلّ منهما على الانحصار وهو يرتفع بتقييد الإطلاق في مقابل «أو».

وأمّا الإشكال عليه : بأنّ المورد ليس من موارد الرجوع إلى الأصل العملي بل هو من موارد التمسّك بالدليل اللّفظي وهو عموم : المسافر يقصّر ، لأنه بمجرّد خروجه من البلد يصدق عليه عنوان المسافر. فقد يمكن دفعه بالتأمّل في صدق العنوان المذكور على من خرج إلى أطراف البلد ، ومع الشك ، فالشبهة مفهوميّة والمرجع فيها هو الأصل لا العام.

نعم ، يقوى الإشكال عليه بالنظر إلى كلامه في كتاب الصّلاة (١) ، حيث تمسّك هناك عند الشك بعموم «المسافر يقصّر» ، فليس المورد من الشبهة المفهومية ، وعليه ، فلما ذا لم يرجع هنا إلى العام؟

__________________

(١) كتاب الصلاة ـ بتقرير الشيخ الآملي ـ ج ٣ ص ٣٦٩.

٢٠٤

النظر في كلام السيد البروجردي

ويبقى النظر في كلامٍ للسيد البروجردي (١) ، فقد أشكل بأنّ المفهوم أمرٌ تبعي للمنطوق ، فلا يعقل انعقاد الإطلاق في المفهوم حتى يقيّد بمنطوق الدليل الآخر.

فأورد عليه الأُستاذ ـ في الدورتين ـ بأنّه خلطٌ بين التبعية في الوجود والتبعية في اللّحاظ ، فإنّ التبعية في الوجود تجتمع مع الاستقلال في اللّحاظ ، وحال المفهوم بالنسبة إلى المنطوق من هذا القبيل ، بخلاف مثل المعنى الحرفي بالنسبة إلى الاسمي ، فإنّه تابع له في اللّحاظ ، وعلى هذا ، فإنّ المفهوم قضيّة كالمنطوق ، لها موضوع ومحمول ، والموضوع لا يكون مهملاً بالنسبة إلى محموله ، فهو إمّا مطلق وامّا مقيد.

الأمر الثالث (في تداخل الأسباب والمسبّبات)

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء وعلمنا بدليلٍ خارجي أو من نفس ظهور القضيّتين ، أن كلّ واحدٍ من الشروط مستقلّ في ترتّب الجزاء عليه ، فهل مقتضى القاعدة تداخل الشرطين أو الشروط في تأثير أثرٍ واحد أو لا؟

مثلاً : إذا اجتمع سببان أو أكثر للغُسل كمسّ الميّت والحيض والجنابة ، فهل تقتضي كلّها غُسلاً واحداً أو أن كلاًّ منها يقتضي غسلاً فيتعدّد؟ وعلى تقدير الاقتضاء للتعدّد ، فهل مقتضى القاعدة هو التداخل بأنْ يكفي الغُسل الواحد أو لا؟

هذا ، ولا يخفى أن هذا البحث يطرح ، سواء على القول بالتضادّ بين الأحكام بأنفسها فلا يجتمع الحكمان في مورد ، أو القول بأنها اعتبارات ولا مانع من اجتماع الاعتبارين في موردٍ. أمّا على الأوّل فواضح ، فإنّه يلزم اجتماع المثلين

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٧٤.

٢٠٥

في المثال وهو محال ، وأمّا على الثاني ، فإنّه لا ريب في أن الحكم الوجوبي بالغسل إنما هو بداعي تحريك المكلّف نحو الفعل ، لكنّ المادة الواحدة ـ وهي الغُسل ـ لا تقبل الانبعاثين في مقام الامتثال ... فيعود الإشكال.

وقد ذكروا قبل الورود في البحث اموراً :

الأول : إن مورد هذا البحث حيث لا دليل من الخارج على التداخل أو عدمه ، وإلاّ فالمتّبع هو الدليل ، كما هو الحال في بابي الوضوء والغسل ، فالنصوص أفادت هناك إجزاء الوضوء أو الغسل الواحد مع تعدّد الأسباب.

الثاني : إن محلّ الكلام هو الشرط القابل للتعدّد والتكرار كالوضوء والغسل ، أمّا ما لا يقبله فهو خارج ، كما لو ورد دليل في أن من أفطر في شهر رمضان فعليه كذا ، فإنّ الإفطار ـ وهو نقض الصوم ـ يتحقق بالفعل الموجب له ، فإذا انتقض لا ينتقض ثانياً.

الثالث : إن محلّ الكلام ما إذا كان الجزاء قابلاً للتعدّد ، لا مثل القتل ، فلو ارتكب اموراً يستحق القتل على كلّ واحدٍ منها ، فإنه لا يقبل التعدّد والتكرّر ، وإنْ كان هناك أحكامٌ مترتّبة ... وكذلك في المعاملات ، فقد يتحقّق للخيار في معاملةٍ واحدة أسباب عديدة من الغبن والحيوان والعيب ، لكن الفسخ شيء واحد ، وإنْ كان هناك أحكام اخرى مترتبة.

الرابع : في مقتضى الأصل ... وأنه إذا تعدّدت الأسباب هل ترجع إلى سبب واحدٍ وتتداخل أو لا؟ وإذا تعدّدت المسبّبات ، هل ترجع إلى واحدٍ وتتداخل أو لا؟

أمّا المسببات ، فمقتضى القاعدة الاشتغال وعدم التداخل ، وذلك (أولاً) مقتضى إطلاق الدليل ، فإنّ إطلاق أي شرطٍ وجزاءٍ يقتضي الامتثال سواء امتثل

٢٠٦

بفردٍ آخر أو لا؟ فلو قال الدليل : إنْ فعلت كذا فكفّر بكذا ، وجبت عليه الكفارة سواء أعطاها بسببٍ آخر أو لا. (وثانياً) هو مقتضى الاستصحاب ، فإنه لو كفَّر لسببٍ وشك في كفايتها عن الكفارة لسببٍ آخر ، يستصحب وجوبها عليه بذاك السبب. (وثالثاً) : إنه مقتضى قاعدة : الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

وأمّا الأسباب ، فمقتضى الأصل هو التداخل وعدم التعدّد ، فإذا تعدّد السّبب وشك في إيجابها للآثار المتعدّدة ، كما في الوضوء مثلاً ، فإنّ الشك يرجع إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، لكنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ من جهة كون الأقل متيقّناً ، أما الزائد فمشكوك فيه ، فيستصحب عدم تعلّق الجعل الشرعي به ، وهذا هو الأصل الأول الحاكم في المقام.

ثم تصل النوبة إلى الأصل المحكوم وهو البراءة الشرعية ، ثم تجري البراءة العقلية.

فمقتضى الأصل في طرف الأسباب هو التداخل ، وفي طرف المسبّبات هو عدم التداخل.

الخامس : في ما نسب إلى فخر المحقّقين من أنّ القول بالتداخل وعدمه يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباباً أو معرّفات. فعلى الأول لا تتداخل وعلى الثاني فلا مانع من التداخل لجواز اجتماع أكثر من معرّفٍ على الشيء الواحد.

وقد أورد عليه في (الكفاية) (١) وغيرها بما حاصله : إن الأحكام الشرعيّة معتبرات ، وهي في الأصل وفي الخصوصيات من الإلزام والترخيص وغير ذلك تابعة لإرادة الشارع ، وهي السبب لها ، فالقول بأنّ الأحكام الشرعيّة أسبابٌ والبحث عن كونها مؤثرة أو لا ، غير صحيح ، بل إنّ كلّ ما عبّر عنه بالسبب الشرعي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠٥.

٢٠٧

فإنّه موضوع وليس بمؤثّر ولا معرّف ، فالزوال مثلاً له الموضوعية الشرعيّة لوجوب صلاة الظهر لا أنه مؤثر ... كما أن الحكم بوجوب صلاة الظهر يدور مدار الزوال لا أنه معرّف للحكم ... وعلى ما ذكر ، فإن مقتضى القاعدة هو عدم التداخل.

وبعد الفراغ من الامور فاعلم : أن في المسألة ثلاثة أقوال :

الأول : التداخل. والثاني : عدم التداخل. والثالث : التفصيل بين ما إذا اختلف السبب ذاتاً كمسّ الميّت والجنابة فلا تداخل ، وما إذا اتّحد السبب كتكرّر الجنابة مثلاً ، فالتداخل وهو مختار ابن إدريس.

رأي صاحب الكفاية

واختار المحقق الخراساني القول بعدم التداخل ، ومحصّل كلامه هو :

إنّ القضيّة الشرطية ظاهرة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط وترتّبه عليه ، فهي تقتضي الارتباط بين الشرط والجزاء ، لا أنها تفيد فقط ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ... وعلى هذا ، فإن تكرّر الشرط ظاهر في تكرّر الجزاء ، فيحدث وجوبان للوضوء عند حدوث النوم والبول ، لكنّ اجتماع المثلين محال ـ أمّا على مسلكه ، فاجتماع نفس الحكمين محال. وأمّا على مسلك المحقق الأصفهاني فإنه ينتهي إلى المحال ـ وإذا لزم المحال ، فلا بدّ من القول بالتداخل ، وهو يتوقف على ارتكاب أحد امور ثلاثة.

إمّا رفع اليد عن ظهور كلّ قضيّة شرطية في الحدوث عند الحدوث ، بأنْ يقال بأن الأولى كذلك ، أمّا الثانية فهي تدلّ على الثبوت عند الثبوت.

وامّا التصرّف في المتعلَّق ، بأنْ يقال إنه وإن كان ظاهر : «إن بلت فتوضأ» و «إنْ نمت فتوضّأ» هو ورود الوجوبين على الوضوء ، لكنّهما واردان على أمرين منطبقين على الوضوء ، كانطباق عنوان العالم والهاشمي على زيد الواجب إكرامه

٢٠٨

في «أكرم الهاشمي» و «أكرم العالم».

لا يقال : في هذه الحالة يلزم اجتماع المثلين كذلك ، لأن المفروض هو الإبقاء على ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث ، فيحصل الوجوبان للوضوء.

لأنا نقول : انطباق العنوان على الوضوء يوجب اتصافه بالوجوب لكونه منطبقاً للعنوانين ، لا أنه يحدث له وجوبان ، كما هو الحال في زيد الذي انطبق عليه العنوانان ، فإنه يجب إكرامه ، ولا يجتمع فيه وجوبان.

وامّا حمل الدليل الثاني على التأكيد ، فلا يفيد حكماً آخر وإنّما يفيد التأكيد على الحكم في الدليل الأول.

لكنّ ارتكاب شيء من هذه الامور ممنوع ، لكونها خلاف الظّاهر.

على أنّ الذهاب إلى الوجهين الثاني والثالث لا دليل عليه ، فما المثبت لأنَّ الوضوء منطبق لعنوانين ، وأنه ليس نفسه المتعلَّق للحكم في القضيتين؟ وما الدليل على أنّ الخطاب الثاني جاء للتأكيد على مدلول الخطاب الأوّل؟

فإنْ قيل : لزوم المحال ـ وهو اجتماع المثلين ـ برهان على ضرورة رفع اليد عن الظهور.

قلنا : هذا لو لم يكن طريق آخر ، وهو القول بإفادة كلّ شرطٍ فرداً من الوجوب للوضوء غير الفرد الآخر.

فإنْ قيل : الاحتفاظ بالظهورات والقول بحدوث الفرد الآخر يستلزم المخالفة لظهور آخر ، وهو أنّ كلّ قضيّة شرطية فلها ظهور إطلاقي في صِرف الوجود ، فحمل الشرط الثاني على الفرد غير الأول مخالفٌ لإطلاق «توضّأ» ... وصرف الوجود هو ناقض العدم الكلّي في اصطلاح المشهور ، وينطبق على أوّل

٢٠٩

وجود ، فكان هو المتعلّق ، وأوّل وجودٍ لا تعدّد فيه.

فالجواب : إن ظهور إطلاق متعلّق الوجوب في صِرف الوجود يقتضي وحدة وجود الوضوء ، إلاّ أنّه ظهور إطلاقي ، هو موقوف على عدم القرينة وما يصلح للقرينية ، وحينئذٍ ، فإنّ ظهور كلّ قضية شرطية في الحدوث عند الحدوث والظهور في التأسيس دون التأكيد قرينة على سقوط الإطلاق وحمل الأمر بالوضوء على وجودٍ آخر منه ... فيسقط الإطلاق المقامي ، ويتمُّ القول بعدم التداخل.

رأي الميرزا

وقال الميرزا : إنه إن كان الشرطان مختلفين كما في مثال البول والنوم للوضوء ، فإنّ كلاًّ من القضيّتين مطلق ، أي سواء نمت أو لا. وسواء بُلت أو لا ، وكذلك إن لم يكونا مختلفين كما لو تكرّر البول أو النوم ، لأن كلّ واحدٍ من ذلك موضوع مستقل ويقتضي حكماً ، فظهر أنه مع تعدّد الشرط يتعدّد الجزاء مطلقاً ، لأن كلّ شرط فهو موضوع وكلّ موضوع يقتضي حكماً. فهذا مطلب.

والمطلب الآخر هو : إن ما اشتهر من أن المتعلّق للأمر هو صرف الوجود لا أساس له ، لأن الأمر مثل «توضأ» مركّب من المادّة والهيئة ، ولا شيء منهما بدالٍّ على صرف الوجود ، فلا أساس للإشكال بأنْ صرف الوجود لا يتحمّل الوجودين.

وبناءً على المطلبين ، يتم القول بعدم التداخل ، لأن الحدوث عند الحدوث يقتضي التعدّد ، ولا محذور من قبل المتعلّق ، لما تقدّم من أنه لا أساس للقول بأن المتعلّق للأمر هو صرف وجود الطبيعة ... فيبقى ظهور القضيّة الشرطيّة على حاله ، ويتمّ عدم التداخل.

٢١٠

الكلام حوله

وهذا البيان قد استجوده تلميذه في (المحاضرات) (١) ، وللنظر في المطلب الثاني مجال.

لقد ذكر أنّ المتعلّق هو طبيعة الوضوء ، لأن مفاد الهيئة طلب الإيجاد والمادّة هو الطبيعة ، فلا دالّ على صرف الوجود ، فنقول :

أولاً : لقد نقل عنه تلميذه المحقق أنْ المتعلّق هو إيجاد الطبيعة بمعنى نقض العدم المطلق ، وعليه ، فإن العدم المطلق يستحيل نقضه مرّتين بل يحصل بأول وجود ، وهو لا يقبل التعدّد.

وثانياً : إن الطلب المتعلّق بوجود الطبيعة يستحيل أن يكون مهملاً ، وعليه فلا بدّ من أن تكون الطبيعة لا بشرط بالنسبة إلى الوحدة والتعدّد ، لأنّها بشرط الوحدة صرف الوجود ، وكونها بشرط التعدّد باطل ـ إذْ لا يقال بتعدّد الوضوء ـ وإذا كان لا بشرط بالنسبة إليها ، فالمكلّف إنْ أتى بوضوءٍ واحدٍ لعدة أسباب فقد أتى بمصداق الواجب ، وإنْ أتى بوضوءات متعددة بعدد الأسباب ، كان كلٌّ منها واجباً ، وهذا خلاف الضرورة الفقهيّة.

رأي العراقي

وذهب المحقق العراقي إلى وجهٍ آخر للقول بعدم التداخل (٢) ، وحاصله : إنّ كلّ قضيّةٍ من القضيتين ظاهرة في الاستقلال ، فهنا ظهوران متمانعان. ولكنْ في طرف الجزاء ظهور واحد في صرف الوجود وهو معارض لظهور الشرطين ، فإنْ رفعنا اليد عن ظهور الشرطين في الاستقلال وقلنا بوجوب الوضوء مرةً ، لزم رفع

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٦٣.

(٢) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٤٨٦.

٢١١

اليد عن ظهورين ، وإنْ رفعنا اليد عن ظهور الجزاء سقط ظهور واحد ... ولا ريب في أولويّة رفع اليد عن ظهور الجزاء ، إذ الضرورات تتقدّر بقدرها.

وذكر رحمه‌الله وجهاً آخر وحاصله :

إن نسبة الجزاء إلى الشرط نسبة المعلول إلى العلّة ، فهو تابع له ثبوتاً وإثباتاً ، فالذي يلحظ أوّلاً هو الشرط ، وعند ما يلحظ كلٌّ من الشرطين ، ينعقد الظهور لكلٍ منهما بالاستقلال ، وذلك يحول دون أن ينعقد ظهور الجزاء في صرف الوجود.

النظر في هذا الرأي

وقد تنظّر الأُستاذ في كلا الوجهين. أمّا في الأوّل : فمن جهة عدم البرهان على الأخذ بالأكثر عند دوران الأمر بين رفع اليد عن الظهور الأقل والأكثر ... لأنّ الملاك هو التعارض بين الحجج ، وليس التعدّد في طرفٍ بمرجّح له على الطرف الآخر.

وأمّا في الثاني ، فمن جهة أن التفرّع الذي ذكره موجود في عالم الثبوت. وأمّا في عالم الإثبات ، فإنّ الملاك للتقدّم هو القوّة في الظهور ، فإنْ كان ظهور الشرط أقوى تقدّم على ظهور الجزاء وإلاّ فلا.

رأي المحقق الأصفهاني

وذكر المحقق الأصفهاني رحمه‌الله : أن الارتكاز العرفي في أمثال المقام قائم على عدم دلالة الجزاء على الوحدة ، فإنّ العرف لما يرى الشرط متعدّداً لا يرفع اليد عن تعدّده بسبب وحدة الجزاء في القضيتين.

وثبوت هذا الارتكاز بحيث لا يتردّد أهل العرف في الامتثال ويأخذون بالتعدّد أول الكلام ، خاصّةً في الخطابات الشرعية التي هي بمثابة الخطاب الواحد.

٢١٢

ثم ذكر تحت عنوان «والتحقيق» (١) وجهاً عقليّاً ، وملخّص كلامه هو :

إنّ لكلّ من القضيتين بعثاً نحو الجزاء وليس لها أيّ اقتضاء بالنسبة إلى القضيّة الاخرى لا نفياً ولا إثباتاً ، فهي لها اقتضاؤها في نفسها ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها فهي بلا اقتضاء ... وأي تنافٍ بين الاقتضاء واللااقتضاء؟ وحينئذٍ ، يبطل صرف الوجود في طرف الجزاء ....

فقال الأُستاذ : إن الكلام في وقوع البعث بعد البعث ، فإنّ الأوّل يقتضي انبعاثاً وإيجاداً للجزاء فكذلك الثاني ، وعلى هذا ، كيف يكون البعث متعدداً والمنبعث إليه واحداً؟ فهل يبقى على ظاهره في التأسيس أو يحمل على التأكيد؟

رأي الشيخ الأُستاذ

وقال الشيخ الأُستاذ لحلّ المشكلة : بأنّه متى كان الظهوران تنجيزيّين فالتعارض واقع بلا كلام ، وأمّا في حال كون أحدهما تعليقيّاً فلا تعارض ولا مشكلة.

أمّا الكبرى فواضحة ، وأمثلتها كثيرة. مثلاً قاعدة قبح العقاب بلا بيان معلّقة على عدم البيان ، بخلاف حديث الرفع فإنه منجّز ، لذا يكون دليل الاحتياط مقدّماً على القاعدة لكونه بياناً ، أمّا حديث الرفع فلا يتقدّم عليه دليل الاحتياط.

وما نحن فيه من صغريات الكبرى ، فإنّ الشرطين ظاهران في الحدوث عند الحدوث ، لكنّ الجزاء ظاهر في وحدة المتعلّق وصرف الوجود ... فيقع التنافي بين الشرط والجزاء ، لأن الشرطين يستدعيان الانبعاثين ، والجزاء لا يستدعي الأكثر من الواحد ... إلاّ أن ظهورهما وضعي وظهور الجزاء إطلاقي ، وبناءً على تقدم الوضعي على الإطلاقي ـ لكون عدم البيان من مقدمات الإطلاق ،

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٣٤.

٢١٣

والوضعي بيان ـ فالتعارض مرتفع.

هذا ، بناءً على أن لا يكون ظهور الشرط وضعيّاً ، أو على القول بعدم تقدم الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي لدى التعارض ، خاصّة عند الانفصال كما هو المختار ، فالمشكلة باقية.

أمّا على مسلكنا من التعارض بين الظهور الإطلاقي والوضعي ، فبقاء المشكلة واضح. وأمّا أنّ الظهور هنا وضعي أو إطلاقي؟ فالحق أنه إطلاقي وليس بوضعي ، لأن ظهور كلٍّ من الشرطين في الحدوث عند الحدوث يتوقف على أنْ يكون هو تمام الشرط لترتب الجزاء وأنه مستقل ولا دخل لشيء آخر معه ، وهذا الظهور الاستقلالي إنّما يحصل نتيجة عدم وجود «الواو» كما تقدم ... فكان منشأ هذا الظهور هو الإطلاق ، كما أن ظهور الجزاء في صرف الوجود إطلاقي. فالمشكلة باقية.

وطريقة الحلّ ـ والحال هذه ـ أنْ يقال : بأنّ ظهور الجزاء في صرف الوجود معلّق على عدم استقلال كلٍّ من الشرطين ، لأنه مع استقلال كلّ منهما في التأثير في الجزاء ، يستحيل انعقاد الإطلاق في الجزاء في صرف الوجود ، إذ لا يعقل تحقق الانبعاثين نحو الوجود الواحد ... فكان إطلاق الجزاء موقوفاً على عدم تعدّد البعث.

ومن جهة الشرط ، نرى أنّ الظهور الإطلاقي لكلٍ منهما متوقّف على عدم وجود (الواو) كما هو المفروض ، فكان الإطلاق في طرف الشرط منعقداً ، وكلٌّ منهما ظاهر في الاستقلال ، ولا قرينة لرفع اليد عن هذا الظهور ، ولازم ذلك أنْ لا يكون الجزاء بنحو صرف الوجود ، فلا ينعقد في طرف الجزاء أصلاً. وهذا هو طريق حلّ المشكلة وبه يثبت عدم التداخل.

٢١٤

وبما ذكر الأُستاذ يظهر النظر في كلام المحقق الخراساني ، حيث جعل ـ في «إن قلت» الثانية والثالثة ـ ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث بياناً فيتقدم ، لكون انعقاد الإطلاق في المتعلّق موقوفاً على عدم البيان ، فهو يتقدّم من باب الظهور على مبنى الشيخ ومن باب الحجيّة على مبنى المحقق المذكور.

وجه النظر : توقف بيانيّته على أن يكون ظهوره وضعيّاً ، أمّا إن كان إطلاقياً فيقع التعارض بين الإطلاقين ولا تقدّم بل يتساقطان ... وهو لم يدَّع كون الظهور وضعيّاً بل أنكره.

وقد أورد المحقق الإيرواني عليه هذا الإشكال ، لكنّه لم يدفعه بما ذكر الأُستاذ من كون أحد الإطلاقين تعليقيّاً والآخر تنجيزي ، فلا تعارض حتى بناءً على كون الظهور إطلاقيّاً.

وتلخّص : أن المشكلة ترتفع بأنّ الإطلاق في طرف الشرط منعقدٌ منجّزاً ، لكنّه في طرف الجزاء معلّق على عدم تعدّد البعث ، والمفروض تعدّده ، فيثبت عدم التداخل في الأسباب.

الكلام في تداخل المسببات

وكذلك الحال في المسبّبات ، لأنّ المفروض تعدّد التكليف ، وإجزاء الامتثال لواحد عن امتثال غيره موقوفٌ على الدليل.

وأيضاً ، فمقتضى دليل كلّ تكليفٍ من التكاليف وجوب الإتيان بالمتعلّق مطلقاً ، أي سواء اتي بمتعلّق التكليف الآخر أو لا. وهذا الإطلاق موجودٌ في أدلّة الأحكام.

وأيضاً ، الاستصحاب ، فإنه إذا ثبت التكليف بالشرط الأول يقيناً ، ثم شكّ في سقوطه بالإتيان به بالشرط الثاني ، استصحب بقاء التكليف.

وأيضاً ، فإنه مقتضى قاعدة الاشتغال.

٢١٥

استثناء مجمع الحكمين

ثم إنّه قد استثنى من هذه القاعدة ما إذا كانت النّسبة العموم من وجه ، كما لو قال : أكرم عالماً. وقال : أكرم هاشمياً ، حيث الحكم هو وجوب الإكرام والموضوع في الدليلين بنحو الإطلاق البدلي ، ففي هذا المورد قالوا بالتداخل أي بكفاية إكرام المجمع وهو العالم الهاشمي. واختلفوا في وجه الاستثناء :

فمنهم : من استدلّ له بحكم العقل بالإجزاء ، فيكون من مصاديق قولهم : الانطباق قهري والإجزاء عقلي ... فهما حكمان لكنهما انطبقا على موردٍ انطباقاً قهرياً ، وفي مثله يحكم العقل بالاجزاء ... قال به الميرزا (١).

ومنهم : من يقول بأن الحكم في مثل هذا المورد واحد لا أكثر ، غير أن الخطاب الثاني مؤكّد للأوّل. قال به صاحب (الكفاية) (٢).

واستدلّ للأول بوجهين :

الأول : إن الإطلاق على قسمين ، فتارةً : هو شمولي مثل أكرم العالم ، أكرم الهاشمي ، ففي مثله يحمل على التأكيد ، لئلاّ يلزم اجتماع المثلين ، وكذا في العام مثل : أكرم كلّ عالم وأكرم كلّ هاشمي.

واخرى : هو بدلي ، فإنْ كان كذلك ، تعدَّد الموضوع وبتبعه يتعدّد الحكم ، ومع التعدّد لا معنى للحمل على التأكيد ، لكنّ العقل لمّا رأى انطباق كلا الحكمين على المورد الواحد وأنه مصداق لكلا الموضوعين ، حكم بكفاية الإكرام مرّةً ، لحصول الامتثال لكلا الحكمين به.

وهذا الوجه لأجود التقريرات ، قال مشيراً إلى نظر الكفاية ما نصّه : لا معنى لتأكّد الطلب في مورد الاجتماع أصلاً ، لأن متعلّق الطلب في العموم البدلي إنما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢٧٣.

(٢) كفاية الاصول : ٢٠٣.

٢١٦

هي نفس الطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات ، فالفرد المأتي به ليس بخصوصه متعلّقاً للأمر ليتأكّد طلبه عند تعلّق الأمرين به ، وإنما يجوز الإتيان في مقام امتثال الأمر بالطبيعة ، لأنه مقتضى الترخيص في التطبيق المستفاد من الإطلاق.

والوجه الثاني هو للمحقق الخوئي ، فقد قال في الهامش : هذا ، مضافاً إلى أن الالتزام بتأكد الحكم في مورد الاجتماع يستلزم الالتزام بكون الحكم المجعول في مورد العامّين من وجه ثلاثة أحكام ، يكون واحد منها متأكداً والاثنان منها غير متأكدين ، مع أنه واضح البطلان.

وتوضيحه : إنه لما كانت النسبة العموم من وجهٍ ، فلا محالة يكون الحكم في كلٍّ من موردي الافتراق غير الحكم في الآخر ، فهنا حكمان. فإن قلنا بالحكم الواحد المؤكّد في مورد الاجتماع لزم الالتزام بحكمٍ ثالث ... لكنه واضح البطلان.

إذن ، لا يوجد حكم واحد مؤكّد ، بل هما حكمان ، لكن العقل يرى حصول الامتثال بالمجمع بين العنوانين.

رأي الأُستاذ

وقد وافق الشيخ الأُستاذ في الدورتين صاحب (الكفاية) فيما ذهب إليه من تأكّد الحكم ، فالاستاذ وإنْ عبّر عن دليل الميرزا بأنّه في كمال المتانة ، لكنّه قال بأنّه خلط بين الكشف اللّمي العقلي والكشف اللفظي.

أمّا السيد الخوئي ، فإنّه ـ وإنْ ذكر ما تقدّم في هامش الأجود ـ لم يتعرّض له في (المحاضرات) (١) ، واكتفى بكلام الميرزا.

وقد أيّد الأُستاذ نظر (الكفاية) بما حاصله : إن الأحكام العقلية على ثلاثة أقسام:

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٦٩.

٢١٧

(١) الأحكام العقليّة العمليّة المترتبة على الأحكام الشرعيّة ، كحكم العقل بلزوم إطاعة المولى وحرمة المعصية. وهذا القسم لا يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي.

(٢) الأحكام العقليّة النظريّة ، كحكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين. وهذا القسم يقع ـ بضميمة حكم شرعيّ إليه ـ في طريق الاستنباط كما في باب الترتب ، حيث يوجد الحكم الشرعي ويدرك العقل بأنّ الأمر بالشيء يلازم النهي عن ضدّه. لكن هذا القسم ليس مورد الملازمة بين العقل والشرع.

(٣) الأحكام العقلية التي هي مورد قاعدة الملازمة. فإن العقل يدرك الملاك وعدم المانع من تأثيره ، ففي مثله تجري القاعدة ويستنبط الحكم الشرعي ، لأن الأحكام الشرعية تابعة للملاكات ، فإذا احرز الملاك عقلاً ترتب الحكم الشرعي ترتب المعلول على علّته.

وفيما نحن فيه :

إن كان النظر إلى الدليل اللّفظي الكاشف عن الحكم الشرعي ، فالحق مع الميرزا ومن تبعه ، لأنَّ الإطلاق ـ كما ذكر ـ بدلي ، ولا معنى للحكم الثالث في البين ، لكنْ هنا طريق عقلي ، فإنه من الأمر بإكرام العالم على البدل ، نستكشف وجود الملاك القابل للانطباق على أيّ فردٍ من العالم ، فقد احرز الملاك في إكرام العالم ، وكذلك الحال في طرف الهاشمي ، إذْ يحرز الملاك لإكرامه عن طريق الأمر اللّفظي ، فيكون العالم الهاشمي مجمعاً للملاكين.

فإمّا يؤثّران معاً وامّا لا يؤثّران أصلاً ، وامّا يؤثر أحدهما المعيَّن دون الآخر ، وامّا يؤثر أحدهما المردد.

أمّا المردّد ، فلا واقع له.

٢١٨

وأمّا المعيّن ، فترجيح بلا مرجّح.

وأمّا أن لا يؤثّرا ، فباطل.

ويبقى أن يؤثّر كلاهما ، وتأثير كليهما على المورد الواحد ليس إلاّ بنحو الواحد المؤكّد.

هذا تمام الكلام في مفهوم الشرط.

٢١٩

مفهوم الوصف

هل للوصف مفهوم ، بمعنى أنْ يدلّ الكلام على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف أو لا؟

فيه ثلاثة أقوال ، وقبل الورود في الأقوال والأدلّة ، نذكر مقدّمتين لتحرير موضوع البحث.

المقدمة الاولى

إن الحكم تارة يترتّب على الوصف فقط كأن يقال : المستطيع يحجّ ، فهذا خارج عن البحث ، بل يعتبر أن يكون الوصف معتمداً على الموصوف كأن يقال : المكلّف المستطيع يحج.

والوجه في اعتبار ذلك هو : إنه لو كان للوصف غير المعتمد مفهوم لزم أن يكون اللقب كذلك ، لكنَّ اللقب لا مفهوم له بالاتفاق ، والوصف غير المعتمد لا فرق بينه وبين اللقب ، فمجرد انتفاء العالم يكفي لانتفاء وجوب إكرامه ، لحكم العقل بانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، بخلاف ما إذا قلنا : زيد العالم يجب إكرامه ، فإنّه مع انتفاء العلم يكون زيد باقياً وللبحث عن ثبوت المفهوم وعدمه مجال.

المقدمة الثانية

إنّ الوصف تارةً : يساوي الموصوف مثل الضحك بالإضافة إلى الإنسان ، واخرى : هو أعم منه ، كالإحساس بالإضافة إليه ، وثالثة : أخص منه مثل العادل بالإضافة إلى العالم ، ورابعةً : يكون أعمّ منه من وجهٍ مثل السّوم بالإضافة إلى الغنم.

٢٢٠