مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

فقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم » (١).

وهو كلام صريح في الأصل المذكور.

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة

ولكنّ المتأمّل في تلك النصوص والقرائن الحافّة بها يجد أن هذا النهي والتحريم يختصّان بالأسرار الفرديّة التي لا تمتّ إلى المجتمع بصلة ، ولا ترتبط بمصالح الاُمّة بوشيجة.

فعندما يتعلّق الأمر بالمصالح العامّة لا يمكن التغاضي عن أسرار الفرد ، وقضاياه ، إذ من البديهيّ في تلك الصورة ـ أن تترجّح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة ، وإلاّ تعرّضت الاُمّة لأخطار تهدّد كيانها ، وتنذر وجودها بالفناء والدمار.

إنّ التشريع الإسلاميّ الذي ينهي بشدّة عن محاولة الاطّلاع على دخائل الناس وأسرارهم الشخصيّة ـ فيما لو كانت تخصّ بهم ـ ويحرّم اغتياب الأفراد لا يمنع من التعرّف على الاُمور التي ترتبط بمصلحة الجماعة ، بل يسمح للدولة الإسلاميّة بجمع المعلومات الصحيحة المفيدة لوضعها تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ ، حتّى يتحرّك على ضوئها ، فيتعرّف على المتآمرين ، ويبطل خططهم ومؤامراتهم حفاظاً على مصلحة الاُمّة وإبقاء على وجودها ، وكيانها من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، وهذا أمر يؤيّده العقل السليم وتقبله الفطرة ، وتدعو إليه الحكمة ، ويقتضيه التدبير الصحيح ، والسياسة الرشيدة.

الاستخبارات الراهنة مرفوضة

على أنّ من الطبيعيّ أن يتصوّر القارئ الكريم بمجرّد سماعه لكلمة

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٥ : ٢١٤ نقلا عن ثواب الأعمال : ٢١٦.

٥٤١

( الاستخبارات والأمن العامّ ) تلك الأجهزة الجهنّمية المخيفة التي تعتمد عليها الحكومات الطاغوتيّة الحاضرة في ملاحقة الشعوب ، وقهر إرادتها ، وقمع حركتها.

أقول من الطبيعيّ أن تتداعى في ذهن القارئ هذه الصورة القائمة ، وهذا المعنى الأسود ، لأنّ شعوبنا المظلومة قد اعتادت على مثل هذا التصوّر عن جهاز المخابرات وأعمال التجسّس ، ولكنّ الحقيقة أنّ ما نقصده من جهاز الاستخبارات يختلف تماماً عن هذه الصورة.

فجهاز الاستخبارات ـ في الحكومة ـ ليس لقمع الشعوب المظلومة المضطهدة وخنق صرخاتها ، وتحطيم حركاتها العادلة وليس لتحديد نموّ الاُمم ورشدها العقليّ والعلميّ ، وإخضاعها لسياسة معينة حتّى لو كانت خاطئة ، وجائرة ... بل هو لأهداف وطنيّة عادلة نشير إليها فيما يلي :

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة

إنّ أهداف جهاز الاستخبارات والأمن العامّ ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ تتلخّص في ثلاثة وظائف واُمور أساسيّة تقتضيها مصلحة الاُمّة وهي :

١ / مراقبة نشاط الموظّفين في الحكومة الإسلاميّة ، ليقوموا بمسؤوليّاتهم الإداريّة المناطة إليهم بأمانة وانضباط.

٢ / مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء بهدف إفشال أي عدوان محتمل وإحباط أي تحرّش في اللحظة المناسبة.

٣ / مراقبة تحرّكات ونشاطات الأجانب ورصد تسلّلهم أو نفوذهم في البلاد الإسلاميّة للحيلولة دون قيامهم بأيّة ( مؤامرة ) تسيء إلى أمن البلاد ، من إيجاد الأحزاب الداخليّة ، والسريّة المعادية للاُمّة أو بثّ الشائعات المضرّة بالأمن ، والمخلّة بعزائم الناس ، وإرادة الجماهير ، فإنّ للمخابرات وجهاز الأمن العامّ ـ في الدولة الإسلاميّة ـ أن تقوم بعمل تجسّسيّ دقيق في هذه المجالات والأبعاد.

٥٤٢

وإليك فيما يلي تفصيل هذه الأقسام الثلاثة وأدلّتها الإسلاميّة :

١. مراقبة الموظّفين

إنّ أوّل ما تهدفه الحكومة الإسلاميّة هو خدمة الاُمّة ، وتنفيذ الأحكام الإسلاميّة بأمانة ودقّة ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بأن يقوم جميع الموظفين ـ في هذه الحكومة ـ بواجباتهم ووظائفهم الإداريّة بأمانة وصدق وانضباط ، ولتحقيق هذا الأمر يحاول الإسلام في الدرجة الاُولى أن يختار للمناصب والوظائف الحكومية كلّ أمين صادق من الموظّفين كمّا مرّ عليك سابقاً ولكنّ الدولة الإسلاميّة لا تكتفي بالاختيار الحسن لموظّفيها ، وتتركهم دون مراقبة ونظارة ، بل تنصب من تراقبهم وترصد أعمالهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم دون تلكّؤ ويؤدّوا واجباتهم الإداريّة والحكوميّة دون تقصير فها هو الإمام الرضا عليه‌السلام يقول : « كان رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بعث جيشاً فأمّهُم أمير بعث معهُ من ثُقاته من يتجسّس لهُ خبرهُ » (١).

وفي عهده المعروف لمالك الأشتر يوصي الإمام عليّ مالكاً بإرسال من يراقب عمّاله ، ويرفع إليه عنهم الأخبار والتقارير فيقول : « وابعث العُيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنّ تعاهُدك في السرّ لاُمُورهم حدوة لهُم على استعمال الأمانة والرفق بالرّعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهُم بسط يدهُ إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبارُ عُيُونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقُوبة في بدنه وأخذتهُ بما أصاب من عمله ثُمّ نصبتهُ بمقام المذلّة ، ووسمتهُ بالخيانة ، وقلّدتهُ عار التّهمة » (٢).

وهكذا يؤكّد الإمام عليّ عليه‌السلام على ضرورة تعيين جهاز يراقب أعمال الموظّفين وأصحاب المناصب الحكوميّة ، ثمّ يؤكّد عليه أن يختار لهذا الجهاز من يثق بأخباره من الأفراد ثقة مطلقة إلى درجة يكتفي بأخبارهم إذا أخبروا عن خيانة أو تقصير ، وهذا يعني أن يكون أعضاء جهاز ( الاستخبارات ) من الرجال الصالحين إلى درجة يثق الحاكم

__________________

(١) قرب الاسناد : ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم ٥٣.

٥٤٣

الإسلاميّ بأخبارهم.

ومن المعلوم أنّ جهازاً من هذا النوع وأعضاء من هذا القبيل لا يمكن أن يتحوّل إلى جهاز جهنّمي على غرار ما يوجد الآن في البلاد الإسلاميّة في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة الراهنة التي تتحكّم في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم وتتجاوز على حقوقهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض أو الشكوى.

ويبدو أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام نفسه كان له عيون ورجال يتجسّسون له على ولاته وعمّاله في مختلف البلاد حيث إنّنا نجده يعاتب بعض ولاته على اُمور غير لائقة بهم ـ كولاة وحكّام إسلاميّين ـ صدرت عنهم ، ونرى نموذج ذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة ، وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب الإمام عليه‌السلام إليه : « أمّا بعدُ ، يا ابن حُنيف ، فقد بلغني أنّ رجُلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ ، وتُنقلُ إليك الجفانُ ، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قوم عائلُهُم مجفُوّ وغنيّهُم مدعُوّ » (١).

وتفيد كلمة ( بلغني ) أن هناك من كان يبلّغ هذه المعلومات عن الولاة إلى الإمام عليّ ... كيف لا وهو يأمر مالكاً أن يتّخذ مثل هؤلاء النظّار والمفتّشين على عمّاله ، وقد دعا بعض علماء الإسلام إلى ذلك أيضاً ، قال أبو يوسف في كتاب الخراج يوصي حكام زمانه : ( وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمّال وما عملوا به البلاد ... وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك ... فحرام عليك استعماله ) (٢).

وربما كان الإمام عليّ عليه‌السلام بنفسه يقوم بالسؤال عن أعمال الولاة ، أو يأمر ولاته بأن يراقبوا أعمال الموظّفين من جانبهم.

فقد كتب إلى كعب بن مالك وهو عامله : « أمّا بعدُ فاستخلف على عملك

__________________

(١) نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم ٤٥.

(٢) الخراج لأبي يوسف : ١٢٨.

٥٤٤

وأخرج طائفةً من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السّواد كورةً بعد كورةً فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم » (١).

٢. مراقبة تحرّّكات العدو العسكريّة

رغم أنّ التكتيكات العسكريّة ، والتمرينات النظاميّة اليوم تختلف عمّا كانت عليه بالأمس اختلافاً شاسعاً ، ولكنّ عامل ( التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة والتعرّف على أسراره ومواقعه النظاميّة ، وفنونه القتاليّة ، ومدى استعداداته ، وحجم قواه ومعدّاته وعدد أفراده وآليّاته ) لا يزال منذ القديم وإلى الآن يحتفظ بأهمّيته القصوى ، ويعتبر ـ اليوم ـ من أفضل الأسباب والعلل لنجاح الجيوش أو سقوطها وفشلها.

ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المسلمين ـ قادة وحكومات ـ منذ القدم غير أنّها اتّخذت صفة العلم والتخصّص في العصور الحاضرة فصار ( فن التجسّس ) علماً يدرّس في الجامعات يتخصّص فيها الأفراد كما يتخصّصون في الفنون الاُخرى إلى درجة صارت القوى العظمى ـ اليوم ـ تجعل انتصاراتها ونجاحاتها مرهونة بمدى نجاحها وتفوّقها في ميدان التجسّس على العدو ، فراحت تنفق الأموال الطائلة على جهاز الاستخبارات ، وتدفع بجواسيسها المتمرّسين في شتّى أنحاء العالم ليجمعوا لها الأخبار ، ويرفعوا إليها التقارير ، ويتوسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة للحصول على أدقّ المعلومات العسكريّة ونقلها إلى مراكزهم بشتّى الوسائل والحيل.

وربّما تسلّل هؤلاء الجواسيس إلى السلطات في الدول الاُخرى ، إمّا بأنفسهم أو بواسطة من يدسّونهم في تلك الدوائر من رجال أو نساء بمختلف الحيل والسبل والحجج.

وربّما تسابق الجواسيس سباقاً عنيفاً ، ودمويّاً في تحصيل المعلومات ، وأدّى الأمر في بعض الأحيان إلى المخاطرة بالنفس والمغامرة بالحياة كلّ ذلك انطلاقاً من أهمّية

__________________

(١) الخراج لأبي يوسف : ١٢٨.

٥٤٥

العمل التجسّسي في حياة وبقاء الشعوب والحكومات.

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ

لقد استخدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ تشكيله للدولة الإسلاميّة نظام التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة حتّى أنّ كثيراً من نجاحاته وانتصاراته العسكريّة والسياسيّة ترجع إلى اهتمامه البالغ بالمعلومات التي كانت ترد إليه من الأعداء عن طريق ( عيونه ) وجواسيسه الذين كان يبثّهم في كلّ مكان ، فيرفعون إليه ما يشاهدونه من تحرّكات العدوّ ، ويخبرونه بأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يباغتهم وهم في عقر دارهم ويفاجئهم وهم نيّام راقدون ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) ( العاديات : ١ ـ ٢ ).

فقد وجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى منطقة وقال له : « اكمن النّهار ، وسر اللّيل ولا تُفارقك العينُ ( أي الجاسوس ) ».

فانتهى عليه‌السلام إلى ما أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسار إليهم ، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم ، فأنزل الله سبحانه على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) (١).

وإليك فيما يأتي نماذج من هذا الأمر :

١. في حرب بدر خرج النبيّ مع أحد أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحاول التعرّف على أخبار قريش فسأله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ : انّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.

٢. بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام مع بعض الأصحاب إلى ماء بدر يلتمسون

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٦٥٢.

٥٤٦

الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لقريش فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله قائم يصّلي فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلمّا بالغوا في ضربهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما ، وركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسجد سجدتيه وقال : « والله إنّهُما لقُريش ، أخبراني عن قُريش » ؟ قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كم القُومُ » ؟ قالا : كثير ، قال : « ما عدّتُهُم » ؟ قالا : لا ندري ، قال : « كم ينحرُون كُلّ يوم » ؟ قالا : يوما تسعاً ، ويوما عشراً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « القومُ فيما بين التسع مئة ، والألف ».

ثمّ قال لهما : « فمن فيهم من أشراف قُريش » ؟ قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل و ... فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الناس فقال : « هذه مكّةُ قد ألقت إليكُم أفلاذ كبدها » (١).

٣. كان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ( الذين اُرسلا من جانب النبيّ للتجسّس على قريش ) قد مضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء ثمّ أخذا شناً لهما يستقيان فيه ، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء وهما يتلازمان ويتعاركان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنّما تأتي العير غداً أو بعد غد ، فاعمل لهم ثمّ اقضيك الذي لك ، قال مجدي : صدقت ثمّ خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبراه بما سمعا (٢).

هكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستطلع أخبار القوم ويتجسّس عليهم ويبطل مؤامراتهم في اللحظة المناسبة.

وقد أخمد مؤامرة بني سليم وقبيلة قطوان بما حصل عليه من معلومات ساعدته على مباغتتهم وإفشالهم.

__________________

(١ و ٢) سيرة ابن هشام ١ : ٦١٦ ، ٦١٧.

٥٤٧

ثمّ إنّنا نلاحظ كيف استفاد عيون الرسول من تقصّي الخبر ، مع الإستفادة الكاملة من قاعدة التستّر والسريّة وهو أمر كان يهتمّ به الرسول في كلّ عمليّاته الاستطلاعيّة ، فها هو عندما يبعث أحد أصحابه للاستطلاع يحيط مهمّته بكامل السريّة والتحوّط وإليك القصّة :

بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : « إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتّى تنزل نخلةً بين مكّة والطّائف فترصُد بها قُريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ».

فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال : سمعاً وطاعة (١).

ألا ترى كيف أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرض على مبعوثه أن لا يطلع على الكتاب الذي أعطاه خوف أن يتسرّب الخبر إلى الناس فيتسرّب منهم إلى قريش وتفشل خطة الرسول.

٤. لقد كانت معركة أحد من المعارك الصعبة التي فقد فيها الرسول الأكرم ٧٠ شخصا من أصحابه بمن فيهم حمزة أسد الله وأسد رسوله ولكن لو لم يكن يعرف الرسول ـ قبل ذلك ـ أوضاع العدو لفاقت الخسائر ما وقع.

فإنّ قريشا لمّا خرجت وهم ثلاثة آلاف ومعهم عدة وسلاح كثير وقادوا مائتي فرس وكان فيهم سبعمائة دارع وأجمعوا المسير كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله يخبره « أنّ قريشا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه وقد توجّهوا إليك وقادوا مائتي فرس ، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير واوعبوا من السلاح » فقدم الغفاري إلى المدينة فوجد النبيّ بقباء وهي قرية متّصلة بالمدينة فدفع إليه الكتاب فقرأه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ : ٦٠١.

٥٤٨

عليه اُبيّ بن كعب واستكتم اُبيّاً ما فيه (١).

٥. تحالفت قريش واليهود وغطفان في حرب الخندق ضد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاروا كتلة واحدة على الإسلام والمسلمين ، فاتّخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سياسة التفرقة بينهم فبعث نعيم ابن مسعود ، الذي قام بدوره بأحسن صورة ، التي تعد فريدة في نوعها وإليك القصّة :

جاء نعيم بن مسعود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أنت فينا رجُل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خُدعة ».

فخرج نعيم حتّى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهليّة فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم ، وخاصّة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وانّ قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه ، فقالوا له : قد أشرت بالرأي.

ثمّ أتى إلى أبي سفيان ورجال قريش وقال : إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوا مع محمّد وتعهّدوا له بأن يسلّموا إليه رجالاً من قريش ليعفو عنهم ثمّ خرج إلى غطفان وهم عشيرته وحذّرهم وقال لهم مثل ما قال لقريش.

وهكذا ألقى الحيرة والخوف وعدم الثقة بين قريش وغطفان واليهود المتحالفين ضدّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلمّا اقترب موعد الحرب ضد النبيّ طلبت اليهود من قريش وغطفان رجالاً كرهائن عندهم ، قالت قريش وغطفان : إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا

__________________

(١) مغازي الواقديّ ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥٤٩

فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ... (١) وهكذا انفرط عقد التحالف القرشيّ اليهوديّ الغطفانيّ بفعل نعيم وتخذيله والدور الذي لعبه كما يلعبه أي جاسوس يعمل لصالح جهة معيّنة ، وينفّذ تكتيك التفرقة بين قوى العدو ببث الشائعات والتخويف.

٦. وفي نفس الواقعة ( أي واقعة الخندق ) لمّا انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرّق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وقال له : يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدّثن شيئاً حتّى تأتينا.

يقول : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه ؟

قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت ، قال : فلان ابن فلان.

[ وفي شرح المواهب : فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده ، فقلت من أنت ؟ قال معاوية بن أبي سفيان ثمّ ضربت بيدي على يد الذي كان على شمالي فقلت من أنت ؟ قال : عمرو بن العاص ] (٢).

ثمّ راح أبو سفيان يتحدّث عن ما لحقهم من الخلاف والبلاء ومقتل عمرو بن ود وقال ارتحلوا فانّي مرتحل.

يقول حذيفة : فوالله لولا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتلته بسهم.

ثمّ رجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بعزم قريش على الانسحاب من هذه المعركة والفرار.

وهذا يكشف عن أنّ هذا النوع من العمل كان ابتكاراً من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعملاً

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٢٩ ، ومغازي الواقديّ : ٤٨٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٣٢ ومغازي الواقديّ : ٤٨٢.

٥٥٠

بديعاً في ذلك العصر ، وهو ينبئ عن نبوغ الرجل الذي اختاره النبيّ وحسن اختياره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرصه على العمل الذي كلّف به.

وفي هذا الصدد قال نابليون : إنّ وجود رجل واحد مناسب وذكيّ من الاستخبارات خير من عشرين ألف مقاتل في ميدان الحرب.

٧. بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهوديّ ، وكان بيته عند جاسوم ( موضع بالمدينة ) يثبّطون الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك فبعث إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة.

ومن المعلوم أنّ هناك من كان يترصّد الأخبار لرسول الله ويبلغها له ، إذ من المعلوم أنّ العمليات التي كان يقوم بها اليهود والمنافقون وهم بمثابة الطابور الخامس ، كانت في غاية السريّة ، فلا بدّ أن يكون هناك من كان يتجسّس عليهم ويسترقّ أخبارهم ويعطيها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٨. في وقعة خيبر لمّا كان في إحدى الليالي قبضت الدوريّة العسكريّة الإسلاميّة على رجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر أن يضرب عنقه ، فقال : اذهب بي إلى نبيّكم حتّى اُكلّمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجده يصلّي فسمع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلام عمر ، فسلّم وأدخله عليه فدخل باليهوديّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لليهودي : « ما وراءُك » ؟ فقال : تؤمنّي يا أبا القاسم ، فقال : « نعم » ، قال : خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال فأين يذهبون ؟ قال : إلى الشقّ يجعلون فيه ذراريهم ، ويتهيّأون للقتال في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبّابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله ( قال رسول الله : « إنشاء الله » قال اليهوديّ : إنشاء الله ) أوقفتك عليه فإنّه لا يعرفه غيري ، واُخرى ، قيل ما هي ، قال : يستخرج المنجنيق ، وينصب على الشقّ ويدخل الرجال تحت الدبّابات فيحفر الحصن فتفتحه من يومك ، وكذا تفعل بحصون

٥٥١

الكتيبة.

ثمّ قال : يا أبا القاسم : احقن دمي ، قال : « أنت آمن » قال : ولي زوجة فهبها لي ، قال : « هي لك ».

ثمّ دعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام فقال : انظرني أيّاماً (١).

٩. بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عباد بن بشر في فوارس طليعة فأخذ عيناً من يهود من أشجع فقال : من أنت ، قال : باغ ابتغي أبعرة ضلّت لي ، قال له عباد : ألك علم بخيبر ؟ ، قال : عهدي بها حديث فيم تسألني عنه ، قال : عن اليهود ، قال : نعم.

( ثمّ أخبر عن اليهود بأخبار كاذبة بقصد إرعاب المسلمين ) فعند ذلك رفع عباد ابن بشر السوط فضربه ضربات وقال : ما أنت إلاّ عين لهم ، أصدقني والاّ ضربتُ عنقك. فقال الإعرابي : أتؤمنني على أن أصدقك ، قال عباد : نعم ، فقال الإعرابي : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود إلى آخر القصة (٢).

١٠. وفي اُحد بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينين له انساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول الله فأخبراه بمكان قريش وأنّ مع قريش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وغير ذلك (٣).

١١. وفي غزوة الحديبيّة بعث رسول الله بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال : إنّي تركت كعباً وعامراً قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً وهم قاتلوك أو مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت ، فقال : « روحُوا » إلى آخر القصّة (٤).

__________________

(١) المغازي ٢ : ٦٤٧ ـ ٦٤٨ ، السيرة الحلبيّة ٣ : ٤١.

(٢) المغازي للواقديّ ٢ : ٦٤٠ ـ ٦٤٢.

(٣) المغازي ١ : ٢٠٦.

(٤) مجمع البيان ٩ : ١١٧.

٥٥٢

ولعلّ أوضح نصّ في هذا المجال هو ما وصّى به الإمام عليّ عليه‌السلام جيشاً بعثه إلى العدو حيث قال : « واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلاّ يأتيكم العدّو من مكان مخافةً أو أمن واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم ... وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفةً [ أي مثل كفة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم ] ولا تذوقوا النوّم إلاّ غراراً أو مضمضةً [ أي ينام ثمّ يستيقظ ثمّ ينام ] » (١).

وهو موقف اتّخذه الإمام عليّ عليه‌السلام عمليّاً إذ كتب إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة إذ قال : « أمّا بعد فإنّ عيني [ أي رقيبي الذي يأتيني بالأخبار ] بالمغرب [ أي الأقاليم الغربيّة ] كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام ، العمي القلوب الصمّ الأسماع ، الكمه الأبصار الّذين يلبسون الحقّ بالباطل ... الخ ».

هذه بعض النماذج من الأعمال التجسّسية التي كان يأمر بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غيره من قادة الإسلام في المجال العسكريّ ، لمعرفة التحركات المعادية للحكومة الإسلاميّة.

كلّ ذلك يؤكّد موقف الإسلام من جهاز الاستخبارات العسكريّة الذي يضمن جمع المعلومات الدقيقة حول العدو ، ويمكّن القيادة والحكومة من اتّخاذ الموقف المناسب.

* * *

٣. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم

إنّ الوظيفة الثالثة ، وبالأحرى الجانب الأهمّ من عمل الأمن العامّ والاستخبارات هو مراقبة نشاطات الأجانب الأعداء في داخل البلاد الإسلاميّة ورصد تحرّكاتهم ونفوذهم لمنع ظهور الطابور الخامس الذي يرجع إليه السبب الأكبر في سقوط الدول

__________________

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٣٣.

٥٥٣

والحكومات ولقد سلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا المسلك وتمكّن بذلك أن يمنع من محاولات أعداءه العدائيّة ، ويبطل خططهم في الداخل.

إنّ حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبيّن أنّه كان يسعى دوماً إلى أن يدفع العدو إلى الخضوع للحقّ ، ولم يكن يهدف الانتقام والثأر وإراقة الدماء.

ففي المعارك والغزوات التي شارك فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعث سريّة لمقابلة العدو كان يهدف بالدرجة الاُولى إلى تفريق جمعهم ، وتشتيت صفّهم لأنّه كان يعلم بأنّه لو ارتفعت الموانع عن طريق الإسلام لاستطاع الدين بمنطقه البيّن ونهجه القويم أن يشقّ طريقه إلى قلوب الناس.

فإذا تفرّق جمع العدو ، ويئس من السيطرة على الإسلام ، وعاد الناس إلى فطرتهم ورشدهم ، استطاع الدين أن يتسرّب إلى قلوبهم ، وجذبهم إلى صفّه ، وهذا هو أمر تدلّ عليه الأحداث التاريخيّة فإنّ كثيراً من الشعوب والأقوام التي هزمت أمام القوّة الإسلاميّة العسكريّة ، عادت إلى رشدها وراحت تفكّر في قبول الدين واعتناق تعاليمه ومفاهيمه.

وقد ظهر هذا الأمر في فتح مكّة بأجلى مظاهره.

لقد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنّه لو فتح مكّة ونزع السلاح من العدو ، وتهيّأت البيئة المساعدة للتفكير والتدبّر فلن يمضي زمان كبير إلاّ ويستقبل الناس بقلوبهم وعقولهم دعوة الإسلام ، ولذلك كان يتحتّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينتصر على العدو ، ويتغلّب عليه ولكن دون إبادته وتدميره وإفنائه ... ما دام حقن الدماء ممكناً. ولتحقيق هذا الهدف المقدّس ( الغلبة على العدو دون إراقة الدماء ) كان يتعيّن مباغتة الطرف الآخر ومفاجأته قبل أن يفكّر في الدفاع عن نفسه ، وقبل أن يقوم بأيّ عمل مضادّ ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ما كان ليتحقّق إلاّ بأن تبقى جميع أسرار السياسة الإسلاميّة مصونة محفوظة لا يعلم بها الطرف الآخر ، ولا يقع في يده شيء منها فلا يعلم العدو مثلا هل يريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهاجمتهم أوّلاً ، وعلى فرض عرف العدو ذلك ، فلا يعرف متى وكيف ومن أين ، كلّ ذلك

٥٥٤

أسرار يجب أن تبقى مصانة ومحفوظة لا يدري بها العدو ، ولهذا كان يتعيّن على النبيّ أن يلاحظ عملاء العدو في الداخل لكي لا يسرّبوا أي خبر من داخل البلاد إلى العدو ولا يخبروه بخبر يفوّت على النبيّ مقاصده.

ومن هنا اتّخذ النبيّ الاجراءات الفوريّة عندما بلغه أنّ هناك من أفشى خبر سفره وتوجّهه إلى مكّة لفتحها ، فلمّا أجمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش بخبرهم بعزم الرسول ، ثمّ أعطى الكتاب إلى امرأة فجعلته في شعر رأسها ، فأتى الخبر إلى رسول الله من السماء فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام فخرجا حتّى أدركاها في موضع بين مكّة والمدينة فأنزلاها من رحلها ، وفتّشا الرحل فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ بن أبي طالب : « إنّي أحلفُ بالله ما كذب رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا كُذّبنا ولتُخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك ».

فلمّا رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه. فأتى به إلى رسول الله وعاتب النبيّ حاطب بشدّة (١).

وفي ذلك نزلت الآيات الاُول من سورة الممتحنة ابتداء من قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ... الخ ) ( الممتحنة : ١ ).

وهكذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبط الأعمال التجسّسيّة التي كان يقوم بها العدوّ في عمق بلاده.

وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى ضرورة وجود جهاز يكشف مؤامرات العدو في الداخل.

يقول القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج :

( وينبغي للإمام أن تكون له مسالح ( مخافر حدوديّة ) على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتّشون من مرّ بهم من التجّار فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد ، ومن كان معه كتب قرئت كتبه فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٩٩.

٥٥٥

أخذ الذي اُصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه ) (١).

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ

إنّ الإسلام أمر بالتشدّد مع اُولئك النفر من المسلمين الذين يتجسّسون لصالح الأجانب ، ففي الإرشاد للشيخ الأجلّ المفيد :

لمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين عليه‌السلام وبيعة الناس ابنه الحسن عليه‌السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور فعرف ذلك الحسن عليه‌السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه وكتب الحسن عليه‌السلام إلى معاوية : « أمّا بعدُ فإنّك دسست الرّجال للاحتيال والاغتيال وأصدرت العيُون كأنّك تُحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتُوقعهُ إنشاء الله تعالى » (٢).

كما أمر بالتشديد مع أهل الذمّة الذين يتجسّسون في الداخل على المسلمين لصالح الأعداء والأجانب ويعتبر ذلك نقضاً للذمّة.

قال المحقّق الحليّ في الشرائع في باب شرائط أهل الذمّة :

( ... أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين ( أي جاسوسهم ) والتجسّس لهم فإن فعلوا من ذلك شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة كان نقضاً ) (٣).

وقال العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء في ما يشترط على أهل الذمّة :

__________________

(١) كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفّى ( ١٨٢ ه‍ ) طبعة القاهرة عام (١٣٠٣).

(٢) الإرشاد : ١٩٢ للمفيد الفقيه المؤرّخ محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى ( ٤١٣ ه‍ ).

(٣) شرائع الإسلام كتاب الجهاد : ٣٢٩.

٥٥٦

( وأن لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم ولا يدلّوا على عوراتهم فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحلّ دمه وماله وبرئت منه ذمّة الله ورسوله والمؤمنين ) (١).

وكتب القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج يقول :

( سألت عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم ، وإن كانوا من الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة ) (٢).

وهكذا يكون من وظائف الحكومة الإسلاميّة تشكيل جهاز قويّ مجهّز بكلّ الوسائل القويّة للتجسّس في الإطارات المذكورة التي مرّ عليك ذكرها.

على أنّ الإسلام ـ كعادته وكما أسلفنا ـ تعرّض في هذه المسألة لجوهر الأمر ولم يدخل في تفصيلاته وشكليّاته فإنّ كيفيّة التجسّس ونوع الرموز والأجهزة متروكة للزمن على أن تكون في إطار التقوى والأخلاق وحسب الشروط التي مرّت.

وجملة القول أنّ ما نفهمه من حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته السياسيّة هو الاهتمام الشديد الذي كان يبديه بمسألة الاستخبارات.

فإنّه وإن لم يكن في زمن النبيّ تشكيلات للاستخبارات على غرار ما يوجد الآن في العالم الحديث ولكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ـ مضافا إلى اتّخاذ العيون ـ قد ربّى المسلمين تربية سياسيّة رائعة بحيث أصبح كلّ مسلم يرى نفسه مسؤولا عن الأمن فكانوا يرفعون إليه فوراً كلّ خبر يرتبط بهذا الأمر ، فها هو زيد بن أرقم ـ وهو غلام يافع ـ عندما يسمع أحد قادة الطابور الخامس ( عبد الله بن اُبي ) في غزوة بني المصطلق وهو يقول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ويعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين ..

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٤٢.

(٢) كتاب الخراج : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٥٧

ثمّ أسرع إلى النبيّ وأخبره بالأمر (١).

فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تربّي المسلمين بهذه التربية ، ليعتبر كلّ واحد منهم نفسه مسؤولاً عن أمن البلاد دفعاً للفساد ، ونهياً عن المنكر ، وإن كان ذلك لا يغني عن تأسيس جهاز مستقلّ لذلك.

وأخيراً نكرّر القول بأنّه يجب أن يكون جهاز الاستخبارات لصالح الإسلام والمسلمين مائة بالمائة ، ولا يكون على غرار ما في الدول المعاصرة ، إذ ليس ذاك إلاّ للحفاظ على عروش الاُمراء والرؤساء والملوك ، ولذلك فهو لا يتجسّس لصالح الاُمّة بل يتجسّس على الاُمّة لإخماد صوتها وإكبات حريّاتها وتحطيم مقاومتها. وإخضاعها للسياسات الاستعماريّة ، والمطامع الأجنبيّة.

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٢٩٤.

٥٥٨

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٧

الحكومة الإسلاميّة

والنظام العسكريّ

قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة

إنّ قوام كلّ اُمّة من الاُمم يرتبط بمدى قدرتها على الدفاع عن وجودها ، وحماية شخصيّتها اتّجاه الأعداء ، فبقدر ما تكون تلك الاُمّة مجهّزة بالعدد والعدّة ، تستطيع أن تدفع عن نفسها أي عدوان وتحافظ على كيانها في سياج من الأمن والدعة والاسقرار ، وبقدر ما تكون ضعيفة في هذه الناحية تكون معرّضة للزوال والاندحار أمام هجمات الأعداء ، ومن هنا أنشأت الجيوش ، واُوجدت العساكر الجرّارة ... وظهرت إلى الوجود الأساطيل البحريّة ، ووسائل الحرب ... .

ولقد صارت هذه الجيوش والعساكر شيئاً فشيئاً وسيلة بأيدي الطغاة والطامعين فغزوا بها البلاد وأغاروا بها على المدن ... فكانت الوقائع الدامية ، والحروب المريعة ، والمجازر الفضيعة التي صبغت التاريخ البشريّ بلون الدم القاني.

٥٥٩

الجيش في خدمة الدين والشعب

إنّ الجيش في الحكومة الإسلاميّة ليس كالجيوش في الدول الامبرياليّة الشرقيّة والغربيّة لا يكون الهدف منها إلاّ توسعة النفوذ ، والتجاوز على الحقوق والإغارة على أموال الآخرين وثرواتهم.

كما أنّه ليس كالجيوش في العالم الثالث حيث لا يكون الهدف منها إلاّ الحفاظ على سيطرة السلطات الديكتاتوريّة العميلة هناك وسلب الحريّات ، وقمع المعارضة ، وضرب الانتفاضات الشعبيّة ... وبالتالي حماية المصالح الأجنبيّة ، بل الجيش في الحكومة الإسلاميّة إنّما هو للمحافظة على ثغور البلاد الإسلاميّة ، واستقلال البلاد ... وما فيها من ثروات وشعوب ، وعلى ذلك يتّصف الجيش الإسلاميّ بصفة الحافظ الصائن لا الغازي المهاجم ، المحرّر لا المعتدي ... والصديق في جانب الشعب ، لا القوّة القاهرة له ، العدوة لأبنائه.

ولقد كان هذا الأمر موضع اهتمام الإسلام منذ طلوعه وبزوغه ، فإنّ الدين الذي جاء ليكتسح الظلمات وينقذ البشريّة من براثن الاستعباد والاستثمار كان من الطبيعيّ أن يواجه معارضة ممّن بنوا حياتهم على استعباد الإنسان واستثماره واستغلاله ، ومن هنا كان طبيعيّاً ـ أيضاً ـ أن يعدّ الإسلام عدّته لمواجهة أعدائه ومعارضيه الذين راحوا يكيدون له أشدّ الكيد ، ويتربّصون به الدوائر.

إنّ من يلاحظ الحياة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وما بعده يجد نشاطاً عسكريّاً فريداً من نوعه ، ومن يلاحظ التعاليم الإسلاميّة ذاتها يجد نظاماً عسكريّاً فريداً أيضاً ، فقد تضمّن القرآن الكريم تعاليم راقية ومتقدّمة جداً في الشؤون العسكريّة وتوجيهات لا سابق لها في الفنون النظاميّة.

ثم إنّ من يلاحظ النصوص الإسلاميّة يجدها تحثّ المسلمين حثّاً بليغاً وأكيداً على تعلم الرماية والتدريب على السلاح ومزاولة التمرينات العسكريّة استعداداً لكل

٥٦٠