تحقيق الأصول - ج ٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-54-6
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٧٩

لكن يرد على السيّد المحقّق بعد أن يكون العنوان عدميّاً : بأنّ الأمر العدمي لا يتصوّر فيه المصلحة الموجبة للرّجحان ، لأن المصالح امور وجوديّة والأمر الوجودي لا يقوم بالعدم والعدمي ، فالعنوان الأرجح إذا كان عدميّاً فإنه لا يكون ذا مصلحة ، ومن هنا تكون مطلوبيته بالعرض ، من جهة الحزازة في الوجود ، وإذا كان الوجود مبغوضاً كان تركه محبوباً بالمحبوبيّة العرضية ، ولذا لا يكون ترك صوم عاشوراء مستحبّاً بل الفعل ذو حزازة ، فيكون تركه محبوباً ، وعلى هذا ، فلا مناص من القول بوجود حزازة في نفس الصّوم ، وحينئذٍ ، لا يجتمع مع الرجحان والاستحباب. هذا أوّلاً.

وثانياً : إذا كان الفعل مستحبّاً والترك كذلك والترك أرجح ، فما هو الموجب لكراهة الفعل؟ إنه لا موجب له إلاّ أرجحيّة الترك ، وهذا موقوفٌ على أنْ يكون الأمر بالشيء مستلزماً للنهي عن ضدّه العام ، لكنّ هذا المبنى باطل.

وثالثاً : إنه لا مناسبة بين هذا الوجه وروايات المسألة ، فمقام الإثبات غير مساعدٍ له ، لأن النصوص واضحة الدلالة في مبغوضيّة هذا الصوم وكونه مبعّداً عن الله وموجباً لاستحقاق النار ، فكيف يصح الإتيان به عبادةً؟

الجواب الثاني في الدرر

ثم جاء في (الدرر) : الثاني أن يقال : إن فعل الصّوم راجح وتركه مرجوح ، وأرجح منه تحقق عنوانٍ آخر لا يمكن أن يجتمع مع الصوم ويلازم عدمه ، ولمّا كان الشارع عالماً بتلازم ذلك العنوان الأرجح مع عدم الصّوم ، نهى عن الصّوم للوصلة إلى ذلك العنوان ، فالنهي عن هذا ليس إلاّ للإرشاد ولا يكون للكراهة ، إذ مجرّد كون الضدّ أرجح لا يوجب تعلّق النهي بضدّه الآخر ، بناءً على عدم كون ترك الضدّ مقدّمة كما هو التحقيق. ولعلّ السرّ في الاكتفاء بالنهي عن الصّوم بدلاً

١٠١

عن الأمر بذلك العنوان الأرجح ، عدم إمكان إظهار استحباب بذلك العنوان. وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن النقض بالواجبات التي تعرض عليها جهة الاستحباب ، كالصّلاة في المسجد ونحوها.

وفيه

أوّلاً : إن هذه الكبرى ـ وإنْ كانت مسلّمةً ـ غير منطبقةٍ هنا ، فإن الشارع قد بيَّن ذلك العنوان وصرَّح بسبب النهي عن الصوم وهو المخالفة لبني اميّة.

وثانياً : إنّ النهي إذا حمل على الإرشاد ، بقي حكم الصوم على الاستحباب بلا كراهةٍ ، وهذا ينافي النصوص المذكورة وغيرها ، ولفتاوى الفقهاء بكراهة هذا الصّوم.

فما ذكره لا يتناسب مع النصوص والفتاوى.

رأي الشيخ الأُستاذ

وقد رأى شيخنا أنّ الأفضل هو النظر في النصوص وحلّ المشكل على أساس ذلك مع لحاظ الفتاوى ، فمن الفقهاء ـ كصاحب الحدائق ـ من يقول بالحرمة ، ومنهم من يقول بالكراهة ، ومنهم من يقول بالاستحباب ، إمّا مطلقاً وامّا على وجه الحزن كما عليه صاحب (الجواهر).

أمّا القول بالحرمة فللرواية التالية : «عن صوم يوم عاشوراء. فقال : صوم متروك بنزول شهر رمضان ، والمتروك بدعة» (١) يعني : إنّ هذا الصوم منسوخ بصوم شهر رمضان فهو غير مشروع.

وفيه :

أوّلاً : هذه الرواية ضعيفة سنداً.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٤٦١ ، الباب ٢١ ، رقم ٥.

١٠٢

وثانياً : إن كونه متروكاً لا يدل على النسخ ، فقد يكون المراد متروكيّة أصل الوجوب.

وثالثاً : إن النسخ لا يتلائم مع الرواية عن الإمام الباقر والتي فيها صدور الأمر بصوم عاشوراء عن أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام.

واختار السيد الخوئي الاستحباب بلا كراهيّة ، وطرح جميع ما دلّ على المنع بالإشكال في أسانيدها ، وأمّا رواية عبد الله بن سنان ، فهي في مصباح المتهجّد عن كتاب ابن سنان ، ونحن لا علم لنا بحال سند الشيخ إلى كتاب عبد الله بن سنان ... ولو كان سنده إليه صحيحاً لأورد الخبر في التهذيب والاستبصار.

فتبقى روايات الاستحباب ـ كخبر عبد الله بن ميمون القداح ونحوه ـ بلا معارض (١).

وقد ناقشه الأُستاذ : بأنْ هذا الخبر أسنده الشيخ في المصباح إلى ابن سنان ، ولو لا ثبوت السند عنده لما أسنده إليه. هذا أولاً. وثانياً : إنه قد عمل بهذه الرواية من لا يعمل بالأخبار الآحاد ، كابن إدريس وابن زهرة. وثالثاً : إن للخبر سنداً معتبراً ، فهو عن عماد الدين المشهدي الطبري ـ صاحب المزار ـ عن ابن الشيخ عن الشيخ عن المفيد عن ابن قولويه عن الصدوق عن الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان.

وتلخّص : وجود رواية معتبرة مانعة ، ولعلّه لذا أفتى في رسالته العملية بالكراهة ، وإنْ كان كتاب (مستند العروة) متأخراً عنها ... وظهر وجود التعارض بين أخبار المسألة ، لأنّ بعضها يأمر وبعضها ينهى.

__________________

(١) مستند العروة الوثقى ٢٢ / ٣١٧.

١٠٣

وأمّا القول بالاستحباب على وجه الحزن ، فقد ذهب إليه صاحب (الجواهر) (١) تبعاً للشيخ وابن إدريس والمحقق ، جمعاً بين النصوص.

لكنّ هذا الوجه لا يصلح للجمع بل هو تبرّعي ... فالتعارض مستقر.

ومقتضى القاعدة حمل الأخبار الآمرة بالصّوم على التقيّة ، لكونها موافقةً لنصوص العامّة وفتاواهم ، كما لا يخفى على من يراجع (سنن الترمذي) و (المغني لابن قدامة) (٢) وتبقى الناهية بلا معارض. ودعوى الإجماع على الاستحباب ـ إن تمّت ـ لا تضرّ ، لكونه مدركيّاً ، فالأحوط وجوباً ترك صوم يوم عاشوراء.

القسم الثاني كالصلاة في الحمام :

وأمّا القسم الثاني من العبادات المكروهة كالصّلاة في الحمام :

رأي صاحب الكفاية

فقد أجاب في (الكفاية) (٣) بوجهين :

الأول : إن وجه النهي فيه يمكن أنْ يكون ما ذكر في القسم الأول طابق النعل بالنعل.

وحاصل ذلك : أن من النهي عن الصّلاة في الحمام مع الأمر بها ، يستكشف انطباق عنوانٍ على ترك الصّلاة في الحمام أو ملازمة لتركها فيه يجعله ـ أي الترك ـ أرجح من الفعل.

الثاني : إنّ الأمر بالصّلاة دالٌّ على الوجوب ، والنهي عن الصّلاة في الحمام تنزيهي لا تحريمي ، ولمّا كان الأمر بها ملازماً للترخيص العقلي في تطبيق الصّلاة

__________________

(١) جواهر الكلام ١٧ / ١٠٥.

(٢) المغني في الفقه الحنبلي ٣ / ١٣٣.

(٣) كفاية الاصول : ١٦٤.

١٠٤

على أيّة حصّةٍ منها بمقتضى الإطلاق في «صلّ» ، كانت الصّلاة في الحمّام مصداقاً للصّلاة الواجبة ، إلاّ أنّ النهي عن هذه الصّلاة يفيد مرجوحية تطبيق الطبيعة على هذه الحصّة ، كما أنَّ الأمر بتطبيقها على حصّة الكون في المسجد يفيد الرجحان والمحبوبيّة ، وذلك ، لأنّ الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها إذا كانت مع تشخصٍ لا يكون له شدّة الملاءمة ولا عدم الملاءمة ، يكون لها مقدار من المصلحة والمزية ، كالصّلاة في الدار مثلاً ، وتزداد تلك المزيّة فيما لو كان تشخّصها بماله شدّة الملاءمة ، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة ، ولذلك ينقص ثوابها تارةً ويزيد اخرى ، ويكون النهي فيه لحدوث نقصانٍ في مزيّتها فيه إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد ويكون أكثر ثواباً منه ، وليكن هذا مراد من قال إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثواباً.

هذا ، وقد وافق شيخنا على هذين الجوابين.

القسم الثالث كالصلاة في موضع التهمة :

وأمّا القسم الثالث من العبادات المكروهة ، كالصّلاة في مواضع التهمة :

رأي صاحب الكفاية

فقد أجاب في (الكفاية) : بأنْ حال هذا القسم حال القسم الثاني ، فيحمل على ما حمل عليه فيه طابق النعل بالنعل ، حيث أنه بالدقّة يرجع إليه ، إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلاّ من مخصّصاته ومشخّصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزيّة زيادةً ونقيصةً بحسب اختلافها في الملاءمة كما عرفت. وحاصل ذلك هو كون النهي ارشاداً إلى أقليّة الثواب كما تقدّم (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٥.

١٠٥

رأي الميرزا

وقد أجاب الميرزا (١) عن هذا القسم ـ والقسم السابق ـ بما حاصله : إن العبادة على القول بالامتناع وإن كانت منهيّاً عنها إلاّ أن النهي عن حصّةٍ خاصّةٍ لا يوجب تقييد المأمور به بغيرها ما لم يكن تحريميّاً أو كان مسوقاً لبيان المانعيّة ... ومن المعلوم أنَّ النهي هنا مولوي تنزيهي لا تحريمي ، ولا هو إرشاد إلى بيان المانعية ، وهو لا ينافي رخصة تطبيق المأمور به على تلك الحصّة ، غاية الأمر ، يكون هذا التطبيق مرجوحاً ، فكان الأمر بطبيعة الصّلاة متعلّقاً بصرف وجودها ، والنهي التنزيهي متعلَّقاً بحصّةٍ خاصّة من حصصها ، ولمّا كان تنزيهيّاً فهو متضمّن للترخيص في هذا التطبيق ، إلاّ أنّه يكون مرجوحاً بالإضافة إلى غير هذه الحصّة.

هذا ، وقد وافقه تلميذه المحقق في (المحاضرات) وسكت عليه في هامش (الأجود).

إشكال الأُستاذ

ولكنْ قد أشكل عليه شيخنا : بأن الميرزا قد اعترف في كلامه بوجود التضادّ بين الأمر الوجوبي والنهي التنزيهي ، فيتوجّه عليه أن الضدّين متقابلان ، فلا يجتمعان ، ولا يكون أحدهما مصداقاً للآخر ... وإذا كانت الطبيعة متعلَّقة للأمر والحصّة منها متعلَّقة للنهي وكلّ حصّةٍ مصداق للطبيعة ، كان اللاّزم كون أحد الضدّين مصداقاً للآخر ، وهو محال.

فالحق مع القائلين بأنّ هذا النهي ليس مولوياً ، بل هو إرشاد إلى أقليّة الثواب.

__________________

(١) اجود التقريرات ٢ / ١٦٩.

١٠٦

وخلاصة البحث

أمّا في القسم الأول ، فالمختار إسقاط الأخبار الدالّة على استحباب صوم عاشوراء ، لموافقها للعامّة. وفي النوافل المبتدئة جواب الشيخ و (الكفاية) هو الصحيح.

وأمّا في القسمين الثاني والثالث ، فالمختار حمل النهي على الإرشاد إلى أقليّة الثواب.

هذا تمام الكلام في العبادات المكروهة.

الدليل الآخر للقول بالجواز

وذكر في (الكفاية) عن القائلين بالجواز مسألة ما لو أمر بخياطة الثوب ونهى عن الكون في ملك الغير ... وقد تقدّم الكلام عليه في البحث مع السيد البروجردي ، فلا نعيد.

١٠٧

الاضطرار إلى الحرام

إن المكلّف قد لا يكون مضطرّاً إلى الكون في ملك الغير بلا إذنٍ منه ، وقد يكون مضطرّاً إلى ذلك ، فإن لم يكن مضطرّاً وأراد الصّلاة هناك ، فإمّا له مندوحة وامّا لا ، فعلى الأول يندرج في مسألة جواز الاجتماع والامتناع ، وعلى الثاني كذلك وإنْ قيل بكونه من صغريات باب التزاحم.

والحاصل : إنه في صورة عدم الاضطرار مطلقاً ، يدور حكم الصّلاة في ملك الغير مدار وحدة المتعلَّق وتعدّده ، على التفصيل المتقدّم.

وقد يكون مضطراً إلى التصرّف أو الكون في ملك الغير ، كما لو حبس هناك ، ولا يمكنه الصّلاة في خارجه ، وهنا أيضاً صورتان ، لأن هذا الاضطرار قد يكون بسوء الاختيار من المكلّف وقد لا يكون ... والكلام الآن في الصورة الثّانية.

حكم الاضطرار لا بسوء الاختيار ولا يمكنه الخروج

أمّا على القول بجواز الاجتماع ، فالحكم واضح ، لأنّ تصرّفه في ملك الغير حاصل بالاضطرار فلا حرمة ، والصّلاة كانت صحيحةً في حال عدم الاضطرار ، فهي صحيحة في حال الاضطرار بالأولوية.

إنما الإشكال في الحكم بناءً على القول بالامتناع ، والمشهور هو الصحّة ، والميرزا على البطلان.

دليل المشهور

ودليل القول المشهور هو أنه في هذا الفرض يسقط النهي شرعاً وعقلاً.

أمّا عقلاً ، فلأن النهي حينئذٍ تكليفٌ بما لا يطاق.

١٠٨

وأمّا شرعاً ، فلحديث الرفع ، لأنّ الرفع بالنسبة إلى الاضطرار والإكراه والنسيان واقعي ـ وإنْ كان بالنسبة إلى الجهل ظاهرياً لئلاّ يلزم التصويب ـ فالتكليف مرفوع واقعاً عن المكلَّف المضطر ، وإذا سقط النهي بقي الأمر بالصّلاة على إطلاقه بلا مانعٍ.

وبعبارة اخرى : إطلاق الأمر بالصّلاة بدلي ، وإطلاق النهي عن الغصب شمولي ، لكنّه قاصر عن الشمول لمورد الاضطرار ، فيبقى الإطلاق البدلي للأمر مع حكم العقل بالترخيص في تطبيقه ، وتكون الصّلاة صحيحة.

دليل الميرزا

ويقول الميرزا رحمه‌الله (١) : بأنّ تقييد متعلَّق الأمر ـ كالصّلاة ـ بالقيد العدمي يكون على ثلاثة أنحاء :

الأول : التقييد الحاصل ممّا يكون إرشاداً إلى المانعية ، كتقييدها بعدم كونها فيما لا يؤكل لحمه ، فإن معنى ذلك أن ما لا يؤكل لحمه مانع عن صحّة الصّلاة ، فصحّتها مشروطة بعدمه ... وهذا التقييد واقعي ، فلو صلّى فيما لا يؤكل لحمه عن جهلٍ أو اضطرار أو نسيانٍ بطلت ، إلاّ إذا قام دليل آخر على الصحّة ... إذن ، حديث الرفع لا يرفع الحكم الوضعي في حال الاضطرار ... إلاّ إذا قام دليل آخر.

الثاني : التقييد الحاصل من التزاحم بين المأمور به والمنهي عنه مع كون النهي أهم ، كأنْ تتقيّد الصّلاة بعدم المنهي عنه ، فلو أتى بها مع المنهيّ عنه عامداً مختاراً بطلت إلاّ على القول بالترتّب أو الإتيان بها بقصد الملاك بناءً على إنكاره ... أمّا لو اضطرّ إلى الإتيان بها بالمنهي عنه ، فإن النهي يسقط وتصحّ الصلاة.

الثالث : التقييد الحاصل من النهي النفسي ، كالأمر بالصّلاة وتقييدها بعدم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٨٢ ـ ١٨٤.

١٠٩

كونها في المغصوب ، للنهي النفسي عن الغصب ... فإنّ هذا النهي يقيّد الإطلاق البدلي في الأمر بالصّلاة بغير هذه الحصّة.

وما نحن فيه من هذا القسم.

إنما الكلام في أنّه : هل حرمة التصرّف في مال الغير هي العلّة لتقييد الصّلاة بغير المغصوب ، أو أنه لا عليّة ومعلولية بينها وبين التقييد؟

إن كان الأوّل ، فالحق مع المشهور ، لأنّه في حال الاضطرار ترتفع الحرمة والمفروض كونها العلّة للتقييد ، فإذا انتفت انتفى المعلول ، وبقي الأمر على إطلاقه.

لكنّ الميرزا يرى أنْ لا عليّة ، ونتيجة ذلك أن الحرمة إذا ارتفعت على أثر الاضطرار ، بقي التقييد على حاله ويكون الأمر بالصلاة مقيَّداً بعدم وقوعها في المغصوب ، فلو صلّى فيه لم يأتِ بمصداق المأمور به ، فهي باطلة.

ووجه عدم العليّة عنده هو : إنّ منشأ هذا التقييد هو التضادّ بين الوجوب والحرمة ، وحينئذٍ تكون الحرمة ملازمة لعدم الوجوب ، وليس بين الضدّين عليّة ومعلوليّة لا وجوداً ولا عدماً ، فالطوليّة بين الحرمة والتقييد مستحيلة ، وليس ارتفاع الحرمة علةً لارتفاع التقييد.

الإشكال على الميرزا

وقد أورد على الميرزا : بأنّه وإنْ لم يكن اختلافٌ في المرتبة بين الحرمة والتقييد ، لكنّ الكاشف ـ في مقام الإثبات ـ عن التقييد ليس إلاّ الحرمة ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ لأحدٍ أن يتصرف في مال غيره بغير بإذنه» (١) كما يدلّ بالمطابقة على الحكم الشرعي ، يدلّ بالالتزام على عدم وجوب الصّلاة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ / ٢٣٤ الباب ٦٣ رقم : ٣.

١١٠

في الدار المغصوبة ، فكان تقييد الأمر بها بغير هذا المورد مدلولاً التزاميّاً لهذه الحرمة ، والدلالة الالتزامية معلولة للمطابقية ، فإذا سقطت سقطت الالتزامية.

والحاصل : إنّه وإنْ لم تكن طوليّة بين المدلولين ـ أي الحرمة والتقييد ـ لكنّها بين الدالّين موجودة ، فإذا سقط دليل حرمة الغصب بسبب الاضطرار ، انتفت الدلالة على التقييد ، وبقي دليل الوجوب شاملاً للمورد بإطلاقه ، ويتم رأي المشهور.

نظر الأُستاذ

وقد دفع الأُستاذ هذا الإشكال : بأنّه مبني على تبعيّة الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجيّة ـ كما هو الصحيح ـ لكنّ الميرزا غير قائل بذلك ... إذن ، لا بدّ من نقد كلامه من طريقٍ آخر فنقول :

إن حاصل كلامه في الدورة الثانية كون النهي علّةً للحرمة ولتقييد الأمر معاً ، وحينئذٍ يرد عليه : بأنْ لا بقاء للنهي في حال الاضطرار ، وإذا ارتفع انتفى التقييد ، لفرض كونه معلولاً للنهي ، فيثبت رأي المشهور.

ولكنّ المهمّ هو كلامه في الدورة الاولى (١) إذ قال بأنّ العلّة للنهي والتقييد هي الملاك ، ومن الواضح أنّ الاضطرار يرفع النهي ، أمّا الملاك فلا ، لأنه لا يغيّر المصالح والمفاسد ، وإذا كان الملاك باقياً بقي التقييد وإنْ انتفت الحرمة بالاضطرار.

ويردّه : إنّ الكاشف عن التقييد لا بدّ وأنْ يكون الملاك البالغ إلى حدّ الغرضية للمولى حتّى يؤثّر في الحرمة والتقييد ، وأمّا صرف وجود الملاك فلا يترتب عليه ذلك الأثر ، وعلى هذا ، ففي صورة الاضطرار ـ حيث تكون

__________________

(١) فوائد الاصول (١ ـ ٢) ٤٤٥.

١١١

المفسدة مزاحمةً بالمصلحة كما في مورد أكل الميتة مثلاً للضرورة ـ لا تكون تلك المفسدة متعلّقةً لغرض المولى ، فلا تصلح لأنْ تكون منشأً للتقييد ... فالحق مع المشهور.

حكم صلاة المضطرّ لا بسوء الاختيار

نعم ، في خصوص الصّلاة بحثٌ من جهةٍ اخرى ، وذلك أنّه بناءً على وجوب الصّلاة على المضطر غير المتمكّن من الخروج في جميع الوقت ، وصحّة صلاته ، فهل الواجب الإتيان بها صلاةً اختياريّةً تامّة الأجزاء والشرائط ، أو يصلّي إيماءً بدلاً عن الركوع والسجود؟

قولان ، قال بالأوّل صاحب (الجواهر) وتبعه الميرزا (١). وبالثاني : بعض مشايخ صاحب (الجواهر) قدس‌سرهم.

وقد استدلّ للثاني : بأنّ الركوع والسجود يستلزم الحركة ، وهي تصرّف في ملك الغير ، فليأتٍ بالصّلاة بالإيماء لئلاّ يلزم التصرف الزائد.

للأول : بأنّ من يكون في ملك الغير لا ينفكّ عن وضعٍ من الأوضاع ، والغصب صادق على كلّ الأوضاع وفي كلّ آن من الآنات ، واختلاف الأوضاع ـ بأنْ يركع أو يسجد مثلاً ـ لا يعتبر زيادةً في التصرف حتى تكون معصيةً إضافيّة.

وقد فصّل الشيخ الأُستاذ في هذا المقام فقال : بأنْ مقتضى القاعدة الأوليّة هو الصّلاة الإيمائية ، لأن تبدّل الأوضاع يستلزم الحركة بالضرورة وهي أمر زائد ، على أنّ في السجود اعتماداً على الأرض وهو تصرّف زائد. لكنّ مقتضى القواعد الثانوية من رفع العسر والحرج وسهولة الشريعة وسماحتها هو ارتفاع الحرمة عن هذا القدر من التصرّف لمن اضطرّ بالصّلاة في المكان المغصوب كالمحبوس

__________________

(١) فوائد الاصول (١ ـ ٢) ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

١١٢

فيه ... وهذا هو الجواب الثاني لصاحب (الجواهر) (١) وهو الصحيح.

غير أنّ مقتضى القاعدة هو التفصيل على المبنى في العسر والحرج ، فإنه بناءً على المختار من كونهما شخصيين لا نوعيين ، يختلف الحكم باختلاف الأشخاص ، فمن كان متمكّناً من البقاء على حالٍ واحدةٍ زمناً طويلاً ، فهذا لا يجوّز له أن يصلّي صلاة المختار ، بل يصلّي ايماءً.

هذا كلّه فيمن لا يمكنه الخروج عن المكان المغصوب أصلاً.

حكمه مع التمكّن من الخروج

وأمّا المتمكّن من الخروج ، فتارةً : هو متمكّن من الأوّل من الإتيان بالصّلاة كاملةً في خارجه ، فلا ريب في وجوب ذلك والإتيان بها في المكان المباح ، فلو عصى وبقي في ملك الغير وصلّى هناك ، كانت صلاة باطلة على القول بالامتناع ، وصحيحة على القول بالجواز مع العصيان.

واخرى : هو متمكّن من الخروج في بعض الوقت ، فلو صلّى هناك في الوقت المضطرّ إلى الكون فيه ، جاء الخلاف المذكور سابقاً من أنّ الركوع والسجود منه يعتبر تصرّفاً زائداً فتبطل أو لا؟ فعلى القول بالعدم وأنّه تبدّل وضعٍ بوضع فالصّلاة صحيحة ، لكونه مضطراً إلى التصرف فلا نهي ، فلا مانع عن إطلاق الدليل الآمر بالصّلاة وإنْ كان قادراً على الخروج في الساعة الآتية حسب الفرض. وعلى قول الميرزا : هذه الصّلاة باطلة ، لفرض التمكّن من صلاةٍ تامّةٍ ... وهذا هو المختار عندنا ، لعدم انطباق القاعدة الثانوية هنا ، لأن المفروض تمكّنه بعد ساعةٍ من أدائها في مكان مباحٍ تامّة الأجزاء والشرائط ، فما ذهب إليه السيد الخوئي من صحّة صلاته هذه حتى بناءً على الامتناع مخدوش.

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ / ٢٨٧.

١١٣

وثالثة : إنه متمكّن من الخروج لكنْ في آخر الوقت ، بحيث لا يمكنه القيام بصلاة المختار في الخارج ، فيدور أمره بين الصّلاة التامّة في المكان المغصوب وغير التامة في خارجه.

أمّا على مسلك الميرزا ، فيأتي بها في حال الخروج إيماءً ، وكذا على مسلك صاحب (الجواهر) ، وقد وافقهم السيّد الخوئي فى هذه الصّورة ، لأنّ السجود تصرّف زائد ـ لكونه اعتماداً على الأرض ـ فيومي بدله ، والركوع مستلزم للحركة في ملك الغير وهي تصرّف ، فيكون مورداً للتزاحم بين الأمر والنهي ، ولا ريب في تقدم النهي فليس له أن يركع الركوع الاختياري.

فأشكل عليه شيخنا : بأنكم في الصّورة السّابقة قلتم بجواز الركوع والسجود الاختياريين لكونه مضطرّاً ، فما الفرق بين هذه وتلك؟

إن الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص ، والقاعدة الأوّلية تقتضي المنع عن كلّ تصرّف في ملك الغير ، وإذا كان السجود اعتماداً على الأرض فهو في كلتا الصورتين ، والركوع إن كان حركةً ، والحركة تصرّفٌ ، فهو في كلتيهما كذلك ، فلا وجه للفرق في حكم الركوع والسجود ، نعم ، بينهما فرق من حيث أنّه في تلك الصورة كان باقياً في ملك الغير ـ مع قدرته على الخروج ـ فهو عاصٍ ، وفي هذه الصّورة تصدر منه معصيتان ، لأن خروجه من المكان تصرّف آخر ، لكنّ زيادة المعصية كذلك لا أثر لها في حكم الركوع والسجود ، وقد عرفت عدم الفرق بالنسبة إليهما.

وعلى الجملة ، فالصحيح بناءً على الامتناع وبحسب القاعدة الأولية هو البطلان ، لكن القاعدة الثانوية تقتضي الصحة وجواز الإتيان بصلاة المختار.

هذا كلّه ، فيما لو لم يكن اضطراره إلى التصرّف في مال الغير بسوء الاختيار.

١١٤

حكم الاضطرار بسوء الاختيار

أمّا لو كان هو السبب في هذا الاضطرار ، قال في (الكفاية) (١) :

إنما الإشكال فيما إذا كان ما اضطرّ إليه بسوء اختياره ، مما ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسّطها بالاختيار ، في كونه منهيّاً عنه أو مأموراً به ، مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه ، فيه أقوال ، هذا على الامتناع.

وأمّا على القول بالجواز ، فعن أبي هاشم أنه مأمور به ومنهي عنه ، واختاره الفاضل القمي ناسباً له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء.

والحق : أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه وعصيانه له بسوء الاختيار ، ولا يكاد يكون مأموراً به كما إذا لم يكن هناك توقف عليه أو بلا انحصار به ....

الأقوال في هذه الصورة

والحاصل : أن في حكم هذا الاضطرار خمسة أقوال ، ذكرها صاحب (الكفاية) وتكلّم عليها ، وأثبت مختاره في المسألة ، وإليك البيان بقدر الحاجة :

القول الأول : إن خروجه من هذا المكان حرام شرعاً ، لأنّه تصرف في ملك الغير.

وفيه : إنّ الكون فيه أيضاً حرام شرعاً ، فلو حرم عليه الخروج ، لزم حكم الشارع بالمتناقضين.

القول الثاني : إن الخروج واجب وحرام ، وكلا الحكمين فعلي. أمّا وجوب الخروج ، فلأنه تخلّص من الغصب ، وهو واجب بنفسه أو مقدمة لواجبٍ هو

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٨.

١١٥

الكون في خارج ملك الغير ، وأمّا حرمة الخروج ، فلأنه تصرّف ... وقد تقرّر أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً (١).

وفيه : أن كلتا المقدّمتين غير صحيح. أمّا وجوب التخلّص من الحرام ، فأوّل الكلام ، لأنّ الأدلّة أفادت حرمة الغصب ، أمّا وجوب تخلية المكان المغصوب فيحتاج إلى دليل ، نظير شرب الخمر ، فإنه حرام لا أن تركه واجب. وأمّا صحّة تكليف هذا المكلّف فكذلك ، لأن الحاكم في المسألة هو العقل ، وهو يرى امتناع أو قبح توجّه الخطاب إلى العاجز عن الامتثال ، فمن ألقى نفسه من شاهق كيف يخاطب في حال سقوطه بالكفّ عن السّقوط وحفظ النفس وهو غير قادر؟

وعلى الجملة ، فإنّ المقتضي للحكم بالوجوب هو المصلحة الملزمة ، وللحكم بالحرمة هو المفسدة كذلك ، فكيف يجتمعان في الشيء الواحد في الآن الواحد؟

القول الثالث : إنّ الخروج واجب بالوجوب الفعلي ، وهو حرام لكن بالنهي السابق ، وعليه صاحب (الفصول) (٢) ... والوجه في ذلك هو : إنه كان قد تعلَّق النهي ـ قبل الدخول ـ بالخروج ، لأنه أحد التصرّفات المنهي عنها في مال الغير بدون إذنه ، إلاّ أن هذا النهي قد سقط بعد الدخول ، وهو الآن مأمور بالخروج وتخلية المكان ، وهو وجوبٌ فعليّ نفسيّ أو غيري مقدمةً للكون في خارج ملك الغير.

وفيه : أمّا الوجوب النفسي ، فممنوع لعدم الدليل على وجوب تخلية

__________________

(١) هذا أحد الأنظار الثلاثة في المسألة ، وهذا هو مبنى رأي أبي هاشم الجبائي المذكور ، فيصحّ خطابه وعقابه ، وقال جماعة : لا يصحّ خطابه وعقابه ، وقال آخرون : لا يصح خطابه ويصح عقابه وهو الحق.

(٢) الفصول الغرويّة : ١٣٧.

١١٦

الغصب. وأمّا الوجوب المقدّمي ، فموقوفٌ على وجوب المقدّمة شرعاً وهو أوّل الكلام ، وعلى وجوب الكون في خارج ملك الغير ، ولا دليل عليه كما تقدّم.

هذا بالنسبة إلى وجوب الخروج.

وأمّا ما ذكره من شمول دليل النهي عن التصرّف في مال الغير للتصرف الخروجي قبل الدخول في ملك الغير ، ففيه : إنّ النهي عن الشيء لا يكون إلاّ عن مفسدةٍ فيه غير مزاحمة بمصلحةٍ ، لكنّ مفسدة التصرّف الخروجي قبل الدخول مزاحمة بالمصلحة الملزمة المترتبة على الخروج من ملك الغير بعد الدخول فيه ... وسبق النهي عن التصرف الخروجي على الأمر بالخروج من ملك الغير لا يرفع مشكلة اجتماع المتناقضين.

القول الرابع : ما اختاره الشيخ قدّس سره ، من أنّ الخروج واجب بالوجوب الشرعي ، والقول بكون جميع أنحاء التصرّف حراماً قبل الدخول ممنوع.

واختار الميرزا هذا القول وجعل يردّ على رأي صاحب (الكفاية) وهو :

القول الخامس : وهو أنّ الخروج منهي عنه بالنهي السابق ، لكنّ هذا النهي قد سقط بحدوث الاضطرار إليه ، فيكون الخروج معصيةً للنهي السّابق ، لكنّه لازم بحكم العقل من باب الأخذ بأقل المحذورين ... أمّا كونه معصيةً ، فلأنّ الاضطرار ـ وإنْ أسقط الخطاب ـ لا يرفع استحقاق العقاب ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً.

ردّ الميرزا على الكفاية :

قال : إنّ المقام يندرج في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ، ولا ربط له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار من جهة العقاب أو الخطاب أو

١١٧

العقاب فقط (قال) نعم ، بناءً على دخول المقام في ذيل كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، فالحق ما اختاره صاحب (الكفاية). فلنا دعويان ....

(ثم قال) بعد إبطال سائر الأقوال في الدعوى الاولى : «أما الدعوى الثانية ـ أعني بها دعوى عدم دخول المقام في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، فيدلّ عليها امور». فذكر أربعة امور هذا ملخّصها :

الأول : إن ما يكون داخلاً في موضوع كبرى تلك القاعدة ، لا بدّ من أن يكون قد عرضه الامتناع ، وأن يكون ذلك مستنداً إلى اختيار المكلّف ، كأنْ يترك السير إلى الحج ، والخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك ، بل هو مقدور له بعد دخوله فيها.

والثاني : إن محلّ الكلام في تلك القاعدة إنما هو ما إذا كان ملاك الحكم مطلقاً ، سواء وجدت مقدّمته الإعدادية أم لم توجد ، وكان الحكم بنفسه مشروطاً بمجيء زمان متعلَّقه ، كخطاب الحج ، فإنّه واجب متوقف على طيّ الطريق ، فإن ترك امتنع الحج وكان امتناعه بالاختيار ، لكنّ ملاك هذا الحكم قبل السفر تام ، فعلى القول بإمكان الواجب المعلَّق ، يكون الوجوب فعليّاً قبل أشهر الحج والواجب استقبالي وموضوعه الاستطاعة ، وعلى القول بامتناعه ـ وعليه الميرزا ـ يكون الملاك تامّاً بتحقق الاستطاعة ، فمن ترك المسير إلى الحج بعدها يستحق العقاب على تركه وإنْ امتنع عليه الفعل في وقته ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار (قال) : وهذا بخلاف المقام ، فإن التصرف بالدخول من المقدّمات التي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج وتحقق ملاك الحكم فيه ، فإن الداخل هو الذي يمكن توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره ، وإذا كان كذلك امتنع كون الخروج داخلاً في موضوع تلك القاعدة.

١١٨

الثالث : إنه على مختار صاحب (الكفاية) من أن الخروج من الدار المغصوبة هو بحكم العقل ، من باب الأخذ بأخف المحذورين ، يكون هذا الحكم العقلي كاشفاً عن إمكان الخروج ، فكيف يمكن أن يكون الخروج من صغريات تلك القاعدة؟

الرابع : إن ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان ، لأن موردها ما إذا تحقّقت المقدّمة ثبت الخطاب وكان فعليّاً ، كما في الحج ، فإنه إذا سافر وأدرك يوم عرفة صار الحكم بوجوب الحج فعليّاً ، فلو ترك انطبقت القاعدة ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه إذ وجدت المقدّمة ـ وأعني بها الدخول ـ يسقط الخطاب بترك الخروج ، أي النهي السابق عن التصرّف الخروجي بعد الدخول.

(قال) فتبيّن من هذه الأدلّة بطلان دخول المقام تحت قاعدة : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا مناص عن الالتزام بكونه داخلاً تحت قاعدة وجوب ردّ مال الغير إلى مالكه ، والخروج بما أنه محقّق لذلك يكون واجباً (١).

إشكال الأُستاذ

وبالتأمّل في الامور المذكورة يظهر أنّ وجهة النظر في ثلاثةٍ منها إلى إنكار صغرى قاعدة الامتناع ، إلاّ أنه قد وقعت الغفلة عن نكتةٍ هي : إنّ الامتناع عن الانبعاث أو الانزجار قد يكون عقليّاً ، كما أنه قد يكون تكوينياً وقد يكون شرعيّاً ، وامتناع انزجار المكلّف فيما نحن فيه عقلي ، وإلاّ فإنه بعد الدخول في ملك الغير متمكّن من الخروج تكويناً ، كما أنه لا امتناع للانزجار شرعاً ، لأنّ الشارع ليس له هنا أمر ولا نهي ـ كما عليه صاحب (الكفاية) ـ بل الحاكم بالخروج والناهي عن البقاء هو العقل ، فإنه يلزمه بالخروج لكونه أخفّ المحذورين ، فقد وقع هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٨٧ ـ ١٩٣.

١١٩

المكلّف في الامتناع لكنْ بسوء اختياره وعصيانه للنهي السابق ، فالصغرى للقاعدة متحققة ، لأن موضوعها غير منحصر بالامتناع التكويني ليتوجه الامور المذكورة.

ويبقى الأمر الثاني منها وهو اعتبار وجود الملاك للحكم ، سواء وجدت المقدمة أو لا ، لكنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، لأن الحكم بالخروج قبل الدخول غير معقول ، وأمّا بعده ، فلا يوجد حكم شرعي بالخروج ، إذ المفروض أنه ملزم به بحكم العقل ، وإذ لا حكم ولا ملاك له ، فلا يكون المورد من موارد قاعدة الامتناع.

والجواب عن هذا هو :

أمّا إنكاره الملاك ، ففيه : إنّ الخروج من ملك الغير تصرّف فيه ، فهو مبغوض وذو مفسدة بلا ريب ، سواء دخل أو لا ، نعم ، مفسدة الخروج كذلك أقلّ من مفسدة البقاء ، فكانت أقليّة المفسدة هي المنشأ للاّبديّة العقلية.

وأمّا عدم معقولية الخطاب بالخروج قبل الدخول ، ففيه : إنّ ذلك غير معقول لو كان بعنوان «اخرج» ونحوه ، لكنّ النهي ليس كذلك ، بل هو متعلَّق بجميع أنحاء التصرف في ملك الغير ، وهذا صحيح بلا ريب ، والتصرّف الخروجي بعد الدخول أحد المصاديق له ، فلا موضوعية للخروج ، بل إنه مأمور به ومنهي عن البقاء لكونه أحد مصاديق الغصب.

والقول بعدم معقولية الحكم بالخروج قبل الدخول لكونه غير مقدورٍ للمكلَّف ، يردّه : أنه مقدورٌ له بالواسطة ، وهذا كافٍ لمعقولية الخطاب ، فإنّ هذا المكلّف قادر على ترك التصرف الخروجي بترك الدخول في ملك الغير ... فالخطاب بالنهي عن هذا التصرف معقول.

وتلخّص : عدم تمامية شيء من وجوه الميرزا رحمه‌الله ، بل المورد من

١٢٠