تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

إذنْ ، ليس ذكر هذه التقسيمات في المقام بلا أثر.

وأمّا الثاني ففيه : إنّ هذا الكلام إنما يتم لو كان للمركب وجود غير وجود الأجزاء كما في المركبات الحقيقيّة ، لكنّ المركب الاعتباري ـ كالصّلاة ـ ليس إلاّ نفس الأجزاء من التكبير والقيام والركوع والسجود ، وعلى هذا ، فإنْ كانت العبادة ما له حسن ذاتي ، فإنْ هذا المركب حسن ذاتاً ، ولو كان بعض أجزائه ليس عبادةً لم يتّصف بالحسن ، لأن المركب من الحسن وغير الحسن يستحيل أن يكون حسناً بذاته. وإن كانت العبادة ما لا يسقط الأمر به إلاّ بالإتيان به بقصد القربة ، فإن المركّب ليس له إلاّ أمر واحد لا عدّة أوامر بعدد الأجزاء ، وقد ذكر المحقق الأصفهاني في مبحث الاشتغال أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب واحد بالوحدة الحقيقيّة وبسيط بالبساطة الحقيقية ، غير أنّ المتعلَّق مركَّب ، وعلى ذلك يقال له : كيف يكون البسيط توصّلياً وتعبديّاً معاً؟

وأمّا الثالث ففيه : إنْ وجه التفريق بين الغصب والجهر والإخفات هو تعلّق النهي في الجهر والإخفات بنفس الوصف ، قال تعالى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (١) وفي الخبر : «رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهارُ فيه ...» (٢) فكان الوصف لازماً للقراءة غير منفكٍ عنه. أمّا في الغصب ، فإن المتعلَّق للنهي هو الغصب لا الغصب في الصّلاة ، فكان وصفاً مفارقاً ، وبهذا السبب قسّم في (الكفاية) الوصف إلى القسمين ... والإشكال مندفع.

وأمّا الرابع ، فالجواب : إن الوصف على قسمين ، فهو تارةً : ينضمّ إلى الموصوف كما في البياض بالنسبة إلى الجدار ، ولا اتّحاد في هذا القسم بين

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١١٠.

(٢) وسائل الشيعة ٦ / ٨٦ ، الباب ٢٦ ، الرقم : ٢.

١٤١

الوصف والموصوف ، واخرى : هو وصف انتزاعي كما في الفوقية والتحتية مثلاً ، فإنّ الاتحاد ثابت بينه وبين الموصوف ، إذ ليس الفوقية منضمّة إلى السقف بل هي مفهوم متّحد معه وجوداً ... والغصبية من هذا القبيل ، لأنها عنوان منتزع من التصرف في مال الغير بلا إذنٍ منه. فمنشأ الإشكال هو الخلط بين القسمين من الوصف.

الإشكال الوارد على الكفاية

وأورد المحققان ـ الأصفهاني والإيرواني ـ على ما ذكره صاحب (الكفاية) في الوصف الملازم بما حاصله : لو كان الجهر بالقراءة غير القراءة ، بمعنى أن يكون هذا الكيف المسموع ذا مراتب ، كما هو الحال في النور مثلاً ، فيكون القراءة الجهريّة هي المرتبة الشديدة من القراءة ، لكان بحثاً آخر. لكنَّ المحقق الخراساني يرى أنَّ الجهر وصف للقراءة ، فلكلٍّ منهما وجود إلاّ أن بينهما ملازمةً ، هذا من جهة. ومن جهةٍ اخرى : فإنّه يرى اشتراط أنْ لا يختلف المتلازمان في الحكم وإنْ لم يقم دليلٌ على ضرورة اتحادهما فيه ، وعلى ما تقدَّم ، فإنّ قوله هنا بسراية النهي من اللاّزم إلى الملزوم مردود ومخالف لمسلكه.

وعلى الجملة ، فإنّ مفاد كلام (الكفاية) هنا إثبات بطلان العبادة بسبب ورود النهي عن الوصف الملازم ، وهذا يتوقّف على رفع اليد عمّا ذكرناه عنه من المبنى.

قال شيخنا : وهذا الإشكال وارد على (الكفاية).

هذا تمام الكلام على المقدّمات.

ويقع البحث في مقامين :

١٤٢

الأول : في النهي عن العبادة

هل النهي عن العبادة يقتضي الفساد أو لا؟ قولان.

دليل القول بالفساد : إنه يعتبر في العبادة قصد القربة ، أمّا على القول باعتبار قصد الأمر ـ كما عليه صاحب (الجواهر) قدس سرّه ـ فمع النهي لا يوجد الأمر لضرورة التضادّ بين الأمر والنهي ، فالعباديّة منتفية. وأمّا على القول بكفاية قصد الملاك ـ كما هو المختار ـ فتارةً : يكون ملاك العبادة مزاحماً بملاكٍ أهم ، فيوجب سقوط الأمر أو تحقق النهي التبعي ، وفي هذه الحالة يمكن التقرّب قصده ، لأن المفروض عدم وجود أيّ نقصٍ في ملاك الصّلاة ، فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، فلا اقتضاء للأمر بالإزالة للنهي عن الصّلاة ، فنحن في راحة ، وإنْ قلنا بالاقتضاء فقولان ، لأن المشهور أنّ النهي عنها في المثال تبعيٌّ ناشئ عن المزاحمة ، ومثل هذا النهي لا ينافي قصد القربة بملاك الأمر ، فنحن في راحةٍ كذلك ، لكن المختار عند الأُستاذ أنه بناءً على الاقتضاء يكون النهي التبعي أيضاً رافعاً لصلاحيّة العمل للتقرّب ، إذْ لا يفرق في كونه منهيّاً عنه بين النهي التبعي وغيره.

لكنّ المهمّ في المقام : أنّ النهي عن العبادة ـ كالنهي عن صلاة الحائض ـ ليس نهياً عرضياً ناشئاً من المزاحمة ، بل هو ناشئ عن المفسدة في نفس العمل ، ومثل هذا الملاك المبتلى بمفسدةٍ ملزمة ، غير صالح للتقرّب به بحكم العقل ، فيكون العمل باطلاً بناءً كفاية قصد الملاك كذلك.

قول المحقق العراقي بعدم الفساد

وذهب المحقق العراقي إلى عدم اقتضاء النهي المولوي التحريمي المتعلّق

١٤٣

بالعبادة لفسادها (١) قال : إلاّ من جهة قضية الإخلال بالقربة الموقوفة على العلم به ، وإلاّ فمن جهة فقدانها للملاك والمصلحة لا دلالة عليه بوجهٍ من الوجوه ، لأن غاية ما يقتضيه النهي المزبور بما أنه نهي مولوي تحريمي إنما هو الدلالة على قيام المفسدة في متعلّقه ، وأمّا الدلالة على عدم وجود ملاك الأمر والمصلحة فيه ولو من جهةٍ اخرى فلا. نعم ، مع الشك في الملاك كان مقتضى الأصل هو الفساد ، ولكنه غير مرتبط باقتضاء النهي المولوي لذلك.

وحاصل كلامه : إن المنشأ لفساد العبادة منحصرٌ بأمرين ، فإمّا هو عدم الملاك ، وامّا عدم تمشّي قصد القربة بالعبادة مع وجود النهي عنها ، ومن الواضح اعتبار قصد القربة فيها إمّا جزءاً أو شرطاً ، فإذا انتفى انتفى الكلّ أو المشروط.

لكنّ النهي لا دلالة له على عدم الملاك ، لأن غاية مدلوله وجود المفسدة في العمل ، أما الدلالة على عدم المصلحة فلا ، لعدم التضاد بين المصلحة والمفسدة ، بل التضاد هو بين المحبوبيّة والمبغوضيّة ، وعلى هذا ، يمكن اجتماع المصلحة والمفسدة في الشيء الواحد ، كما في استعمال الدواء لعلاج مرضٍ ، فإنّه «ليس مِنْ دواء إلاّ ويُهيّجُ داءً» كما في الخبر(٢).

وأمّا قضيّة قصد القربة ، فإنّه يتمشّى مع وجود النهي في حال جهل المكلّف بالنّهي وإنْ كان موجوداً في الواقع.

الجواب

والجواب عمّا ذكره :

أمّا في القسم الأول من كلامه وهو كون العمل ذا مصلحة مع تعلّق النهي به.

__________________

(١) نهاية الافكار ج (١ ـ ٢) ٤٥٦.

(٢) وسائل الشيعة ٢ / ٤٠٨ ، الباب ٤ ، الرقم : ١.

١٤٤

ففيه : إن مجرّد وجود المصلحة في العمل غير كافٍ لصلاحيته للمقربيّة ، لحكم العقل ـ وهو الحاكم في باب المقربيّة والمبعّدية ـ بأنها إنّما تصلح للمقربيّة في حال كونها غرضاً للمولى ، بأنْ تكون منشأً لأمره بالعمل أو يتعلّق بها غرضه ، وإلاّ ، فإن مجرّد واجديّة العمل للمصلحة لا تصيّره مقرّباً من العمل. هذه هي الكبرى. وفي مقامنا : لا شكّ في أنه مع وجود النهي التحريمي عن العمل تكون المصلحة الموجودة فيه ساقطة عن كونها غرضاً للمولى ، بل يكون النهي كاشفاً عن وصول المفسدة إلى حدّ الغرضية ، فيكون غرضه هو الانزجار عنه لا الانبعاث إليه ....

والحاصل : إنه مع تسليم ما ذكره من عدم المنافاة بين المصلحة والنهي نقول : عند ما يقوم النهي عن العمل تكون الفعلية للمفسدة ، والمصلحة من حيث الغرض على حدّ الشأنية ، وإذا وصلت المفسدة إلى الفعلية كان غرض المولى هو الانزجار عن العمل المنهي عنه ، وما يكون كذلك فلا يصلح للمقربيّة.

وأمّا في القسم الثاني من كلامه ، وهو تمشي قصد القربة من المكلَّف مع جهله بالنهي ، فيتّضح ما فيه مما ذكرناه في القسم الأوّل ، لأنّ مجرّد قصد القربة وتمشّيه غير كافٍ ، بل لا بدّ قبل ذلك من صلاحية العمل للمقربيّة ، والعمل الذي تعلَّق به النهي وكان الانزجار عنه هو الغرض من المولى ، غير صالح للمقربيّة ، فلا يكون عبادةً ، إذ كيف يكون عبادةً وهو مبغوض فعلاً وإن كان محبوباً في عالم الشأنية؟

وعلى هذا الأساس نقول ببطلان العبادة في باب اجتماع الأمر والنهي بناءً على الامتناع ، وأنّ الجهل بالنهي لا يكون مناطاً للصحّة ، لأنه قد قصد التقرب إلى المولى بما هو مبغوض عنده ، غاية الأمر يكون معذوراً بسبب الجهل ، نظير ما إذا قتل ابن المولى بقصد القربة إليه جاهلاً بكونه ابنه وزاعماً أنه عدوّ له ، فإنّ العمل مبغوض للمولى وإن كان ذا حسنٍ فاعلي.

١٤٥

قول المحقق الحائري بعدم الفساد

قال رحمه‌الله : الحق أنه لا يقتضي الفساد. أمّا في العبادات ، فلأن ما يتوهّم كونه مانعاً عن الصحّة كون العمل مبغوضاً ، فلا يحصل القرب المعتبر في العبادات به. (قال) وفيه : إنه من الممكن أن يكون العمل المشتمل على الخصوصية موجباً للقرب من حيث ذات العمل ، وإنْ كان إيجاده في تلك الخصوصية مبغوضاً للمولى. وبعبارة اخرى : فكما أنّا قلنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي بإمكان أنْ يتّحد العنوان المبغوض مع العنوان المقرب ، كذلك هنا من دون تفاوت ، فإن أصل الصّلاة شيء وخصوصيّة إيقاعها في مكان مخصوصٍ ـ مثلاً ـ شيء آخر مفهوماً وإن كانا متحدين في الخارج. نعم ، لو تعلّق النهي بنفس المقيَّد ـ وهي الصّلاة المخصوصة ـ فلازمه الفساد ، من جهة عدم امكان كون الطبيعة من دون تقييد ذات مصلحةٍ توجب المطلوبية ، والطبيعة المقيدة بقيد خاص ذات مفسدة توجب المبغوضيّة.

والحاصل : إنه كلّما تعلّق النهي بأمر آخر يتّحد مع الطبيعة المأمور بها ، فالصحة والفساد يبتنيان على كفاية تعدد الجهة في تعدّد الأمر والنهي ولوازمها من القرب والبعد والإطاعة والعصيان والمثوبة والعقوبة ، وحيث اخترنا كفاية تعدّد الجهة في ذلك ، فالحق في المقام الصحة. هذا كلامه في المتن (١).

وقد علّق في الحاشية على ما ذكره في حاصل المقام بقوله :

فيه : إن الجهتين المتغايرتين مفهوماً المتّحدين وجوداً في باب الاجتماع كان اتحادهما مصحّحاً للحمل ، فلهذا وقع اجتماع الأمر والنهي في مورد تصادقهما محلاًّ للنزاع المتقدم. وأمّا إذا كان أحد المفهومين منطبقاً على ذات

__________________

(١) درر الفوائد (١ ـ ٢) ١٨٧.

١٤٦

الفعل والآخر كان من قبيل الخصوصيّة ، فمن الواضح عدم صحة حمل أحدهما على الآخر ، وإنْ كان الحدّ الواحد من الوجود محيطاً بكليهما ، فالقائل بالامتناع في الفرض الأول لا يلزم أن يقول به في الثاني لعدم الاتحاد الحملي. نعم ، حيث أن المتخصّص والخصوصيّة متلازمان في الوجود لا يمكن اختلافهما في الحكم ، بأنْ يتعلق الأمر بالذات مثلاً والنهي بالخصوصيّة ، بناءً على ما هو المفروض من سراية الأمر من الطبيعة إلى الأفراد ، فلا بدّ من تقييد الأمر بغير هذا المورد ، ولكن هذا لا يوجب فساد العبادة ، لقيام الملاك في ذات الفعل ، فيكون الفاعل متقرّباً بنفس فعل الصّلاة مثلاً ومسخوطاً عليه لوصف كينونته في الحمام.

فتحصّل مما ذكرنا هنا وما ذكرنا في المتن أنه متى تعلّق النهي بالخصوصيّة ، فالحق ، صحّة العبادة حتى على القول بالامتناع في المسألة السابقة ، ومتى تعلّق بالخاص البطلان حتى على القول بالجواز هناك.

وتوضيح إشكاله على المتن هو : وجود الفرق بين محلّ الكلام ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، لأنَّ متعلَّقي الأمر والنهي هناك ـ وهما الصّلاة والغصب ـ متّحدان في الوجود ، وإن كانا متغايرين مفهوماً ، ولذا يحمل أحدهما على الآخر فيقال : هذه الصّلاة تصرّف في مال الغير ، بخلاف مسألتنا هذه ، فإنّه لا اتحاد بينهما من جهة الحمل ، فهما متغايران مفهوماً ، إذ الصّلاة غير الكينونة في الحمام ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ... فهذا الفرق موجودٌ ، لكنّ المبني ـ وهو صحّة الصلاة في كلتا المسألتين ـ واحد ، أمّا هناك فلكفاية تعدد الجهة ، وأمّا هنا ، فلأن المفروض تعلّق النهي بالخصوصيّة وهو الكينونة في الحمام ، وهو لا يتعدّى إلى المتخصّص أي الصّلاة ، فيكون الملاك في الصّلاة محفوظاً والأمر به باقياً ، فهو على محبوبيّته وإن كانت الخصوصية مبغوضةً ، فلا وجه لبطلانها.

١٤٧

الجواب

إنه لا يخفى الاضطراب في كلام هذا المحقق ، فهو يقول بأنّ المتخصّص والخصوصيّة لهما حدّ واحدٌ من الوجود ، وبعد فاصلٍ قليل يقول : نعم حيث أن المتخصّص والخصوصية متلازمان في الوجود. فإنّ هذا يستلزم تعدّد وجودهما ، لأن النسبة اللزوميّة بين شيئين لا يتحقق إلاّ بوجودهما ، ولا يعقل اتحادهما في الوجود لكون النسبة بينهما نسبة العلّة إلى المعلول ....

ومع غضّ النظر عن ذلك نقول : إنّ البحث في المسألة هو عن تعلّق النهي بالعبادة ، لا تعلّقه بلازمها ، فجعل خصوصيّة الكينونة في الحمام من لوازم الصّلاة خلف لفرض البحث ، وإن كانت موجودةً مع الصّلاة ، فمن المستحيل أن يكون الوجود الواحد محبوباً ومبغوضاً آنٍ واحدٍ ، بأنْ يكون ذا مصلحةٍ فعليّةٍ ومفسدةٍ فعليّةٍ معاً.

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلامه أخيراً من أن الصّلاة محبوبة ولكنّ كينونتها في الحمّام مبغوض. ففيه : إن طبيعة الصّلاة ليست غير الكينونة في الحمام ، لكونها كذلك حصّة من الصّلاة ، فهما موجودان بوجود واحد ، ووجودها كذلك عين وجود الطبيعة ، وحينئذٍ ، لا يعقل مع تعلّق النهي بوجود الصّلاة في الحمام أنّ تكون الصّلاة هذه صالحةً للتقرّب. والطبيعة بما هي لا تصلح للمقربيّة ، لعدم ترتب الأثر على الطبيعة ما لم يتحقق خارجاً في حصّةٍ من حصصها.

لو تعلّق النهي بجزء العبادة

ومن الصور التي ذكرها المحقق الخراساني في المسألة : تعلّق النهي بجزء من أجزاء العبادة ، كالنهي عن قراءة العزائم في الصّلاة ، فهل يقتضي فساد الجزء أو العبادة؟

قال في (الكفاية) بالأول ، وقال الميرزا بالثاني.

١٤٨

دليل الميرزا على فساد العبادة

واستدل الميرزا رحمه‌الله لدعواه بما حاصله (١) : إن جزء العبادة إمّا أن يؤخذ فيه عدد خاص ، كالوحدة المعتبرة في السورة بناءً على حرمة القِران ، وامّا أن لا يؤخذ ذلك. أمّا الأوّل : فالنهي المتعلّق به يقتضي فساد العبادة ، لأن الآتي به في ضمنها ، إمّا أن يقتصر عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهي عنه ، وعلى كلا التقديرين ، لا ينبغي الإشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه ، لأن الجزء المنهي عنه يكون خارجاً عن إطلاق دليل الجزئية أو عمومه ، فيكون وجوده كعدمه ، فإنّ اقتصر المكلّف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها للجزء ، وإن لم يقتصر عليه بطلت ، من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة في الجزء كما هو الفرض. ومن هنا تبطل صلاة من قرأ احدى العزائم في الفريضة ، سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر ، لأن قراءتها تستلزم الإخلال بالفريضة من جهة ترك السورة أو لزوم القِران ، بل لو بنينا على جواز القران لفسدت الصّلاة في الفرض أيضاً ، لأن دليل الحرمة قد خصص دليل الجواز بغير الفرد المنهي عنه ، فيحرم القِران بالإضافة إليه. هذا مضافاً إلى أن تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا ... فالعبادة المذكورة تبطل من جهات :

١ ـ كونها مقيدةً بعدم ذلك المنهي عنه ، فيكون وجوده مانعاً عن صحتها ، وذلك يستلزم بطلانها عند اقترانها بوجوده.

٢ ـ كونه زيادة في الفريضة ، فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحّتها.

٣ ـ كون هذه الزيادة من مصاديق التكلّم العمدي ، إذ الخارج عن عمومها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢١٧.

١٤٩

هو الذكر غير المحرّم.

وأمّا الثاني ـ أعني ما لم يؤخذ فيه عدد خاص ـ فقد اتّضح الحال فيه ممّا تقدّم ، لأن جميع الوجوه المذكورة المقتضية لفساد العبادة المشتملة على الجزء المنهي عنه جارية في هذا القسم أيضاً. وإنما يختصّ القسم الأوّل بالوجه الأوّل منها.

نقد السيّد الخوئي وموافقة الأُستاذ

وقد ذهب السيد الخوئي والشيخ الأُستاذ إلى عدم فساد العبادة وفاقاً لصاحب (الكفاية) ، فأشكل السيّد على الميرزا ـ في حاشية الأجود ـ ووافقه الأُستاذ بما حاصله :

إن النهي عن قراءة العزائم في الفريضة نهي تكليفي يكشف عن المبغوضية بلا كلام ، فإنْ كان بين هذا النهي والمانعية عن صحّة الصّلاة ملازمة ، فالحق مع الميرزا ، ولكنْ لا ملازمة بينهما ، بل النسبة عموم وخصوص من وجه.

توضيحه :

إنه تارةً : يكون النهي إرشاداً إلى المانعية ابتداءً ، كالنهي عن الضّحك في الصّلاة أو البكاء من أجل الدنيا فيها ، ولا ريب في اقتضائه للفساد من جهة ابتلاء الصّلاة بالمانع عن الصحة لها. واخرى : لا يكون كذلك ، كما فيما نحن فيه ، إذ غاية ما يدلّ عليه النهي عن قراءة العزائم في الصّلاة مبغوضيّة ذلك عند المولى ، فيكون دليله مخصّصاً لعموم دليل القراءة في الصّلاة ... فلا تكون السورة من العزائم جزءاً من أجزائها ، لكنّ الكلام في اقتضاء سقوطها عن الجزئية أن تكون الصّلاة بشرط لا ، فإنّ القول بذلك غير صحيح ، وإلاّ لكانت حرمة كلّ شيء موجبةً لذلك أيضاً ، فلا بدّ من الالتزام ببطلان كلّ عبادةٍ اتي في ضمنها بفعلٍ محرّم

١٥٠

خارجي كالنظر إلى الأجنبية في الصّلاة ، مع أنه واضح البطلان.

فالحق : أن حرمة قراءة العزائم في الفريضة لا يقتضي اعتبارها بالإضافة إلى العزائم بشرط لا ، لعدم الملازمة بين الحرمة والمانعية ، فقد يكون الشيء حراماً وليس بمانع عن الصحة كالمثال المذكور ، وقد يكون مانعاً وليس بحرامٍ ، كالبيع وقت النداء يوم الجمعة ، فالنسبة عموم من وجه.

وعلى هذا ، فلو اقتصر على قراءة العزائم في الصّلاة بطلت من جهة فقدها لجزئها ، لكنّ هذا غير اقتضاء النهي عن الجزء لفساد العبادة ، وأمّا إذا لم يقتصر على السورة بل قرأ سورةً اخرى أيضاً من غير العزائم ، فهل تبطل أو لا؟ فيه بحث. وكذا الكلام من جهة شمول دليل مبطليّة التكلّم في الصّلاة ، لوجود الخلاف في شموله لمثل الذكر الممنوع أو السّورة الممنوعة.

فالعمدة في الإشكال على الميرزا هو : عدم وجود الملازمة بين المبغوضيّة والمانعيّة على ما تقدّم.

لو تعلّق النّهي بشرط العبادة

قال في (الكفاية) : لا يكون حرمة الشرط والنهي عنه موجباً لفساد العبادة ، إلاّ فيما كان عبادةً كي تكون حرمته موجبةً لفساده المستلزم لفساد المشروط به.

يعني : إذا كانت العبادة مشروطة بشرطٍ هو عبادة ، كالصّلاة المشروطة بالطّهارة ، فإذا وقع النهي عن شيء يتعلَّق بالوضوء ، كالنهي عن الوضوء بالماء النجس أو المغصوب ، اقتضى فساده إن وقع بذلك الماء ، وحينئذٍ ، يفسد شرط الصلاة ، فيفسد المشروط.

وأضاف الأُستاذ وفاقاً للسيد الخوئي صورةً اخرى وذلك : ما إذا كان ستر العورة شرطاً لصحّة الصّلاة ، وتعلّق النهي بلبس الحرير فيها ، فكان الشرط مقيّداً

١٥١

بعدم الحرير ، فلو ستر العورة بالحرير أصبحت الصّلاة فاقدةً للشرط ، لأنّ «الستر» عين «التستّر» والاختلاف بالاعتبار ، فالصّلاة فاسدة ....

إذن ، لا يفرّق في ذلك بين كون الشرط عبادياً أو غير عبادي.

نعم ، لو كان الشرط عبارةً عن الأثر الحاصل من فعلٍ ، كاشتراط الصّلاة بطهارة اللّباس وهي تحصل بغسل الثوب ، فالشرط هو الطهارة لا الغسل ، فلو تعلّق النهي بالغسل لم تفسد الصلاة ، لأن ما تعلّق به النهي ليس شرطاً للعبادة ، وما هو شرط لها لم يتعلّق به النهي.

لو تعلّق النهي بالوصف

والوصف تارةً لازم واخرى مفارق.

فإن تعلّق النهي بوصف لازم لعبادةٍ ، كالجهر الذي هو وصف لازم للقراءة كما مثّلوا ، فهل تفسد العبادة أو لا؟

الحق : إن العبادة لا تفسد ، لأن النهي لا يتعدّى متعلَّقه وهو الجهر إلى الموصوف وهو القراءة ، ومعنى ذلك أنه مع اتّصافها بالجهر المنهي عنه ، يسقط الأمر بها لا أنّ النهي عن الجهر يسري إليها.

إلاّ أن الكلام في صغرى المسألة وهي : هل أنّ الجهر بالقراءة وصف لازم لها أو أنه مرتبةٌ من مراتبها ... فإنْ كان الأول فقد تقدم ، وإنْ كان الثاني كان النهي عن الجهر بالقراءة نهياً عن القراءة نفسها ...؟

والمرجع في تشخيص هذا الموضوع هو العقل ، إذ ليس المورد من موارد الاستظهار من اللّفظ حتى يرجع الى العرف ، فما في (المحاضرات) ـ من أنّ الجهر لازم القراءة ، وقوله ـ مع ذلك ـ بأنّ النّهي عن الجهر بها نهي عنها ـ مخدوش جدّاً ، لأنهما إن كانا من المتلازمين ، فإن النهي لا يسري من اللاّزم إلى الملزوم ....

والتحقيق : إنه نفسها عقلاً ، والنهي عنه نهي عنها.

١٥٢

وإنْ تعلَّق النهي بوصف مفارق ، كالأمر بالصّلاة والنهي عن الغصب ، والنسبة بينهما عموم من وجهٍ كما هو واضح ، فيندرج تحت مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنْ قلنا بالجواز وكون التركيب انضماميّاً فلا فساد ، وإن قلنا بالامتناع وكون التركيب اتّحادياً كان النهي والمفسدة هو الغالب ... فيكون البحث عن مفسديّة النهي عن الوصف المفارق بحثاً عن الكبرى المنطبقة على مورد اجتماع الأمر والنهي.

المقام الثاني : في النهي عن المعاملة

ويقع البحث في جهتين :

الجهة الاولى : في مقتضى القاعدة

ولا بدّ من ذكر امور :

(الأول) إنه بين النهي التكليفي عن المعاملة والنهي الوضعي عنها عموم من وجه ، مثلاً : النهي عن شرب الخمر حكم تكليفي ، وعن الغرر في البيع حكم وضعي ، وعن بيع الخمر تكليفي ووضعي معاً.

(الثاني) تارةً يتعلَّق النهي بالأثر المترتب على المعاملة ، كما في الخبر (١) : «ثمن العذرة مِنَ السّحت» فالحرمة تعلَّقت بالأثر وهو الثمن فلا يجوز التصرف في المال المأخوذ في مقابلها ، فيدلّ على الفساد.

فهذا القسم من النهي يدلّ على الفساد ، فهو خارج عن محلّ الكلام.

واخرى : يتعلّق النهي بشيءٍ بحيث لا يجتمع مع نفوذ المعاملة ، كما لو نهى الشارع عن منفعةٍ خاصّةٍ للشيء ، فهنا تكون الحرمة ملازمةً لفساد المعاملة على

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ / ١٧٥ ، الباب ٤٠ حكم بيع عذرة الانسان وغيره ، الرقم : ١.

١٥٣

تلك المنفعة الخاصّة بإجارة أو غيرها ، للتمانع بين مقتضى النهي ومقتضى الآية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١).

وهذا القسم لا خلاف في دلالته على الفساد ، فهو خارج عن محلّ الكلام.

وثالثة : يتعلَّق النهي بشيء ويكون إرشاداً إلى المانعية ، كما في النهي عن بيع المجهول ، فإنه يدلّ على مانعيّة الجهالة في العوضين عن صحّة المعاملة ، فيكون دليل صحة البيع بشرط لا عن الجهالة.

وهذا القسم كذلك لا خلاف فيه ، فهو خارج.

ورابعة : يكون النهي إرشاداً إلى الفساد من أوّل الأمر ، فهو دالٌّ على الفساد بالمطابقة ، كما في الخبر : «لا تبع ما ليس عندك» (٢).

وهذا القسم كذلك.

وخامسةً : أن يرد النهي عن معاملةٍ فيكشف عن المبغوضيّة ، فهل يقتضي الفساد أو لا؟

وهذا هو مورد البحث.

(الثالث) إن النهي يتعلَّق تارةً بالسبب واخرى بالمسبب وثالثة بالتسبّب.

فالأول : مثل النهي عن البيع وقت النداء يوم الجمعة ، فالمنهي عنه إنشاء المعاملة حينذاك. والثاني : مثل النهي عن تمليك الكافر القرآن ، فالمنهي عنه هو المسبب أي تسلّطه على القرآن. والثالث : مثل تمليك الزيادة في الربويّات عن طريق البيع ، فتسبّب البيع مبغوض ، فلو كان ذلك عن طريق الصلح مثلاً فلا نهي.

(الرابع) إن هنا بحثاً أساسه التحقيق عن حقيقة الإنشاء ، ففيها مسلكان أساسيّا :

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ / ٣٥٧ ، الباب ١٢ ، الرقم ١٢ بلفظ «نهى عن بيع ما ليس عندك».

١٥٤

أحدهما : إن صيغ العقود والإيقاعات لها السببيّة لتحقق عنوان المعاملة.

والثاني : إنّ حقيقة الإنشاء هو الاعتبار والإبراز.

إن العقد هو العنوان المحصَّل من بعت واشتريت ، أنكحت وقبلت ... فهل الصيغة سبب موجد له كما عليه صاحب (الكفاية) ، أو أنه آلةٌ والمعنى الاعتباري ذو الآلة كما عليه الميرزا؟ وحاصل القولين : مدخلية الصيغة وسببيّتها في الأمر الاعتباري.

وفي المقابل هو القول الثاني ، وأن الصيغة كاشفة فقط ومبرزةٌ عن المعنى الاعتباري ... وعلى هذا المبنى يعنون البحث هكذا : تارةً النهي بعنوان المبرِز واخرى بالمبرَز وثالثةً بالإبراز بهذه الصيغة.

وبعد :

ففي المسألة أقوال ، أحدها : الصحّة مطلقاً ، والثاني : الفساد مطلقاً ، والثالث : التفصيل بين النهي المتعلِّق بالسبب والنهي المتعلّق بالمسبب ، وفي التفصيل تفصيل.

القول بالدلالة على الفساد

١ ـ رأي المحقق النائيني

ذهب المحقق النائيني (١) إلى أنّ النهي إذا تعلّق بالمسبّب اقتضى فساد المعاملة ، وأمّا النهي المتعلَّق بالسبب ، فقد اتفقوا على عدم اقتضائه له ، لعدم التلازم بين مبغوضية الإنشاء وفساد المنشأ.

واستدلّ الميرزا لما ذهب إليه : بأنّ صحّة المعاملة متوقّفة على امور : أحدها : أن يكون المنشئ هو المالك أو وليّه أو وكيله. والثاني : أنْ يكون ذا سلطنةٍ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢٢٦.

١٥٥

على ما يجري عليه العقد أو الإيقاع ، بأنْ لا يكون محجوراً عليه. والثالث : أنْ تقع المعاملة بالسبب الخاص الذي عيّنه الشارع لها.

(قال) : ولمّا كان النهي التحريمي يفيد ممنوعيّة وقوع هذه المعاملة وسلب قدرة المالك على إجراء الصّيغة ، فهو مسلوب السّلطنة على الشيء ، فينتفي الشرط الثاني من شروط صحّة المعاملة ، ويكون كبيع المحجور عليه لما يملكه في عدم التأثير.

ثم إنه فرَّع على ذلك فروعاً فقهية ، فأفاد أنه على هذا الأساس لا تقبل الواجبات المجانية كالصلوات اليومية للاستيجار للغير ، لعدم سلطنة المصلّي على صلاته ، لكونها ملكاً لله. وأنّ ما نذر التصدّق به لا يجوز التصرف فيه بالبيع والشراء ونحو ذلك ، لعدم السلطنة عليه وخروجه عن الملك بالنذر. وكذا موارد الشروط ، فإنّ السلطنة فيها محدودة بمقتضى الشرط ، فلو أوقع المعاملة على خلاف الشرط كانت باطلةً.

هذه خلاصة كلامه رحمه‌الله في هذا المقام.

نقد رأي الميرزا

ويتلخّص الردّ عليه : بأنّ المنع من التصرّف أمر وضعي ، وقد وضع لهذا الغرض كتاب الحجر في الفقه ، ولا ريب في أن الحجر يوجب بطلان المعاملة من المحجور عليه ، وإنّما الكلام في وجود الملازمة بين المنع التكليفي والحجر الوضعي ، فإنْ ثبتت هذه الملازمة تمّ كلامه وإلاّ فلا وجه له ، وهو لم يذكر أيّ دليل على ما ذهب إليه ... بل التحقيق أن المبغوضيّة لا تلازم الفساد وأنّ النسبة بينهما العموم من وجه كما تقدم.

هذا ، وقد نوقش رحمه‌الله على الموارد التي ذكرها ، ولا نطيل المقام بالتعرّض لذلك.

١٥٦

٢ ـ رأي السيّد البروجردي

ورأى السيد البروجردي : إن الظاهر من النواهي المتعلّقة بالمعاملات هو المنع عن ترتيب الأثر ، وذلك لأن للمعاملة ثلاث مراتب : مرتبة الأسباب ، أي الصيغة ، ومرتبة المسبّبات ، أي الملكية والزوجية ونحوهما. ومرتبة الآثار الشرعية والعقلائية المترتبة على المسببات ، من جواز التصرف في الثمن والمثمن ، والوطي ، ونحو ذلك.

(قال) : ولا يخفى أن الأسباب لا نفسية لها عند العرف وليست مقصودةً بالذات ، بل هي آلات ، وكذا المسبّبات فإنها امور اعتبارية غير مقصودة بالأصالة ، بل المطلوب بالذات والمقصود لهم هو الأثر ، فإذا جاء النهي عن المعاملة دلّ على المنع عن ترتيب الأثر ، وهذا هو الفساد (١).

نقد هذا الرأي

أوّلاً : إنه خلاف مقتضى الأصل الأوّلي والظهور ، فإنّ النهي لما تعلَّق ب «البيع» كان مقتضى الأصل والقاعدة كون المتعلّق هو هذا العنوان ، فله الموضوعية ، وإرجاعه إلى «أكل الثمن» خلاف الأصل والقاعدة ، اللهم إلاّ بدليل.

وثانياً : هناك في بعض الموارد النّهي عن المعاملة وعن ترتيب الأثر عليها ، فلو كان النهي عنها عبارةً عن النهي عن ترتيب الأثر ، لزم اللغوية. ومثاله : النص الصحيح في الخمر : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخمر ... وآكل ثمنها ...» (٢).

وثالثاً : إذا كان المنهي عنه هو ترتيب الأثر ، كانت الفتوى بحرمة نفس

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٦٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ / ٢٢٤ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الرقم : ٣.

١٥٧

المعاملة بلا دليلٍ ، كما في حرمة بيع الميتة على المشهور بل المجمع عليه ، لأنّ المستند لحرمة بيعها الإجماع أو النص ، أمّا النص ، فقد جاء ناهياً عن البيع وهو ظاهر في المنع عن البيع نفسه تكليفاً. وأمّا الإجماع ، فقد ادعاه الشيخ في الخلاف والعلاّمة في المنتهى والتذكرة (١) ، وعبارته في التذكرة «لا يجوز» وهو أعمّ من التكليف والوضع ، وفي المنتهى : «لا يصح» ، وهو غير الإجماع على الحرمة ، والشيخ في الخلاف في كتاب الرهن المسألة ٣٥ : الإجماع على عدم ملكيّة الميتة ، وليس بيع الميتة. فلا إجماع على الحرمة ... على أنه لو كان فهو مدركي. فالدليل هو إمّا إطلاق الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٢). وفيه : إنه ظاهر في الأكل فلا إطلاق.

وامّا خبر البزنطي (٣) ، وهذا هو الصحيح.

وتلخّص : قيام الدليل على حرمة البيع ، ولا يمكن الالتزام بعدمه ، بل السيد نفسه من القائلين بذلك ، مضافاً إلى البطلان.

ورابعاً : لا إشكال في كراهية بعض المعاملات كبيع الأكفان ، وهل يصح أن يقال بكراهة ترتيب الأثر؟

هذا كلّه ، بالإضافة إلى ما في دعواه من كون المسبّب لا يتعلّق به الغرض ولا يكون مقصوداً للعقلاء ، فإنّه قد يكون نفس المسبّب مورداً للغرض ... فليس الأمر كذلك دائماً.

وتلخص : سقوط هذا الطريق للدلالة على الفساد في المعاملات.

٣ ـ رأي المحقق الايرواني

وذهب المحقق الإيرواني إلى أنه لمّا كانت الأدلّة في أبواب المعاملات

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١٠ / ٣١.

(٢) سورة المائدة : الآية ٣.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ / ٣٩ ، الباب ١٩ من أبواب الذبائح ، الرقم : ٧.

١٥٨

إمضائيةً لا تأسيسيّة ، وأن مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) ونحوهما تفيد حليّة المعاملات تكليفاً ووضعاً بنحو العام المجموعي ـ لا الاستغراقي ـ فإنّه إذا ورد النهي عن معاملةٍ ودلّ على حرمتها وسقطت حليّتها التكليفية ، لم تبق الحليّة الوضعيّة ولم تكن مورداً للإمضاء من قبل الشارع ... فالنهي عن المعاملة يفيد فسادها من جهة دلالته على عدم كونها مورداً للإمضاء (٣).

هذا ما أفاده ، ولا يخفى الفرق بين كلامه وكلام غيره.

نقد هذا الرأي

ويرد عليه : أنّ في مدلول (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٤) ونحوه مسلكين ، فقيل : إن هذه الحليّة لمّا تعلّقت بالبيع كانت ظاهرة عرفاً في خصوص الحكم الوضعي له وهو الصحّة. وإليه ذهب جماعة. وقيل : إنّها باقية على ظهورها الأوّلي ـ وهو الجواز ـ فيكون ملائماً للحكم التكليفي والوضعي معاً.

أمّا على الأوّل ، فلا مجال لما ذكره ، لأن غاية ما يدل عليه النهي هو المبغوضية ، فإذا تعلّق بمعاملة أفاد كونها مبغوضةً ، أما الفساد فلا ، لما تقدَّم من أن النسبة بين المبغوضية والفساد هي العموم من وجه.

وأمّا على الثاني ، فإنّ دلالة الآية على الحليتين في كلّ معاملة ، إنّما هي بالإطلاق ، وهو في قوة الاستغراق ، فلو قال : «أكرم العالم» ولم يقيّد ، أفاد وجوب إكرام كلّ عالمٍ بنحو الاستغراق لا بنحو المجموع ، فإذا ورد النهي عن معاملةٍ وأفاد حرمتها رفع الحلية التكليفيّة ، أمّا الوضعيّة فهي باقية ولا دليل على زوالها.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٢) سورة المائدة : الآية ١.

(٣) نهاية النهاية ١ / ٢٥٣.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

١٥٩

هذا أولاً.

وثانياً : حمل الآية المباركة على العموم المجموعي أوّل الكلام ، لما سيجيء في بحث العام والخاص من أنّ حمل العموم على هذا القسم منه يحتاج إلى مئونة إضافية ، بخلاف العموم الاستغراقي ، فإنه هو مقتضى الظهور الأوّلي ، وذلك لأن العموم المجموعي هو جعل الوحدة في عالم الاعتبار بين امورٍ متفرقةٍ حقيقةً ثم الحكم عليها بحكمٍ واحد ، وأين الدليل على اعتبار الشارع الوحدة في الآية بين الحليّتين؟

القول بالصحّة

وذهب المحقق الخراساني إلى دلالة النهي المتعلّق بالمسبب والتسبّب على صحة المعاملة ، بتقريب : إنّ النهي المتعلّق بالمسبب كالنهي عن بيع المصحف للكفار ، والمتعلّق بالتسبّب كالنهي عن الزيادة بسبب البيع ، يستلزمان أن يكون المنهيّ عنه فيهما مقدوراً ، لأنّ غير المقدور لا يتعلّق به النهي ولا الأمر ، لا سيّما وأن الأمر طلب الفعل والنهي هو طلب الترك ، على مبنى هذا المحقق. إذن ، لا بدّ من أن يكون متعلّق النهي مقدوراً للمكلّف كي يصحّ طلب تركه وإلاّ لم يتعلّق به النهي ، فإذن ، يكون النهي المتعلّق بالعنوان المعاملي دليلاً على وقوعه على وجه الصحة في عالم الاعتبار (١).

إيراد ودفع

ولا يرد عليه الإشكال : بأنّ النسبة بين التمليك والملكيّة كنسبة الإيجاد إلى الوجود ، فيكون الأمر دائراً بين الوجود والعدم ولا يعقل فيه الصحة والفساد. لأنه مناقشة لفظية ، لأن صاحب (الكفاية) ـ وإنْ عبّر ب «الصحة» فكان الإشكال على

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٩.

١٦٠