تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

الوجوب

الموسّع والموقّت

٣٦١
٣٦٢

والبحث في جهاتٍ ثلاثة :

الجهة الأُولى : في تصوير الواجب الموسّع والواجب المضيّق.

إنّه لا ريب في لابديّة الزمان في كلّ أمر زماني ، وإنما الكلام في كيفيّة دخله في الغرض ، لأن من الواجب ما ليس بموقّت ، والموقّت : منه ما يكون الزمان فيه على قدر الفعل ، ومنه ما يكون أوسع منه ، والأوّل هو المضيَّق ، والثاني هو الموسّع.

إنما الكلام في تصوير هذين القسمين.

إشكال العلامة في الموسّع وجوابه

فعن العلاّمة الحلّي رحمه‌الله انكار الواجب الموسّع في الشريعة ، لأن القول به يستلزم القول بجواز ترك الواجب ، لكونه جائز الترك في أوّل الوقت ، وترك الواجب غير جائز.

فأجاب عنه في (الكفاية) (١) بأنّا نلتزم بعدم وجوب الفعل في أوّل الوقت ، بل الواجب هو الفعل بين الحدّين ، كالصّلاة بين الزوال والغروب ، وحينئذٍ ، تكون الصّلاة في أوّل الوقت مصداقاً للواجب ، ومصداق الواجب غير الواجب ، فلا موضوع للإشكال.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤٣.

٣٦٣

وأمّا جواب السيد الحكيم (١) : بأنّ الإشكال إنما يرد لو تركت الصّلاة في أوّل الوقت لا إلى بدلٍ ، لأنه منافٍ للوجوب ، وأمّا مع وجود البدل وهو الصّلاة في الوقت الثاني ـ مثلاً ـ فلا يرد.

ففيه : إن الإشكال هو أنه مع فرض كون الزمان أوسع من الواجب ، فإنّ ترك الواجب في أول الوقت ينافي أصل الوجوب ، فلو ترك إلى بدلٍ أصبح الوجوب تخييريّاً ، والكلام في الواجب التعييني لا التخييري.

وتلخّص : تصوير الواجب الموسّع.

الإشكال في الواجب المضيّق وجوابه

وأمّا الإشكال في الواجب المضيّق فهو : إن كون الزمان على قدر الفعل غير معقول ، لأن الوجوب إن كان قبل الزمان لزم تقدّم المشروط على الشرط ، وإن كان بعده أو مقارناً له ، فمن الضروري تصوّر البعث وتصديقه حتى يؤثر في الإرادة ، لأن الانبعاث من الأمر ـ وهو فعل اختياري ـ يتوقف على التصوّر والتصديق ، وكلّ ذلك يحتاج إلى زمان ، فيكون زمان الانبعاث متأخّراً عن زمان البعث ، ويلزم أن يكون زمانه أقل من زمان البعث.

والجواب هو : إن ورود هذا الاشكال يتوقّف على أن يكون تأخّر الانبعاث عن البعث زمانيّاً ، لكنّه تأخّر رتبي ، وذلك : لأن الموجب للانبعاث هو ـ في الحقيقة ـ الصّورة العلميّة للأمر والبعث ، وهي تتحقّق في آن الانبعاث والامتثال ، فيحصل البعث والعلم به والعمل على طبقه في الزمان الواحد ، فالواجب المضيّق ممكن ....

__________________

(١) حقائق الأُصول ١ / ٣٣٩.

٣٦٤

الجهة الثانية

في أنّ الدليل على وجوب الفعل في الوقت المعيّن هل يدل على وجوبه كذلك في خارج ذلك الوقت ، أو لا بدّ لوجوبه من دليل آخر؟ فإن كان الأوّل ، فالقضاء بالأمر الأوّل ، وإن كان الثاني ، فهو بأمر جديد ... أقوال :

منها : عدم الدلالة مطلقاً.

ومنها : الدلالة مطلقاً.

ومنها : التفصيل بين ما إذا كان الدليل الدالّ على التقييد بالزمان منفصلاً أو متّصلاً.

ومنها : التفصيل بين ما إذا كان دليل التقييد مهملاً ودليل الوجوب مطلقاً فيدلّ ، وإلاّ فلا. وهذا مختار المحقق الخراساني.

قال في (الكفاية) (١) : إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجهٍ على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم ، لو كان التوقيت بدليلٍ منفصلٍ لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.

أقول : وحاصل كلامه الأوّل : إن نسبة دليل التوقيت إلى دليل أصل الوجوب ، هو نسبة المقيّد إلى المطلق ، فكما يكون الدليل على اعتبار الإيمان في الرقبة مقيّداً لدليل وجوب العتق ، كذلك الدليل القائم على مدخليّة الزمان الكذائي في الغرض من التكليف الكذائي ، وحينئذٍ ، فمقتضى القاعدة عدم الدلالة على الأمر بالفعل في غير ذلك الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به فيه ، من جهة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤٤.

٣٦٥

مفهوم التحديد.

وأمّا كلامه الثاني فبيانه هو : إن دليل التقييد بالزمان إنْ كان متّصلاً بدليل الوجوب ، فهو إمّا مبيّن فيؤثر التقييد كما هو واضح ، وامّا مجمل ، فيسري إجماله إلى دليل الوجوب. وإن كان منفصلاً ، فتارةً يكون الدليلان مطلقين ، وأُخرى مهملين ، وثالثةً يكون دليل الوجوب مطلقاً ودليل القيد مطلق ، ورابعةً بالعكس.

فإن كانا مهملين ، فهذا خارج من البحث.

وإن كان دليل الوجوب مهملاً ودليل التقييد معيّناً ، أُخذ بمقتضى دليل التقييد.

وإن كان الدليلان مطلقين ، يؤخذ بدليل التقييد أيضاً ، لكون نسبته إلى دليل الوجوب نسبة القرينة إلى ذي القرينة.

وإن كان دليل الوجوب مطلقاً ودليل التقييد مجملاً ، فإن كان مجملاً مردداً بين المتباينين ، سقط دليل التقييد عن الحجيّة ، وإن كان مجملاً مردداً بين الأقل والأكثر ، رفع اليد عن دليل الوجوب بالمقدار المتيقن وبقي على حجيّته في الزائد عنه.

هذه هي الكبرى ، وتطبيقها على المورد هو أنه :

إن كان دليل التقييد بالزمان المعيّن مطلقاً ، بأن يكون الوقت دخيلاً في الغرض من المطلوب في جميع الأحوال والأفراد ، كان مقتضاه عدم الوجوب في خارج الوقت ، لعدم الغرض.

وإن كان دليل الوجوب مطلقاً ودليل التقييد غير مطلق ، بأن يكون الغرض قائماً بالمرتبة العالية من الصّلاة مثلاً ، وهي الصلاة في الوقت ـ أمّا لو اضطرّ ولم يصلّها كذلك ، فالوجوب في خارج الوقت باق ، لبقاء الغرض ، بعد انتفاء المرتبة

٣٦٦

العالية ـ فلا حاجة إلى دليلٍ جديد ، لأن المفروض اطلاق دليل الوجوب ، وأنّ القيد في المرتبة.

وإن كان دليل التقييد مجملاً مردداً بين كونه مقيّداً لأصل الوجوب أو للمرتبة ، فيؤخذ بالقدر المتيقّن ، ويبقى أصل الوجوب.

رأي الأُستاذ

وقد وافق الأُستاذ المحقق الخراساني على النظريّة ، وأنّها خالية من الإشكال الثبوتي ، غير أن مقام الإثبات لا يساعد عليها ، لأنّ مقتضى الارتكازات العرفيّة والعقلائية ورود القيد على أصل الوجوب ، وأنّه في غيره لا يبقى وجوبٌ ، والقول بأنّه يقيّد مرتبةً من الطلب يحتاج إلى دليلٍ زائد ، لأنّ التمسّك بإطلاق دليل الوجوب فرع الشك في بقائه وعدم بقائه بعد خروج الوقت ، والعقلاء ليس عندهم شك في عدم البقاء ... اللهم إلاّ حيث يتحقّق الشك أو يقوم دليل آخر على بقاء الوجوب.

هذا ما ذكره في الدورة اللاّحقة.

وأمّا في الدورة السّابقة ، فقد وافق (الكفاية) على أصل النظريّة كذلك ، إلاّ أنه خالفه في إطلاقها ، فاختار عدم دلالة دليل الوجوب على بقائه بعد الوقت بالنسبة إلى المكلّف الفاعل المختار ، ودلالته على ذلك بالنسبة إلى العاجز.

وهذا ما أفاده الإيرواني. فليلاحظ (١).

ثمرة البحث

هذا ، وتظهر ثمرة البحث في الصّلاة في كلّ موردٍ لا تجري فيه قاعدة الحيلولة وقاعدة الفراغ ، وبيان ذلك هو : إنه لو شك في خارج الوقت في تحقق

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٢٠٤.

٣٦٧

الصّلاة في الوقت ، فتارةً يشك في أصل وجودها وأُخرى يشك في كيفية الصّلاة التي صلاّها ، فإن كان الأوّل ، فتجري ـ في خصوص الصّلاة ـ قاعدة الحيلولة ، ولا يعتبر بالشك. وإن كان الثاني ، فقد تجري قاعدة الفراغ وقد لا تجري ، فيكون مورد ثمرة البحث ، كما لو علم أنّه قد صلّى في الوقت إلى جهةٍ معيّنة ، ثم شك بعد الوقت في كونها جهة القبلة ، أمّا قاعدة الحيلولة فلا تجري ، لأنّ مجراها هو الشك في أصل وجود الصّلاة ، فإن قلنا بجريان قاعدة الفراغ في خصوصيّات العمل ، سواءً كان مورداً للتعليل بالأذكريّة الوارد في النصّ أو لم يكن ، فلا ثمرة للبحث ، لجريان هذه القاعدة. وإن قلنا بعدم جريانها إلاّ في حال كونه حين العمل أذكر ، أخذاً بالتعليل ، ـ وهذا هو المختار ـ فلا مجرى للقاعدة ، لفرض عدم كونه حينئذٍ أذكر ، ترتّبت الثمرة. فعلى القول بأن القضاء بالأمر الأوّل ، فهو واجب ، لأن مقتضى الأمر الأول هو الاشتغال بالنسبة إلى القبلة ، والمفروض هو الشك في وقوع الصّلاة إليها ، فالفراغ مشكوك فيه ، ومقتضى قاعدة أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية هو القضاء. وأمّا على القول بأنه بأمر جديد ، فيقع الشك في توجّه أمر جديدٍ يقتضي القضاء ، لأنه إن كان قد صلّى إلى القبلة فلا أمر ، وإلاّ فهو مكلّف بالقضاء ، فهو إذاً شاك في الاشتغال بأمرٍ جديد ، وهذا مجرى البراءة.

الجهة الثالثة

إنه لو شك في أنّ دخل الزمان في الواجب هل هو بنحو وحدة المطلوب أو بنحو تعدّده ، فما هو مقتضى القاعدة؟

ذهب الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني وأتباعهما إلى البراءة ، لعدم جريان الاستصحاب ، لعدم وحدة الموضوع ، فقد كان مقتضى الدليل هو الصّلاة في الوقت وإذا خرج الوقت تغيّر الموضوع.

٣٦٨

وخالف المحقق الأصفهاني ـ بعد أن وافق القوم في متن (نهاية الدراية) في الحاشية ، وتبعه السيد الحكيم ـ فقال بجواز استصحاب شخص الموضوع ، إذا كان المستصحب هو الواجب الخاص ، وتوضيحه : إن الخصوصيّات قد تكون مقوّمة لحامل الغرض وأُخرى تكون ذات دخلٍ في تأثير المقتضي كالشرائط مثل المماسّة بين المحرق والمحترق ... وهذا ثبوتاً. وأمّا إثباتاً ، فإن المقتضي للنهي عن الفحشاء هو ذات الصّلاة ، وأمّا خصوصية الوقت والطهارة والساتر والقبلة ونحو ذلك ، فلها دخلٌ في فعليّة تأثير المقتضي ، وعليه ، فإن الوجوب النفسي متوجّه إلى ذات الصّلاة ، وتلك الخصوصيّات واجبات غيريّة ، فإذا خرج الوقت ـ وهو من الخصوصيات ـ أمكن استصحاب وجوب الصّلاة ، وهذه الذات هي نفسها الذات في داخل الوقت بالنظر العرفي.

وفيه : إن الملاك في وحدة الموضوع وعدمها في الاستصحاب هو نظر العرف ، والموضوع فيما نحن فيه هو الصّلاة مع الطهارة لا ذات الصّلاة ، لأنّ العرف لا يرى الإهمال في الموضوع ولا الإطلاق ، بل يرى أنّ متعلّق الوجوب هو الصّلاة المقيّدة بالوقت وبالطهارة ، فكان الوجوب متوجّهاً إلى هذا الموضوع الخاص ، وهو في خارج الوقت متغيّر عن الذي كان في الوقت ....

ثم إنّه بناءً على أنّ القضاء بأمرٍ جديدٍ في الصّلاة والصيام ، فلو خرج الوقت وشكّ المكلّف في الإتيان بالواجب في وقته ، هل يمكن إثبات فوت الفريضة باستصحاب عدم الإتيان بها أم لا؟ وجهان!

فعلى القول : بأنّ موضوع وجوب القضاء هو «الفوت» وأنه أمر وجودي ، كان استصحابه لإثبات عدم الإتيان بالفريضة أصلاً مثبتاً. أما على القول : بكونه عدمي ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، لتمامية أركانه حينئذٍ.

٣٦٩

وقد ذهب الميرزا والسيد الخوئي إلى الأول ، لكون المتفاهم عرفاً هو أنّ الفوت ذهاب الشيء من الكيس ، وأنه ليس في نظرهم عين «الترك» ، ولو شكّ في أنه وجودي أو عدمي ، لم يجر الاستصحاب كذلك ، لكونه حينئذٍ شبهةً مصداقية لدليل الاستصحاب.

وذهب الأُستاذ إلى أنه وإن كان لغةً كذلك ، لكنّ العبرة في الاستصحاب بنظر العرف ، وكونه وجوديّاً عندهم غير واضح ، إن لم يكن عدميّاً.

لكنّ المهمّ هو أنه ليس موضوع وجوب القضاء في ظواهر النصوص ، فكما جاء في بعضها عنوان «الفوت» كذلك يوجد عنوان «النسيان» و «الترك» و «عدم الإتيان» أيضاً.

ففي رواية : عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنه سئل عن رجلٍ صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها أو نام عنها. قال : يقضيها ...» (١).

وفي أُخرى : «كل شيء تركته من صلاتك ... فاقضه ...» (٢).

وفي ثالثة : «إذا أُغمي عليه ثلاثة أيام فعليه قضاء الصلاة فيهن» (٣).

وفي رابعة : «سألته عن الرجل تكون عليه صلاة في الحضر هل يقضيها وهو مسافر؟ قال : نعم ...» (٤).

وفي أبواب الحج :

«سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجلٍ مات ولم يحج ...» (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ / ٢٥٣ الباب الأول من أبواب قضاء الصلوات.

(٢) وسائل الشيعة ٨ / ٢٦٥ الباب ٤ من أبواب قضاء الصلوات.

(٣) وسائل الشيعة ٨ / ٢٦٥ الباب ٤ من أبواب قضاء الصلوات.

(٤) وسائل الشيعة ٨ / ٢٦٨ الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات.

(٥) وسائل الشيعة ١١ / ٧٢ الباب ٢٨ من أبواب وجوب الحج.

٣٧٠

وفي أبواب الصوم (١) :

«رجل مات وعليه قضاء من شهر رمضان. فوقّع عليه‌السلام : يقضى عنه ...».

«عن الرجل تكون عليه أيام من شهر رمضان كيف يقضيها ...؟».

وعلى الجملة ، فقد قال الأُستاذ بجريان الاستصحاب في كلّ موردٍ جاء الموضوع فيه عدميّاً ، وقد ظهر أنه ليس «الفوت» فقط ، لو ثبت كونه وجوديّاً.

إذن ، لا مانع من جريان الاستصحاب في فرض كون الشك بعد خروج الوقت.

وأمّا لو شك في الإتيان بالفريضة في داخل الوقت لا خارجه ، فقد قالوا بوجوب الإتيان ، للاستصحاب ولقاعدة الاشتغال ، فإن مقتضاهما صدق عنوان «الفوت» بالنسبة إلى هذا المكلّف ... وقد جاء في النصوص «من فاتته الفريضة فليقضها كما فاتته» وبهذا يظهر الفرق بين هذه الصّورة والصّورة السّابقة.

وقد أشكل عليه شيخنا : بأنّ قاعدة الاشتغال عقليّة ، وهي لا تفيد الأحكام الظاهرية ، فهي تفيد وجوب الإتيان وجوباً عقليّاً ، وموضوع «من فاتته» هو الفريضة الشرعيّة ، إذن ، القاعدة العقليّة لا تثبت الفريضة ، وإنّما تدعو إلى السّعي وراء إبراء الذمّة ، وهذا أمر آخر.

وأمّا التمسك بالاستصحاب ، فإنّما يتم بناءً على مسلك جعل الحكم المماثل ، كما هو مختار صاحب (الكفاية) ، فيثبت به وجوب الصّلاة مثلاً ويتحقق موضوع «من فاتته». أمّا على القول بأنّ مفاد أدلّة الاستصحاب ليس إلاّ التعبّد ببقاء اليقين السابق في ظرف الشك ، فلا تثبت الفريضة ولا يتحقق موضوع «من فاتته» ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٣٤٠ الباب ٢٦ من أبواب أحكام شهر رمضان.

٣٧١

وهذا مختار المحقق الأصفهاني ، وعليه السيد الخوئي نفسه ، وعليه ، فمفاد الأدلّة إبقاء اليقين بعدم الإتيان بالصّلاة مثلاً ، وهذا لا يثبت الفريضة إلاّ على الأصل المثبت.

وتلخّص : إن مقتضى الأدلّة الأوليّة هو كون القيد لتمام المطلوب ، ومع الشك في كونه لذلك أو أنه قيد لأصل المطلوب ، فلا يجري الاستصحاب الشخصي الذي ذكره المحقق الأصفهاني وتبعه السيد الحكيم ، ولا الكلّي ـ القسم الثالث ـ لعدم تماميّته من حيث الكبرى ... وأمّا القسم الثاني ، فقد اختلفت كلمات السيد الخوئي في جريانه هنا وعدمه فقهاً وأُصولاً. والمختار : هو جريان استصحاب الكلّي ، القسم الثاني ، وفاقاً له في أُصوله.

٣٧٢

الأمرُ بالأمر

٣٧٣
٣٧٤

هل الأمر بالأمر بشيء أمرٌ بالأمر فقط ، أو أنه أمر بذلك الشيء حقيقة؟

ولعلّ السبب العمدة في طرح هذا البحث هو الأخبار الآمرة بأن يأمر الأولياء صبيانهم بالصّلاة إذا كانوا أبناء سبع ، فإنّه على القول الأوّل لا تكون عباداتهم شرعيّة وعلى الثاني فهي شرعيّة ، وتظهر الثمرة فيما إذا صلّى الصبيّ وبلغ الحلم في داخل الوقت ، هل تجب عليه إعادة الصّلاة أو لا؟ قولان :

رأي صاحب الكفاية

قال في (الكفاية) :

«الأمر بالأمر بشيء أمر به لو كان الغرض حصوله ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلاّ تبليغ أمره به ، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر والنهي ، وتعلّق غرضه به ، لا مطلقا بل بعد تعلّق أمره به ، فلا يكون أمراً بذاك الشيء ، كما لا يخفى» (١).

وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمراً به ، ولا بدّ في الدلالة عليه من قرينة.

وبيان كلامه : أن المحتمل في مقام الثبوت ثلاثة وجوه :

أحدها : أن يكون الغرض قائماً بنفس الأمر ، كأن يأمر بالأمر لمصلحة إثبات

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤٤.

٣٧٥

آمريّة الثاني.

والثاني : أن يكون الغرض قائماً بالفعل المأمور به كما في قوله تعالى (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (١).

والثالث : أن يكون الغرض قائماً بالفعل الحاصل من المأمور ـ وهو الثالث ـ بشخصه المنبعث من أمر هذا الآمر الثاني ، فكان تعلّق الغرض مقيّداً لا مطلقاً.

وأمّا في مقام الإثبات ، فقد ذكر أنه مع وجود هذه الوجوه ، لا يكون لمجرّد الأمر بالأمر دلالة على كونه أمراً به إلاّ بقرينةٍ.

ففي مثل الصحيحة : «فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين» (٢) يرى المحقق الخراساني وجود الاحتمالات الثلاثة ، وعليه ، فلو أمر الصبي بالصّلاة ، فصلّى في الوقت واتّفق بلوغه بعدها ، فإن شرعيّتها يتوقّف على القرينة على كون هذه الصّلاة حاملةً للغرض ، حتى لا تجب إعادتها ، وإلاّ احتمل كون الغرض من الأمر به هو التمرين مثلاً ، فلا تكون مسقطةً لوجوب الإعادة ... هذا رأيه ووافقه سيّدنا الأُستاذ (٣).

رأي المحقق العراقي

وخالفه المحقق العراقي (٤) قدس‌سره ـ وتبعه تلميذه السيد الحكيم (٥) ـ فذهب إلى شرعيّة عبادات الصبيّ ، مستدلاًّ بإطلاقات الخطابات الشرعيّة كقوله

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٧.

(٢) وسائل الشيعة ٤ / ١٩ الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض.

(٣) منتقى الأُصول ٢ / ٥١٥.

(٤) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٣٩٩.

(٥) حقائق الأُصول ١ / ٣٤٢.

٣٧٦

تعالى (أَقيمُوا الصَّلاةَ) (١) فإنّها تعمّ البالغين والمميّزين الذين يتمشّى منهم القصد ، خاصّةً المميّز المقارب للبلوغ ، فهذا مقتضى الإطلاقات ، وليس في مقابلها إلاّ حديث رفع القلم. فإنْ كان المرفوع به هو خصوص المؤاخذة ، فلا إشكال كما هو واضح ، وأمّا إن كان المرفوع به هو التكليف أو هو والمؤاخذة ، فإنّ مقتضى كونه في مقام الامتنان هو رفع الإلزام لا أصل التكليف ومحبوبيّة العمل ، فيكون العمل منه مطلوباً ومشروعاً.

رأي السيد الخوئي

وناقش السيد الخوئي (٢) الاستدلال المذكور ، وقال بشرعيّة عبادات الصبيّ بوجهٍ آخر ، وهو الدلالة العرفيّة للنصوص على ذلك ، لأنّ «الأمر» يفارق «العلم» ، من جهة أنّ العلم قد يؤخذ موضوعاً وقد يؤخذ طريقاً وقد يؤخذ جزءاً للموضوع ، فالوجوه التي ذكرها صاحب (الكفاية) في مقام الثبوت تأتي في «العلم» ونحوه ، لكنّ «الأمر» ليس إلاّ طريقاً عرفيّاً إلى مطلوبيّة الشيء ، فإذا أمر الآمر غيره بأن يأمر الثالث بالقيام بعملٍ ، كان تمام النظر إلى ذلك العمل ، واحتمال أن يكون المصلحة في نفس الأمر لا يقاوم هذا الظهور العرفي والعقلائي ، وبذلك يستدلُّ على شرعية عبادات الصبيّ.

رأي الأُستاذ

وأفاد الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ مقتضى الظهور الأوّلي كون متعلّق الأمر الأول هو

الأمر من الثاني ، ومطلوبيّة الفعل للآمر الأوّل يحتاج إلى مزيد بيان ....

أمّا التمسك بالإطلاقات ففيه : إن الوجوب بسيط لا يتبعّض ، فهو ليس مركّباً

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٣.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ٢٦٤ ـ ٢٦٦.

٣٧٧

من طلب الفعل مع المنع من الترك ، وعليه ، فإنّ حديث الرفع يكون رافعاً لأصل الجعل ، فلا يبقى دليل على المشروعية ، إلاّ أن يقال بأنه يرفع المؤاخذة فقط ، لكنّ المبنى باطل.

وأمّا ظهور الأمر عرفاً في الطريقيّة ، فإنّه ـ لو سلّم ـ لا يكفي لترتّب الثمرة وهو شرعيّة عبادات الصبي ، لأن غاية ما يفيد ذلك هو تعلّق غرض للآمر الأوّل بذلك بالفعل كالصّلاة ، ولكن هل الغرض هو نفس الغرض في عبادات البالغين ، أو أن هناك في أمر الصبي بالصّلاة غرضاً آخر؟

إنّه لا يستفاد من نصوص المسألة كون الغرض هو نفس الغرض من صلاة البالغين ، بل إنها صريحة في أنّه «التعويد» ، ففي صحيحة الحلبي المتقدمة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين ، ومروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ، ونحن نأمر صبياننا بالصوم ... حتى يتعوّدوا ...».

وكذا في مرسلة الصدوق ، ولعلّها نفس رواية الحلبي المذكورة.

وعلى هذا ، فإنّ الغرض بالفعل متحقّق ، لكنه غرض آخر غير الغرض القائم بصلاة البالغين من الناهوية عن الفحشاء والمنكر ونحوها.

فالقول بشرعيّة عبادات الصبي مشكل ، والله العالم.

٣٧٨

الأمر بعد الأمر

٣٧٩
٣٨٠