تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

موارد قاعدة الامتناع ، وقد اعترف بأنه إذا كان مورداً لها فالحق مع صاحب (الكفاية) ، فالمكلّف ملزم بالخروج عقلاً ، وهو مستحق للعقاب لقاعدة الامتناع.

نظريّة للسيد البروجردي تبعاً لصاحب الجواهر

وتبقى نظريةٌ : بأنّ هذا المتوسّط في ملك الغير بسوء اختياره ، إنْ ندم من عمله وتاب فإنّ تصرّفه الخروجي حينئذٍ ليس مبغوضاً معاقباً عليه ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ذكرها السيد البروجردي وقال : وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب (الجواهر). ولا يخلو عن وجهٍ قوي (١).

قال الأُستاذ

قد ذكر صاحب (الجواهر) هذا الاحتمال في مبحث مكان المصلي ولم يوافق عليه ، والحق معه ، لأن التوبة ترفع العقاب بلا إشكال ، ولكنّ استحقاق العقاب بالمعصية كترتّب بعض الآثار الوضعية باقٍ ولا يرتفع بالتوبة ، بل العقل يرى الاستحقاق ولذا يقال : عصى واستحق العقاب لكنّ الله لم يعاقبه لأنه تاب ... إذن ، لا مانع من انطباق القاعدة العقلية ، إلاّ أن الله بفضله وكرمه ورحمته لا يعاقب بعد التوبة.

وهذا تمام الكلام في حكم الاضطرار.

حكم صلاة المضطر بسوء الاختيار

وأمّا صلاة المضطر بسوء الاختيار ، الذي وجب عليه الخروج ، إمّا أخذاً بأخفّ المحذورين كما عليه الشيخ وصاحب (الكفاية) ، وامّا امتثالاً للحكم الشرعي بوجوب الخروج من باب ردّ مال الغير إلى مالكه ... فلها صور :

الصورة الاولى : أن يكون الوقت ضيّقاً بحيث لا يمكنه الصّلاة في خارج

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٤٩ ، الحجة في الفقه : ٢٦١.

١٢١

المكان ، لا الاختيارية ولا الاضطراريّة ، فعلى القول بجواز الاجتماع ، يأتي بالاضطراريّة في حال الخروج ، وهي صحيحة بلا كلام ، لكون التركيب انضماميّاً ، غير أنها تتّصف بالقبح الفاعلي ، لكون الاضطرار بسوء اختيارٍ منه ، لكنّ مقتضى القول بوجوب الخروج من باب ردّ المال إلى صاحبه هو عدم الاقتران بذلك.

وأمّا على القول بالامتناع :

فإنَّ قلنا : بعدم شمول قاعدة الامتناع للمقام وأنه من صغريات وجوب ردّ المال إلى مالكه ، كانت الصّلاة صحيحة ـ وإن كان التركيب اتحاديّاً ـ لأنّ المفروض بناءً على هذا القول وجوب الخروج بحكم الشارع ولا نهي عن هذا التصرّف أصلاً.

وإنْ قلنا : بأنّ الخروج منهيّ عنه بالنهي السّابق ، لكونه تصرّفاً في مال الغير ، لكنّ الأجزاء الصّلاتية لا يصدق عليها عنوان التصرّف عرفاً ، فهي صحيحة كذلك. وإنْ قلنا : بحرمة التصرف الخروجي ، وأنّ الأجزاء في هذه الصّلاة الاضطرارية يصدق عليها عنوان الغصب ... كانت باطلة ، لأن المفروض تحقق التركيب الاتحادي بين الغصب والصّلاة ، فتكون التصرّفات الصّلاتية منهيّاً عنها ، والمنهي عنه لا يصلح للمقربيّة ... نعم ، بناءً على القاعدة الثانوية ، من أن الصّلاة لا تسقط بحالٍ ونحو ذلك ، يحكم بصحّتها.

الصورة الثانية : أنْ يتمكن من الصّلاة الاضطرارية خارج المكان. فعلى مسلك الشيخ والميرزا ، يصلّي كذلك في حال الخروج وتكون صحيحةً ، لأنَّ المفروض وجوب الخروج عليه شرعاً فهو ممتثلٌ للحكم الشرعي ، وإطلاق الأمر بالصّلاة شامل لها ، فالمقتضي للصحّة موجود والمانع مفقود.

وأمّا على القول بالامتناع وأن هذا الخروج منهي عنه بالنهي السابق ، لكونه

١٢٢

نحواً من أنحاء التصرف في مال الغير وقد اضطرّ إليه بسوء اختياره ، فالتفصيل المتقدّم ، من صدق عنوان الغصب على أجزاء الصّلاة الإيمائية وعدم صدقه ، والمفروض هو الاتّحاد بين الأجزاء والغصب بناءً على الصّدق ... فإنْ صدق وغلب جانب النهي فالصّلاة باطلة ... بل عليه أن يخرج ويصلّي الصّلاة الاضطرارية في خارج المكان المغصوب ... وفي هذا الفرض ، لا تصل النوبة إلى القاعدة الثانوية ... وأمّا مع عدم صدق عنوان الغصب ، فالصّلاة صحيحة وإنْ كان متمكّناً منها في الخارج.

الصورة الثالثة : أن يتمكّن من الصّلاة الاختيارية في خارج المكان ، فهي باطلة فيه على جميع الأقوال. أمّا على القول بالجواز والتركيب الانضمامي ، فلأنّه إن أراد الصّلاة في المكان المغصوب فلا يجوز له إلاّ الاضطرارية في حال الخروج ، ومثل هذه الصّلاة لا تجزي عن الاختيارية في المكان المباح مع القدرة عليها والتمكن منها حسب الفرض. وأمّا على القول بالامتناع ، فالأمر أوضح حتى لو قلنا بكون الخروج واجباً شرعياً من باب ردّ المال إلى صاحبه ، لأن المفروض تمكّنه من الصّلاة الاختيارية في خارج المكان المغصوب.

وهذا تمام الكلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

١٢٣

هل النهي عن الشيء يقتضي فساده؟

مقدّمات

الاولى : (في الفرق بين هذه المسألة وسابقتها)

لقد كان موضوع البحث ـ في مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ هو سراية النهي إلى متعلَّق الأمر وبالعكس وعدم سرايته ، أما هنا ، فالبحث عن اقتضاء النهي للفساد بناءً على السريان. وبعبارةٍ اخرى : كان البحث هناك عن كون مورد الاجتماع من قبيل التعارض أو التزاحم. وهنا نقول : إنه بناءً على التعارض وتقدّم النهي هل يكون النهي موجباً للفساد أو لا؟ إذن ، يكون البحث في المسألة السابقة محقّقاً للصغرى في هذه المسألة.

ومن هنا ذهب الميرزا (١) إلى خروج مسألة الاجتماع عن المسألة الاصولية ، لعدم انطباق ضابطتها عليها ، إذ المسألة الاصولية عبارة عن المسألة التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بلا ضمّ ضميمةٍ إليها ، ووقوع مسألة الاجتماع في الطريق لا تحقّق له إلاّ بضمّ مسألة اقتضاء النهي في العبادة للفساد ، فهي ليست اصوليةً.

ولا يرد عليه الإشكال من المحقق العراقي (٢) من أن مسألة تعلّق النهي بالعبادة واقعيّة ، إذ البحث فيها عن اقتضائه للفساد سواء علم بذلك أو لا ، بخلاف

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٩٩.

(٢) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٤٥٠.

١٢٤

مسألة الاجتماع ، فإنّه بحث علمي لا واقعي ، ولذا لو صلّى في المكان المغصوب عن جهلٍ كانت صلاته صحيحةً على المشهور ، وحينئذٍ ، لا يعقل أن يكون البحث هناك عن صغرى هذه المسألة.

وجه عدم الورود هو : أنه إن قلنا بجواز الاجتماع ، فلا موضوع للنهي عن العبادة كما هو واضح ، وإنْ قلنا بالامتناع أي كون متعلّق الأمر والنهي شيئاً واحداً ، فإنّ وحدة المتعلّق أمر واقعي لا دخل للعلم والجهل به ، فإنْ سقط لم يبق الموضوع لمسألة النهي عن العبادة ، إنْ سقط وكذلك الأمر والنهي كلاهما ، وإنْ سقط الأمر وبقي النهي فلا شك في اقتضائه للفساد ... فما ذكره الميرزا سالم من الإشكال. وإنْ توجّه الإشكال على المشهور القائلين بالصحّة في صورة الجهل بالغصبية مع قولهم بالامتناع ، وذاك أمر آخر.

الثانية : (هل يعتبر وجود مقتضى الصحة؟)

ذهب المحقق القمي (١) إلى أنه يعتبر في هذا البحث وجود المقتضي لصحّة العبادة من عموم دليلٍ أو إطلاق حتى يصحّ ورود النهي عن عبادةٍ خاصّة ، كالنهي عن الصلاة في موضع التهمة مثلاً ، فلو لم يكن المقتضي للصحّة كانت العبادة باطلةً سواء ورد النهي أو لا ، فلا ثمرة للبحث.

وفيه : إنه لا ريب في توقيفيّة العبادات ، وكلّما شك في عباديّته فالأصل العدم ، إلاّ أنّه بحثٌ مستقل لا ربط له بمسألتنا في أنّ النهي عن شيء هل يجتمع مع القول بصحّة ذلك الشيء أو لا ، لأنّ البحث عن وجود الملازمة بين النهي والفساد غير متفرّع على وجود مقتضي الصحّة للعمل من عموم أو إطلاقٍ ، وترتّب الثمرة على بحثنا واضح جدّاً. فما ذكره لا يمكن المساعدة عليه.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ / ١٥٤.

١٢٥

الثالثة : (هل هذه المسألة عقليّة أو لفظيّة؟)

لا خلاف في أنّها اصولية ، فذهب الشيخ الأعظم إلى الأول ، وخالفه صاحب الكفاية فقال بأنّها لفظيّة (١).

ووجه القول الأول هو أنّ البحث في المسألة عن وجود الملازمة وعدمها بين الحرمة والفساد ، سواء كان الدليل على الحرمة لفظيّاً أو عقليّاً أو كان هو الإجماع ، وهذا بحث عقلي.

وتقريبه هو : إنّ دلالة النهي على الفساد التزاميّة وليست بالمطابقة ولا بالتضمّن ، لكنّها متوقّفة على كون هذا اللّزوم بيّناً بالمعنى الأخصّ ، ضرورة احتياجها إلى الإثبات بالبرهان ، فالمسألة من مباحث الاستلزامات العقليّة في علم الاصول ، نعم ، هي مسألة عقليّة غير مستقلّة ، إذْ المعتبر ورود النهي الشرعي حتى يتحقّق الموضوع لحكم العقل بالفساد.

وبعبارةٍ اخرى : إنّه بناءً على ما هو الصحيح من كفاية قصد الملاك في تحقق العباديّة ، ليس للنهي دلالة على عدم الملاك ، وإنْ دلّ على عدم الأمر ، فالعقل هو المرجع في ثبوت الملازمة بينه وبين الفساد وعدم ثبوته.

نعم ، يتمُّ القول الثاني بناءً على اعتبار خصوص قصد الأمر في عباديّة العبادة ، لأنّ النهي يلازم عدم الأمر ، للتضادّ بينهما ، فنفس وجوده دليلٌ على عدم الأمر ، بالدلالة الالتزاميّة ، وهذا بحثٌ لفظي.

الرابعة : (في المراد من النهي؟)

إنه ينقسم النهي إلى التشريعي والذاتي ، والثاني إلى الإرشادي والمولوي ، والثاني إلى التبعي والنفسي ، والثاني إلى التنزيهي والتحريمي.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٠.

١٢٦

أمّا النهي التشريعي ، فداخل في البحث ، سواء كان التشريع معاملةً أو عبادةً ، فلو أدخل في الدين عبادةً ليست منه أو معاملةً ، فلا ريب في شمول البحث له ـ بناءً على أنّ التشريع هو نفس العبادة أو المعاملة وليس بأمرٍ قلبي ـ لأنه يكون مبغوضاً للمولى ، فلا يترتب عليه الأثر.

وأمّا النهي الذاتي الإرشادي ، كقوله : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ، فإنّه إرشاد إلى المانعيّة ، إذ معناه أنّ الصلاة قد اعتبرت بشرط لا عن وقوعها فيما لا يؤكل لحمه ، فلو اتي بها فيه لم تقع كما اعتبر المولى فهي فاسدةٌ ، كما لو اتي بها فاقدةً لجزءٍ وجودي كالسجود مثلاً ... اللهم إلاّ في الموارد الخاصّة بدليلٍ ثانوي مثل : لا تعاد الصّلاة إلاّ ....

وأمّا النهي الذاتي المولوي :

فهو تارةً : تبعي كما في موارد دلالة الأمر بالشيء على النّهي عن ضدّه بناءً على القول بها ، فإن هذا النهي إنّما جاء على الضدّ على أثر المزاحمة بينه وبين الضدّ المأمور به ، لا لوجود مفسدةٍ في نفس المتعلَّق للنهي. وقد وقع الخلاف في دخول هذا القسم في البحث ، فقال الميرزا وجماعة (١) بعدم دخوله ، لعدم اقتضاء هذا النهي للفساد ، أمّا على القول بالترتب فواضح ، حتى على مسلك صاحب (الجواهر) وهو اعتبار خصوص قصد الأمر في عبادية العمل ، لأنّ الترتب يحقّق الأمر ، وأمّا بناءً على إنكاره ، فلأن المفروض وجود الملاك للعمل والنهي ليس بمزاحمٍ له ... والحاصل : أنّ العمل غير مبغوضٍ وأنه لا نقص في ملاكه ، فمقتضى القاعدة هو الصحّة.

والمختار عند الأُستاذ ـ في الدورتين ـ دخول هذا القسم في البحث ، لأنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢٠٢.

١٢٧

بناءً على أنّ الأمر بالشيء ملازم عقلاً مع النهي عن ضدّه ، يكون العمل منهيّاً عنه حقيقةً ـ وإنْ كان ملاك النهي هو المزاحمة ـ ، وكلّ عملٍ ينهى المولى عنه فالعقل يحكم بعدم صلاحيته للمقربيّة ، ولا أقل من الشك في ذلك ، فهو فاسد.

واخرى : نفسي ، وهو على قسمين ، أحدهما : التحريمي ، وهذا لا كلام في دخوله ، لأنه منشأ للفساد بلا إشكال. والثاني هو التنزيهي.

وفي دخول النهي المولوي التنزيهي مثل : لا تصلّ في الحمام ونحوه ، بحث وخلاف ، فصاحب (الكفاية) أدخله والميرزا أخرجه ، والوجه في ذلك هو : أنّه إنْ كان النهي تحريميّاً فالترخيص في التطبيق مرتفع ، أمّا مع التنزيهي ، فالترخيص في التطبيق موجود فلا ملاك للفساد.

والمختار عند الأُستاذ ـ في الدّورتين ـ هو الأوّل ، لأن موضوع البحث هو اقتضاء النهي للفساد وعدم اقتضائه له ، سواء كان دليل العبادة أو المعاملة ـ وهو الإطلاق ـ بدليّاً أو شموليّاً ، فإنْ كان بنحو الإطلاق البدلي ـ كما في صلّ ولا تصلّ في الحمام ـ فلا منافاة بين النهي التنزيهي والترخيص في التطبيق ، وأمّا إن كان بنحو الإطلاق الشمولي ، كما لو قال أكرم كلّ عالمٍ ثم قال : لا تكرم النحويين ، فإنّ النهي عن إكرام النحويين وإن كان تنزيهياً ، لا يجتمع مع الأمر بإكرام العلماء بنحو الشمول ، فيكون داخلاً في البحث ... فالحق هو القول الأوّل ... إلاّ إذا كان النهي التنزيهي إرشاداً إلى قلّة الثواب في العبادة ، فهو غير داخلٍ في البحث ، لأن قلّة الثواب عليها ملازمٌ لصحّتها.

الخامسة : (في المراد من «العبادة» و «المعاملة» في عنوان البحث)

ذكر صاحب (الكفاية) قدس‌سره (١) أن المراد بالعبادة هاهنا : ما يكون

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨١.

١٢٨

بنفسه وبعنوانه عبادةً له تعالى ، موجباً بذاته التقرّب من حضرته لو لا حرمته ، كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه. أو : ما لو تعلَّق الأمر به كان أمره أمراً عباديّاً لا يكاد يسقط إلاّ إذا اتي به بنحوٍ قربي كسائر أمثاله ، نحو صوم العيدين والصّلاة في أيام العادة.

فهذان معنيان للعبادة في كلام المحقق الخراساني. أمّا الأوّل ، فلا إشكال فيه إلاّ أنه تضييق لدائرة البحث ، لأنّ العبادة الذاتية في الشريعة نادرة جدّاً ، فيكون موضوع البحث منحصراً بما ذكره من السجود والخضوع ... وأمّا الثاني ، فالمقصود منه ما يقابل التوصّلي ، فيكون المراد من العبادة في عنوان البحث هو الأعمّ من العبادة الذاتية والعبادة الشأنية ، أي ما لو تعلّق الأمر به ....

ثم إنه تعرّض لتعاريف فقال :

لا ما أمر به لأجل التعبّد به ، ولا ما يتوقف صحّته على النيّة ، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء.

والتعريف الأول للشيخ (١) والثاني والثالث للميرزا القمي (٢).

فأشكل عليها بقوله :

ضرورة أنها بواحدٍ منها لا يكاد يمكن أن يتعلَّق بها النهي ، مع ما أورد عليها بالانتقاض طرداً أو عكساً أو بغيره.

والحاصل عدم تماميّة التعريفات المذكورة ، لورود الإشكال عليها بالنقض طرداً أو عكساً أو بالدور كما في التعريف الأول ، لأخذ «التعبد» في تعريف «العبادة».

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥٧.

(٢) قوانين الاصول : ١٥٤.

١٢٩

إلاّ أنه ذكر أن هذه التعريفات ليست بحدٍّ ولا رسم بل هي من قبيل شرح الاسم ، فلا وجه للإطالة.

وأمّا «المعاملة» ، فقد اختلف المراد منها في الكتب الفقهيّة ، فقد تطلق في مقابل العبادة ، فتكون أعم من العقود والإيقاعات والأحكام ، لكنّ هذا الاصطلاح غير مراد هنا ، لعدم تمشّي الصحّة والفساد في الأحكام. وقد تطلق في مقابل العبادة ويراد منها الإنشائيات ، فتعمّ العقود والإيقاعات. وقد تطلق ويراد منها العقود فقط ، لأنّ «المعاملة» ظاهرة في اعتبار الطرفين وهو في العقد دون الإيقاع ... لكن الصّحيح أن يكون المراد هنا هو العقود والإيقاعات معاً ، لجريان الصحّة والفساد ووقوع النهي في كلا القسمين.

السادسة : (في المراد من الصحة والفساد)

ذكر في (الكفاية) (١) : إن الصحّة والفساد وصفان إضافيّان يختلفان بحسب الآثار والأنظار ، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر وفاسداً بحسب آخر ، ومن هنا صحّ أن يقال : إن الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف بل هما فيهما بمعنى واحد وهو التماميّة ، وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب فيهما من الآثار التي بالقياس عليها تتصف بالتماميّة وعدمها ، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلّم في صحة العبادة ، فلمّا كان غرض الفقيه هو وجوب القضاء أو الإعادة أو عدم الوجوب ، فسّر صحة العبادة بسقوطهما ، وكان غرض المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة ، فسّرها بما يوافق الأمر تارة وبما يوافق الشريعة اخرى.

ثم إنه نبّه على أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم وصفان اعتباريان ينتزعان

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٢.

١٣٠

من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمها ، وأمّا الصحّة ـ بمعنى سقوط الإعادة والقضاء ـ عند الفقيه ، فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الأوّلي عقلاً ، فالصحّة هذه حكم يستقل به العقل وليس بمنتزع كما توهّم الشيخ.

وعلى الجملة ، حيث أن الأمر في الشريعة يكون على أقسامٍ من الواقعي الأوّلي والثانوي والظاهري ، فإنّ الصحة في الإتيان بالمأمور به بالأمر الأوّلي الواقعي ليس بحكم وضعي مجعول من قبل الشارع ، أمّا سقوط الإعادة والقضاء في الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الثانوي وبالأمر الظاهري ربّما يكون مجعولاً ، فيكون السقوط تخفيفاً ومنّةً على العباد مع ثبوت المقتضي لثبوتها ، كما ربما يحكم بثبوتهما ، فيكون الصحة والفساد ـ في هذا القسمين ـ حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين.

هذا في العبادات.

وأمّا الصحّة في المعاملات ، فمجعولة ، حيث أنّ ترتب الأثر على المعاملة إنما هو بجعل الشارع ولو إمضاءً ، إذ لو لا جعله لما ترتب الأثر ، لأصالة الفساد ... هذا في كلّي المعاملة. ثم قال : نعم : صحّة كلّ معاملة شخصيّة وفسادها ليس إلاّ لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً وعدم انطباقها.

وتلخص :

إن المحقق الخراساني تعرّض في هذه المقدّمة لأمرين :

أحدهما : تعريف الصحّة والفساد ، وأنه لا خلاف فيه بين المتكلّم والفقيه ، وإنما الاختلاف بحسب الأثر.

والآخر : إنهما مجعولان أوْ لا؟ وملخّص كلامه التفصيل في العبادات بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي وغيره. وفي المعاملات بين الكليّة والجزئيّة ، خلافاً لمن قال بأنهما مجعولان مطلقاً ، ومن قال بعدم الجعل مطلقاً ، وغير ذلك.

١٣١

وقال الميرزا رحمه‌الله (١) ما حاصله : إنّ الصحّة الظاهرية قابلة للجعل ، أمّا الواقعية التي هي انطباق المعتبر والممضى شرعاً على الفرد والحصّة من المعاملة ، فهي غير قابلة للجعل.

وفي (المحاضرات) (٢) ما حاصله : إن الصحة والفساد من الامور العارضة على الموجودات الخارجية ، أمّا نفس ماهيّة المعاملة فلا تتّصف بهما ، فلا بدّ من التفصيل بين العبادات والمعاملات : بأن يقال بالجعل في المعاملات دون العبادات ، والسرّ في ذلك هو أن العبادة متعلَّق الحكم كما في (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٣) و «صوم الفطر حرام» (٤) مثلاً ، وأمّا المعاملة فهي موضوع للحكم وترتيب الأثر كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٥) فالبيع موضوع للنفوذ ، أي كلّما وجد شيء واتّصف بكونه بيعاً فهو نافذ مؤثر ، وكذا (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٦) و «الصلح جائز» (٧) ونحوها. فكانت الصحّة في المعاملة قابلةً للجعل دون العبادة.

إشكال الأُستاذ

وقد أورد عليه الأُستاذ : بأنّ الوضع للموجود محال ، بل الموضوع له اللفظ هو المعنى المجرّد عن الوجود الذهني أو الخارجي ، لأن الغرض من وضع اللّفظ هو انتقال المعنى به إلى ذهن السامع ، فإذا كان المعنى موجوداً ـ ولو ذهناً ـ لم يقبل الوجود ثانياً.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٢٠٩.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ / ١٤٢.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٤) وسائل الشيعة ١٠ / ٥١٤ ، الباب ١ تحريم صوم العيدين ، الرقم : ٣.

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٦) سورة المائدة : الآية ١.

(٧) وسائل الشيعة ١٨ / ٤٤٣ ، الباب ٣ : إن الصّلح جائز بين الناس.

١٣٢

على أن الالتزام بالقول المذكور يستلزم سقوط البحث عن وضع ألفاظ المعاملات والعبادات للصّحيح أو الأعمّ.

وأيضاً : لازمه الالتزام بكون وضع الألفاظ في العبادات والمعاملات من قبيل الموضوع له الخاص أي الصحيح ، لأنَّ الموضوع له الصحيح الجزئي هو الموجود ، لكنْ الموضوع له الخاص ـ وإنْ كان هو الجزئي ـ إلاّ أنه ليس الجزئي بوصف الوجود ، لأن الجزئي هو الماهية ، وهي قد تكون موجودةً وقد تكون غير موجودة.

فالصحيح ما ذهب إليه الميرزا وغيره من التفصيل بين الصحة الظاهرية والواقعية.

السابعة : (في الأصل في المسألة لو شك في دلالة النهي على الفساد)

تارةً : نبحث عن مقتضى الأصل في المسألة الاصوليّة ، واخرى : عن مقتضى الاصل في المسألة الفرعيّة. هذا في المعاملة. وأمّا في العبادة ، فالأصل هو الفساد لعدم الأمر بها مع النهي عنها.

قالوا : لا أصل يعوّل عليه في المسألة الاصولية ، لأنّ البحث إن كان عقلياً ، فهو يعود إلى وجود الملازمة بين النهي والفساد وعدم وجودها ، لكن الملازمة وجوداً وعدماً أزليّة ، ولا حالة سابقة حتى تستصحب ... وإن كان لفظياً ، فيعود إلى دلالة النهي التزاماً على الفساد وعدم دلالته ، والدلالة الالتزامية فرع للملازمة بين الأمرين ، وهي وجوداً وعدماً أزلية ولا حالة سابقة.

قال الأُستاذ : لكن الحق هو التفصيل ، فقد يقال بأنّ النهي في المعاملة إرشاد إلى الفساد وأنه ظاهر في ذلك ، وعلى هذا ، فللأصل مجال ، لأنَّ ظهور اللّفظ في المعنى تابع للوضع وهو من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، فمع الشك يستصحب العدم.

١٣٣

وعلى الجملة ، فإنه على القول بكون النهي في المعاملة ظاهراً في الفساد ، فمع الشك يكون المرجع هو الأصل ، اللهم إلاّ أن لا يجري الأصل لعدم الأثر ، وهذا أمر آخر ... فما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من عدم الأصل حتى على مبنى ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد ، في غير محلّه (١).

وأمّا في المسألة الفرعيّة ، فقد أفاد الميرزا (٢) أنّ الأصل في المعاملة هو الفساد ، لأنه مع الشك في صحة المعاملة يشكّ في ترتّب الأثر عليها ، وحينئذٍ فالأصل بقاء كلٍّ من العوضين على ملك مالكه. وأمّا في العبادات ، فإنّ الأصل الجاري فيها لدى الشك في الصحة هو قاعدة الاشتغال ، إلاّ في موارد الأصل الثانوي كقاعدة الفراغ مثلاً ، كما أنه يمكن وجود القاعدة الثانوية المقتضية للصحة في المعاملة كذلك ، كأصالة الصحة في عمل الغير ... هذا في الشبهة الموضوعيّة.

وأمّا في الشبهات الحكمية الكليّة في المعاملات فقد قالوا بأصالة الفساد.

قال الأُستاذ : جريان هذا الاستدلال منوط بعدم كون الشك في المورد من قبيل الشك بين السبب والمسبب. مثلاً : لو شك في أنه هل الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول مبطل للصيغة أو لا؟ فقد يقال برجوعه إلى الشك في اعتبار الاتصال ، ومع جريان البراءة من اعتباره تصحّ المعاملة ويرتب عليها الأثر ... لحكومة البراءة عن شرطية الاتصال على أصالة الفساد في المعاملة ، فتأمّل.

ثم إن المحقق الإيرواني علَّق على كلام (الكفاية) هنا بما حاصله (٣) : إنما يحتاج إلى الأصل العملي حيث لم يتّضح دلالة النهي على الفساد ، فيحتمل الصحة واحتمالها احتمالٌ لوجود الأمر مع الشك في مانعيّة النهي ، وحينئذٍ يحكّم

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣٩١.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٢١٢.

(٣) نهاية النهاية ١ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

١٣٤

إطلاق الأمر.

لكن فيه : إنه يناقض كلامه في أوّل مبحث اجتماع الأمر والنهي إذ قال : ما له معنىً محصّل هو أن للأمر دلالةً على عدم النهي وللنهي دلالة على عدم الأمر. فيقال له : لا ريب في تعلُّق النهي بالعمل ومعه فلا أمر كما ذكر حتى يتمسّك بإطلاقه؟

على أنّ صاحب (الكفاية) يرى التضادّ بين الأحكام الخمسة ، فمع وجود النهي يستحيل وجود الأمر ، فأين الأمر حتى يتمسّك بإطلاقه؟

أمّا في العبادات ، فقد أفاد الميرزا : بأنْ الرجوع إلى الأصل يبتني على الخلاف في جريان الأصل في موارد الشك بين الأقل والأكثر ، فعلى القول بالبراءة تكون العبادة صحيحة ، وهي فاسدة على القول بالاشتغال.

وأشكل عليه الأُستاذ : بأنْ مقتضى القاعدة هو الفساد مطلقاً ، لأنه مع وجود النهي لا أمر حتى يقصد ، وأمّا الصحّة بقصد الملاك فموقوفة على إحرازه وهو في مثل ما نحن فيه أوّل الكلام.

وأمّا المحقق الأصفهاني (١) فملخّص ما أفاده في المقام :

أمّا في المسألة الاصولية ، فلا أصل يعوّل عليه ، لأنّ الصحّة إن كانت عبارةً عن موافقة الأمر ، فالمفروض عدم الأمر ، وإنْ كانت مطابقة المأتي به للمأمور به في الملاك ، فالمفروض واجدية العمل لجميع الأجزاء والشرائط ، فالمطابقة حاصلة فلا شك حتى يرجع إلى الأصل.

وأمّا في المسألة الفرعية ، فقد بنى المسألة على الخلاف في أنّ اقتضاء النهي عقلي أو لفظي ، فعلى القول الأول يكون الأصل هو الفساد ، إذْ كونها عقلية معناه

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣٩١.

١٣٥

ملازمة النهي لمبغوضية العمل ، وإذا كان مبغوضاً فالعمل فاسد بلا كلام ، وإلاّ فلا ... ومع الشك في عدم المبغوضية لا يكون صالحاً للمقربية ، فهو فاسد. أمّا على القول الثاني ، بأنْ يكون البحث في الدلالة اللفظية للنهي وأنه إرشاد إلى المانعيّة أو لا؟ فإن الشك يرجع إلى وجود المانع والأصل عدمه.

إشكال الأُستاذ

وناقشه الأُستاذ : بأنّه لو لا وجود الحزازة أو النقص في العبادة لما تعلَّق بها النهي ، فصلاة الحائض فيها نقص وإلاّ فلما ذا النهي؟ ومع الحزازة والنقص كيف تكون واجدةً لملاك صلاة غير الحائض؟ فدعوى موافقة المأتي به للمأمور به غير واضحة ... هذا في المسألة الاصولية.

وأمّا ما ذكره في المسألة الفرعية ، فصحيح بناءً على كونها عقليّة ، لأنّه مع احتمال المبغوضية يشك في المقربيّة ، والنتيجة هي الفساد. وأمّا بناءً على كونها لفظيّة ، فما ذكره هو ـ وغيره من الأعلام ـ مخدوش ، لأن أركان الاستصحاب مع الشك في ظهور النهي في المانعية تامّة ، لأن ظهور الألفاظ في معانيها من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، أمّا العدم الأزلي فواضح ، وأمّا النعتي ، فلأنّ ظهور اللفظ في المعنى ليس ممّا لا ينفك عن المعنى بل هو وصف متأخر عن وجود اللفظ ، فالأركان تامة. ويبقى الكلام في أثر هذا الاستصحاب ، فقد تقرّر عندهم أن المستصحب إمّا يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، لكنّ التحقيق عدم انحصار الأثر في ذلك ، فقد يكون الاستصحاب مثبتاً للحكم الشرعي أو موضوعه أو يكون نافياً له ، والحكم الشرعي الذي يجري فيه الاستصحاب أعم من الفرعي كالوجوب والحرمة والأصولي كالحجيّة ، وفيما نحن فيه : الظهور موضوع للحجيّة الشرعية ، فيجري الاستصحاب فيه لإثبات هذا الأثر أو نفيه.

١٣٦

لكنْ يبقى إشكال آخر وهو لغويّة هذا الاستصحاب ، لأن مجرّد الشك في الظهور كافٍ لعدمه ، وإذ لا ظهور فلا حجيّة.

ويمكن الجواب عنه : بأنْ فائدة هذا الاستصحاب هو نفي الملازمة العقلية بين النهي والفساد ، وعلى الجملة ، فإن أثر هذا الاستصحاب هو رفع موضوع الأصل العقلي ، لأنّ كلّ أصل عقليّ فإن جريانه معلّق على عدم وجود تعبّد شرعي في موضوعه نفياً أو إثباتاً.

وأمّا التمسّك بالأصل لرفع المانعية ، فإن كان المقصود التمسك بالبراءة ففيه : إنها إنما تجري في موارد الشك في المانعية ، حيث يكون الأقل متيقّناً ويشك في اعتبار شيء زائداً عليه ، كما في الشك في أجزاء الصلاة مثلاً ، وأمّا النهي في العبادة الذي هو إرشادٌ إلى المانعيّة فلا يبقى معه أمرٌ بها ، فكيف تجري البراءة؟ وإنْ كان المقصود هو التمسّك بالأصل اللفظي ـ كما هو ظاهر كلامه ـ ففيه : إنّه ليس هنا إلاّ الإطلاق ، والتمسك به على مبنى المحقق الخراساني غير تام ، لأنه يرى التضادّ بين الأحكام أنفسها ، وأمّا على مبنى المحقق الأصفهاني ـ وهو التضاد بينها في المبدا والمنتهى ـ فلا ريب في وقوعه في المنتهى وهو مرحلة الامتثال ، لأنّ النهي يقتضي انزجار المكلّف والأمر يقتضي انبعاثه ، وكون المكلّف منزجراً ومنبعثاً محال ، فشمول إطلاق الأمر لمثل المقام محال. هذا أوّلاً.

وثانياً : إنه إن كان النهي إرشاداً إلى المانعيّة ، كان الحاصل تقيّد الأمر بالصّلاة بعدم الحيض مثلاً ، وإن لم يكن فالإطلاق على حاله ، ومع الشك في كونه إرشاداً يتحقّق الشك في وجود الأمر بها ـ والمفروض وجود النهي ، وإذا احتمل الأمر احتمل اجتماع الضدّين ، واجتماعهما احتمالاً محال كاجتماعهما واقعاً ، فسقط التمسك بالإطلاق.

١٣٧

رأي الأُستاذ في هذه المقدّمة

هذا ، ويظهر المختار في المقام ممّا تقدّم في الكلام على آراء الأعلام ، وحاصل ذلك في المسألة الاصولية هو ضرورة التفصيل ، فعلى القول بكون البحث عقلياً ، فلا أصل ، وعلى القول بكونه لفظيّاً ، فإنْ كان من جهة الدلالة الالتزامية ، فالتمسّك به مشكل وإن كان لا يخلو عن وجه ، وإن كان من جهة الإرشاد إلى المانعية ، فأركان الاستصحاب تامة.

وأمّا في المسألة الفرعية.

أمّا في المعاملات ، فمقتضى الأصل هو الفساد مطلقاً.

وأمّا في العبادات ، فالفساد ـ سواء قلنا بكون المسألة عقليّة أو لفظية ـ لأنه لا أمر مع وجود النهي ، ولا أصل محرز للصحّة لا لفظاً ولا عقلاً.

الثامنة (في أقسام متعلَّق النهي)

قد قسّمنا النهي سابقاً إلى أقسام وذكرنا أن أيّ قسمٍ منها داخل في البحث. وهنا نذكر أقسام متعلَّق النهي.

قال في الكفاية : إن متعلَّق النهي ، إمّا أنْ يكون نفس العبادة أو جزأها أو شرطها الخارج أو وصفها الملازم لها كالجهر والإخفات للقراءة أو وصفها غير الملازم كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكّة عنها (١).

توضيحه :

تارةً : يتعلَّق النهي بنفس العبادة بذاتها. واخرى لا بذاتها ، فإنّ النهي عن صلاة الحائض قد يكون نهياً عن ذات هذه الصلاة ، وقد يكون نهياً عنها فيما إذا جيء بها قربةً إلى الله فهو تشريع.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٤.

١٣٨

ومثال النهي عن الجزء هو النهي عن قراءة العزائم في الصلاة.

ومثال النهي عن شرط خارج عن العبادة ، النهي عن تطهير الثوب بالماء المغصوب.

والنهي عن الوصف يكون على نحوين وسيذكر فيما بعد انقسام النهي المتعلَّق بجزء العبادة أو شرطها إلى ما يكون بنحو الواسطة في العروض وما يكون بنحو الواسطة في الثبوت.

(قال) : وممّا ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة يظهر حال الأقسام في المعاملة.

الإشكالات على الكفاية

وأشكل المحققان الأصفهاني والإيرواني (١) : بأنْ الجزء والشرط والوصف إن كان عبادةً فلا فرق بينه وبين الصّلاة ، فالتقسيم بهذه الصورة بلا فائدة ، ولو قيل بأنّ فائدته من جهة أنه هل إذا فَسَد الجزء أو الشرط أو الوصف فالصّلاة باطلة أو لا ، فإنّ هذا بحثٌ آخر لا علاقة له بمسألة تعلُّق النهي بالعبادة.

وكذا الإشكال فيما ذكره من انقسام النهي عن الجزء أو الشرط إلى ما يكون بنحو الواسطة في العروض أو الثبوت ، لأنّ المنهي عنه حقيقة ، إنْ كان العبادة بنفسها ، فهذا هو موضوع المسألة ، وإنْ كان هو الجزء أو الشرط ـ وكان تعلّقه بالعبادة مسامحةً ـ عاد الكلام السابق بأنّه إن كان الجزء أو الشرط عبادةً فهو داخل في موضوع البحث ، وإنْ لم يكن عبادة فلا وجه للبحث عنه.

وهذا هو الإشكال الأول.

وأشكل المحقق الأصفهاني ثانياً في قول (الكفاية) : بأنّ النهي عن الجزء

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٩٣ ، نهاية النهاية ١ / ٢٤٧.

١٣٩

يوجب فساده ولا يوجب فساد العبادة ، فقال : لا دليل على كون جزء العبادة عبادةً ، لأنّ العبادة إن كانت ما له حسنٌ ذاتي ، فقد لا يكون لجزء العبادة حسن ذاتي مع كون المركّب منه ومن غيره عبادةً لها حسن ذاتي. وإنْ كانت ما امر بها بأمرٍ لا يسقط إلاّ بالإتيان بالعمل بقصد القربة ـ بخلاف التوصّلي ـ فقد يكون الأمر المتعلّق بالجزء ـ بما هو جزء ـ غير عبادي بل المتعلّق بالمركب لا يسقط إلاّ بوجهٍ قربي ....

وعلى الجملة ، فقد لا يكون جزء العبادة عبادة ، فلا يتمُّ كلام (الكفاية).

الإشكال الثالث : ما أورده بعض أهل النظر ، وحاصله بطلان تقسيم الوصف إلى القسمين المذكورين ، لأنّه كما لا ينفك القراءة عن الجهر والإخفات ، كذلك لا تنفك عن الإباحة أو الغصبيّة في المكان.

الإشكال الرابع : ما أورده المحقق الإيرواني ، وحاصله بطلان جمع (الكفاية) بين «الغصب» و «الصلاة» ، لأنه قد جعل «الغصب» وصفاً للصّلاة ، فهو مغايرٌ لها ، والاتحاد بين الوصف والموصوف محالٌ ، فقوله باجتماع الغصب والصّلاة جمع بين الضدّين.

دفاع الأُستاذ عن الكفاية

وأجاب شيخنا عن هذه الإشكالات :

أمّا الأوّل ، فإن تقسيم (الكفاية) كذلك ليس بلا أثر ، لأنّ تعلّق النهي بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها مفسدٌ أو لا ، هو ممّا وقع فيه الخلاف ، فالمحقق النائيني يقول باقتضاء النهي عن الجزء لفساد العبادة خلافاً للكفاية. وأيضاً ، فإنّ النهي عن الوصف الملازم أو المفارق في صورة الاتحاد الوجودي ، يسري إلى العبادة أو لا يسري؟ فصاحب (الكفاية) يرى السراية ، وفي ذلك بحثٌ.

١٤٠