تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

الإتيان بها على الوجه القربي.

إشكال الأُستاذ

وأورد عليه الأُستاذ بوجهين : أحدهما في قوله في طرح الاشكال بعدم امكان كون الأمر الغيري عباديّاً ، وأنّه غير معقول. فإنّ فيه : أنّ المقدّمة هي ما يتوقّف عليه الشيء ، وهو قد يكون عبادةً تتقوّم بالقصد ، وقد لا يكون كذلك.

والثاني في قوله في تقيّد الصّلاة بالطهارة بأنّه عبادي. ففيه : أن كونه عبادة يحتاج إلى دليلٍ ، فإنْ كان الدليل عليه هو نفس الدليل على وجوب الإتيان بالصّلاة بقصد القربة ، بتقريب أنّ الصّلاة في هذه الحال مركّبة من التقيّد ومن الأجزاء ، فإن هذا يتوقّف على دخول التقيّد المذكور في ماهيّة الصّلاة بحيث لا يصدق عنوان الصّلاة إنْ جرّدت عنه ، والحال أنه ليس كذلك ، بل يصدق عنوان الصّلاة على الفاقدة للتقيّد.

وعلى فرض دخول التقيّد في الصّلاة كذلك ، فما الدليل على ضرورة كون القيد ـ كالوضوء مثلاً ـ عملاً عباديّاً حتى يتحقّق التقيّد؟ بل إنّ الصّلاة مقيّدة بعدم الخبث في لباس المصلّي ، فكان التقيّد داخلاً ، مع أنّ غسل الثوب المحصّل له ليس بعملٍ عبادي.

وذكر بعضهم : إنّ منشأ العباديّة للطهارات هو قابليّتها للتقرّب إلى المولى ، وهذا كاف لترتّب الآثار كالثواب ... ويشهد بكفاية القابليّة ارتكاز المتشرعة ، فإنّهم لا يأتون بالوضوء ـ مثلاً ـ بداعي استحبابه النفسي ، بل يأتون به بعنوان أنه بنفسه قابل للتقرّب به إلى المولى.

اشكال الأُستاذ

فأورد عليه الأُستاذ : بأنْ الأُمور ثلاثة ، فمنها : ما لا يصلح للمقربيّة لأنّه

٦١

لا يقبل الإضافة إلى المولى أصلاً كالظلم ، لقبحه الذاتي. ومنها : ما يصلح لذلك لأنّه يقبل الإضافة إليه كالعدل ، لحسنه الذاتي ، ومنها : ما لا يصلح لذلك إلاّ بعد الإضافة وأمّا قبلها فلا ، والحاكم في صلوحه لذلك هو العقل ، والعقل يرى المقربيّة في أحد أمرين إمّا أن يكون مقرّباً بالذات كالتعظيم ، وامّا أن يكون مقرّباً بالعرض ... والطهارات الثلاث ليست عبادةً بالذات ، وعباديتها بالعرض موقوف على إضافتها إلى المولى ، بأنْ يؤتى بها بداعي الأمر أو المحبوبيّة ، فلا يكفي مجرّد القابليّة فيها للعباديّة.

وقال السيد الخوئي : «والصحيح في المقام أن يقال : إنّ منشأ عباديّة الطّهارات الثلاث أحد أمرين على سبيل منع الخلو أحدهما : قصد امتثال الأمر النفسي المتعلّق بها مع غفلة المكلّف عن كونها مقدمة لواجب أو مع بنائه على عدم الإتيان به ، كاغتسال الجنب ـ مثلاً ـ مع غفلته عن إتيان الصلاة بعده أو قاصد بعدم الإتيان بها ، وهذا يتوقّف على وجود الأمر النفسي ، وقد عرفت أنّه موجود. وثانيهما : قصد التوصّل بها إلى الواجب ، فإنّه أيضاً موجب لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعاً ، لما عرفت في بحث التعبّدي والتوصّلي من أنّه يكفي في تحقّق قصد القربة إتيان الفعل. مضافاً به إلى المولى وإن لم يكن أمر في البين» (١).

إذن ، ارتفع الإشكال ، لأنّ عباديّة العمل أصبحت منوطةً بإضافته إلى المولى وهي متحقّقة ، كما يرتفع اشكال ترتّب الثواب ، لأنّه قد أتى بالعمل بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي لا بداعي الأمر الغيري.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٢٢٩.

٦٢

قال الأُستاذ

إنّ هذه النظريّة متّخذة من كلام الشيخ الأعظم رحمه‌الله في باب التعبّدي والتوصّلي ، ومن كلام له في باب المقدّمة.

قال الشيخ في الفرق بين التعبّدي والتوصّلي كما في (التقريرات) (١) : بأنّ الفرق بينهما ليس من ناحية الأمر ، بل من ناحية الغرض والمصلحة القائمة بمتعلّق الأمر ، ففي التوصّلي تتحقّق المصلحة بالإتيان بالمتعلّق ، أمّا في التعبّدي فلا ، بل لا بدّ من الإتيان بقصد الامتثال ، فيكون في التوصّلي أمر واحد ، وفي التعبدي أمران ، يتعلّق الأول منهما بالعمل كقوله صلّ ، والثاني يقول : أقم الصلاة بقصد الامتثال وداعي الإطاعة ، وهذا ما أخذه الميرزا واصطلح عليه ب «متمم الجعل».

وقال الشيخ في باب المقدّمة (٢) : بأنّ التوصّل إلى ذي المقدمة تارةً : يكون بصرف وجود الأمر الغيري بلا دخلٍ لأمرٍ آخر ، وأُخرى : لا يتحقّق التوصّل إلى ذي المقدّمة إلاّ بالإتيان بالمقدّمة بداعي التوصّل إلى ذيها ، إذن ، لا بدّ من أمرٍ آخر لإفادة هذا المعنى وتحقيق الغرض من الأمر ، كما هو الحال في التعبّدي والتوصّلي ، مع فرق بينهما هو أنّ الأمرين هناك كلاهما نفسي ، بخلاف المقام فإنّ الأمرين كليهما غيريّان ، لتعلّق الأول بالوضوء وهو مقدمة للصّلاة فهو غيري ، وكذلك الثاني الذي أفاد الإتيان بالوضوء بداعي التوصّل إلى الصّلاة كما لا يخفى.

طريقة الأُستاذ لحلّ الاشكال

وقال الأُستاذ دام بقاه : بأنّ الإتيان بالعمل بداعي الأمر الغيري يرفع جميع المشاكل ، فإنّه يرفع مشكلة ترتّب الثواب ويرفع مشكلة عبادية الطهارات

__________________

(١) مطارح الانظار : ٥٨.

(٢) المصدر : ٧٨.

٦٣

الثلاث ، وعلى الجملة ، فإنّ العباديّة تتحقّق بالأمر الغيري وتترتّب عليه جميع الآثار.

أمّا ترتّب الثواب ، فيكفي فيه الإتيان بالعمل مضافاً إلى المولى ، فإذا أُضيف إليه صلح لأنْ يكون مقرّباً إليه ولأن يترتّب عليه الأجر والثواب ، بل العقل حاكم بكفاية الإتيان به بمجرّد كون المحرّك نحوه مطلوبيّته للمولى ، فلا خصوصيّة لإضافته إليه ، بل إنّ حصوله بداعٍ إلهي يجعله مورداً للثواب ، والإتيان بالطهارات كذلك ، وإنْ كان الطلب الدّاعي له غيريّاً لا نفسيّاً.

وكذلك عباديّة العمل ، فإنّها تتحقّق بإضافته إلى المولى وإنْ كان الطلب المتوجّه إليه غيريّاً ، لعدم الفرق في تحقّق الإضافة بين الطلب النفسي والغيري ، والأمر في الطهارات الثلاث من هذا القبيل ، فالعباديّة متحقّقة فيها بالأمر الغيري ولا إشكال في ذلك ، إلاّ مشكلة الدور التي ذكرها الشيخ ، لأن متعلّق الأمر فيها ليس هو الأفعال من الغسل والمسح ، بل الأفعال بوصف العباديّة ، فلو تحقّقت العباديّة لها من ناحية الأمر الغيري لزم الدور.

وقد تقدّم منّا حلّ هذه المشكلة : بأنها تبتني على أنْ تؤخذ في متعلّق الأمر الغيري خصوصيّة الإتيان به بقصده ، إذْ يلزم تقدم المتأخّر وتأخّر المتقدّم ، أو لا تؤخذ ولكنّ الإطلاق يكون بنحو جمع الخصوصيّات ، فتكون الخصوصيّة المذكورة مأخوذةً في ضمنها ، وأمّا إذا كان المتعلّق وهو الغسل والمسح في الوضوء مطلقاً بنحو رفض القيود ، كان المأخوذ فيه طبيعة العباديّة ، ويكون الإتيان به بقصد الأمر الغيري من مصاديق الطبيعة ، فالأمران مختلفان والدور غير لازم.

وتلخّص : إنّ منشأ عباديّة الطهارات الثلاث أحد أُمور ثلاثة :

١ ـ قصد امتثال الأمر الاستحبابي النفسي ، فالعمل مضاف إلى المولى. ذكره

٦٤

المحقّق الخراساني.

٢ ـ قصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي ، لأنّه يتحقّق لها بذلك إضافة إلى المولى. ذكره الشيخ.

٣ ـ قصد الأمر الغيري ، لأنّه يضاف العمل للمولى ، وإشكال الدور مرتفع بما ذكرناه ، وإن كان من الشيخ وارتضاه الآخرون ، وقال في (المحاضرات) : بأنّ الأمر الغيري لا يعقل أن يكون منشأً لعباديّتها (١). فقد ظهر أنّه معقول ، لأنّ الدور إنّما يلزم لو أُخذ خصوص الأمر الغيري فيها ، أمّا مع أخذ العباديّة مطلقاً أي بنحو رفض القيود فلا يلزم.

وهذا تمام الكلام في الطهارات الثلاث.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٢٣٢.

٦٥
٦٦

هل الوجوب الغيري

يتعلّق بمطلق المقدّمة

أو حصّةٍ معيّنةٍ منها؟

٦٧
٦٨

ثم إنّه قد وقع الخلاف بين الأعلام في متعلّق الوجوب الغيري ، فهل هو مطلق المقدمة أو خصوص حصّة معيّنة منها؟ أقوال :

أحدها : ما نسب إلى صاحب المعالم : من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والإرادة على الإتيان بذيها ... فيكون قيداً للوجوب.

والثاني : ما نسب إلى الشيخ من أنّ متعلّق الوجوب : المقدّمة التي قصد بها التوصّل إلى الواجب ... فيكون قيداً للواجب.

والثالث : ما اختاره صاحب الفصول : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة.

والرابع : ما نسب إلى المشهور : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة.

النظر في القول الأوّل

إنّ كلمات صاحب (المعالم) مضطربة مختلفة ، فله كلام يحتمل أنّه يريد كون الوجوب مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة بنحو القضيّة الشرطية ، وأن يريد أنّها واجبة حين إرادة ذي المقدّمة بنحو القضيّة الحينيّة.

وكلامه على كلّ تقدير غير مقبول ، لأنّه بناءً على وجوب المقدّمة ، فإنّ المبنى فيه هو الملازمة بين مطلوبيّة ذي المقدمة بالطلب النفسي ومطلوبيّة المقدمة بالطلب الغيري ، وعليه يكون وجوبها تابعاً لوجوبه ولا تفكيك بينهما ،

٦٩

وحينئذٍ ، يستحيل تقيّد وجوب المقدمة بإرادة ذيها ، لأنّ الوجوب إنما هو من أجل أن يؤثّر في الإرادة ، فاشتراطه بها تحصيل للحاصل ... ووجوب شيء في حال أو حين إرادة ذلك الشيء ، فإنّه تحصيل للحاصل كذلك.

إذن ، ليس وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة ، ولا هو في حال إرادته.

والحاصل ، إنّه بعد ثبوت التبعية ، يستحيل الاشتراط بالإرادة أو التقييد بحالها ، وإلاّ يلزم التفكيك بين الوجوبين الغيري والنفسي.

النظر في القول الثاني

وهو القول المنسوب إلى الشيخ (التقريرات) (١) ، بأنّ المقدّمة مقيّدة بداعي التوصّل ، وهو قيد اختياري ، بخلافه في القول الثالث ، فإنّه قيد قهري كما سيأتي ، ... وأيضاً ، هو قيدٌ للواجب لا للوجوب.

وقد استدلّ لهذا القول :

بأنّ ما يتوقّف عليه الشيء معنون بعناوين ، لكنّ العنوان الذي يدخل تحت الأمر الغيري بحكم العقل هو عنوان المقدميّة لذي المقدّمة ، فنصب السلّم مثلاً يتصوّر له أكثر من عنوان ، إلاّ أنّ متعلّق الأمر الغيري فيه عنوان المقدميّة للصعود إلى السطح ، إذ الأمر لم يتعلّق به بعنوان نصب السلّم بما أنّه كذلك بل بما أنّه مقدّمة ... وإذا كان هذا هو المتعلّق للأمر ، فلا ريب أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، وداعويّته لغير المتعلّق مستحيلة ، فإذا لم يؤت به بهذه الخصوصيّة لم يتحقّق الامتثال.

وعلى هذا ، فإن مصداق الواجب ـ سواء في المقدّمات العباديّة أو غيرها ـ

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٧٢ ـ ٧٣.

٧٠

هو ما أُتي به بقصد المقدّمة لذيها ، وإنّ ما يُحقّق عنوان المقدميّة هو الإتيان بداعي التوصّل ، غير أنّه في العباديّات يعتبر قصد القربة أيضاً.

وقد أيّد الشيخ مطلبه بما في الأوامر العرفيّة ، فلو أمر المولى عبده بتحصيل الثمن وشراء اللّحم به ، ثم حصل الثمن لا بقصد شراء اللّحم ، لم يكن تحصيله عند العرف امتثالاً للأمر ، لأنّه قد أمر بتحصيل الثمن لاشتراء اللّحم.

وفرّع الشيخ على مسلكه مسألتين :

أحدهما : إنّه لو كان على المكلّف صلاة قضاءٍ ، فتوضّأ قبل الوقت لا بداعي الصّلاة الفائتة ولا بقصد غايةٍ من الغايات للوضوء ، فلا يجوز له الصّلاة به ، لأنّ المتعلّق للوجوب هو المقدّمة المأتي بها بداعي التوصّل لذي المقدّمة.

وثانيهما : إنّه لو اشتبهت القبلة فصلّى المكلّف إلى جهةٍ من الجهات من غير أن يقصد بها التوصّل إلى الاحتياط الواجب ، ـ كأن لم يُرد الصلاة إلى الجهات الأُخرى ـ بطلت صلاته. ولذا لو عزم على الاحتياط بالصّلاة إلى الجهات وجب عليه إعادة تلك الصّلاة ، أمّا لو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل ، فإنّه لو قصد الصّلاة إلى جهةٍ واحدةٍ فقط ، ثمّ بدا له وأراد الصّلاة إلى جميعها عملاً بالاحتياط ، لم تجب عليه إعادة الصّلاة الأولى.

وأورد عليه الميرزا ـ وتبعه الأُستاذان (١) ـ بخروج هذه الثمرة عن البحث ، لأنّ البحث في المقدّمة الوجودية لا العلميّة.

هذا في العبادات.

وأمّا في غيرها ، فمن المقدّمات ما لا يعتبر فيه قصد التوصّل ، فلا فرق بين رأي الشيخ ورأي المشهور ، مثل غسل الثياب لا بداعي التوصّل إلى الصّلاة. ومنها

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٦١ ، منتقى الأُصول ٢ / ٢٨٣.

٧١

ما يعتبر فيه ذلك ، وتتحقّق الثمرة بين القولين فيما لو أمر بإنقاذ الغريق وتوقف ذلك على التصرّف في ملك الغير ، فيقول الشيخ : بأنّه لو تصرّف بداعي إنقاذ الغريق فلا حرمة ، لأنّ متعلّق الوجوب هو التصرّف بداعي التوصّل به إلى الإنقاذ ، ولمّا كان الإنقاذ أهمّ فلا تبقى الحرمة ، أمّا لو تصرّف لا بداعي التوصّل به للإنقاذ فالحرمة باقية وإن حصل الإنقاذ.

كلام المحقّق الاصفهاني في توجيه مراد الشيخ

وقد تصدّى المحقّق الاصفهاني (١) لتوجيه كلام الشيخ بما تقريبه :

١ ـ إنّ الأحكام العقليّة منها نظريّة ومنها عمليّة ، فمن أحكام العقل النظري : استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، بل هذا هو أُمّ القضايا فيها. ومن أحكام العقل العملي : حسن العدل وقبح الظلم ، بل هذا هو أُمّ القضايا فيها.

أمّا الأحكام الشرعيّة ، فإنّ الغايات منها ـ وهي متأخّرة وجوداً ومتقدّمة في اللّحاظ ـ هي العلل لجعل تلك الأحكام ، فالحكم يتوجّه إلى ذات العمل وليس في متعلّقه قيد «كونه ذا مصلحة» بل إنّ كونه كذلك علّة للحكم ، فالمصلحة المترتّبة على العمل خارجاً متأخّرة عن العمل ، لكنّها في الحقيقة هي العلّة للحكم ، بخلاف الأحكام العقليّة ـ مطلقاً ـ فإنّ متعلّق الحكم فيها هو المصلحة وهي الموضوع ، فنقول في الأحكام الشرعيّة : هذا واجب لأنّه ذو مصلحة. وفي الأحكام العقليّة نقول : ذو المصلحة واجب ، فيكون اللزوم والوجوب متعلّقاً ب «ذو المصلحة» وهو الموضوع للحكم ... فالعقل يدرك استحالة الدور ـ في الأحكام الشرعيّة ـ وهذه الكبرى تطبّق على مواردها ، مثل ما تقدّم في محلّه : من أنّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق محال ... فهو لا يدرك استحالة أخذه كذلك ، بل

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ١١٣ ـ ١٣٤.

٧٢

يدرك الكبرى التي هذا المورد من صغرياتها.

وفي الأحكام العمليّة كذلك ، فهو لا يدرك أنّ ضرب اليتيم تأديباً حسن بل يدرك : التأديب حسن ، ثم الكبرى تطبّق على هذه الصغرى ، فهو يحكم بحسن ضرب اليتيم لكونه مصداقاً لكبرى حسن العدل.

فعلى هذا ، فإن القيود في الأحكام العقلية تدخل تحت الطلب ، أي كون العمل ذا مصلحةٍ ، أو كونه عدلاً ، بخلاف الأحكام الشرعيّة ، فإن كون صلاة الظهر ذات مصلحةٍ ثابت ، لكنّ هذا القيد غير داخلٍ تحت الأمر بل هو العلّة له.

هذا ، والبرهان على رجوع أحكام العقل النظري كلّها إلى اجتماع النقيضين وارتفاعهما هو : أنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات. وعلى هذا الأساس أيضاً ترجع أحكام العقل العملي إلى حسن العدل وقبح الظلم.

هذا ... فيقول الأصفهاني : إنّ ما ذكره الشيخ صحيح على القاعدة ، لأنّ المفروض كون وجوب المقدمة من باب الملازمة بينها وبين ذيها ، والملازمة حكم عقلي ، وإذا كان كذلك ، فليس نصب السلّم بموضوعٍ للوجوب ، بل موضوعه هو الصعود على السطح ، فنصب السلّم المقصود بالعرض ، المنتهى إلى ما بالذات هو المقدّمة ... وهذا العنوان لا يتحقّق بدون الداعي للتوصّل إلى ذي المقدّمة.

إشكال الأُستاذ

إنّ هذا الذي ذكره المحقّق الاصفهاني إنّما يتمّ في الأحكام العقليّة ، فالتأديب مثلاً هو موضوع الحكم لا خصوص ضرب اليتيم ... أمّا في الأحكام الشرعيّة فلا ، ومقامنا من الأحكام الشرعيّة وإن كان الكاشف عنه هو العقل ... لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً ـ على القول به ـ حكم غيري ، من جهة أنّ من يطلب شيئاً

٧٣

فهو طالب لمقدّمته أيضاً ، للتلازم بين إرادته وإرادتها ، فهذا ثابت في عالم الثبوت ، غير أنّ الكاشف عنه في عالم الإثبات هو حكم العقل. فكون الحيثيات التعليليّة ـ مثل كون العمل ذا مصلحةٍ كما تقدّم ـ حيثيّات تقييديّة وموضوعات للأحكام العقليّة ، صحيح في الأحكام العقليّة ، لكنّ وجوب المقدّمة حكم شرعي كما هو المفروض ، فلا تنطبق عليه القاعدة المذكورة ... بل إنّ موضوع الحكم الشرعي في المقام هو ذات المقدّمة فقط ... وفاقاً للمحقّق الخراساني.

٢ ـ إنّه دائماً يتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة ، وما كان خارجاً عن الاختيار فلا يتعلّق الأمر به ، وعليه ، فالمتعلّق للأمر الغيري هو الحصّة المقدورة ، الاختيارية ، وهي ما قصد به المقدميّة والتوصّل به إلى الغير.

اشكال المحاضرات

وأورد عليه في (المحاضرات) (١) : بأنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت القدرة على المتعلّق مأخوذةً فيه شرعاً وواردة في لسان الدليل ، كما في آية الحج ، بناءً على تفسير «الاستطاعة» ب «القدرة» ، وكذا في آية التيمّم ، بناءً على أنّ المراد من «الوجدان» هو «القدرة» على الاستعمال شرعاً ... لأنّه لا يمكن كشف الملاك في أمثال هذه الموارد إلاّ في خصوص الحصّة المقدورة. وأمّا الحصّة الخارجة عن القدرة ، فلا طريق للكشف عنه فيها.

وأمّا إذا كانت القدرة معتبرة في المتعلّق بحكم العقل ، فلا يتم ما ذكر ، لأنّ القدرة على بعض أفراد الطبيعة يكفي لتحقّقها على الطبيعة.

ولمّا كان اعتبار القدرة على المقدّمة حكماً عقليّاً ، لأنه الحاكم بأنّه لو لا القدرة عليها فلا وجوب ، فلا محالة لا يكون وجوبها مختصّاً بما يصدر من

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٢٤٥.

٧٤

المكلّف عن اختيار ، بل يعمّه وغيره ، وإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع بين المقدور وغيره ، كان الإتيان به لا بقصد التوصّل مصداقاً للطبيعي ، فلا موجب لتخصيصه بالحصّة المقدورة.

نقد الأُستاذ

قال الأُستاذ : قد تقدّم أنّ مراد الشيخ هو أنّ متعلّق الوجوب ليس هو ذات المقدّمة بما هي ذات ، ولا بما هي معنونة بعنوانٍ من العناوين ، بل المتعلّق هو الذات المعنونة بعنوان المقدميّة ، فلو أتى بها بدون قصد المقدميّة كأن يصلّي صلاة الظهر لا بقصد عنوان الظهر ، فلا يتحقق الامتثال ولا يسقط الأمر.

وإذا كان هذا مراده ، فلا ربط لكلام المحقّق الأصفهاني به ، ولا لجواب المحاضرات وإن كان صحيحاً في حدّ ذاته.

وتلخّص : إنّ الاشكال الوارد على الشيخ هو : أنّ ما ذكره إنّما يتم في الأحكام العقليّة ، ففيها يدخل العنوان تحت الطلب ، أمّا في الأحكام الشرعيّة المستكشفة بالعقل فلا ....

مختار الكفاية وردّه على الشيخ

وتعرّض المحقّق الخراساني (١) لمسلك الشيخ بالنقض والحلّ ... فذكر أُموراً :

١ ـ إنّ الأمر معلول للغرض ، ولا يعقل أن يكون أخصّ من الغرض. وهذا مراده من أنّ كلام الشيخ يستلزم التخصيص بلا مخصّص ... وتوضيحه :

إنّ الغرض من الأمر بالمقدّمة هو تحقّق ذيها ، لأنّه يتوقّف عليها ، وهذا الغرض يتحقّق سواء أُتي بالمقدّمة بداعي التوصّل إلى ذي المقدّمة أو لا بهذا

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١١٤.

٧٥

الداعي ، فتخصيص متعلّق الأمر الغيري بالحصّة التي يؤتى بها بهذا الداعي بلا مخصّص.

٢ ـ إنّه لو أتى بالمقدّمة لا بداعي التوصّل ، ثمّ بدا له أن يأتي بذي المقدّمة ، لم يجب إعادة المقدّمة ، وهذا دليلٌ على عدم تقيّد متعلّق الأمر الغيري بالإتيان به بداعي التوصّل ، وعدم دخول عنوان المقدميّة تحت الطلب ، بل الأمر يسقط ويتحقّق الامتثال بلا قصدٍ للتوصّل.

٣ ـ إنّ الشيخ أشكل على صاحب الفصول القائل بالمقدّمة الموصلة : «بأنّ مناط المقدميّة هو ما يلزم من عدمها عدم ذي المقدّمة» فكلّ ما كان كذلك فيدخل تحت الطلب دون غيره ، وقيد «الموصليّة» لا يلزم من عدمه عدم ذي المقدمة. فقال المحقّق الخراساني : بأنّ هذا الاشكال يرد على الشيخ نفسه القائل بتقيّد المقدّمة : بالمأتي بها بداعي التوصّل إلى ذيها.

هذا ، وقد ذهب المحقّق الخراساني إلى عدم اعتبار قصد التوصّل ، وعدم اعتبار الموصليّة ، قال : «فهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل ... أو ترتّب ذي المقدّمة عليها ... أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شيء منهما؟ الظاهر عدم الاعتبار».

ثمّ قال بعد المناقشة مع الشيخ : «نعم ، إنّما اعتبر ذلك في الامتثال ، لما عرفت من أنّه لما يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلاً لأمرها وآخذاً في امتثال الأمر بذيها فيثاب بثواب أشق الأعمال».

وحاصل كلامه : عدم دخل قصد التوصّل في متعلّق الأمر الغيري ، نعم له دخل في عباديّة المقدّمة.

وقد فرّع على ذلك في مسألة الدخول في ملك الغير لإنقاذ الغريق ، بناءً

٧٦

على مختاره من أنّ الغرض هو تحقّق ذي المقدّمة فيؤتى بالمقدّمة لتوقّفه عليها : بأنّ التوقف موجود سواء دخل لقصد التوصّل أو لا ، فترتفع الحرمة حيث يكون الإنقاذ موقوفاً على الدخول ، غير أنّه يختلف باختلاف حال المكلّف من حيث الالتفات إلى التوقّف وعدمه ، فتارةً : لا يكون ملتفتاً إلى توقف ذي المقدّمة ـ وهو الإنقاذ ـ على الدخول ، ففي هذه الحالة يكون دخوله في تلك الأرض مع اعتقاد الحرمة تجرّياً ، لأنّه قد أتى بما هو واجب عليه واقعاً مع اعتقاد حرمته. وأُخرى : يكون ملتفتاً إلى المقدميّة والتوقف ، فيكون دخوله حينئذٍ تجرّياً بالنسبة إلى ذي المقدّمة ، لأنّ المفروض عدم قصده التوصّل إليه مع وجوبه عليه. وثالثة : يكون ملتفتاً ويقصد التوصّل ، لكن هذا القصد ناشئ من داعٍ آخر ، فيكون دخوله واجباً ، فلا معصية ولا تجرّي أصلاً.

موافقة الأُستاذ مع صاحب الكفاية في الاشكال على الشيخ

ثمّ إنّ الأُستاذ وافق على الإيراد على الشيخ بذلك ـ وإن كان له نظر في كلام الكفاية ـ وسيأتي فيما بعد.

وحاصل الاشكال على الشيخ : إنّه لا مانع ثبوتاً من أخذ قصد التوصّل في امتثال الأمر الغيري المتعلّق بالمقدّمة ، ولكنّ الاشكال في مقام الإثبات ، لأنّ الدليل الإثباتي إن كان عن طريق الملاك ، فلا وجه لحصر الملاك في هذه الحصّة بل هو أعمّ. وإن كان أخذ الشارع في لسان الدليل ، فهو غير موجود. وإن كان الارتكاز العرفي ، فالحقّ عدم وجود هكذا ارتكاز عند العرف والعقلاء.

كلام الميرزا

ثمّ إنّ الميرزا (١) احتمل في رأي الشيخ أوّلاً : أن يكون مراده أنّ القصد

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٧٧

المذكور محقّق لعباديّة المقدّمة ، لا أنّه مأخوذ قيداً لمتعلّق الأمر الغيري. واحتمل ثانياً : أن يكون مراده اعتبار القيد المذكور في مقام التزاحم بين حكم المقدّمة وحكم ذيها ، كما إذا كانت المقدّمة محرّمة ، كالدخول في ملك الغير وذو المقدّمة واجب كإنقاذ الغريق ، ففي هذه الصورة ترتفع الحرمة عن المقدّمة لأهميّة ذيها منها ... ثمّ ذكر أنّه لو عصى ولم ينقذ الغريق ثبتت حرمة التصرّف في ملك الغير ، من باب الترتّب.

تعليق الأُستاذ

وعقب الأُستاذ على كلام الميرزا : بأن لا اضطراب في كلام التقريرات ، فإنّه صريح في نسبة القول بأخذ القيد المذكور في المتعلّق.

وأمّا ما ذكره الميرزا من صورة المزاحمة ، فإنّها بين الحرمة النفسيّة للمقدّمة وبين الوجوب النفسي لذيها ، سواء قيل بوجوبها أو لا. والحاصل : إنّه لا يتوقّف التزاحم في المثال المذكور على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، أو بقيد التوصّل كما عن الشيخ ، أو بقيد الموصليّة كما عن صاحب الفصول.

وأمّا بقاء الحرمة للدخول في صورة معصية ذي المقدّمة ، بناءً على الترتّب ، فسيأتي ما فيه في مبحث الضد.

هذا تمام الكلام على مسلك الشيخ في المقام.

مسلك صاحب الفصول

وقال صاحب (الفصول) بالمقدّمة الموصلة (١) ، فجعل متعلّق الوجوب الغيري هو الحصّة الموصلة من المقدّمة ، أي إنّه جعل ترتّب ذي المقدّمة عليها شرطاً لاتّصافها بالوجوب.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٨٦.

٧٨

وقد استدلّ لما ذهب إليه بوجوه :

الأوّل : إنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة ، فالعقل لا يدلّ عليه زائداً على القدر المذكور.

والثاني : إنّه لا يأبى العقل أنْ يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصّل إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقاً أو على تقدير التوصّل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

والثالث : إنّ الأمر تابع للغرض الداعي إليه ، ولا يمكن أن يكون الأمر أضيق أو أوسع من الغرض ، والذي يدركه العقل هو أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس إلاّ التوصّل بها إلى الواجب ، فالأمر ليس إلاّ في خصوص المقدّمة الموصلة.

اشكالات الكفاية

وقد أورد المحقّق الخراساني على نظريّة الفصول وجوهاً من الإشكال (١) : ١ ـ إنّه تارةً : يكون بين المقدّمة وذيها واسطة اختياريّة. وأُخرى : تكون النسبة بينهما نسبة الفعل التوليدي إلى السبب التوليدي كالإلقاء في النار وحصول الاحتراق ... ولازم مبنى الفصول خروج القسم الأوّل من المقدّمات من تحت قاعدة الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. بيان الملازمة :

إنّ ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة في التوليديّات واضح ، لأنّه بمجرّد الإلقاء في النار يحصل الاحتراق. أمّا في مثل الحج وغيره من الواجبات الشرعيّة ،

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١١٥.

٧٩

فلا يترتّب ذو المقدّمة حتّى بعد توفّر جميع المقدّمات ، فقد يعصي المكلّف ولا يأتي بالواجب ، فكيف يترتّب على تحقّق كلّ فردٍ من أفراد المقدّمات؟

فقول صاحب الفصول بأنّه : لمّا كان الغرض هو ترتّب ذي المقدّمة ، فالواجب من المقدّمة ما يترتّب عليه ذو المقدّمة ، يستلزم خروج جميع الأفعال الاختيارية ، وهذا باطل قطعاً.

ثمّ ذكر اعتراضاً على هذا الاشكال وأجاب عنه.

٢ ـ إنّه لو كان ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة شرطاً في وجوبها ، لما كان الأمر الغيري المتعلّق بالمقدّمة ساقطاً بمجرّد الإتيان بها ، والحال أنّه يسقط ويكشف ذلك عن تحقّق الغرض منه ، وذلك يكشف عن أنّه ليس وجوب المقدّمة مشروطاً بترتّب ذي المقدّمة عليها ، بل الغرض هو التمكّن من ذي المقدّمة ، إذ لو كان الترتّب فالمفروض عدم حصوله فكيف سقط الأمر؟

وتعرّض المحقّق الخراساني لاعتراضٍ على هذا الإشكال وأجاب عنه ، وحاصل الاعتراض هو : أنّ سقوط الأمر لا يكشف دائماً عن تحقّق الامتثال وحصول الغرض منه ، فقد يسقط الأمر بانتفاء الموضوع ، كما لو قال أكرم العالم فمات العالم ، وقد يسقط بالعصيان ، وقد يسقط بقيام الغير بالعمل ، كما لو أُمر بدفن ميّت ، فقام غيره بذلك.

فأجاب : بعدم تحقّق شيء من المسقطات في المقام إلاّ الامتثال ، أمّا الموضوع ، فالمفروض تحقّقه من قبل المكلّف لا تفويته ، وكذا المعصية ، فإنّها غير حاصلة ، وكذا قيام الغير بالفعل.

٣ ـ إنّ مراده من المقدّمة الموصلة هو الذات التي يترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، فيكون وجوبها مقيّداً ومشروطاً بالموصليّة ، لكنّ المقيّد هو

٨٠