تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

تعبيره وارداً ـ يريد «الوقوع» من «الصحة» فهو يقول : بأن تعلّق النهي بالمسبّب أو التسبّب يدلّ على وقوع الملكية ، وإلاّ ، فإن الملكيّة أمر بسيط يدور بين الوجود والعدم ولا يتصف بالصحّة والفساد.

وحاصل كلامه : إن النهي كذلك يكشف عن مقدوريّة متعلّقه وحصوله ... وما ذكره المحقق الأصفهاني (١) غير وارد عليه.

تحقيق الأُستاذ

قال الأُستاذ دام بقاه : لا بدّ من التحقيق في نظريّة صاحب (الكفاية) هذه على كلا المسلكين في باب حقيقة الإنشاء : مسلك المشهور من أن الصيغ أسبابٌ موجدة للعناوين المعامليّة من الزوجيّة والملكيّة وغيرها في عالم الاعتبار. وقال الأصفهاني : بل بالوجود اللفظي. وقال النائيني : بل هي آلات والمعاملة ذو الآلة.

ومسلك الاعتبار والإبراز وأنّه لا سببيّة ومسببيّة مطلقاً ، وعليه السيد الخوئي (٢) ...

وكلام (الكفاية) مردود على كلا المسلكين.

أما على الثاني ، فإن الصيغة المعيّنة للمعاملة ، إذا صدرت من البائع مثلاً واجدةً للشرائط المعتبرة شرعاً ، تصبح موضوعاً لاعتبار الشارع بتبع اعتباره ، ثم إن العقلاء يرتّبون الأثر ، فلا يوجد في البين سببٌ وتسبّب ، بل إن الاعتبار وإبرازه مقدوران للمكلّف ولا مانع من تعلّق النهي به ، وبعد تعلّقه يبتني الحكم على المختار في دلالة النهي عن المعاملة على الفساد وعدم دلالته.

لكنّ المحقق الخراساني من القائلين بالمسلك الأوّل فنقول : إن كان

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٠٧.

(٢) ذهب إلى أنّ الاوامر والنواهي الشرعية اعتبارٌ للاّبديّة في الوجوب والحرمان في الحرمة ، وإبراز لذلك بالأمر والنهي. أمّا صيغ العقود ففي البيع مثلاً : اعتبار للملكية وإبراز بالصيغة. وفصّل الأُستاذ ، فقال في الأوامر والنواهي بالبعث أو الزجر النسبي ، وأمّا في الصيغ فوافق هذا المبنى.

١٦١

المسبّب للصيغة هو الاعتبار الشرعي تمّ كلامه قدس‌سره ، لأنّه لا يعقل النهي عن المسبب إلاّ أن يكون مقدوراً ، وذلك لا يتحقّق إلا أن يعتبر الشارع وقوع المعاملة وتحقّقها ، وهو مستلزم للصحة. وأمّا إن كان المسبّب هو الاعتبار العقلائي ، بأنْ يعتبر العقلاء الزوجيّة إذا تحقق عقد النكاح ، فإنّ هذا الاعتبار يحصل حتى مع نهي الشارع ، فلا يكون النهي دالاً على الصحّة.

الجهة الثانية : في مقتضى النص

وهو صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيده. فقال : ذلك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما. قلت : أصلحك الله تعالى : إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إن أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيد له. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنه لم يعص الله ، إنما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز» (١).

وهنا قولان

ذهب المحقّق الخراساني (٢) إلى أنّ الاستدلال بها على فساد المعاملة إنما يتم لو كان المعصية في «إنه لم يعص الله» بالمعنى التكليفي ، فيكون المفهوم : كلّما كان عصيان تكليفي فالمعاملة فاسدة. لكنّه وضعي ، أي : إنه لم يقع منه نكاحٌ هو معصية لله وضعاً ، أي ليس بفاسد ، بل صدر منه معصية لسيّده لأنه نكاح بلا إذنٍ منه ... فإذا أجاز جاز.

وخالف الميرزا والإيرواني

أما الميرزا ، فأفاد ما ملخّصه (٣) : إن الظاهر من «المعصية» صدراً وذيلاً هي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ / ١١٤ ، الباب ٢٤ ، الرقم ١.

(٢) كفاية الاصول : ١٨٨.

(٣) أجود التقريرات ٢ / ٢٣٣.

١٦٢

المعصية التكليفية ، فالرواية تدل على أنّ النهي مفسد ، لأنّ مفهوم كلامه عليه‌السلام : إنْ عصى فهو فاسد.

وأمّا الإيرواني (١) ، فأفاد بأنّ المعصية في الموردين أعم ، وتخصيصها بالمعنى الوضعي بلا مخصص ، فكان مقتضى مفهوم التعليل هو العصيان لله وضعاً وتكليفاً ، فالنكاح فاسد.

وبعد ، فإذا الغي خصوصية المورد ، كانت الرواية دليلاً على الفساد في مطلق المعاملات.

تحقيق الأُستاذ

فقال شيخنا دام بقاه : إنه بعد هذا النص بلا فصلٍ جاء النصّ التالي :

«عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن رجلٍ تزوّج عبدُه بغير إذنه فدخل بها ثم اطّلع على ذلك مولاه. قال : ذلك لمولاه إن شاء فرّق بينهما وإنْ شاء أجاز نكاحهما ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلاّ أن يكون اعتدى فأصدقها صداقاً كثيراً ، وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأول ، فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فإن أصل النكاح كان عاصياً. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنما أتى شيئاً حلالاً وليس بعاصٍ لله ، إنما عصى سيّده ولم يعص الله ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّةٍ وأشباهه» (٢).

قال الأُستاذ :

و «موسى بن بكر» ثقة عندنا ، لاعتماد جعفر بن سماعة على روايته في طلاق الخلع وفتواه على طبقها. وموسى ممّن شهد صفوان بأن كتابه معتمد عند

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢١ / ١١٥ ، الباب ٢٤ ، باب أن العبد إذا تزوّج بغير إذن ، الرقم : ٢.

١٦٣

أصحابنا ، وهو أيضاً من رجال ابن أبي عمير.

وتلخص : إنّ الحق مع صاحب (الكفاية) ومن تبعه.

هذا تمام الكلام في مباحث النواهي. ويقع البحث في المفاهيم.

١٦٤

المقصد الثالث

المفاهيم

١٦٥
١٦٦

مقدّمات :

الاولى (في تعريف المفهوم)

إن المفاهيم مداليل الجمل التركيبيّة ، والبحث هو في أصل ثبوت وعدم ثبوته لا في حجيته وعدم حجيّته ، فهو في الواقع بحث عن أنه هل للجملة الشرطيّة ـ مثلاً ـ مدلول التزامي أو لا؟ فإنْ كان فلا كلام في حجيته ، فيكون البحث ناظراً إلى صغرى أصالة الظهور لا كبرى الظواهر ، فهو نظير البحث عن ظهور صيغة الأمر ـ مثلاً ـ في الوجوب وعدم ظهوره فيه. وعلى هذا ، يكون البحث عن المفاهيم بحثاً عن الأدلة لا الأصول ، ومن الأدلة اللفظية لا العقليّة.

ثم إنهم قد عرّفوا «المفهوم» بتعاريف وأشكلوا عليها طرداً وعكساً ، واعتذر صاحب (الكفاية) ـ كما هو دأبه في نظائره ـ بأنها تعاريف لفظيّة وليست حقيقيّة ، فلا وجه للإشكال والقيل والقال ...

وكان التعريف المشهور بين القدماء : أن المفهوم ما دلَّ عليه اللّفظ لا في محلّ النطق ، في مقابل المنطوق وهو : ما دلّ عليه اللّفظ في محلّ النطق ... ويفيد هذا التعريف أنّ المفهوم ـ كالمنطوق ـ من المداليل اللّفظية. ثم فسّروا ذلك بقولهم : إن الحكم في طرف المفهوم لغير المذكور ، وفي طرف المنطوق مذكور ... لكنّ ظاهر تعريف القدماء كونه أعم من مفهوم اللفظ الإفرادي والمفاهيم

١٦٧

التركيبيّة ، وقد ذكرنا أنّ المفهوم مدلول الجملة التركيبيّة فقط.

فظهر أن تعريف القدماء يشتمل على نقاط قوةٍ وضعف.

وجاء صاحب (الكفاية) بتعريفٍ مع النظر إلى التعريف المذكور ، فقال ما ملخصه:

إن المفهوم عبارة عن الحكم الإنشائي أو الإخباري المستتبع لخصوصيةٍ هي مدلول جملةٍ ، أعم من أن يكون المفهوم موافقاً لمدلولها أو مخالفاً ، فمثال الحكم الإنشائي قولك : إن جاءك زيد فأكرمه ، والإخباري : إن جئتني اكرمك.

ومثال مفهوم الموافقة قول الله عزّ وجلّ (فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ) (١) والمخالفة مثل : إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه.

(قال) : فالمفهوم عبارة عن الحكم غير المذكور لا الحكم لغير المذكور.

ثم ترك رحمه‌الله ما لا فائدة له من البحوث في هذا المقام.

ولنوضّح كلامه بشيء من التفصيل :

لا يخفى أنّ الملازمة ثبوتاً بين شيئين تدور مدار الوجود والعدم ، فقد تكون وقد لا تكون ، إلاّ أنها في مقام الإثبات تنقسم إلى أقسام.

فمنها : ما لا يكفي تصوّر الشيئين والنسبة الموجودة بينهما لإثبات الملازمة ، كما يقع كثيراً في المناقشات العلمية بين العلماء ، إذ يطرحون كلاماً ويقولون إن لازم هذا الكلام كذا ، فهذا يفيد وجود تلك الملازمة في الواقع غير أنها خافية في مقام الإثبات ، غفل عنها صاحب الكلام والتفت إليها المستشكل ... وهذه الملازمة تسمّى اصطلاحاً باللزوم غير البيّن.

ومنها : ما ليس بهذا الحدّ من الخفاء ، إلاّ أنّه يُحتاج إلى تصوّر الموضوع

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٢٣.

١٦٨

والمحمول والنسبة ، فإذا تمّ تصوّر هذه الامور ثبتت الملازمة ، وتسمى باللزوم البيّن بالمعنى الأعم.

ومنها : ما يكون فيه نفس تصوّر الملزوم كافياً لإدراك الملازمة ، وهذا هو اللّزوم بالمعنى الأخص.

مثال الأول هو : إن من يقول بالملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الضدّ ، يحتاج إلى الاستعانة بمقدّمةٍ خارجية لإثباتها ، لكونها غير بيّنة لا بالمعنى الأعمّ ولا الأخص ... وجميع المباحث الاستلزامية الاصولية كلّها من هذا القبيل ، كالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها وهكذا.

ومثال القسم الثاني هو : استنباط أقلّ الحمل وهو ستة أشهر من الآيتين:(وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَينِ كامِلَينِ) (١) و (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شهْراً) (٢) ، فمن من تصوّرهما وتصوّر النسبة بينهما ينتج ذلك بلا حاجةٍ إلى دليل خارجي.

ومثال القسم الثالث : تصوّر الشمس ، فإنّه يستلزم تصوّر اللاّزم وهو وجود النهار.

فأفاد قوله رحمه‌الله : المفهوم عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري يستتبع ... عدم دخول القسم الثالث في البحث ، لأن بحثنا في مفاهيم الجمل ، وهو ما أشار إليه بكلمة «حكم» وليس في المفاهيم الأفراديّة ...

والحاصل إنه نبّه على إشكالين في تعريف القدماء : أحدهما : شموله للمفاهيم الأفرادية ، والآخر قولهم : إن المفهوم حكم لغير المذكور ، فهذا غير

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٣٣.

(٢) سورة الأحقاف : الآية ١٥.

١٦٩

صحيح بل الصحيح إنه حكم غير مذكور.

فهذا ما اقتضى ذكره ، ولا نتعرّض لكلمات المحقّقين ، ومن شاء الاطّلاع عليها فليراجع.

الثانية (هل تدخل دلالة الإيماء والإشارة ... في البحث؟)

إنه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ المفهوم مدلولٌ للّفظ لكنْ بالدلالة الالتزامية باللّزوم البيّن بالمعنى الأخص ، فما هو حكم دلالة التنبيه والإشارة والاقتضاء؟

وبيان ذلك هو : إن المدلول تارةً مقصود للمتكلّم واخرى غير مقصود ، والأوّل تارةً : يكون الصّدق أو الصحة العقلية أو الشرعيّة متوقفاً عليه ـ أي على المدلول ـ واخرى : هو غير متوقّف عليه. فإن لم يكن المدلول مقصوداً للمتكلّم سمّيت الدلالة ب «دلالة الإشارة» ومن ذلك : دلالة الآيتين على أقلّ الحمل على ما تقدّم ، وهذه الدلالة موجودة وإنْ لم تكن مقصودةً.

وإن كان مقصوداً ، فقد يكون صدق الكلام موقوفاً عليه عقلاً ، كما في دلالة حديث الرفع ، حيث توقّف صدقه على أنْ يكون المرفوع هو «المؤاخذة». وقد يكون صحّته عقلاً موقوفةً عليه كما في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) فلولا تقدير كلمة «الأهل» لم يصح الكلام عقلاً ، وقد يكون صحّته شرعاً موقوفةً عليه كما في قولك : أعتق عبدك عنّي ، فإن صحّته تتوقف على أن يملّكك العبد ثم يعتقه وكالةً عنك ، إذ لا عتق شرعاً إلا في ملك. وتسمى هذه الأقسام الثلاثة ب «دلالة الاقتضاء».

وإنْ كان مقصوداً ولكن لا دلالة للصحّة أو الصّدق عليه أصلاً ، فهي «دلالة الإيماء والتنبيه» كما في الحديث : أنه قال رجل لرسول الله : «هلكت وأهلكت يا

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٨٢.

١٧٠

رسول الله» فقال : «كفّر» (١). فإن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله يدلُّ على معناه المقصود منه لاقترانه بكلام الرجل.

فوقع الكلام بين العلماء في أنّ هذه الأقسام من الدلالات اللّفظيّة داخلة في المنطوق أو المفهوم أو خارجة من كليهما ، فعن الميرزا القمي وجماعة أنها داخلة في الدلالة المنطوقية غير الصريحة ، وقال المتأخرون : بل هي من الدلالات السّياقيّة ، لا منطوقية ولا مفهوميّة فهي ليست لفظية ....

وقد وافق الأُستاذ المتأخرين ، لأن هذه الدلالات ليست من المفهوم ، لعدم كون اللّزوم بيّناً بالمعنى الأخص ، وليست في محلّ النطق حتى تكون منطوقيّة ، على أنّها تتوقف في بعضها على مقدّمة خارجيّة كما في مثال العتق ، إذ لا بدّ من تصحيحه على ما تقدم ، صوناً لكلام الحكيم عن اللغوية.

وأضاف في الدورة اللاّحقة : بأنّ بعض الأقسام منها غير محتاجٍ إلى مقدّمة خارجيّة حتى يكون من اللزوم غير البيّن ، بل هو من اللزوم البين بالمعنى الأعم ، كما في قضية الآيتين ودلالتهما على أقلّ الحمل ، وكما في الأمر بالكفارة في الحديث المذكور. وبعضها محتاج كما في مثال العتق ، فهو من اللّزوم غير البيّن.

فما في كلام السيد الخوئي (٢) من أن كلّها من اللّزوم غير البيّن مخدوش.

الثالثة (هل المسألة اصوليّة؟)

وهل البحث عن المفاهيم من المسائل الاصوليّة أو لا؟ وعلى الأوّل ، فهل هو مسألة لفظيّة أو عقليّة؟

لقد تقدّم أنّ البحث في المفاهيم إنّما هو عن أصل ثبوتها وليس عن

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٤٦ ، الباب ٨ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الرقم : ٥.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ١٩٥ ـ ١٩٦.

١٧١

حجّيتها. وبعبارة اخرى : إنه بحثٌ عن صغرى حجية الظواهر ، فإنْ كانت المسألة الاصولية ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي وإنْ احتاج لذلك إلى ضمّ مقدمةٍ ـ كما هو المختار ـ فالمسألة اصولية ، وأمّا على القول بأنّها ما يقع كذلك بلا ضمّ مقدمةٍ ، أشكل دخول البحث في المسائل الاصولية ... ولذا اضطر بعض الأكابر (١) لأنْ يقول : إن البحث الصغروي ، إن كان من صغريات كبرى ثابتة لا بحث فيها ، فالمسألة اصولية كما في البحث عن صغرى حجيّة الظهور ، فهو بحث اصولي لعدم الاختلاف في كبرى حجيّة الظواهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وأشكل الأُستاذ : بأنّ حجيّة الظواهر أيضاً بحاجةٍ إلى إثبات ، إذ ليست كحجيّة القطع في الثبوت ... ولذا يستدل لحجيّة الظواهر بالسيرة العقلائية ، لكنّ تماميّتها يتوقف على عدم الردع من الشارع.

وعلى الجملة ، فالحق عندنا كونها مسألة اصوليّة ....

وهي ـ وإن كان فيها جهة عقلية ـ مسألة لفظيّة ، لكون المفهوم مدلولاً للجملة بالدلالة الالتزامية كما تقدّم.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ١٩٧ ـ ١٩٨.

١٧٢

مفهوم الشّرط

إنّ منطوق الجملة الشرطية يفيد ثبوت شيء عند ثبوت شيء آخر ، فيبحث عن أنه هل لها ـ علاوةً على ذلك ـ دلالة على انتفاء الشيء عند انتفاء ذلك الشيء الآخر أو لا؟

إن قولك : «إن جاءك زيد فأكرمه» ظاهر في ثبوت الإكرام عند ثبوت المجيء ، فهل يفيد عدم الإكرام عند عدم المجيء كذلك؟ إن كان يفيد هذا المعنى أيضاً فهو ينفي الإكرام عند عدم المجيء مطلقاً ، أي : سواء أحسن إليك أو لا؟ سواء فعل كذا أو لا؟ سواء كان كذا أو لا؟ ، فإن وجوب إكرامه ينتفي على كلّ تقدير ، ولذا لو قلت بعد ذلك مثلاً : إن أحسن إليك فأكرمه ، وقع التعارض بين هذا المنطوق وإطلاق ذاك المفهوم ، فإن كان بينهما عموم وخصوص مطلق ، قيّد الإطلاق ، وإنْ كان من وجه ، رجع إلى مقتضى القاعدة في صورة وحدة الجزاء مع تعدّد الشرط ، فيجمع بينهما بالحمل على «أو» أو «الواو» على ما سيأتي بالتفصيل.

فظهر أنّ للقول بوجود المفهوم للجملة الشرطية آثاراً فقهية واصولية.

ثم إنّ ل «الشرط» إطلاقات مختلفة ، فهو في اللغة عبارة عن الربط بين الشيئين ، وهذا المعنى موجود في جميع موارد استعمال «الشرط». وفي المعقول عبارة عن مكمليّة فاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، وفي الفقه ينطبق على ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، كما في قولهم : الوضوء شرط للصّلاة.

١٧٣

وفي الاصول ـ وفي الفقه أيضاً ـ هو الالتزام في ضمن الالتزام ، أعم من أن يكون الالتزام بنحو الفعل أو بنحو النتيجة ، وهل يصدق «الشرط» على الالتزامات الابتدائية؟ فيه خلاف ، قال به جماعة واستدلّوا بالحديث : «المؤمنون عند شروطهم» (١).

والشرط في بحث مفهوم الشرط عبارة عن «ما عُلّق عليه شيء آخر» كذا قيل ، لكنْ فيه : أنّ أخذ عنوان «التعليق» قبل إثبات دلالة الشرط عليه ، غير صحيح ... فالأصح أن يقال : ما يقع في القضية مقدّماً ويتلوه التالي.

شروط ثبوت مفهوم الشرط :

هذا ، ويعتبر في ثبوت مفهوم الشرط ثلاثة امور ، فلا يثبت إنْ فقد واحد منها :

الأول : أن تكون القضية ظاهرةً في ترتّب ما بعد «الفاء» على ما قبلها بنحو التعليق ، لا أن تكون مقارنة اتّفاقية مثل : جاء زيد فجاء عمرو.

الثانية : أن يكون الترتب لزوميّاً ، ولو لا الملازمة بين الشرط والجزاء فلا مفهوم ، كما لو ترتّب مجيء زيد على مجيء عمرو في الزمان.

الثالثة : أن يكون المقدّم علّةً منحصرةً للتالي ، وإلاّ فلا انتفاء عند الانتفاء.

بيان الشرط الأول (الترتب بين المقدّم والتالي)

فإن النسبة اللزومية بين الشرط والجزاء هي بنحو الترتب ، بمعنى أنّ المقدّم هو العلّة للتالي ، ولو كان المقدّم هو المعلول والتالي هو العلّة ، لم يستلزم الانتفاء عند الانتفاء.

وقد استدلّ لذلك بوجهين :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ / ٢٧٦ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، رقم : ٤.

١٧٤

أحدهما : إن الجملة الشرطية دالّة على الترتب والمعلوليّة بالوضع.

وفيه : إنه لا دليل على هذه الدعوى ، إذ لا شيء من علائم الحقيقة في هذا المقام ، بل إن صحّة الحمل في مثل : إذا كان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، تشهد بعدم وضع الجملة الشرطية للترتب.

الوجه الثاني : ما أفاده الميرزا (١) وحاصله : إنّ مقتضى التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات هو الترتب بين التالي والمقدّم ، إذ لا ريب في تقدم العلّة على المعلول في مقام الثبوت ، ومقتضى الأصل الأولي أن يكون كلام المتكلّم غير الغافل ملقياً ما هو المتحقّق خارجاً إلى ذهن السامع ، بأنْ يكون كلامه مطابقاً للنظم الواقعي ، وكونه على خلافه خلاف الأصل.

وعلى الجملة ، فإنْ تقديم المتكلّم المجيء على الإكرام في مقام الإثبات يكشف عن تقدّمه عليه في مقام الثبوت ، وهذا هو الترتب والدلالة عليه في الجملة الشرطية.

وبهذا التقريب يقوى هذا الاستدلال ويظهر النظر فيما قيل (٢) من : أنه يتوقف على أنْ يكون المتكلّم في مقام بيان عليّة المجيء للإكرام ، ولا يكون في مقام مجرّد الإخبار عن وجوب الإكرام في فرض مجيء زيد ، أو مجرّد إنشاء هذا المعنى.

وجه النظر : إن إلقاء الكلام من المتكلّم الملتفت بهذا الشكل الخاص يكشف عن إرادته إفادة الترتب ، وإلاّ لجاء بالكلام على وضعٍ آخر. وتوضيحه : إنه لا ريب في إفادة الجملة الشرطية للترتب ، وإنما الكلام في إنه مختصّ بالترتّب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢٤٩.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

١٧٥

في الواقع أو أنه أعمّ من الواقع والاعتبار؟ وبعبارة اخرى : إنّ الكلام في سعة الترتّب وضيقه ، يقول المحقق الاصفهاني : إن الشرطيّة تفيد الترتّب ، أمّا أن يكون في الخارج كذلك فلا ، بل يمكن أن يكون في اعتبار العقل ، بأن يعتبر الشيء مقدّماً والآخر متأخّراً ، كما في : إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ، فهو ترتب عقلي وإن لم يكن له واقعيّة في الخارج.

فإنْ تمّ كفاية مطلق الترتب بطل كلام الميرزا.

لكنْ إن كان مراد الميرزا : إن الأصل في القضايا الملقاة هو إفادة الواقعيّات لا صِرف الاعتبارات العقلية التي لا واقعية لها ، فالمتكلّم الحكيم يريد إحضار الواقع إلى ذهن السامع بكلامه الذي يلقيه ، فلمّا كان مترتّباً دلّ على كون الواقع مترتباً كذلك.

فإيراد بعض أعلام تلامذته غير وارد عليه.

بيان الشرط الثاني (الملازمة بين المقدّم والتالي)

إنه يعتبر في ثبوت المفهوم للجملة أنْ تكون النسبة لزوميّة لا أنْ تكون هناك مقارنة صِرفة عقلاً أو خارجاً. وهو واضح لا يحتاج إلى بيان عند المحققين كالخراساني والميرزا وأتباعهما ، لدلالة الجملة الشرطيّة على ذلك بالوضع ، ويشهد به التبادر والانسباق في مثل : إن جاءك زيد فأكرمه. ومع التنزّل عن الظهور الوضعي فالظهور العرفي ثابت.

رأي المحقق الأصفهاني

وخالف المحقق الأصفهاني (١) ونفى وجود الدلالة في القضيّة الشرطيّة على النسبة اللزوميّة ، لما تقرّر في المنطق من انقسامها إلى اللّزومية والاتفاقيّة ، فهي قد

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤١٣ ـ ٤١٤.

١٧٦

تخلو عن اللّزوم والارتباط كما في مثل : إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ، وصدق الشرط على مثله حقيقي لا مجازي ، والشاهد على كونه حقيقةً صحّة التقسيم المذكور عند المناطقة ، فإنْ صحّة التقسيم أمارة الحقيقة كما في (كتاب الطهارة) من الفقه إذ قالوا بعدم انقسام الماء إلى المطلق والمضاف ، وإلاّ لكان المضاف مصداقاً حقيقيّاً للماء.

هذا ، وقد برهن المحقق الأصفهاني اعتراضه على القوم : بأنّ الدلالة على «الشرط» لا تكون بلا دال ، أمّا المركّب فليس إلاّ وضع المفردات ، وأمّا المفردات فلا يدلّ شيء منها على اللّزوم ، وتبقى «أداة الشرط» و «الفاء». أما الأوّل فليس مدلوله إلاّ كون مدخوله مفروضاً مقدّر الوجود ، فمفاد «إن» الشرطيّة فرض الوجود ل «مجيء زيد». وأمّا «الفاء» فلا تدلّ إلاّ على الترتيب والترتّب ، لكنّ كون ذلك بنحو اللّزوم أو الاتفاق؟ فلا دلالة لها. ويشهد بذلك وجودها في القضايا الاتفاقية كذلك.

فإذا لم تكن المفردات دالّةً على اللّزوم ، والمركّب ليس إلاّ المفردات ، فمن أين الدلالة؟

نقد الأُستاذ

وقد انتقد الشيخ الأُستاذ هذا الكلام بوجوه :

الأول : إنه قد صرّح بدلالة حرف الشرط على التعليق وأن الفاء تفيد الترتّب بين الشرط والجزاء ، ومن الواضح أن «الترتّب» هو كون الشيء بعد الشيء و «التعلّق» هو الارتباط بين الشيئين ... والجماعة لا يقصدون إلاّ هذا.

والثاني : صحيح أن المناطقة يقسّمون الشرطية إلى اللزوميّة والاتفاقيّة ويمثّلون للقسم الثاني بمثل : إن كان الإنسان ناطقاً كان الحمار ناهقاً ، ولكنْ هل

١٧٧

هذا التقسيم حقيقي أو مجازي؟

والثالث : إن قولنا : «أكرم» مطلق منجّز ، فإذا دخلت عليه أداة الشرط أصبح معلّقاً وكان وجوب الإكرام منوطاً بالمجيء ، وهذه الإناطة والتعليق هي مفهوم أداة الشرط ، لا مجرّد الفرض والتقدير كما هو ظاهر كلام هذا المحقق.

والرابع : إن الفاء تدلّ على الترتيب ، لكنّ دلالة الجملة الشرطية على التعلّق والإناطة موجودة حتى مع عدم الفاء ؛ فالذي يفيد الترتيب وقوع الجزاء عقب الشرط سواء وجدت الفاء أو لا.

وتلخص :

إن الدالّ على اللّزوم هو أداة الشرط.

بيان الشرط الثالث (كون الترتّب بنحو العليّة المنحصرة)

وذلك إنه بعد ثبوت إفادة الجملة للزوم وللترتّب ، يشترط أن تكون العليّة منحصرةً وإلاّ فلا مفهوم للجملة.

وقد استدلّ للعليّة المنحصرة بوجوهٍ خمسة :

١ ـ الوضع

دعوى دلالة الجملة الشرطيّة على انحصار العليّة بالوضع.

وفيها : إنها دعوى بلا دليل ، بل الدليل على العكس ، فإنّه في موارد تعدّد الشرط ووحدة الجزاء تستعمل القضيّة الشرطية بلا أيّة عناية ، فلو كانت موضوعةً للعليّة المنحصرة لكان استعمالاً مجازيّاً.

٢ ـ الإطلاق

طريق الكفاية

وقد بيّنه بوجوه : أحدها من باب الانصراف والباقي يبتني على مقدّمات الحكمة.

١٧٨

(الإطلاق الأول) هو : الإطلاق الانصرافي ، ووجه الانصراف هو : إن لفظ الشرط دالّ على العليّة ، والعلّة تنقسم إلى الكاملة والأكمل ، فإنْ كانت منحصرةً كانت الأكمل ، واللّفظ ينصرف إلى الفرد الأكمل.

(وفيه) بطلان الصغرى والكبرى. أمّا الكبرى ، فإن اللفظ الموضوع للمعنى التشكيكي موضوع لنفس الحقيقة لا للفرد الأكمل منها أو غيره ، وإلاّ لزم أنْ يكون إطلاق «العالم» على غير «الأعلم» مجازاً ، وهذا باطل. وأمّا الصغرى ، فلأنه ليس بين العلّة المنحصرة وغير المنحصرة اختلاف في المرتبة ، إذ العليّة حيثيّة وجودها في كليهما على حدٍّ سواء.

(الإطلاق الثاني) ما ذكره بعنوان «إن قلت» ، ومحصّله : التمسّك لإثبات انحصار العلّة بالإطلاق كما يتمسّك به لإثبات الوجوب في النفسيّة في مقابل الغيريّة ونحو ذلك. فأجاب : بالفرق بين المقامين ، لأن معنى الوجوب النفسي هو الوجوب على كلّ تقدير ، في قبال الغيري الذي هو الوجوب على بعض التقادير ، فكان مقتضى الإطلاق عند التردّد هو النفسيّة ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنه مع التردّد بين الانحصار وعدمه لا إطلاق يقتضي الانحصاريّة.

توضيح الاستدلال :

إنه تارةً : تكون الحصّتان للطبيعة الواحدة وجوديتين ، كالرقبة التي منها الكافرة ومنها المؤمنة ، واخرى : تكون احداهما وجودية والأخرى عدميّة. والوجوب من القسم الثاني ، فإن الوجوب النفسي مقيّد بقيد عدمي وهو كونه «لا للغير» والغيري مقيد بقيدٍ وجودي وهو كونه «للغير».

والانحصار وعدمه حصّتان للعلّة ، وهما مثل النفسي والغيري بالنسبة إلى الوجوب ، فالمنحصرة يعني التي لا معها شيء في المؤثرية وغير المنحصرة هي

١٧٩

التي معها شيء ، فكما يتمسّك بالإطلاق لإثبات النفسية ، كذلك يتمسّك به لإثبات الانحصار ... لأن الجهة الوجودية هي المحتاجة إلى بيان زائد ، وأمّا الجهة العدميّة فهي مقتضى أصالة الإطلاق ، فلا تحتاج العليّة غير المنحصرة إلى بيان وأمّا المنحصرة فتحتاج ، وإذ لا بيان ، فالأصل يفيد الانحصار كما في الوجوب النفسي.

اجيب بوجهين :

أحدهما :

إنّه لا موضوع في المقام لجريان مقدّمات الحكمة لإفادة الإطلاق ، لأنّها إنما تجري حيث يمكن الإطلاق والتقييد ، والمقصود هنا هو إجراء المقدّمات في أداة الشرط حتى يتم الإطلاق ، لكنّ معنى أداة الشرط معنىً حرفي ، والمعنى الحرفي غير قابل للإطلاق والتقييد. أمّا أوّلاً : فلأنّه يعتبر فيما يراد إجراء الإطلاق فيه أنْ لا يكون جزئياً ، لأن الجزئي غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق ، والمعنى الحرفي جزئي. وأمّا ثانياً : فلأنه يعتبر فيما يراد إجراء الإطلاق فيه أن يكون ممّا يلحظ بالاستقلال حتى يصلح للتوسعة والتضييق ، كما في «الرقبة» فتلحظ بشرط ولا بشرط ، والمعنى الحرفي لا يلحظ بالنظر الاستقلالي وإنّما دائماً ما به ينظر.

وتلخّص : أن لا موضوع للإطلاق والتقييد هنا حتى يتمسّك بمقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق.

(وفيه):

هذا هو الجواب الأوّل ، لكنْ يرد عليه النقض : بأنه إذا كان المعنى الحرفي غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق ، فإن مداليل الهيئات أيضاً ـ كهيئة افعل الدالّة على الوجوب ـ معانٍ حرفية ، فكيف تمسّكتم بالإطلاق لإثبات كون الوجوب نفسيّاً؟ وكيف تمسّكتم بإطلاق هيئة افعل للدلالة على الوجوب

١٨٠