تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

لا الندب بناءً على وضعها للجامع؟ وكيف تمسّكتم بالإطلاق لدلالة الهيئة على الوجوب التعيينيّ عند دوران الأمر بينه وبين التخييري ، والعيني عند دوران الأمر بينه وبين الكفائي؟

والجواب الحلّي هو : أمّا على مسلك التحقيق ، فالمعنى الحرفي قابلٌ للإطلاق والتقييد ، وأمّا على مسلك صاحب (الكفاية) من عدم جريانهما فيه وإلاّ لانقلب إلى المعنى الاسمي ، فإنّه إنما لا يجريان فيه بالذات ، لكنّ المعنى الحرفي من شئون المعنى الاسمي ، فهو في وجوده تابع له ، فإذا جرى الإطلاق والتقييد في الاسم جريا في الحرف التابع له.

الجواب الثاني

بطلان القياس وهو الصحيح ، لأنّ الوجوب النفسي والغيري سنخان من الوجوب في عالم الثبوت ، فأحدهما مطلق والآخر مشروط ، ولكلٍّ منهما أثره الخاصّ به ، والوجوب قدر مشترك بينهما ، وإذا كانا حصّتين من طبيعة الوجوب فمقتضى القاعدة احتياج كلّ منهما إلى البيان في مقام الإثبات لكونهما وجوديين ، إلا أن يكون في أحدهما خصوصيّة لا يحتاج بسببها إلى البيان.

وأمّا إذا كانت احدى الحصّتين وجوديةً والأخرى عدميةً ، فإنّ العدمي ، لا يحتاج إلى البيان بخلاف الوجودي ، وهذا مورد التمسّك بالإطلاق.

وعلى الجملة ، فإن المقيس عليه حصّتان من الوجوب ولهما أثرهما.

لكنّ الأمر في المقيس ليس كذلك ، إذ الانحصار وعدمه في العليّة ليس سنخين من العليّة ، لأن معناها تأثير شيء في شيء ، ومن الواضح عدم الفرق في التأثير بين العلة المنحصرة وغير المنحصرة ، بخلاف انقسامها إلى التامّة والناقصة ، فهناك فرق في التأثير كما لا يخفى ... فظهر أن قياس ما نحن فيه على الوجوب

١٨١

وانقسامه إلى النفسي والغيري مع الفارق.

والحاصل : إن الكلام في إطلاق الشرطية ، وليس لها حصّتان حتى يحمل الكلام على صورة الانحصار مع عدم البيان. وهذا التحقيق من المحقق الأصفهاني.

(الإطلاق الثالث) وهو عبارة عن إطلاق الشرط. ولا يخفى الفرق بينه وبين ما تقدم ، فقد تمسّك هناك بإطلاق العلّة ، ببيان أن اللفظ الدالّ على العلية واللزوم كاف لإفادة الانحصار ، لكون العلّة المنحصرة هي الفرد الأكمل. والمقصود هنا هو إطلاق مجيء زيد ، أي إطلاق الشرط النحوي ، فهل يقتضي هذا الإطلاق انحصارها؟

تقريبه : إنّ المتكلّم لمّا جاء بالشرط وهو المجيء بعد الأداة ، أمكنه تقييده بقيدٍ لاحق أو سابقٍ أو مقارن ، لكنه جاء به مطلقاً عن هذه الانقسامات ، فدلّ على ترتّب الجزاء وهو الإكرام على الشرط بلا تقيّد بشيء ، فكان المجيء بوحده هو الدخيل في الجزاء ولا علّة له سواه.

(وفيه):

وقد اشكل على هذا الاستدلال بوجوه :

أحدها : إنه يبتني على أن تكون للقضيّة الشّرطية ـ علاوةً على اللّزوم ـ دلالة على ترتّب الجزاء على الشرط وكونه علةً له ، وعند ذلك يبحث عن كونه علةً له مطلقاً أو على بعض التقادير ، لكنّ أصل العليّة محلّ بحثٍ وكلام ، وقد تقدّم صحّة أنْ يقال : إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة ... فأصل الدلالة على العلية غير ثابت ، فلا تصل النوبة إلى البحث عن الانحصار.

وفيه : إنه إشكالٌ مبنائي ، إذ المفروض هو المفروغيّة عن ذاك البحث.

١٨٢

الثاني : إن القضيّة الشرطية في مقام بيان أصل تأثير الشرط في الجزاء لا بيان فعليّته ووجود الجزاء بالفعل عند وجود الشرط حتى يقال : لمّا وجد الشرط يوجد الجزاء ، سواء وجد شيء آخر أو لم يوجد. قاله المحققان الأصفهاني والميرزا.

وفيه : إنه بعد الفراغ عن المقدّمتين ، وهما : دلالة القضية الشرطية على اللّزوم ، ودلالتها على العليّة ، تكون الدلالة على فعليّة وجود الجزاء عند وجود الشّرط ضروريّةً ، والحمل على الشأنية هو المحتاج إلى القرينة ، وكذلك كلّ كلامٍ ظاهر في معناه ، فإن المراد منه هو الفعلية ، للتبادر ، وحمله على الشأنية خلاف الظاهر المتبادر منه. نعم ، يتم الإشكال هنا لو نوقش في المقدّمتين.

والثالث : إن مفاد القضيّة الشرطيّة هو استناد المعلول إلى العلّة والشرط ، وأمّا دلالتها على كون هذا الشرط كلّ العلّة فمن أين؟

وبعبارةٍ اخرى : إن كان المتكلّم في مقام بيان تمام ما هو المؤثّر في المعلول فهو ، وإلاّ فإن القضيّة الشرطية لا تفيد أكثر من أنّ المجيء مؤثر فعلاً في وجوب الإكرام ... ولا تنفي مؤثّريّة غيره فيه.

تقريب الإطلاق ببيان الميرزا

وبما أنّ المحقق النائيني (١) قد ذكر هذا الإطلاق للشرط ببيانٍ آخر ، فإنّا نطرحه ثم نوضّح إشكال (الكفاية) لنرى هل يرد عليه أو لا.

يقول الميرزا ما معناه : إن القضيّة الشرطية ظاهرة في التقييد بلا كلام ، فإنّ وجوب الإكرام مقيّد ومشروط بالمجيء وليس بمطلقٍ بالنسبة إليه ، لكنّ التقييد تارةً : تكويني كما في : إن رزقت ولداً فاختنه ، حيث أن الختان مقيّد بوجود الولد تكويناً ، واخرى : مولوي كما في تقيّد الصّلاة بدخول الوقت مثلاً ، حيث يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢٥١.

١٨٣

باعتبار المولى ... إذن ، في القضيّة الشرطيّة مثل : إن جاءك زيد فأكرمه ، تقيّد اعتباري من المولى ، لكنّ تقيّد الجزاء بالشرط قد يكون بالخصوصيّة المعتبرة في الشرط ، فتكون العلّة منحصرةً بالمجيء ، وقد يكون بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما المنتزع منه العطف ب «أو» كأنْ يقول : إن جاءك زيد أو أكرم عمراً وجب عليك إكرامه ، فتكون العلّة غير منحصرة بالمجيء.

هذا كلّه ثبوتاً.

إلاّ أنّ المتكلّم في مقام الإثبات قد قيّد اعتباره المولويّ بخصوصيّة المجيء ، ولم يقل المجيء أو إكرام عمرٍو مثلاً ، ومقتضى ذلك مع كونه في مقام بيان تمام مراده ، انحصار العلّة لوجوب الإكرام بالمجيء ، وإلاّ لزم الاختلاف بين مقامي الثبوت والإثبات ، وهو خلاف الأصل.

هل يرد إشكال الكفاية على هذا البيان؟

لكنّ المهمّ في المقام هو لحاظ مسلك صاحب (الكفاية) في الواجب التخييري ، فإنه يذهب إلى أنه يختلف عن التعييني سنخاً ، وبرهانه على ذلك بإيجازٍ هو : إن الأحكام تابعة للأغراض ، ففي موارد التخيير العقلي تتحقّق التبعية بجعل الحكم على الجامع بين الأفراد ، أمّا في موارد التخيير الشرعي فلا يوجد الجامع ، وحينئذٍ يكون كلٌّ منها بخصوصه محصّلاً للغرض ، نعم ، لو ترك المجموع استحق العقاب ، وبهذا يظهر أن حقيقة الوجوب التخييري هو الوجوب المشوب بجواز الترك إلى بدلٍ ، بخلاف التعييني فإنه لا يجوز تركه لا مطلقاً ولا إلى بدل ، فكان الغرض من الوجوب التعييني مختلفاً عن التخييري ، والحكم ـ بتبع الغرض ـ يختلف فيهما.

لكنّ العليّة هي مؤثّرية الشيء في الشيء الآخر ، وهذا المعنى موجود في

١٨٤

العلّة المنحصرة وغير المنحصرة على السواء ، فهي سنخ واحدٍ في كلا الموردين.

ونتيجة ذلك : إنه في مورد الواجب التخييري لا بدّ من البيان الزائد بكلمة «أو» في مقام الإثبات ، وإلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، وأمّا في مورد العلل غير المنحصرة لا يحصل الإغراء بالجهل مع عدم البيان ، لكون الغرض واحداً غير متعدّد.

فالإطلاق بالتقريب المذكور ، لا يتمّ على مسلك المحقق الخراساني ... لكنّه إشكال مبنائي.

الإشكال الوارد على الميرزا

ثمّ إن الأُستاذ بعد أن دفع الإشكالات أفاد :

إن هذا الإطلاق متحقّق في كلّ قيدٍ لأيّ موضوع إلاّ في اللّقب ، فإذاً ، يكون جارياً في الوصف مثل : أكرم العالم العادل ، فإنه مطلق حيث إنه لم يقل : أكرم العالم العادل أو الهاشمي ، والحال أنكم لا تقولون بذلك في الوصف. ولا يخفى أنّه إشكال نقضي فحسب.

طريق المحقق العراقي

وسلك المحقق العراقي مسلكاً آخر لإثبات المفهوم فقال ما ملخّصه (١) :

إن في القضية الحمليّة مثل أكرم زيداً ، لا يكون الكلام دالاًّ على أزيد من ترتّب الحكم بنحو القضية المهملة ، وإلاّ لجاء المتكلّم بقرينةٍ على ذلك ، ولذا لا تكون لهذه القضية دلالة على انتفاء سنخ الحكم عن غير زيد ، فلا يعارضها إيجاب إكرام عمرو مثلاً ... لكنّ هذا الحكم المهمل مترتّب على زيدٍ المطلق ، لأنه لمّا قال أكرم زيداً لم يقيّد الموضوع بقيدٍ ، فكان يجب إكرامه قاعداً أو قائماً أو

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

١٨٥

جائياً ، وعلى هذا ، يكون الحكم ـ وهو وجوب الإكرام ـ مطلقاً من جهة حالات الموضوع ، لأنّ ذلك مقتضى إطلاق الموضوع ، ويشهد بالإطلاق في طرف الموضوع أنه لو قال بعد ذلك أكرم زيداً قائماً ، لزم اجتماع المثلين ، فكان الحكم مهملاً من جهة كون القضية حمليّةً ، ومطلقاً من جهة الإطلاق في الموضوع كما ذكر.

إلاّ أنه لما وردت أداة الشرط على الجملة فقيل : إن جاءك زيد فأكرمه ، يرتفع الإطلاق في الموضوع الشّامل لجميع حالاته ، ويناط ذاك المحمول المهمل في القضية الحمليّة مثل زيد يجب إكرامه أو الإنشائية مثل أكرم زيداً ـ وهو وجوب شخص الإكرام ـ بحالةٍ واحدة من حالاته وهو خصوص المجيء ، فلا جرم بعد ظهور الشرط في دخل الخصوصيّة يلزمه قهراً انتفاء وجوب الإكرام عن زيدٍ عند انتفاء المجيء.

(قال) : ولا يخفى عليك أنه على هذا البيان ، لا يحتاج إلى إثبات المفهوم في القضايا الشرطيّة إلى إتعاب النفس لإثبات العليّة المنحصرة كي يقع البحث عن ذلك ويناقش فيه.

الإشكال عليه

ويتوقف الإشكال في هذا المسلك على ذكر مقدّمات :

الاولى : إنه كما أنّ الإهمال في طرف موضوع القضية محال من المتكلّم الملتفت ، كذلك في طرف الحكم ، إلاّ أن تقوم القرينة عليه ، كأن يكون في مقام التشريع مثلاً ، والاّ فالأصل عدم الإهمال.

والمقدمة الثانية : إن المحمول في القضية الإنشائية تارةً : يكون من قبيل المعنى الحرفي مثل : أكرم زيداً ، وأخرى : يكون من قبيل المعنى الاسمي مثل زيد

١٨٦

يجب إكرامه. وقد ذهب هذا المحقق إلى أنه إن كان مدلولاً حرفيّاً كان الإطلاق والتقييد فيه تابعاً للإطلاق والتقييد في الموضوع ، لعدم صلاحيّة المعنى الحرفي لهما ، بخلاف المثال الآخر ، فإن المدلول فيه معنى اسمي وهو قابل لهما.

والمقدمة الثالثة : إنّ مذهب العراقي هو أن التشخص يحصل من الإنشاء ، وإلاّ فإن المنشأ بنفسه لا شخصيّة له ... وما ذكره هو الصحيح ، والإشكال عليه غفلة عن مقصوده.

وبعد هذه المقدّمات : إن المتكلّم إذا كان في مقام البيان والإهمال خلاف الأصل كما تقدّم ، فقال : «زيد يجب إكرامه» فقد رتّب الحكم ـ وهو الوجوب الذي هو معنى سنخي وتشخّصه بالإنشاء ـ على الموضوع وأفاد الانحصار ... فلم يكن الانتفاء عند الانتفاء مختصّاً بالقضية الشرطية ، بل هو حاصل في كلّ قضيّة حملية كذلك ، وهذا باطل بالاتّفاق.

وهذا هو الإشكال نقضاً.

وأمّا حلاًّ : أما بالنسبة إلى الكبرى ، فإنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول ، وعليه ، فإنّ الحكم المترتّب على الموضوع لخصوصيةٍ فيه ، يفيد انحصار المحمول الخاصّ لذاك الموضوع المعيّن ، ولا يفيد الانحصار بالنسبة إلى سنخ المحمول ، فقوله بكفاية ظهور خصوصية عنوان الموضوع لنفي الغير وأنه لسنا بحاجةٍ إلى الإطلاق ، غير صحيح ، لأن الخصوصيّة وإن كانت ظاهرةً في الانحصار ، لكنها تحصر العنوان الخاص في هذا المحمول الخاص ، وانتفاء هكذا محمول بانتفاء موضوعه عقلي ، بل المقصود هو إثبات الانحصار بالنسبة إلى سنخ المحمول ، وهذا ما لا يمكن استفادته من الظهور الخاص للموضوع.

وأمّا بالنسبة إلى الصغرى ، فقد أفاد أنّ الحكم يكون مهملاً بالنسبة إلى

١٨٧

موضوعه في القضايا الحملية ، لكنه بالنسبة إلى حالات الموضوع مطلق ، وبالنظر إلى هذا الإطلاق يكون الحكم سنخيّاً ، ثم إذا جاء الشرط تقيّد السنخ وحصل الانحصار ... وفيه :

أوّلاً : إن هذا البيان إن تمّ في قضيةٍ خارجيّة مثل إنْ جاءك زيد فأكرمه ، فإنه لا يتم في القضايا الشرعية ، لأنها قضايا حقيقية ظاهرة في الإطلاق من جهة الأفراد ومن جهة أحوال الأفراد ، فيكون الحمل فيها لسنخ الحكم لا شخصه.

وثانياً : إنّ الإطلاق الأحوالي للموضوع تعليقيٌّ وليس بتنجيزي ، ولو كان تنجيزيّاً لوقع التناقض بين ما لو قال : إن جاءك زيد فأكرمه فقال بعد ذلك : وإن فعل كذا فأكرمه ، مع أنه لا تناقض ، فيظهر أنه تعليقي ، وإذا كان كذلك ، فإن كلّ معلَّق عليه فهو مقدّم على المعلّق ، فكان الإطلاق الأحوالي للموضوع موقوفاً على عدم شرط آخرٍ ، فيلزم إقامة البرهان على عدم الشرط الآخر كي يتم الحصر ، وهذا هو السرّ في إتعاب الميرزا وغيره نفسه لإثبات الإطلاق في مقابل «أو» وفي مقابل الشرط المتقدّم أو المتأخر ....

طريق المحقق الأصفهاني ونقده

وأفاد المحقق الأصفهاني : أن ترتّب أيّ حكمٍ على أيّ عنوان بخصوصيّته ، يكشف عن دخلها في الحكم ، وإلاّ لم يكن وجه لأخذها ولزم لغويّة جعلها شرطاً يترتب عليها الجزاء ... فيكون نفس ترتب الجزاء على هذا الشرط ـ بنحو ترتب المعلول على العلة ـ كاشفاً عن الانحصار.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدّم ، فإنه منقوض بالأوصاف والألقاب ، ولازمه القول بثبوت مفهوم الوصف في مثل : أكرم زيداً العالم. ونحوه.

١٨٨

طريق المحاضرات ونقده

وذهب السيد الخوئي في (المحاضرات) (١) إلى عدم إمكان إثبات المفهوم للقضية الشرطية إلاّ على مسلكه في بابي الإخبار والإنشاء ، (قال) : لقد ذكرنا في بحث الإنشاء والإخبار أن الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلّم الحكاية والإخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، وأنّ الجملة الإنشائية موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج.

وعلى هذا ، فإن الجملة الشرطية إذا كانت إخبارية فهي دالّة على قصد المتكلّم الحكاية والإخبار عن ثبوت شيء في الواقع على تقدير ثبوت شيء آخر لا على نحو الإطلاق والإرسال بل على تقدير خاص ، فالنهار موجود على تقدير طلوع الشمس لا مطلقاً ، ولازم هذه النكتة هو الانتفاء عند انتفاء التقدير الخاص ، وهذا هو الدلالة على المفهوم.

وأمّا إذا كانت الجملة الشرطية إنشائيةً فهي على نوعين :

الأول : ما يتوقف الجزاء على الشرط تكويناً مثل : إنْ رزقت ولداً فاختنه.

والثاني : ما يتوقف عليه الجزاء اعتباراً.

أمّا الأول ، فخارج عن محلّ الكلام.

وأمّا الثاني ، مثل : إن جاءك زيد فأكرمه ، فالدلالة على المفهوم فيه تامة على ما تقدّم ، وحاصله : إن الجملة تفيد وجود اعتبار وجوب الإكرام في خصوص حال مجيء زيد وعلى هذا التقدير فقط ، فإنه قد اعتبر المولى ذلك وأبرزه بهذا اللّفظ ، فإذا انتفى المجيء انتفى وجوب الإكرام بالدلالة الالتزامية كما تقدّم سابقاً.

وأشكل عليه الأُستاذ بالنقض في الأوصاف ، فإنه على مسلكه من الاعتبار

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢١١.

١٨٩

والإبراز يكون الحكم معلّقاً على الصفة كما ذكر تماماً في الشرط.

طريق الشيخ الأُستاذ

وشيخنا الأُستاذ ـ وإنْ قرّب في الدورة السابقة الإطلاق في مقابل «أو» ـ ذكر طريقاً آخر في الدورة اللاّحقة ، وحاصله ـ بعد اليأس عن اللّغة ـ هو الرجوع إلى الارتكاز العقلائي ، فإن أهل العرف يفرّقون بين الوصف والشرط ، وأن الشرط يفيد الانحصار إلاّ مع قيام القرينة على العدم. والشاهد على ذلك : أنه في حال تعدّد الشرط ووحدة الجزاء يرى العرف التنافي والتعارض ويحتاج العلماء إلى بيان الجمع ـ كما سيأتي ـ ، أمّا مع تعدّد الوصف فلا يرى أحدٌ التعارض أصلاً ... فهذا يفيد أن في أداة الشرط خصوصيةً ـ وإن لم نتوصّل إليها ـ تفترق بها عن الوصف ... وهذا المقدار من الافتراق والتفاوت كاف لإثبات المفهوم للقضية الشرطيّة.

ويؤكّد ذلك ما جاء بتفسير قوله تعالى حكايةً لقول ابراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ) (١) ، فقد ذكر المفسّرون ثمانية وجوهٍ منها أن كلمة (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) جملة معترضة ، فيكون معنى الآية تعليق إبراهيم عليه‌السلام فعل كبيرهم على نطقهم ، فتخرج الآية عن الظهور الأوّلي في الكذب بدلالة (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) على المفهوم ، ولو لم يكن للجملة مفهوم لبقي شبهة الكذب.

هذا ، وفي معاني الأخبار (٢) رواية عن الإمام عليه‌السلام فيها بيان معنى الآية على الوجه المذكور ، ممّا يدل على تمسّكه بمفهوم الشرط ، لكن سندها غير تام.

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٦٣.

(٢) معاني الأخبار : ٢١٠.

١٩٠

لكن في رواية معتبرةٍ عن أبي بصير ـ يعني المرادي ـ قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرك ، ويهراق منها دم كثير عبيط ، فقال : لا تأكل ، إنّ علياً كان يقول : إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل» (١).

فهذه الرّواية دلّت على أن الإمام عليه‌السلام استفاد المفهوم من كلام جدّه أمير المؤمنين ... ـ والألفاظ المستعملة في كلمات الأئمة بلا عنايةٍ ظاهرة في معانيها ـ فكانت حجة لإثبات مفهوم الشرط.

وأيضاً : الرواية عن أبي أيوب واستدلال الإمام عليه‌السلام بالآية (فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (٢) (٣) تفيد ثبوت المفهوم ، إذ لو لم تكن جملة («فَمَنْ تَعَجَّلَ) دالّة على المفهوم ـ أي الإثم على من تعجّل ـ لما كان حاجة إلى الجملة الثانية (وَمَنْ تَأَخَّرَ ...).

وكذلك الاستدلال بالروايات الاخرى ، مثل «إذا كان الماء قدر كرٍّ لم ينجّسه شيء» (٤) و «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ...» (٥).

فالحق : ثبوت المفهوم ... ويقع الكلام في :

أدلّة المنكرين

وعن جماعة من الاصوليين القول بعدم المفهوم للجملة الشرطية ، أي إنه لا دلالة لها على الانتفاء عند الانتفاء وإنما تدل على مجرّد الإناطة ، وقد استدلّوا بوجوه :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ / ٢٤ ، كتاب الصيد والذباحة ، الباب ١٢ ، الرقم : ١.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٠٣.

(٣) وسائل الشيعة ١٤ / ٢٧٥ ، كتاب الحج ، أبواب العود إلى منى ، الباب ٩ ، الرقم : ٤.

(٤) وسائل الشيعة ١ / ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الرقم : ١ و ٢.

(٥) وسائل الشيعة ٢ / ١٨٤ ، الباب ٦ من أبواب الجنابة ، الرقم : ٥.

١٩١

الوجه الأول ولعلّها عمدتها ، ما عن السيّد المرتضى قدس‌سره (١) ، وحاصله : أنا نرى قيام شرط آخر مقام الشرط المذكور في الكلام وترتّب الجزاء عليه بدلاً عنه في الأدلّة الشرعية وكلام أهل العرف ، فيتعدّد المعلّق عليه ولا ينحصر في واحد ، مثلاً في باب الشهادات ، تدلّ الآية المباركة (وَاسْتَشْهِدُوا شَهيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (٢) على توقف ترتب الحكم في الواقعة على شهادة شهيدين من الرجال ، لكنْ ينوب عن هذا الشرط الرجل والامرأتان ، ويترتب الحكم ... إذن ، لا تدلّ الجملة الشرطية إلاّ على مطلق الإناطة ، لأنه في كلّ موردٍ يحتمل قيام الشيء الآخر في الشرطية مقام الشّرط المذكور في القضية.

والجواب عنه ، يتلخّص في : إنه لا كلام ثبوتاً في نيابة شرطٍ عن آخر في الشرطية للجزاء ، وتعدّد الشرط في الشريعة كثير ، وكذلك في الامور الخارجية ، كقيام الشمس ـ مثلاً ـ مقام النار في الحرارة ... إنما الكلام في مقام الإثبات ، فإنه لمّا قال : «إن جاءك زيد فأكرمه» كان هذا الكلام ظاهراً في تعليق وجوب الإكرام على المجيء ، وبه يندفع الاحتمال المذكور ، لأنه ظاهر في الإطلاق بالنسبة إلى غير هذا الشرط ، أي : يجب إكرامه إن جاء ، سواء تكلّم مثلاً أو لا ، سواء أحسن إليك أو لا ... وهكذا ، فللكلام في مقام الإثبات إطلاق يدفع كلّ احتمال ، فلو قام الدليل على شرطية شيء غير المجيء أيضاً ، تقيّد الإطلاق وأصبح التكلّم ـ مثلاً ـ شرطاً للإكرام إلى جنب المجيء ....

فما جاء في كلام السيد رحمه‌الله خلط بين مقامي الثبوت والإثبات.

وعن صاحب (القوانين) (٣) الجواب باندفاع احتمال النيابة بالأصل.

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ / ٤٠٦.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٨٢.

(٣) قوانين الاصول ١ / ١٧٧.

١٩٢

وفيه : إن المحقق القمي من القائلين بالدّلالة الوضعيّة ، وهذا المبنى غير صحيح. هذا أوّلاً. وثانياً : إنّ التمسّك بالأصل لدفع الاحتمال غير صحيح كذلك ، لأن الظهور الوضعي كاف لدفعه لكونه حجةً ، وقد تقرر حجيّة مثبتات الظهورات الوضعيّة. وثالثاً : لقد ظهر أن أصالة الإطلاق تدفع الاحتمال ولا تصل النوبة إلى الأصل ... فجواب الميرزا غير مفيد على كلا المسلكين.

الوجه الثاني : إن المفهوم المدّعى للجملة الشرطيّة مدلولٌ للكلام ، وكلّ مدلولٍ فلا بدّ له من دالّ يدلّ عليه ، ولا يوجد في البين شيء من الدلالات الثلاث.

والجواب : إنه قد تقرّر أن المدلول من قبيل الدلالة الالتزاميّة بالمعنى الأخصّ.

الوجه الثالث : قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) (١) فالآية المباركة جملة شرطية ، ولا مفهوم لها قطعاً ، وإلاّ دلّت على جواز الإكراه على الزنا ... قاله السيّد رحمه‌الله.

والجواب :

قال في (الكفاية) (٢) : بأنه متى قامت القرينة في موردٍ على عدم المفهوم رفعنا اليد ، والآية من هذا القبيل.

وهذا الجواب قد ذكره الأُستاذ في الدّورة السابقة وسكت عليه. أمّا في الدّورة اللاّحقة فقال ما ملخّصه : إنه غير مناسب لشأنه ، لأنّ الاستناد إلى وجود المانع يكون ـ من الناحية الصّناعية ـ في فرض تماميّة المقتضي ، وحيث لا مقتضي ثبوتاً لا يصح التمسّك بوجود المانع أو عدم الشرط. والآية من قبيل عدم المقتضي

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٩٨.

١٩٣

للمفهوم ، لأنها مسوقة لبيان الموضوع ، والكلام المسوق لذلك لا مفهوم له ثبوتاً أصلاً.

وهذه هي أدلّة المنكرين لمفهوم الشرط.

تكميلٌ

بقيت امور لا بدّ من التعرّض لها.

الأمر الأول (في أنّ المعلّق سنخ الحكم)

لمّا كان المفهوم هو انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، فلا بدّ وأن يكون المعلّق على الشرط سنخ الحكم ، لأنّ شخصه ينتفي بانتفاء الشرط يقيناً ، فلا معنى للبحث والخلاف في بقائه ، والقابل للبقاء بعد زوال الشرط هو سنخ الحكم ، وحينئذ ، يبحث عن إمكان بقائه رغم انتفاء الشرط وعدم بقائه ....

لكنْ المشكلة هي كيفيّة تصوير أنّ المعلّق هو سنخ الحكم ، وذلك إنما يتمّ فيما لو كان جزاء الشرط جملة اسمية كقوله : إن جاءك زيد فالإكرام واجب ، لأن «واجب» ظاهر في أن المراد سنخ الوجوب ، وليس الأمر كذلك في الجملة الإنشائية ، لأنّ ظاهر قوله : إن جاءك زيد فأكرمه ، هو تعليق الشخص لا السنخ ، لأن مدلول «فأكرمه» حرفي ووضعه عام والموضوع له خاص وكذا المستعمل فيه ، فيكون المعلّق على مجيء زيد شخص الإكرام ، وانتفاء هذا الشّخص بانتفاء المجيء عقلي ، فلا مفهوم.

وأيضاً : هناك مشكلة اخرى وهي : إن المعاني الحرفيّة لا تقبل اللّحاظ الاستقلالي ، فلا يجري فيها الإطلاق والتقييد ، والحال أنّه في القضايا الشرطيّة يكون الجزاء مقيّداً بالشرط.

١٩٤

إذن ، لا بدّ من تصوير كون المعلّق هو سنخ الحكم لا شخصه حتى يتمّ المفهوم للقضية الشرطية ... وقد ذكرت لذلك طرق :

الطريق الأول

ما ذهب إليه السيد الخوئي من مبنى الاعتبار والإبراز في الخطابات ، فإنه بناءً عليه يعتبر المولى وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه ويبرز هذا الاعتبار بقوله : إنْ جاءك زيد فأكرمه ... ومن المعلوم أن المعتبَر دائماً هو سنخ الكلام لا شخصه.

وهذا الطريق يحلّ المشكلة في المقام. إلاّ أن الكلام في أصل المبنى.

الطريق الثاني

ما ذهب إليه المحقق الخراساني ، من أن المعنى الحرفي والاسمي واحد والاختلاف في مقام الاستعمال ، وكذلك الأحكام في الجملة الاسميّة والخبريّة ، وإذا كان المعنى واحداً. فالمعلّق هو السّنخ.

وهذا الطريق أيضاً يحلّ المشكلة. إلاّ أن الكلام في أصل المبنى.

الطريق الثالث

ما ذهب إليه شيخنا دام ظلّه في مسألة المعنى الحرفي من وجود السنخية بين المعاني الحرفيّة ، وأن هناك جامعاً بين معنى «من» في «سرت من البصرة إلى الكوفة» ومعناه في «سرت من المدرسة إلى المسجد» فالموضوع له عام ... خلافاً للمشهور.

وهذا الطريق أيضاً يحلّ المشكلة. إلاّ أنه طريق مبنائي.

الطريق الرابع

ما ذهب إليه الميرزا من إرجاع الشرط إلى نتيجة الجملة لا إلى مفاد الهيئة

١٩٥

أي : إن الشرط وهو المجيء يرجع إلى وجوب الإكرام الذي هو نتيجة «أكرمه» لأنه هو المشروط في الحقيقة. فعاد المعنى الحرفي إلى الاسمي ، فكان الحكم سنخيّاً ولا مشكلة.

وهذا الطريق ـ كما هو ظاهر ـ خلاف ظاهر القضيّة الشرطية.

الطريق الخامس

ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ، من أن المعلّق ليس شخص وجوب الإكرام بما هو ملزوم باللّوازم الخاصة ، بل هو الوجوب بقطع النظر عنها ، فهو «الوجوب» بقطع النظر عن المكان المعين والحال الخاصّة ، وهذا هو المراد من السنخ ، ولمّا كان المفروض انحصار وجوب الإكرام بالمجيء فقط وأنه العلّة المنحصرة ، فإنه ينتفي بانتفاء المجيء.

وهذا الطريق يخالف مبنى هذا المحقق في حقيقة معنى الهيئة ، فإنه يرى أن معنى هيئة افعل هو البعث النسبي ، فللّوازم والخصوصيّات دخلٌ يستلزم التشخّص ... وإذا كانت النسبة معنى الهيئة ، فإن وجودها متقوم بوجود الطرفين ، ومع عدم لحاظهما لا يبقى شيء.

الطريق السادس

ما ذهب إليه الشيخ الأعظم ، وله ثلاث مقدّمات :

الاولى : إنه لا بدَّ في جميع الظهورات من ملاحظة المناسبة بين الحكم والموضوع ، فقد تكون معمّمةً.

والثانية : إن العلّة في القضية الشرطية منحصرة.

والثالثة : إن نسبة الشرط إلى الجزاء نسبة المقتضي إلى المقتضى.

وعلى أساس هذه المقدّمات تنحلّ المشكلة ، لأنه إذا قال : إن جاءك زيد

١٩٦

فأكرمه ، كان نسبة المجيء إلى الإكرام نسبة المقتضي ، لكنّ المفروض كون المجيء علّةً منحصرةً للإكرام ، ومع لحاظ مناسبة الحكم والموضوع لا يكون الحكم فرداً من الوجوب بل كلّ الوجوب يثبت للإكرام ويكون المعلّق هو سنخ الحكم ، وقد علم بذلك بمعونة الامور الثلاثة ، وإلاّ فإن القضية بوحدها لا دلالة فيها على المعنى المذكور.

هذا بغض النظر عن مسلك الشيخ في القضايا الشرطية ، حيث اختار رجوع الشرط إلى المادة دون الهيئة.

وأمّا بالنظر إلى مسلكه فالمشكلة منحلّة كذلك ، لأنّه لا يكون مفاد «فأكرمه» ـ أي الهيئة ـ هو المشروط بل المشروط والمقيّد هو «الإكرام» ، فكان للمجيء دخلٌ في الإكرام ، لكن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم الاختصاص بفردٍ من الإكرام ، بل كلّ الإكرام منوط بالمجيء ، وهذا هو السنخ.

فالطريق الصّحيح هو مختار شيخنا دام بقاه ، ومع التنزّل ما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره.

الأمر الثاني (إذا تعدّد الشرط واتحد الجزاء)

كما في : إذا خفي الجدران وخفي الأذان فقصّر.

أمّا على القول بعدم المفهوم فلا كلام ، بل هما حكمان لموضوعين.

وأمّا على القول بالمفهوم ـ إمّا بالوضع اللغوي وامّا بالإطلاق المنصرف إلى الفرد الأكمل وهو العلّة المنحصرة ، وامّا بالظهور العرفي وامّا بالإطلاق المقامي ـ فيقع الإشكال ، لأنّ مفهوم «إذا خفي الجدران» مطلق ، أي سواء خفي الأذان أو لا ، وكذا مفهوم «إذا خفي الأذان» أي : سواء خفيت الجدران أو لا ، فما هو الرافع لهذا التمانع بين منطوق أحدهما مع مفهوم الآخر؟

١٩٧

المستفاد من كلام (الكفاية) (١) أربعة وجوه لرفع الإشكال ، ومن كلام الميرزا (٢) خمسة ، لكنّه أرجعها إلى وجهين ، والوجوه هي :

١ ـ إنكار المفهوم في حال تعدّد الشرط.

٢ ـ إن الشرط هو الجامع الانتزاعي وهو عنوان «أحدهما» أو «أحدها».

٣ ـ تقييد كلٍّ من القضيتين والجمع بينهما ب «الواو» ، فيكون الشرط للجزاء كلا الأمرين.

٤ ـ التقييد ب «أو» بأن يكون الشرط للقصر خفاء الأذان أو خفاء الجدران.

٥ ـ تقييد مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر ، بأنْ يبقى الإطلاق في المنطوقين على حاله وترفع اليد عنه في المفهومين.

أمّا أنْ يقال بتقيّد مفهوم كلٍّ من القضيّتين بمنطوق الآخر من دون تصرّف في المنطوق ، بأنْ يكون كلٌّ من خفاء الجدران وخفاء الأذان موضوعاً مستقلاًّ للقصر.

ففيه : إنه سواء قلنا بتبعيّة الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية أو لم نقل ، فلا مناص هنا من القول بسقوط الدلالة الالتزامية بتبع المطابقية ، لأن المنطوق يدلّ بالمطابقة على ثبوت الحكم وانحصاره ، لكونه جملةً شرطية ، والمفهوم هو لازم هذا المنطوق ، فإنْ بقي على إطلاقه فالمفهوم باق ، وإن سقط الإطلاق فيه سقط المفهوم لا محالة ، فالقول بتقييد المفهوم مع بقاء المنطوق على حاله لا معنى له.

وأمّا أن يقال بعدم المفهوم في مثل هذه القضايا ، فلا تنافي بين الدليلين.

ففيه : إنه إن كان الدليل الآخر متّصلاً بالأول فلا مفهوم ، لأنّ الآخر يصلح

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠١.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٢٥٩.

١٩٨

للقرينيّة حينئذٍ ، ولكنهما منفصلان والمفروض كون المتكلّم في مقام البيان ، وأن العليّة وانحصارها تام ، فالقول بعدم المفهوم يستلزم التفكيك بين المعلول والعلّة. هذا ، وقد أرجع الميرزا هذا الوجه إلى الوجه القائل بالتقييد ب «أو» وأن الشرط أحد الأمرين ، لأنه بتقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، بأن يكون مفهوم «إذا خفي الأذان فقصر» : إذا لم يخف الأذان فلا تقصّر ـ مقيّداً ب «إذا خفي الجدران» وبالعكس ـ يسقط كلا المفهومين كذلك ، فلا فرق بين أن يقال بإنكار المفهوم أصلاً أو يقال بالتقييد ب «أو».

وأورد عليه الأُستاذ ـ في كلتا الدورتين ـ بالفرق بين الوجهين ، لأن سقوط الإطلاق بالتقييد ب «أو» عبارة عن التصرّف في المنطوق في مقام الحجيّة ، بخلاف سقوط المفهومين فإنه تصرّف في مرحلة الظهور ، ووجه الفرق هو أنّ القائل بعدم المفهوم عند تعدّد الشرط ووحدة الجزاء ، ينكر أصل ظهور الجملة الشرطية في الانتفاء عند الانتفاء ، لكنّ تقييد المفهوم بمنطوق الآخر فرع تماميّة الظهور ، وهذا فرق علمي. وأمّا عملاً ، فإنّه حيث يقيّد الإطلاق ترفع اليد عنه بقدر التقييد ويبقى الباقي على حجيّته ، وأمّا بناءً على إنكار المفهوم من أصله ، فلا إطلاق حتى يكون حجةً في غير مورد التقييد. فظهر الفرق بينهما علماً وعملاً.

وأمّا أن يقال : بأن الشرط هو الجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما ، فإنّ هذا يرجع بالنتيجة ـ كما قال الميرزا ـ إلى التقييد ب «أو» ، إذ لا فرق في النتيجة بين يجب عليك أحد الأمرين من العتق وإطعام ستين مسكيناً ، وأطعم ستين مسكيناً أو أعتق رقبةً ....

فيبقى وجهان ... التقييد ب «الواو» والتقييد ب «أو».

١٩٩

رأي الكفاية

قال في (الكفاية) : لعلّ العرف يساعد على الوجه الثاني ، كما أن العقل ربّما يعيّن هذا الوجه ، بملاحظة أن الامور المتعددة بما هي مختلفة لا يمكن أن يكون كلّ منها مؤثراً في واحدٍ ، فإنه لا بدّ من الربط الخاصّ بين العلّة والمعلول ، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين بما هما اثنان ، ولذلك أيضاً لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد ، فلا بدّ من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة واحد وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم وبقاء الشرط في كلّ منهما على حاله ، وإن كان بناء العرف والأذهان العاميّة على تعدد الشرط وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاص. فافهم.

وحاصل كلامه قدس سرّه هو : إنه من الناحية العرفيّة لا بدّ من رفع اليد عن المفهوم في القضيتين. وأمّا من الناحية العقليّة ، فلا بدّ من جعل الشرط هو القدر المشترك بينهما ، أي الجامع بين الخصوصيتين ، بمقتضى قاعدة أن الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد.

الإشكال عليه

فأشكل عليه الأُستاذ بمنع إنكار العرف المفهوم في هذه الموارد ، بل إنهم يفرّقون بين صورتي اتصال الكلام وانفصاله ، فإن كانت الجملتان متّصلتين فالمفهوم ساقط ، لكنّ البحث في صورة الانفصال ، والقول بإنكارهم في هذه الصّورة ممنوع ، بل الظهور العرفي لكلٍ منهما منعقد ، فلا بدّ من علاج.

وأمّا الوجه العقلي ففيه : إن القاعدة المذكورة موردها هو البسيط من جميع الجهات والحيثيّات ، الذي وحدته وحدة حقة حقيقيّة ولا تعدّد فيه مطلقاً ، وجزاء الشرط في مورد الكلام وإنْ كان له وحدة سنخية إلاّ أنها وحدته ليست وحدةً حقة

٢٠٠