مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

وطالبوه بالإجابات المقنعة الكافية ، وجعلوا ذلك شرطاً لإسلامهم والتصديق به وبرسالته ، فأجابهم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأجوبة كافية شافية مذكورة بتفصيلها في محلّها فأسلموا على أثر ذلك (١) ، والقصة بطولها جديرة بالمطالعة.

وقد بلغت هذه الحملات المعادية للإسلام ذروتها بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغياب شخصه الكريم عن الساحة ... فشهد عهد الخلفاء موجات هائلةً من التيارات الإلحادية ، والمحاولات التشكيكيّة وطرح التساؤلات العويصة ، التي هبّت على المجتمع الإسلاميّ لتزعزع المسلمين عن عقيدتهم ، وذلك عندما أخذ يتوافد على المدينة جموع القساوسة والرهبان والأحبار يحملون إلى المسلمين الأسئلة العويصة ، والشبهات المريبة.

ولمّا كان مجرد الاطلاّع على الأحكام والمعارف الإسلاميّة وحدها لا يكفي في مواجهة تلكم الحملات والتيارات ، بل ينبغي أن يكون المتصدّي للرد على تلك الشبهات مضطلعاً ومطّلعاً على ما في الأديان والمباديء الاخرى من عيوب ونواقص ، وثغرات ، لذلك ، فإنّ المتصدّرين لمقام الخلافة كانوا يعانون صعوبات جمّةً وعجزاً ذريعاً في الإجابة عليها ، أو كانت الردود غير مقنعة ولا كافية.

إنّ التأريخ الإسلاميّ يحدثنا أنّ المسلمين لم يبلغوا من الناحية الفكريّة والعلميّة والإحاطة بالمبادئ والأديان الاخرى درجةً تؤهلهم للقيام بذلك ، ولم يقدر أحد منهم ، على مجابهة اولئك العلماء المتوافدين من أرباب الأديان أو الملحدين إلى عاصمة الدولة الإسلاميّة من كلِّ فج عميق بهدف الإيقاع بالإسلام والمسلمين.

وقد أثبتت الوقائع التي وقعت في ذلك العهد ، أنّ الشخص الوحيد الذي كانت ترجع إليه الاُمّة ، ويرجع إليه من تسلّموا مسند الخلافة والحكومة بعد النبيّ لحلِّ تلك المعضلات وردِّ تلك الشبهات والإجابة على تلك التساؤلات ، كان هو الإمام عليّ عليه‌السلام.

وإليك نماذج من تلك الأسئلة :

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسيّ ( من علماء القرن السادس الهجريّ ) ١ : ١٦ ـ ٢٤.

١٤١

١. جاء بعض أحبار اليهود إلى أبي بكر فقال : أنت خليفة نبيّ هذه الاُمّة ؟

قال : نعم.

فقال : إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم ؛ فأخبرني عن الله تعالى ، أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟

فقال أبو بكر : هو في السماء على العرش.

فقال اليهوديّ : فأرى الأرض خاليةً منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال أبو بكر : هذا كلام الزنادقة.

فولىّ الحبر متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فقال : « يا يهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما اجبت به ، وإنّا نقول : إنّ الله عزّ وجلّ أيّن الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان وهو في كلِّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدِّق ما ذكرته لك ... » (١).

٢. حضر مجلس علي عليه‌السلام في جامع الكوفة أحد يهود اليمن فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنّا نراه وننظر إليه ، فسبح عليّ عليه‌السلام ربّه وقال :

« الحمد لله الذي هو أوّل بلا بديء ممّا ، ولا باطن فيما ، ولا يزال مهما ، ولا ممازج مع ما ، ولا خيال وهما. ليس بشبح فيُرى ، ولا بجسم فيتجزّأ ، ولا بذي غاية فيتناهى ، ولا بمحدَث فيبصر ، ولا بمستتر فيكشف ، ولا بذي حجب فيحوى ، كان ولا أماكن تحمله أكنافها ، ولا حملة ترفعه بقوّتها ، ولا كان بعد أن لم يكن ، بل حارت الأوهام أن تكيّف المكيّف للأشياء ، ومن لم يزل بلا مكان ، ولا يزول باختلاف الأزمان ... وكيف يوصف بالأشباح ، وينعت بالألسن الفصاح ... » إلى آخر المفصّل (٢).

٣. عن سلمان الفارسيّ في حديث طويل ذكر فيه قدوم كبير النصارى ( الجاثليق )

__________________

(١) الإرشاد للمفيد : ١٠٨ في قضايا أمير المؤمنين.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤٩٠ ـ ٤٩١.

١٤٢

إلى المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وسأل أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ ارشد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فسأله عنها وكان ممّا سأل عنه أنّه قال : ( اخبرني عن وجه الربِّ تبارك وتعالى ) ، فدعا عليّ بحطب ونار فأضرمه ، فلمّا اشتعلت قال عليّ عليه‌السلام له : « أين وجه هذه النّار ؟ ».

قال النصرانيّ هي وجه من جميع حدودها فقال عليه‌السلام : « هذه النار مدّبرة مصنوعة لا يعرف وجهها ، وخالقها لا يشبهها ، ولله المشرق والمغرب ، فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ، لا يخفى على ربِّنا خافية » (١).

٤. وسأله رأس الجالوت ( اليهودي )عن مسائل بعد ما سأل أبا بكر فلم يجبه ..

سأله : ما أصل الأشياء ؟

فقال عليه‌السلام : هو الماء لقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الانبياء : ٣٠ ).

وما جمادان تكلّما ؟

فقال عليه‌السلام : هما الأرض والسماء لقوله تعالى : ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ( فصلت : ١١ ).

ما شيئان ينقصان ويزيدان ولا يرى الخلق ذلك ؟فقال عليه‌السلام : هما الليل والنهار لقوله تعالى : ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ( الحديد : ٦ ).

إلى غير ذلك من المسائل العويصة ، والصعبة التي أجاب عنها الإمام عليّ عليه‌السلام بسرعة أدهشت الجاثليق وأثارت إعجابه (٢).

هذا ولم تقتصر الموارد التي واجه فيها قادة المسلمين شبهات وأسئلة عجزوا عن

__________________

(١) قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب : ٨٨ ( طبعة النجف ).

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ١ : ٤٩٠ ـ ٤٩١ عنه البحار٤٠ : ٢٢٤.

١٤٣

ردهّا والإجابة عليها على ما ذكرناه ، بل هناك عشرات الموارد الاخرى نذكر بعضها إجمالاً :

١. سؤال الغلام اليهوديّ من عمر بن الخطاب في اليوم الأوّل من خلافته وإرجاع الخليفة له إلى الإمام عليّ عليه‌السلام (١).

٢. بعد أن ارتد الحارث بن سنان الأسدي الذي كان أحد الصحابة ، والتحق بالروم ، حث الروم على طرح بعض الأسئلة على المسلمين ، فتوجّه ممثل الروم إلى المدينة وطرح بعض الأسئلة (٢).

٣. سؤال القائد الروميّ من عمر (٣).

٤. الأسئلة التي طرحها علماء اليهود على عمر حول أصحاب الكهف (٤).

٥. سؤال كعب الأحبار من عمر (٥).

٦. وفود أسقف نجران على عمر وطرح بعض الأسئلة عليه (٦).

٧. وفود جماعة من اليهود على عمر وطرح بعض الشبهات والمواضيع عليه (٧)

٨. وفود جماعة من اليهود على عمر أيضاً وطرح بعض الأسئلة عليه (٨).

٩. سؤال كعب الأحبار من عمر ، وإحالة عمر له على الإمام أيضاً (٩).

__________________

(١) الغدير ٦ : ١٦٨ ، نقلاً عن كتاب زين الفتى في تفسير هل أتى تأليف أحمد بن محمّد بن عليّ العاصميّ الشافعيّ ( مخطوط ) ، علي والخلفاء : ١٣٨ ـ ١٤٥ ، نقلاً عن فرائد السمطين ١ : باب ٦٦ ( مخطوط ).

(٢) قضاء أمير المؤمنين : ٢٦٣.

(٣) تذكرة الخواص لابن الجوزيّ المتوفّي عام ( ٦٥٦ ه‍ ) : ١٤٤ ـ ١٤٧ ( طبع النجف الأشرف ).

(٤) غاية المرام للبحرانيّ المتوفّي عام ( ١١٠٧ ه‍ ) : ٥١٧ ، والغدير ٦ : ٤٧ نقلاً عن العرائس في قصص الأنبياء : ٢٢٧.

(٥) كنز العمال للمتّقي الهنديّ ٤ : ٥٥ نقلاً عن طبقات ابن سعد المتوفّي عام ( ٢٠٧ ه‍ ).

(٦) تفسير البرهان ٢ : ١٠٧ ، عليّ والخلفاء : ١٧١ نقلاً عن كتاب زين الفتى.

(٧) قضاء أمير المؤمنين للتستريّ : ٦٧ ( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : ١٧٦.

(٨) قضاء أمير المؤمنين : ٨٢ ( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : ١٧٨.

(٩) قضاء أمير المؤمنين : ٦٤ ، البحار ٩ : ٤٨٣ ( الطبعة القديمة ).

١٤٤

١٠. سؤال كعب الأحبار من عثمان وإرجاع عثمان له على الإمام عليّ (١).

١١. طرح سؤال عويص من الروم على معاوية والتماس معاوية الجواب من الإمام عليّ بطريقة ماكرة (٢).

١٢. طرح أسئلة اُخرى من جانب البلاط الرومانيّ على معاوية واستمداد معاوية الأجوبة من الإمام عليّ عليه‌السلام (٣).

١٣. طرح أسئلة للمرّة الثالثة من جانب الامبراطور الرومانيّ على معاوية والتماس معاوية الأجوبة من الإمام عليّ عليه‌السلام أيضاً (٤).

إنّ هذه الوقائع ووقائع كثيرةً اُخرى تشير بوضوح إلى عدم قدرة الاُمّة ، على مواجهة الشبهات والشكوك التي كان يبثّها ويلقيها أعداء الإسلام على المسلمين لتقويض عقيدتهم ، فهل كان من الجائز أن يترك الله سبحانه الاُمّة الإسلاميّة ـ والحال هذه ـ من دون أن يربّي ويخلّف فيهم من يصون الدين ويحفظ عقيدة اتباعه من أخطار التشكيك ، وذلك بالوقوف في وجه كلّ مشكّك وصاحب شبهة بالمنطق أو الجدل المفحم ، وهل يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفاً بأبعاد الدين وقضاياه تفصيلاً ، ويكون محيطاً بما في الأديان الاخرى وما في كتبها وعند علمائها ؟

أليس أي نكسة تصيب المسلمين في هذا المجال من شأنها أنّ تؤثر على معنويّتهم وتزعزع اعتقادهم ، وتزيد من جرأة الأعداء وطمعهم في إخراج المسلمين من دينهم ؟.

إنّ بقاء أي دين وعقيدة ، يرتبط بمدى قدرة المدافعين عن حياضه ، والذبّ عن كيانه الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ ، إمّا بقوّة السلاح أو بقوّة المنطق من قبل

__________________

(١) عليّ والخلفاء : ٣١٣ نقلاً عن كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين : ١١٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) قضاء أمير المؤمنين : ٧٨ و ١١٤ ، عليّ والخلفاء : ٣٢٠.

(٤) قضاء أمير المؤمنين : ١٦ نقلاً عن مناقب ابن شهر بن آشوب.

١٤٥

الشخصيات المؤهلة القادرة على الدفاع الحازم.

بل لابدّ من الاعتراف بأنّ القوّة العسكريّة وحدها غير كافية للمحافظة على سطوع الدين وبقائه ، وسلامته على مدار الزمان ، فلابدّ ـ مضافاً إلى ذلك ـ من وجود الشخصيّات العلميّة اللائقة التي تحرس سياج الدين ، وتلبّي احتياجات الاُمّة ، وتمدّها وتمدّ عقيدتها بطاقة البقاء والاستقامة والحياة.

من هنا يتعين على صاحب الدعوة تربية وتعيين من يكون جديراً بتحمل هذه المسؤولية وقادراً على القيام بها لينير للمسلمين طريقهم ، ويصون من شبهات العابثين المغرضين إيمانهم وعقيدتهم.

* * *

٥. الفراغ في مجال صيانة الدين من التحريف

إنّ من أهم ما كان يقوم به النبيّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو محافظته الشديدة على الدين وصيانته من التحريف والدسّ ، فقد كان يعلم المسلمين كتابهم العزيز ، ويراقب ما أخذوه عنه من اُصول وفروع فينبّه على خطأهم ، ويدلّهم على الحق.

ولا ريب أنّ من أبرز ما تتمتّع به امّة من الامم ، هو قدرتها على حفظ دينها من كيد الكائدين ودس الداسيّن وتحريف المحرفين ، وهو الخطر الذي تعرضت له جميع الأديان السالفة والمذاهب السابقة وعانت منه أسوء أنواع الدسّ والتحريف وإلى هذا يشير القرآن إلى ما عانى منه دين موسى على أيدي أتباعه اليهود ، إذ قال : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء : ٤٦ ).

ولقد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم بهذه المهمة الخطيرة في حياته الشريفة ... فكيف يمكن تحقيق ذلك بعد وفاته ؟ وكيف يمكن حفظ الدين من التحريف بعده ؟!

إنّ صيانة الدين من التحريف والدسّ ، لا تمكن إلاّ إذا توفرت لدّى الاُمّة اُمور ثلاثة :

١٤٦

١. أنّ تكون الاُمّة قد بلغت في الرشد الفكريّ والعقليّ مبلغاً يؤهلها للحفاظ على أسس الشريعة ومفاهيمها من أي دسّ وتحريف.

٢. أن تكون فروع الدين واُصوله واضحةً ومعلومةً لدى الاُمّة ، وضوحاً يمكِّنها من تمييز الحقّ عن الباطل ، والدخيل عن الأصيل في مفاهيمه ، وعقائده وتشريعاته.

٣. أن يكون لديها كلّ ما صدر من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحاديث ونصوص كاملة ، لتقدر بمراجعة ما لديها من الحديث وعلم الكتاب ومعارفه ، على أن تميِّز الصحيح من المجعول والوارد من الموضوع.

ولا ريب أنّ الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت آنذاك بفضل جهود صاحب الدعوة ، إلى درجة مرموقة من الوعي والحفظ لنص الكتاب الكريم ما يجعلها قادرةً على حفظ النصّ القرآنيّ من التحريف ، وصونه من محاولات الزيادة والنقصان كما نرى ذلك في قصة الصحابيّ الجليل « ابيّ بن كعب » الذي كان له موقف عظيم من عثمان في قضية إثبات الواو في آية الكنز ، وإليك الواقعة كما ينقلها تفسير الدرّ المنثور عن علباء بن أحمر : ( انّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا (١) أن يلقوا ( الواو ) التي في سورة البراءة في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة : ٣٤ ).

قال ابيّ : ( لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ) فألحقوها (٢).

فقد كان عثمان يريد أن يقرأ قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار اليهود ... وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم ، فإنّ حذف الواو كان يعني ، أنّ آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين ، بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من

__________________

(١) هكذا في الأصل ، والصحيح : أراد إلاّ أن يراد الكتّاب.

(٢) الدرّ المنثور ٣ : ٢٣٢.

١٤٧

هذا إضفاء طابع الشرعيّة على اكتناز الأموال الطائلة الذي كان يقوم به جماعة من بطانة الخليفة كما يشهد بذلك التأريخ.

ولكن عثمان لم يستطع تحقيق هذا المطلب فقد عارضه أبّي بن كعب ، واعترض عليه هذا التغيير الطفيفة اللفظي في الظاهر.

وهذا يكشف عن مدى حفظ الاُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة. بيد أنّ حفظ الاُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحدّ ، إذ كان غير شامل لجوانب اخرى من الشريعة واُصولها ومصادرها وينابيعها.

ويدل على ذلك :

أوّلاً : أنّ الامّة اختلفت في تفسير الكثير من آيات القرآن ، وبيان مقاصده ومعارفه اختلافاً جرّ إلى تعدّد المذاهب ، ونشوء الاتّجاهات المختلفة ، والتيارات المتضاربة وكلّ يتمسّك بالكتاب وربّما بالسنّة.

فمن جبريّة إلى معتزلة ، إلى صفاتيّة إلى خوارج ، إلى مرجّئة ، وشيعة ، وكلّ منها يتفرع إلى فرق وطوائف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في العقيدة والمسلك ، وفي الاُصول والفروع (١).

فهل يمكن أن يكون كلّ ذلك هو الحقّ الذي تضمّنه القرآن ، ودعا إليه ؟!!

أليس ذلك يدل على أنّ الاُمّة لم تبلغ في الإحاطة بالشريعة والنضج الفكريّ الإسلاميّ ذلك المستوى الذي يؤهلها لحفظ الاُصول والفروع ، والمحافظة على ما يتّصل بالكتاب والسنة ، وطرح ما لا يمتّ إليهما بصلة.

ثانياً : أنّ التأريخ يشهد بأنّ الأمّة الإسلاميّة ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلاميّة واستوعبت شعوباً كثيرةً ، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار

__________________

(١) راجع للوقوف على هذه المذاهب وفروعها : الملل والنّحل للشهرستانيّ والفرق بين الفرق وغيرهما ممّا ألّف في هذا المجال.

١٤٨

اليهود وعلماء النصارى في الإسلام ، مثل كعب الأحبار وتميم الداريّ ووهب بن منبّهوعبد الله بن سلام ، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين ، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيليّة ، والخرافات والأساطير النصرانيّة في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.

وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة ، تخيِّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن ، وتؤثر في حياتهم العمليّة ، وتوجّهها في الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم. ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير ، إلاّ من عصمه الله كعليّ عليه‌السلام الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال : « ولو علم النّاس أنّه منافق كذّاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدّق ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله » (١).

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة :

وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له أحاديثهم ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الاُمّة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب :

ميزان الاعتدال للذهبيّ.

وتهذيب التهذيب للعسقلانيّ.

ولسان الميزان للعسقلانيّ

ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال.

ولعل فيما قاله البخاري صاحب « الصحيح » المعروف ، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة ، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري :

إنّ أبا عليّ الغسّانيّ روي عنه أنّه قال : خرّجت الصحيح من ٦٠٠ ألف

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٢٠٥.

١٤٩

حديث (١).

وروى عنه الإسماعيليّ أنّه قال :

احفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (٢).

ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم ( الصحاح والمسانيد ) من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن غيرها ، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال ، انتخبته من خمسمائة ألف حديث (٣).

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرارعلى ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث (٤).

وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف (٥).

وذكر احمد في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (٦).

وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأمينيّ في موسوعته ( الغدير ) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم ٧٠٠.

وما قام به رحمه الله وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه ، غير أنّه لو قام بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.

__________________

(١) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : ٤.

(٢) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : ٥.

(٣) طبقات الحفّاظ للذهبيّ ٢ : ١٥٤ ، تاريخ بغداد ٩ : ٥٧.

(٤) إرشاد الساري ١ : ٢٠٨ ، صفوة الصفوة ٤ : ١٤٣.

(٥) طبقات الحفاظ للذهبيّ ٢ : ١٥١ ، ١٥٧ ، شرح صحيح مسلم للنووي ١ : ٣٢.

(٦) طبقات الذهبيّ ٩ : ١٧.

١٥٠

والذي يرشدك إلى كثرة الاحاديث الموضوعة الكاذبة ما يوجد في ترجمة شرذمة قليلة من أولئك الجمّ الغفير من الكذّابين ، من أنّه وضع عشرة آلاف حديث كما ذكروه في ترجمة أحمد بن عليّ الجويباريّ.

فقد قام الباحث المتقدم الذكر بعد ما أورد من الأرقام في ترجمة اولئك الكذابين بإحصاء عدد الأحاديث التي وضعوها أو قلبوها فبلغت ما يقارب النصف مليون حديثاً.

وهذه الأرقام راجعة إلى واحد وأربعين شخصاً (١).

وقد الفّت في تمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة كتب نذكر منها ما ألّفه أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ المعروف بابن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى ( ٥٩٧ ه‍ ) الذي ذكر كلّ حديث موضوع.

وقد تنبّأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيصيب سنتّه الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين ، ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام ، وأخبر عن وجود من يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال : « يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين ، وانتحال الجاهلين ، كما ينفي الكير خبث الحديد » (٢).

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : « إنّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (٣).

أليس كلّ هذا يستوجب ، أن يربّي النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده من يتمتّع بالعصمة الكافية والعلم الواسع ليحفظ الدين من محاولات التحريف ، ويصون الشريعة من أي خيانة ودسّ ؟

__________________

(١) راجع الغدير ٥ : ٢٤٧ ـ ٢٤٩ تحت عنوان ( قائمة الموضوعات والمقلوبات ).

(٢) رجال الكشّيّ : ٥.

(٣) الكافي ١ : ٢٥.

١٥١

خلاصةُ ما سبق

لقد تبين مما تقدم أنّ الإمام الذي يخلّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من يقوم مقامه في سدّ ما حدث بوفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فراغ هائل بل فراغات كبرى في الحياة الإسلاميّة :

فكما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقوم إلى جانب مهمّة التبليغ للدين الإلهيّ ب‍ :

١. بيان معالم الشريعة وأحكامها حسب الحاجات المتجددة في حياة الاُمّة.

٢. شرح معاني القرآن الكريم ، وتفسير آياته ، وبيان مقاصده وكشف القناع عن أسراره ورموزه وأبعاده حسب اقتضاء الظروف والنفوس.

٣. هداية الاُمّة نحو التكامل الروحيّ والمعنويّ بتوحيد صفوف الاُمّة وجمع شملها ، وتعاهدها بالتربية والتزكية ..

٤. الدفاع عن حمى الشريعة ، بالرد على الشبهات ، والإجابة على الأسئلة العويصة وتبديد الشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام.

٥. صيانة الدين عن محاولات الدسّ والتحريف ، في مفاهيمه وشرائعه.

أقول : كما أنّ وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يملأ هذه الفراغات الهائلة ، فإنّ فقدانه يوجب حدوثها ، فلابدّ من إمام معصوم ليملأها كما كان النبيّ يملأها بحزمه وعلمه ، وقيادته وهدايته.

فعلى الإمام ـ بما لديه من علم شامل بأبعاد الشريعة وجزئياتها ـ أن يعالج مشاكل الاُمّة المستحدثة ، ويفسّر لهم الكتاب العزيز ويكشف لهم ما لم يكشف من أبعاده ووجوهه ، ويعين الاُمّة على مواصلة طريق التكامل الذي بدأته بدعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدافع عن حمى الشريعة برد الشبهات ، والإجابة الوافية على الأسئلة العويصة التي يثيرها الأعداء ، بهدف احراج المسلمين وزعزعتهم عن عقيدتهم ، ويصون الدين والعقيدة من أي تحريف ودسّ.

وبالتالي ، يقوم بكل ما يقوم به النبيّ من قيادة وهداية ، وتربية وتزكية.

١٥٢

ولمّا كانت هذه المسؤوليات لا ينهض بها إلاّ الإمام اللاّئق بخلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القادر على سدّ الفراغ الكبير الذي يحدثه غياب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا توجد هذه اللياقة بالتربية العاديّة المتعارفة بل لا بدّ من عناية ربانية واعداد إلهيّ.

ولمّا كانت معرفة مثل هذا الإمام اللائق المعصوم متعذرةً على الاُمّة ، يتعين على الله سبحانه العارف بعباده ، المحيط بهم ، أن يعرّف الاُمّة بالإمام وينصبه لهم. ولا يترك الأمر إلى نظر الاُمّة ورأيها لتختار حسب ما ترى ، وتشاء.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس ( ابن سينا ) أشار في بعض كلماته إلى فوائد تنصيب الإمام ، التي ترجع إلى بعض ما ذكرنا ، وإليك بعض نصوص كلماته : ( ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كلّ وقت فإنّ المادة التي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة ، فيجب لا محالة ، أن يكون النبيّ قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً ).

إلى أن قال ـ في الفصل الخامس ـ : ثمّ يجب أن يفرض السانّ ( أي الشارع ) طاعة من يخلفه ، وأن لا يكون الاستخلاف إلاّ من جهته ( أي من جهة السانِّ الشارع ) أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون ، علانيةً ، عند الجمهور أنّه مستقل بالسياسة وأنّه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير ، وأنّه عارف بالشريعة حتّى لا أعرف منه تصحيحاً.

إلى أن قال : ويسنّ عليهم أنّهم إذا افترقوا وتنازعوا للهوى والميل ، أو أجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق فقد كفروا بالله.

والاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف ) (١).

__________________

(١) الشفاء ٢ ( الفن الثالث عشر في الإلهيّات ـ المقالة العاشرة الفصل الثالث والخامس ـ في المبدأ والمعاد ) : ٥٥٨ و ٥٦٤ ( طبعة إيران ).

١٥٣

الطريق الثالث

٣

الخلافة عند النبيّ

والصحابة والاُُمم السابقة

١. تصوّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مسألة القيادة بعده.

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ.

٣. صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السالفة.

لقد دلّت المحاسبات العقليّة والاجتماعيّة السابقة على لزوم تعين الإمام من جانب الله تعالى ، وأثبتت أنّ إيكال الأمر إلى نظر إلامّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح ، يأباه العقل وترفضه المصالح العامّة وتعارضه المحاسبات الاجتماعيّة.

هذا ويمكن الاستدلال أيضاً على لزوم نصب الإمام من جانب الله بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم إيكال ذلك إلى رأي الاُمّة ، بالأدلّة النقلية والتاريخيّة وهي تشمل :

١ / تصوّره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مسألة القيادة من بعده.

٢ / تصوّر الصحابة عن هذه المسألة.

٣ / صيغة القيادة ـ لدى الامم السابقة ـ وسيرتهم في ذلك بعد غيبة أنبيائهم.

وإليك فيما يلي بيان هذه الاُمور والأدلة بالتفصيل :

١٥٤

١. تصوّر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن القيادة بعده :

لا ريب أنّ من أهمّ الأدلة على لزوم نصب الإمام والقائد بعد النبيّ هو تصوّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه عن هذه المسألة ، فماذا كان هذا التصوّر ؟

هل كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتقد بلزوم نصب الإمام والقائد من جانب الله ؟ أم كان يعتقد ترك ذلك إلى نظر الاُمّة وإرادتها وإختيارها ؟ أم كان يعتبر ذلك من شؤونه واختصاصاته على الأقل ؟

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم وموقفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قضية القيادة بعده ، تدلّ على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألةً إلهيّةً وحقاً إلهيّاً ... فالله سبحانه هو الذي له أن يعين القائد وينصب الخليفة الذي يخلِّف النبيّ بعد وفاته. ولا نجد في كلّ ما نقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الاُمّة ونظرها ، أو إلى اراء أهل الحلّ والعقد واجتماعهم ، أو غير ذلك من صور الانتخاب والتعيين غير الإلهيّ.

إنّ الأدلة والشواهد النقليّة تشهد برمتها بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر للاُمّة مراراً بأنّ تعيين الأمير من بعده أمر إلهيّ ، وليس له في ذلك شيء ، فلا يمكنه أن يقطع لأحد عهداً بأن يستخلفه من بعده ، دون أن يأذن الله تعالى له في ذلك أو يأتيه منه سبحانه أمر ووحي.

وفيما يأتي نذكر شاهدين تأريخيين على ذلك ، والشاهد الأوّل أكثر صراحة في ما ذكرناه :

١. لمّا عرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه على بني عامر الذين جاؤوا إلى مكة في موسم الحجِّ ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم : ( أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ ).

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء » (١).

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢ : ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

١٥٥

٢. لما بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سليط بن عمرو العامريّ إلى ملك اليمامة ( هوذة بن عليّ الحنفيّ ) الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي ، وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو سألني سيابةً من الأرض ما فعلت ... باد وباد ما في يده » (١).

ونقل ابن الأثير على نحو آخر فقال : أرسل هوذة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفداً يقول له :

( إن جعل له الأمر من بعده أسلم وصار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه ).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمات بعده قليل لا ولا كرامة ... اللهمّ اكفنيه » (٢).

إنّ هذين النموذجين التاريخيين الذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلان بوضوح كامل على تصوّر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده ، فهما يدلاّن على أن هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبيّ ، وسئل عمّن سيخلّفه في أمر قيادة الأمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه ، أو إلى نظر الاُمّة ، بل يرجع أمرها إلى الله تعالى. أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

على أنّ مسألة انتخاب الخليفة القائد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت من شؤون الاُمّة وصلاحياتها وجب أن يصرح النبيّ بذلك أو يشير إلى أصل الموضوع ولو بالإجمال.

بل وجب أن يبيّن للاُمّة الطريقة الصحيحة للانتخاب ، ويذكر لهم الشروط والضوابط اللازمة في الناخب ، والمنتخب ، لكي يتحقق هذا الأمر بوجه صحيح ، بينما نجد النبيّ لا يتعرض لهذا الأمر أبداً ، ولم يؤثر عنه أي نقل ، وإرشاد وتعليم في هذا المجال ، رغم أهميّة الموضوع وخطورته البالغة ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تعرّض لاُمور أسهل وأبسط

__________________

(١) طبقات ابن سعد الكبرى ١ : ٢٦٢.

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ : ١٤٦.

١٥٦

من ذلك فهل مسألة القيادة ، والإدارة والإمرة ـ وخصوصاً في تلك الظروف العصيبة وبالنسبة إلى تلك الاُمّة الناشئة ـ أقلّ شأناً ، وأهميّةً من المستحبّات والمكروهات التي ورد فيها الكثير الكثير من الأحاديث النبويّة ؟

* * *

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبيّ ، يرى بوضوح أنّ الطريقة التي اتبعها أولئك الصحابة ، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابيّة لا الانتخابيّة الشعبيّة.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق ، إمّا مباشرة أو بتعيين شورى تتولى هي تعيين الخليفة والاتفاق عليه ... ولم يترك أحد من أولئك الخلفاء أمر القيادة إلى نظر الاُمّة وإرادتها واختيارها ، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار ، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا هم ـ بمحض إرادتهم ـ من يشاؤون للخلافة والإمرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى ، أنّ خلافة ( عمر بن الخطاب ) تمت بتعيين من أبي بكر.

وأمّا خلافة ( عثمان بن عفان ) فتمت بواسطة شورى عيّن ( عمر بن الخطاب ) أفرادها وأمرهم بانتخاب الخليفة من بين انفسهم ، ولم يترك أحد من هؤلاء أمر القيادة إلى اختيار الاُمّة.

وإليك تفصيل الأمر في كيفية استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ... ويليه تفصيل لكيفية استخلاف عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان.

أ ـ استخلاف أبي بكر لعمر

قال ابن قتيبة الدينوري في تاريخ الخلفاء : ( ... دعا ( أبو بكر ) عثمان بن عفان ،

١٥٧

فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان ، وأملى عليه : ( بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي استخلف عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم ظنّي به ورجائي فيه ، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت ، ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) (١).

ويظهر من ابن الاثير ـ في كامله ـ أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده ، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء ، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثمّ إنّه لمّا أفاق أبو بكر من غشيته ، وافق على ما كتبه عثمان ، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير : ( ... إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر فقال له : اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة ، أمّابعد ... ثم اغمي عليه ... فكتب عثمان : فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي ) (٢).

قال عثمان : نعم.

قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم ، وأرسل الكتاب مع مولىً له مع ( عمر ) وكان عمر يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله إنّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس ... فلمّا قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة للدينوريّ المتوفّي ( ٢٦٢ ه‍ ) : ١٨ ( طبعة مصر ).

(٢) هل يمكن أن يلتفت الخليفة إلى الخطر الكامن في ترك الأمّة دون خليفة يستخلفها عليهم ولا يلتفت إليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

(٣) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ : ٢٩٢ وطبقات ابن سعد الكبرى ٣ : ٢٠٠ ( طبعة بيروت ).

١٥٨

وقد نقل موضوع استخلاف ( ابي بكر ) ل‍ ( عمر ) عدة من أعلام التأريخ والحديث بهذين النحوين من النقل.

ب ـ استخلاف عثمان

وأمّا قصة استخلاف عثمان فهي كالآتي ، كما نقلها وأثبتها كتّاب التأريخ وأعلام السيرة :

قال ابن قتيبة الدينوريّ في كتابه الإمامة والسياسة : ( قال عمر : ساستخلف النفر الذين توفيّ رسول الله وهو عنهم راض ..

فأرسل إليهم فجمعهم ، وهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن عوّام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن عوف وكان طلحة غائباً فقال :

يا معشر المهاجرين الأولين : إنّي نظرت في أمر الناس ، فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ، فتشاوروا ثلاثة أيام ، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك ، وإلاّ فأعزم عليكم بالله أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتّى تستخلفوا أحدكم ) (١).

وكتب ابن الأثير في كامله : ( انّ عمر بن الخطاب لمّا طعن قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت ؟ فقال : من استخلف ؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ... ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته ..

فقال رجل : أدلّك عليه ؟ عبد الله بن عمر ، فقال ( عمر ) : قاتلك الله كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته ... الى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهّم من أهل الجنّة وهم عليّ

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوريّ المتوفّي عام ( ٢٦٢ ه‍ ) : ٢٣.

١٥٩

وعثمان وعبد الرحمان وسعد والزبير بن عوّام وطلحة بن عبد الله.

فلمّا أصبح عمر ، دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمان والزبير ، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم. وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض. فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها ، واختاروا منكم رجلاً ، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام ، وليصلّ بالناس صهيب ، ولا يأتي اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير ».

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب : « صلِّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ... وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبد الله بن عمر فان لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس ) (١).

وممّا يدلّ على أنّ هذا الموقف والرأي لم يكن موقف الصحابة ورأيهم خاصّة في مسألة الاستخلاف والقيادة بل أنّ الرأي العام في ذلك العهد كان يعتقد ضرورة استخلاف القائد والحاكم ، وعدم ترك الأمر إلى نظر الناس وإرادتهم وانتخابهم ، نظريات لطائفة من الشخصيّات نذكر بعضها فيما يأتي :

١. نقل أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحس بالموت قال لابنه [ عبد الله ] : ( اذهب إلى عائشة واقراها مني السلام ، واستأذن منها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر.

فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها ... فقال : ( نعم وكرامة ).

ثمّ قالت : ( يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له : لا تدع امّة محمّد بلا راع ... استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة ) (٢). فأتى عبد الله

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ : ٣٥.

(٢) وهل يمكن أن تلتفت أمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٦٠