تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

والمعصية ، وأنّهما من لوازم الأعمال ، كالملازمة بين النار والحرارة وغيرهما من التكوينيّات.

والثالث : حكم العقل ، بيانه : إنّ حفظ النظام غرض من أغراض العقلاء بالضرورة ، وهم يرون ضرورة تحقّق كلّ ما يؤدّي إلى حفظ النظام ، ومن ذلك المدح والجزاء على العمل الحسن والذم والمؤاخذة على العمل السيّئ ، فالأوامر والنواهي المولويّة ـ سواء المولى الحقيقي أو العرفي ـ لها مصالح ومفاسد ولها دخل في حفظ النظام ، والعمل الحسن يستتبع استحقاق الجزاء الحسن والعمل السّيئ يستتبع استحقاق العقوبة ، فإذا أعطى المولى الجزاء أو عاقب على المعصية وقع في محلّه ، لا أنّه واجبٌ على المولى ذلك وأنّ للعبد المطالبة بالثواب على عمله ، فإنّ هذا لا برهان عليه (١).

أقول :

وقد تكلّم الأُستاذ دام بقاه على الوجه الثالث من هذه الوجوه ومحصّله : أن الحكم بترتّب الثواب والعقاب عقلائي ، وهو حكم عرضي بلحاظ حفظ النظام ، وليس ذاتيّاً ، وأنّ هناك كبرى واحدة تجري في المولى الحقيقي والمولى العرفي ... فناقشه : بأنّ الأحكام العقلائية هي قضايا توافقت عليها آراؤهم حفظاً للنظام ، لكنّ الحاكم باستحقاق الثواب والعقاب على موافقة حكم المولى الحقيقي أو مخالفته هو العقل لا العقلاء ، لأنّ الأحكام العقلائيّة تدور مدار النظام وحفظه ، أمّا حكم العقل بقبح مخالفة المولى الحقيقي فموجود سواء كان هناك عقلاء ونظام أو لم يكن ... فإنّ العقل يرى قبح معصية المولى الحقيقي على كلّ حال ، ولو كان هذا الحكم عقلائيّاً لجازت المعصية حيث لا يوجد نظام أو عقلاء ، أو حيث لا يلزم

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ١١٠.

٤١

اختلال للنظام ، وهذا باطل.

والحاصل : إنّ كلام هذا المحقّق يستلزم جواز مخالفة المولى الحقيقي حيث لا يترتّب على المخالفة اختلال للنظام العقلائي ، وأنّه في حال عدم لزوم الاختلال فلا دليل على وجوب إطاعة أوامر الباري وحرمة معصيته ، وهذا اللازم باطل ، لأنّ العقل مستقل بلزوم إطاعة المولى الحقيقي في جميع الأحوال وعلى كلّ التقادير.

المختار عند الأُستاذ

والمختار عند الأُستاذ : أمّا استحقاق العقاب ، فلا ريب في ترتّبه على المخالفة والمعصية للمولى الحقيقي. وأمّا استحقاق الثواب على الطاعة ، بمعنى أن يكون للعبد حق المطالبة ، فهذا باطل ، لأنّ القدرة على الطاعة وتحقّقها من العبد تفضّل منه ، وهذه خصوصيّة المولى الحقيقي هذا أولاً. وثانياً : إنّ أوامر المولى ونواهيه كلّها ألطاف ، لأنه بالامتثال لها يحصل له القرب من المولى ، وهذا نفع للعبد المكلّف.

(قال) : لكنّ المهمّ هو معرفة المولى الحقيقي حق معرفته ، وما عرفناه! كما قال تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١) ومن عرفه كذلك كان مصداقاً لقوله (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٢) إذن ، لا بدّ أوّلاً من معرفة المولى معرفةً كاملةً ، ومن حصلت له تلك المعرفة حصل عنده تقوى الله حقّ تقاته ، أي أداء حق العبوديّة والقيام بالوظيفة على نحو الكمال.

ومن معرفته تعالى هو : أنْ نعرف أنّ عدم إعطائه الثواب على الأعمال

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩١.

(٢) سورة آل عمران : ١٠٢.

٤٢

الصالحة والطاعات ليس بلائق بشأنه ... وتوضيح ذلك :

إنّا لا نقول بوجوب الثواب على الطاعة من حيث أنّها طاعة ولكون العبد مطيعاً ، لأنّ العبد مملوك للمولى وطاعته إنّما كانت بحوله وقوّته وهي لطف منه ومنّة على العبد ، ولا جزاء عليه حينئذٍ ، بل نقول بوجوب الثواب من جهة المطاع ، بمعنى أنّ عدم ترتّب الثواب على الطاعة غير لائق بهذا المولى ، فالطاعة ـ من حيث أنّها طاعة ـ لا تستتبع وجوب الثواب ، لكنّ عدم ترتّب الثواب عليها غير لائق بالمولى ....

والدليل على هذا ـ قبل كلّ شيء ـ هو كلامه تعالى ، ففي الكتاب آيات مبدوّة بكلمة «ما كان» ومعناها : عدم لياقة هذا الشيء لأن يتحقّق ويكون ، سواء كان من الله أو الرسول أو سائر الناس ... فمثلاً يقول تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١) أي : إن هذا غير لائق بالمؤمنين وليس من شأنهم ، بل إنّ المؤمنين يتّبعون ما أراده الله تعالى لهم وقضى في حقّهم ، إذ لا يكون قضاؤه فيهم إلاّ حقّاً ومصلحةً لهم.

ويقول تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) (٢) أي : إن هذا لا ينبغي وغير صالح صدوره منه.

ويقول تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى بظلم ...) (٣) فالظلم لا يليق بذاته المقدّسة ، وكذا العذاب بلا بيان ، إذ قال : (وَما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (٤).

وقد وردت الكلمة في آيةٍ تتعلّق بالبحث وهي (وَما كانَ اللهُ لِيُضيعَ

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) سورة آل عمران : ١٦١.

(٣) سورة القصص : ٥٩.

(٤) سورة الإسراء : ١٥.

٤٣

إيمانَكُمْ) (١) فالآية دالّة على أنّ الله تعالى ليس من شأنه أن يضيع أعمال المؤمنين ، ولا يليق به ذلك ، ولذا قال بعد هذا : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحيمٌ) وهو بمثابة التعليل ، بمعنى أنّ الرءوف الرحيم على الإطلاق ـ ولعموم الناس ـ لا يليق به أن يضيع إيمان المؤمنين ويترك أعمالهم بلا ثوابٍ وأجر.

والحاصل : إنّه ليس للعبد أن يطالب المولى الحقيقي بشيءٍ من عمله ، فإنّه إذا صلّى إطاعةً لأمر الله ، فقد أتى بها بحول الله وقوته (ما شاءَ اللهُ لاقُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ) (٢) وإذا صلّى حصلت له التزكية (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٣) وتلك منّة من الله عليه ... فليس للعبد أن يحتج بشيء على الله ، لا من ناحية نفسه ولا من ناحية عمله ... لكنّ مقتضى شأن ربوبيّته وأُلوهيّته التي أشار إليها ب (هو) في (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٤) و (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاإِلهَ إِلاّ هُوَ) (٥) أن لا يجعل العمل بلا أجر ، وكذا مقتضى صفاته (وهو الرؤف الرحيم) فللعبد أن يقول له : «أنت كما وصفت نفسك» (٦) «اللهمّ إن لم أكن أهلاً لأنْ أُبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني» (٧) فيطلب منه الأجر والثواب من هذا الباب.

هذا تمام الكلام على ترتّب الأثر على الواجبات والمحرّمات النفسية.

وأمّا الواجب الغيري ، فقد ذهب المحقّقان الخراساني والأصفهاني إلى عدم استحقاق الثواب على موافقة الأمر الغيري والعقاب على مخالفته.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

(٢) سورة الكهف : ٣٩.

(٣) سورة العنكبوت : ٤٥.

(٤) سورة التوحيد : ٢.

(٥) سورة آل عمران : ١٨.

(٦) مصباح المتهجد ، دعاء صلاة الحاجة : ٣٣١.

(٧) مفاتيح الجنان : في التعقيبات العامة للصلوات.

٤٤

الدليل على عدم ترتّب الثواب والعقاب على الواجب الغيري

واستدلّ في (الكفاية) (١) على عدم ترتّب الثواب والعقاب على الواجب الغيري بوجهين ، أحدهما : حكم العقل بعدم الاستحقاق واستقلاله بذلك. والآخر : إنّ الثواب والعقاب من آثار القرب والبعد عن المولى ، والواجب الغيري لا يؤثّر قرباً أو بُعداً عن الله ، بل المؤثّر في ذلك هو الواجب النفسي ... نعم لو كان لواجب نفسي مقدّمات كثيرة ، فإنّه يثاب على الإتيان بتلك المقدّمات من باب «أفضل الأعمال أحمزها» (٢).

وقال المحقّق الأصفهاني ما محصّله :

إنّ هذا الوجوب بما أنه مقدّمة للوجوب النفسي ولا غرض منه إلاّ التوصّل إليه ، فهو معلول له ، والانبعاث إنّما يكون من الأمر النفسي المتعلّق به الغرض الاستقلالي ، وأمّا تحرّك الإنسان نحو المقدّمة فهو بالارتكاز ، ولذا يكون الواجب المقدّمي مغفولاً عنه ، وتحرك الإنسان نحوه يكون بالارتكاز ، فكلّ الآثار مترتّبة على الواجب النفسي (٣).

أقول :

والإنصاف : إن ما ذكر لا يكفي لأن يكون وجهاً لعدم استحقاق الثواب على امتثال الواجب الغيري ، بل قال السيد الأُستاذ : بأنه لا يخرج عن كونه وجهاً صوريّاً (٤).

وأشكل عليه شيخنا دام بقاه : بأن مورد البحث هو حيث يكون المكلّف

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١١٠.

(٢) خبر مشهور بين الخاصّة والعامة كما في البحار ٧٩ / ٢٢٩.

(٣) نهاية الدراية ٢ / ١١٣.

(٤) منتقى الأُصول ٢ / ٢٣٧.

٤٥

حين العمل ملتفتاً ، كما هو الحال في الوضوء من أجل الصّلاة مثلاً ، فإنّ المتوضّئ ليس بغافل عمّا يفعل. فليس المقدّمة مغفولاً عنه. والحاصل : إنّ المقدميّة لا تمنع من الالتفات والتوجّه إلى العمل ، وهو ظاهر قوله عليه‌السلام : «طوبى لعبدٍ تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي»(١).

وعلى الجملة ، فإنّ المقدّمة قد تعلّق بها الطلب وأصبحت واجبةً ، وقد أتى بها امتثالاً للأمر ، وهي ملتفت إليها ، وإنْ كان الغرض الأصلي مترتّباً على ذي المقدّمة.

وذكر سيّدنا الأُستاذ قدس‌سره برهاناً آخر قال : ومحصّل ما نريد أن نقوله بياناً لهذا الوجه هو : إن الثواب إنما ينشأ عن إتيان العمل مرتبطاً بالمولى بالاتيان به بداعي الأمر ـ الذي هو معنى الامتثال ـ ، فترتب الثواب على موافقة الأمر الغيري انما تتصور بالإتيان بالمقدمة بداعي الأمر الغيري ، ومن الواضح أن الأمر الغيري لا يصلح للداعويّة والتحريك أصلاً ، فلا يمكن الاتيان بالعمل بداعي الامتثال الأمر الغيري. أما أنه لا يصلح للداعويّة والتحريك ، فلأن المكلف عند الاتيان بالمقدمة إمّا ان يكون مصمماً وعازماً على الاتيان بذي المقدمة أو يكون عازماً على عدم الإتيان به ، فإن كان عازماً على الإتيان به ، فإتيانه المقدمة ـ مع التفاته إلى مقدميتها كما هو المفروض ـ قهري لتوقف ذي المقدمة عليها ، سواء تعلق بها الأمر الغيري كي يدعى دعوته إليها أو لا فالاتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الأمر الغيري ، بل هو أمر قهري ضروري ومما لا محيص عنه. وإن كان عازماً على عدم الاتيان بذي المقدمة ، فلا يمكنه قصد الأمر الغيري بالاتيان بالمقدمة ، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها والوصول بها إلى الواجب النفسي ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ٣٨١ الباب ١٠ من أبواب الوضوء.

٤٦

لو لم نقل ـ إذ وقع الكلام في أن المقدميّة جهة تعليلية للوجوب الغيري أو جهة تقييدية ـ : بان موضوع الأمر الغيري هو المقدمة بما هي مقدمة لا ذات المقدمة. ومن الواضح أنه مع قصد عدم الاتيان بذي المقدمة لا تكون جهة المقدمية وتوقف الواجب عليها ملحوظة عند الاتيان بالمقدمة ، ومعه لا معنى لقصد امتثال الأمر الغيري بالعمل ، إذ جهة تعلق الأمر الغيري غير ملحوظة أصلاً.

ويتضح هذا الأمر على القول بكون الأمر الغيري متعلقاً بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلى ترك الواجب النفسي لا يكون المأتي به واجباً بالوجوب الغيري ، فلا معنى لقصد امتثاله فيه لانه ليس بمتعلق الوجوب (١).

أقول :

إن الكلام ـ الآن ـ في ترتّب الثواب على إطاعة الأمر الغيري ، فمع فرض كون المكلّف ملتفتاً إلى مقدّمية الواجب الغيري وكونه عازماً على إطاعة أمر الواجب النفسي ، هل يعتبر في ترتب الثواب وجود أمرٍ بالمقدّمة والانبعاث منه كي يقال بعدم الترتّب ، لعدم داعوية الأمر الغيري ، أو يكفي لترتّبه الرجحان الذاتي أو الانقياد للمولى المتمشّي منه مع الالتفات إلى ما ذكر؟

الظاهر هو الثاني ، وهو الذي نصّ عليه السيد الأُستاذ نفسه في مسألة الطّهارات الثلاث ، فتأمّل.

وأمّا العقاب على معصية الواجب الغيري ، فقد يقال بترتّبه كالثواب ، لأنه أمرٌ وقد عصي ، قال المحقق الإيرواني : إنّ المفروض وجوب المقدّمة ، وأثر الوجوب هو الثواب على الإطاعة والعقاب على المعصية (٢).

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٢٣٨.

(٢) نهاية النهاية ١ / ١٦١.

٤٧

لكنّ الحقّ ـ كما عليه المحققون ومشايخنا ـ أنّ هذا خلاف الارتكاز العقلائي ، فإنّ العقلاء لا يرون استحقاق العقاب إلاّ على ترك ذي المقدّمة ، وهم يرون قبح ترك المقدمة لأنه يؤدّي إلى ذلك.

قال شيخنا : اللهم إلاّ إذا خولف الأمر الغيري عصياناً لنفس الأمر الغيري. لكنّ مثل هذه الحالة قليل جدّاً ، ولذا كان الارتكاز العقلائي ـ على وجه العموم وبالنظر إلى عامّة الناس ـ قائماً على عدم استحقاق العقاب لمخالفة الأمر الغيري.

الأمر الثاني

كيفيّة عباديّة الطّهارات الثلاث

ثم إنه بناءً على أن الأمر الغيري لا يستحقُّ على امتثاله الثواب ، فقد وقع الكلام بين الأعلام في الطهارات الثلاث ، لأنّ الأوامر المتعلّقة بها غيريّة ، مع أنها يترتّب عليه الثواب بلا إشكال؟

وأيضاً : الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات توصّلية وليست بعباديّة ، لأنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل إلى ذي المقدّمة وليس يترتّب عليها غرض آخر ، وعليه فهي غير منوطة بقصد القربة ، لكن الإتيان بالطهارات بلا قصد القربة باطلٌ ، فكيف الجمع؟

رفع المحقّق الخراساني الإشكال فيها

أجاب المحقّق الخراساني (١) عن الإشكال الأوّل : بأنّ ترتّب الثواب على الطهارات إنّها هو من جهة المطلوبيّة النفسيّة لها كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُ

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١١١.

٤٨

التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ) (١) فالطهارة بنفسها محبوبة لله ، والثواب مترتّب على هذه المحبوبيّة والمطلوبيّة ، لا من جهة الأمر الغيري المتعلّق بها كي يرد الإشكال.

وأجاب عن الثاني : بأنّ كلّ أمرٍ إنّما يدعو إلى متعلّقه ، والأمر الغيري كذلك ، فإنّه يدعو إلى متعلَّقه وهو المقدّمة. لكن المقدّمة قد لا تكون عباديّة كنصب السّلم للصعود إلى السطح ، فيتحقّق التوصّل إلى ذي المقدّمة بمجرّد حصول المقدّمة. أمّا في الطهارات فقد تعلّق الأمر بها لا بذواتها ، بل مقيّدة بقصد القربة ، فكان الأمر ـ مع كونه غيريّاً ـ قد تعلّق بمقدّمة عباديّة ، وعلى هذا فلا يسقط إلاّ بالامتثال له والإتيان به مع هذا القيد.

الأصل فيه هو الشيخ الأعظم

وهذا الذي ذكره المحقّق الخراساني في دفع الاشكال متّخذ من الشيخ قدّس الله روحه ، والأفضل هو الرجوع إلى كلامه والتعرّض لما قاله الأعلام في نقضه أو إبرامه.

فلقد طرح الشيخ في مسألة الطهارات ثلاث إشكالات ، ذكر اثنين منها في الأُصول (٢) والثالث في مبحث نيّة الوضوء من (كتاب الطهارة) (٣) فيقول الشيخ في بيان الاشكال الأوّل :

إنّ مقتضى القاعدة العقليّة هو أنّ الأمر الغيري من شئون الأمر النفسي وليس في قباله ، وكذلك إطاعة الأمر الغيري ، فهو من شئون إطاعة الأمر النفسي ، فالأمر الغيري تابع للأمر النفسي في ذاته وفي ترتّب الأثر عليه قرباً وبعداً وفي إطاعته ومعصيته. لكنّ هذا مخالف للأخبار المستفيضة في الطهارات والإجماع القائم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٢) مطارح الانظار : ٧١.

(٣) كتاب الطهارة ٢ / ٥٤ الطبعة المحققة ، التنبيه الأول من تنبيهات نيّة الوضوء.

٤٩

على ترتّب الثواب على نفس الطهارة ، فإنّ الثواب يترتّب على الوضوء للصّلاة ، لا للصّلاة عن وضوء ... فكان الإشكال الأوّل : المخالفة بين القاعدة العقليّة ومقتضى النصوص والإجماعات.

فأجاب الشيخ :

بأنّ الثواب في الطهارات مترتّب على ذواتها ، لكونها محبوبةً بالمطلوبيّة والمحبوبيّة النفسيّة ، وليس ترتّب الثواب بمناط الأمر الغيري ليتوجّه الإشكال ، بل إنّها محبوبة بأنفسها ولها الاستحباب النفسي.

وهذا ما ذكره صاحب الكفاية.

ولكن الشيخ قدّس سره قد نصّ على أنّه جواب غير مفيد ، والوجه في ذلك هو : أنّ تصوير الاستحباب النفسي للطّهارة لا يجتمع مع الوجوب الغيري الثابت لها ، لأنّ الوجوب والاستحباب لا يجتمعان في المتعلّق الواحد ، وإلاّ لزم اجتماع المثلين ، ولو قلنا بأنّه مع الوجوب الغيري لا يبقى الاستحباب النفسي ، عاد الإشكال ....

إلاّ أن يوجّه : بأنّه مع الوجوب الغيري ينعدم الاستحباب النفسي بذاته ، بل يزول حدّه ويندك في الوجوب ، كاندكاك المرتبة الضعيفة من النور في المرتبة القويّة منه ، فإنه لا ينعدم بل يندك ، وذاته محفوظة ... فلا مانع من أن يترتّب الأثر على المطلوبيّة النفسيّة الاستحبابيّة الموجودة هنا مندكّةً في الوجوب الغيري ....

لكنّ هذا التوجيه أيضاً لا يرفع المشكلة إلاّ في الوضوء والغسل ، لقيام الدليل فيهما على المطلوبيّة النفسيّة كذلك ، أمّا في التيمّم فلا دليل ، وإنْ حاول بعضهم الاستدلال له ببعض الأخبار ، لكنّه لا يفيد.

على أنّه يرد على تصوير الاستحباب النفسي أيضاً : إنّ المستفاد من كلمات

٥٠

الأصحاب كفاية الإتيان بالطهارات بداعي الأمر الغيري حتّى مع الغفلة عن المطلوبيّة النفسيّة المذكورة ، وهذا لا يجتمع مع عباديّتها ـ ولو بالاستحباب ـ لأنّها موقوفة على الالتفات والقصد.

ثم قال الشيخ : بأنّ الأولى هو القول بأنّ الثواب على الطهارات تفضّل من الله.

ثمّ أمر بالتأمّل.

وأخذ صاحب الكفاية هذا الجواب إذ قال : بأنّ الأمر يدعو إلى متعلّقه وهو «المقدّمة» وهي الطهارات بقصد القربة ، فيكون الاستحباب النفسي مقصوداً بقصد الأمر الغيري. ثمّ أمر بالفهم.

والوجه في ذلك واضح ، لأنّه مع الجهل والغفلة يكون القصد محالاً ، ومع عدمه لا يمكن تحقّق عنوان العباديّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإشكال الأوّل ، وهو كيفيّة ترتّب الثواب على الأمر الغيري.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو أنّه إذا كان الوضوء مثلاً للتوصّل إلى الغير فوجوبه توصّلي مع أنّه عبادة يعتبر فيه قصد القربة ـ فقد ذكره الشيخ ، وحاصله : إنّ الطهارات الثلاث لا يحصل الغرض منها بأيّ صورةٍ اتّفقت ، بل يعتبر فيها قصد القربة ، فكيف يكون وجوبها غيريّاً والغرض منها التوصّل إلى الصّلاة مثلاً؟

وأجاب الشيخ ـ وتبعه في الكفاية ـ بأنّ الأمر هنا إنّما تعلّق بالحصّة العباديّة من المقدّمة.

لكنّ هذا يتوقّف على حلّ المشكلة السابقة ، إذ الإتيان بالمقدّمة مع الجهل والغفلة عن استحبابها النفسي لا يحصل الغرض منها وهو التوصّل إلى

٥١

ذي المقدّمة ، فقد اعتبر فيها قصد القربة والمفروض انتفاؤه ، قاله شيخنا دام بقاه.

وأمّا الإشكال الثالث ـ الذي تعرّض له في كتاب الطهارة في كيفيّة نيّة الوضوء ـ فهو : إنّ الأمر الغيري قد تعلّق بالمقدّمة المتحقّقة خارجاً ، لا بعنوان المقدّمة ، فالوضوء الواقع مقدّمة للصّلاة ـ سواء قلنا بأنّ الطهارة رافعة للحدث المانع من الدخول في الصلاة أو قلنا بأنّها شرط للصّلاة ـ فهو رافع أو شرط إن أُتي به وتحقّق مع قصد القربة ... فالأمر الغيري يتوقّف تحقّقه على كون متعلّقه مقدّمةً قبل أن يتوجّه إليه الأمر ويتعلّق به ، وثبوت مقدّمية المتعلّق موقوفٌ على كونه مأتياً به عبادةً ، لكنّ عباديّته إنّما تحصل بتعلّق الأمر الغيري به ، وهذا دور.

وأورد عليه الميرزا (١) : بأنّ هذا الدور لا يتوقّف على تحقّق المتعلّق والإتيان به على وجه العباديّة ، بل هو حاصل في مرحلة جعل المتعلّق وتوجّه التكليف به ، ففي تلك المرحلة لا بدّ لإرادة الشارع جعل الأمر الغيري من متعلّق ، ولا بدّ من أن يكون عبادةً ـ وإلاّ لا يكون رافعاً للحدث أو شرطاً للدخول في الصّلاة ـ فجعل الأمر الغيري موقوف على عباديّة الوضوء مثلاً ، وعباديّته موقوفة على جعل الأمر الغيري ... فالدور حاصل ، سواء وصل الأمر إلى مرحلة التحقّق خارجاً أو لا.

ثمّ أجاب عن الدور : بأنّ عباديّة الوضوء ليست من ناحية الأمر الغيري ، بل من جهة استحبابه النفسي الموجود قبل تعلّق الأمر الغيري به.

فقال الأُستاذ : لكنّ الإشكال في مورد الجاهل والغافل باقٍ على حال ، فإمّا أن ترفع اليد عن عباديّة الطهارات في حقّهما ، وامّا يقال بأنّ عباديّتها جاءت من ناحية الأمر الغيري ، فيعود محذور الدور.

ولكنْ لا يبعد أن يكون نظر الشيخ في تقريب الدور إلى لزومه في مرحلة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٥٧.

٥٢

العمل مضافاً إلى مرحلة الجعل ، فهو يريد إضافة إشكال ، وأنّ الدور لازم في المرحلتين ، لا أنّه ينفي لزومه في مرحلة الجعل. بل إنّ مقتضى الدقّة هو أنّ إثبات الدور في مرحلة الامتثال وفعلية الأمر يستوجب اثباته في مرحلة الجعل ، ولا عكس ... وكأنّ الميرزا قد غفل عن هذه النكتة ... فبيان الشيخ أمتن من بيان الميرزا ، فتدبّر.

وأشكل الميرزا في الطّهارات الثلاث ، بإشكال الدور ، وبالنقض بالتيمّم لأنّه ليس بمستحبٍّ نفسي ... وقد تقدّم ذكرهما عن الشيخ.

ثمّ أجاب الميرزا عن الإشكال ـ باستحالة القصد مع الجهل والغفلة ، وأنّه إذا استحال القصد استحالت العبادية للطهارات ـ بأنّه يمكن تحقّق العباديّة فيها بوجهٍ آخر ، وهو أنّ الأمر بالمشروط ينبسط على الشرط كانبساط الأمر بالمركّب على أجزائه ، وكما أنّ الإتيان بالأجزاء بقصد الأمر بالمركّب يحقّق لها العباديّة ، كذلك الأمر المتوجّه إلى المشروط ، فإنّه يتحقّق العباديّة للشرط ، فالوضوء يؤتى به بداعويّة الأمر المتوجّه إلى الصّلاة ، كما أنّ الركوع ـ مثلاً ـ يؤتى به بداعويّة الأمر بالصّلاة.

فأورد شيخنا الأُستاذ عليه : بأنّ المبنى المذكور غير مقبول ولا يحلّ المشكل ، فأمّا تعلّق الأمر في المركب بالأجزاء فهو أوّل الكلام ، ثمّ إنّ الفرق بين الجزء والشرط واضح تماماً ، لأنّ الأجزاء داخلة تحت الأمر على المبنى ، لكنّ الشروط خارجة عنه ، إذ الداخل تحته فيها هو الاشتراط لا الشّرط ، فليس الوضوء بمطلوب بالأمر بالصّلاة بل المطلوب به تقيّدها واشتراطها به.

وكذا سيّدنا الأُستاذ وأضاف : بأنه لو سلّم ما ذكر ، فالشرط فيما نحن فيه هو الطهارة لا نفس الوضوء ، وهي مسبّبة عن الوضوء ، والإشكال في تصحيح عباديّة

٥٣

نفس الأعمال المأتي بها ، وهي لا تكون متعلّقةً للأمر الضمني لأنها ليست شرطاً ... (١).

فما ذكره لا يحلّ المشكلة.

وأمّا الجواب عن النقض بالتيمّم : بأنّه مستحبٌ بالاستحباب النفسي ، بالنّظر إلى طائفتين من النصوص ، أفادت الأولى مطلوبيّة الطّهور في جميع الأحوال ، والثانية كون التيمّم أحد الطهورين ، ومحصّلهما كون التيمّم مطلوباً للمولى. فقد ذكره الشيخ قدس‌سره ، إلاّ أنّه قال بعد ذلك ما حاصله : أن أحداً من الفقهاء لم يذهب إلى الاستحباب النفسي للتيمّم.

لكنّ الحق تماميّة الجواب المذكور ، إذ المستفاد من الصحيحة : «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا» (٢) هو المطلوبيّة النفسيّة للطهارة ، وروى الصدوق مرسلاً : «من تطهّر ثمّ أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده ...» (٣) وفي الخبر أيضاً : «إنّ التيمّم أحد الطهورين» (٤) ومن جميع هذه الأخبار يستفاد المطلوبيّة النفسية للتيمّم ، ومقتضى القاعدة هو الأخذ بظواهر هذه النصوص إلاّ أن يثبت إعراض الأصحاب عنها ، لكنّها دعوى ممنوعة ، بل إنّ ظواهر كلمات بعضهم في بدليّة التيمّم عن الوضوء ترتّب جميع آثار الوضوء على التيمّم.

هذا ، وقد يقال : باستحباب التيمّم نفساً عن طريق الإجماع القائم على أن رافعيّة الطهارات الثلاث للحدث أو مبيحيّتها للدخول في الصّلاة متوقفة على كونها ـ أي الطهارات ـ عبادةً ، وذلك : لأنّه إذا لم يكن الأمر الغيري موجباً لعباديّتها

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٢٦٠.

(٢) وسائل الشيعة ١ / ٣٧٨ الباب ٨ من أبواب الوضوء.

(٣) وسائل الشيعة ١ / ٣٧٨ الباب ٩ من أبواب الوضوء.

(٤) وسائل الشيعة ٣ / ٣٨٦ الباب ٢٣ من أبواب التيمّم.

٥٤

كان الإجماع المذكور دليلاً على الاستحباب النفسي لها ، وإلاّ لم يتحقّق العباديّة للتيمّم.

وأشكل عليه الأُستاذ : بأنّ الإجماع على مقدميّة الطهارات للصّلاة وكونها عبادةً لا يثبت الاستحباب النفسي للتيمّم ، لاحتمال استناد المجمعين إلى الروايات التي أشرنا إليها ، أو لقولهم بأنّ الإتيان بالمقدّمة بداعويّة الأمر الغيري أو التوصّل إلى الصّلاة مقرّب. ومع وجود هذه الاحتمالات لا يكون هذا الإجماع كاشفاً عن رأي المعصوم أو عن دليل معتبر ....

وتحصّل اندفاع الاشكال بالنظر إلى الروايات واستظهار الاستحباب النفسي منها.

وأشكل الميرزا أيضاً : بأنّ الطّهارات الثلاث ـ لكونها مقدّمةً للصّلاة ـ متّصفة بالوجوب الغيري ، ومعه لا يمكن بقاء الأمر النفسي المتعلّق بها بحاله ، للتضادّ بين الأحكام ، وعليه ، فلا بدّ من الالتزام باندكاك الأمر النفسي الاستحبابي في الوجوب ، وحينئذ ، كيف يمكن أن يكون منشأً للعباديّة؟

قال الأُستاذ : وهذا الإشكال أيضاً قد تعرّض له الشيخ وأجاب عنه : بأن زوال الطلب قد يكون بطروّ مفسدة ، وقد يكون بطروّ مصلحةٍ أُخرى للطلب ، فإنْ كان الطارئ هو المفسدة فلا مطلوبية نفسية ، وإنْ كان هو المصلحة ، فإنّ حدّ المطلوبيّة يزول بعروضها وأمّا أصل المطلوبية فباق ، وحينئذٍ ، يمكن الإتيان بالطهارة بداعي أصل المطلوبيّة النفسيّة.

وقد أوضح المحقّق الأصفهاني هذا الجواب (١) : بأنّ الوجوب الغيري إن كان الإرادة الشديدة فلا كلام ، كأن يكون الوضوء ـ مثلاً ـ مطلوباً نفسيّاً قبل الوقت

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ١١٩.

٥٥

ومتعلّقاً للإرادة ، ثمّ بعد الوقت تشتدّ الإرادة نفسها فيكون واجباً ... لأنّ الإرادة قابلة للشدّة كما هو معلوم ، نظير النور ، فإنّه مع مجيء النور الشديد لا ينعدم النور الضعيف السابق عليه. وإن كان الأمر ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري أمر آخر غير الأمر الاستحبابي النفسي ، فلا ريب في زوال الأمر النفسي بمجيئه ، لاستحالة اجتماع المثلين ، لكنّ ملاكه باق ولا مانع من التقرّب بملاك الأمر النفسي.

وقد تنظّر فيه الاستاذ بما حاصله : أنّه ينافي مسلكه في الإرادة الغيريّة والأمر الغيري ، وذلك لأنّه قد ذهب فيما سبق إلى أنّ الإرادة الغيريّة والأمر الغيري لا يقبل اللّحاظ الاستقلالي ، لكونه كالمعنى الحرفي ، فلا يصلح للباعثية ، لأنّه غير قابل للالتفات النفسي ، نعم ، يتم هذا الجواب على مسلكنا من أنّ هذه الإرادة وهذا الأمر ملحوظ بالاستقلال ، ويمكن تعلّق القصد به وإنْ كان في ضمن الإرادة الشديدة.

هذا تمام الكلام على إشكال التيمّم ، ومشكلة انقلاب الاستحباب النفسي إلى الطلب الغيري.

أمّا الأول ، فقد اندفع بإثبات استحبابه استحباباً نفسيّاً من الروايات ، وأمّا الثاني ، فقد اندفع بناءً على أنّ المطلوب بالطلب الغيري ملحوظ باللحاظ الاستقلالي كما اخترناه.

بقي الكلام في الإشكال : بأن الجاهل أو الغافل غير الملتفت إلى الاستحباب النفسي ، إنّما يأتي بالطهارات بقصد الأمر الغيري ، والمفروض أنّ الأمر الغيري توصّلي وليس بعبادي ... فإنّ هذا الإشكال باقٍ بعد ما تقدّم من سقوط جواب الميرزا بدعوى عباديّتها بنفس الطلب المتعلّق بالصّلاة ، فلنرجع إلى الوجوه الأُخرى المطروحة في حلّ هذا الإشكال ، فقد قال في الكفاية «وقد تفصّي عن

٥٦

الاشكال بوجهين آخرين ...» (١) ولكنّ الأولى هو التعرّض لكلام الشيخ نقلاً عن التقريرات مباشرةً ، فإليك محصّل كلامه أعلى الله في علوّ مقامه (٢) :

إنّ من المقدّمات ما ندرك توقّف ذي المقدّمة عليه ، ومنها ما لا ندركه ، فالأوّل كتوقف الصعود على السطح على نصب السلّم ، فإنّ هذا واضح عند كلّ عاقل سواء جاء بيان فيه من الشارع أو لا ، لكنّ توقّف الصّلاة على الطهارة من القسم الثاني ، فإنّا لا ندرك كيفيّة توقف أفعال الصّلاة من الحركات والسكنات على الوضوء مثلاً ، فلا بدّ من الرجوع إلى الشارع ، ومن أمره بالوضوء عند القيام إلى الصّلاة نستكشف توقّفها عليه.

ثمّ إنّ الأفعال أيضاً مختلفة ، فمنها : ما يكون حسنه معلوماً ، ومنها : ما لا نعلم جهة الحسن فيه ، ومنها : ما يختلف بالوجوه فهو من وجهٍ حسن ومن وجهٍ قبيح ، كالقيام مثلاً عند دخول الشخص ، فقد يكون تعظيماً وإكراماً له وقد يكون إهانةً ... وأمر الوضوء من هذا الحيث أيضاً مجهول ، فإنّا لا ندرك أنّ الوضوء في أيّة حالةٍ يتّصف بالحسن حتى يكون مقدّمةً للصّلاة.

وعلى الجملة ، فإنّا جاهلون بالعنوان الذي به يتّصف الوضوء بالحسن والمقدميّة للصّلاة ، ولكنّ الشارع لمّا أمر بالوضوء أمراً غيريّاً ، كان أمره بذلك طريقاً لأنْ نأتي بالوضوء بعنوانه ، وإنْ كان العنوان على حقيقته مجهولاً عندنا.

وحاصل هذا الوجه :

أوّلاً : ليس الحسن والمقدميّة للوضوء بالنسبة إلى الصّلاة حاصلاً من جهة نفس الأمر الغيري حتى يلزم الدور ، بل ذلك يحصل من عنوانٍ يكون الأمر

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١١١.

(٢) مطارح الانظار : ٧١.

٥٧

الغيري طريقاً إليه.

وثانياً : إنّ الأمر الغيري لا يوجب القرب والثواب كما تقدّم ، لكنّ العمل قد تعنون بعنوانٍ ، فكان الإتيان به مقرّباً لذلك العنوان ، غاية الأمر هو مجهول ، ولا ضير في ذلك.

وثالثاً : صحيح أنّ الأمر الغيري المتعلّق بالوضوء توصّلي ، ولا يمكن أن يكون تعبّدياً ـ والحال أنّ الوضوء عبادة ـ لكنّ عباديّة الوضوء لم تنشأ من ناحية هذا الأمر حتى يرد الإشكال ، وإنّما هي من ناحية ذلك العنوان المجهول الذي كان الأمر الغيري طريقاً إليه ، فاندفع الإشكال. لكنّ عباديّة العمل منوطة بالقصد ، ومع الجهل بالعنوان الموجب للعباديّة كيف يقصد؟ فأجاب الشيخ : بكفاية قصد الأمر الغيري ، لأنّه يدعو إلى الإتيان بالوضوء بذلك العنوان ، فصار العنوان مقصوداً عن طريق الأمر الغيري.

هذا ، ولا يخفى أنّ بهذا الوجه تنحلّ مشكلة التيمّم أيضاً ـ لأنّ الشيخ قد أشكل على استحبابه النفسي لظاهر الأخبار ، بعدم ذهاب الأصحاب إلى ذلك ـ فإنّه يتم استحبابه ويكون مقدّمةً للصلاة بعنوانٍ يكون الأمر الغيري طريقاً إليه وكاشفاً عنه.

لكن يرد على هذا الوجه :

أوّلاً : ما ذكره الشيخ نفسه من أنّ عدم دركنا لكيفيّة توقف ذي المقدّمة على المقدّمة وترتّبه عليها ، غير منحصر بالطهارات الثلاث ، فإنّ للصّلاة مقدّمات أُخرى أيضاً قد اعتبرها الشارع مقدّمةً لها ونحن نجهل كيفية توقّفها عليها ، فلو كانت المقدميّة المأخوذة شرعاً توجب عباديّة المقدّمة ولزوم الإتيان بها بعنوان العبادة ، فلا بدّ من القول بذلك في تلك المقدّمات أيضاً ، مع أنّ وجوب

٥٨

الإتيان بقصد القربة وبالوجه الحسن يختصُّ بالطهارات الثلاث فقط.

وثانياً : ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّه كما يمكن قصد ذلك العنوان ـ الموجب لحسن العمل والمجهول عندنا ـ بطريقيّة الأمر الغيري ، كذلك يمكن قصده بنحو التوصيف ، كأن يقصد الوضوء بوصف كونه مأموراً به ، فلا يكون إتيانه بالوضوء بداعويّة الأمر وطريقيّته ، وإذا أمكن قصد تلك الخصوصيّة المجهولة بالتوصيف ـ لا بمحركيّة الأمر الغيري ـ أمكن أنْ يكون الداعي شيئاً آخر غير أخذ الشارع ، فمن أين تحصل العباديّة؟

هذا ، وذكر المحقّق الخراساني وجهاً آخر وهو : إنّه لا ريب في عباديّة نفس الصّلاة ، وأنّها يؤتى بها بالوجه القربي ـ سواء بالأمر الأوّل أو بالأمر الثاني ـ وكما أنّ الأمر قد اقتضى الإتيان بذي المقدّمة ـ أي الصّلاة ـ بوجهٍ قربي ، كذلك يقتضي أن يؤتى بمقدّماته على الوجه المزبور. إذن ، لم يكن الإتيان بالطّهارات بالأمر الغيري ، ليرد الإشكال بأنّه لا يوجب العباديّة ، بل إنّه باقتضاء الأمر بالصّلاة نفسه.

قال الأُستاذ : حاصله : لزوم الاتيان بالطهارات بقصد القربة باقتضاء نفس الأمر المتوجّه إلى الصّلاة ، لكنّ هذا الوجه لم يوضّح كيفيّة تأثير الأمر المتعلّق بالصّلاة في مقدّمات الصّلاة وهي الطهارات الثلاث.

وذكر المحقّق الخراساني وجهاً آخر وحاصله : أنّه كما تمّت العباديّة للصّلاة بمجموع أمرين ، تعلّق الأوّل بالأقوال والأفعال والثاني بوجوب الإتيان بها بقصد القربة ، كذلك تتمّ العبادية للطّهارات بأمرين ، أفاد أحدهما وجوب الإتيان بالغسلات والمسحات ـ في الوضوء مثلاً ـ والثاني وجوب الإتيان بها بقصد القربة وداعي الأمر الشرعي ... فلا تكون عباديّتها بالأمر الغيري.

٥٩

قال الأُستاذ :

وفيه : الفرق الواضح بين الصّلاة والطهارات ، لأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأجزاء الصّلاة كان أمراً نفسيّاً ، وهو مقرّب ، والامتثال له موجب للثواب ، بخلاف الأمر في الطهارات ، فإنّ الأمر الأوّل فيها غيري ، فلو جاء أمر آخر يقول بلزوم الإتيان بها بداعي الأمر ، فأيّ أمر هو المقصود؟ إن كان الأمر الأوّل فهو غيري ، والأمر الغيري لا يستتبع ثواباً وعقاباً ، وإنْ كان غيره فما هو؟

وتلخص :

إن مشكلة عدم استتباع الأمر الغيري للثواب والعقاب باقية على المبنى ، وأنّه كيف يكون ممتثلاً من أتى بالطهارة مع الغفلة عن الاستحباب النفسي لها؟

وذكر المحقّق الايرواني : أنّ الاشكال المهم في المقام هو : عدم إمكان عباديّة المقدّمة التي تعلّق بها الأمر الغيري ، لأنّها إنّما جعلت مقدّمة من أجل التوصّل بها إلى ذيها ، فبنفس الغسلات والمسحات يتحقّق المقدّمة ولا يعتبر فيه قصد القربة.

فأجاب : بأنّ توقّف الصّلاة على الطهارة ليس من قبيل توقّف الكون على السطح على نصب السلّم ، إذ الأمر بذلك غير مقيّد بنصبه ، بخلاف بنصبه ، لكنّ الأمر بالصّلاة فإنه مقيَّد بالطهارة ، فيكون تقيّدها بها داخلاً في المأمور به ، فكانت الصّلاة مركّبةً من الأجزاء الواقعيّة كالتكبير والركوع والسجود ... ومن جزءٍ عقلي هو تقيّدها بالطّهارة ... ولمّا كانت الصّلاة عبادة مقيّدةً بهذه القيود ، فإنّ مقتضى عباديّتها أن يؤتى بجميع القيود على الوجه القربي ومنها التقيد المذكور ، لكن الإتيان ب «التقيّد» على الوجه المذكور لا يتحقّق إلاّ بالإتيان ب «القيد» وهو «الوضوء» مثلاً على ذلك الوجه ... فتحقّق العباديّة للطهارات الثلاث ولزوم

٦٠