مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس : ٢٧ ـ ٣١ ) ، ثمّ قال : ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال : ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه ) (١).

(ز) : خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ ... وكان أمير المؤمنين حاضراً ... فقال : « يا عمر ، ليس هذا حكمهم » ، قال عمر : أقم أنت عليهم الحكم ، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه ، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره ، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال : يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة ، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم ... أما الأوّل : فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني : فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث : فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع : فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس : فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر : ( لا عشت في اُمّة لست فيها يا أبا الحسن ) (٢).

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح ، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح ، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢ : ٥١٤ ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١ : ٢٦٨ ، الكشّاف ٣ : ٣١٤.

(٢) الكافي ٧ : ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها ، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها ، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة ) ، إذ بهذه الصورة فحسب ، كان من الممكن أن يلي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه ، من حل معضلاتها ، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة ، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك ، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً ، وعلى نسق واحد ، بل فيه : المحكم والمتشابه والعامّ ، والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمنسوخ والناسخ ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته (١).

ثمّ لمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها ... فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك ، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّ عليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ... فيكم كتاب ربّكم ، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه ، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة : الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً ، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر ، وعلى أبعاد عديدة (١) تخفى على العاديين من الناس ، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة ، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة : ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول : ( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل : ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر : ١٧ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان : ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح ، وما التفسير إلاّ رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه : « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام في شأنه : « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢ : ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض » (١).

لأجبنا : صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر ، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس إذ يقول تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : ٤٤ ). ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل : ٦٤ ).

فقد وصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هاتين الآيتين ، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه ، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس ، كما يقول سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة : ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن ، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر ، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة ، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً : وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً : كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول ، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور ، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً : إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً ، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها ، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم ، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن : المطلق والمقيّد ، والعام والخاصّ ، والمنسوخ والناسخ ، والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها ... فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان مجمله ومطلقه ومقيده ... وما شابه ذلك ، وقد فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين ... بيد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة ، لعدم الحاجة إلى ذلك ، وتحيّناً للظروف المناسبة ، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها ، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز ، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة ، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة ، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه ، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم ، قال شيخ الطائفة الطوسيّ رحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه : ( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف : ١ ـ ٢ والدخان : ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين ، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه ، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر ، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه ) (١).

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً ، هو وضوح انتسابه إلى الله ، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه ( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩ : ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة : ٢ ) ، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : ٤٤ ) وقوله سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة : ١٦ ـ ١٩ ، ، يقضي ، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً : لمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور ، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة ، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل ، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود ، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة : « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة » (١).

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة ، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف ، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره ، إلاّ معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره ، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار ، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية ، ولا تحصى أبعاد قدرته ، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن ، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة ، وأفاق كثيرة ، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا ، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات ، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١ : ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته عليهم‌السلام وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة ، وإن كان ممكناً للجميع ، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء : ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون : ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل : ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد ، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع ، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي ، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها ، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة ، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف ، واستعدّت له النفوس المعاصرة ، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة ، فيما يأتي من الزمان ، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً : لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ... ولذلك ، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده ، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن ، وبعد الناس عن عهد نزوله ، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة ، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم ، وتاريخه ، وعلومه.

ولأجل ذلك ، يطلب الإمام عليّ عليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن ، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقول عليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً » (١).

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة ، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلاّ بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة ، وتعتبر قوله قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١. قال سبحانه في آية الوضوء : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة : ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية ، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم ، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) نهج البلاغة : الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟ (١).

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة : ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل : إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام ، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل : إنّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكفّ والذراع ، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل : إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج (٢).

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه : ( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء : ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء : ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين ... بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام ، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة ، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى ، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣ : ٥٤ ، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها ، ومفاتيح الغيب ١١ : ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ) : ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات ، كالواحديّ وغيره ، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها ، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود ، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة : ١٨٩ ).

فيقال ، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ... ) وعلى فرض وضوح المناسبة ، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل : ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض ، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه : ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة : ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن ، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث ، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ ، من دون زيادة أو نقصان ، ومن دون تحريف أو تزييف ، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ... ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه ، وأميناً على سره ، ومؤدّباً بتأديبه ، وناشئاً على ضوء تربيته ، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف ، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل ، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة ، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته ، ويبيّن أبعاده ، ويكشف عن معالمه ، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة ، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة ، وهو الإرشاد والهداية ، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير ، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم ، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق ) عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال : « صدقت ».

قلت : إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة ، وأنّ لهم الطاعة المفترضة ، وقلت للناس : تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين

١٣١

مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقاً ، فقلت لهم : من قيّم القرآن ؟ (١) فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم ، قلت : كلّه ؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّاً عليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري ، فأشهد أنّ عليّاً عليه‌السلام كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضةً ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ) : « رحمك الله » (٢).

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام فقال له : « كلّم هذا الغلام » ، يعني هشام بن الحكم ، فقال : نعم ، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ : أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا ، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال : فمن هو ؟

قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال هشام : فبعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قال : الكتاب والسنّة.

قال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ : نعم.

قال : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت ألينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني ، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال : فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ : « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ : إن قلت : لم نختلف كذبت ، وإن قلت : إنّ الكتاب السنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت ، لأنهّما يحتملان الوجوه ، وإن قلت : قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلاّ أنّ لي عليه هذه الحجّة (١).

أجل ، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه ، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ... إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (٢).

وروي هكذا أيضاً : « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : الثّقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ألاّ وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (٣).

فقد صرح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم افتراق الكتاب والعترة ، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده ، وذلك يقتضي ، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١ : ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥ : ١٨٢ و ١٨٩ ، والحاكم في مستدركه ٣ : ١٠٩ ، ومسلم في صحيحه ٧ : ١٢٢ ، والترمذيّ في سننه ٢ : ٣٠٧ ، والدارميّ في سننه ٢ : ٤٣٢ ، والنسائيّ في خصائصه : ٣٠ ، وابن سعد في طبقاته ٤ : ٨ ، والجزريّ في اسد الغابة ٢ : ١٢ ، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع ، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون ، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله ، وعلّته الغائيّة ، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال ، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة ، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ ..

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه ، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين : المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلاّ في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً ، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات ، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته ، وتوجيهه ، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ... ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم ، بالتزكية والتعليم والتربية ، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل ، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن ، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى ، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً ، دوراً أساسيّاً وعظيماً ، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً ، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع ، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل ، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود ... فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة ، فسقطت في الحضيض ، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة ... وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسين عليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة ، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً ، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة : « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه ( إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) » (١).

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلاّ عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام ، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط ، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة ، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية : الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح ، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل ، وهداية الأنبياء ورعايتهم ، هو نفسه يستدعي ، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين ، للنبيّ ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال ، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب ، والتقهقر إلى الوراء ، كيف لا ، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة ، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين ، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة ، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟ (١).

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه ، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم » (٢).

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ] عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل » (٣).

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ) : ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١ : ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة : « اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً ، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته » (١).

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام : أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال : نعم.

فقال : ألك عين ؟

قال : نعم.

قال : فما تصنع بها ؟

فقال : أرى بها الألوان والأشخاص.

قال : فلك أنف ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : أشمّ به الرائحة.

قال : ألك فم ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : أذوق به الطعام.

قال : فلك اُذن ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة : قصار الكلمات.

١٣٧

فقال : أسمع به.

قال : ألك قلب ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال : أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال : لا.

قال : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال : يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته ، أو ذاقته ، أو سمعته ، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام : فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال : نعم.

قال : لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال : نعم.

قال : يا أبا مروان ، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام : فسكت ولم يقل لي شيئاً (١).

وغير خفي على القارئ النابه ، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات ، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة ، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول : أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل ، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء ، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم ، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام ، إلاّ بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية ، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة ، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد ، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر ، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين ، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلاّ أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم اليهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة ، فأخبرهم عن أجوبتها ، وأخبرهم بأنّ الأوّل ، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف ، والثاني ، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً ، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء : ٨٥ ) ، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه (١).

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستدلوا لاعتقادهم في المسيح عليه‌السلام بكونه ولداً لله ، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران : ٥٩ ) (٢).

وعن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل خمسة أديان : اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ : ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١ : ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠