مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

وأمّا ما يتعلّق بالحقوق والقوانين الدوليّة بعامّتها وخاصّتها فسيوافيك الحديث عنها في بحث خاصّ تحت عنوان : « السياسة الخارجيّة في الحكومة الإسلاميّة ».

إنّ من له أدنى إلمام بالفقه الإسلاميّ يجده غنيّاً عن أي تشريع بشريّ وأيّ قانون وضعيّ.

ولو أنّ المسلمين ـ اليوم ـ أخذوا بالتشريع الإسلاميّ كاملاً ، وفرّعوا الفروع ، واجتهدوا على أساسه لوجدوه ووجدوا أنفسهم في غنى عن أي اقتباس من هنا أو هناك ، وللتأكّد من هذه الحقيقة الساطعة لاحظ ـ أيّها القارئ الكريم ـ كتاب « تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة » في تمام الفقه ، لآية الله العلاّمة الحليّ المولود عام ( ٦٤٨ ه‍ ) والمتوفّى عام ( ٧٢٦ ه‍ ) والذي اقتصر فيه المؤلّف على مجرّد الفتوى ، وترك الاستدلال ولكنّه استوعب الفروع والجزئيّات حتّى أنّه اُحصيت مسائله فبلغت أربعين ألف مسألة ، رتّبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد للعبادات والمعاملات والإيقاعات والأحكام (١).

ولهذا فإنّ الحضارة الغربيّة لمّا داهمت المسلمين لم تخلب عقولهم من الناحية الحقوقيّة ، والقانونيّة ، وإن خلبتهم من ناحية التكنولوجيا والصناعة وذلك لما كان يتمتّع به المسلمون من الغنى الفقهيّ بفضل التشريع الإسلاميّ الواسع الأطراف من جانب ، وما كانوا يعانون منه من الفقر في الجانب التكنولوجيّ حيث أنّهم كانوا قد تركوا الغور في العلوم الطبيعيّة منذ زمن طويل ، وإن كان أسلافهم قد بدأوها وأبدعوا فيها ، وأتوا بابتكارات لا سابق لها.

شموليّة الحقوق الإسلاميّة

يبقى أن نعرف أنّ الحقوق التي جاء بها الإسلام لا تقتصر على الاُمور المذكورة في الكتب الفقهيّة ، بل هناك حقوق أخلاقيّة بين الأفراد والأفراد ، بل وبين الإنسان

__________________

(١) لاحظ كتاب الذريعة ٣ : ٣٧٨.

٤٦١

والحيوان (١) ، والإنسان والأشياء الاُخرى (٢) في عالم الطبيعة ، وهي تعكس دقّة الإسلام وعمق نظره ، وسعة اُفقه التشريعيّ ، وشموليّة بعده الفقهيّ وتفوّقه على ما يسمى الآن بميثاق حقوق الإنسان وغيره الرائج في الغرب.

وبهذا يكون الإسلام قد امتاز على القوانين الوضعيّة بميزة اُخرى مضافاً إلى الميزات السابقة المذكورة ، وهي ميزة الشموليّة.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أردت أن تقف على الحقوق الإسلاميّة بشكل إجماليّ فعليك بمراجعة الكتب والرسائل التالية :

١. رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما‌السلام.

٢. رسالة الحقوق للشيخ الصدوق المعروفة برسالة مصادقة الإخوان وقد طبعت.

٣. الحقوق للعلاّمة السيد صدر الدين المتوفّى بقم عام ( ١٣٧٣ ه‍ ) أورد فيه اثنين وستّين حقّاً ، وقد طبع.

٤. حقوق المؤمنين للشيخ الحسين بن سعيد الأهوازيّ وهو مخطوط.

وهناك مؤلّفات اُخرى لمشايخنا الإماميّة حول الحقوق العامّة والخاصّة وحول الفرق بين الحقّ والحكم وقد طبع بعضها ولا زال أكثرها مخطوطاً.( لاحظ الذريعة ٧ : ٣٩ ـ ٤٧ ).

هذا وحيث أنّ حقوق الأقليّات في المجتمع الإسلاميّ تحظى بأهميّة خاصّة ولها صلة شديدة بالحكومة الإسلاميّة أفردنا لها البحث التالي ، ونحيل البحث عن سائر الحقوق بالتفصيل إلى الكتب المعدّة لها وكذا أفردنا للحقوق الدوليّة فصلاً آخر.

__________________

(١) لاحظ وسائل الشيعة كتاب الحجّ الجزء الثامن أبواب أحكام الدواب الصفحة ٣٣٩ ـ ٣٩٧ فقد عقد فيها الشيخ الحرّ العامليّ ٥٣ باباً في أحكام الدواب وحقوقها ، وفصّل حقوق الحيوان في كتاب الجواهر ٣١ : ٣٤٩ ـ ٣٩٨ ، فقد بحث ذلك الفقيه المحقّق الذي كان يعيش في القرن الثالث عشر الهجري حقوق الحيوان على ضوء الإسلام قبل أن يعرف العالم الحديث قضيّة الرفق بالحيوان.

(٢) وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة : « فإنّكُم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » الخطبة ١٦٢ ( طبعة عبده ).

٤٦٢

الأقليّات الدينيّة في الحكومة الإسلاميّة

إنّ حكومة تقوم على أساس الإيمان بالله سبحانه وعلى أساس الشريعة الإلهيّة لا يمكن أن تكون معاملتها وموقفها من الأقليّات الدينيّة إلاّ أفضل موقف ، وأحسن معاملة وأقربها إلى الإنسانيّة والعدل والنصفة والحقّ وإليك ملامح من هذه المعاملة الحسنة العادلة فيما يأتي :

١. الإعتراف بحقوق الأقليّات

إنّ أبرز ما يتجلّى في معاملة الحكومة الإسلاميّة للأقليّات الدينيّة هو الاعتراف بحقوقهم الطبيعيّة في العدل والقسط وغيره ، فها هو القرآن الكريم يبيّن بكلّ صراحة سياسة الإسلام الكليّة بالنسبة إلى حقوق الشعوب غير المسلمة سواء أكانوا أهل الكتاب أم لا إذ يقول : ( لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة : ٨ ).

فهذه الآية تفيد أنّ الأقليّات والشعوب غير المسلمة تحظى بالاحترام وتستحقّ العدل والقسط إذا لم تعلن حرباً على المسلمين ، ولم تخرجهم من مساكنهم وأوطانهم ، ولم تتآمر ضدّهم ، فإذن ينبغي أن يشلمها المسلمون بالعدل والإنصاف والبرّ ، وبهذا يسمح النظام الإسلاميّ للأقليّات الدينيّة أن تعيش ضمن المجتمع الإسلاميّ وتستفيد من الحقوق الإنسانيّة في الحياة الآمنة.

نعم إنّ القرآن الكريم ينهى عن المعاشرة السلميّة مع الفرق والجماعات التي تتآمر ضدّ الإسلام ومصالح المسلمين ، إذ يقول : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة : ٩ ).

٤٦٣

إنّ سياسة الإسلام العامّة اتّجاه الأقليّات الدينيّة تفهم من هاتين الآيتين جيّداً فالأقليّات الدينيّة ـ حسب هاتين الآيتين ـ محترمون في البلاد الإسلاميّة وعلى المسلمون أن يعايشونهم ويعترفوا لهم بحقوقهم في الحياة الآمنة ما لم يتجاوز أبناؤها وأعضاؤها على حقوق الأكثريّة المسلمة ، ولم تتآمر ضدّ الإسلام ، فإذا تآمرت ، وتحالفت مع أعداء الإسلام ومعارضيه وخصومه ، ارتفعت عنهم هذه الحصانة الإسلاميّة وجاز للمسلمين أن يقفوا ضدهم ... ولا يوادّوهم.

ولقد بلغت هذه الحريّة والاحترام إلى درجة لو فعل أهل الذمّة ما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في الإسلام كشرب الخمر لم يتعرّض لهم ما لم يتجاهروا به ، نعم إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب الشرع.

وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم (١) كالزنا واللواط ، فالحكم فيه أيضاً كما في المسلم. وإن شاء الحاكم رفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ فيه ، بمقتضى شرعهم كما لو تحاكم إلينا ذميّان كان الحاكم مخيّراً بين الحكم عليهما بحكم الإسلام وبين الإعراض عنهم لقوله سبحانه : ( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ( المائدة : ٤٢ ).

٢. حسن المعاشرة مع الأقلّيات

إنّ الإسلام يحث المسلمين على الإحسان إلى أهل الكتاب ، وأخذهم بحسن المعاشرة واحترام عقائدهم وإبقائهم على دينهم إذا هم اختاروا ذلك ، قال الله تعالى : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ) ( العنكبوت : ٤٦ ).

وقال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من ظلم مُعاهداً وكلّفهُ فوق طاقته فأنا حجيجهُ يوم القيامة » (٢).

__________________

(١) لاحظ في ذلك جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ٢١ : ٣١.

(٢) فتوح البلدان للبلاذريّ : ١٦٧ ( طبعة مصر ).

٤٦٤

وقال : « من آذى ذميّاً فأنا خصمُه ومن كُنتُ خصمهُ خصمتُهُ يوم القيامة » (١).

وكتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران :

« بسم الله الرّحمن الرحّيم. من محمّد النبيّ إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم ، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار الله ورسوله ، لا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ولا كاهن من كهانته ، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين وكتب المغيرة » (٢).

وإليك نموذج آخر من هذه العهود :

( بسم الله الرحّمن الرّحيم ، وبه العون ، هذا كتاب كتبه محمّد بن عبد الله إلى كافّة النّاس أجمعين بشيراً ونذيراً ، ومؤتمناً على وديعة الله في خلقه لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل ، وكان الله عزيزاً حكيماً ، كتبه لأهل ملّته ، ولجميع من ينتحل دين النّصرانيّة من مشارق الأرض ومغاربها ، قريبها وبعيدها ، فصيحها وعجميها ، معروفها ومجهولها ، كتاباً جعله لهم عهداً ، ومن نكث العهد الّذي فيه وخالفه إلى غيره ، وتعدّى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً ، ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئ ، وللّعنته مستوجباً ، سلطاناً كان أم غيره من المسلمين المؤمنين ، وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذابّ عنهم ، من كلّ عدة لهم ، بنفسي وأعواني ، وأهل ملّتي وأتباعي ، كأنّهم رعيّتي ، وأهل ذمّتي وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي تحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلاّ ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك ، ولا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ، ولا حبيس من صومعته ، ولا سائح من سياحته ، ولا يهدم بيت من بيوت

__________________

(١) روح الدين الإسلاميّ : ٢٧٤.

(٢) الطبقات الكبرى ١ : ٢٦٦ ، والبداية والنهاية ٥ : ٥٥ ، والوثائق السياسيّة : ١١٥ رقم ٩٥ كما في مكاتيب الرسول ٢ : ٣٣٣.

٤٦٥

كنائسهم وبيعهم ، ولا يدخلُ شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المُسلمين فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله ، وخالف رسُولهُ ، ولا يحملُ على الرّهبان والأساقفة ، ولا من يتعبّد جزيةً ولا غرامةً ، وأنا أحفظُ ذمّتهم أينما كانُوا من برّ أو بحر ، في المشرق والمغرب والشّمال والجنُوب. وهُم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كُلّ مكرُوه.

وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المُباركة ، لا يلزمُهُم ما يزرعُوهُ ، لا خراج ولا عُشر ، ولا يُشاطرُونهُ لكونه برسم أفواههم ، ويُعانُوا عند إدراك الغُلّة بإطلاق قدح واحد ، من كلّ أردب برسم أفواههم ، ولا يُلزمُوا بخرُوج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج ، وذوي الأموال والعقارات والتّجارات ممّا أكثر [ من ] اثني عشر درهم بالحُجّة في كُلّ عام ، ولا يُكلّفُ أحداً منهُم شططاً ، ولا يُجادلُوا إلاّ بالتي هي أحسنُ ، ويُخفضُ لهُم جناحُ الرّحمة ويُكفّ عنهُم أدبُ المكرُوه حيثُما كانُوا وحيثُما حلّوا.

وإن صارت النصّرانيّةُ عند المُسلمين فعليه برضاها ، وتمكينها من الصّلوات في بيعها ، ولا يُحيلُ بينها وبين هوى دينها.

ومن خالف عهد الله ، واعتمد بالضدّ من ذلك ، فقد عصى ميثاقهُ ورسُولهُ ويُعانُوا على مرمّة بيعهم ومواضعهم ، ويُكونُ ذلك معونةً لهُم على دينهم ومعا [ وفاء ] لهُم بالعهد ، ولا يُلزمُ أحد منهُم بنقل السّلاح ، بل المُسلمين يذبّون عنهُم ولا يُخالفُوا هذا العهد أبداً إلى حين تقُومُ الساعة وتنقضي الدّنيا.

وشهد بهذا العهد الّذي كتبهُ مُحمّد بنُ عبد الله رسُول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجميع النّصارى والوفاء بجميع ما شرط لهُم عليه عليّ بنُ أبي طالب و ... ) (١).

إنّ أبرز ما يتجلّى للقارئ في هذا العهد النبويّ للنصارى اُمور :

١. مدى الحريّة العقائديّة المعطاة من جانب الإسلام للأقلّيات الدينيّة.

__________________

(١) مجموعة الوثائق السياسيّة : ٣٧٣ ، كما عن أحمد زكي باشا ، رسالة صورة العهد النبويّة الطوريّة عن خطية دار الكتب المصريّة رقم ٨١٤ كما في مكاتيب الرسول ٢ : ٦٣٥.

٤٦٦

٢. سعة الحماية التي تقوم بها الحكومة الإسلاميّة لهذه الأقليّات.

٣. سعة الرحمة التي يشمل بها الدين الإسلاميّ الأقليّات.

إلى غير ذلك من النقاط الكليّة والجزئيّة التي يقف عليها المتتبّع بالإمعان في هذه الوثيقة الإسلاميّة التاريخيّة التي تمثّل ـ في حقيقتها ـ سياسة الحكومة الإسلاميّة اتّجاه الأقليّات وتصوّر اُسس هذه السياسة وخطوطها العريضة التي لا تجد لها مثيلاً في الحقوق الدوليّة المعاصرة !! وما عليك أيّها القارئ الكريم إلاّ أن تقايس هذه الحريّة المعطاة للأقليّات في مجال العقيدة ، بما جرى على فروة بن عمرو الذي كان عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، فلمّا بعث فروة رسولاً بإسلامه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهدى له بغلة بيضاء طلبه الروم حتّى أخذوه فحبسوه عندهم فلمّا قدموا ليقتلوه أنشأ فروة قائلاً :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظُمي وبناني (١)

بل وقايسه بما جرى وحلّ بالنصارى على أيدي كنائسهم في محاكم التفتيش في القرون الوسطى ، وما وقع من مجازر شملت آلاف الناس بمن فيهم العلماء والمفكّرون لأجل الاختلاف العقيديّ (٢).

وقد ورد مفاد هذه الرسالة والوثيقة في وثائق وكتب اُخرى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُعطيت لأهل الملل ، والعقائد غير الإسلاميّة رسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها خطوط التعايش السلميّ الذي أشار إليه القرآن الكريم ، الذي يقوم على احترام الحقوق والعقائد للأقلّيّات الدينيّة.

لقد كانت معاملة الرسول الحسنة مع أهل الكتاب وما يسمّى الآن بالأقليّات الدينيّة قدوة للمسلمين دائماً ، فهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يوصي واليه بأهل الذمّة فيقول : « ولا تبيعنّ للنّاس في الخراج [ وهو ما يؤخذ من الضرائب على الأراضي العامة ] كُسوة شتاء ، ولا سيفاً ولا دابّةً يعتملُون عليها ولا عبداً ولا تضربنّ أحداً

__________________

(١) اُسد الغابة ٤ : ١٧٨.

(٢) راجع ما كتبه ويل دورانت في قصّة الحضارة.

٤٦٧

سوطاً لمكان درهم ، ولا تمُسّنّ مال أحد من النّاس مُصلّ ولا مُعاهد » (١).

كما أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام لما رأى ذات يوم شيخاً نصرانيّاً يستجدي ويتكفّف فقال : « ما هذا ؟ » قالوا : يا أمير المؤمنين ، نصرانيّ. فقال : « استعملتُمُوهُ حتّى إذا كبر وعجز منعتُمُوهُ. أنفقُوا عليه من بيت المال » (٢).

ولقد كانت هذه السيرة مع الأقلّيّات الدينيّة هي سيرة أغلب قادة الإسلام فالتاريخ يحدّثنا : أنّ أحد الخلفاء مرّ على شيخ مضطرب الحال يتكفّف فسأل عنه ، ولمّا تبيّن له أنّه يهوديّ قال له : وما الذي دعاك إلى هذا.

فلمّا قال : إعطاء الجزية والحاجة ، والكبر ، أخذ الخليفة بيده ، وأدخله إلى منزله وسدّ حاجته بمبلغ من المال وأوصى خازن بيت المال وأمره أن يرفق به ويراعي حاله ، وحال من يشابهه وقال : « ليس من النصفة أن نستعمله في شبابه ونتركه في كبره » (٣).

على أنّ الإسلام لم يكتف بهذا القدر من الاحترام وحسن المعاشرة والمعاملة ، فلم يقتصر على الأمر باحترام الأحياء من أهل الكتاب ، بل دعا إلى احترام أمواتهم كذلك. يقول جابر بن عبد الله : مرّت بنا جنازة ، فقام لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقمنا به. فقلنا : يا رسول الله : إنّها جنازة يهوديّ. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا رأيتم الجنازة فقوموا » (٤).

وقال : كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسيّة فمرّوا عليهما بجنازة ، فقاما ، فقيل لهما : إنّهما من أهل الأرض ، أي من أهل الذمّة ، فقالا : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّت به جنازة فقام ، فقيل له : إنّها جنازة يهوديّ ، فقال : « أليست نفساً » (٥).

ولهذا السبب كان أهل الكتاب في البلاد غير الإسلاميّة يستقبلون المسلمين الفاتحين لتلك البلاد باشتياق كبير ، ويفتحون في وجوههم أبواب مدنهم وحصونهم ، فعندما وصل الجيش الإسلاميّ بقيادة أبي عبيدة بن الجرّاح إلى أرض الأردن ، كتب إليه

__________________

(١) نهج البلاغة : قسم الكتب رقم ٥١.

(٢) وسائل الشيعة ١ : كتاب الجهاد : الباب ١٩ ح ١.

(٣) السلام العالميّ والإسلام.

(٤ و ٥) البخاريّ ٢ : ٨٥.

٤٦٨

مسيحيّوا الأردن كتاباً قالوا فيه :

( أنتم أيها المسلمون أحبّ إلينا من الروم ، وإن كانوا معنا على دين واحد لكنّكم أوفى لنا ، وأرأف وأعدل ، وأبرّ ، إنّهم حكمونا ، وسلبوا منّا بيوتنا وأموالنا ) (١).

وقد كان هذا الكلام كتبه قسّيس أنطاكية الكبير الذي دفعه ظلم الروم وجفوتهم وقسوتهم ـ رغم نصرانيّتهم ـ إلى اللجوء إلى أحضان المسلمين ، والاحتماء بالنظام الإسلاميّ العادل الرحيم.

فهو يعترف في موضع آخر من رسالته قائلاً :

( انّ إله الانتقام لمّا رأى شرور الروم الذين لجأوا إلى القوّة فنهبوا كنائسنا وسلبونا ديارنا في كافّة ممتلكاتهم وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة ، أرسل أبناء إسماعيل ( أي العرب المسلمين ) من بلاد الجنوب ( أي مكّة والمدينة ) لتخليصنا من قبضة الروم ) (٢).

ثمّ يكتب مؤلّف « الدعوة إلى الإسلام » قائلاً :

( امّا ولايات الدولة البيزنطيّة التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم فقد وجدت أنّها تنعم بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبيّة والنسطوريّة ( المتضاربة فيما بينها ) فقد سمح الإسلام لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرّض لهم أحد ، اللّهمّ إلاّ إذا استثنينا بعض القيود التي فرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة ) (٣).

وقد دفعت مداراة المسلمين وحسن معاشرتهم ومعاملتهم لأهل الكتاب في أن يجدوا أمنهم المطلوب في كنف المسلمين ، ويحسّوا بالطمأنينة في ظلال الحكومة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ حتّى أنّ الأدلّة التاريخيّة والشواهد القطعيّة الكثيرة تشهد على أنّ الكثير من النصارى الذين كانوا يطاردون من قبل الكنيسة الرسميّة في بيزنطية

__________________

(١ و ٢ و ٣) الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : ٥٣.

٤٦٩

كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلاميّة حصولا على الحماية والأمن والاستقرار ولأجل هذا نجد أنّ أجمل الكنائس والصلوات هي تلك التي بنيت في أرض الإسلام أيّام مجد المسلمين ودولتهم.

وهذا أمر ملحوظ في جميع البلاد الإسلاميّة الحاضرة.

هذا مضافاً إلى أنّ الأقليّات الدينيّة كانت ولا تزال تتمتّع بالحريّة الاقتصاديّة والتجاريّة والمعيشيّة ، دون أن تحسّ بحاجة إلى التحزّب والتمركز والتجمّع لمواجهة أي خطر.

٣. احترام الإسلام لحياة الأقليّات

إنّ الذي لا يمكن إنكاره أبداً أنّه ليس هناك أي دين ولا أيّة حكومة في العالم كالدين الإسلاميّ والحكومة الإسلاميّة تضمن حريّات الأقليّات ، وتحفظ شرفها وحقوقها الوطنيّة ، فأيّ دين يحترم الأقليّات كهذا الاحترام ، أم أي قانون يقدّرها كما يحترمها النظام الإسلاميّ ، ويقدّرها ويرعى حقوقها.

أجل إنّه الإسلام وحده يكفل العدالة الاجتماعيّة الكاملة الشاملة للمسلمين ، وغير المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وألوانهم ولغاتهم ، وإنّ هذا لمن احدى ميزات الدين الإسلاميّ وخصائصه الإنسانيّة التي ينفرد بها دون غيره ، ويعجز الآخرون عن تحقيقه ، وأدلّ دليل على حسن معاملة الإسلام للأقليّات أنّ الإسلام أمّن على أنفسهم وأموالهم وتعهّد في ذمّته بحمايتهم وحفظهم وأمانهم من كلّ شرّ وسوء ازاء شروط خاصّة لا يصعب تحمّلها عادة في مقابل ما تعهّد الإسلام لهم به. وإليك هذه الشروط :

في شرائط الذمّة

إنّ الشرائط المقوّمة للذمّة ( التي تنتفي الذمّة بانتفاء واحدة منها ) ثلاثة :

الأوّل : أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين ، أو إمداد

٤٧٠

المشركين والتواطؤ معهم ضدّ مصالح الإسلام والمسلمين.

الثاني : أن يلتزموا بأن تجري عليهم أحكام المسلمين ... بمعنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون من أداء حقّ أو ترك محرّم.

والمراد من الأحكام هي الأحكام الاجتماعيّة والجزائيّة ، كجلدهم إذا زنوا ، وقطع أيديهم إذا سرقوا وما شابه.

الثالث : القبول بدفع الجزية ... .

فهذه الشروط الثلاثة تعتبر من مقوّمات الذمّة ، وأمّا غير ذلك من الشروط فإنّما يجب العمل بها من جانبهم إذا اشترطت في ( عقد الذمّة ) (١).

إنّ في مقدور الأقليّات الدينيّة ـ بعقد الذمّة ـ أن تعيش بين المسلمين عيشة حرّة ، ويكون لها ما للمسلمين وعليها ما على المسلمين ، من حقوق اجتماعيّة ، وأمن داخليّ ، وحماية خارجيّة ، وتلك هي وظيفة الحكومة الإسلاميّة أن توفّر ظروف العيش الآمن ، والاحترام المناسب للأقليّات الدينيّة ، والحفاظ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ، من دون أي عدوان وتجاوز وحيف ، هذا فيما إذا عمل أهل الكتاب وغيرهم بشرائط الذمّة والهدنة.

إنّ الإسلام يحترم دماء الكتابيّين الذين يعيشون في الذمّة وأعراضهم كما يحترم دماء المسلمين وأعراضهم دون فرق ، وتلك حقيقة لا تجد نظيرها في أي نظام غير النظام الإسلاميّ مهما كان إنسانيّاً ، ولهذا عندما يسمع الإمام عليّ عليه‌السلام بأنّ جماعة من البغاة أغاروا بأمر معاوية على ( الأنبار ) وهي إحدى مدن العراق ، واعتدوا على أهلها ، وأعراضهم وأموالهم ، نجده ينزعج غاية الانزعاج ويحزن غاية الحزن ، ويمضي في لومهم وشجبهم قائلاً ـ في أسف ظاهر ـ : « ولقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والاُخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها ، وقلبها ، وقلائدها ورعاثها ، ما تمنع منه إلاّ بالاسترجاع ، والاسترحام ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا اريق منهم

__________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ٢١ : ٢٧١.

٤٧١

دم » !!

إنّ أعراض المسلمين والذميين عند الإمام عليّ عليه‌السلام من حيث الاحترام والحرمة بحيث يقول في شأن ذلك في ذيل العبارات السابقة : « فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملُوماً ، بل كان به عندي جديراً » (١).

إنّ القانون الإسلاميّ يقضي بأن تتكفّل الحكومة الإسلاميّة حماية الأقليّات الدينيّة ، وأعراضهم وأموالهم وكنائسهم ومعابدهم ، بحيث يمكنهم أن يؤدّوا شعائرهم الدينيّة بحريّة وأمان ، وفي الوقت الذي يدعو فيه الإسلام هذه الأقليّات وغيرها إلى اعتناق الإسلام ، لا يسمح بأن تعطّل حريّة الأقليّات في تعليم دينها لأبنائها.

إنّ الذمّيين أحرار ـ تماماً ـ من جهة ( القضاء ) فلهم أن يتحاكموا ـ في منازعاتهم واختلافاتهم الخاصّة ـ إلى محاكمهم الخاصّة ، أو إلى محاكم المسلمين وقضاتهم ، إن كان النزاع بينهم وبين مسلم ، وأن يدافعوا عن حقوقهم في محاكم المسلمين بمنتهى الحريّة والطمأنينة والحصانة (٢).

إنّ للذمّي ـ حسب نظر الإسلام ـ أن يشتكي أمام قاضي المسلمين على أكبر شخصيّة إسلاميّة كالخليفة وحاكم البلاد ، أو يدافع عن نفسه إذا اشتكى عليه تلك الشخصيّة ، ويطالبه بالبيّنة لدعواه.

ولا يخفى أنّ هذه الأحكام ليست مجرّد نظريّة قانونيّة لم يعمل بها في تاريخ المسلمين وحياتهم ، بل لها نماذج ومصاديق مطبّقة أكثر من أن تحصى ، منها قضيّة الدعوة التي أقامها الإمام عليّ عليه‌السلام على رجل يهوديّ في قصّة الدرع التي ، مرّت عليك فيما سبق في هذا الكتاب (٣).

انّ تاريخ الإسلام المشرق يبيّن لنا أنّ علاقات المسلمين مع الشعوب والأقليّات

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة (٢٦).

(٢) لاحظ في ذلك الصفحة ٤٦٤ من كتابنا هذا.

(٣) راجع الصفحة ٣٣٥ من كتابنا هذا.

٤٧٢

الدينيّة كانت قائمة منذ ظهور الحكومة الإسلاميّة ، وحصول الاستقلال السياسيّ للمسلمين على اُسس التسامح والسلام والمحبّة والمعاشرة الإنسانيّة ، والمعاهدات المتبادلة ، ولهذا كانت تلك الأقليّات الدينيّة تعيش بين المسلمين بحريّة كاملة ، ودون أن يلحقها أي أذى أو سوء ، وتستفيد من حقوقها المُسلمة دون أي عدوان أو نقصان ، وهذا هو الأمر الذي جعلهم يفضّلون حكم الإسلام على غيره.

كما أنّ هذا هو الذي حدى بالكتاب المسيحيّين ومؤرّخيهم أن يعترفوا بفضل الإسلام وحسن سيرة المسليمن بالنسبة إلى أبناء دينهم ، لاحظ في ذلك ما قاله غوستاف لوبون.

وقال روبرتسون في كتابه تاريخ شارلكن : ( إنّ المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الجهاد والتسامح نحو أتباع الأديان الاُخرى الذين غلبوهم وتركوهم أحراراً في إقامة شعائرهم الدينيّة ) (١).

٤. الجزية ضريبة عادلة

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام فرض على أهل الكتاب ـ بعد الغلبة عليهم ـ دفع ضريبة تسمّى بالجزية ، وهي بمنزلة الضريبة التي تؤخذ من المسلمين تحت عناوين مختلفة من الزكاة والخمس وسائر الصدقات لتصرف في شؤون الدولة الإسلاميّة ولأجل ذلك لا تؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله ، ولا الصبيان ولا النساء ، لأنّ الجزية إنّما هي في مقابل الدخل تقريباً. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « جرت السنّة أن لا تُؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله » (٢).

ثمّ إنّ الجزية تقدر بقدر المُكنة والقدرة فقد سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن حدّ الجزية فقال : « ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما

__________________

(١) روح الدين الإسلاميّ : ٤١١.

(٢) الوسائل ١١ : ١٠٠ ، وراجع تحرير الوسيلة ٢ : ٤٩٨ للإمام الخمينيّ.

٤٧٣

يُطيقُ » (١).

كما أنّ الإمام مخيّر في الجزية في أن يضع الجزية على حسب رؤوسهم دون أرضهم أو على أرضهم دون رؤوسهم ... في حين أنّه يأخذ من المسلمين الضرائب المتوجّبة عليهم من أموالهم خاصّة ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى روح السماحة والعطف والعدالة التي يعامل بها الإسلام الأقليّات الاُخرى ، فعن محمّد بن مسلم قال : سألته عليه‌السلام عن أهل الذمّة ماذا عليهم ما يحقنون به دماءهم وأموالهم ؟ قال : « الخراج ، وإن أُخذ من رُؤوسهُمُ الجزية فلا سبيل على أرضهم وإن أُخذ من أرضهم فلا سبيل على رُؤوسهم » (٢).

كما أنّه لا يجوز للحكومة الإسلاميّة أن تأخذ من الأقليّات شيئاً علاوة على الجزية ، فعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم سوى الجزية ؟ قال : « لا » (٣).

وبالتالي ، إنّ الجزية لم تكن ضريبة شاقّة لو عرفنا مقاديرها فقد جعل الإسلام على غنيّهم ثمانية وأربعين درهماً ، وعلى أوساطهم أربعة وعشرون درهماً ، وعلى فقرائهم إثنا عشر درهما ... يؤخذ منهم كلّ سنة ، راجع لمعرفة ذلك الحديث المروي في هذا الباب (٤).

وفي الحقيقة لا تقدير خاصّ للجزية ، ولا حدّ لها بل تقديرها إلى الوالي ، والحكومة الإسلاميّة بحسب ما يراه من المصالح والأزمنة ومقتضيات الحال (٥) والمقدار المذكور في الرواية هو مصداق لهذا التقدير.

وبالتالي فإنّ ما تأخذه الدولة الإسلاميّة من الأقليّات باسم الجزية إنّما هو في الحقيقة لتقديم الخدمات إليهم ، وحمايتهم ، لا أنّه أتاوة على نحو ما يفعل الفاتحون عادة.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل ١١ : ١١٤ و ١١٥.

(٤) وسائل الشيعة ١١ : ١١٦.

(٥) تحرير الوسيلة للإمام الخمينيّ ٢ : ٤٤٩.

٤٧٤

وفي هذا الصدد يقول السيد رشيد رضا : ( إنّ الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون على من يتغلّبون عليهم فضلاً عن المغارم التي يرهقونهم بها ، وإنّما هي جزاء قليل على ما تلتزمه الحكومة الإسلاميّة من الدفاع عن أهل الذمّة ، وإعانة الجند الذي يمنعهم ( أي يحميهم ) ممّن يعتدي عليهم كما يعلم من سيرة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشواهد على ذلك كثيرة ) (١).

فهي إذن ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لهم الحراسة والحفظ وتوفير ضروريّات الحياة.

وبذلك يبقى الكتابيّ على دينه ويقيم شعائره في حدود المصلحة الإسلاميّة العامّة حسب ما قرّر لها من شروط ، وأحكام.

__________________

(١) تفسير المنار ١١ : ٢٨٢.

٤٧٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٣

الحكومة الإسلاميّة

والدعوة إلى التنمية الاقتصاديّة

أهميّة الاقتصاد في الحياة البشريّة :

لا شكّ في أنّ الاقتصاد يحتلّ موقعاً حسّاساً وهاماً في الحياة البشريّة ، إذ يدور عليها رحى جوانب كثيرة من هذه الحياة ، ومن هنا اهتمّ الإسلام بالمسائل الاقتصاديّة اهتماماً بالغاً. فوجود الأبواب الكثيرة ، المتعلّقة بالمبادلات الماليّة في الفقه والتشريع الإسلاميّ إلى جانب التوجيهات والإرشادات المرتبطة بهذا الحقل ينبئ عن اهتمام الإسلام الشديد بالاقتصاد ويكشف عن أنّ الدين الإسلاميّ ليس كسائر الأديان تنحصر مسؤوليّته في إعطاء العظات الأخلاقيّة ، وتقديم الوصايا المعنويّة الفرديّة مهملاً أهمّ مسألة في حياة الإنسان وهي القضية الاقتصاديّة.

كيف والعمل من أجل الآخرة يتوقّف على قدرة الجسم ، وسلامة البدن ، وانتعاش الجانب الاقتصاديّ فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « اللّهمّ بارك لنا في الخبز ، ولا تفرّق

٤٧٦

بيننا وبينهُ ، فلولا الخُبزُ ما صلّينا ولا صُمنا ولا أدّينا فرائض ربّنا » (١).

وعن الإمام عليّ عليه‌السلام أنّه قال : « وبالدّنيا تُحرزُ الآخرةُ » (٢).

ثمّ لا ريب في أنّ الإنسان مركّب من المادة والروح ، وأنّ لوجوده بعدين : بعداً ماديّاً ، وبعداً معنويّاً ، ولذلك لابد للإسلام كنظام للإنسان ومنهج للحياة أن يعتني بهذا البعد ( المادي ) أيضاً لأنّ تجاهله ما هو إلاّ تجاهل لنصف الإنسان.

وبعبارة اُخرى ، إنّ ( الغنى ) في الجانب المعنويّ ـ وحده ـ لا يكفي ، لأنّ الفقر الاقتصاديّ كفقر الدم تماماً ، إذ الاقتصاد عصب الحياة ، ودم يجري في عروق المجتمع ، ويضمن حياته وبقاءه ، فكما أنّ فقر الدم يوجب سلسلة من الأمراض والمضاعفات الخطيرة مثل ضعف السماع والبصر ، وظهور اللكنة في اللسان ، وتعرقل عمليات المخّ ، إلى غير ذلك من العوارض ، وألوان الخلل في وظائف الأعضاء فإنّ للفقر الاقتصاديّ والماديّ ( عوارض ) سيّئة ، وآثار خطيرة على الحياة الفرديّة والاجتماعيّة فهو يوجب ضعفاً في الهيكل الاجتماعيّ وتصدّعاً في تماسكه ، ولذلك يكون الاقتصاد مطروحاً للإنسان منذ أن يولد حتّى يوسّد في لحده ، هذا مضافاً إلى أنّ بقاء الاُصول الأخلاقيّة والتزام الصراحة ، ومناعة الطبع واستقلال الشخصيّة اُمور متفرّعة على الجانب الماديّ ، بمعنى أنّ الإبقاء على هذه الاُمور في غاية الصعوبة على من اضطرب أمر معاشه ، وأصابه الفقر ، واختلّ اقتصاده. فكم من إنسان ابتلي بصفة التملّق وفقدان الشهامة ، والاخلال بالواجب نتيجة الفقر ، واضطراب المعاش ؟ وكم من إنسان اضطّر إلى الكذب والخداع ، والمساومة على العقيدة والدين لهذا السبب ؟ بل وكم من شعب وقع فريسة الاستعمار والتبعيّة نتيجة التدهور الاقتصاديّ والحرمان الماديّ ، والحاجة إلى المساعدات ، فحرم المجد والعظمة ، وفقد الاستقلال ، والحريّة.

ومن هنا لم يكن للاُمم الفقيرة أي نصيب في العزّة والكرامة والمكانة الدوليّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ١٧.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٤٥.

٤٧٧

اللائقة بين شعوب الأرض.

بل وعلى هذا الأساس الاقتصاديّ قامت العلاقات الدوليّة ، والروابط السياسيّة بين الحكومات والشعوب.

الاقتصاد أصل هامّ وليس محوراً

نعم إنّ الفرق بين النظام الإسلاميّ والنظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ هو أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أصلاً هاماً إلى جانب الاُصول الهامّة الاُخرى ـ كما ظهر من البيان السابق ـ لا أنّه الأصل الوحيد الذي تقوم عليه سائر المسائل الأيديولوجيّة ، والأخلاقيّة ، والسياسيّة كما تدّعيه الاشتراكيّة ، أو تذهب إليه الرأسماليّة عمليّاً.

ونعود لنقول إنّ أفضل ما يدلّ على أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أحد الاُصول ، الهامّة هو أنّ أكثر الكتب الفقهيّة تتركّز على ذكر القوانين المتعلّقة بالاقتصاد ، وتعقد أبواباً خاصّة كأبواب المكاسب ، والشفعة والإقالة والصلح والمضاربة والمزارعة والمساقاة والإجارة والجعالة والعارية والقسمة ، والدين والرهن والحجر والمفلس والضمان والحوالة ، والهبة والوقف والصدقة ، والصيد والذباحة والغصب وإحياء الموات ، والمشتركات واللقطة والإرث وأحكام الأبنية والأرضين وما شابه ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّنا نجد القرآن يقرن ذكر الصلاة بذكر الزكاة كلّما تحدث عن تلك العبادة وقد تكرّر ذلك في القرآن ما يقارب ٣٢ مرّة تقريباً ، ومن المعلوم أنّ الأوّل ينظّم علاقة المخلوق بالخالق ، والثاني ينظّم علاقة الفرد بالمجتمع ؛ واقتران كلّ من الأمرين بالآخر يشهد بأنّ هناك بين المعاش والمعاد صلة وثيقة ، وارتباطاً لا ينفك ّ.

ثمّ لمّا كان الإسلام منهجاً كاملاً وكافلاً لاحتياجات المجتمعات البشريّة ماديّها ومعنويّها ، اقتضى ذلك أن يكون له ( منهج اقتصاديّ واحد ) يخضع له الجميع ، ويكون قادراً على رفع تلك الاحتياجات ، ومتمشّياً مع الحاجات المتجدّدة ، والاكتشافات الحديثة ، ومتمكّناً من إقامة التوازن بين الإنتاج والتوزيع ، وموفّراً لكلّ أعضاء المجتمع

٤٧٨

البشريّ جوّاً مناسباً ومطلوباً من الخير والرفاه ؛ لتعيش البشريّة في كنفه في أمان وسلام ورخاء واكتفاء.

إنّ هذا هو ما يتوخّاه النظام الإسلاميّ ويسعى إليه في منهجه الاقتصاديّ.

الدعوة إلى التنمية الإقتصاديّة وإطاراتها

إنّ بيان المنهج الاقتصاديّ في الإسلام يستدعي بحثاً مترامي الأطراف ، وهو خارج عن نطاق هذه الدراسة ، غير أنّ الذي له صلة وثيقة بهذا البحث هو معرفة أنّ الإسلام اهتمّ ـ اهتماماً شديداً ـ بالجانب الاقتصاديّ في حياة الاُمّة ودعا إلى التنمية الاقتصاديّة في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها.

ولإيقاف القارئ على تلك الدعوة نأتي بإجمال عن ذلك في ضمن عناوين خاصّة ونحيل التفصيل إلى مجال آخر.

١. الإنسان مأمور بعمارة الأرض

إنّ الإنسان ـ في هذا النظام ـ مأمور من جانب الله سبحانه بعمارة الأرض ، وإصلاحها ، وإحيائها ، دون أن يمنعه مانع عن ذلك إذا ما كان في حدود الدين وشرائعه ، إذ قال سبحانه : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود : ٦١ ).

وعن الإمام عليّ عليه‌السلام في حديث أنّه قال : « إنّ معايش الخلق خمسة : الإمارةُ ، والعمارةُ ، والتّجارةُ ، والإجارةُ والصّدقاتُ [ إلى إن قال ] وأمّا وجه العمارة فقوله تعالى : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) فأعلمنا سبحانه أنّه قد أمرهم بالعمارة ، ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض » (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣ : ١٩٥.

٤٧٩

٢. الإنسان مدعو إلى الكدح والعمل

لقد دعا الإسلام إلى الكدّ والكدح والعمل دعوة أكيدة ، وحثّ عليها حثّاً بليغاً لا نجد نظيره في أي نظام آخر ، فهو نهى عن الكسل ، كما نهى أن يكون المرء كلاًّ على الآخرين ، يستهلك ولا يعمل ، ويأكل ولا يشتغل وإليك طائفة من الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام في هذا المجال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ملعون من ألقى كلّهُ على النّاس » (١).

وقال في وصيّته لعليّ عليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين : الضجرُ والكسلُ ، فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حقّ وإن كسلت لم تُؤدّ حقّاً ، يا عليّ من استولى عليه الضجرُ رحلت عنهُ الرّاحةُ » (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ الأشياء لمّا ازدوجت ازدوج الكسلُ والعجزُ فنجا بينهُما الفقرُ » (٣).

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : « إنّي لأبغضُ الرّجُل ( أو لأبغض للرجل ) أن يكون كسلان عن أمر دُنياهُ ومن كسل عن أمر دُنياهُ فهو عن أمر آخرته أكسلُ » (٤).

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : « إنّي لأجدُني أمقُتُ الرّجُل يتعذّرُ عليه المكاسبُ فيستلقي على قفاه ويقولُ : ( اللّهمّ ارزقني ) ويدع أن ينتشر في الأرض ويلتمس من فضل الله ، والذرةُ ( أيّ النّملُ ) تخرُجُ من حجرها تلتمسُ الرّزق » (٥).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « لا تكُونُوا كُلُولاً على النّاس » (٦).

وقال عليه‌السلام أيضاً : « لا تكسلُوا في طلب معايشكُم فإنّ آباءنا ، قد كانُوا يركُضُون فيها ، ويطلُبونها » (٧).

__________________

(١ و ٣ و ٤ و ٦) وسائل الشيعة ١٢ : ١٨ ، ٣٧ ، ١٨ ، ١٨.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٢٠.

(٥ و ٧) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٩٥.

٤٨٠